تفسير سورة الروم [1 - 8]
أخبر الله عز وجل بهزيمة الروم، ثم وعدهم بالنصر بعد ذلك على الفرس، وكان ما قال؛ ليبين أن وعده سبحانه نافذ ولا مرد له ولا دافع، ونصر الله تعالى هو حليف المؤمنين في كل زمان إذا هم نصروا دينه، والكفار لا يزالون في عتوهم ونفورهم وتكبرهم على أوامر الله وعلى الحق، والله يدعوهم إلى الرجوع إليه والنظر في آلائه الدالة على ربوبيته دون ما سواه.(203/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم.
غلبت الروم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:1 - 8].
بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بهذه البشارة للمؤمنين، وهي أن الروم الذين غلبوا في أدنى الأرض سيغلبون عدوهم من الفرس بعد ذلك، وكان المشركون قد شمتوا بالمسلمين حين بلغ الجميع أن الروم قد هزمت؛ لأن الروم أهل كتاب وهم أقرب إلى المؤمنين من المشركين، وبلاد الفرس عباد نيران، وهم أقرب إلى المشركين ومن أعدى أعداء المسلمين، وفي الآية السابقة يطمئن الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين أن الغلبة لعباده المؤمنين، وكأن المسلمين حينها كانوا ينظرون في عواقب الأمور ويتوسمون أن أهل الكتاب إذا انتصروا فنحن سننتصر يوماً من الأيام، وإذا هزم أهل الكتاب نظر المشركون إلى المسلمين وقالوا: أنتم أيضاً ستهزمون في يوم من الأيام، فرد الله سبحانه زعم المشركين فقال عز وجل: ((غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون)).(203/2)
القول في الحروف المقطعة في أوائل السور
بدأت السورة بذكر الحروف المقطعة قال تعالى: {الم} [الروم:1] وهذه من حروف اللغة العربية التي يتحدى بها الله عز وجل الخلق جميعهم، والتحدي: أن هاتوا كتاباً مثل هذا القرآن فيه مثل هذا الإعجاز العظيم وهو من جنس الحروف التي تنطقون بها ((الم)).
وذكرنا فيما مضى فقلنا: إن الغالب أنه إذا ابتدأت السورة بحروف، تتكرر هذه الحروف في هذه السورة، فيكون نسبة تكرار هذه الحروف وخاصة الحرف الأول منها أعلى نسبة من نسب التكرار في السورة نفسها، فيكون الألف أعلى حرف تكرر في هذه السورة، يليه اللام، ثم المجموع من الألف واللام والميم يكون أعلى ما تكرر في هذه السورة.
وهذا ضرب من ضروب الإعجاز الذي يتحدى الله سبحانه وتعالى الخلق أن هاتوا كتاباً مثل هذا الكتاب، أو سورة مثل هذه السورة، فيتجلى في السورة دقة الأحكام التي فيها، وجمالها في بلاغتها وفصاحتها وإتقانها، وفي التشريع الذي تضمنته آياتها، وما فيها من إعجاز علمي، ومن نبوءة صحيحة صادقة، كالإخبار بأخبار صادقة سابقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه، كل ذلك وغيره كثير، فتجد فيه إعجاز هذا الكتاب العظيم الذي يقول فيه الإنسان المنصف إذا قرأه: يستحيل أن يكون هذا من قول البشر.
كما أن من فوائد الحروف المقطعة في أوائل السور أيضاً: شد وجذب الانتباه، فالعرب لم يكونوا معتادين على ذلك، فلم يسمع العربي أحداً يقول له: الم، فإذا سمعها جهل ما الذي يقصده قائلها، فانتفض ليسمع ما الذي يريده؟ وذلك كما يسمع الإنسان صوتاً غريباً لم يعتد على سماعه، فيجتهد أن يصغي إليه، على خلاف الصوت الذي قد اعتاد أن يسمعه، فقد يمر على أذنه من غير أن ينتبه إليه.
ومثال ذلك: ما يحدث لو مر بكم القطار وأنتم تعرفونه، فإنه كلما مرّ كأنه لم يمر، ولا ينتبه لمروره أحد منكم بخلاف إنسان كانت هذه هي أول مرة يرى فيها القطار، فإنه إذا مر القطار سيجتهد أن ينظر إليه، وسيتملكه العجب عند رؤيته له، فكذلك عندما يأتيهم من الله سبحانه تبارك وتعالى شيء لم يعتادوا عليه كقوله سبحانه: {الم} [الروم:1] فإنه يشدهم فيسألوا: ماذا تعني هذه الحروف؟ وقد يحرصون على أن يسمعوا ما يقوله صلى الله عليه وسلم، ليعرفوا ما يريد من هذه الأحرف، فكأن القرآن يقول لهم: تعالوا واسمعوا {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3]، وعند سماعهم يزدادون عجباً على عجب، فيتساءلون: ما الذي تقوله؟ وهل ما تخبر به من أن الروم ستنتصر على فارس حقاً؟ فيعلق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأذهانهم، ويظلون يتوقعون ويتحدثون: هل سيصدق ما أخبر به القرآن أم أنه سيكذب؟ أما المؤمنون فهم جازمون بصدق كلام رب العالمين.(203/3)
أبو بكر يراهن على صدق ما وعد به القرآن
أبو بكر الصديق بعد نزول الآيات في صدر سور الروم يندفع في أرجاء مكة وينادي على أهل مكة {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4] فقد روى الإمام الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لما نزلت هذه الآية {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2] خرج أبو بكر بها إلى المشركين وذكر ونادى في أرجاء مكة بذلك، {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3].
فقال الكفار: أفلا نراهن على ذلك، أي: نراهنك أنه لن يحصل الذي تقول به، فيقبل منهم أبو بكر الصديق هذه المراهنة، والرهان نوع من القمار، وأصل القمار من قمره في الشيء بمعنى: غلبه فيه، وهي بمعنى: الخطر والمخاطرة؛ لأن مال أحد الطرفين على خطر، فإنه إما أن يكسب، أو يُغلب فيضيع منه ماله، وكان هذا موجوداً في أول الإسلام، وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، ثم حرم بعد ذلك، وقد كان هذا الأمر موجوداً في الأعوام المكية، فلذلك راهنهم أبو بكر في أن الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو صدق، وبعد أن ارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، قالوا لـ أبي بكر رضي الله عنه: كم تجعل البضع؟ فاتفقوا على ست سنوات، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه اجتهد حين وافقهم على الست السنوات، وإلا فالآية لم تحدد ذلك، وقد أخطأ رضي الله عنه فيما اجتهد به، فهو ليس معصوماً، إنما العصمة لكتاب رب العالمين وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما قول البشر فلا، والبضع في لغة العرب من ثلاثة إلى تسعة، فلما جاءت السنة السادسة لم يحصل الغلب الذي راهن عليه أبو بكر، فعاب المسلمون ذلك على أبي بكر الصديق وقالوا: كيف تقول ستة والقرآن لم يقل: ستة؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (أفلا احتطت لذلك؟) أي: بأن لا تنزل عن التسعة إلى الستة.
وكانوا قد جعلوا الرهان خمس جمال، وجعلوا الأجل إلى ثلاث سنوات، وبعد ذلك زادوا في الأجل لدون التسع السنوات، ثم حدث ما أخبر به القرآن العظيم على ما قدمنا قبل ذلك، وغلبت الروم الفرس ففرح المسلمون، وكان هذا في يوم بدر، ففي يوم انتصار المسلمين على المشركين انتصر أهل الكتاب على المجوس، وفرح المسلمون بنصر الله سبحانه.
وقد كان الفرس قوة عظمى في العدة والعتاد والروم كذلك، ولكن كان الفرس أقوى من الروم، وفي هذا الحين كان الفرس منتصرين على الروم نصراً عظيماً، وأخذوا منهم بلاداً من بلاد الروم، وكان الخوف ينتاب المسلمين، إذ عندما تتقابل قوتان عظيمتان إحداهما أقوى من الأخرى، وهذه الأقوى هي عدوة للمسلمين، فإن ذلك يجعل المسلمين يخافون أن ينتصر أعداءهم، كما أن المسلمين يفرحون بأن القوة الأخرى تنتصر عليهم، أما الفرح الأعظم فهو بنصر الله سبحانه الذي كان في يوم بدر، فحدث الانتصاران في هذا اليوم، ففرح المسلمون بنصر الله عز وجل لهم، وكذلك وقع ما اعتقده المسلمون من صدق كلام رب العالمين سبحانه وأن الروم تنتصر على الفرس، فعبر القرآن عن هذه الفرحة فقال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4 - 5]، ومعلوم أن النصر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى ومن قضائه وقدره، فهو ينصر من يشاء(203/4)
تفسير قوله تعالى: (بنصر الله ينصر من يشاء)
قال سبحانه: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:5] ولم يقل في الآية: إنه ينصر المسلمين؛ لأن نصر المسلمين يحتاج إلى أخذ بأسباب النصر، ومتى وجدت الأسباب انتصر المسلمون، وإذا لم توجد الأسباب ينتصر الأقوى الذي يأخذ بالأسباب، ومن أهم أسباب النصر: العمل بشرع الله تعالى، فإذا كانت دولة المسلمين تعمل بشرع رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، فيأخذ فيها المظلوم حقه من ظالمه، ويحكم فيها بشرع الله تعالى، عند ذلك يجعل الله هذه الأمة مقدسة مطهرة، غالبة تغلب أعداءها، وإذا كانت أمة المسلمين يشيع فيها الظلم، ويهجر فيها كتاب الله وراء الظهور، فلن يكون لهم النصر، وإذا كان المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين يعملون بشرع الله رب العالمين، حين يعصون الله سبحانه ويعصون النبي صلى الله عليه وسلم يستحقون الهزيمة كما حصل في يوم أحد وفي أول يوم حنين، فكيف بحالهم بعد ذلك؟ فالمؤمن الذي يطيع الله سبحانه تبارك وتعالى ويأخذ بالأسباب، يستحق عون الله سبحانه، أما الذي يترك ما أمر الله عز وجل به فلا يستحق أن يعينه الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك قيد انتصار المؤمنين وفتح الله سبحانه على المؤمنين بقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60]، فإذا أعد المسلمون العدة لقتال أعداء الله سبحانه، وأخذوا بالأسباب، فإن الله سبحانه ينصرهم على عدوهم ويكون معهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، فإذا اتقى المسلمون ربهم سبحانه استحقوا أن يكون معهم، وإذا خالفوا ولم يتقوا الله لم يستحقوا معية الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأن الله مع المتقين، كما أن الله مع المحسنين أيضاً، فالمسلمون إذا أحسنوا واتقوا فالله معهم ينصرهم ويؤيدهم سبحانه، وإذا ظلموا وتركوا نصر دين الله سبحانه لم يستحقوا أن يكون الله سبحانه تبارك وتعالى معهم.
والمسلمون حين أخذوا بأسباب النصر في بدر نصرهم الله تعالى، قال سبحانه عن ذلك اليوم: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] أي: يفرحون أن نصر الله المؤمنين، وأن حقق ما وعد، بأن نصر الروم على الفرس، ثم أخبر أن النصر بمشيئته سبحانه فقال: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:5] أي: ينصر من يشاء من عباده، فينصر المؤمنين ويجعل لهم الانتصار والغلبة إذا أطاعوا الله سبحانه، ويسلط عليهم غيرهم لأنهم عصوه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:5] أي: العزيز الذي لا يسأل عما يفعل سبحانه تبارك وتعالى، فلا يحتج المغلوب على ربه فيقول: يا رب! لم هزمتنا؟ لم جعلت الأعداء يتملكون أمرنا؟ بل قل: هو العزيز، فلا يسأل عما يفعل سبحانه، فختم الآية بأنه العزيز الرحيم سبحانه تبارك وتعالى، والعزيز أي: المنيع الجانب، القاهر الذي لا يغلب سبحانه تبارك وتعالى.
فإن هُزِم المسلمون ليس معناه أن الله سبحانه حاشاه تبارك وتعالى ليس بعزيز، فهو العزيز وله العزة سبحانه تبارك وتعالى ولرسوله وللمؤمنين، فينصر من يشاء وقد ينصر المسلمين، وقد ينصر عليهم غيرهم، ولكن هو العزيز سبحانه الذي لا يغلب أبداً وإن غلب الناس، فالله عز وجل عزيز قاهر غالب على أمره، وهو الرحيم بعباده المؤمنين، كما أنه الرحيم بخلقه أجمعين سبحانه، ورحمته هي الرحمة العظيمة الدائمة في الدنيا وفي الآخرة، فرحمته بعباده المؤمنين أن يكون معهم ويؤيدهم وينزل شرعه الحكيم سبحانه تبارك وتعالى ليهديهم ويكون معهم سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا وفي الآخرة.
قال الله سبحانه: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: لله الأمر من قبل الغلب ومن بعد الغلب، فالله هو مدبر الأمر سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء بيده، وكل شيء يملكه الله عز وجل، وفي الآية أخبر بانفراده بالقدرة والتقدير، كما أخبر بانفراده بالتحكم في كل شيء سبحانه، وبين أن الأمر بيده يفعل ما يشاء.(203/5)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده)
إن نصر المؤمنين وعد من الله سبحانه لعباده، قال سبحانه: {وَعْدَ اللَّهِ} [الروم:6] والوعد مصدر، أي وعدكم وعداً، فهذا وعد من الله سبحانه، ولأنه منه سبحانه فإنه وعد حق، وقد عبر بالمصدر والمفعول المطلق حيث قال: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] أي أنه وعد الله سبحانه ولا بد أن يتحقق موعوده: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].(203/6)
تفسير قوله تعالى: (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون)
قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] فبين في الآية أن ما لديهم من علم كـ لا علم، فهم يجهلون مع علمهم، أما ما يعلمون فهي علوم الظواهر من الحياة الدنيا، ولا يغوصون في بواطن هذه الأشياء، ولا يطلعون على ما وراءها، فهم يعلمون في الحياة الدنيا أن الماء ينزل من السماء في فصل كذا وفصل كذا وفي شهر كذا وشهر كذا، وبسبب علمهم ذاك يحددون مواسم البذور والأشهر المناسبة لكل نوع منها، ومواسم الري والحصاد وغير ذلك، فكان علمهم مقتصراً على ظواهر الحياة الدنيا، أما أنهم ينظرون نظر تأمل أن الذي أنزل الماء من السماء هو الله، وأنه لذلك يستحق أن يشكر وأن يعبد سبحانه تبارك وتعالى؛ فلا، وكأن علمهم علم بالدنيا فحسب، فيتلهفون كيف نكسب؟ وكيف نجمع هذا الذي كسبناه؟ وكيف نبني؟ وفعلهم وهمهم منحصر على ظواهر الدنيا، أما ما وراء ذلك من العلم بالغيب والإيمان بالله سبحانه تبارك وتعالى وشكر المنعم سبحانه تبارك وتعالى على ما أنعم على العباد فليس لهم به شأن، وهذا حال أكثر الناس، والأقل هم الذين يعلمون بما لهم من بصائر وبما في قلوبهم من إيمان، فتجدهم يشكرون الله سبحانه، ويعلمون أنه هو الحق المبين.
إن من غفل عن الآخرة مهما أوتي من علم فعلمه كـ لاعلم، ومهما حاز الإنسان من رتب علمية كأن يكون أستاذاً أو دكتوراً أو غيرها من الرتب في الدنيا، ويشار إليه بالبنان وهو عن الآخرة غافل وغير مستعد للموت ولم يستعد للجنة ولا للنار فإن علمه كـ: (لاشيء) عند الله سبحانه تبارك وتعالى، وذلك لأنه لم ينتفع بذلك العلم بأن يخشى الله، وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فإذا أورثه هذا العلم الخوف من الله سبحانه وخشيته فهو العلم النافع الذي سيجعله عبداً لله مؤمناً به سبحانه، أما علم في أمر ظواهر الدنيا لا يتعدى ذلك إلى الإيمان باليوم الآخر، بل ويظل صاحبه ملحداً وقد يدعي أن الطبيعة هي التي خلقته، وأن الله سبحانه لم ينزل كتاباً ولم يرسل رسولاً، فلا يعد علماً ولا يستحق صاحبه شيئاً، إنما يعيش في الحياة كبهيمة الأنعام ونهايته إلى النار والعياذ بالله.
وقد أعاد الضمير في قوله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] تأكيداً ووصفهم بأنهم غافلون أي: في غفلة عظيمة عن الآخرة وعن الموت وعما يكون بعد الموت.(203/7)
تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم)
لأن الكفار يعطلون جوارحهم وأفئدتهم فقد أنكر الله عليهم غفلتهم فقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] فالاستفهام في الآية: للإنكار، وهو دعوة أن يتفكر المرء في نفسه.
فقوله: (في أنفسهم) كلمة (في) تفيد الظرفية وليست مفعولاً به، ليكون المعنى: أن يتفكر الإنسان في نفسه وتظل النفس عنده محل التفكر ليعتبر بها! لا، بل تعني الظرفية أن يتفكر بينه وبين نفسه في صمت، فيعمل عقله منفرداً ويتفكر في السماوات وفي الأرض؛ لأنه حين يتفكر مع مجموعة من الكفار قد يقوم إليه بعضهم فيدعوه إلى الكفر وإلى البعد عن الله سبحانه، فيستحيي أن يقر أن هناك إلهاً موجوداً؛ لأن الباقين يقولون بخلاف ذلك، أما إذا فكر في نفسه فلن يضحك على نفسه، أو يكذب عليها.
وفيها يخاطب الله عز وجل العبد: أن تفكر في نفسك، وهو عندما يدعو الناس إلى التفكر لا يريد أن يتفكروا مجموعات بل إن الله سبحانه تبارك وتعالى يأمر أن يتفكر المرء وحده أو مثنى أو ثلاث، فوحده مع نفسه، ومثنى أي: مع إنسان آخر؛ وذلك لأن العادة أن التفكير الجماعي يغلب فيه المجتمعون بعضهم بعضاً بعلو الصوت، وفيه قد يستحيي بعضهم من بعض فلا يتكلم معه، بخلاف التفكر الفردي أو الثنائي فإن المرء إذا كان وحده فسيمحص الفكرة ويعيد جريانها في ذهنه إلى أن يصل التفكير إلى أقصاه، فيثمر غايته، وكذلك إذا كان التفكير مع شخص آخر يعمل فكرة أيضاً، فإذا اختمرت الفكرة في ذهنه فله أن يشاور بعد ذلك مجموعات من الناس، فتكون المشاورة مع مجموعة من الناس والتفكير فرادى ومثاني، ويكون أمر الله سبحانه تبارك وتعالى بالتفكير متحققاً على هذه الصورة، وإنما جعل فرادى ومثاني لأن التفكير يحتاج من الإنسان أن يغوص في المعنى، وينفرد بنفسه حتى يتفكر فيما وراء الظواهر الحسية القريبة.(203/8)
آثار التفكير الفردي ومزاياه
الله عندما يأمر بالتفكير يأمر به مثنى وفرادى، فإذا أمر بالشورى أمرهم جماعات فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].
أما عند الأمر بالتفكير فيقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46]، وفي الآية أمرهم أن يتفكروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مجنون؟ فلو جلس مجموعة من الكفار ليتفكروا في ذلك لربما يطلع عليهم أبو جهل فيقول: هذا مجنون، ويحلف لهم على ذلك، وهم يخافون أن يكذبوا ساداتهم، فيقرون له أن محمداً مجنون، ويقولون كما يقول، وبذلك عُلِم عدم جدوى هذا النوع من التفكير، وأن التفكير الصحيح أن تجلس وحدك ثم تسائل نفسك: لم يقول فلان عليه أنه مجنون؟ أليس من الممكن أن يكون فلاناً في نفسه شيء من هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهكذا وحينما يفعل الإنسان ذلك فيتفكر في نفسه يصل في النهاية أنه عليه الصلاة والسلام إنسان عاقل وأنه رسول من عند رب العالمين، ولذلك كان كفار قريش عندما يأتي رجل من خارج مكة يجتمعون إليه، ويقولون له: احذر كذاب قريش، ويظلون يوعزون صدره على النبي الكريم وينصحونه بزعمهم، إلى أن يسد أذنيه بشيء يمنعه من أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصل إليه، فإن كان عاقلاً لبيباً سمع فآمن وإلا فلا.
ويقول بعضهم: إني جئت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقسمت عدد أصابع يدي: أني لا أسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يشاء له الإيمان فيتفكر ويسائل نفسه: لم حلفت أني لا أسمعه؟ أفلا نسمعه ثم ننظر ما سيقول؟! فيرفع أصابعه من آذانه، ويكف عن القسم الذي حلفه، ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لينظر، فيجد ما يقوله صحيحاً، ويعلم أن كلامه هو ما يؤيده العقل ويؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما صنعه هو التفكر الذي أمر الله عز وجل به، ومن الغباء أن تجعل غيرك يسخر منك بالأفكار التي يمليها عليك، بل لا بد أن تفكر مع نفسك: لم تقول هذا الشيء؟ لم تعاد هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟ لم تكذب هذا القرآن؟ وقد كان الوليد بن المغيرة يتفكر في القرآن ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتلوه، فما كان منه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق - أي: مكتسي من فوقه ومن تحته بالخيرات - وما هو بقول بشر.
وبعد ذلك يعايره قومه ويقولون له: ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم.
وهو لا يستطيع أن يرد إذ القرآن كلام جميل.
وما يزالون به يقولون له: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، قل في القرآن شيئاً، فينتكس ويجيبهم إلى قولهم.
ويخبرنا الله عن هذا الإنسان فيقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر:11 - 14] وبعد كل الذي أعطيته يطلب المزيد: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:15 - 16] أي: معانداً مع معرفته بالحق، فقد عرف أنه الحق من عند رب العالمين، ثم جحده استحياءً من قومه أن يقولوا: سحرك محمد صلى الله عليه وسلم، أو أغراك فقال لك: سأعطيك مالاً أو ضحك عليك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخبر الله سبحانه عن تفكيره فيقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنه الله في تفكيره وتقديره الذي قاله، فقد قال قولاً ذميماً بعد أن هدده قومه أن يفضحوه قال سبحانه مخبراً عنه: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:18 - 24].
وكان قد أقر بعد سماعه أن هذا ليس بقول البشر، فلما جاء الكفار إليه وقالوا له: ما الذي تقوله؟ أوقد تبعت محمداً وأصحابه؟ إنك بفعلك هذا ستجعل الناس يسخرون منا، فاستمالوه فقال: سنقول عنه: ساحر يسحر الناس بهذا الذي يقوله.
ومن قصته رأينا كيف أنه تغير وتحول بعدما فكر في نفسه في البداية وقال: هذا الكلام ليس من قول البشر، والوليد بن المغيرة لم يكن رجلاً عادياً بل هو من سادة قريش وكبرائها، ولتعلم منزلته في قومه نسوق هذا الحدث لما دخل عمر بن الخطاب في الإسلام، فقد أتت إليه قريش جميعها تريد أن تضرب عمر رضي الله عنه وتقتله، فذهبوا إليه كالبحر كلهم يريد بيت عمر حتى إن عمر فزع من ذلك، وابن عمر واقف فوق سطح البيت ينظر أمواجاً من البشر التي جاءت تريد عمر، لكن الوليد بن المغيرة وحده رد هؤلاء جميعهم، وقال: أنا على دينه ارجعوا، فرجعوا كلهم وتركوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والوليد بن المغيرة لم يكن على دينه حقيقة ولكن كأنه يقول: أنا أجيره فلا يقربه أحد.
فـ الوليد حين يتفكر لوحده يعرف أن هذا القرآن حق من عند رب العالمين، فيقول: ما هو بقول بشر، وبعد أن يجتمع عليه قومه ويعيروه يخاف ويرجع عن قول الحق بل يقول عن القرآن: إن هذا إلا سحر يؤثر! لذلك الله عز وجل يقول للإنسان: تفكر في نفسك، ولا تجعل فكر غيرك يطغي عليك، فقد وهبتك عقلاً لتفكر فيه قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] أي: أنهم إذا تفكروا علموا أن هذه السماوات لم تخلق سدى وعبثاً، وأن هذه الأرض لم تخلق عبثاً، وأن هذه الآيات التي يراها الإنسان الشمس والقمر والنجوم والكواكب والجبال والبحار والأمواج والأسماك والحيتان فيها والطيور في السماء، لم يخلقها الله عبثاً، وبذلك يعلم الإنسان أن الله لم يخلق هذا كله عبثاً سبحانه تبارك وتعالى، بل خلقه لحكمة وغاية قال سبحانه: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الروم:8] أي: خلقها متلبسة بالحق، فخلقها بعدله وبحكمته وبحقه سبحانه تبارك وتعالى قال: {إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم:8] أي أن كل شيء مخلوق بأجل ولأجل مسمىً عند الله، فقد حدد وجوده وفناءه وبعثه يوم القيامة، فكل شيء موجود ليس بالتعمير في الدنيا إلى الأبد، ولكن إلى أجل مسمى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل:61] ولكن الكثيرين من الناس يكفرون بذلك، قال سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8] أي: بهذا الأجل المسمى وبالرجوع إلى الله لكافرون أما المؤمنون فهم وإن عاشوا في الدنيا وعمروا فيها فهم يعرفون أنهم راجعون إلى الله، فيعملون لله بالصدق وبالإخلاص وبالعلم وباليقين.(203/9)
تفسير سورة الروم [8 - 17]
أمر الله تعالى بالتفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، فهو المستحق لأن يعبد ويطاع، وذكر سبحانه عاقبة الأمم السابقة المكذبة به وبرسله، وكيف كانت نهايتهم وهلاكهم، وذكر عاقبة المؤمنين، وأنهم في الجنة يحبرون ويتنعمون ويتلذذون بما لا يخطر على بال.(204/1)
تفسير قوله تعالى: (أولم يتفكروا في أنفسهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:8].
يأمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فيقول: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)) أي: أولم يتفكر العباد بينهم وبين أنفسهم في خلق السماوات والأرض، وفي ملكوت الله سبحانه، فيعرفون أن هذا الخلق العظيم الذي خلقه الله سبحانه آية للعباد، ليعرفوا قدرة ربهم وقوة ربهم، وأن هذا الكون لا بد وأن يكون له خالق قد خلقه، أولم يتفكروا في ذلك أم أنهم كالأنعام لا يفهمون ولا يعرفون ولا يفكرون؟ قال سبحانه: ((مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: خلقها حقاً سبحانه وتعالى بالحق وبالعدل، وبالقسط بحكمته سبحانه وتعالى، فهو خلقها ليحق الحق بكلماته سبحانه وتعالى، وخلقها لأجل مسمى، وكل شيء عنده بمقدار، وكل شيء بقضاء وقدر، فإذا جاء الأجل انشقت السماء فهي يومئذ واهية، وإذا بالأرض تتفجر بما فيها من أنهار ومن بحار، وبما فيها من جبال، كل ذلك بأمر ربها سبحانه وتعالى.
كذلك العباد كل عبد مخلوق لأجل معين، له وقت معين يخلق فيه، ووقت معين يموت فيه، ووقت معين يبعث فيه، كل ذلك عند الله بمقدار، ولكن الناس لا يفهمون ذلك، ((وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ)) أي: يكفرون بالبعث والنشور، وبالعود إلى الله سبحانه للحساب إما للجنة أو للنار.(204/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9] يعني: هؤلاء الكفار الذين يتنطعون ويتعنتون، ويتطاولون على ربهم، ويكذبون رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، هلا ساروا في الأرض فنظروا فيها؟ انظروا كيف بدأ الله الخلق؟! وكيف ينشئه؟! وكيف يعيده سبحانه وتعالى؟! وكيف فعل بالسابقين؟! وكيف كان عاقبة الذين من قبلهم ونهايتهم؟! عاقبة الشيء ونهايته هي النتيجة التي من ورائه، انظروا كيف عاقب الله سبحانه قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة قوم مدين، وغيرهم كثيرين ممن خلق الله سبحانه، فمنهم من قص علينا قصصهم، ومنهم من لم يذكرهم لنا، فلو أن الإنسان سار في الأرض فلينظر نظرة اعتبار لا نظرة تفسح وتمشية، بل يعتبرون مما حصل للأقوام السابقين، وما الذي صنعوه، وكيف أنهم علوا في الأرض، ففرعون كان قومه يبجلونه ويرفعون شأنه، ويعبدونه من دون الله سبحانه، والآن إذا ذكرناه قلنا: هذا المجنون الذي كان اسمه فرعون، هذا الإنسان الغبي الذي ظن نفسه إلهاً مع الله سبحانه وتعالى، هذا الذي خدع الناس وقال: أنا ابن الشمس، هذا المغفل الأحمق.
فقومه الذين كانوا معه لا يجرؤون أن يقولوا ذلك له، بل كان يستخفهم فيطيعونه، فنقول: كانوا خفاف العقول، كانوا يطيعونه وهم يعرفون أنه كذاب، وأنهم كذابون في عبادتهم له، فلو أن الناس تفكروا واعتبروا بهؤلاء الذين خافوا من فرعون فعبدوه من دون الله سبحانه، كيف انتهى أمر فرعون وقومه، وصاروا عبرة للناس، وهلا اعتبرتم بهؤلاء؟! كيف فعل الله عز وجل بهم، ففرعون أغرقه الله سبحانه، وهو الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهو الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وحين أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ)) أي: نهاية ونتيجة سوء عملهم، {كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم:9] يعني: كانت أبدانهم قوية، وكانوا طوالاً في قامتهم، وكانوا عراضاً في أبدانهم، وكانوا ذوي عضلات وقوة، وآثارهم تدل على ذلك، انظر إلى الذين بنوا الأهرام يا ترى كيف كانت أجسامهم؟ وكيف كانت قوتهم؟ لعلهم (أوناش) ولعلهم (روافع)، لقد أعطاهم الله عز وجل قوة بدنية، فرفعوا وبنوا وصارت آثارهم تدل على ما أعطاهم الله سبحانه من قوة ومن علوم، لكن هل انتفعوا بما أعطاهم الله من قوة؟ لا، بل تمردوا وعتوا وعلوا في الأرض واستكبروا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ)) أي: أنهم كانوا يقلبون الأرض بالحرث، فكانوا يزرعون ويبذرون ويحصدون، وكانوا أقوياء يفعلون ذلك.
قوله: {وَعَمَرُوهَا} [الروم:9] أي: أقاموا فيها أعماراً طويلة، فهم عمروا حتى قيل: لن يزولوا، أين ذهب هؤلاء؟ انتهى أمرهم، حين يتكلم عنهم الإنسان يقول: قوم في الماضي السحيق، هل كانوا يظنون أن يصيروا ماضياً يتندر بهم ويتكلم الناس عنهم؟! لقد أقاموا عمراً طويلاً، فظنوا أنهم لن يبيدوا أبداً، أو قوله سبحانه: ((وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا)) أي: عمروها بالسكنى وعمروها بالزراعة والفلاحة، وعمروها بالصناعة، وعمروها بغير ذلك.
قوله: ((أكثر مما عمروها)) يعني: الذين من بعدهم، وأعمار العباد تتناقص، ففي عهد نوح عاش نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في الدعوة، أما الآن فلا أحد يعيش هذا العمر، فأعمار أمة النبي صلى الله عليه وسلم قصيرة، من الستين إلى السبعين، والقليل من يجوزون ذلك، لكن السابقون عمروا، كان الواحد يعيش مائتين سنة ويظن أن عمره طويل، ولكن ليس بطويل جداً، الآن لا أحد يعيش هذه المدة، والآن يقولون: المعمر الذي يعيش في البلد الفلاني مائة وخمس عشرة سنة، أو عاش مائة وسبع عشرة سنة فنحن نقول: هذا معمر فكيف به إذا عاش ثلاثمائة سنة أو أربعمائة سنة، يكون ماذا؟ السابقون عاشوا هذه السنين وأكثر.
فالله عز وجل يقول: ((وعمروها)) أي: عمروا الأرض وسكنوا فوقها، وامتدت أعمارهم، لكن مهما طال عمر الإنسان فلا بد في النهاية أن يرجع إلى الله عز وجل ليحاسبه سبحانه.
قال: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)) أي: بالآيات البينات من عند الله، هذه الآيات التي تبين نفسها وتفصح عن نفسها، أو جاءتهم معجزات من عند رب العالمين سبحانه، وقراءة الجمهور: ((وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ))، وقراءة أبي عمرو (وجاءتهم رسْلهم بالبينات) بسكون السين فيها.
قوله تعالى: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9] كأن هنا فيه شيء مقدر محذوف، والمعنى: أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوا ولم يعتبروا ولم يتعظوا فأهلكهم الله، ولم يظلمهم الله سبحانه بإهلاكهم، قال: ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ)) وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
والله عز وجل قد حرم الظلم على نفسه قال: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فمستحيل أن الله عز وجل يحكم بغير العدل، فحكمه العدل، وقوله الحق سبحانه، ((فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) أي: ظلموا أنفسهم بشركهم وبعصيانهم وبتمردهم على ربهم سبحانه، وباستكبارهم على رسل ربهم عليهم الصلاة والسلام، فاستحقوا عقوبة رب العالمين سبحانه التي ذكرها في كتابه.(204/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا)
قال الله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:10]، قوله: ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ)) على أن هنا (عاقبة) خبر (كان) مقدم، كأنه يقول: كانت العاقبة أو العقوبة لهؤلاء من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فيكون السوء ما يسوء هؤلاء الذين أساءوا، فعلى قراءة ابن عامر وقراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ)) أما باقي القراء: نافع وابن كثير وأبي عمرو وأبي جعفر ويعقوب فيقرءون: ((ثم كان عاقبةُ)).
فإذاً: هنا على هذه القراءة كانت العاقبة وكانت النتيجة الشيء الذي يسوء الإنسان، والشر الذي يحيق بهذا الكافر نتيجة وعقوبة وعاقبة فعله وصنيعه.
وكانت عاقبتهم ما يسوءهم؛ لأنهم كذبوا بآيات الله، ولأنهم فعلوا أسباباً استحقوا بها أن يسيئهم الله سبحانه وأن يجعلهم في النار.
يقول الله سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا)) أي: عاقبة المسيئين، وعاقبة المسيئين هي: ((السُّوأَى)) فعلى تأنيث السوء، مثل ما نقول: الحسنى تأنيث الحسن، وقد تأتي بمعنى أفعل التفضيل.
قوله: ((أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون)) يعني: استحقوا ما يسوءهم يوم القيامة من شر في النار.
بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، وكانوا بهذه الآيات يستهزئون.(204/4)
تفسير قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون)
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الروم:11]، الله سبحانه وتعالى الذي يجب على العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له؛ لأنه الرب الذي بدأ الخلق وهو الذي يعيده سبحانه.
فهنا ذكر ألوهيته سبحانه، والألوهية هي أنه سبحانه يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فهو إله، أي: معبود.
قوله: ((الله يبدأ الخلق)) بدء الخلق وإعادة الخلق من صفات الربوبية، وهو الرب الذي يفعل ما يريد سبحانه، ويفعل ما لا يقدر غيره أن يفعله، فهو الذي يبدأ الخلق، بدأه وفطره وأبدعه وأوجده على غير مثال سابق، لم يكن هناك خلق قبل هذا، فقد خلق هذا الخلق بهذا الشكل الآن سبحانه.
قوله: ((ثم يعيده)) أي: الذي يبدأ قادر على الإعادة، قادر أن يفنيه ثم يعيده مرة ثانية.
قوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) المرجع إلى الله فقوله: ((ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) هذه قراءة الجمهور على الخطاب، وقراءة أبي عمرو وشعبة عن عاصم: (ثم إليه يرجعون) على الغائب، فترجعون على الخطاب، أي: أنتم (ترجعون) إلى الله، و (يرجعون) على الغائب، أي: يرجعون هم.
وقراءة يعقوب ستكون: (ترجعون) و (يرجعون) يقرؤها روح عن يعقوب ويقرؤها رويس عن يعقوب: (ترجعون) و (يرجعون).(204/5)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون)
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:12]، قوله: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) أي: اذكر هذا اليوم يوم تقوم الساعة يوم القيامة، وهو يوم عظيم ويوم فظيع، والله عز وجل يذكره في كتابه سبحانه ويؤكد عليه، فتذكر هذا اليوم، وكلما كان ذكر القيامة على بال الإنسان، فإنه يترك معصية الله سبحانه، ويترك الغرور والكبر والتعالي على الخلق، والتعالي على رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهو يتذكر أنه راجع إلى الله، فيعمل لهذا اليوم.
قوله: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ)) عندما تقوم الساعة يوم القيامة يقوم الناس من قبورهم، ويحشرون بين يدي ربهم.
قوله: ((يبلِسُ الْمُجْرِمُونَ)) أبلس الرجل بمعنى انقطع وتحير ويئس، فهو لم يقدر على النطق وعلى الجواب.
كل هذه المعاني في هذه الكلمة (أبلس) يعني: يئس وقنط وانقطع واندهش وتحير، وجلس حزيناً متفكراً ساكتاً مغموماً متحيراً، هذا هو المبلس، فالمجرمون في هذا اليوم يكونون منقطعين متحيرين، وقد كان الواحد منهم في الدنيا يعرف أن يتكلم ويعرف أن يجادل ويجد له أنصاراً، أما يوم القيامة فلا أحد ينصره، وإنما يجلس متحيراً لا يقدر على الاعتراض على شيء، فالله عز وجل ذكر حال المجرمين يوم القيامة أنهم مبلسون، أي: آيسون قانطون من رحمة الله لا يقدرون أن يدفعوا عن أنفسهم.(204/6)
تفسير قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء)
قال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13] قوله: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ)) أي: كانوا في الدنيا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] أي: كنا نعبد هؤلاء من أجل أن يقربونا إلى الله عز وجل، فهم كانوا يتقربون إلى الكبراء منهم، فإذا بهم يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [سبأ:31] وهم الأتباع، {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [سبأ:31] وهم قادتهم وسادتهم {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] أي: أنتم ضيعتمونا في الدنيا، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين، وأنتم كنتم سفلة، وأنتم السبب في هذا الشيء، ونحن لم نطغ إلا لما وقفتم بجوارنا، انظر كيف تبرأ هؤلاء الكبار من الصغار؟! كان صغيراً حقيراً في الدنيا ومجرماً طاغياً، وكان كبيراً عالياً في الدنيا ومجرماً طاغياً، الكبير يقول للصغير: أنت السبب الذي جعلتني كبيراً هكذا بطاعتك لي، والصغير يقول له: أنت السبب الذي أضللتني، والله يقول للجميع: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم:13]، وقال سبحانه حاكياً تبرؤ بعضهم من بعض: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166] يعني: الكبار كانوا متبوعين في الدنيا، يمشي الواحد منهم وأمامه ووراءه الآخرون، هذا الكبير يوم القيامة يتبرأ من الذين كانوا وراءه في الدنيا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا} [البقرة:166] أي: الكبار: ((من الذين اتبعوا)) من الصغار، ثم قال سبحانه: {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] أي: أسباب المواصلة في الدنيا لا توجد الآن في الآخرة، أما في الدنيا فهذا سيعطي هذا مالاً أو غير ذلك، لكن يوم القيامة تنعدم أسباب المواصلة فتبرأ بعضهم من بعض، وتقطعت بهم الأسباب، فتجد بعضهم يشتم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويقول لهم ربهم: ادخلوا النار خالدين فيها.
ثم قال هنا: ((وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ)) أي: كفروا بمن عبدوه من دون الله.(204/7)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون)
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14] أي: يوم القيامة فحين يذكر الله عز وجل قيام الساعة وما فيها من الرعب والتخويف، وكيف أنه سبحانه أقام الساعة بكلمة (كن)، وأنه جمع الجميع بين يديه سبحانه، فقال هنا: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ)) فهنا لا تفرق إلا بعد اجتماع، يجتمع الجميع في موقف واحد، وبعد ذلك يرون منازلهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، يفرقهم الله سبحانه وتعالى ذات اليمين وذات اليسار.(204/8)
تفسير قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون)
قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم:15] قوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) ليس الإيمان بالتمني ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، يعني: لا بد مع الإيمان من العمل.
قوله تعالى: ((فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)) الروضة عند العرب: هي المكان الجميل الذي يستمتع فيه الإنسان، يعني: هي مكان منخفض فيه غدير أو بئر ماء أو عين ماء نابعة تجري، وحول الماء ينبت البقول الذي في الأرض، فكانت العرب تفرح بهذا المكان، هذا الشيء في الدنيا، وكأن الله عز وجل يقول: أتحب هذا البستان؟ فما عند الله أعظم من هذا بكثير، وإن سميت روضة، فإنما هو من باب المشاكلة فقط، تشبهاً في الاسم فقط، أما في الحقيقة فما عند الله أعظم بكثير من هذا الذي ترونه في الدنيا، مهما ذهبت إلى حديقة في الربيع، ونظرت إلى ما فيها من ورود ومن ثمار ومن أشياء طيبة واستمتعت بها، فهي لا تسوى شيئاً بجوار الجنة، الجنة أعظم منها بكثير.
فيقول الله سبحانه وتعالى: ((فهم في روضة يحبرون))، قوله: ((يحبرون)) هذه كلمة جميلة جداً، حبر الشيء يعني: زين الشيء، فكأنهم يمتعون في الجنة بكل أنواع الزينة، ومهما تخيلت وتفكرت في الجنة فلن تصل إلى ما عليه هذه الجنة العظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا الجنة ويقول: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) يعني: ما لا عين رأت من جمال، ومن حور عين، وما فيها من نبت وثمار، وما فيها من طيور، وما فيها من متعة.
فإذاً: الإنسان لا يستطيع أن يتخيلها على حقيقتها.
قوله: (ولا أذن سمعت) يعني: الإنسان في الدنيا يريد أن يستمتع بالسماع، فتراه يسمع موسيقى، ويسمع أغاني، يريد أن يسمع كذا، وهذا الاستمتاع والاستماع قد حرمه الله عز وجل على المؤمنين في الدنيا، فلما حرم منها في الدنيا عوضه خيراً منها في الآخرة، فقيل للمؤمن: إن تصبر عن هذه في الدنيا فإنا سنسمعك ما لا أذن سمعت يوم القيامة في جنة الله عز وجل، تسمع موسيقى وتسمع أغاني وتسمع أصواتاً عمرك لم تسمعها، لو أن إنساناً يسمعها وهو في الجنة بقوته التي هو عليها في الدنيا لمات طرباً، لن يفرح ويضحك، بل سيموت من شدة الطرب؛ لأنه لا يتحملها الإنسان على ما هو عليه في هذه الدنيا، أما في الجنة فيعطى قوة عظيمة جداً، وأشياء ليست له الآن، لذلك يقول لك ربك: اصبر الآن في الدنيا عن سماع هذه الأشياء التي منعت من سماعها؛ لأنها في الدنيا تلهيك عن ذكر الله سبحانه وتعالى؛ ولأن هذه الأغاني فيها مجون وفيها خلاعة وفيها حب وفيها ضياع الإنسان وابتعاد عن الله سبحانه، ونحن في الجنة سنسمعك ما تطرب به وما تلذ به، ستسمع أصوات الملائكة، وتسمع أصوات الحور العين، وتسمع ما لم تسمعه أبداً، هذا مما يحبر به أهل الجنة، فهم يحبرون ويمتعون ويسرون ويكرمون ويسمعون ما لم يخطر على بالهم من ملاذ تستمتع به آذانهم في الجنة.(204/9)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم:16]، هذا القسم الثاني، القسم الأول: المؤمنون في الجنة يستمتعون بكل ما فيها، أما الكفار المكذبون بآيات ربهم، والمكذبون بنعم ربهم سبحانه، والمكذبون بلقاء الآخرة، وبلقاء الله سبحانه، وبالبعث والنشور والقيام من القبور، والمكذبون بالجنة النار؛ فهؤلاء في العذاب محضرون.
ليس هم يحضرون ويذهبون بأرجلهم، بل يريدون أن يهربوا لكن لا يستطيعون، قال تعالى: {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] أي: يؤخذ أحدهم ويدفع ويلقى في نار جهنم، فهو محضر، ولو يستطيع أن يفر لفر، لكن تأخذه ملائكة العذاب ولا يقدر على الهرب من عذاب رب العالمين سبحانه، فأولئك في العذاب محضرون.(204/10)
تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] سبح ربك سبحانه الذي خلق فسوى، والذي خلق الجنة وجعل لها أهلاً، وخلق النار وجعل لها أهلاً، فسبح ربك سبحانه بالمساء والصباح، وهذا أمر من الله سبحانه، والأصل أن قوله: ((فسبحان)) مصدر، والمصدر فيه فعل محذوف ولم يعبر به إلا هكذا، فيكون المعنى: سبح ربك تسبيحاً، فيؤتى بكلمة سبحان، بدلاً من هذه الجملة.
فقوله: ((فسبحان)) معناها: سبح الله تسبيحاً عظيماً، حين تمسي بالمساء وحين تصبح بالصباح، وباقي اليوم في كل وقت سبح ربك وصل له، لتصل إلى جنته، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(204/11)
تفسير سورة الروم [17 - 19]
إن تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه واجب على كل مكلف، كيف لا يكون ذلك وآلاؤه مبثوثة في الآفاق والأنفس، وقد أبرز الله لنا في كتابه في عدة مواطن دلائل عظمته وجبروته وقدرته، ومنها: إخراجه الحي من الميت والميت من الحي، فسبحانه أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وبكرة وعشياً.(205/1)
تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18].
في هذه الآيات يأمر الله سبحانه تبارك وتعالى عباده بأن يسبحوه سبحانه وتعالى، والتسبيح قد يأتي بمعنى: التقديس والتنزيه لرب العالمين سبحانه، تقول: سبحت الله عز وجل أي: نزهته سبحانه أن يشبهه أحد من خلقه، فهو منزه مقدس متعالٍ سبحانه، تعالى عن الأشباه والأضداد والأمثال سبحانه تبارك وتعالى.
والتسبيح أيضاً قد يأتي بمعنى الصلاة، ومنه قوله: صلاة السبحة بمعنى: صلاة التطوع وصلاة النافلة، وكأن في الآية إشارة إلى التسبيح الذي هو في الصلاة، حيث إن في الآية إشارة إلى مواقيت الصلوات الخمس في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18].
ولذلك جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الصلوات الخمس في القرآن.
يعني: أنه قد ورد ذكر الصلوات الخمس في القرآن.
فقيل له: أين؟ فقال: في هذه الآية: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18].
فذكر الله الصلوات وأشار إلى التسبيح، أي: سبحوا الله تسبيحاً واجباً في هذه الصلوات الخمس، وكلمة (سبحان) مصدر، والمصدر يغني ويُعبَّر به عن جملة كاملة، فالأصل سبحوا الله تسبيحاً، و (سبحان) تساوي تسبيحاً وهو مصدر يغني عن الجملة، فكأنه قال: سبحوا الله تسبيحاً في هذه الأوقات، وهي الأوقات التي قال عنها: ((حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)).
ذكرت الآيتان أربعة مواقيت تدل على الخمس الصلوات، فقوله: (حين تمسون) أي: وقت المساء، ووقت المساء فيه صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وقوله تعالى: (حين تصبحون) يعني: حين تدخلون في وقت الصباح.
وقوله تعالى: (وعشياً) أي: وقت العشي وهذا الوقت يطلق على الوقت الذي هو من بعد الزوال إلى قبل غروب الشمس، وفيه صلاتا الظهر والعصر، ولكنه نص على الظهر هنا فكأنه قصد بالعشي العصر فقط، وبدأ بالليل لأن الليل يبدأ قبل النهار فذكر أولاً صلوات الليل، وإن كان في سورة الإسراء قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فنص على الصلوات هنا فقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78]، والدلوك: هو الزوال، وهو وقت الصلاة الأولى وهي صلاة الظهر، وتسمى صلاة الظهر: الصلاة الأولى؛ لأنها أول ما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه بعد قصة الإسراء والمعراج نزل النبي صلى الله عليه وسلم فأول ما صلى من الصلوات صلاة الظهر، ولذلك سميت الصلاة الأولى، وإن كانت أول صلاة في اليوم هي صلاة الفجر، ولكن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعد المعراج كانت صلاة الظهر فسميت بالصلاة الأولى.
ففي سورة الإسراء قال الله سبحانه آمراً النبي صلى الله عليه وسلم: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78].
أي: أقم هذه الصلاة التي أمرك الله عز وجل بها وهي صلاة الظهر، قوله: (إلى غسق الليل) أي: وصل العشاء والمغرب، وكذلك أمر بصلاة الصبح، إذ قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، كأنه يمدح قرآن الفجر أو يخصه بالفضل، يعني: قرآن صلاة الفجر: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر كانت مشهودة.
إذاً: هنا نص ربنا سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآية على تسبيحه، وهو إشارة إلى التسبيح الواجب في الصلاة، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17] أي: حين تدخلون في المساء في صلاتي المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] أي: حين تدخلون في وقت الصبح.(205/2)
تفسير قوله تعالى: (وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون)
قال الله تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18]، هذه جملة معترضة بين الأمر بالتسبيح والصلاة في المساء والصباح وبين الأمر بما في العشي والظهر، فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ} [الروم:18] أي: له الحمد أن أمركم بالصلاة، وله الحمد أن خلقكم سبحانه، ودلكم على دينه، وله الحمد أن دلكم على عبادته؛ لتكونوا من أهل جنته سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ} [الروم:18] أي: يحمده أهل السموات، والحمد: هو الثناء الحسن الجميل على الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله: {وَالأَرْضِ} [الروم:18] أي: ويحمده أهل الأرض، بل قد قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فكونوا ضمن من يسبحونه، فلو قورن البشر بمخلوقات الله عز وجل لكانوا شيئاً قليلاً بجوار ما خلق الله في السموات والأرض من حيوان وأجناس كثيرة جداً، فما من حيوان أو طير أو حشرات أو غيرها إلا ويسبح بحمده تعالى، ولذلك قال الله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] أي: فليس كل الناس كذلك، {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18]، وهذه المجموعة التي حقت عليها العذاب، والتي أبت إلا الهوى والبعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى إذا قورنت بهذا الخلق العظيم الذي يسجد لله سبحانه فكأنها لا شيء، فالله سبحانه تبارك وتعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، ولذلك أخبرنا أنه محمود في السموات، محمود في الأرض.
ثم بعد هذه الجملة المعترضة التي دلت على حمده سبحانه، وأنه ينبغي على العبد إذا ذكر الله سبحانه أن يسبحه، وأن يحمده سبحانه ويقول: الحمد لله سبحان الله وخاصة في الصلاة، قال: {وَعَشِيًّا} [الروم:18]، أي: في وقت العشي، وهو من الزوال إلى غروب الشمس، ويكون فيه صلاة الظهر وصلاة العصر.
وقال: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] أي: حين تدخلون في الظهيرة وهو وقت دلوك الشمس أو وقت صلاة الظهر.(205/3)
تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)
قال سبحانه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19].
إن نعم الله عظيمة، وهذه السورة بدأها الله عز وجل بالآيات التي يوجد فيها الإعجاز، وكل هذه السورة إعجاز، بل كل القرآن إعجاز، فهناك إعجاز في النبوءة، وهناك إعجاز في الإخبار، وهو أن يحدثنا القرآن عن أشياء قد تغيب عن ذهن الإنسان، وهو ينظر إليها ويعرفها ولكنه لا يتفكر فيها، فإذا تفكر فيها ظهرت له بعض دلائل قدرة الله سبحانه العظيمة التي لم يتفكر العبد فيها، فالله عز وجل هو القوي القاهر القادر سبحانه، وهو الخلاق العظيم.(205/4)
من مظاهر قدرة الله في الخلق
قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19].
ما ذكرته الآية يشاهده الإنسان، فالدجاجة عندما تبيض بيضة، فهذه البيضة تراها جماداً أمامك لا حياة فيها إذ إنها لا تتحرك ولا تعمل، فالدجاجة حية خرج منها شيء أنت تراه ميتاً، وإن كان كل شيء أوجد الله عز وجل فيه حياة من جنس معين، والبيضة قد يكون فيها شيء من الحياة أودعها الله عز وجل فيها إن كانت جماداً أمامك بحسب ما تنظر إليها، فإذا بالله عز وجل يحرك شيئاً بداخلها، فإذا لقحت هذه البيضة صار بداخلها فرخاً نما وخرج منها، فرأيته أمامك حياً وقد خرج من شيء كان جماداً، فتتعجب من قدرة الله سبحانه تبارك وتعالى! أيضاً: شعر الإنسان هو جماد، ولكن فيه حياة معينة كحياة النبات، فينمو الشعر بهذه الحياة النباتية، وإن كنا نحن نقول: إن هذا الشيء جامد لا يتحرك، إذاً: هنا الإنسان حي، والشعر الذي فيه ميت، وإن كانت له حياة من جنس خاص.
وكذلك الحال في الإنسان، يلتقي الرجل والمرأة فتصير المرأة حاملاً من مني الرجل الذي دخل فيها، وكان نطفة، والنطفة ماء سائل يستقذره الإنسان، وإذا وضع أمامه في الإناء فينظر إليه أنه سائل شيء ميت ليس فيه حياة، مع أن فيه حياةً من نوع خاص، ففيه حيوانات منوية لا تراها بعينك، وتراها بالمجهر وهي تجري بداخل النطفة، وهذه النطفة التي خرجت من الإنسان إذا وضعت في زجاجة نراها شيئاً ميتاً جماداً، فإذا دخلت في بطن المرأة ينميها الله، وتحتوي النطفة الواحدة على الملايين من الحيوانات المنوية التي لا تراها أنت، وهذه الملايين قضى الله وقدر أن يفلح واحد منها فقط، وهذه الملايين في مساحة ثلاثة سنتيمتر تقريباً، فيفلح حيوان منوي واحد فيلقح بويضة المرأة، وأيضاً كانت البويضة في المرأة جسماً ميتاً، ولكن فيها حياة من نوع خاص، وهي حياة نباتية تنمو شيئاً فشيئاً، فاجتمع المنوي والبويضة فتحولا إلى كتلة لحم في يوم من الأيام وهي مرحلة العلقة، وبعد أيام صارت مضغة، وبعدها تتخلق هذه المضغة، ويرسل الله عز وجل الملك إليها، فإذا بهذا الملك ينفخ فيها الروح بأمر الله سبحانه، فتظهر فيها حياة بعد مضي أربعة أشهر على المرأة، وإذا بالجنين في بطن أمه تظهر له حركة وينمو حتى يخرجه الله سبحانه، فإن شاء أنزله حياً، وإن شاء أنزله ميتاً، فأخرج الله الحي من الميت وأخرج الميت من الحي سبحانه تبارك وتعالى.
وقد يحصل أن المرأة تموت فيذهبون بها إلى المستشفى، وبداخلها جنين حي، فيشقون بطنها ويخرجون الجنين حياً، وتكون الأم ميتة.
وأعجب من ذلك ما حصل في روسيا قبل سنة أو سنتين، وهو أن أماً ماتت موتاً إكلينيكياً -كما يقولون- الأجهزة على جسدها ويتحرك القلب والرئة، وهي كما هي، فشقوا بطنها وأخرجوا الجنين حياً، والمرأة محكوم عليها أنها ميتة، إذا أخذت الأجهزة منها تموت، وإذا تركوا الأجهزة كما هي عليه إذا بالطفل بجوار المرأة يرضع من ثديها على هذه الحالة مدة حتى اطمأنوا أنه سيعيش، فأخذوا الأجهزة والمرأة ميتة، ثم دفنت والطفل حي! فسبحان من قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19].
وقس على ذلك ما تراه من أشياء أمامك.
وكذلك يحيي الله عز وجل الأرض بعد موتها، فتراها مجدبة قاحلة فينزل المطر من السماء يغيث الله عز وجل به العباد، ويخرج لهم النبات من الأرض، فإذا بالحياة النباتية خرجت من هذه الأرض الميتة الجرداء.
وكذلك البذرة ترميها في الأرض، فتخرج قمحاً حياً حياة نباتية، ويخرج الله هذا النبات الحي من هذه البذرة التي كانت ميتة.
والنواة التي تلقيها في الأرض وهي نواة ميتة في نظرك أنت، فإذا بالله عز وجل يحييها في الأرض وتخرج منها الشجرة والنخلة العظيمة، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، فتنمو الشجرة، ثم يظهر البلح فوقها، فتأخذ البلح وتراه أمامك جماداً ليس فيها حياة، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، فإذا ألقيت النواة في الأرض، إذا بالله يخلق فيها الحياة وتطلع شجرة مرة أخرى، كذلك يقلب الله الليل والنهار، ويريك عظيم آياته أفلا تتدبر وتعقل؟!(205/5)
عظمة قدرة الله في إحياء القلوب
لقد جاء القرآن هداية وحياة للقلوب الميتة، ولذلك جاء في حديث رواه الزهري بلاغاً: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال: من هذه؟ فقلن: إحدى خالاتك - خالة من خالات النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: من هي؟ قلن: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال صلى الله عليه وسلم: سبحان الذي يخرج الحي من الميت!).
وكانت هذه المرأة مؤمنةً صالحةً، وكان أبوها كافراً فاسداً فأخرج الله عز وجل هذه المؤمنة من ذاك الكافر، فالله عز وجل على كل شيء قدير.
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الروم:19]، يخرج الإنسان التقي من صلب الإنسان الشقي، وكذلك العكس فقد يكون الأب تقياً باراً، ويكون الابن شقياً فاسداً، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، وقس على ذلك كل ما يظهره الله عز وجل في خلقه؛ ليري عباده من آياته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، ولله في خلقه شئون.(205/6)
من آيات الله نوم البشر وآداب ذلك
يعلمنا الله في القرآن ويذكرنا: أن سبحوا الله، وانظروا إلى بديع قدرته، وإلى آيات عظمته، ويذكر لنا من آياته حتى نتفكر في ذلك، ويتدبر ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ويعلمنا أن الإنسان قبل نومه حي وعند نومه يصير ميتاً بهذا النوم، إذ إن الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فالنوم أخو الموت، والنوم هو الموتة الصغرى، ولذلك فإن أهل الجنة لا ينامون في الجنة؛ لأن النوم أخو الموت، فذاك موت أكبر، وهذا موت أصغر، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا نام عليه الصلاة والسلام ذكر الله عز وجل بأدعية معينة، وإذا قام من نومه ذكر الله بأدعية أخرى، ففي قيامه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ففي الإنسان نفسه آية من الآيات، فهو لا يستغني عن هذا الموت أبداً، فمن يستغني عن النوم؟ لا أحد يقدر على ذلك، فينام الإنسان ولا يقدر على الاستغناء عن هذا النوم الذي يحتاجه في كل يوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام يقول: (اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن) فيذكر الله سبحانه تبارك وتعالى بأوصافه العظيمة، وبخلقه العظيم البديع، يقول: (فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر).
إن هذا الدعاء العظيم فيه تعظيم الله جل في علاه: (اللهم رب السموات ورب الأرض)، يعني: يا رب! يا خالق! يا رازق! يا مدبر أمر السموات والأرض!، (ورب العرش العظيم)، أي: يا خالق عرشك العظيم! يا مدبر أمره! يا ربنا ورب كل شيء! (فالق الحب والنوى)، فالله يفلق الحبة وقد كانت جامدة فيخرج منها ساقها ويخرج منها جذرها، ويخرج منها نباتها، فهو فالق الحب.
(وفالق النوى) أي: فلق النوى فأخرج منها النخلة العظيمة، فكأنه يقول: أنت الذي أحييت هذه الأشياء، ومناسبة ذكرها هنا: أني سأنام وأنت تحييني من هذا النوم، كما تحيي هذه الحبة فتصير سنبلة، وكما تحيي هذه النواة فتصير نخلة.
قال: (ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)، أما المناسبة هنا، فإن الله أنزل التوراة والإنجيل والقرآن، كما أنزل المطر من السماء، يحيي به الله عز وجل الأرض بعد موتها، وبهذه الكتب السماوية يحيي الله القلوب بعد كفرها وموتها، فالكتب السابقة للقرآن فيها حياة لخلق الله سبحانه حين أنزلها الله سبحانه إلى أن يأتي الله بغيرها، فجاء القرآن آخر كتاب من عند رب العالمين، أنزله سبحانه ليكون هو الشريعة إلى يوم الدين.
يقول صلى الله عليه وسلم بعد أن سأل الله بهذه الصفات: (أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته)، وفي رواية: (من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته)؛ ليعلمنا أن الإنسان ينام ويتعوذ بالله من الشرور، فهو لا يدري ما الذي سيحدث له في الليل، وما الذي يأتي عليه في النهار، فيتعوذ بالله من شر كل ذي شر هو آخذ بناصيته، وكل شيء فإن الله آخذ بناصيته، سواء كان إنساناً، أو حيواناً، أو طيراً، أو دابة، أو هامة، أو ناراً، أو جماداً، أو ماءً، فيتعوذ بالله من كل شيء شيطاناً أو إنساً، أو غيره.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء) أي: أن الله هو الأول فلا شيء سابق عليه، فالله قبل كل شيء سبحانه، والله هو الحي بعد فناء كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.
(وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر) أي: أن آيات الله ظاهرة، وحججه قوية غالبة، فالله هو الظاهر سبحانه، وهو الذي يدل كل شيء عليه سبحانه تبارك وتعالى، وكل شيء فيه آية تدل على ربنا سبحانه تبارك وتعالى وعلى وجوده، وعلى قدرته، وعلى ما يفعله في خلقه سبحانه من آياته، فهو الظاهر والغالب سبحانه لكل شيء، والقاهر لكل شيء.
قال: (فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) أي: أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعلم باطن كل شيء، ومهما بطن الشيء ومها اختفى، فإنه لا يخفى على الله سبحانه تبارك وتعالى، فيعلم الله الظاهر الواضح، ويعلم أيضاً الدقيق الخفي، وأيضاً فإن الله غيب لا يراه أحد إلا إذا شاء في جنة الخلود، فيري عباده الصالحين نفسه سبحانه وتعالى، فنسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يرونه في جنته.
وبعد أن سأل الله بذلك قال: (اقض عنا الدين)، فسأله أن يقضي عنه الدين، والإنسان يعلق بدينه ولو مات شهيداً، فلذلك كان الدين من أخطر الأشياء على الإنسان، فإذا نام الإنسان، وعليه دين فلعله لا يقوم من نومه فماذا سيعمل بالدين؟ سيحبس في قبره، ويحبس على النار بسبب هذا الدين، والله عز وجل يقضيه عمن يشاء سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأغنني من الفقر).(205/7)
إحياء الله الأرض بعد موتها
في هذه الآية أخبر الله سبحانه أنه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، فالله تعالى يذكر لنا هذه الآيات من إخراج الحي من الميت وغير ذلك؛ ليقول لنا بعدها: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، فكما ترون هذه الأشياء ماثلة أمام أعينكم، من أن الله يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، فإذاً: الله على كل شيء قدير سبحانه تبارك وتعالى، فسيخرجكم من قبوركم للبعث والحساب! {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19] فهذه البذور التي كانت مدفونة داخل الأرض، وهذا النوى الذي كان مدفوناً داخل الأرض، نزل عليه المطر من السماء فأحيا الله عز وجل هذا كله، وقد رأيتم ذلك واطلعتم عليه، فأنتم إذا دفنتم بداخل هذه الأرض أفلا يقدر سبحانه على أن يحييكم مرة ثانية كما أحيا هذه الأشياء؟ بلى، فإن الله على كل شيء قدير، ففي ذلك عبرة للإنسان الذي له قلب وعظة لمن يتفكر.
ثم ذكر الله آيات عظيمة من آياته في خلق الإنسان من تراب، وفي خلق السموات والأرض، وفي اختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وفي منام الإنسان في الليل وفي النهار، وفي ابتغاء الإنسان من فضل الله وتضرعه إليه وطلبه من فضله ومن رحمته، ومن إنزال المطر، ومن أنه يري عباده البرق خوفاً وطمعاً، ومن أنه يقيم السماء والأرض بأمره سبحانه تبارك وتعالى، وأنه إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، ففيها آيات عظيمة، وتفصيل هذا الموضوع سيأتي لاحقاً إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(205/8)
تفسير سورة الروم [17 - 20]
أخبر الله سبحانه وتعالى أن كل شيء يسبح بحمده، وأمر العباد بالتسبيح والتمجيد له في كل وقت وحين، ويذكرهم الله سبحانه بمعجزاته التي أودعها في خلقه، وبيّن خلق الإنسان وحقارة شأنه، ولكن الله كرمه، فليشكر ربه على نعمه وآلائه.(206/1)
تفسير قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:17 - 21].
لما أمر الله سبحانه وتعالى عباده بتسبيحه سبحانه حين يمسون وحين يصبحون، وبالعشي وحين يظهرون، فيها إشارة إلى الصلوات الخمس كما قدمنا في الحديث السابق، وقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} [الروم:17]، أي: فسبحوا الله تسبيحاً وسبحانه، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم:17] أي: وقت المساء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] أي: وقت الصباح.
فالتسبيح المقصود: أن العباد يسبحونه ويقدسونه سبحانه، ويذكرونه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وسبحان ربي العظيم، وسبحان ربي الأعلى، تقديساً لله وتنزيهاً له من أن يشبهه شيء من خلقه سبحانه وتعالى، فقال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، والمساء: هو الليل، وصلوات الليل: المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17]، صلاة الصبح، {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18]، هذه جملة معترضة، {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18] أي: سبحوه في وقت العشي في صلاة الظهر والعصر.
ونص على الظهر فقال: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18]، فهو إشارة إلى الصلوات الخمس، وبعمومه أمر بتسبيح الله عز وجل في كل وقت، فالمسلم يكثر من قوله: سبحان الله، يسبح الله سبحانه وتعالى بهذه الكلمة العظيمة، والمؤمن عندما يقول: سبحان الله يؤجر عليها، وهذه من الباقيات الصالحات والمعقبات التي لا يخيب قائلهن كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخيب قائلهن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فالإنسان الذي يقول ذلك يفلح عند الله ولا يخيب أبداً، فقد جاء في الحديث أن: (غراس الجنة سبحان الله، والحمد لله)، غراس الجنة يعني: تغرس غرساً في الجنة بأنك تقول: سبحان الله، والغرس في الدنيا هو غرس شجرة في الأرض أو نخلة في الأرض، فتغرس لنفسك في الجنة غراساً وأشجاراً ونخيلاً، وذلك بأن تقول: سبحان الله وتكرر هذه الكلمة، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، فتستحق موضعاً في الجنة وغرساً في الجنة بذلك.
وإذا أصبحت فقلت: سبحان الله وبحمده، مائة مرة أفضل لك عند الله سبحانه من أن تحمل على مائة فرس في سبيل الله سبحانه وتعالى، ومن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر.
والأحاديث كثيرة في فضل التسبيح والمسبح لربه سبحانه وتعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض).
لذلك فإن المؤمن لا يستقل قوله: سبحان الله، بل ينظر إلى معناها وإلى الثواب الذي من ورائها.
واعترض بقوله سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:18] أي: هو الذي يحمده أهل السموات ويحمده أهل الأرضين، وهو المستحق لذلك سبحانه.(206/2)
تفسير قوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)
قال الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، فالله سبحانه وتعالى يخرج الشيء الحي الذي فيه حياة من الميت، وكل شيء خلقه الله عز وجل فيه شيء من الحياة التي أودعها الله عز وجل، ويتحرك الشيء حتى ولو حركة في داخله، في ذراته أو في نواته أو في الشحنة الكهربية التي فيه، ولكن المقصود هنا بالحي الذي فيه حياة تراها أنت وتحس بها.
يخرج هذا الحي من الميت: {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، كإخراج البيضة من الدجاجة، والفرخة من البيضة، ويخرج الإنسان من مني يمنى ومن بويضة، كان هذا وذاك جامداً فإذا بالله يبعث فيها الحياة، وكذلك النواة يخرج منها النخلة، والنخلة يخرج منها الثمرة، والثمرة يخرج منها هذه النواة، وهكذا.
قال تعالى: {وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، هذا كله مشاهد.
ثم قال: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19]، يقول أهل الأصول: هذه الآية دليل من أدلة القياس، والأدلة عند الأصوليين هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاستصحاب للبراءة الأصلية، والاستحسان، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وغير ذلك من الأدلة الأصولية، فالله عز وجل قال هنا: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19].
فأنتم ترون قدرة الله سبحانه في أن أخرج شيئاً حياً من شيء كان ميتاً، وأخرج شيئاً ميتاً من شيء كان حياً هذا الذي نراه أصل نراه أمامنا، والقياس هو إلحاق فرع بأصل في حكمه يعني: نعطي للفرع حكم الأصل، للجامع الذي بين الاثنين، فنقول: الله عز وجل حرم على العباد الخمر؛ لعلة موجودة فيه وهي الإسكار، فكل ما كان مسكراً ففيه هذه العلة، فيأخذ حكم الأصل وهو التحريم في حكم الخمر، هذا قياس، إلحاق فرع بأصل في حكمه لجامع بينهما.
فهنا الأصل ما تراه أمامك من بديع خلق الله عز وجل، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:19]، فهذه أشياء رأيتها أنت ودلت على كمال قدرته وعظمته سبحانه.
كذلك مثل الذي تراه أنت يخرجك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، فأنت حي الآن ثم تصير ميتاً بعد ذلك، فكما أن هذه النخلة حية، وخرج منها تمرة، وخرج من التمرة نواة ميتة، فوضعت النواة في الأرض فأحياها الله عز وجل مرة ثانية، كذلك أنت حي تصير ميتاً بداخل الأرض، ثم يخرجك الله عز وجل مرة ثانية، فإذا أنكر الإنسان البعث قل له: قس نفسك على هذا الشيء الذي يخرجه الله أمامك وأنت مستيقن به أنه أخرج الحي من الميت وأخرج الميت من الحي.
فهذا دليل من الأدلة عند الأصوليين يسمى بالقياس.
من أدلة القياس في كتاب الله سبحانه وتعالى قوله: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، والمعنى: انظروا إلى الأمم السابقة ما الذي صنعوه؟ وماذا كانت النتيجة وحكم الله عز وجل في هؤلاء؟ وانظروا إلى أنفسكم ما الذي تصنعون؟ فإذا كانت العلة في إهلاك هؤلاء موجودة فيكم فالحكم واحد، كما أهلكهم يهلككم أنتم أيضاً، فقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء السابقين، إذا فعلتم فعلهم استحققتم عقوبة هؤلاء، فهذا من أدلة القياس في كتاب الله سبحانه وتعالى.
ومن أدلة القياس في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه ما جاء عنه حين سأله عمر رضي الله عنه وقال: هل أقبل وأنا صائم؟ هذا سؤال عمر، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم هل أفطر بهذا الشيء، أي إن قبلت امرأتي وأنا صائم؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم؟)، فهنا يكون القياس، والحكم فيما لو أنك تمضمضت أثناء الصيام لا شيء في ذلك، فقال: لا شيء، فقال: (فمه).
إن المضمضة مقدمة لبلع الماء ولشربه، ولكن ليس في التقبيل بلع ولا شرب، فالصوم على ذلك صحيح، كما أن الإنسان لو تمضمض وهو صائم فصومه صحيح ما لم يبلع الماء أو يشربه، فالقبلة مثل المضمضة، والنبي صلى الله عليه وسلم أراه هذا القياس، هذا هو معنى القياس وهو: إلحاق فرع بأصل في الحكم لجامع العلة بينهما.(206/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، آية من آيات الله العظيمة لمن يتفكر فيها، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلماء هم الذين يخشون الله سبحانه وتعالى.
وكلما ورث العلم زادت الخشية في القلب من الله عز وجل، وصار صاحبه مستحقاً لرحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فهنا يذكر لنا هذه الآيات: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21]، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22]، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:23]، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم:24]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ} [الروم:25]، آيات بعد آيات ليتدبر الإنسان في آيات الله سبحانه وتعالى، وآيات الله عز وجل عظيمة وكثيرة.
ومن ضمن آيات الله العظيمة، ومن ضمن هذه المعجزات التي نراها: {أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20] أي: بدأ خلق الإنسان من تراب، ثم جعله نطفة {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، ثم خلق هذه النطفة علقة، ثم خلقها مضغة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسا العظام لحماً، ثم أنشأ الإنسان خلقاً آخر كما ذكر سبحانه في سورة المؤمنون، وفي سورة الحج التفصيل في ذلك.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم:20]، وخلق الإنسان ليس من تراب فقط، ولكن من تراب ومن ماء، أي: من طين، هذا أصل الإنسان، والعلماء الذين ينظرون في ذلك يقولون: إن كل عناصر الإنسان موجودة في هذا التراب الذي يمشي فوقه، فالله يخبرك أنه خلقك من هذا التراب الذي تسير عليه، هذا التراب الذي يحتقره الإنسان، والذي لو سقط على ثوب الإنسان بسرعة ينفض التراب ويغسل الثوب، فهو يستقذر ثوبه بهذا التراب، وهو مخلوق من هذا التراب، ويمشي فوق الأرض ويطأ على الأرض برجله وهو يحتقر هذا الذي يسير عليه، وهو أصلاً خلق منه، إن العلماء حللوا جسم الإنسان فوجدوا عناصر التراب الذي في الأرض أكثر من عناصر الإنسان، ووجدوا أن جسم الإنسان يحتوي على مجموعة من العناصر موجودة كلها في التراب، والتراب فيه عناصر أكثر منه.
فالتراب فيه حوالى مائة عنصر من العناصر، والإنسان فيه اثنان وعشرون عنصراً من هذه العناصر الموجودة في التراب، فحين يموت الإنسان يصير تراباً في الأرض من ضمن التراب الموجود في الأرض، وقالوا: إن في جسم الإنسان الأكسجين، وفيه الهيدروجين على شكل ماء، وخمسة وستون في المائة من جسم الإنسان ماء.
ويقول العلماء: في جسم الإنسان عناصر مثل الكربون، ومثل الهيدروجين والأكسجين، وتشكل في الإنسان ما يسمى بالمركبات العضوية من سكريات، ودهون، وبروتينات، وفيتامينات، وهرمونات، وخمائر، كلها مواد موجودة من الكربون والأكسجين والهيدروجين الذي في الإنسان، وهي مواد جافة خلقها الله سبحانه وتعالى فيه.
يقول العلماء: هذه المواد تقسم ثلاثة أقسام: القسم الأول: مواد الكلور، والكبريت، والفسفور، والبوتاسيوم، والصوديوم تشكل ستين إلى ثمانين في المائة من المواد الجافة الموجودة داخل الإنسان.
القسم الثاني: مواد بنسبة وهي الحديد، والنحاس، واليود، والمغنسيوم، والمنجنيز، والكوبالت، والتوتيا، والملفيديم.
القسم الثالث: عناصر آخر أقل من ذلك بشكل فقير جداً في الإنسان وبشكل زهيد، والله عز وجل ركب كل شيء في الإنسان بحكمة، ولو زاد هذا الشيء لحصل للإنسان تسمم، فأقل هذه العناصر وجوداً في الإنسان الفلور، الألمنيوم، القورن، السلنيوم، الكنديون، الكروم.
وتركيب الإنسان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: من خلاصة من هذا الطين، إذاً: ليس خلقه من كل التراب، ولكن من بعض عناصر التراب، ومع ذلك كرمه الله سبحانه وتعالى فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70].
ولذلك الشيطان احتقر آدم، وأبى أن يسجد له؛ لأنه مخلوق من تراب فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
فلو أن الإنسان عومل هذه المعاملة على أنه عبارة عن منجم من المناجم التي فيها هذه العناصر، فإنه لا يساوي شيئاً، وقال العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الإنسان فقال: (إن الله خلق آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض)، إذاً: آدم قبضة مقبوضة من جميع الأرض، فجاء منها آدم، وجاء من آدم أولاده على حسب هذه الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب.
والأرض فيها أرض بيضاء، وأرض حمراء، وأرض سوداء، وأرض طيبة، وأرض خبيثة، وأرض سهلة، وأرض جبال صعبة، والإنسان جاءت خلقته على ما هو موجود في الأرض.
وقالوا: إنه بتحليل جسم الإنسان عرفنا أنه تكون من مركبات، من ضمنها هذه المعادن التي في الإنسان، مثل: الفسفور والكبريت والمغنسيوم والكالسيوم والبوتاسيوم وغيرها، وقال العلماء: لو أخذت المعادن التي في جسم الإنسان وقمت بتركيبها لخرجت بالمكونات التالية: علبة طباشير، وعلبة كبريت، ومسمار صغير، وحفنة من الملح، ومواد أخرى لا قيمة لها، هذا هو أصل خلق الإنسان! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم نبه أصحابه إلى ذلك، وبصق في يده الشريفة صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الإنسان خلق من مثل هذا البصاق، ثم يتعالى على الله سبحانه وتعالى، ويأبى أن يعبد الله سبحانه وتعالى!! يقول العلماء: إن الثوب الذي يلبسه الإنسان أغلى من العناصر الموجودة فيه والتي تكون منها، والساعة التي يلبسها في يده أغلى من العناصر الموجودة فيه، ولكن الذي كرمه وجعل له القدر والقيمة هو الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، إذاً: التكريم في أصله لا يستحقه، ولكن الله بفضله وبكرمه سبحانه رفعه، وكرمه، وأسجد له الملائكة، وجعل في الإنسان ما يعود إلى ربه من فضل الله سبحانه، وخلق الإنسان من طين، وخلق الشيطان من نار، ولو خلق الإنسان من نار لنفر كالشيطان، فآدم لما أخطأ رجع إلى أصله، رجع إلى الطين الذي فيه التؤدة، والذي فيه احتقار النفس، والذي فيه التواضع والركون إلى ربه سبحانه وتعالى.
والشيطان لما تغيظ رجع إلى أصله، إلى النار، وإلى النفور والرفض فقال لله سبحانه وتعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، {قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، رجع الشيطان إلى أصله، وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وآدم رجع إلى أصله، وهو الطين لما عصى الله سبحانه وتعالى، فقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، فرجع إلى أصله الطين، حيث احتقر نفسه فتواضع لله فاستحق أن يغفر الله عز وجل له، وأن يعيده إلى الجنة مرة ثانية، فكان أن خلق الله الإنسان من طين فضلاً ومنة منه سبحانه على العبد، فيستشعر الإنسان في نفسه بأنه عبد لله وأنه حقير، وأن الله الخالق الجليل الكبير العظيم الذي يستحق العبادة، فيعبد ربه ويتوب إليه سبحانه وتعالى.
وهنا في الآية يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، وفي الآية الأخرى يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس:36]، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(206/4)
تفسير سورة الروم [20 - 22]
أنى التفت الإنسان إلى الوجود وجد أمام عينيه آية شاهدة على عظمة خالق هذا الوجود، ولما كان القرآن هو خطاب الله للناس جميعاً، فقد حث الله فيه عباده أن يتأملوا في الكون ليدركوا عظمة الخالق سبحانه، فقد خلق الإنسان من التراب، ونشره في الأرض، وخلق له الزوجة لتكون سكناً له، وملأ قلوب الزوجين مودة ورحمة، وخلق السماوات والأرض، وجعل ألسنة الناس وألوانهم مختلفة، وهذه آيات للعالمين شاهدة على واحدانية الله تعالى واستحقاقه للعبادة.(207/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:20 - 22].
إن آيات الله عز وجل في الكون كثيرة عظيمة جليلة، يرينا بعضها في كتابه سبحانه تبارك وتعالى، ولم يذكر لنا كل الآيات التي في الكون، فإنها من الكثرة لا تحصى، كما أنك لو تتبعت آيات الله عز وجل لوجدت له في كل شيء آية تدل عليه، ففي خلق الإنسان آية، بل في كل عضو من أعضائه آية، وفي كل جارحة من جوارحه آية من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن خلقه لكل المخلوقات التي لا يحصيها الإنسان آية من آيات رب العالمين سبحانه.
وفي الآيات السابقة يذكر لنا بعض هذه الآيات الكثيرة، و (من) في فواتح الآيات تبعيضية، أي: سيذكر البعض من آيات الله ليدلنا على غيرها، ولعل الإنسان يتفكر ويعتبر بهذه الآيات.
فذكر في هذه السورة آيات متتالية بدأها بقوله: (ومن آياته) (ومن آياته) (ومن آياته).
فكررها ست مرات ليستبين العبد قدر ربه وعظمته.
قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، أول آية من آيات رب العالمين سبحانه ذكرنا بها هي أن الإنسان كان تراباً جامداً لا حياة فيه، فإذا به يصير إنساناً حياً عاقلاً، يملأ الأرض حركة وإعماراً وعملاً، فمن آيات الله أن خلق هذا الإنسان من هذا التراب الذي يمشي عليه، وجعله متحركاً خلاف أصله.
قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20] أي: يبثكم الله سبحانه ويذرؤكم في أرجاء هذه المعمورة، فأنتم تنتشرون على الأرض بالتناسل، فالله سبحانه تبارك وتعالى هو الذي يخلق من الإنسان إنساناً، فيخلق الأولاد والأحفاد إلى أن يأتي على الناس يوم المعاد.(207/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً)
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
من آيات الله سبحانه تبارك وتعالى العظيمة، أن خلق للإنسان من نفسه زوجة، فقد كان أول من خلق الله عز وجل من الناس آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وجعل له من نفسه أي: من داخله ومن ضلعه حواء؛ ليأنس بها آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلم يجعل لآدم زوجة من غيره مثلاً، كأن تكون من جنس من أجناس الحيوان أو من الجان أو من غير ذلك من المخلوقات، ولكن جعل له زوجة من نفسه ليألفها وتألفه، فهي مخلوقة من آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك لما كان آدم في الجنة وأراد الله سبحانه تبارك وتعالى أن يخلق له زوجة، كأنه أنامه فلم يشعر آدم إلا وبجواره إنسان، فسئل: من هذه؟! فقيل له: هذه حواء، فأنس بها وأنس لها عليه الصلاة والسلام، وكان من بديع خلق الله سبحانه تبارك وتعالى أن جعل الرجل يسكن إلى الأنثى، وجعل الأنثى كذلك تسكن إلى الرجل، بل جعل الله سبحانه تبارك وتعالى الذكر لباساً للأنثى، كما جعل الأنثى لباساً للرجل فقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] أي: كل منهما ستر للآخر وغطاء له، فيركن الرجل إلى امرأته، ويسكن إليها، ويألفها، ويحبها، ويكون بينه وبينها المودة والرحمة، وكذلك المرأة، فكان من آيات رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، أن جعلها زوجة له بشرعه سبحانه تبارك وتعالى، فإنها إذا لم تكن زوجة له لا يأنس إليها، بل يكون بينهما نفور؛ لأنهما اجتمعا على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فالنكاح شريعة من رب العالمين سبحانه، حيث جعل للعبد أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع، كما جعل له أن يأنس بهذه الزوجة التي خلقها الله عز وجل له.
والإنسان في طاعة الله يجد الدعة والراحة والطمأنينة كما يجد فيها الأمن والأمان، أما في معصية الله سبحانه يجد النفور، ويجد القلق والاضطراب وعدم السكن، إذ لا يمكن أن تكون المرأة الخدينة للرجل سكناً له، إنما يأتي السكن بشرع رب العالمين سبحانه.
وذكر الخلق ثم الزواج في قوله تعالى: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم:21] يشعر أن الله خلق المرأة ثم شرع لكم أن تتزوجوا النساء، ولم يجعل الزواج بين الجنس ومثله، كأن يكون بين الذكر والذكر، أو بين الأنثى والأنثى؛ ولكن جعل الله عز وجل السكن للإنسان الذكر مع الأنثى بالعقد الشرعي الذي شرعه الله سبحانه، وهو النكاح الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا عنه في وصيته بالنساء فقال: (فإنكم أخذتموهن بكلمة الله واستحللتم فروجهن بأمانة الله).(207/3)
معنى قوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة)
ثم ذكر سبحانه ما امتن به على عباده من جعل المودة والرحمة بين الزوجين فقال: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] أي: مودة بين الرجل وبين المرأة، وكذلك مودة بين الأسرتين: أسرة الرجل وأسرة المرأة، وجعل بينكم كذلك الرحمة، فأنتم تتراحمون بسبب هذه العلاقة الزوجية، وشرع في ذلك الزواج العشرة، إذ من وراء شهوة الإنسان يكون الولد فتزداد المودة وتزداد الرحمة بين الرجل وبين امرأته، وبين أسرتيهما، فالسكن والطمأنينة التي يعيش فيها الإنسان آية من آيات الله سبحانه، إذ يصاحب الإنسان القلق فترة بقائه بلا زواج حتى يتزوج، فإذا تزوج سكن، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل شطر الدين، فليتق الله في الشطر الباقي) أو (فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله في النصف الباقي)، وفيه أن الزواج يوصل الإنسان إلى نصف الدين، وكأن النبي يخاطب من تزوج فيقول: معك نصف الدين بهذا الزواج، فاتق الله في النصف الآخر، وعندما يتزوج الرجل يجد من تطيعه حين يأمرها بطاعة الله، وتنصحه بطاعة الله أيضاً فيطيع، وبذلك يعين الزواج على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويسكن ثورة نفس الإنسان وغليان شهوته؛ لأنه يجد من يأتيها في الحلال، ويفعل معها شهوته بما أحل الله عز وجل له، فيخمد في الإنسان نار الشهوة، فلا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى، وينتهي وينزجر عن معاصي الله سبحانه، فلا يقع في الزنا، ولا يقع في النظر المحرم، وإنما يستكمل العبد نصف دين الله سبحانه تبارك وتعالى بالزواج؛ لأنه يبتعد عن الحرام بها، ويستغني بما أعطاه الله عز وجل وما وهبه ممن يعينه على طاعة الله سبحانه، كما أن الإنسان حين يسكن يتفكر في خلق الله عز وجل ويفكر في أمره وفي مستقبله وفي حياته وفي مماته، بل حين يهدأ يصبح إنساناً آخر غير الذي كان عليه قبل أن يتزوج.
ومما ينبت المودة والرحمة في قلب الإنسان الولد، فإنه حين يتزوج ويرزق الولد يحدث في قلبه نوع من أنواع الرحمة والشفقة لم تكن موجودة قبل ذلك، فإذا به يكون رءوفاً، رحيماً، ودوداً مع الناس، إذ حين يصبح عنده الولد وعرف كيف يربيه فسيعرف كيف يربي أولاد غيره، وينظر إليهم بنظرة الشفقة التي ينظر بها إلى أولاده.
وقد جعل الله سبحانه تبارك وتعالى من وراء النكاح قضاء وطر الإنسان وشهوته، وتسكين الإنسان وإبعاده عن النفور والمعصية لله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن وجود الولد يصير في قلب الإنسان الرحمة والعطف بسببه، ولما جعل الله النكاح سكناً للإنسان ومودة ورحمة، حذر من تضييع ذلك، فنهى عن الزنا، قال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، كما حرم على العباد أن يأتي الذكر الذكر أو الأنثى الأنثى، وجعل الحدود في ذلك حتى يستقيم الإنسان على طاعة رب العالمين سبحانه، وأنكر لوط عليه الصلاة والسلام على قومه فقال: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: لقد تعديتم طاعة الله سبحانه والحلال الذي أحله الله ووقعتم في معصية الله بالوقوع فيما أنتم فيه، وقوله: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} [الشعراء:166] يبين أن الله خلق المرأة للرجل والرجل للمرأة، وليس الرجل للرجل ولا المرأة للمرأة.(207/4)
طاعة المرأة لزوجها سبب لبقاء المودة
ولكي تدوم المودة بين الزوجين وتستمر العشرة، فقد حدد لها قائداً، وأوجب له الطاعة، ورتب على طاعته الأجر الكبير، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأحسنت تبعلها لزوجها؛ قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ)، فرتب دخول المرأة الجنة بطاعتها لربها، وبطاعتها لنبيها صلى الله عليه وسلم، وبطاعتها لزوجها في غير معصية، كما حذرها النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تبتعد عن زوجها، أو تنفر منه أو تعصيه إذا أراد قضاء شهوته منها، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)، فبين أن الله يغضب لغضب الزوج على زوجته إذا دعاها إلى فراشه فأبت عليه ذلك؛ وذلك لأن الرجل إذا لم يجد السكن في بيته فقد يخرج إلى خارج بيته فينظر إلى ما حرم الله، فيضيع نفسه ويهلك، ويكون السبب في هلاكه هو امرأته، فاستحقت الغضب من الله على ذلك، وليس ذلك فحسب، بل الملائكة تلعن من هجرت فراش زوجها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح)، فإذا غاضبت المرأة زوجها وتركت الفراش وانصرفت عنه فإن الملائكة تلعنها حتى تصبح أو ترجع وتصالح زوجها.
فليس من البساطة أن تهجر المرأة زوجها، والرجل يهجر بيته، ولكن الأمر أكبر من ذلك، إن الله عز وجل جعل بينكم مودة ورحمة، وأمركم أن تحافظوا على مودتكم، وعلى الرحمة التي جعلها بينكم.
وفي قوله: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] أن الله جعلها سكناً للإنسان، وأباح له أن يأتيها ويجامعها في الوقت الذي أحله سبحانه وليس في الوقت الذي حرمه الله، فإذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء، لم يحل للرجل أن يجامعها؛ لأنه إن فعل كان ذلك سبباً للنفور بينهما، وللأذى الذي يجعله الله عز وجل بسبب ذلك، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، فأمر الإنسان أن يعتزل امرأته ويجتنب جماعها إذا حاضت، ولم يأمره أن يجتنب فراشها، وكان اليهود يجتنبون المرأة في وقت الحيض، فلا يساكنونها في بيت واحد، بل يهجرون البيت كله، ولا يؤاكلونها، بل لا يتركونها تصنع لهم الطعام، ولما أنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، حدد اعتزال النساء وجعله في المحيض أي: في موضع الحيض وموضع الجماع، وفي قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، جعل أجل تلك العزلة طهارة المرأة، فإذا طهرت المرأة من المحيض، فلا يأتيها الإنسان حتى تغتسل لقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] أي: إذا اغتسلت المرأة جاز له أن يأتيها.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] إرشاد بأن الإنسان الذي يتفكر هو من يعقل هذه الآية من آيات الله سبحانه، وهو الذي يدرك أن سبب خلق الله الأنثى للذكر هو حاجة الذكر لذلك، وحاجة الأنثى لذلك، وحاجة المجتمع والأرض لذلك؛ إذ لابد من الزواج حتى يتناسل الخلق ويعمروا هذه الأرض ويعبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أنه إن لم يكن الزواج، كأن لا توجد أنثى للذكر فسيكون الخلق جيلاً واحداً ثم يفنى هذا الجيل ويموت، ولن يكون هناك أجيال بعد ذلك، ولكن الله جعل ذلك لتواصل الأجيال، ووجود النسل الذين يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى.(207/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)
يذكر الله سبحانه آية أخرى من آياته الدالة على عظمته فيقول سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
ذكر الله سبحانه آيات عظيمة في هذه الآية، فذكر خلق السموات وما فيها من مجرات عظيمة، والإنسان عندما يتأمل في خلق الله سبحانه ويرى هذه الأرض الدائرة في المجموعة الشمسية، ويرى اتساع الكواكب التي حول هذه الشمس؛ يدرك صغر حجمها بجوار المجرة التي نحن فيها، إذ إنها تشبه ذرة في فلاة عظيمة، فهذه المجموعة الشمسية التي تتكون من الأرض والشمس والقمر وما بجوارها من كواكب تدور حول الشمس وما الأرض إلا شيء يسير بجوار هذه المجرة التي فيها مليارات الكواكب والشموس والأقمار، بل إن هذه المجرة بجوار باقي المجرات تشكل محيطاً بسيطاً، وقد عجز العلماء أن يحصوا عدد المجرات التي في الكون، فإذا كانت مجرة واحدة لم يستطيعوا أن يستوعبوا كم من الكواكب والنجوم فيها، فكم مجرة مثل هذه المجرة التي نحن عليها؟! -وتسمى المجرة التي نعيش فيها: بمجرة درب التبانة- ولو سألتهم عن عدد هذه المجرات؟ لأجابوك: مليارات المجرات، فيا ترى كم هو كبر هذا الكون الذي نحن فيه؟ فإذا نظرنا إلى ذلك وتفكرنا فيه عرفنا أن هذا الكون كبير جداً، فكيف يكون الذي خلق هذا الكون؟! فسبحان الله العظيم الكبير الجليل، ولذا كانت قاعدة التعرف على الله سبحانه تبارك وتعالى: هي النظر في هذا الكون الفسيح.
قوله تعالى: {خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:22] أي: خلق السموات وخلق الأرض.
وقوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] الآية تدل على بديع صنع الرحمن فكم على الأرض من أجناس البشر؟! وكم نوع من أنواع البشر؟! وكم لسان يتكلم هؤلاء البشر؟! أنواع كثيرة جداً وألسنة كثيرة، الكل يدعون الله ويقولون: يا ألله! والله يسمع هذا، ويسمع هذا، ويسمع هذا، ويعلم كل هذه الألسنة كيف تناديه سبحانه، ويعلم ما يقولون، وما يفعلون، فالله يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا عرفنا إنساناً يعرف لغةً وإنساناً آخر يعرف لغتين، أو يعرف ثلاث لغات، أو يعرف ست لغات، فسنعظم الثاني دون الأول، ونثني على سعة علمه؛ لأنه يتكلم ست لغات، ولله عز وجل المثل الأعلى، فنستدل بالمخلوق على عظيم قدر الخالق العظيم، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فهو الذي خلق كل شيء، وعلم كل شيء، قال جل في علاه: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، سبحانه تبارك وتعالى.
وفي قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22]، قراءتان: قراءة حفص عن عاصم: (إن في ذلك لآيات للعالِمين) أي: العلماء.
وقراءة باقي القراء: (إن في ذلك لآيات للعالَمين) أي: لكل العالم، ولكل خلق الله عز وجل، وعلى القراءة الأولى فإن المنتفع بهذه الآيات هم العلماء، ولذا قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
يذكر الشيخ وحيد الدين خان في كتابه: (الإسلام يتحدى) قصة عجيبة من القصص التي يرويها عن رجل آخر من علماء الفيزياء اسمه: عناية الله المشرقي، وهو رجل هندي، كان من علماء الفيزياء الأفذاذ، الذين استحقوا أن يأخذوا جائزة نوبل في يوم من الأيام ورفضها ولم يقبلها، فقالوا له: ترجم كتبك التي باللغة الأردية إلى اللغة الإنجليزية، حتى تأخذ جائزة نوبل، فقال لهم: إما أن تقبلوها باللغة الأردية، وإلا فلا؛ لأنكم إذا لم تعترفوا باللغة الأردية لا أريد جائزتكم.
وذكر هذا الرجل قصة من القصص فيقول: في يوم من الأيام في عام 1909م -أي: قبل مائة سنة خلت- كان في انجلترا وهو يمشي في الطريق قابل أستاذه في الفيزياء البروفسور جيمس، يقول: وجدته في الطريق يمشي وبرد الشتاء الشديد فوق رأسه، ومظلته تحت إبطه، ويمشي وهو غارق في التفكير، فوصل إليه وسلم عليه ولم يكن منتبهاً له، فقال له: ماذا تريد؟ من غير أن يرد عليه التحية، فقال له: أريد شيئين: إلى أين ستذهب؟ قال: سأذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: أنا أعجب منك، السماء تمطر على رأسك، والمظلة تحت إبطك! فانتبه الرجل فرفع المظلة فوق رأسه، وقال له: هل تريد شيئاً آخر؟! فقال له: أنت عالم من العلماء فلماذا تذهب إلى الكنيسة؟! فقال له: حسناً، تعال نشرب الشاي في بيتي في العصر، وذهب إليه في بيته في وقت العصر، ووجده منتظراً له فجلس، قال عناية الله: فقبل أن أبدأ في الكلام أعطاني محاضرة طويلة في علم الفلك، وفي هذا الخلق العظيم الذي يدل على وجود الخالق.
يقول الرجل: هو يتكلم عن خلق هذا الكون العظيم، وبدأ يرتعش وشعره يقف، ودموعه تنهمر، وهو يقول: مدة خمسين عاماً وأنا أدرس وصلت لهذا الشيء، إن هذا الكون له خالق عظيم، أفتتعجب لماذا أذهب إلى الكنيسة؟! أذهب الكنيسة لكي أعبد الخالق الذي خلق هذا الكون، وعناية الله المشرقي رجل مسلم، فقال له بعدما أخذ منه هذه المحاضرة الطويلة: لقد ذكرتني بآية عندنا في القرآن إذا أحببت قلت لك هذه الآية، فقال له: تفضل، فذكر له الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:27 - 28]، فوقف عندما سمع هذه الآية، وقال: تفسير هذه الآية التي تقولها، ماذا تقول؟! ما هو هذا الشيء الذي تقوله؟! ومن قال هذا الكلام؟! إن محمداً يستحيل أن يعرف هذا الكلام، لقد عرفت هذا الكلام بعد دراسة دامت خمسين عاماً، فأين درس محمد صلى الله عليه وسلم خمسين عاماً؟! تقول: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) عندكم هذه الآية في القرآن! قال: اكتب عني أن هذا القرآن وحي من عند الله سبحانه تبارك وتعالى! (إنما يخشى الله من عباده العلماء) هذه الكلمة التي تمر على أذهاننا حين نسمعها مروراً عادياً، ونفهم أن العلماء يخشون الله، لكن الرجل بعد دراسته خمسين عاماً لعلم الفيزياء وعلم الفلك ينظر في اختلاف ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى من آيات في الكون، فهذه جبال حمراء، وهذه سوداء، وهذه بيضاء، الأفلاك الموجودة في السماء فيها كذا وفيها كذا، وأخذ يتدبر فيها ويخشع ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي هو متاح أمامه بحسب دينه هو النصرانية، فكان يتوجه إلى الكنيسة ليصلي، وليعبد الله الذي خلق هذا الكون، والذي يخاف منه، فلما يسمع هذه الآية يقول: إن هذا كلام حق من عند رب العالمين، إن هذا القرآن ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام جاء من السماء من عند رب العالمين سبحانه.
والله يأمرنا أن نتدبر القرآن ويعيب علينا عدم التدبر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالقرآن يتوافق بعضه مع بعض في العظمة والإتقان، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].(207/6)
تفسير سورة الروم [21 - 24]
من آيات الله التي تدل على وحدانيته سبحانه وقدرته: أنه خلق للبشر من أنفسهم أزواجاً ليسكنوا إليها، وجعل بينهم مودة ورحمة، ومن آياته العظيمة: خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، ومنامهم بالليل والنهار وابتغاؤهم من فضله، وإنزاله من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها.(208/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:20 - 24].
من آياته العظيمة ومعجزاته: {أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] , فالله سبحانه وتعالى يهدي القلوب ويوفق الإنسان لأن يتزوج ويختار المرأة الصالحة التي تصلح له ويجعل المودة والرحمة في القلوب، وهذه آيات من رب العالمين؛ لعل الناس يتفكرون فيها ويعقلون معانيها, فيؤمنوا بالله سبحانه وتعالى خالقها وباريها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وختم كل آية بما يناسب الآية, فجعل الله عز وجل لكم من أنفسكم آية من الآيات وهي آية الخلق وآية النكاح, قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] , فالمؤمن يتفكر في نفسه وفي أهله وفي ولده، كيف أن الله سبحانه وتعالى جمع بينه وبين زوجته، ولعله لم يكن يعرفها قبل ذلك، ولكن الله قدر أن يتزوج فلان من فلانة، وأن يكون له ولد، وأن يكون بينه وبينها مودة ورحمة، وهذه آيات لقوم يتفكرون، فيعلمون أن الله سبحانه يقدر لهم الخير, ويريد بهم الخير ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر.(208/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم)
قال الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] , السموات فوق الأرض، وهناك بون شاسع بين السماء والأرض, كالبون بين لسان ولسان، هذه السماء بما فيها من كواكب وأجرام، وأشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى, متفاوتة فيما جعل الله عز وجل فيها، هذا نجم شديد الاشتعال، وهذا نجم بارد جداً، وهذه شمس، وهذا قمر، وهذا كذا, أشياء مختلفة، ولكن تتفق جميعها في أن كل واحدة منها آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى, تدل على الخالق الواحد سبحانه وتعالى, من أصغر الأشياء لأكبر الأشياء آية من آيات الله, فتتشابه جميع هذه الآيات في كونها آيات عظيمة، وكونها تدل على خالقها العظيم سبحانه وتعالى, من الذرة إلى المجرة، انظر إلى المجرة كيف تدور في هذا الكون، ثم يجعل أشياء صغيرة فيها كالشمس وما حولها من الكواكب، تدور حولها الشمس وتجري وحولها الأرض، وحول هذه الشمس كواكب مقرونة بهذه الشمس تدور حولها في نظام بديع جداً, الشمس بما حولها تجري في هذا الكون حول شيء أكبر منها, والمجرة وما حولها تدور وتجري في الكون حول شيء أكبر منها, وأصغر شيء في الكون الذرة الصغيرة وفيها نواة بداخلها وحولها مدارات تجري الالكترونات فيها بنفس النظام الذي تجري فيه الشمس، وكل شيء يجري ويدور ويتحرك يدل على خالقه سبحانه وتعالى الذي خلقه, فأصغر الأشياء وأعظم الأشياء يدل على أن الخالق واحد لا شريك له، إن في ذلك لآية للعالمين.
كذلك في نطق الإنسان واجتماع عقله مع لسانه مع شفتيه في حركات متوافقة، فالعقل يفكر واللسان يتحرك وكذلك الشفة ويعبر الإنسان عما في داخله، هذا يعبر بطريقة، وهذا بطريقة، وهذا بطريقة, هذا له صوت، وهذا له صوت آخر، وهذا له صوت ثالث, هذا له لغة، وهذا له لغة أخرى، وهذا له لغة ثالثة, والذي خلق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى، والذي يتدبر ذلك العالمون، أي: أهل العلم هم الذين ينظرون ويتأملون كيف أنطق الله كل شيء بما يليق به.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] بذلك، و (للعالَمين) أي: لخلق الله أجمعين ليتدبروا ويتأملوا.(208/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار)
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] من آيات الله سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان وجعله يحتاج إلى النوم، فهو من ضروريات الإنسان، ولو أنه ذهب عنه النوم, لأصيب بالجنون أو لمات من ذلك فالنوم آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف الناس له تفسيراً إلا ما يرونه أمامهم، لكن حقيقة هذا النوم هو كما ذكرنا قبل ذلك أن الله عز وجل يقبض روح الإنسان خلال نومه, والنوم كما يعبر عنه العلماء ليس حالة من حالات الخمول, وإنما هو ضرورة من ضروريات حياة الإنسان يحتمها عليه الأمر الحيوي الذي في الجسم حتى يستريح, وقالوا: إذا حللنا ما يحدث للإنسان أثناء نومه بدراسة التغيرات التي تحدث فيأتون برسام المخ وبأناس نائمين ثم يرسمون مخ الإنسان النائم يقولون: إنه يمر بخمس مراحل في نومه: المرحلة الأولى والثانية: البدء في النوم والدخول فيه.
الثالثة والرابعة: السبات وهو النوم العميق.
الخامسة: مرحلة الأحلام التي يراها الإنسان أثناء منامه, فنوم الإنسان عجيب جداً يسجل رسام المخ أول ما ينام الإنسان أنه يهدأ مخه ثم يبدأ يسجل رسام المخ موجات المخ التي يرسلها وهي تضعف شيئاً فشيئاً حتى يصير الإنسان في سبات عميق, فهو يرسل موجات من سبع إلى اثني عشر موجة في الثانية الواحدة ثم تقل حتى تأتي مرحلة السكون التي يكون عليها الإنسان، ويدخل الإنسان في مرحلة السبات حتى يصبح في مرحلة لا يعرف أن يحسب فيها الزمن ولو نام عشرين ساعة أو ألف سنة لا يشعر, ولذلك نام أهل الكهف في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً, فلما استيقظوا قالوا: كم لبثتم؟ فلم يشعروا بهذه السنوات الطوال، بل قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم, وقد كانوا في نوم الله أعلم بحالهم هل قبض أرواحهم في هذا النوم على أنه نوم وليس موتاً يأخذهم وتتحلل فيه أجسادهم، وكذلك {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] وهو عزير، {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259]، وهو نفس الذي قاله أهل الكهف في ثلاثمائة عام {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19]، وجعل له الله عز وجل آيات في نفسه وفي حماره وفي طعامه، إنسان يركب على حمار، ومعه الطعام في مزوده، ثم يتعجب لقرية أبادها الله وأهلكها, وهذه نظرة البشرية فأنت إذا رأيت بلداً خربه المستعمرون المحتلون الكفرة تقول: هؤلاء دمروا هذه البلاد فمتى تتعمر هذه البلاد؟ ومثلها نظرة من يقول: هؤلاء دمروا العراق يا ترى كم يحتاج من السنين حتى يعود إلى ما كان عليه؟! هكذا قال هذا الرجل: (أنى يحيي) أي: كم من الوقت سيمضي حتى ترجع هذه البلدة مرة ثانية؟! كأنه استبعد ذلك, فجعل الله له آية في نفسه (فأماته الله مائة عام ثم بعثه)، (قال كم لبثت) أي: كم من الوقت نمت؟ قال: (لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) , والعادة في الطعام أن يظل يومين أو ثلاثة أو أكثر ثم يعفن وينتهي، لكن الله سبحانه وتعالى أراه آية عجيبة، فالطعام الذي جرت العادة فيه أن يتعفن بعد اليوم الثاني ما زال على ما هو عليه بعد مائة سنة! {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة:259] , والحمار الذي يمكن أن يعيش أكثر من الطعام تحلل وصار عظاماً، ولك آية في نفسك أنك لم تتحلل بعد مائة سنة فما زلت على حالتك الأولى, فهذه آيات الله سبحانه وتعالى في خلقه, فإنه جعل النوم مرحلة يحتاج إليها الإنسان كل يوم، كذلك إذا كان في نوم عميق لم يعرف الزمن ولم يستطع أن يحدد كم وقتاً نام، وهذه آية من الآيات.
وهناك تجارب أجراها أحد الأساتذة البريطانيين البروفسور: أرسر أديسون على مخ الإنسان وعلى نوم الإنسان، وهي دراسة طويلة توصل فيها في النهاية إلى أن عملية النوم هي خروج شيء من الإنسان سماه الله النفس وهذا الإنسان لا يعرف ما هذا الذي يخرج، ولكن الأبحاث أدت إلى ذلك، والله سبحانه وتعالى قد قال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، فنفس الإنسان يقبضها الله على هيئة معينة في وقت نومه, {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فالإنسان محتاج للنوم وهو يذكره بالموت وأنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى بعد ذلك, وقد جعل الله النوم آية ليرينا ضعفنا وحاجتنا إلى ذلك، فلا أحد يقول: أنا مستغن عن النوم، أنا لا أحتاج للنوم، ولو قال ذلك أحد وكابر فإنه لو قدر على ترك النوم يوماً أو يومين أو ثلاثة فإنه يعجز بعد ذلك، ولا يستطيع على ترك النوم، فالإنسان ضعيف والله هو الحي الذي لا يموت، فهو الحي القيوم سبحانه وتعالى, لا تأخذه سنة ولا نوم، والسنة النعاس اليسير، والله سبحانه حاشاه أن يعتريه نعاس ولو للحظة، ولا نوم فهذا مستحيل على الله سبحانه وتعالى، وقد قال في آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]، فهو حي لا يموت قيوم لا ينام سبحانه وتعالى، فهو قائم على كل شيء، مدبر لكل شيء، ولو قلنا: الله سبحانه وتعالى، وحاشا له تأخذه سنة أو نوم لكان الكون كله سوف يتدمر متى حدث له ذلك؛ ولذلك يخبرنا الله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أي: لو كان هناك آلهة في هذا الكون غير الله سبحانه لفسدت السموات والأرض، لأنه سيحدث بينهم تنازع فيقول أحدهم: هذا ملكي، ويقول الآخر: هذا ملكي، مثلما يحدث بين البشر حين يتنازعون في شيء من حطام الدنيا، فيفسد هذا الشيء، ولكن السموات والأرض قد استقرت على حالها الذي خلقها الله سبحانه وتعالى عليه ولم تفسد السموات ولا الأرض؛ فدلنا على أن الخالق واحد سبحانه لا ينازعه أحد أبداً في ملكه سبحانه وتعالى.
ولما ذكر السنة والنوم ذكر السموات والأرض حتى تذهب بعقلك فتنظر إلى السموات والأرض لماذا لم تضطرب؟ لأن الذي خلقها حافظ لها سبحانه وتعالى، يدبر أمرها، ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتدمرت السموات والأرض وفي هذا آيات للذين يعلمون أن الذي خلقها هو الحي القيوم الذي لا ينام سبحانه.
وقد قال الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] وعقب بعدها: (منامكم) فالذي خلق السموات والأرض لا ينام سبحانه وتعالى، ولكن أنتم تنامون وتحتاجون إلى النوم وأنتم فقراء إلى الله قال: {مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:23] فيعتريكم النوم أصلاً بالليل ولكن قد ينام بعضكم بالنهار، وابتغاؤكم من فضله بالليل وبالنهار وإن كان الغالب أن الليل للنوم والنهار للمعاش والتكسب, وتبتغون: تطلبون من فضله سبحانه، فأنتم فقراء إلى الله والله هو الغني الحميد.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل:65] الإنسان وهو نائم يغلق عينيه فلا يرى شيئاً، والذي يوقظ الإنسان وهو على هذه الحال سمعه.
لذلك عقب الله بهذه الكلمة العظيمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] ومعنى يسمعون أي: أنهم يسمعون القرآن فيعقلونه ويفهمونه فينتفعون بهذا السمع.(208/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً)
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24] هذه آية أخرى من آيات الله سبحانه في الكون, فإنك إذا رأيت البرق طمعت في إنزال المطر من السماء، وخفت من أن يكون فيه صواعق أو فيه شيء يؤذيك، وقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:43 - 44]، فالسحاب الذي يأتي البرق من خلاله هو السحاب المتراكم بعضه على بعض الذي يسمونه بالسحاب الركامي، ويتكون من ماء يتبخر من الأرض ثم يجتمع بعضه مع بعض فيكون سحابة وسحابة أخرى وثالثة ورابعة، يزجي الله سبحانه وتعالى أي: يحرك ويسوق ويدفع هذه السحابات بعضها إلى بعض، وحين يجتمع بعضها مع بعض يسلك من خلالها تياراً هوائياً يشفط السحاب إلى أعلى، فيتراكم السحاب بعضه على بعض، فيسمونه بالسحاب الركامي، وهذا التعبير العظيم الذي في الآية من أين عرفه النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يركب الطائرة، ولم ير السحاب يتراكم بعضه فوق بعض، ولم ير أن شكلها من أعلى مثل الجبال؟! وقد عبر عن هذه الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43] أي: بعضه فوق بعض كالجبال، وبينما هو على هذه الحالة ينزل المطر من خلال هذا السحاب فترى الودق يخرج من خلاله، {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] وهذا هو السحاب الوحيد الذي ينزل منه البرد, فالسحاب ينزل منه المطر والسحاب الركامي ينزل منه البرد سواء كانت كبيرة أو صغيرة {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} [النور:43] وقالوا: السحاب الركامي فقط هو الذي يكون داخله البرق، فيخرج منه شحنات كهربائية معينة الله عز وجل يخلقها فيها تفريغات كهربائية فتعمل الشرر الذي تراه كالبرق, {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43]، قد يقول الإنسان: نحن نرى البرق فلماذا لم تذهب عيوننا؟ لكن الذي يراقب البرق من المراصد ويدقق فيه مرة وراء مرة وراء مرة يعمى، والذين يراقبون البرق في المراصد والطيارون يظهر عليهم البرق في وقت من الأوقات فيقول العلماء: قد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة أربعين تفريغاً في الدقيقة الواحدة، فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء، وهذا هو عين ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد في المناطق الحارة, وقالوا: قد يكون الطيار يلاحق البرق بنظره فيعمى فتسقط الطائرة بمن فيها, إذاً: هناك خوف حقيقي من البرق، وليس كل إنسان يشعر بهذا الشيء، فيمكن لإنسان أن يرى البرق ويفرح بنظره إليه، ويمكن لإنسان آخر ينظر إلى البرق فيفقد بصره منه، فالله عز وجل يريكم البرق خوفاً وطمعاً في رحمته وفي نزول المطر من السماء.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24] فاعتبروا يا أولي الألباب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(208/5)
تفسير سورة الروم [24 - 27]
من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته وأنه المستحق للعبادة وحده أنه يري خلقه البرق خوفاً وطمعاً، وينزل لهم من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها، ويدبر أمر السماء والأرض، والكل خلقه، والكل راجع إليه سبحانه.(209/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها عن آياته العظيمة، التي يجب على كل إنسان يسمع ويعقل ويعلم ويبصر أن يتفكر فيها، ولذلك ختمها سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24].
وكأنه يقول: تفكر يا عالِم واسمع يا عاقل، لقد ختم بهذه الأوصاف التي ينبغي أن تكون في كل إنسان فيه عقل خلقه الله سبحانه وتعالى، فيتفكر بهذا العقل الذي أعطاه الله سبحانه؛ ليعلم أن هذا الخلق العظيم خلق الله سبحانه وتعالى، فيستحق الله وحده العبادة دون غيره.
كذلك يستمع إلى آيات الله، يسمعها فيعقل ويفهم عن الله سبحانه ما يقول، فإذا به يدخل في هذا الدين بتفكره، وبسمعه، وبعقله، وبعلمه، ويعلم ما الذي يريده الله عز وجل من خلق هذا الإنسان، فيعبده فيكون من المؤمنين.(209/2)
البرق بين الرحمة والعذاب
قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم:24] آية من آيات رب العالمين سبحانه كما ذكرنا في الحديث السابق، يريكم البرق فتخافون أن يخطف أبصاركم، فتخافون أن ينزل بعده ماء من السماء شديداً فيغرقكم.
يقول العلماء عن البرق: إنه تفريغ شحنات كهربائية، فإذا ذهبت هذه الشحنات مع قوة ما فيها من ضوء قد يخطف أبصار من ينظر إليه.
فالناس يخافون من ذلك، ويطمعون حين يرون ذلك في فضل الله ورحمته، ويطمعون في المطر الذي ينزل من السماء رحمة من عند رب العالمين؛ لأنه غذاء لهذه الأرض.
انظر إلى هذا البرق، وإن كان يخيف وإن كان شحنات كهربائية في الجو، ولكن العلماء يقولون: إن في هذا البرق رحمة عظيمة جداً، فهو يقوم بجعل الأكسجين يتحد مع النيتروجين الموجود في الجو، مما يتولد منهما حامض النيتريك، فينزل إلى الأرض فيكون أسمدة نيتروجينية للأرض، وهذا من فضل الله ورحمته.
شحنات كهربائية في السماء تنزل إلى الأرض تصير غذاءً للأرض، ينبت لكم به الله عز وجل النبات، من الذي عرف ذلك؟ أليس العالمون هم الذين عرفوا ذلك فأخبرونا عن رحمة الله وعن فضله سبحانه؟ فهذا البرق الذي نراه قد ينظر إليه الإنسان على أنه ضوء يطلع في السماء، لكن ما هو الذي يكون من وراء هذا الضوء؟ أهل العلم يعرفون ما وراء هذا البرق الذي يكاد يخطف الأبصار فيخافون منه، ويرجون من ورائه رحمة الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أهل العقل وأهل التفكير الحق ينظرون فيعقلون فيعبدون الله وحده لا شريك له.(209/3)
إنزال المطر رحمة من الله ومتعلق بمشيئته سبحانه
قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الروم:24] أي: المطر.
قوله: (وَيُنَزِّلُ) هذه قراءة جمهور القراء، ويقرؤها ابن كثير والبصريان: أبو عمرو ويعقوب: (وَيُنْزِلُ من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها).
فالماء الذي ينزل من السماء رحمة من الله عظيمة واسعة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن أنزل ماءً من السماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام، أنزل المطر من السماء ليثبت أقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بدر في لقائهم مع المشركين، وأذهب عن قلوبهم رجز الشيطان، وما ألقاه الشيطان من تخويف لهم، وقد نام بعضهم بالليل فاحتلم وأصبح يريد الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا بالشيطان يوسوس له، كيف تجاهد وأنت على جنابة؟ فإذا بعقله يتفكر كيف كيف؟ فإذا بالله يقطع عنه ذلك الوسواس، وينزل من السماء ماءً فيغتسلون ويصلون ويعرفون فضل الله ورحمته في إنزال الماء من السماء.
ينزل الله الماء من السماء رحمة بعباده، لينبت لكم به من كل الزروع والثمار، ويخرج لكم من هذه الأرض الميتة غذاءً تتفكهون به وتقتاتون عليه، رحمة من رب العالمين سبحانه.
حين يتفكر الإنسان أن الأرض فيها الماء المالح وفيها الماء العذب وفيها الماء النظيف وفيها الماء الرديء، ومن هذا الماء يتبخر هذا الماء بفضل الله سبحانه وتعالى، ويصعد لدرجات معينة يتكثف فيها هذا الماء بعضه على بعض، ثم ينزل عليكم مطراً.
وهذا الماء الذي طلع من هذه البحار، وتكثف حتى صار سحاباً، يرسل الله الرياح ليجري هذا السحاب، وهذه الرياح مأمورة بأمر الله سبحانه وتعالى بأن تذهب به إلى الأرض الفلانية، التي يريد الله عز وجل أن تمطر فيها هذه السحب، رحمة من رب العالمين سبحانه.
فالناس ينتظرون فضل الله وإذا بالله ينشئ السحاب ويوجهه إلى حيث يشاء وينزله على الناس.
كذلك هذا الماء الذي قد يكون متبخراً من المجاري، وصعد إلى السماء فإنه لا يصعد بالقذر الذي فيه والنتن الذي فيه؛ لأن الله سبحانه وتعالى ينقيه، فلا يتبخر إلا الماء الطاهر، أما ما فيه من نجاسة، فإنه لا يصعد إلى السماء، إلا أن يشاء الله شيئاً سبحانه، وإذا بهذا الماء الطاهر يتوجه حيث يوجهه الله سبحانه، وينزل على المكان الذي يريده الله سبحانه! آية من آيات الله سبحانه، وإنزال هذا المطر ليس للإنسان دخل فيه ولا شأن فيه، ولكن الله سبحانه هو الذي ينشئ هذا السحاب، وهو الذي يرسل والذي ينزل من السماء ماءً ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام، وليريكم من آياته ومن فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى.
ثم قال: ((فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)) فإذا نظرت إلى أهل الصحراء حين ينتظرون نزول المطر من السماء، فإذا نزل الماء هللوا وفرحوا وكبروا؛ لأن رحمة ربنا نزلت على العباد، فينبت لهم أرضاً كانت قاحلة ومجدبة لا زرع فيها، فإذا بالله ينزل المطر وسرعان ما يخرج النبات على وجه الأرض، وتخضر الأرض بفضل الله وبرحمته {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:24].
فالذي يعقل ويتفكر في هذه الآيات يعلم أن الله سبحانه الملك الحق، وهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.(209/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: يقول للشيء: كن فيكون، فكل شيء قائم به سبحانه، وكل شيء يدبر أمره الله سبحانه وتعالى، فما قامت السماوات وعلت في مكانها، وكل ما فيها من شموس وأقمار ونجوم وأفلاك ومجرات كلها قائمة مستقرة في مدارها وفي مكانها كل ذلك بأمره سبحانه، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر:41] يمسكهما، فالسماء في مكانها والأرض في مكانها، حتى إذا جاء أمر الله سبحانه وتعالى أزال وغير وبدل وقلب ما شاء سبحانه.
{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: إذا جاء أمر الله سبحانه انشقت السماء فهي يومئذ واهية، وتهاوت النجوم والشموس والأقمار: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6] وانقلبت موازين كل شيء بأمر الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فهو القائم المدبر لكل شيء، فإذا أمر الله سبحانه بالنفخ في الصور نفخة البعث والنشور قام الخلق من القبور بين يدي الله سبحانه وتعالى.
((ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ)) أي: كنتم في الأرض جثثاً هامدة وكنتم تراباً، فإذا بأمر الله يأتي فينزل الطل من السماء فتنبت الأجساد، ثم نفخ في الصور فقاموا واستقاموا لرب العالمين سبحانه.
وقوله: {إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25] أي: تخرجون من هذه الأرض كما بدأكم تعودون.(209/5)
تفسير قوله تعالى: (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون)
قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] سبحانه وتعالى وله كل شيء، واللام لام الملك، يعني: الله يملكه ويخلقه ويتولى أمره ويدبره.
و (من) يعبر به عن العاقل، وقد يدخل غير العاقل بالتبع فيه، أي: كل من في السماوات ملك لله سبحانه، فهؤلاء العقلاء الذين يعقلون عبيد لله فكيف بمن لا يعقل؟ فالكل عبيد لله سبحانه وتعالى.
ثم قال: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: كلهم قنتوا لله سبحانه، وخضعوا وذلوا وأذعنوا لأمر الله سبحانه، فمنهم من فعل ذلك طوعاً، ومنهم من فعل ذلك كرهاً، فكثير من الناس يعبدون الله سبحانه، وكثيرون حق عليهم العذاب، والكل خاضعون لله سبحانه.
والخضوع الذي يفعله الإنسان بإرادته لله عز وجل هذا الذي يثاب عليه، والخضوع الذي يأتيه عنوة وقهراً عليه فهذا الذي لا يثاب عليه بشيء، ويكون من أهل النار في النهاية إذا كان كافراً بالله سبحانه.
فخضع الإنسان بمعنى ذل لرب العالمين، فالمؤمن خاضع لقضاء الله وقدره ولشرعه سبحانه وتعالى.
يقول الله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] أي: إذا أمر الله بأمر كوني نفذ على عبده، لكن عندما يأمره بأمر شرعي، كأن يقول له: صل، صم، افعل المعروف، انه عن المنكر، فإن استجاب فهو مطيع لله سبحانه، راضٍ بمشيئة الله الكونية القدرية والشرعية الإرادية، أما الكافر فيعصي الله ويتبجح ويقول: لا إله، ولا يعبد شيئاً، أو يقول: الطبيعة خلقتني، أو يكذب على الله سبحانه ويزعم أن معه إلهاً، حاشا لله سبحانه وتعالى، فهنا يعصي ربه سبحانه في أمره الشرعي، أما في أمره الكوني القدري فمستحيل أن يعصي الله سبحانه، فهو خاضع ذليل لرب العالمين.
فقوله: ((كُنْ فَيَكُونُ)) لو قال للإنسان: امرض يمرض، نم ينام، فهو إذا أتته مصيبة وبلية من الله عز وجل لا يقدر أن يدفعها عن نفسه، فهنا هو خاضع ذلول لأمر الله الكوني القدري سبحانه وتعالى.
فالكل خاضع لله عز وجل، سواء أرادوا أم لم يريدوا ذلك.
فقوله: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26] أي: منقادون لأمر الله، مطيعون لقضاء الله وقدره، لا يستطيعون أن يعترضوا على ذلك.
وقوله: ((كُلٌّ)) التنوين هنا تنوين عوض، يعني: كل واحد منهم لله عز وجل قانت خاضع ذليل بين يدي ربه سبحانه، مطيع لأمره الكوني القدري.(209/6)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده)
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] قوله: (وهو) هذه الكلمة في القرآن كله فيها قراءتان، فهي تقرأ: (وهْو) وهي قراءة قالون عن نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو والكسائي، وباقي القراء يقرءونها (وهُو).
قوله: ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: الله سبحانه بدأ خلقكم ليس غيره، فهو الذي فطركم وأنشأكم أول مرة، ولم يكن لكم مثال قبل ذلك، ليفعل الله ذلك على هذا المثال السابق حاشا له سبحانه، وإنما هو يبدع وينشئ الخلق الذي لم يكن لهم مثال سابق قبل ذلك سبحانه، فهو فطركم وخلقكم وصوركم وبرأكم وأنشأكم وابتدع خلقكم سبحانه.
((وَهُوَ الَّذِي)) بدأ الخلق من ساعة ما خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتناسل آدم وتناسلت ذريته، فبدأ خلق الإنسان من طين، وكل إنسان خلقه من نطفة في قرار مكين، ثم جعل هذه النطفة علقة، فخلق العلقة مضغة، فخلق المضغة عظاماً، فكسا العظام لحماً، بدأ طوراً بعد طور حتى صار هذا الإنسان العاقل.
كذلك النبات ابتدأه الله بذرة صغيرة ثم تنبت ثم تصير فيها سنبلة ويصير فيها حبوب.
فالإنسان بعدما أحياه الله أماته سبحانه، ثم يعيده مرة ثانية، مثل ما فعل في هذه البذرة التي بدأها الله سبحانه فصارت نباتاً، وصارت في النهاية حبة، وهذه الحبة لو وضعتها في الأرض فإن الله سيعيدها مرة ثانية وتصير سنبلة، وكذلك النواة تصير هذه النخلة وتأخذ منها نواة مرة ثانية.
خلق هذا الإنسان وبدأه الله سبحانه وتعالى على ذلك، ثم يعيده بأن يأمر الأرض أن تجمع ما فيها، مهما تفرق الإنسان في أي مكان كان، فالله بأمره سبحانه كن فيكون ويجمعه، فقد علمنا قصة الرجل الذي أوصى أولاده بأنه إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينظروا في يوم شديد ريحه فيذروه في البر وفي البحر، فيا ترى أيهرب هذا الإنسان بذلك؟ فهو أعمل عقله في حيلة يمكن أن يهرب من الله، فأمرهم أنه إذا مات أن يحرقوه حتى يصير تراباً، وقال عند موته: (والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
هذا المسكين أراد أن يهرب من الله، فإذا بالله عز وجل يأمر البحر: أن اجمع ما فيك منه، هل يقدر البحر أن يعصي الله سبحانه؟! فاجتمع ما في البحر من جسد هذا الإنسان ومن تراب هذا الإنسان، وأمر البر: أن اجمع ما فيك من هذا الإنسان، فيجتمع، فيقول له: كن فيكون، فرجع الرجل مرة ثانية كما كان، فسأله الله سبحانه: (لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فغفر الله له سبحانه وتعالى).
فهل هذا أعجز الله سبحانه بهذا الذي فكر فيه؟ مهما تقطع الإنسان وتمزق إرباً، ومهما أكلته الطير وطارت به في أماكن وماتت هذه الطيور في أرجاء متفرقة؛ فإنه لا يهرب من رب العالمين.
ثم قال: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي: إعادة الإنسان أمر هين ويسير على الله سبحانه وتعالى، وهذا كأنه يضرب لكم المثل من أنفسكم، فالذي يصنع منكم شيئاً فإنه يستطيع أن يصنعها مرة ثانية، أليس هذا أسهل عليه؟ ولله عز وجل المثل الأعلى، وليس عند الله شيء اسمه سهل والآخر أسهل منه، كل شيء على الله عز وجل يسير، وإنما يخاطبكم بما تفهمون في أموركم وفي عاداتكم: أن الذي يصنع شيئاً فإنه أسهل عليه أن يصنعه مرة ثانية، والله عز وجل كلٌ عليه هين، ليس عنده أسهل وأسهل، بل الكل على الله يسير.
فقوله: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) أي: هين يسير على الله أن يعيدكم مرة ثانية.
قوله: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27] أي: إذا ضرب مثلاً مما عندكم فيما بينكم فليس معناه أنه مثلكم، لا، فالله عز وجل لا مثيل له سبحانه وتعالى؛ لأن له الأوصاف العالية العظيمة، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] فالله يضرب لكم الأمثال ليقرب ذلك إلى عقولكم، ولكن لا تضرب أنت لله عز وجل الأمثال، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74].
فقال هنا: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم:27] أي: له الوصف العظيم والأعلى في كل مكان سبحانه وتعالى، فهو الأعلى والأعظم سبحانه وتعالى.
وقوله: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى)) قالوا من معانيها: له أعظم وصف وهو لا إله إلا الله، يعني: لا يستحق العبادة غيره سبحانه وتعالى.
قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27] أي: الغالب، وهذا مناسب لما قبله، يعني: إذا قال الله عز وجل: كن، فلا ممانع لقضاء الله وقدره؛ لأن الله قاهر وغالب وعزيز لا يغالب سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في خلقه، الحكيم في إنزاله كتبه، الحكيم في صبره على عباده، الحكيم في تشريعه سبحانه، وكل شيء بحكمة بالغة من الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(209/7)
تفسير سورة الروم [28 - 30]
يضرب الله عز وجل الأمثال للخلق لتقريب المعلومة إلى الذهن، ومن باب إقامة الحجة عليهم، وقد ذكر تعالى في هذه السورة مثلاً عظيماً، وهو إلزام للمشركين بترك الشرك بالله، وهذا المثل هو أنهم يأنفون أن يشاركهم عبيدهم الذين هم ملك لهم في أموالهم، وهم مع ذلك يشركون مع الله غيره، وهم عبيد له وحده، ولله المثل الأعلى، فكأنه يقول: كيف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟!(210/1)
تفسير قوله تعالى: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28].
ذكر الله سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة سورة الروم مثلاً من أنفسنا فضربه للعباد، ولله عز وجل المثل الأعلى، والقرآن يضرب الأمثال تقريباً للمعلومات في الذهن، فالله سبحانه يقرب الشيء الذي يريد الإنسان أن يفهمه، عن طريق ضرب الأمثال، وعن طريق التبيين والتوضيح والتفصيل، وعن طريق التكرار للمعنى بصور مختلفة، حتى يفهم الإنسان، ويعقل عن الله سبحانه وتعالى ما الذي يريده منه، ويقيم الله سبحانه وتعالى الحجة على العباد بذلك، ولا يستحي ربنا سبحانه أن يضرب لنا الأمثال بأقل الأشياء أو بأعلى الأشياء، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] فيضرب لنا المثل بالبعوضة وبالذبابة وبالشيء الكبير، ويضرب لنا المثل في أنفسنا ومن أنفسنا، وقال لنا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فهنا في أنفسنا عبرة نعتبر بها، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
قال تعالى: ((ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ)) حتى تعرفوا أنكم أنتم البشر يأنف أحدكم ويرفض أن يكون من هو أقل منه شريكاً له، فالإنسان الذي له متجر وله محل وعنده عامل أجير يعمل في هذا المحل يأنف صاحب المحل أن يكون هذا الأجير شريكه في المحل، هذا في الأجير الذي هو حر فكيف لو كان هذا عبداً تملكه وقد اشتريته بمالك؟! لا ترضى أبداً أن يقال: هذا العبد شريك لك في مالك، تأنف وترفض ذلك، وتقول: كيف يكون شريكاً لي وأنا اشتريته بمالي وهو ملك لي، ومن حقي أن أبيعه؟! ترفض ذلك، فالله عز وجل ضرب لنا هذا المثال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الروم:28] أي: من العبيد الذين هم عندكم، {مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم:28] أي: العباد كلهم سواء، السيد الغني والعبد الذي لا يملك شيئاً والحر الفقير، الكل سواء في رزق الله سبحانه لا يرزقون أنفسهم، بل الله عز وجل هو الذي يرزق الجميع، فإذا كان الرزق ليس رزقك وليس مالك ولم تخلقه ولم تأت به، ولكن الله بكرمه أعطاك هذا المال الذي جعلت خليفة ومستخلفاً عليه، ومع ذلك ترفض أن يقال: هذا شريك لك في هذا المال، مع أنكم جميعاً سواء في رزق الله؛ لأن الله يرزقكم أنتم ومن تملكون؛ فكيف تدعون لله سبحانه أن يكون له شريك في ملكه سبحانه وهو الذي خلق العباد وخلق كل شيء سبحانه وتعالى؟! قال الله سبحانه: {فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم:28] أي: تخافون من عبيدكم هؤلاء كما تخافون من أنفسكم، تخافون أن ينقصوا عليكم الرزق، فأنت خائف على هذا الرزق الذي أعطاك الله سبحانه وتعالى.
فأنت تخاف من هذا العبد أن ينفد هذا المال الذي في يدك، وترفض أن يكون عبدك شريكاً لك، فكيف تضرب لله عز وجل الأمثال؟ وكيف تزعم أن له الصاحبة والولد وله الند والشريك وهو الذي خلقكم وخلق أموالكم ولا يخاف شيئاً ولا يخشى أحداً سبحانه وتعالى؟ قال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28] أي: كهذا التفصيل العظيم نفصل الآيات لقوم يعقلون، وتفصيل الشيء يكون بتكراره وتوضيحه وتبيينه، فكذلك فصلناه وبيناه بياناً يعقله كل ذي عقل وكل ذي بصيرة.(210/2)
تفسير قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)
قال الله تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29] قوله: ((بَلِ)) بل للإضراب يعني: اضرب عن هذا فمهما أتيتهم بحجج الله سبحانه فهم لا يريدون أن يفهموا أصلاً، ((بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ)) فإذا كان الإنسان صاحب هوى وجلست معه لتقنعه بالشيء الواضح، فمهما حاولت أن توضح له فلن يقتنع إلا بالذي في دماغه، فها هم المشركون لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه كانت عقولهم في شركهم وأوثانهم، فقالوا: أنت تريد أن تأخذ منا الرئاسة، وتريد أن تأخذ منا المكانة، فلن نقبل منك الذي تقوله، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] كل هذا: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93].
أي: لن نؤمن بعد هذا كله حتى تأتينا بكتاب من السماء مختوم من رب العزة سبحانه ونقرؤه ونجد فيه رسوله! ويقول له بعضهم: وحتى لو فعلت ذلك ما أظن أنني أؤمن بك! يعني: صاحب الهوى لا يؤمن ولا يستجيب، بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم، فهم أصحاب هوى مهما أقنعتهم لا يقتنعون في الظاهر، وإنما في الباطن، هم يعرفون الحق فيعاندون ويستكبرون، لذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] أي: لا تحزن على ذلك، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: هم لا يعتقدون أنك كذاب، كيف وهم يلقبونك بالصادق الأمين، بل هؤلاء يجحدون، أي: يكتمون الحق مع تيقنهم بأنه حق، فهؤلاء المشركون لا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتقدون أنه كاذب، بل يعتقدون أنه صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن كما قال أبو جهل: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا الحجيج فأطعمنا، وسقوا الحجيج فسقينا، وكلما عملوا من الخيرات عملنا، ثم زعموا أن فيهم نبياً فأنى لنا بنبي؟! إذاً: تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد، فهم يعترضون على أمر الله سبحانه أن اختار النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره.
بل يصرحون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: لماذا نزل هذا القرآن على الوليد بن المغيرة من مكة أو على عروة الثقفي من ثقيف من الطائف؟ لماذا نزل عليك أنت هذا القرآن؟ فالحسد للنبي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعلهم يعترضون على نبوته، قال الله عز وجل له ولهؤلاء الناس: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وقوله هنا: ((النَّاسَ)) المقصود به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه في سورة الروم: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم:29] أي: ليس عندهم آثار من علم، وليس عندهم دليل من رب العالمين يسوقهم ويقودهم إلى ما يزعمونه من كلام باطل.
قال: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [الروم:29] أي: مستحيل أن الله عز وجل يهدي إنساناً استحق هذه الضلالة، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل:37] أي: لا يهدى من يضله الله سبحانه وتعالى، والذي يضله الله سبحانه هو من علم الله سبحانه أنه لا يستحق إلا النار، فيختم على قلبه ويطبع على قلبه فلا يستجيب ولا يفهم ولا يعقل.
فقوله: ((فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ)) أي: لا أحد يهدي من أراد الله به الضلالة؛ لعلم الله عز وجل أن هذا يستحق ذلك.
قوله: ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) يعني: في ظلمهم واتباعهم أهواءهم ومحاربتهم النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لهم ناصر ينصرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، فالله ينصر دينه وقت ما يشاء سبحانه، ويخذل الشرك والمشركين وما لهم من ناصرين.(210/3)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)
يأمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يقيم وجهه للدين حنيفاً فقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] أي: قوم نفسك ووجه وجهك وتوجه إلى ربك، وإلى شرع الله سبحانه، وسر على الصراط المستقيم، فإقامة الوجه هو تقويم الطريق والمقصد والقوة على الجد في أعمال دين الله سبحانه وتعالى.
وخص وجه الإنسان بالذكر؛ لأن أشرف ما في الإنسان وجهه، والإنسان إذا وجه وجهه إلى شيء سيسير إلى هذه الوجهة التي توجه إليها.
قوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ)) أي: دين رب العالمين.
قوله: ((حَنِيفًا)) أي: كن مستقيماً على هذا الدين، وسيكرر لنا مرة ثانية ويصف هذا الدين أنه الدين القيم العظيم فأقم وجهك للدين القيم.
إذاً: قوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)) أي: توجه إلى دين رب العالمين سبحانه حنيفاً، وأصل الحنف: الميل، ورجل أحنف بمعنى أن ساقيه مائلتان، ووصف إبراهيم بأنه حنيف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أي: مائل عن كل من على الأرض من مشركين بالله سبحانه وكفرة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو وحده الذي كان على التوحيد، فمال عن جميع الأديان الباطلة وأعرض عنها وابتعد عنها، فسمي بالحنيف، والحنيف هو المائل المبتعد عن الباطل.
ثم صارت هذه الكلمة دليلاً على الاستقامة، فأصبحت كلمة الحنيف على المعنى الشرعي أنه المستقيم على دين الله عز وجل.
فقوله: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)) أي: معتدلاً مائلاً عن الزيغ وعن الهوى وعن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
قوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)) يعني: هذا الدين فطرة الله سبحانه وتعالى، الذي هو دين الإسلام دين الفطرة، وكأنه قال: فأقم وجهك للذي فطرك الله سبحانه وتعالى على هذا الدين العظيم.
وقوله: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)) كلمة (فطرة) هذه مصدر، المعنى أنها نائب عن المفعول المطلق، كأنه فطر الله فطرة، وجاء بالمفعول المطلق الذي منها فقال: ((فِطْرَةَ اللَّهِ)).
وكلمة (فطرة) عند الوقف عليها هي مكتوبة بالتاء في المصحف، فإذا وقفت قرأت: (فطرت) بالتاء، هذا على قراءة الجمهور، ويقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بالهاء (فطرة).(210/4)
معنى الفطرة
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] الفطرة خلقة الإنسان، والفطرة بدء خلق الإنسان، والله فاطر سبحانه وتعالى بمعنى مبتدئ الخلق، لم يكن قبل ذلك خلق فأوجده الله، وفطره وابتدعه وخلقه سبحانه وتعالى.
أما فطرة الإنسان فيعبر بها عن الإسلام، ويعبر بها عن خصال الإسلام، ويعبر بهذه الكلمة (الفطرة) عن أصل الخلقة والدين الذي عليه الإنسان الذي أوجده الله عز وجل في قلبه، فقلبه السليم فطر على حب دين الله عز وجل، إلا أن يدخل فيه شيء يوجهه شمالاً أو يميناً، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، -وفي رواية: على الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)، فهنا في هذا الحديث أن كل مولود يولد على الفطرة، لو أنه ترك وحده بدون تدخل من الأبوين، لتوجه إلى دين رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأن في قلبه ما يدعوه إلى ذلك، فالله عز وجل خلق العباد قبل أن يوجدهم في هذه الدنيا، وأخذ عليهم وهم في ظهر آدم الميثاق، فهو سبحانه استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، ثم أشهدهم على أنفسهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين.
إذاً: يوجد في قلب كل إنسان التعرف على ربه سبحانه وتوحيد ربه سبحانه وتعالى، ولم يترك الله عز وجل العباد لذلك فقط، وإنما بعث إليهم الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب؛ ليهدي عباده، وجعل في قلوبهم ما يدلهم على ربهم سبحانه وتعالى، وأنشأهم حين يولدون على هذه الفطرة: معرفة الله وتوحيده سبحانه وتعالى، فإذا بالعبد ينمو على ذلك، وإذا بأبويه يتدخلان في ذلك، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وفي رواية: (أو يشركانه) يعني: الإنسان يولد على الفطرة، ثم الأم تعلم الولد أو الأب يعلم الولد النصرانية أو اليهودية أو غير ذلك من الملل الكفرية، لكن لو ترك على ما في داخل قلبه لصار إلى طريق الإسلام، كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).
وضرب لنا مثلاً فقال: (كما تنتج البهيمة جمعاء) أي: الناقة والبقرة والشاة كل هذه الأنعام خلقها الله عز وجل مكتملة الخلق، (هل تحسون فيها من جدعاء؟) يعني: هل يوجد من البقر أو من الغنم أو من الإبل ما تكون إذنها مشقوقة؟ لا يحدث إلا أن تكون أو نادرة من النوادر؛ ليرينا الله عز وجل آياته، فكذلك الله عز وجل خلق الإنسان مكتملاً، وخلق في قلبه ما يدعوه إلى توحيد ربه سبحانه، ولكن إذا تدخل البشر أضلوا هذا الإنسان.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، قال عز وجل: كل مال نحلته عبداً فهو حلال).
أي: هذه الأموال التي يرزقكم الله سبحانه هي حلال لكم، طالما أنها حلال وطالما أنكم سعيتم فيها من وجه حلال فهي مباحة لكم، ثم قال: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: على الدين وعلى الفطرة وعلى توحيد الله على الإسلام العظيم، ثم قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم).
(فاجتالتهم) يعني: استخفوا بهم وأذهبوهم عن دينهم، وجالوا معهم في الباطل، فالشيطان لا يترك الإنسان بل يستخف به شيئاً فشيئاً حتى تعتريه الخفة والطيش والتهور ويبتعد عن الله سبحانه وعن طريق الهداية: وفي رواية: (فاختالتهم الشياطين).
وكأنها بمعنى الحبس عن دين الله سبحانه وتعالى، والصد عن دين الله سبحانه، ثم قال في هذا الحديث: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، قال الله سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103]).
فربنا سبحانه لم يحرم الواصلة ولا الحامي ولم يحرم الذي حرمه أهل الجاهلية من أشياء، فيقول سبحانه: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ)) بحروا أي: شقوا أذنها، فالناقة إذا أتت بأنثى وبعدها أنثى فجزاء لها ألا نذبحها ولا نأكلها، بل نتركها معززة مكرمة، هذه البحيرة، أما السائبة فهي التي ولدت وولدها كبر حتى ولد فيتركونها ولا يذبحونها.
من الذي حرم عليكم أن تأكلوها؟ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103]، فيكذبون على الله سبحانه! وقال هنا: إن الذي أمرهم بذلك الشياطين، اجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(210/5)
تفسير سورة الروم الآية [30]
خلق الله عز وجل الخلق على الفطرة الربانية التي فطرهم عليها، إنها فطرة التوحيد والإيمان والاعتراف بالله بألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولكن الشياطين حرفوا الفطر، وغيروا العقول، واجتالوا العباد إلى عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وقد أمر الله نبيه أن يستقيم على ملة إبراهيم عليه السلام فقد فطر الله الخلق على هذه الملة السمحاء التي لا يعلمها كثير من الناس.(211/1)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
هذا أمر من الله سبحانه تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تبعاً بإقامة الوجوه لدين الله سبحانه وتعالى، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30] أي: أقم وجهك معتدلاً متوجهاً إلى دين الله سبحانه وتعالى.
والحنيف بمعنى: المستقيم، وأصله من الحنف وهو الإماله أو الميل، فكأنه يقول: ابتعد ومل عن هذه الأديان الباطلة إلى طريق الله عز وجل المستقيم وإلى دينه القويم.(211/2)
الإسلام فطرة الله في خلقه
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ} [الروم:30] أي: أقم وجهك إقامة عظيمة واستقم على فطرة الله سبحانه تبارك وتعالى التي هي داخل قلب كل إنسان، وذكره فطرة الله كأن فيه إشارة إلى أنها ضمن كلمة أقم وجهك، وعليه فيكون المعنى: توجه إلى الوجهة التي فطرك الله عليها، أو كأنه يقول: اتبع فطرة الله، أو أقم وجهك متبعاً فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة تأتي بمعنى: الدين والإسلام، وبمعنى: بدأ خلق الله عز وجل للإنسان، ومنه: فطره على الشيء أي: بدأ خلقه عليه وجعله مستقراً في قلبه.
فالله عز جل خلق عباده كلهم حنفاء يعني: على دين الله، فلو تركوا وما في قلوبهم لاستقاموا على دينهم الحق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
فلو ترك هذا المولود على ما فطره الله عز وجل عليه لاستقام على دين الله سبحانه، ولكن أبواه هما اللذان يوجهانه إلى الخير أو إلى الشر، فإما أن يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، أو يتركانه على الأصل وهو هذا الدين المستقيم، فالأصل في الإنسان أنه على الإسلام.
ولذلك تجد أصحاب الأديان الأخرى لابد أن يحولوا أولادهم إلى دينهم؛ لأنه خلاف الأصل والفطرة، فيعمدونهم بأن يأخذونهم إلى الكنيسة عند الكاهن حتى يعمده، وكأنهم يعترفون أنه على غير ما هم عليه، فيحتاجون إلى أن يتحولوا فينصرونه أو يهودونه على غير ما خلق عليه، أما في الإسلام فالإنسان مولود على الفطرة، ويشب على هذا الدين الذي فطره الله عز وجل عليه وأوجده في قلبه.
فليس في الإسلام مسألة تعميد؛ لأن المولود مفطور على دين الله عز وجل، أما في غير الإسلام فلابد أن يحولوه، وكأنهم يعترفون ضمناً أنه مولود على غير ما هم عليه، فيحتاج أن يتحول إلى اليهودية أو إلى النصرانية.(211/3)
عبث الشياطين بالمشركين في تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله
جاء في صحيح مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال)، يعني: ما أعطيت لعبادي من رزق ومن مال فالأصل أنه حلال، (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم) يعني: مائلين عن الباطل مستقيمين على الحق، وفي قلوبهم ما يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى عبادته سبحانه وتعالى، ولكن كما قال: (وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم) أي: إذا بالشياطين تحول العباد عن هذا الدين وتفتنهم عنه، وفي الرواية الأخرى: (فاختالتهم عن دينهم).
قال في الحديث: (وحرمت عليهم ما أحللت لهم) أي: أن الله أحل للعباد أرزاقهم فإذا بالشياطين توهم الناس أن هذا حلال وأن هذا حرام، فيقسمون أرزاقهم التي جعلها الله عز وجل لهم فيقولون: هذا لله وهذا لشركاء الله عز وجل، فما كان لله فهو يصل إلى شركائه، وما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، فجاءوا بأشياء يخترعونها ويبتدعونها بعقولهم، ويقول هؤلاء المشركون إذا حصدوا الثمار: الجزء هذا لله، والجزء هذا للشركاء، فإذا اختلط ما لله عز وجل بما للشركاء يقولون: نجعله كله للشركاء وربنا غني عن ذلك.
فيقال رداً عليهم: إذا علمتم أن الله غني عن ذلك فلم تعبدون هؤلاء الشركاء وأنتم تعرفون أنهم فقراء وليسوا بأغنياء عن ذلك؟ فتعطونهم ما لله وتقولون: إن الشركاء محتاجون لهذا النصيب، فما كان لشركائكم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائكم ساء ما تحكمون.
قال تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:138 - 139] وقد قسم لهم هذه القسمة الشياطين، فضحكت عليهم بها وخدعتهم فقسموا هذه القسمة، وقالوا لهم: هذه أنعام وحرث حجر، أي: محجورة فلا أحد يأخذها إلا من نريد! {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام:138] أي: ممنوع أن يركب عليها أحد؛ مكافئة لهذه الأنعام؛ لأنها أنجبت وأنجب خلفها، فيمنع الناس من ركوبها وذبحها مع أن الله قد خلقها رزقاً لعباده، وأباح لك أن تأكلها أو تعطيها غيرك يركبها أو تركبها أنت، أو تعطيها غيرك صدقة يأكلها، ولا تترك سائبة تمشي بين الناس، ولا أحد يتعرض لها، حتى تكون هرمة وتموت من غير أن ينتفع بها أحد.
فيقال لهم: من الذي أمركم بتحريم أكل هذه الأنعام وتركها لنفسها هكذا؟ فالله لم يأمركم بذلك، ولكن العقول الخائبة والأديان الباطلة تعمل ذلك، فهؤلاء يعبدون غير الله والشياطين تستهويهم وتجتالهم عن دينهم، وهم أطاعوا الشياطين في معصية الله عز وجل، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} [المائدة:103] ولكن الشياطين هم الذين يوحون إلى أوليائهم ذلك فيجادلون به.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة:103]، يقال بحيرة: أي: بحرت بطنها وولدت أنثى وبعدها ولدت أنثى أيضاً، فيكافئونها بأن لا يركبها أحد ولا يستخدمها، وتترك هكذا.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة:103] يقول أحدهم: لله علي نذر، أو ينذر لغير الله عز وجل إذا شفى الله مريضي أو نحوه فسأترك الجمل سائباً لا يركبه ولا يأكله أحد! فلا هو انتفع به ولا غيره انتفع به، وقد جعله الله عز وجل حلالاً يؤكل فإذا بهم يحرمون أكله.
{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ} [المائدة:103] الوصيلة: هي التي وصلت بطناً ببطن، يعني: خلفت مرة وأخرى وثالثة، فتستحق أن لا تركب بعد ذلك ولا تؤكل.
{وَلا حَامٍ} [المائدة:103]، وهو الذكر إذا لقح ولد ولده، يعني: أن الجمل إذا خلف جملاً، فنتج منه جمل آخر فيبقى عنده حفيده ولا أحد يتعرض لهذا الجمل الجد.(211/4)
أساليب عصرية في محاربة العقيدة من قبل الأعداء
إن الإنسان إذا بعد عن الله عز وجل إذا بعقله يحل أشياءً ويحرم أشياءً، ويبقى عقله ضائعاً، والذي ينظر إليه يعرف غباءه، فأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأحجار، يصنع أحدهم الحجر بيده من تراب وماء، ويصنع منه صنماً، ثم يعبده من دون الله سبحانه وتعالى، أو يصنع تمثالاً من عجوة وإذا جاع أكله، وإذا شبع عبده من دون الله! أية عبادة هذه التي يفعلونها؟! إنها عقول تافهة توجد في كل زمان، ومثل ذلك الذين يصنعون التمائم، لكي يكسبون المباراة في لعبة الكرة، والمسلمون يقلدون في هذا الشيء، ويصنعون ما يجعلهم يشركون بالله سبحانه، فيزعمون أن النصر من هذه التميمة التي صنعوها، وتكون ميدالية أو تمثالاً أو صورة، ويقولون: هذه تجلب لنا الفأل الحسن.
فيكفرون بالله سبحانه ويشركون به، وهم يصنعونها أو يقرونها بمدح مثل هذا الشيء، ويعملون تمثيليات وأفلاماً تكون سبباً لانتشار هذا الشيء، كما تسمع عن تمثيلية تحكي عنها الجريدة أن شخصاً اشترى حذاءً؛ ليلعب به الكرة، يقوم فيغلب، وكلما يلعب به يغلب الآخرين، وعندما يترك هذا الحذاء ويلعب بدونه لا يغلب، والمقصود بهذا الشيء إقرار عقيدة باطلة في نفس الإنسان، فيأتي الشاب الصغير الذي لا يفهم العقيدة، فيذهب لشراء حذاء جديد؛ ليلعب به، فإذا غلب يقول: إن الحذاء هو الذي جعلني أغلب، وينسب النصر لهذا الحذاء! انظر إلى هذا الغباء وهذه العقول! إن هذه العقائد هي التي يريدون أن يغرسونها في نفوس الناس، والمسلمون ينساقون وراء ذلك، وكما رأيتم فيلم المسيح، فكم من المسلمين الآن يشاهدون هذا الفيلم في كل مكان؟! بدعوى أن فيه نكاية بإسرائيل، وهو يقرر في أذهان المسلمين أن المسيح صلب، والله عز وجل سبحانه يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، فلم يقتل المسيح، ولم يصلب وإنما رفع المسيح إلى السماء، وصاحب هذا الفيلم يقول: أنا لا أرضى حتى يتنصر كل الناس بسبب هذا الفيلم! وإذا بالمسلمين في بلادهم ينشرون هذا الفيلم على دور السينما لكي يشاهدونه، ويرون في الفيلم أنه صلب المسيح، وأنه وضع الشوك على رأسه، وأن المسيح قتل ولا حول ولا قوة إلا بالله! والله عز وجل يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} [النساء:157] والمسلمون تذهب عقولهم وتضيع وراء فلم من الأفلام، وإن كان فيه دعوة للنصرانية، وإذا بالجرائد تنشر مقالات مثل: آخر لحظات المسيح، ويقال فيها: انظروا إلى اليهود طوال عمرهم يعملون الشر، فهم الذين قتلوا المسيح! مع أن الله عز وجل يقول في القرآن {وَمَا قَتَلُوهُ} [النساء:157].
وهذا هو الكفر الذي لا يقوله مسلم؛ لأنه يخالف ما جاء في القرآن، فينشرون عقيدة النصارى، ويقررون في قلوب المسلمين الشرك بالله سبحانه، والتكذيب لكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، والمسلمون لجهلهم يضعون المصاحف في بيوتهم للزينة، وبعضهم يضعها تحت رأسه وهو نائم حتى لا تأتي له رؤيا مفزعة، أما أن يقرأ ما في كتاب الله سبحانه ويتعلم ما فيه فلا، إلا من رحم الله سبحانه تبارك وتعالى.
وأيضاً الأب يرسل ابنه إلى مدرسة ليتعلم الإنجليزي وغيره، وآخر شيء يفكر فيه تعليم القرآن وكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى! فلابد للمسلمين من التوعية بعقائد الإسلام، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال لنا في هذا الحديث القدسي الصحيح: (إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً).
فلما وصل أهل الأرض إلى طاعة الشيطان والشرك بالله سبحانه فسيكون جزاؤهم المقت، فإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم جميعاً عربهم وعجمهم، والمقت أشد البغض، فقال سبحانه في هذا الحديث: (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، ولم يقل: إلا أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب كانوا وراء الدنيا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان منهم بقايا ممن عرفوا التوحيد وممن وحدوا الله سبحانه، وكانوا ينتظرون النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد تعلم على أيدي هؤلاء البقايا سلمان الفارسي، وعبد الله بن سلام.(211/5)
قصة إسلام سلمان الفارسي
إن سلمان تعلم عند بقايا من النصارى الذين كانوا يوحدون الله سبحانه، وكان كل إنسان منهم يوصي سلمان: أن اذهب إلى فلان وتعلم عنده، وهكذا حتى قال له آخرهم: لا أجد أحداً على الأرض على ما أنا عليه، ولكن قد أظلك زمان يبعث فيه نبي، وهذا آخر راهب كان معه سلمان الفارسي رضي الله عنه، وسلمان كان فارسياً مجوسياً، وكان أبوه موقد النيران لقومه، ولما هرب سلمان من عند أبيه وأمه وجد راهباً يعبد الله سبحانه، فتعلم منه، ثم حبسه أبوه، ثم هرب بعد ذلك وتوجه ليعبد الله سبحانه ويترك هذه الديانة الباطلة، فدلوه على عبادة الله سبحانه، وكان كلما يذهب إلى راهب من الرهبان يلازمه حتى تحضر الراهبَ الوفاة، فيقول له سلمان: إلى من توصي بي؟ فيقول له: اذهب إلى فلان في القطر الفلاني فهو على التوحيد، فهؤلاء هم بقايا أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد.
فلما وصل سلمان رضي الله عنه إلى آخر هؤلاء، وكان قد قرب عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه وجاءت الوفاة لهذا الراهب، فقال لـ سلمان: اذهب إلى أرض العرب فإنه سيبعث فيها نبي في هذا الزمان، وسلمان لا يعرف طريق الذهاب إلى أرض العرب، فوجد جماعة من العرب فأعطاهم ماله حتى يوصلوه إلى أرض العرب، فأخذوا منه المال وخانوه وغدروا به وصيروه عبداً! وبذلك صار سلمان الفارسي الذي كان أبوه من الكبراء عبداً من العبيد في يوم من الأيام، حتى أعانه النبي صلى الله عليه وسلم ففك رقه وصار عتيقاً بعد ذلك.
والغرض أن سلمان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي قاله له هؤلاء البقايا من أهل الكتاب الذين كانوا على التوحيد، وكانوا يعرفون الله سبحانه، ويؤمنون بالله الواحد ولم يقولوا: الله ثالث ثلاثة، ولم يقولوا: إنه اتخذ صاحبة أو ولداً، فـ سلمان تعلم منهم ذلك، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بوصفه الذي حدثوه به.(211/6)
الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم
قال صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) أي: بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ليختبره ويختبر الخلق به صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظاناً)، إنما بعثتك لأبتليك ابتلاء، فهل تصبر على الرسالة أو لا تصبر؟ وأبتلي بك الناس وأختبرهم هل يستجيبون لك ويؤمنون بك حينما يروا الآيات والمعجزات معك أو لا يؤمنوا؟ فأنت مبتلى وهم مبتلون.
قال: (وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء)، وهذا الكتاب العظيم القرآن الكريم، فقد كانت الكتب السابقة تكتب فقط ولا يوجد من أصحاب الديانات السابقة من يحفظ كتاب الله سبحانه، إلا ما يكون من الأنبياء المعصومون عليهم الصلاة والسلام، ولكن سائر أصحاب الأديان ما كانوا يحفظون كتبهم، وإنما الكتب تكتب بالأحبار، فإذا أرادوا أن يبدلوا أو يغيروا مسحوا وكشطوا وكتبوا ما يريدون، إلا هذا القرآن العظيم فلا يغسله الماء أي: أن هذه معجزة من معجزات هذا القرآن العظيم، وهي أن المسلمين يحفظونه من عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، يأخذه اللاحق عن السابق حفظاً ومشافهةً وكتابةً أيضاً، فإذا محي من الكتب فهو محفوظ في الصدور لا يمحى منها إلا بأن يقبض الله عز وجل العلماء كما جاء في الحديث أو عند قرب الساعة فمن العلامات الكبرى أنه يرفع كتاب الله عز وجل، نسأل الله العفو والعافية.(211/7)
بذل الأسباب تأتي بعده معونة الله تعالى
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً) يعني: أقاتل قريشاً بعد أن أدعوهم إلى الله عز وجل، فإن لم يستجيبوا أقاتلهم، قال: (فقلت: ربي! إذاً: يفلقوا رأسي فيدعوه خبزاً) يعني: يكسروا رأسي كما يكسر الخبز ويصير خبزة واحدة؛ لأني وحيد، وهم كثر! فإذا بالله عز وجل يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك) أي: كما أخرجوك فأخرجهم، قال: (واغزهم نغزك) أي: قاتلهم وسنعينك عليهم، (وأنفق فسننفق عليك) أي: فلا تخف من النفقة أو من الغزو أو من الإخراج، فإن الله عز وجل معك، فابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وفي هذا كله يرينا الله أن النصر من عنده سبحانه، وأنه يعين عباده المتقين.
فالمؤمن يأخذ بالأسباب ويأتي من عند الله عز وجل النصر، قال: (وقاتل بمن أطاعك من عصاك).(211/8)
من صفات أهل الجنة وأهل النار
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق)، فهؤلاء من أهل الجنة، ذو سلطان يحكم المسلمين بالعدل ويتصدق، ويوفقه الله عز وجل للطاعة وللحكم بالعدل.
(ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، وهنا الثاني ليس له سلطان، ولكنه رجل من المسلمين من صفاته أنه رحيم رقيق القلب، أي: في قلبه مودة ورقة وحنان لكل ذي قربى ومسلم، فهو رحيم بكل ذي قربى وكل مسلم.
والثالث: (عفيف متعفف ذو عيال)، وهذا ليس إنساناً طماعاً، فلا ينظر إلى ما في أيدي الناس بل أعف نفسه عن الناس وتعفف عما في أيديهم، وحصن نفسه من الوقوع في الحرام، مع أن هذا الإنسان عنده عيال ويحتاج للإنفاق عليهم ولكنه عفيف متعفف.
نسأله أن يجعلنا من أهل جنته وأن يجعلنا من أهل ناره.
قال: (وأهل النار خمسة)، وبدأ بالضعيف من أهل النار، وهنا يظهر أن الضعيف من أهل النار غير الضعيف من أهل الجنة، فالجنة قالت لله عز وجل: (فيّ الضعفاء)، فمن أهل الجنة ضعفاء المؤمنين وأهل الفقر والحاجة والضعفاء والمرضى الذين رضوا بهذا الشيء وأطاعوا الله سبحانه وتعالى.
وذكر من أهل النار: (الضعيف الذي لا زبر له) أي: الذي لا منع له، والمقصود به هنا العقل، فليس له عقل يزجره عن معصية الله سبحانه وتعالى، وهو ضعيف ومع ضعفه لا يركن إلى الله بل يركن إلى الأقوياء من الناس، يقولون له: اعمل كذا فيعمل، استهزئ بفلان فيستهزئ، فيعصي الله ويكفر بالله؛ ليرضي سادته في الدنيا، قال عن أمثاله: (الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً)، لا يبتغون أي: لا مال معهم لزواج ولا غيره، بل يعيش متطفلاً على الناس، يمد يده للناس ويأخذ من هذا ويسرق ويعمل المعاصي التي حرمها الله سبحانه وتعالى، ويعمل ما يريد في الدنيا، ليس له قيمة عند الله عز وجل، ولا عند الناس، ولا في نفسه.
قال: (والخائن) أي: من أهل النار (الذي لا يخفى)، يخفى من الكلمات المتضادة فلها معنيان متضادان، خفي الشيء بمعنى: اختفى، وخفى أيضاً بمعنى: ظهر، فهنا الذي لا يخفى بمعنى: الذي لا يظهر له شيء، (وإن دق إلا خانه) يعني: في طبيعته الخيانة، فأي شيء يظهر له وإن كان ليس له قيمة يخون ويسرقه، فالإنسان الذي في طبعه الخيانة من أهل النار.
قال: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك وعن مالك)، فهو من أصحاب الخديعة، وهو الإنسان الذي يخادع في أي شيء، فيستطيع أن يضحك على الناس وعلى زوجته، أو على بناته وعلى عياله، فهو يضحك على أي إنسان فيخدعه في ماله وفي أهله، وهذا من أهل النار.
قال: (لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك)، وأصبح هؤلاء اليوم كثر، فتجد الإنسان يتعرف على صديقه ثم يخونه في زوجته، أو يخونه في ابنته، يمسي ويصبح وهو على هذا الحال، وقد يكون متزوجاً، وقد يصلي مع الناس في الجماعة، ولكنه يخون الناس ويخدعهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال: (والشنظير)، وهو الإنسان البخيل الذي يمنعه بخله عن التصدق وعن الإنفاق الواجب عليه في أهله وعياله ويمنعه عن الزكاة ونحو ذلك، وكذلك هو الإنسان الكذاب، فهؤلاء من أهل النار الذين ذكرهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر راوي الحديث أنه سأل التابعي الذي روى له هذا الحديث، قال: أفيكون ذلك يا أبا عبد الله؟ وهو مطرف بن عبد الله فقال: (لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي وما به إلا وليدته يطأها) أي: قد أدركت مثل ذلك، وهو أن الرجل يكون راعياً، والناس يأمنونه على الغنم وعلى المكان الذي يرعى فيه الغنم، فإذا به يجد الوليدة الأمة فيزني بها والعياذ بالله، وهذا من الخديعة التي يكون بها صاحبها من أهل النار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(211/9)
تفسير سورة الروم [30 - 34]
التوحيد هو الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وهو الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه، فعلى كل مسلم أن يستقيم على هذا الدين، ولا يتبع سبيل المشركين، ويلزم جماعة المسلمين، ويلجأ إلى الله في كل وقت وحين.(212/1)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفاً)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:30 - 34].
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنين بإقامة الوجوه لهذا الدين الحنيف، الدين القيم دين الإسلام، وهذه فطرة الله التي فطر الناس عليها سبحانه.
فهم مولودون على ذلك، فقد جعل الله عز وجل في قلوبهم هذه الفطرة والاستقامة على دين الله سبحانه، فالقلوب مهيأة لقبول هذا الدين، والخلق مفطورون على ذلك، (ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم على ذلك، فقلوبهم سليمة تقبل التوحيد ودين الإسلام، وتقبل ما يأتيها من شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهم مفطورون منشئون مخلوقون على ذلك، قال سبحانه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
ثم قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30] أي: استقم على هذا الدين، ووجه وجهك إليه وإلى شرع الله سبحانه مطيعاً منفذاً أوامر الله سبحانه، مبتعداً كل البعد عن الباطل، وعن الشرك بالله سبحانه، وعن الأديان الباطلة ومعصية الله سبحانه، حنيفاً مستقيماً على شرع الله سبحانه، وهو كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].(212/2)
تفسير قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله)
ثم قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] أي أن: (كل مولود يولد على الفطرة)، فلا أحد يقدر على تغيير خلق الله سبحانه وتعالى، ولن يلعب الإنسان بهذه الفطرة فيغيرها، هذا يولد على الإسلام وذاك يولد على النصرانية، مع أن كل مولود مفطور على ذلك، وقد ابتدأه الله سبحانه وأنشأه على قلب مستقيم، وهذا مثلما تولد البهيمة فيراها الإنسان سليمة، ثم بعد ذلك يقطع أذنها وأنفها ويدها أو رجلها، فهو في الحقيقة من يبدل ويغير فيها، وكذلك المولود ولله المثل الأعلى.
أما دين الله سبحانه فلن يقدر أحد أن يغيره من قلب المولود الذي يولد إلا أن يكبر هذا المولود، ثم بعد ذلك يهوده أبواه أو ينصرانه أو يمجسانه، أما أنه يولد على غير هذه الملة وهذا الدين فلا، وهذه فطرة الله ولا تبديل لخلق الله.
وقد قيل في قوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، وهذا صحيح أيضاً، وإن كان المعنى الأول أقرب، فإذا قدر الله شيئاً فلن يقدر أحد أن يغير قدر الله سبحانه، فقد خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها؛ لأن الله أعلم بما كانوا عاملين، فهؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وحين يولد يكون الإنسان في بطن أمه، ويبعث الله عز وجل الملك ليكتب عمره وعمله وأجله وشقاوته وسعادته ورزقه؛ فإن هذه الأشياء تحدث قبل أن يعمل الإنسان أي عمل بعد، ولكن الله -بعلمه المحيط سبحانه- علم أن هذا سيعمل بالشر فيكون من أهل الشر والشقاوة في الآخرة، ولم يطلع الله سبحانه وتعالى العبد على ما هو عامله؛ ولذلك فليس للعبد أن يحتج على الله سبحانه وتعالى، فإذا احتج وقال: يا رب كتبت علي ذلك! فإنه يقال له: ومن أعلمك أن الله كتب عليك ذلك؟ (إن العبد يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ويعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فأمر القضاء والقدر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وقد يرى الإنسان وهو في غاية الشقاوة، ثم إذا بالله سبحانه وتعالى يقلب حاله في آخر عمره فيصير من أهل السعادة مطيعاً لله ويموت على ذلك، والعكس كذلك.
فليس للإنسان أن يحتج في حال معصيته ويقول: إن الله قدر علي ذلك وجعلني على هذه الحالة، فنقول له: غير أنت من نفسك، وانظر هل سيثبتك الله على هذا الباطل أم لا؟ فأنت ترى نفسك مختاراً وأنت تعمل، وتشعر بأنك مختار، وتؤمن أن الله هو الذي أعانك على رفع هذه اليد، ولكنك تعرف في نفسك أنك أنت الذي تمد اليد وتقبضها، فالله عز وجل قدر أن تمدها وأن تقبضها، وأعطاك في نفسك اختياراً، فاخترت لنفسك المد واخترت القبض، فاخترت أن تسلك طريق السعادة، واخترت أن تسلك طريق الشقاوة، ولا يوجد أحد يعمل المعصية وهو يشعر في نفسه أنه مدفوع ومكره عليها، فعند اختيار العبد يكون تكليفه وجزاؤه وحسابه عند الله سبحانه وتعالى، مع الإيمان بأن كل شيء تحت تقدير الله عز وجل، وقد كتب عنده سبحانه مصير هذا العبد وإلى أي باب يكون، هل إلى باب الجنة أم إلى باب النار؟ فلذلك قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] يعني: لقضاء الله وقدره، فلا أحد يقدر أن يتدخل في ذلك فيغير ما كتب عند الله في اللوح المحفوظ سبحانه وتعالى، {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
وقد يكون المعنى كذلك أنه من أوامر الله سبحانه ونواهيه، فنقول: إياك أن تبدل في خلق الله! أي: إياك أن تغير أو تتلاعب في الفطر التي فطر الله عز وجل العباد عليها، كأن يقوم الإنسان إلى البهيمة يشق أذنها، والله عز وجل حرم عليه أن يصنع ذلك.
والحق أن الإنسان هو من يغير في خلق الله سبحانه وتعالى، فتجد الرجل يتخنث ويتأنث، وتجد المرأة تترجل وتريد أن تكون كالذكور، (وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).
قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30] فإياكم أن تتدخلوا في خلق الله، وأن تغيروا شيئاً مما خلق الله عز وجل العباد عليه! فيكون على هذا المعنى الثالث نهياً من الله سبحانه وتعالى للعباد عن أن يتدخلوا في الخلق بتغيير أو تحريف لما فطر الله عز وجل عليه الإنسان.(212/3)
معنى قوله تعالى: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
قال: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] أي: أن هذه الأوامر والنواهي، وهذه المعتقدات التي يذكرها الله عز وجل إنما هي ذكر لكم في دينكم، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] أي: المليئ بالقيم، فكله عظمة من عند رب العالمين سبحانه، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] يعني: المستقيم الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج.
قال: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] قالوا: الدين بمعنى: الشريعة، وقالوا أيضاً الدين بمعنى: الجزاء، ومنه قول الله عز وجل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، ولذلك فإن الدين القيم هنا بمعنى: الشريعة المستقيمة، وقد يكون أيضاً بمعنى: هذا الجزاء من الله عز وجل الذي يجازي به خلقه يوم القيامة، فهو الجزاء العادل من الله سبحانه وتعالى، أو هو ذلك الحساب البين من الله سبحانه.
قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وإن علموا فعلمهم بلا عمل، فتجد الإنسان يعلم بالجنة ويعلم بالنار ثم لا يعمل من أجل الجنة ولا يخاف من النار، فهذا هو العلم غير النافع، وهو كالإنسان الذي تعلم أشياء في الدراسة ودخل الامتحان ولم يكتب شيئاً، فإنه لا ينفعه هذا العلم أبداً.
فلذلك يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30]، وقال لنا في أول السورة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] إذاً: فعلم الإنسان عن الآخرة مجرد سماع، أما اليقين الذي يدفعه إلى العمل ويمنعه من الزلل فليس بموجود حتى في قلوب أكثر الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
فالعلوم التي يتعلمونها هي علوم الحياة الدنيا، فيعرفون كيفية الزراعة والحصاد، ومتى تكون مواسم الزراعة، ومواسم كذا، ومواسم كذا، فهم يعرفون ويتعلمون أمور الدنيا، فتجدهم يتخصصون أدق التخصصات، لكنهم إذا جاءوا إلى العقيدة وإلى رب العالمين سبحانه إذا بهم يلعبون، ولا يعرفون شيئاً، فلا ينفعهم علمهم هذا بشيء في الآخرة، قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].(212/4)
تفسير قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه)
قال الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31]، وهذا بعد أن قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:30]، فكأنه أمر له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالتبع، ولذلك جمع بعد ذلك وقال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:31]، إذاً: فأقم وجهك أنت والمؤمنين في حال كونكم منيبين إلى الله، راجعين إليه، تائبين إلى الله سبحانه.
فقوله: (مُنِيبِينَ) الإنابة: هي الرجوع بالتوبة وبالإخلاص لرب العالمين سبحانه، والإقبال على الله بطاعته، أي: راجعين، خاضعين، خاشعين له سبحانه وتعالى.
ومن معاني الإنابة أيضاً: التوبة من الذنوب، يقال: أناب إلى الله أي: رجع إلى الله، ومن معاني الإنابة: الانقطاع عن المعصية، ومنه سمي ناب الإنسان ناباً؛ لأنه يقطع به، فكأن الإنابة مأخوذة من ذلك، فالإنابة بمعنى: الانقطاع عن المعصية، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم:31] أي: واتقوا غضب الله سبحانه وتعالى، واتقوا نار الله، وافعلوا الطاعات التي تقيكم من عذاب رب العالمين سبحانه.
قال: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31] (فاتقوه): عموم، أي: اتقوا الله في كل شيء، ومن تقوى الله سبحانه ما خصه هنا بإقام الصلاة، وبالنهي عن الشرك بالله سبحانه.
قال: {وَاتَّقُوهُ} [الروم:31] أي: خافوه وامتثلوا ما أمركم به، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31]، ونلاحظ أنه كلما جاء في القرآن الأمر بالصلاة قال لك: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، وليس مجرد الأمر بالصلاة فقط، فيكون أي إنسان صلى أي صلاة وانتهى فقد صلى! بل عندما يقول: (أقيموا الصلاة)، (أقم الصلاة)، فيكون أصلها هنا من الاستقامة والاعتدال، والاطمئنان في الصلاة، فتصلي صلاة مودع، وكأنها آخر صلاة تصليها، فإذا صليت صلاة فأحسن هذه الصلاة واعتدل فيها، وهو كقولهم: خذ العود وقومه حتى ينفع ويكون رمحاً قوياً، فتأخذ العود وتعدله على النار شيئاً فشيئاً إلى أن يصير مستقياً، فعندما ترميه لا يحيد عن هدفه ولا يعوج.
وكذلك يجب عليك أن تقوم الصلاة لتصعد إلى السماء ولا ترد عليك، وكم من إنسان يصلي صلاة فلا تقبل منه، وقد تقبل منه بعض الصلاة دون بعضها؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (فيخرج أحدكم من صلاته ليس له إلا عشرها)، وأين ذهبت الأعشار الباقية؟! فقد ضيعها في السهو واللهو والتفكير والبيع والشراء والسوق إلى آخره، وإذا بالشيطان يختلس منه الصلاة شيئاً فشيئاً إلى أن يضيع على الإنسان صلاته، فيخرج أحدكم من صلاته ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا ثلثها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا نصفها، والغالب من الناس يخرج وليس له إلا نصفها، والقلة من الناس من يخرجون ولهم صلاة كاملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر هذا الحديث الذي في سنن أبي داود بدأ من العشر ووصل إلى النصف ولم يزد على ذلك، وكأن ذلك هو الأغلب من أحوال الناس، فلذلك ينبغي على المسلم أن يحسن صلاته قدر المستطاع، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها، بالإضافة إلى أنه يكثر من النوافل؛ لكي يجبر النقص الحاصل في الفرائض فإن ذلك ينفعه يوم القيامة.
قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:31] يعني: استقيموا في صلاتكم، وصلوا لله عز وجل صلاة تكونون فيها خاشعين لله سبحانه، مستحضرين فيها قلوبكم وعقولكم وبصائركم.(212/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا تكونوا من المشركين)
احذروا من الشرك بالله كما قال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] أي: لا توجهوا العمل لغير الله رياءً أو سمعةً، أو عبادة أنداد مع لله سبحانه وتعالى، فلا يكون هناك شرك أكبر أو أصغر أو خفي، ولكن توجهوا لله سبحانه وتعالى ولا تشركوا به شيئاً، قال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:31 - 32] أي: لا تكونوا من المشركين الموصوفين بهذه الصفة، فكأن من المسلمين من يقلدون المشركين في ذلك، فالله سبحانه وتعالى يحذرنا من أن نكون كالمشركين في شركهم، وكذلك من أن نكون مثلهم في بدعهم وفي تفرقهم شيعاً.
وفيها قراءتان: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي: ((من الذين فارقوا دينهم))، وهذا كاليهود والنصارى، فإن الدين جاءهم من عند رب العالمين، فعرفوه ثم بدلوه وحرفوه، ففارقوا بذلك دين رب العالمين سبحانه، فاحذروا أن تبدلوا وأن تحرفوا دينكم فتكونوا كهؤلاء المشركين.
أما الصورة الأخرى: فهي أنهم انقسموا وافترقوا في دينهم على ملل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم؟ قال: من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي).
إذاً: فقد افترقت اليهود والنصارى، وافترق المسلمون كذلك إلى فرق أكثر من اليهود والنصارى إلى ثلاث وسبعين فرقة، والفرقة الوحيدة الناجية: هي التي تتمسك بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا تفرق دينها.
والفرقة الناجية هم: أهل السنة والجماعة، الذين اعتصموا بحبل الله سبحانه، واقتدوا برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فلا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم، فابتدعوا فيه، وجعلوا هؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، وهؤلاء فرقة، فحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وأخبرنا أنه كائن وسيكون ذلك، كما قال الله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:32] أي: فرقاً.
قال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، والمصيبة أن الإنسان إذا بعد عن دين الله سبحانه فعصى الله سبحانه وهو يعرف أنه عصى، فلعله يتوب يوماً من الأيام؛ لأنه يعرف أنه في معصية، لكن المبتدع يظن أنه على خير وطاعة، ويظن أنه أتى بما لم يأت به أحد قبله، فيكون سعيداً فرحاً بما هو عليه، فمن البعد بمكان أن يرجع أو يتوب إلى الله، وكيف يتوب وهو يظن أنه متقرب إلى الله عز وجل بذلك؟! قال: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، فيأخذون بما عندهم، ولا شأن لهم بالذي عندك ولو كان حقاً.
وكم من أهل البدع على ذلك، فإذا قلت لإنسان من أهل البدع: تعال لنتناقش معك في الكتاب والسنة، قال لك: وأي سنة هذه التي ترجع فيها لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأنتم مخترعون لهذه الأحاديث، حتى إن بعض هؤلاء الحمقى والمغفلين عندما تقول له: هذا الحديث في صحيح البخاري، يقول: أنتم الذين ألفتم البخاري! هذا من جهله وحماقته، فلم يطلع هو على البخاري ولا على غيره، ولكنه سعيد بما هو عليه من الباطل والبعد عن دين الله تعالى، فإذا قلت له بالحجة رفضها، ورفض الرجوع إلى كتاب الله، قال الله عز وجل: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32]، فإذا فرح الإنسان بما عليه من البدع صار من البعيد جداً أن يراجع نفسه، أو أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، إلا من رحم الله.(212/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه)
قال الله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] المس: أقل من اللمس، أما الإذاقة فمأخوذة من التذوق الذي يكون باللسان، فكأن التعبير بالمس والذوق يدل على الشيء القليل؛ لأن الدنيا بمصائبها مهما زادت فلن تساوي بجوار عذاب رب العالمين في النار شيئاً، وإنما هي كالمس وكالإذاقة في يسره وقلته.
ولك أن تقارن بين الذوق وبين بلع الطعام، فالذوق بالنسبة للصائم لا يفطر بعكس الأكل الذي يفطره، وهنا يقول: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ} [الروم:33]، فإذا ابتلي الإنسان بشيء يسير من عذاب رب العالمين تاب ورجع إلى ربه وأعطى بذلك العهود والمواثيق كما قال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم:33] يعني: وحدوا الله سبحانه وتعالى وأنابوا ورجعوا إليه.
قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33]، وقد عبر بالذوق هنا كأن الرحمة التي في الدنيا لا تساوي شيئاً بجوار رحمة رب العالمين يوم القيامة، فقد خلق الله الرحمة وقسمها إلى مائة جزء، فجعل في الدنيا رحمة واحدة، وجعل الباقي ليوم القيامة، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى.
ثم إذا أذاق الإنسان منه رحمة، بأن أعطاه قليلاً من المال أو الغنى بطر به وأشرك وكفر، فلا يكون لأمثال هذا قيمة يوم القيامة، ولك أن تنظر إلى آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وخروجاً من النار، وهذا الرجل من عصاة الموحدين، الذين ماتوا على لا إله إلا الله، واستحق بسبب كثرة ذنوبه أن يدخل النار، ثم في النهاية يقول الله عز وجل له: تمن، فيتمنى، ثم يذكره الله عز وجل، فيتمنى ثم يذكره الله إلى أن يعجز عن التمني، فإذا بالله سبحانه وتعالى يقول: أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيفرح العبد بذلك، فيقول الله عز وجل: لك مثله ومثله ومثله، وعشرة أمثاله، فيكون أقل أهل الجنة نصيباً، فلا تساوي الدنيا بأسرها أقل نصيب لأقل إنسان في الجنة! وقد جاء في الحديث أن هذا الإنسان يقول عندما يتجاوز الصراط (لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين).
إذاً: فمهما كان نعيم أهل الدنيا واسعاً فإنه لا يقارن بنعيم أهل الجنة عند رب العالمين سبحانه.
قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً} [الروم:33] أي: شيئاً من رحمة رب العالمين، {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] أي: يرجعون للكفر مرة أخرى، وهو كفر النعمة والجحود، فالإنسان بطبعه يطغى إذا جاءه المال، فينسى ربه سبحانه وتعالى، ويعترض عليه سبحانه ثم يستكبر على الخلق؛ لأن الله أعطاه قليلاً من المال فظن أن لا أحد فوقه.(212/7)
تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)
قال الله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34] أي: فسوف ترون العذاب يوم القيامة؛ لأنكم كفرتم بما أعطاكم الله من المال والغنى، واللام هنا: إما لام الأمر فيكون معناه: التهديد والوعيد من الله سبحانه وتعالى، وإما أن تكون لام العاقبة أو الكيد فيكون معناه: إن الله إذا أنعم عليهم كان عاقبة ذلك منهم {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]؛ لتكون العاقبة أنهم في النار والعياذ بالله، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [الروم:34]، فالكفر بما آتاهم الله سبحانه هو العاقبة لهم.
{فَتَمَتَّعُوا} [الروم:34] أي: في الدنيا، فمهما تمتعتم بها {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، قال: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(212/8)
تفسير سورة الروم [33 - 37]
من الواجبات على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى في سرائه وضرائه، لا أن يلجأ إلى الله في حال الشدة والكرب فقط كما هو حال المشركين، ثم ينقلبون إلى الشرك بمجرد أن ينجيهم الله من الكرب الواقع بهم، فإذا لجأت إلى الله تعالى في حال الشدة والرخاء معاً فتح لك من أبواب خزائنه التي لا تنضب، وبسط لك رزقه من حيث لا تعلم.(213/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:33 - 39].
في هذه الآيات من سورة الروم يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسان فيقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، ففي وقت نزول البلاء، وفي وقت نزول الشدة والمصائب، وفي وقت قحط المطر وشدة الناس في طعامهم وشرابهم يبتليهم الله سبحانه وتعالى، فإذا بهم يرجعون إلى الله ويدعونه وحده لا شريك له، قال: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} [الروم:33]، والتعبير بالمس دال على أقل شيء يمسه من الضر، فإذا بهم يدعون ربهم ويرجعون إليه سبحانه وتعالى متأدبين منيبين راجعين تائبين من ذنوبهم، والإنسان في وقت بلائه يفعل ذلك، ويرجو أن يكشف الله عز وجل عنه ضره، قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، ورحمة الله عظيمة واسعة، وأعظم ما تكون يوم القيامة، فقد قسم الله عز وجل الرحمة مائة جزء، فجعل منها جزءاً واحداً في الأرض يتراحم منه الخلق جميعاً، الإنس والجن والبهائم، وأبقى عنده تسعة وتسعين جزءاً ليرحم به الخلق يوم القيامة، ويضيف إليهم هذا الجزء الذي كان بينهم في الدنيا، فهنا إذا أذاقهم شيئاً من رحمته سبحانه وتعالى إذا بهم يشركون، والمفترض بالإنسان إذا ذاق البأساء والضراء، وذاق كيف تكون الشدة في الدنيا، ودعا ربه وأناب إليه، فمن المفترض أن يظل على ذلك دائماً، فيدعو الله عز وجل تائباً إليه مستقيماً على الصلاة.
ولكن الإنسان معوج بطبيعته لا يستقيم، فإذا أذاقه الله عز وجل شيئاً من الرحمة، وعبر: بأذاقه، وكأنه مهما أوتي من شيء في هذه الدنيا فهو قليل، لكن أن يطعمك حقيقة فهذا في الجنة، ويوم القيامة، لكن في الدنيا يذيقك ويمسك فيعطيك شيئاً يسيراً، وإن كانت رحمة الله عز وجل كلها عظيمة.
قال: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، والفريق الآخر مستمرون على التوحيد، وفريق يكفرون بالله سبحانه، ويجحدون نعم الله عز وجل، إما كفراً أكبر فيخرجون من دين الإسلام، وإما كفر جحود، كأن يقال لأحدهم: إن الله أعطاك فاحمد الله، فيقول: قد وقعت بي مصيبة ووقع لي كذا! فيجحد، وكأنه يحتقر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه، فهذا من كفر الإنسان وجحوده، قال الله عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7]، فسيشهد على نفسه بذلك، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات:8] أي: المال، {لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] يحب المال كثيراً، ويحب أن يعطيه الله عز وجل الرزق الواسع العظيم، وينسى الدار الآخرة، فلذلك يقول تعالى هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33] أي: ينسبون الفضل إلى غير الله سبحانه، فتجد الإنسان يعطيه الله مالاً ثم يقول: فلان أعطاني كذا، وينسى الله سبحانه وتعالى! فيشكر فلاناً، وينسى أن يحمد الله سبحانه ويشكره على ما أعطاه.
يقول هنا: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم:33]، والتعبير بالفريق هنا يدل على عدم شرك الفريق الآخر، وهم أهل التوحيد، أهل الإيمان الخالص، عباد الرحمن سبحانه، الذين يعبدونه ويرجونه في السراء والضراء، فإن أنعم عليهم الله عز وجل وخافوا، وإن أنزل بهم من بأسه وضرائه إذا بهم يجأرون إلى الله في كل وقت بالدعاء حامدين شاكرين صابرين محتسبين شاكرين ربهم سبحانه وتعالى، أما الفريق الآخر من العباد فهم الذين يشركون، وهذا الصنف هو الأكثر غالباً، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فالذين يشكرون الله سبحانه وتعالى حق الشكر ويحمدونه حق الحمد قليلون، والكثيرون يقولون: الحمد لله، وقد يقولها بلسانه ولكن قلبه لا يوافقه على ذلك، فتجد الإنسان إذا أتته نعمة فقلت له: احمد الله تعالى، قال لك متذمراً: نحن نحمد الله دائماً! وكأنه معترض على الله، ولو لم يقل ذلك لكان أفضل له، فيقولها معترضاً على ربه سبحانه، ولكن المؤمن يحمد الله سبحانه، ويعلم أن وراء البلية خير عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق عليه يقول: الحمد لله وسيعوضني الله يوم القيامة، فالمحصلة والمخزن والحصالة حقي عند الله سبحانه تبارك وتعالى يدخر لي ذلك، فالإنسان المؤمن يرجو فضل الله ورحمته سبحانه فيشكره، وقليل من عباد الله الشكور.(213/2)
تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)
قال الله: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الروم:34]، واللام هنا: إما لام الأمر وإما لام كي، وكأنه أمر للتهديد والوعيد، كقوله سبحانه: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]، فأين ستذهب من الله؟ فلام الأمر هنا تفيد التهديد والوعيد، ولام كي تفيد التعددية، وكأن المقصود بها هنا: العاقل، أي: لتكون عاقبتهم أن يكفروا بالله سبحانه وبما آتاهم، فيعاقبهم الله يوم القيامة على ذلك.
قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا}، يقول للعباد: تمتعوا بما آتيناكم في هذه الدنيا، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}، أي: سترون يوم القيامة أن هذه الدنيا كانت تافهة لا قيمة لها، إذ إنكم فرحتم بها وضيعتم الآخرة.(213/3)
تفسير قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون)
يقول سبحانه: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]، والمقصود بالسلطان: كتاب وعلم من عند الله سبحانه، يعني: هل آتيناهم كتاباً يتكلمون به ويحاجونك به يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟! وهل يتكلم هذا الكتاب الذي عندهم بما كانوا به يشركون؟ فليس عندهم أثارة من علم على ذلك، وليس للكفار شيء إلا الهوى، وليس عندهم إلا الباطل والكذب، والاستفهام هنا معناه: النفي، أي: ليس عندهم كتاب ولا حجة ولا برهان من الله سبحانه، فالسلطان هنا مأخوذ من التسلط، والتسلط قد يكون بالقوة، وقد يكون بالحجة والبيان، فالمعنى هنا: هل معهم ما يتسلطون به عليكم ويحاجونك ويجادلونك به من عند رب العالمين؟ والجواب لا، ليس عندهم ذلك، فلم يكذبون ويكذبون؟ قال تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35] يعني: هل هذا السلطان والكتاب والعلم يخبر {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم:35]؟
الجواب
لا.(213/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها)
قال سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36] أي: إذا أذقنا الناس رحمة منه سبحانه، ورحمة الله عظيمة واسعة، فرحمته في الدنيا: ما يراه الإنسان من صحة وعافية، ومن مال وسعة في الرزق، ومن مطر ينزل عليه من السماء، فرحمات الله عز وجل عظيمة على عباده.
فإذا أذاق الإنسان رحمة من خصب وسعة، من عافية ومطر، من أمن ودعة، إذا أعطاهم شيئاً من ذلك فرحوا به.
قال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36]، والسيئة هنا: بمعنى المصيبة والبلية التي هي من بليات الدهر والزمان، فالله عز وجل يبتليهم بها، قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الروم:36]، فما أصابك من مصيبة فبما كسبت يداك، وما ابتلاك الله سبحانه وتعالى به فهو ناتج بما جرت به يدك من آثام ومعاص، فيذيق الله عز وجل العباد بسببها عقوبتهم في الدنيا.
قال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الروم:36]، أي: ما يسوءهم بسبب ما اكتسبوه من المعاصي، {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم:36]، والقنوط: بالطاء اليأس، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} بفتح النون، وقراءة أبي عمرو ويعقوب والكسائي: {إِذَا هُمْ يَقْنِطُونَ} بكسرها، وليس فيها (يقنُطون) بالضم، فهي ليست قراءة ولا لغة فيها.
قال: ((إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ))، أي: ييئسون إذا أصابتهم المصيبة، وهذه عادة الإنسان إذا مات له قريب، أو حبيب يحبه، فإنه يقنط وييئس ويتضايق، ولا يطيق أحداً، وبل يظل على ذلك عمراً طويلاً في يأسه وفي ضيقه بسبب هذا الأمر الذي نزل به، فجاء دين رب العالمين ليجعل لنا حدوداً لا يجوز تجاوزها، فإن حزنت فلا تتجاوز الحدود فتيئس من رحمة الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فلا تقنط ولا تيئس ولا تعترض على أمر الله تعالى وقدره.
وهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا)، وهذا لما مات ابنه إبراهيم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يحزن وتدمع عيناه ولا يمنعه ذلك من أن ينصح الناس، فالناس يقولون: خسفت الشمس لموت إبراهيم، فإذا به مع شدة حزنه يقول للناس: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، فهو يعلمهم مع أنه صلوات الله وسلامه عليه حزين وفي قلبه الرحمة على ابنه، لكنه لا يعترض على أمر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر أن لـ إبراهيم مرضعة عند الله عز وجل تكمل رضاعه، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن لابنه عند الله ما هو خير له مما في هذه الدنيا، وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد ابنه بشهور عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان قد يأخذه الحزن الشديد فيجب عليه ألا ييئس، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم مات ابنه وحزن عليه صلى الله عليه وسلم ثم مات بعده بشهور، فإذا مات لك قريب أو إنسان حبيب فلا تحزن عليه جداً؛ لأنك لا تدري لعلك تلحقه بعد ذلك، فإذا اعترضت على أمر الله سبحانه ثم مت على هذا الاعتراض فإنها مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة، ولكن المؤمن يصبر على أمر الله سبحانه، ويرضى بقضاء الله وقدره، فإذا بكى بكى بصوت هادئ، فلا يصيح ولا يعترض على قضاء الله فليس له ذلك، (فالنائحة من النساء تأتي يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هذه النائحة من النساء فما بالك بالرجال الذين يفعلون كالنساء؟! فالغرض أنك لا تعترض على الله سبحانه، بل للإنسان الإحداد على الميت ثلاثة أيام فقط وليس له أكثر من ذلك، بل إذا كان أقل من ذلك فهو أفضل؛ لكي لا يظهر الحزن والجزع؛ لأن هذا شيء في القلب، وإذا دمعت العين فلا شيء في ذلك، أما المرأة فإنها تحد على الزوج أربعة أشهر وعشراً، فيجب على الإنسان ألا يتجاوز الحد المحدود له شرعاً، وألا يزيد في أمر البكاء وتهييج المشاعر بحيث يصل به الحال إلى الاعتراض على الله سبحانه وتعالى.(213/5)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء)
يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:37] (أو لم يروا) أي: أفلا ترون ذلك؟ أن الله يعطي ويمنع، يرفع ويضع، يبسط ويوسع، يقدر ويضيق، فيبسط لمن يشاء ويضيق على من يشاء، ولا يعني أن من بسط له في الرزق أن الله يحبه، فالله عز وجل يضيق على من يشاء، ويوسع لمن يشاء لحكمة يعلمها هو، فقد ضيق على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى فتحت له في آخر حياته الفتوح فلم يستمتع بها صلى الله عليه وسلم، بل توفي عليه الصلاة والسلام ولم يستمتع من الدنيا بشيء، ولذلك كان بعض الصحابة يأكل خبز الشعير وخبز القمح ويقول لمن حوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شبع من خبز الشعير ثلاثة أيام، صلوات الله وسلامه عليه، ونحن نأكل خبز القمح ثم ننام -كما نزعم- جائعين مع ذلك! وهو صلى الله عليه وسلم لم يشبع من الخبز الحاف، فضلاً عن خبز القمح، فما ذاقه النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان يأكل خبز الشعير عليه الصلاة والسلام، وكان يضع الحجر على بطنه من شدة الجوع ليلة وراء ليلة، وهو لا يجد ما يأكله صلى الله عليه وسلم، فلما فتحت عليه الدنيا وفتحت له الفتوح عليه الصلاة والسلام إذا به يقول: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)، فهذا المال ليس لي ولا لأهلي من بعدي، بل هو مال الله عز وجل، فليس لي من مغانمكم أموالكم إلا الخمس، قال: (والخمس مردود عليكم) أي: وحتى الخمس الذي له صلوات الله وسلامه عليه مردود على الناس، يعطيه للضيف ولابن السبيل ونحوهما، هذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(213/6)
تفسير سورة الروم [38 - 39]
إن الله تعالى هو الرازق وحده لا شريك له، ومن حكمته أن جعل بعض الناس غنياً وبعضهم فقيراً، وقد أمر أهل الغنى أن يتصدقوا على ذوي القرابة والمساكين وابن السبيل، فهؤلاء لهم حق من أموال الأغنياء، فمن أعطاهم حقهم ضاعف الله له الأجر وخلف عليه في الرزق، ولا يجوز استغلال حاجة الفقراء بأن يتعامل معهم الإنسان بالربا، ومن فعل ذلك يريد كثرة ماله فلن يكثر ماله عند الله، بل يمحقه الله وينزع منه البركة، فيخسر صاحبه الدنيا والآخرة.(214/1)
تفسير قوله تعالى: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:38 - 40].
في هذه الآيات من سورة الروم يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتبع بإيتاء ذوي القربى حقوقهم وكذلك المساكين وأبناء السبيل، قال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38]، فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأسوة والقدوة الحسنة صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ} [الروم:38]، فجمع، فدل على أن ما في أول الآية ليس المقصود النبي صلى الله عليه وسلم وحده، إنما المقصود المؤمنون من بعده.
قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ} [الروم:38] (خير) أفعل تفضيل بمعنى أخير، أي: أفضل للذين يبتغون وجه الله سبحانه وتعالى، والمؤمنون الذين يخلصون لله لا يريدون حطام الدنيا بأعمالهم التي يتقربون بها إلى الله عز وجل، وهؤلاء هم المفلحون الذين يؤتون الحقوق لأصحابها.
قال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم:38]، فهؤلاء لهم حقوق، والإنسان يجب عليه حق في بدنه، ويجب عليه حق في ماله، فحق البدن لله عز وجل ما يقوم به من عبادات لله سبحانه، يبذل لله في صلاته، في صومه، في حجه، فيتقرب إلى الله سبحانه بأعمال بدنية يبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى كالجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أعمال بدنية يبتغي بها وجه الله سبحانه.
كذلك الأعمال المالية يتقرب بها العبد إلى الله، بالزكاة المفروضة، بالصدقة، بالإنفاق الواجب على نفسه وعلى زوجه وعلى عياله وعلى رقيقه وعلى أبيه وعلى أمه، وعلى من يحتاج من أقاربه إذا لزمه أن ينفق عليهم، قال سبحانه معمماً ذلك: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38] أي: أعط كل ذي حق حقه، وهذه الآيات من سورة مكية، ولكن جاء التفصيل بعد ذلك في السور المدنية في أمر الزكاة وما ينبغي فيها، وجاء تفصيلها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فمما جاء في القرآن في بيان هذه الزكوات قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60] فريضة افترضها الله سبحانه، والذي قسمها ووزعها الله سبحانه وتعالى، فهنا أجمل في هذه الآية المكية فقال: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38] يعني: كل من كان قريباً لك واحتاج أو وجبت عليك النفقة على هذا الإنسان أو كان معك زكاة ويلزمك أن تخرج هذه الزكاة فالقريب أولى بالمعروف من غيره، وقد جاء في أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين فيها أن إيتاء الزكاة لذوي القربى وإيتاء الصدقات لذوي القربى أنفع للإنسان في الدنيا وفي الآخرة، حيث يصل رحمه بذلك، ويحبه قريبه، والإسلام يدعونا للتعارف مع الغرباء قال الله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فيتعارف المؤمن مع غيره فكيف بالقريب؟! فمن باب المودة والرحمة أن تعطي الزكاة لهذا القريب، وتعطيه النفقة، وتعطيه الصلة، فيحبك هذا الإنسان القريب، وإذا زادت المحبة وجد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان بين القريب وقريبه محبة، يقول له: لا تعمل هذا؛ فهو حرام، فيستحيي منه ولا يفعل هذا الشيء، لكن لو لم توجد بينهما مودة يقول لك: لست علي رقيباً! فالإسلام الدين العظيم يأمر الناس بالتعارف، والتعارف وسيلة لإقامة دين الله عز وجل في الأرض.
ولا يجوز للإنسان إذا رأى من يعمل شيئاً من المنكرات أن يقول: ما لي دخل، ربنا سيحاسبه، له أفعاله ولي أفعالي! ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ فتشيع الفواحش بين الناس بسبب ترك هذه الفريضة.(214/2)
فضل الصدقة على ذوي القربى
قال الله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم:38]، جاء في حديث ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها اعتقت وليدة، بعد أن عرفت الثواب العظيم في العتق، وأن الذي يعتق رقبة يفك الله عز وجل بكل عضو منها عضواً منه من النار، فتقربت إلى الله عز وجل وأعتقت وليدة كانت عندها، فلما أعتقتها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أعتقت فلانة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أو قد فعلت؟ قالت: نعم.
قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) يعني: أنت تصدقت لله سبحانه، وأعتقت هذه الرقبة ولك أجر عظيم، لكن أخوالك كانوا محتاجين لها، فلو أنك بدل ما تعتقيها أعطيتيها لهم؛ لكان أعظم من أن تعتقي هذه الأمة.
وفي الحديث الصحيح عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح) أي: المخاصم لك والذي يبغضك، فالصدقة عليه فيها أجر الصدقة وصلة الرحم وإزالة البغضاء والعداوة التي بينكما.
وعن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة).
فعندما تريد أن تتصدق انظر، فإن وجدت فقراء مساكين غرباء، ووجدت قريباً لك فقيراً، واستوى الاثنان في الحاجة، فقدم القريب، وإن كان الإنسان الغريب أشد حاجة من القريب، ويريد شيئاً يعيش به وإلا سيموت، والقريب عنده قوته لكن يريد الزيادة؛ فهنا الغريب يكون أولى بالصدقة، لتنقذ نفساً من التلف، ولكن إذا استوى الغريب مع القريب في الحاجة فالقريب أولى، ولك أجر الصدقة وأجر الصلة.
وكل نفقة تنفقها لك فيها أجر من الله سبحانه وتعالى، إذا ابتغيت الأجر، حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك لك فيها أجر، وعندما يطعم الإنسان عياله له الأجر على ذلك، وإذا أعطى ذي الرحم الكاشح النفقة أو أعطاه الصدقة، فله الأجر المضاعف من الله عز وجل.(214/3)
الترغيب في الصدقة من رزق الله
قال الله: {َإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم:36 - 37] لماذا تقنط؟ ولماذا تفرح وتفتخر بهذا الشيء على غيرك؟ فالذي يبسط الرزق والذي يقدر الرزق ويضيقه هو الله سبحانه وتعالى، فإذا أتاك الرزق الواسع لا تظن أن الله أعطاك هذا الرزق؛ لأنه يحبك ولكن احمد ربك سبحانه وتعالى وخف من الفتنة في هذا الرزق الواسع، وإذا ضيق عليك الرزق فلا تظن أنه لا يحبك، فتضييق الرزق أو توسيع الرزق ليس دلالة على حب الله عز وجل أو بغضه للعبد.
فالمؤمن إذا آتاه الله عز وجل مالاً ورزقاً يشكر ربه سبحانه، ويحمد الله سبحانه، ويعطي الحقوق لأصحابها، ويخاف على نفسه الفتن في هذا المال.
وإذا ضيق الله عز وجل عليه في الرزق، يحسن الظن بالله سبحانه، فيقول: الله سبحانه فعل ذلك ليدخر لي الأجر عنده يوم القيامة، لكن الكافر إذا أعطاه الله عز وجل المال يفرح بهذا المال، ويقول: الله يحبني؛ لأنه أعطاني هذا المال، ويطغى على غيره من الخلق، فإذا أصابته المصيبة يقنط من رحمة الله وقد ينتحر؛ لأنه يائس من رحمة الله سبحانه.
وهذا الدين العظيم يعلمنا أن متاع الدنيا قليل، ومهما أوتيتم فيها فحطام الدنيا لا يساوي شيئاً، فالمؤمن يعبد الله سبحانه، ويبتغي الأجر في الآخرة.
ثم ذكر الله أنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهذا تمهيد لما بعدها وهو قوله: {َآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الروم:38].
ومن أسباب بسط الرزق أن تخرج النفقات وتعطيها لأهلها، (وما نقص مال من صدقة)، مهما تصدقت فالله يزيد لك من هذا المال، فكن على يقين بما عند الله سبحانه، ورزق ربك خير وأوسع وأعظم.
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم:38]، فأعط المسكين حقه من الزكاة الواجبة، ولابن السبيل كذلك.(214/4)
الإخلاص في الصدقة
قال الله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:38] أي: ذلك الإعطاء والإيتاء خير للذين يريدون وجه الله، ما قال: ذلك خير للناس كلها، فيوجد إنسان يعطي يبتغي الدار الآخرة، وإنسان يعطي من أجل الدنيا، فمن ابتغى الدار الآخرة فهذا الذي له الخير، ومن يبتغي الدنيا قد يحصل له ما يريده وقد لا يحصل له، وهذا يوضحه الآية التي تليها، والقرآن في تسلسل الآيات عجيب وعظيم وجميل، تجد الآية مرتبطة بما قبلها وما بعدها! فانظر إلى التمهيد الذي ذكره الله عز وجل في أنه هو الذي يعطي، وهو الذي يبسط الرزق، وهو الذي يقدر الرزق، والإنسان طبيعته أنه كنود، إذا أعطاه الله المال فرح، وإذا ضيق عليه حزن وجزع، فهنا يقول لك: أعط هذا المال ولا تخف؛ فإن الله هو الذي يبسط الرزق، وهو الذي يضيق على من يشاء.
فالذي يبتغون وجه الله بالإعطاء أولئك هم المفلحون، ينجحون النجاح الأبدي، وفرق بين نجح وأفلح، النجاح قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة، ولكن الفلاح لا يكون إلا في الآخرة، الفلاح هو النجاح الدائم الذي لا خسران بعده أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المفلحين.(214/5)
تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس)
قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] هذه الآية متعلقة بما قبلها، انظروا كيف بدأ الله سبحانه يذكر أن الإنسان عندما يعطيه الله رحمة من عنده سبحانه من مال ومن خير يفرح به ويفخر على غيره، وإذا ضيق الله عز وجل عليه يقنط، فكأن الله يقول: ظن بالله ظن الخير، وأحسن إلى الخلق، فالله يعطي والله يمنع، الله يقبض والله يبسط، {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ} [الروم:38]، سواء ضيق الله عليك أو وسع عليك، أعط رزقك، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
قوله سبحانه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] الربا حرم في سورة البقرة وهي مدنية، وهذه الآية مكية، وهنا ذكر الربا وكأنه تمهيد لتحريمه، وقد كان المنع من الربا نهائياً في خطبة الوداع حين قال صلى الله عليه وسلم: (وكل ربا الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول رباً أضعه ربا العباس)، فكان يوجد ربا للعباس رضي الله عنه في الجاهلية يتعامل به، فلما أسلم كان لا يزال يتعامل به، حتى حرم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في خطبة حجة الوداع.
وقول الله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] لها معنيان: معنى الربا المعروف، ومعنى آخر مقصود وهو المقدم هنا في هذه الآية، فالربا أصله من الزيادة، فقالوا: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} [الروم:39] هي الهدية، وما هو وجه الربا في هذه الهدية؟ قال ابن عباس: الربا نوعان: ربا حلال وربا حرام، الربا الحلال: هو الذي لا أجر لك فيه عند الله سبحانه وتعالى، وهو ما يفعله الناس فيما بينهم من هدايا، يعطي إنسان لأخيه هدية، أو يعطي ابنه إذا نجح هدية، وهذا هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى هنا، وهو المقصود بهذه الآية، وأكثر المفسرين من الصحابة والتابعين على هذا المعنى، {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39] يعني: ليس لك أجر فيه عند الله سبحانه، تعطي هدية وتنتظر جزاءها، وبعض الناس ينتظر مثلها، وبعض الناس ينتظر أعظم منها، فالغني إذا أعطي هدية بجنيه، قد يرد بهدية بمائة جنيه، فهذا من أبواب الربا الذي ليس بحرام إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو محرم على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له الله في سورة المدثر: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] يعني: لا تعط هدية تبتغي أكثر منها، لا تعط عطاءً تنتظر الرد أعظم منه، بل إذا أعطاك إنسان عطاء فأعطه مثله ومثليه وعشرة أمثاله، فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن يعطي أكثر مما يأخذ عليه الصلاة والسلام، أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فبعضهم قد يعطي الهدية للقريب أو لغيره وينتظر عليها ما هو فوقها وما هو أعظم منها، وهذه الهدية ليس للإنسان أجر فيها، أما إذا أعطيت الهدية تبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، وتبتغي صلة الرحم، فلك الأجر عند الله، وإذا ابتغيت أن يؤدى لك أكثر منها فليس لك أجر، وليس هذا حراماً عليك، ولكنه حرام على النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولكن ائتس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أعطيت هدية فلا تنتظر الرد أعظم منها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(214/6)
تفسير سورة الروم [39 - 41]
يحث الله المؤمنين على الصدقة والإنفاق في سبيله، والمتصدق مآل ماله إلى الزيادة والنماء، بخلاف المرابي فإن الله يتلف أمواله ويمحقها، والله هو الذي خلق الخلق وأعطاهم الرزق والأموال، ولا يستطيع أحد من المعبودات من دون الله أن يفعل شيئاً من ذلك، ومع هذا فأكثر الناس يجحد نعم الله سبحانه ويفسد في الأرض بالمعاصي والذنوب.(215/1)
تفسير قوله تعالى: (وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:39 - 41].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أن الإنسان مهما أتى من مال يبتغي به الدنيا فالله عز وجل قد يعطيه وقد لا يعطيه، فمن كان يريد الحياة الدنيا يعجل الله عز وجل له فيها ما يشاء لمن يريد سبحانه تبارك وتعالى كما قال تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18].
فليس كل من طلب الدنيا نالها وأخذها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] وكأن طالب الدنيا قد يطلبها ويعطيه الله عز وجل وليس له في الآخرة نصيب، وقد يطلبها ولا يعطاها ولا يأخذ شيئاً من الدنيا، وكذلك ليس له في الآخرة من نصيب.
أما طالب الآخرة فلا يحرم أبداً، لا يحرم من ابتغى وجه الله سبحانه، ومن أراد بعمله الصالح الثواب والدار الآخرة فهذا لا يحرم أبداً، ويعطيه الله رحمة في الآخرة من فضله ورحمته سبحانه.
قوله: (وما آتيتم من رباً) ذكرنا أن الربا قسمان: ربا نزلت الآيات في تحريمه، قال الله سبحانه في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]، وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] إلى غير ذلك مما ذكر الله عز وجل في أمر الربا، فآكل الربا يستحق حرباً من الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، ويستحق أن يمحق الله عز وجل عنه البركة في الدنيا، وأن يكون من أصحاب الكبائر في الآخرة، فهذا آكل الربا، والإنسان الذي يعطي الصدقة له الفضل عند الله سبحانه والأجر العظيم، وانظر كيف قرن بين الربا وبين الصدقات؛ لأن الناظر إلى الربا بنظرة دنيوية يرى أن الربا يزيد المال، فيقول: سندينك ألفاً فتقضينا ألفين، وسندينك عشرة فتعطينا خمس عشرة، فينظر بهذه النظرة أن هذا الربا سيزيد المال، وربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة:276]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا عاقبته إلى قلة) وإن كثر فعاقبته إلى قلة، إلى النقصان، فمال الربا مال ضائع في النهاية على صاحبه، فيبتدئ الله عز وجل صاحبه إما بمحق ماله وإما بتحسيره على هذا المال، فيتحسر عليه وهو يضيع منه، أو لا يستطيع أن ينتفع به، أو تنزع منه بركته، أو ينظر في حسرته وما يكون من أمره يوم القيامة.
أما الصدقة وإن كان الناظر إليها في الدنيا يظن أن فلاناً يضيع ماله، كل وقت وهو يخرج صدقة وراء صدقة، وسينتهي ماله، ولكن الله عز وجل يذكر لنا أنه يمحق الربا ويربي الصدقات، والربا: أصله الزيادة والنماء، فلما أراد الإنسان الزيادة والنماء بالحرام محقه الله سبحانه، ولما أراد أن ينفق ماله ويصرف هذا المال في طاعة الله نماه الله وبارك له فيه، وزاد له هذا المال، لذلك قرن الله بين الاثنين: الربا والصدقة فذكرهما في هذا الموضع من سورة البقرة قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276].
وهنا صورة أخرى من صور الربا، ولكنها ليست بالصورة المحرمة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناها في الحديث السابق، وهو نوع من أنواع الزيادة في المال، وهي الهدية، أن أعطيك هدية تساوي كذا فتعطيني أحسن منها، فهذه جائزة بين الناس، ولكنها ليست محمودة، ولذلك نهي عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له ربه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] يعني: لا تمن بالعطاء لتطلب استكثارًا من أموال الناس.
يقول الله سبحانه: (وما آتيتم) وهذه فيها قراءتان، وما (آتيتم) هذه قراءة الجمهور بالمد، وقراءة ابن كثير (وما أتيتم)، فإذا وصل ابن كثير يقول (وما أتيتمو من ربا) بمعنى: جئتم، كأنه هذا الشيء يؤتى فذهبتم إليه، هذا على قراءة ابن كثير، وقراءة الجمهور بمعنى: ما أعطيتم من هدية تطلبون عليها هدية أحسن منها في الدنيا، فعلى ذلك هذا من الربا غير المحرم، وإنما هو صورة من الصور، وهذا مكروه وليس محرماً، إذا فعله إنسان لا يأثم، وكثير من الناس يفعلون هذا، يعطي أحدهم هدية إلى إنسان وينتظر أن يعطيه أحسن منها.
قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم:39] (ليربو) هذه قراءة الجمهور، و (لتربوا في أموال الناس) قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، يعني: لتزيدوا، وهنا فيها معنيان: المعنى الأول: ليربوا في أموال الناس يعني: أنت أعطيت من مالك لأجل أن يزيد عند فلان، حيث يرد لك أحسن منه، وهذا يسمى الإثابة على الهدية، والإثابة: هي أن يعطيه الإنسان ثواب هذه الهدية، وهذا مثلما تذهب إلى شخص في العيد، فتعطي كل واحد من عياله خمسة جنيه، وتنتظر أن يأتي فيعطي عيالك عشرة جنيه لكل واحد منهم، فهذا ليس حراماً، ولكن يكره هذا الشيء.
وبعض العلماء كـ ابن عباس وغيره يقول: هذه آية نزلت في هبة الثواب، ويذكر بعضهم مثل الشعبي يقول: معنى الآية ما خدم الإنسان به أحداً وخف له لينتفع به في دنياه.
ويقول ابن عباس أيضاً: نزلت في قوم يعطون قرابتهم وإخوانهم لأجل نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ليزيدوا في أموالهم، وكأنها هنا صورتان: الأولى: يعطي الشخص لأجل أن يعطيه أكثر، والصورة الثانية يعطي أقرباءه من المال لأجل أن يظهروا أنهم أغنياء، فيفتخر بأن أقاربه أغنياء، فهذا عطاء للدنيا ليس فيه ثواب؛ لأنهم طلبوا هنا المظهر، وهنا فرق بين أن يعطي الأقارب ويريد أنه يبقى عندهم مال، ليس للمظهر وإنما لأجل أن ينفق القريب على عياله، حتى لا يبقى عالة يمد يده للناس، فهذا له أجر عظيم عند الله سبحانه، الفعل واحد، والنية تخالف بين عمل وعمل آخر، فقد تعطي أقرباءك تبتغي النفع لنفسك، فتقول في نفسك: إما أن أعطيهم لأجل أن يعطوني بعد ذلك، وإما أن أعطيهم حتى يكونوا تبعاً لي، فأكون أمشي وهم يمشون ورائي، وأتكلم فيسمعون لي، لأنني أعطيهم مالاً، فهذا كله لا أجر فيه في الآخرة، إنما الأجر في الآخرة أن تعطي دون مقابل، ولذلك كانت الصدقة على ذي الرحم الكاشح أفضل من الصدقة على ذي الرحم المواصل؛ لأنك أعطيت شخصاً تستجلب فيه المودة، وليبقى بينك وبينه إحسان، فإذا أعطيت الرحم الكاشح كان خيراً لك من إعطاء غيره.
وهذه الآية: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ} [الروم:39] تمهيد لتحريم الربا، فإن ربنا سبحانه وتعالى يحذر في هذه الآية المكية من الربا، وكأنه يقول: إننا سنحرمه بعد ذلك، فالربا لا يربو عند الله سبحانه، والربا معناه: أن تعطي إنساناً نقداً، ثم تطلب منه أكثر من ذلك قضاءً، كإنسان يقرض قرضاً فيطلب عليه فائدة، فهذا هو الربا.(215/2)
معنى قوله تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله)
قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] في سورة البقرة قرن الربا بالصدقة، وهنا قرن الربا بالزكاة، والحكمة هناك وهنا قريبة من المعنى، فالزكاة إيتاء وإعطاء وإنفاق، ولا تنتظر مقابلة رداً ولا زيادة، فتخرج زكاة مالك وتعطيها للفقير، ولا تنتظر من الفقير أن يعطيك عليها شيئاً، ولكن انتظر من الله سبحانه تبارك وتعالى، والربا: أن تعطي ليرد إليك الأصل وزيادة، فالربا في نظر المعطي سيزيد المال، وعند الله عز وجل يمحق المال، والزكاة في نظر المعطي تنقص من ماله، ولكن عند الله عز وجل يضاعف لك هذا المال، فيقرن بين الربا وبين الزكاة ليريك الفضل من الله سبحانه، ولتنفق من أجله، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ} [الروم:39] بشرط: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم:39] فقد يعطي الإنسان الزكاة يبتغي بها وجه الله، وقد يعطيها وهو مكره على ذلك، فيأتي الحاكم يأخذها منه غصباً عنه، فتسقط عنه الزكاة ولا أجر له! قد نقول: إن العبادة صحيحة، ولكن قد لا يؤجر عليها صاحبها، ومعنى صحيحة: أنه لا يلزمه أن يعيدها مرة ثانية، فإذا أخذت منه زكاة ماله قهراً فقد برئت ذمته، ولكن هل له فيها أجر؟ لا يكون الأجر إلا لما يبتغي به وجه الله عز وجل.
قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] (المضعفون) أي: كأنهم أصحاب الأضعاف المضاعفة عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقال: رجلٌ مضعِّف يعني: له أجر مضاعف عند الله سبحانه، ويقال: رجل مسمن يعني: عنده إبل مسمنة، ورجل معطش يعني: عنده إبل عطاش أو عنده أناس عطاش، فكأن هذا الذي هو مضعف يضاعف له الخير عند الله عز وجل، ويضاعف له الثواب عنده، كما قال الله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245] فإذا أقرضت الله وأعطيت لله فإن الله يضاعف لك الأجر عنده.
وكذلك قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة:265] آتت أكلها ضعفين هذا من رحمة الله وفضله، أن يضاعف الثواب لمن يبتغي وجه الله سبحانه، وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).(215/3)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم)
لما ذكر الله أمر الربا والزكاة قال بعد ذلك: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40].
وانظر إلى ارتباط الآيات قبلها، فذكر أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن المال مال الله سبحانه، يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء سبحانه، ويوسع ويبسط على من يشاء، ويقدر ويضيق على من يشاء، فالمال مال الله، ثم ذكر آية الربا والزكاة، ثم ذكر بعدها أن المال مال الله، والخلق خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، فانظر إلى هذا الترتيب البديع الجميل! قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40].
فتنظر بدء الخلق كيف كنت في بطن أمك، من الذي يطعمك ويسقيك وأنت بداخل أحشاء أمك؟! الله سبحانه تبارك وتعالى الذي قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54].
الله المعبود سبحانه تبارك وتعالى، والخلق من أفعال الربوبية، فكونه رباً يخلق سبحانه، وكأنه أشار هنا إلى إلهية الله سبحانه، وأنه الإله الذي يستحق العبادة، فهو الله العظيم سبحانه المعبود الذي خلق فاستحق أن يعبد سبحانه، فهو لم يخلقكم ويترككم سبحانه، وإنما رزقكم وأنتم في بطون أمهاتكم أطفالاً صغاراً، ورزقكم وأنتم كبار، ورزقكم حتى تموتوا، قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم:40].
فذكر بعد الخلق الرزق، ثم يميت الله عز وجل العباد، ثم يبعثهم ويحييهم للجزاء سبحانه، الذي فعل ذلك هل غيره سبحانه يفعل ذلك؟! {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40].
فالله هو المعبود وحده سبحانه، وهؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله من أصنام وأوثان وإنسان أو جان هل يفعلون كما يفعل الله؟ حاشا لله سبحانه تبارك وتعالى.
قال الله تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] تنزيهاً لله وتقديساً له سبحانه أن يقال عنه ذلك، وتمجد سبحانه عما يشركون ويقولون عنه الكذب.
(الله الذي خلقكم) هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو عمرو: (الله الذي خلقْكُّم) بالإدغام فيها، ويقرؤها ابن كثير وقالون وأبو جعفر: (الله الذي خلقكموا ثم رزقكموا ثم يميتكموا ثم يحييكموا).(215/4)
تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)
يقول سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
الله خلقكم وتكفل لكم برزقكم، ولم يترككم كل شخص يرزق الثاني، لا، وإنما الله هو الذي يرزقكم، فإذا بالإنسان لطمعه وجشعه يقطع عن نفسه رزقاً حلالاً، ليأخذ من الشيء الحرام، فيعاقبه الله عز وجل بالتقتير والتقدير عليه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
ظهور الفساد في البر والبحر بسبب العباد، فظهرت المعاصي، وأعظم وأفظع المعاصي الشرك بالله سبحانه، وما دون ذلك من كبائر وصغائر، فلما ظهرت هذه الأشياء ظهرت نتائجها، فظهور الفساد له سبب وراءه، فالعباد عندما يعصون الله سبحانه سلط عليهم غيرهم وأنفسهم، بدءوا بالفساد فكانت النتيجة فساداً أشد، أفسد العباد فصاروا يشركون بالله، ويرجون غير الله سبحانه، ويعصون الله سبحانه، ويأكلون الربا والمحرمات، ويواقعون الفواحش، وتتبرج النساء، ويقعون فيما يغضب الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا فساد في البر وفي البحر.
يفسد العباد بقطع الطريق في البر والبحر، وبالظلم لبعضهم بعضاً، ويضيق بعضهم على بعض، ويحارب بعضهم بعضاً، فإذا بالله يعاقبهم على ذلك، فيقلل عنهم المطر، وتأتي الرياح الشديدة، وتأتي الأمطار وتنزل في الصحراء فلا ينتفعون بها! فيمنع عنهم شيئاً من رحمته سبحانه تبارك وتعالى، ويضيق عليهم في رزقهم، ويذهبون للبحار ليصيدوا فبعدما كانت البحار تطلع أسماكاً كثيرة لا يجدون إلا القليل، فالذي ضيق عليهم أرزاقهم هو معاصيهم وما كسبت أيديهم، فضيق الله عليهم فأقحطهم ومنع عنهم المطر، وضيق عليهم في أرزاقهم فكسدت تجارتهم.
يقول الله: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ} [الروم:41] هذه قراءة الجمهور، وقراءة قنبل بخلفه وقراءة روح (لنذيقهم) بنون التعظيم لله عز وجل فهو يقول: نذيق هؤلاء عذاباً في الدنيا دون عذاب الآخرة.
قوله: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] سبحان الله! هذا من رحمة رب العالمين سبحانه، لعل العباد يتوبون ويرجعون إلى الله، قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
فلو أصابهم بكل ما عملوا لأفناهم سبحانه تبارك وتعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، ما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة، ولكن يؤاخذهم ببعض ذنوبهم لعلهم يرجعون إلى الله، فإذا لم يرجعوا إلى الله بقيت المؤاخذة ببعض الذنوب في الدنيا، والمؤاخذة الحقيقة والجزاء والعذاب عند الله يوم القيامة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(215/5)
تفسير سورة الروم [41 - 42]
ظهر الفساد في كل مكان بسبب ذنوب العباد وما أكثرها! ليذيقهم الله جزاء بعض أعمالهم لعلهم يرجعون إلى ربهم، فعلى المسلم أن يحذر من الذنوب، وأن يعتبر بمن كانوا قبلنا أكثر أموالاً وأولاداً وأشد قوة، فلما عصوا ربهم أهلكهم في الدنيا قبل الآخرة.(216/1)
تفسير قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:41 - 42].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن جزاء جازى الله عز وجل به العباد بما كسبت أيديهم، وبما أفسدوا في الأرض فقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم:41] والسبب هو معاصي العباد، أشركوا بالله سبحانه، وكفروا به، وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، ووقعوا في الفواحش، ووقعوا في الذنوب والموبقات؛ فاستحقوا أن يرسل الله عز وجل عليهم ما هم فيه، كانوا في نعمة من الله، فانقلبت نعمتهم نقمة، بسبب تبديلهم، بدلوا وغيروا فانقلب عليهم الحال، فبعدما كان لهم صار عليهم، فظهر الفساد في البر والبحر، فمنع الله عز وجل عن أناس المطر، وجعل أناساً يعيشون في مجاعة، وكسدت تجارات الناس، وفسدت أسواق الناس، وفسدت ذممهم، وكثرت فيما بينهم الفتن، وظلم بعضهم بعضاً، واستمرءوا الظلم؛ فعاقبهم الله عز وجل بأن سلط بعضهم على بعض بسبب ما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحداً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وكل ما يجازى به العباد، وكل ما يظهر فيهم، إنما هو بما كسبت أيديهم، والله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى.
قال الله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ} [الروم:41] أي: بسبب {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، أي: ليذيقهم الله عز وجل شيئاً من العقوبة على ذنوبهم، وباقي العقوبة مدخرة ليوم القيامة، إلى أن يتوبوا إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فظهر هذا الفساد وكثر في العباد بسبب ما كسبت أيديهم، وظهرت النتيجة فيهم من عقوبة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، يظلم الإنسان غيره فيسلط الله عز وجل على الظالم ظالماً آخر يظلمه ويأخذ ما بيده، ويسلط عليهم الأمراض، ويسلط عليهم الأوبئة، ويسلط عليهم أنفسهم، ويسلط عليهم الشياطين، ويسلط عليهم أولادهم ونساءهم كما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، فلما طغى الإنسان وبغى، ولما ابتعد عن الله سبحانه تبارك وتعالى ومشى في طريق الفساد وسعى، أذاقه الله سبحانه بعض ما كسبت يداه، ورحمة الله عظيمة واسعة، ولو شاء لعاجلهم بالعقوبة، ولو شاء لجازاهم بكل ما أذنبوه، وكل ما وقعوا فيه.
عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه وقد مرض مرضاً شديداً وصار كالفرخ، من شدة ما ابتلاه الله عز وجل به من أمراض وغيرها! فالنبي صلى الله عليه وسلم تعجب لحاله ثم سأل الرجل: (لعلك دعوت على نفسك بشيء؟ فالرجل قال: نعم، دعوت الله سبحانه أنه ما كان معاقبي به يوم القيامة فليعاقبني به في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه) يعني: لماذا تدعو على نفسك بهذا الشيء؟! فنهاهم أن يدعو على أنفسهم إلا بخير، وأخبره أنه لا يطيق ذلك، وأن رحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فهذا رجل بلغ من تقواه وخوفه من الله أن يسأل الله عز وجل أنه ما سيعاقبه به يوم القيامة فليعاقبه به الآن، ورفض منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كل إنسان دعا على نفسه بذلك فابتلى الله عز وجل العباد، فهذا إنسان تقي وأصيب بذلك، فالشقي كيف سيكون؟! قال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [النحل:61]، والتأخير له حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، لعل العباد يتوبون إلى الله، ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويراجعون أنفسهم، فإن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وانظروا إلى قوم يونس قال الله سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فيونس النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه فترة طويلة فلم يستجيبوا، فحذرهم من عقوبة رب العالمين، فظلوا على ما هم عليه، وأصروا على طغيانهم؛ فخاصمهم وخرج من عندهم بعدما هددهم بأن العذاب سيأتيهم بعد ثلاثة أيام، فلما غادر القرية وخرج مغاضباً لقومه إذا بهؤلاء القوم يفيقون ويراجعون أنفسهم، فقالوا: النبي الذي كان فينا خرج وتركنا فالعقوبة آتية لا محالة، فإذا بهم يفرقون بين الرجل وبين امرأته، وبين الابن وبين أمه، ويبتهلون إلى الله أن يكشف عنهم ما سيأتيهم به من العذاب، فإذا بالله عز وجل يتجاوز عنهم.
وركب يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام البحر تاركاً قومه ليدعو أناساً آخرين، ولكنه أخطأ حيث لم يستأذن ربه سبحانه تبارك وتعالى في ذلك، وذهب مغاضباً لقومه، قال الله: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء:87] أي: ظن أن الله لن يضيق عليه، كما قال الله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26] أي: يضيق، فظن أن الله لن يضيق عليه، وأرض الله واسعة، فذهب إلى أرض أخرى يدعو أهلها، وهذا أمر مباح لأي داع إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فليس من حق النبي أن يخرج من مكان إلى مكان إلا بإذن الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام خرج وظن أن الله لن يضيق عليه في ذلك، وظن أن في الأمر سعة، فلما خرج إذا بالسفينة التي ركبها لا تجري بهم في البحر، وكادت أن تغرق! فإذا بالقوم يتعجبون مما حصل في السفينة، فقالوا: فيها عبد آبق، فعلم أنه قد خرج بغير إذن الله عز وجل فحكمه حكم العبد الهارب من مولاه، وقالوا: لا بد أن ينزل من هذه السفينة، فقال: أنا أنزل من هذه السفينة، فرفضوا، كيف ينزل نبي الله عليه الصلاة والسلام؟ فقالوا: نعمل قرعة، فقرعوا فإذا القرعة تطلع عليه ثلاث مرات، فألقى بنفسه في البحر، فإذا بالله عز وجل يرسل حوتاً فيبتلعه، ويأمره الله سبحانه تبارك وتعالى أن يحافظ عليه ولا يأكله، فإذا به يدعو ربه سبحانه، وقومه كانوا يدعون هنالك، فكشف الله عز وجل عنهم العذاب، وهو يدعو في بطن هذا الحوت، وفي الليل المظلم، وفي ظلمات البحر، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، اعترف بأنه أخطأ في ذلك.
فإذا بالله سبحانه يرحمه ويأمر الحوت أن يلقيه على الشاطئ، قال الله: (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) وهو سقيم مريض، بسبب كونه داخل الظلمات وتحت ضغط الماء في الداخل، فخرج وهو مريض في ذلك المكان، {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] يعني: آت بما يلام عليه، لامه الله عز وجل على ما صنع، قال الله: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، شجرة من القرع، يأكل من ثمرها، ويستظل بظلها، ويشرب من مائها، فمكث تحت هذه الشجرة، ويونس النبي عليه الصلاة والسلام ليس هيناً على ربه سبحانه، ولكن الله سبحانه تبارك وتعالى يرينا كيف يؤدب أنبياءه وأولياءه سبحانه تبارك وتعالى، وكيف يؤدب خلقه، عفا عن هؤلاء لما غيروا وتابوا، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، والله رحيم بالعباد سبحانه تبارك وتعالى، لذلك عفا عن هؤلاء لما تابوا إلى الله عز وجل، ويونس بقي على شاطئ البحر، وأنبت عليه شجرة من يقطين، وكان في حالة ضعف شديدة، فكان يأكل منها وترجع إليه القوة في جسده، وإذا بالله سبحانه ييبس هذه الشجرة بعد أن كانت مورقة، فإذا به يبكي ويحزن على هذه الشجرة، وهنا يعطيه الله عز وجل الحكمة من عنده سبحانه، فقال له: حزنت على شجرة أن أهلكت ولا تحزن على قومك وهم ألوف أن نهلكهم في لحظة! انظروا إلى رحمة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
فلذلك ربنا يخبرنا أنه إذا ظهر الفساد في الأرض فراجعوا أنفسكم، فأنتم السبب في هذا الفساد، تتركون أوامر الله سبحانه، وتفعلون مناهي الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالإنسان إذا بدل وغير في شرع الله سبحانه، وفي أحكام الله سبحانه، وفي طاعته لله، فبعدما كان مطيعاً صار عاصياً؛ لا ينتظر من الله عز وجل إلا أن يعاقبه على ذلك، لكن الله سبحانه يؤخرهم لعلهم يرجعون ويتوبون إلى الله سبحانه، ويذيقهم شيئاً من العقوبة كما قال هنا سبحانه: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
فالله عز وجل يعاقب العبد لعله يراجع نفسه، ويؤخر عنه العقوبة الشديدة والهلاك لعله يرجع إلى الله، وإذا استمر على عناده فإن سبحانه يأخذه أخذ عزيز مقتدر.(216/2)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)
قال سبحانه لعباده: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42]، انظروا وتأملوا وادرسوا وتعلموا، انظروا كيف فعلنا بالسابقين، والناس الآن يقولون لك: هذا عالم في الجيولوجيا، وهذا عالم في الأرض، في الحفريات، يحفر في الأرض ويقول: هنا كان يوجد أمم في المكان الفلاني، وكان في المنطقة الفلانية حضارات، وكان كذا وكذا، فعرفوا هذه الأشياء، لكن هل اعتبروا بذلك؟! الله عز وجل يقول: (فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)، فبدلاً من أن تفتخر وتقول: كان أجدادنا يبنون ويعملون كذا، انظر إلى عاقبتهم، انظر إلى عقوبتهم، فلا تمش في نفس المسار الذي ساروا فيه، يفتخر الإنسان الأحمق الغبي فيقول: أجدادنا كانوا فراعنة، وينسى أن الفراعنة كانوا كفاراً يعبدون غير الله، يؤلهون أنفسهم، وعصوا المرسلين، وأراد فرعون قتل رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا بالله عز وجل يخزيهم، فهذا فرعون أهلكه الله، وجعله آية، قال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، فالله يرينا الآيات، فالفراعنة أخرجوهم من الأرض، ووضعوهم في المتاحف، والذهب الذي سرقوه من الناس، واحتفظ به الملوك لأنفسهم؛ ظهر هذا الذهب كله، وهل نفعهم هذا الشيء؟ جعلوه معهم في القبور وداخل الأهرام، من أجل أن يلاقوا الذهب حقهم مرة ثانية، فهل انتفعوا بذلك؟ انظروا وتأملوا واعتبروا، فلا تقولوا: نحن أحفاد الفراعنة الذين بنو الأهرام، وعملوا كذا! فهم كفروا بالله سبحانه، فلا تنتسب إلى الكفار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انتسب رجلان على عهد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان بن فلان بن فلان، فمن أنت لا أبا لك؟! فقال الآخر المؤمن: أنا فلان بن فلان بن الإسلام)، يكفيني فخراً أني مسلم مع النبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأوحى الله للنبي موسى عليه الصلاة والسلام: (أن قل لهذا: أنت افتخرت بتسعة آباء كفار أنت عاشرهم في النار، وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة)، فهذا الضعيف الذي قال: أنا أفتخر بدين الإسلام دخل الجنة.
نسى الناس الآن دين رب العالمين، وصرنا نسمع كثيراً التقاليد الفرعونية، الغناء الفرعوني، التمثيل الفرعوني، فراعنة في فراعنة! نسوا أن الفراعنة كفار، وكأنهم يقولون عن أنفسهم: إنهم متبعون للكفار! أين العقول؟! الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [الروم:42] تأملوا وتدبروا كيف صنعنا بهم، هل نفعهم مالهم؟ هل نفعتهم قوتهم؟ بنوا أهراماً يتعجب الناس كيف بنوها؟ وكيف رفعوا الحجارة؟ قال الله: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة:69]، استمتعوا بحظهم في الدنيا، وأنتم استمتعتم بحظكم في الدنيا، عصوا الله وكفروا، وأنتم عصيتم الله سبحانه تبارك وتعالى، فما تنتظرون غير العقوبة التي أصابت هؤلاء السابقين؟! فالإنسان المؤمن لا بد أن يتعلم، ولا بد أن يعتبر، ولا بد أن ينصح أولاده، لا تترك أولادك جهلة تعلمهم الصحف، ويلقنهم التلفزيون أشياء باطلة، ويتعلمون الكفر بالله سبحانه، يعلق تميمة من أجل رد العين، يلبس حذاء من أجل اللعب الفلاني، يعمل تسريحة فلانية نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، يمشي في طريق الباطل ويقلد الشياطين ويفتخر بذلك، ويقول لك: نحن الشياطين الحمر! افتخروا بالكفار، وافتخروا بالشياطين، كيف سيكون مصير أصحاب هذا الافتخار؟ ألا يخشون أن يكونوا من أصحاب النار والعياذ بالله؟! والذين يفعلون ذلك يتسمون بأسماء المسلمين، يقول لك: أنا مسلم، وإذا سمع من يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: اتركوا هذه الكتب الصفراء! ويأتي الصحفي من هؤلاء فيفتي ويتكلم في الدين، وما أحد يرد عليه بشيء، وهو لا يفهم من دين الله عز وجل شيئاً، وبعضهم يسأل الصحيفة: أنا أحلق على الموضة فما رأيك في هذا الشيء؟ لا يسأل الشيخ، وإنما يسأل الصحيفة، وترد عليه فتقول: ما فيها شيء، وأنتم أعلم بشئون دنياكم، وإذا نهى عن ذلك عالم يقولون له: أنت إنسان متزمت، أنت إنسان متعصب، أنت إنسان كذا! فعندما غير الناس ما بأنفسهم أذاقهم الله عز وجل الذل، انظروا إلى الذل الذي في بلاد المسلمين، كل البلاد في ذل، لا يتواضعون لله، ويتواضعون لغير الله سبحانه، جعلوا الدين وراء ظهورهم، لا يعلمون أولادهم دين الله سبحانه، والأسر المسلمة في بلاد الكفر يهتمون بلغة الكفار، وهم أسر مسلمة كثيرة، ويصرون أن يتكلموا بالإنجليزي مع بعض، وهم مسلمون عرب، حتى داخل بيته يتكلم بالإنجليزي، ويفتخر أن كل أهل البيت يتكلمون بالإنجليزي وليس بالعربي! فهؤلاء كيف يتعلمون دين الله عز وجل؟ ومتى يتعلمون كتاب ربهم وسنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؟ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، فإذا نسي الإنسان ربه سبحانه فلا ينتظر إلا الوبال، ولا ينتظر من الله إلا العقوبة التي نراها الآن في أبناء المسلمين وفي أسر المسلمين، ومن ذلك تسلط الكفار على المسلمين لما نسى المسلمون دين ربهم، فإذا أرادوا أن يرجعوا إلى العز الذي في الإسلام فليرجعوا إلى دين رب العالمين، فلينصروا الله لينصرهم {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(216/3)
تفسير سورة الروم [42 - 45]
أمر الله عباده أن يقيموا وجوههم للدين، ويتمسكوا به برغبة وجد، قبل أن يموت أحدهم وتقوم قيامته، ثم يأتي يوم القيامة فيفوز من يفوز، ويندم من يندم، ومن فاز بالجنة فقد فاز الفوز العظيم، ومن خسرها ودخل النار فقد خسر الخسران العظيم.(217/1)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِين * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:42 - 46].
يأمر الله سبحانه وتعالى عباده في هذه الآيات بأن يسيروا في الأرض ويعتبروا فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل, أين ذهب قوم عاد, وقوم نوح, وقوم ثمود, وقوم إبراهيم, وأصحاب مدين, والمؤتفكات, وقوم فرعون؟ أين ذهب هؤلاء؟ ما صنعوا؟ وكيف صنع بهم؟! {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42] كفروا بالله سبحانه، وأشركوا معه غيره, عبدوا غير الله, وزعموا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى, والله غني عنهم وعن عبادتهم, قال الله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فالله الغني الحميد سبحانه وتعالى, وهؤلاء كذبوا وكفروا فاستحقوا الوعيد الذي توعدهم به ربهم.
قال الله: {فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [الروم:42] هنا النظر بمعنى الاعتبار, اعتبروا يا أولي الألباب, اعتبروا يا أولي الأبصار, انظروا إلى ما صنع بهم وإلى صنيعهم، وانظروا إلى أعمالكم، ولا تقلدوهم في ذلك فيصبكم مثلما أصابهم.(217/2)
تفسير قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم)
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم:43] أمر الله العباد أن يسيروا وينظروا ويعتبروا, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم وجهه لهذا الدين القيم، والأمر له وللمؤمنين معه بالتبع، أي: أقيموا وجوهكم إلى هذا الدين, أقم وجهك واقصد إلى هذا الدين العظيم, أقم قصدك واجعل وجهتك اتباع هذا الدين القيم العظيم دين الإسلام {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى الله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يجاهد في سبيل الله سبحانه {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فهو والمؤمنون مأمورون أن يتوجهوا إلى دين الله سبحانه.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:43] وجه الإنسان أشرف ما فيه، فإذا وجهه إلى شيء توجه بدنه إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم:43] أي: استقم بتوجهك إلى دين رب العالمين سبحانه، وكذلك المؤمنون معك، ووضحوا الحق، وبالغوا في الإعلان إلى الحق, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتغل وينشغل بما هو فيه من دعوة إلى الله سبحانه، ولا يشغل نفسه بالحزن عليهم كما قال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] فهم يمكرون ويمكر الله عز وجل بهم, لكن إذا تفرغ للحزن عليهم فسيضر نفسه كما قال الله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] , وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، فستقعد تحزن عليهم إلى أن تميت نفسك عليهم, وهم لا يستحقون ذلك، وليست هذه وظيفتك، إنما وظيفتك أنك نذير وبشير، تنذر من يعصي ربه سبحانه, وتبشر من يطيع ويؤمن بالله سبحانه وتعالى، وبلغ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43] اعمل لهذا اليوم وحذرهم قبل أن يأتي هذا اليوم الذي {لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43]، من يرده إذا أراد الله عز وجل أن يأتي بيوم القيامة؟ هو آت لا ريب فيه, ولا يرده الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء لا بدعائهم ولا بغيره, فإذا جاء يوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يؤخره, ولو دعا ربه لن يؤخره سبحانه وتعالى, فلن يرده الله سبحانه عن موعده, فهو وعد حق من الله، وميعاد محدود من الله، لابد أن يأتي هذا اليوم, ولا يرده أحد، ولو دعا الإنسان ربه سبحانه أن يرده عنه فلن يرده.
وهذه الكلمة (لا مرد له) يقرؤها حمزة بالمد وإن كان ليس فيها همزة، وهذا نوع من أنواع المد للمبالغة في النفي, مثلما قرأ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فيمد (لا) مبالغة في نفي الشك عن هذا الكتاب, ومن الأشياء اللطيفة في المدود أن القراء الذي يقصرون المد المنفصل مثل {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصافات:35] وهم قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وشعبة عن عاصم وغيرهم، فهم يقصرون المد، فإذا قصروا مدوا في هذه الكلمة (لا إله إلا الله) ويسمونه المد للتعظيم, أي: لتعظيم الله سبحانه, فهم يقصرون كل مد منفصل فإذا جاءوا في لا إله إلا الله مدوا (لا إله إلا الله) للتعظيم, فيجوز عندهم فيها المد ويجوز القصر، وإن كان الأصل فيها القصر مثل المد المنفصل، ولكن يمدون في هذه الحالة للتعظيم, وكذلك يمد هنا حمزة، وإن كان حمزة يمد المد المنفصل والمتصل وغير ذلك, ولكن هذا المد ليس له علاقة بالهمزات، وإنما المد هنا للمبالغة في النفي.
قوله: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)) أي: فلا يقدر أحد أن يرده، ولا يرده الله سبحانه وتعالى عنهم لا بتوسلهم ولا بدعائهم، فلا يرد هذا اليوم إذا جاء.
قال الله: {يَوْمَئِذٍ} [الروم:43] أي: في يوم القيامة {يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43] , يقال: تصدع البنيان بمعنى تشقق، فالتصدع هو التشقق والتفتت، ومنه الصداع الذي يصاب به الإنسان، وكأنه يفرق شعب رأس الإنسان, وكأنه سيشق دماغه، فهذا اليوم يصدعون فيه، وهنا التشديد يدل على هم هذا اليوم وعظمه، والأصل فيها يتصدعون, فأدغم وثقل لثقل هذا اليوم الفظيع, نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة, فقال هنا: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43]، وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:14]، فالناس يخرجون من قبورهم ويردون إلى الموقف يوم القيامة فيقفون بين يدي الله عز وجل خمسين ألف سنة ثم يتفرقون ويتصدعون, فريق في الجنة وفريق في السعير, فلذلك قال هنا سبحانه: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:43].(217/3)
تفسير قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون)
قال الله: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] تصدع أهل الكفر وساقتهم الملائكة إلى النار, فمن كفر فعليه هذا الكفر, فكفره لن يضر به ربه سبحانه, فالله غني عن العباد وعن عبادتهم, فهؤلاء الذين كفروا وبال كفرهم عليهم, (من كفر فعليه كفره) أي: جزاء كفره عليه {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الجاثية:33].
{وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} [الروم:44] المؤمنون الأتقياء أهل العمل الصالح {فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] المؤمن يمهد لنفسه, والتمهيد بمعنى التوطيء، ومهد الشيء بمعنى جعله موطأ يمكن أن يقعد عليه وأن يمشي عليه، فقد جعله مذللاً سهلاً, فكأن المؤمن ييسر لنفسه بفعله وبعبادته طريقاً إلى الجنة, وطريق الجنة في هذه الدنيا سهل على من وفقه الله سبحانه وتعالى إليه, وإن كان ظاهره أنه صعب، وفي الحديث: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فطريق الجنة لا بد للإنسان أن يجاهد نفسه عليه, ويجاهد شيطانه, ويجاهد هواه, ويجاهد الكفار, ويجاهد المنافقين, فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر, أشياء كثيرة تكون صعبة على الإنسان, ولكن عندما يستعين بالله سبحانه وتعالى فإن الله يسهلها عليه، فالمؤمن طريقه سهل, فأنت تقوم وتصلي الفجر كل يوم، وقد تعودت على ذلك, وانظر إنساناً آخر ليس متعوداً على ذلك إذا قلت له: قابلني غداً في صلاة الفجر فتأتي وهو لا يأتي, فتسأله فيقول: ضبطت المنبه على الأذان ولم أقم, لكن أنت تفرح عندما تسمع أذان صلاة الفجر, فتتوضأ وتمشي إلى المسجد وأنت تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، فيصير الأمر سهلاً عليه، فيصلي الفجر كما يصلي الظهر والعصر, والأمر عنده سهل يسير, مع أن فيها مشقة ولكن من اعتاد على الخير يسره الله سبحانه وتعالى عليه, ويأتي شهر رمضان وأنت مشتاق لهذا الشهر، وإن كنت تصوم كل اثنين وخميس فيكون صوم شهر رمضان سهلاً جداً, وينتهي رمضان فتحزن على فراقه، وإنسان آخر ليس متعوداً على الصوم قبل رمضان، فيصعب عليه صومه، فإذا جاء شهر رمضان يصوم يوماً أو يومين وبعد ذلك يأخذ السيجارة في فمه ويترك الصيام والعياذ بالله! فالذي ييسر العبادة على العباد هو الله سبحانه وتعالى, وأنت تمهد لنفسك بالطاعة طريق الجنة, فابدأ أنت بالسبب والنتيجة على الله سبحانه وتعالى, فطريق الجنة طويل, ولكن أنت ابدأ فإذا بالله عز وجل يسهله, فالإنسان في الدنيا يجد اليوم الذي فيه طاعة يوماً جميلاً يذوق حلاوته, واليوم الذي فيه معصية يجده يوماً صعباً شديداً يذوق مرارته, والعاصي لا تهمه طاعة ولا معصية فلا فرق عنده، ولكن المؤمن يطيع الله فيجد حلاوة الطاعة وحلاوة الإيمان في قلبه.
قال الله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم:44] أي: كل من علم صالحاً، فالجميع قد مهدوا لأنفسهم, (يمهدون): أي يوطئون لأنفسهم في الآخرة فراشاً ومسكناً وقراراً في الجنة بالعمل الصالح, ومنه مهد الصبي, وضعه في المهد, فتعمل له سريراً وحده, وتعمل له فراشاً ليناً لهذا الصبي الذي ستضعه فيه, وكذلك أنت تمهد لنفسك طريق الجنة بطاعتك ربك سبحانه وتعالى, فالتمهيد بمعنى تسوية الأمر, وإصلاح الأمر, ومن التمهيد التمكن، كأنك تمكن لنفسك مكاناً وموضعاً في جنة رب العالمين سبحانه, وكذلك قالوا: يمهدون لأنفسهم في قبورهم، وسواء مهد لنفسه في قبره أو مهد لنفسه يوم القيامة, فأول منازل الآخرة القبر, فإذا كان له خير في القبر فيوم القيامة يجد خيراً عظيماً من رب العالمين سبحانه.(217/4)
تفسير قوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله)
قال الله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:45] لتكون العاقبة للمؤمنين والجزاء الحسن من رب العالمين.
قال: {مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:45] فالله سبحانه لن يعطيك من فضل أحد آخر, بل من فضله سبحانه, فيجزي المؤمن الجزاء الذي يليق به، وهذا تفضل منه، فإذا تفضل رب العالمين على العباد فإنه يجازيهم بالحسنة عشرة أمثالها, ومن هم بسيئة فلم يعلمها كتبها الله له حسنة كاملة, وهذا إذا خاف من الله سبحانه وتعالى بعدما كاد أن يفعلها، فقال: لن أعملها، واستغفر الله, وتاب إلى الله، ولم يقع في هذه السيئة؛ فتكتب له حسنة كاملة, ومن هم بالسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة, ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة, ومن هم بحسنة فعملها كتبت له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلمها إلا الله, ولذلك هنا يخبرنا الله أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجزيهم الجزاء العظيم منه سبحانه وتعالى، الجزاء الذي يليق بهم من فضل الله سبحانه وتعالى.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:45] فالله يحب المؤمنين, ويحب المحسنين, ويحب الصابرين, ويحب الصالحين, ويجزي هؤلاء من فضله, أما الكافرون فلا يحبهم الله سبحانه وتعالى، ويكون مصيرهم إلى النار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(217/5)
تفسير سورة الروم [46 - 47]
آيات الله الكونية كثيرة، وقد أمر عباده أن يتفكروا فيها؛ لأنها تدعوهم إلى الإيمان بالله، ومعرفة صفاته العلى، وتوحيده جل وعلا، ومن هذه الآيات العظيمة: الرياح، فليتفكر المسلم في كيفية إرسالها وفوائدها وآثارها، وأعظم منها آية المطر، فليتفكر المسلم في كيفية بسط السحاب في السماء وجعله قطعاً، وخروج المطر من خلاله وفوائده وآثاره، وكيف يحيي الله به الأرض بعد موتها.(218/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:46 - 47].
هذه آيات من آيات الله العظيمة يذكرها لنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الروم، وآياته كلها عظيمة سبحانه، وهذه الآيات مثل النعم لا تحصى أبداً، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46]، فهذه الآيات يذكركم الله بها لعلكم تشكرون الله سبحانه وتعالى عليها.
والآية هي المعجزة التي تدل على عظيم القدرة، ((وَمِنْ آيَاتِهِ)) أي: ومن أعلام كمال قدرته سبحانه {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ} [الروم:46]، فالرياح آية من آيات الله سبحانه، لا يدري الإنسان كيف تتكون هذه الرياح، وكيف ترسل، ومتى ترسل، ومتى تسير، فالله عز وجل الذي يدبر هذا كله، والإنسان يرى علامات، وعليه أن يعتبر بهذه العلامات التي يراها، فالذي يرسل الريح والذي يمسك الريح هو الله سبحانه وتعالى، فمن آياته العظيمة أن يرسل الرياح مبشرات، أي هذه الرياح تبشر من يشعر بها ويحس بها بقرب نزول المطر.
{وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46]، رحمة الله عظيمة واسعة، فمن رحمة الله وروحه سبحانه أن يرسل الرياح فتنزل المطر، فيأتي الغيث فيغاث به العباد، ويخرج الله عز وجل النبات، فيكون الخصب للعباد، وكذلك الرياح يستروح بها الإنسان، فهي راحة للإنسان في يوم صائف حين تهب فيستشعر الإنسان رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وكذلك يرسل الرياح في البحر فيستبشر أصحاب السفن وتسير السفينة بهذه الرياح بفضل الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما استغل العباد فيه هذه الرياح في منافعهم التي سخرها الله عز وجل لهم بالرياح، وسخر لهم العقول لتستفيد من هذه الرياح، فمن الريح يصنعون طواحين هوائية، ويصنعون مراوح من الريح، ويولدون الكهرباء والتيار، ويستشعرون فضل الله سبحانه وتعالى عليهم.
وقوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الروم:46] أي: بعضاً من رحمته، تستشعرون بها كيف أن الله بعباده رءوف رحيم سبحانه.
{وَلِتَجْرِيَ} [الروم:46] بهذه الرياح: {الْفُلْكُ} [الروم:46] السفن العظيمة والمراكب في البحار {بِأَمْرِهِ} [الروم:46]، فهو الذي يسخر، وهو الذي ييسر، وهو الذي يسير سبحانه وتعالى، فيرسل الريح فتسير هذه المراكب وهذه السفن بمنافع العباد؛ ليحمدوا الله سبحانه، ويشكروه على نعمه.
{وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46] تجري الفلك بأمر الله سبحانه وتعالى، يسير الإنسان في البحر راكباً مركباً، وإذا بالريح توافقه وتواتيه، فيفرح بهذه الريح، وإذا وقفت الريح يقف مكانه، وينتظر رحمة الله سبحانه، ولعلها تعاكس الإنسان وتأتي على غير المكان الذي يريده، ولعلها تعصف بالإنسان وبما يركبه، ولعلها تقصف به فتغرقه، فالريح التي يرسلها الله تكون نسيماً وتكون ريحاً طيبة، وقد تكون عاصفة وقد تكون قاصفة، وهذا من أمر الله سبحانه، فلا ترسل إلا بأمره، فيأذن ويأمر فيكون أمره سبحانه على ما يريد.
{وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46] في البر والبحر، بفضل الله وبرحمته سبحانه، فالرياح يرسلها الله سبحانه فتحمل أشياء أنت لا ترى هذه الأشياء، تحمل حبوب اللقاح من أشجار إلى أشجار أخرى، فتلقحها، فإذا بالله يخرج منها الثمار التي يأكلها الإنسان ويستلذ بها ويتفكه بها؛ ليشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك.
والريح يستروح بها الإنسان، وترطب عليه، وتأتيه بالمطر، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وتلقح الأشجار، أشياء عجيبة! هذا أمر الله سبحانه، وهذا من قدرته وكماله سبحانه وتعالى.
{وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الروم:46]، هذا من فضل الله سبحانه، فبهذه الريح تتنقلون في السفر من مكان إلى مكان بالسفن {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم:32]، وقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فخلق للعباد ما علموا من أشياء ركبوها، وما لم يعلموا فاستحدثوها، صنعوا الفلك التي تجري في البحر بأمره سبحانه، وصنعوا الطائرات التي تصعد فوق الرياح في الهواء، وهذا كله بأمر الله سبحانه، وتسخير من الله سبحانه، ليبتغوا من فضل الله، ومن رزق الله، ويسافرون من بلد إلى بلد، ويبتغون رزق الله سبحانه وتعالى، وينقلون بضائعهم، وينقلون القوت من بلد إلى بلد، وهذا من فضله سبحانه.
قال: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46] فعلى الإنسان أن يشكر عندما يستشعر نعم الله سبحانه، وعادة الإنسان أنه كنود جحود كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود، ينسى هذه النعم، فإذا هاجت الريح قليلاً بعواصف ورمال يشتم ويسب الريح، وينسى فضل الله سبحانه ورحمة الله وآيات الله، وأن هذه آية من الآيات، فالذي أثارها هو الذي يهدئها، فارجع إليه، وادعه سبحانه وتعالى، واطلب من رحمته سبحانه، ولا تضجر بأمر الله سبحانه وتعالى.
يقول: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم:46] يعني: تشكرون الله على هذه النعم بتوحيدكم ربكم سبحانه، وبحسن عبادتكم إياه، وبطاعتكم له، وباجتنابكم معاصيه.(218/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم)
يذكر الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنه أرسل الرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول الرسل عليه الصلاة والسلام، قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:47]، فكل رسول كان يرسل إلى قومه، وخص نبينا صلى الله عليه وسلم بميزة عظيمة جداً فضل بها على كل الرسل، فلم يرسل إلى قومه فقط، ولكن أرسل إلى الخلق جميعهم، إنسهم وجنهم، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الروم:47] هؤلاء الرسل جاءوا أقوامهم بالبينات، وجاءوهم بالمعجزات، وبالحجج النيرات، وبالآيات العظيمات من رب العالمين، وكل نبي بعثه الله سبحانه وتعالى معه آية من الآيات، فإبراهيم من أعظم آياته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه ألقي في النار ولم تحرقه النار، وهي آية تناسب طبيعة قومه عباد الأصنام وعباد الكواكب وعباد النيران، ومن عبد شيئاً يظن أن هذا الشيء يحميه، ويدفع عنه ضره، وهذا عدوهم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أججوا النار التي يظنون أنها تنفعهم وتضر إبراهيم، فألقوا إبراهيم فيها من مكان بعيد، فإذا بالنار تكون برداً وسلاماً على إبراهيم! لم تنفعهم نارهم، ولم تنفعهم عبادتهم غير الله سبحانه، قال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70]، فهم أسفل ما يكون وأخسر ما يكون عندما أرادوا الكيد بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فهذه آية من آيات رب العالمين سبحانه، يري هؤلاء أن ما تعبدون لا تنفعكم، بل تضركم في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يبعثه الله سبحانه وتعالى إلى قومه، وولد في السنة التي يقتل فيها الصبيان، وكان أخوه هارون أكبر منه قيل: بثلاث سنوات، ففي السنة التي ولد فيها هارون لم يكن يقتل فيها الصبيان، فعاش هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والسنة التي ولد فيها موسى كان فرعون يأمر بقتل الصبيان، وإذا بالله ينجي موسى في بيت فرعون! وهذا الأمر العجيب من آيات رب العالمين سبحانه وتعالى.
ينشأ موسى عليه الصلاة والسلام في وسط هؤلاء القوم الذين يظنون أن السحر ينفعهم، وأنهم يكيدون لأعدائهم بالسحر، فيجمع فرعون السحرة من كل مكان، ويقوي بهم دعائم ملكه.
وعندما شب موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، منَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالرسالة، ويأتي إلى فرعون ليدعوه إلى رب العالمين، وإذا فرعون يتعاظم ويتعالى ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، ما هو رب العالمين الذي جئت تدعو إليه؟ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:26 - 28]، فأنتم لكم عقول، فلا تقولوا عني: مجنون، فأنتم تعرفون أن الذي خلق المشرق والمغرب وما بينهما هو الرب سبحانه وتعالى.
وفرعون يأتي بالسحرة، وموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يأتيهم بآية من آيات الله سبحانه، وسحر السحرة أعين الناس حتى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بموسى ينظر إلى عصي السحرة وحبال السحرة، فيخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، فيأتي من الله عز وجل التثبيت لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، اثبت إنك أنت الأعلى، سنعليك وننصرك عليهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، فجاءهم ربهم سبحانه بآية من جنس ما يصنعون، أنتم تخيلون للناس ولا تقدرون على قلب الأشياء حقيقة، ولكن الله عز وجل يجعل هذه العصا التي في يد موسى ثعباناً حقيقياً وأنتم لا تقدرون على ذلك، فبهت هؤلاء الكفار، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120]، فكانت معجزة من أعظم المعجزات التي تفيد مع هؤلاء القوم.
وعيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جاء إلى قوم اشتهروا بصناعة الطب، والطبيب لا يستطيع أن يشفي من ولد أكمه أعمى، فإذا بالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام يدعو له فيشفيه الله سبحانه وتعالى بإذنه، قال الله عنه: {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49].
ويتجاوز ذلك إلى أن يدعو ربه فيحيي على يديه الموتى بإذن الله سبحانه وتعالى! فهل تقدرون بطبكم وسحركم أن تفعلوا هذا الشيء؟! فكانت آية ومعجزة من جنس ما يصنعون، فأنتم علماء في الطب، وهذا يفوقكم بشيء تعجزون عنه.
وجاء نبينا صلى الله عليه وسلم من عند ربه بأعظم الآيات وهو هذا القرآن العظيم المعجز، فالعرب كانوا أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل شعر وأهل خطابة، ويتنافسون في ذلك ويرتجلون ذلك، فإذا بالله سبحانه وتعالى ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب، ويتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، والتحدي يدفعهم إلى العصبية وقبول التحدي مهما كان هذا التحدي؛ فلا يقدرون أن يقبلوا هذا التحدي، ويخنعون ويذلون ويسكتون عن ذلك.
وعندما افترى أحدهم ليأتي بمثل القرآن ضحك الناس منه، وقيل له: إنك تعلم أنا نعلم أنك كاذب! فهذا القرآن هو المعجزة العظمى الذي نزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإعجازه من وجوه كثيرة، من وجه بلاغته وفصاحته، ومن وجه إخباره عن أشياء غائبة لا يعرفها الناس، فتكون كما قال، كما في أول هذه السورة: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، فكان الأمر على ما قال الله سبحانه، وإن كان ذلك في نظر الناس مستحيل أن يغلب الروم فارس، ويخبر الله أنه ليس مستحيلاً، وسيكون خلال سنين قليلة، فكان كما قال الله سبحانه وتعالى.
ومن الإعجاز الذي في كتاب الله سبحانه أشياء تختص بعلم الفلك، وبعلم الرياح والسحاب، وبعلم الجيولوجيا والأرض، وغير ذلك من الآيات العظيمة؛ ليعلمنا أن هذا كتاب رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بدعاً من الرسل، ولكن هذا رسول من عند رب العالمين، جاءكم بالآية العظمى كما جاء الأنبياء من قبله بآيات إلى قومهم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الروم:47] إذا جاءوا أقوامهم بالبينات، فمنهم من صدقوا ومنهم من كذبوا، فإذا بالله ينتقم من المجرمين، ويجازيهم على إجرامهم وعلى تكذيبهم وكفرهم.
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] هذا وعد من الله سبحانه وتعالى، أنه ينصر المؤمنين، والله لا يخلف الميعاد أبداً، وإذا رأى المسلمون أنهم لم ينتصروا فليرجعوا إلى أنفسهم ليعرفوا أسباب ذلك، فالسبب من أنفسهم، أما الله عز وجل فوعده الحق، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يخذل الكفرة والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(218/3)
تفسير سورة الروم [48 - 51]
ما أنعم الله على الناس بنعمة إلا وكان الواجب عليهم أن يشكروها، وإن مما أنعم عليهم إنزاله الأمطار بعد أن يكونها وينشئها في السماء، فيجعل منها جبالاً من برد وثلج، ويجعل منه ما هو أقل من ذلك فينزل منه القطر والمطر، فيفرح الناس بذلك ويُسروا وإن كانوا من قبل لفي ضيق وقنوط.(219/1)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:48 - 52].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن رحمته في إرساله الرياح وإنزاله الأمطار بفضله وكرمه سبحانه، ويخبر عن تكوينها فيقول: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم:48]، و (الله) هو الإله المعبود الذي خلق ورزق، والذي يرسل الرياح سبحانه وتعالى.
وقوله: (الذي يرسل الرياح) أي: هو الرب الفاعل القادر سبحانه وتعالى، وهو الصانع المربي، فالله كونه إلهاً فهو يستحق أن يعبد سبحانه وتعالى، فيعبر بلفظ الجلالة (الله) يعني: المعبود المستحق للعبادة، ويعبر عن ذلك بصفات الرب سبحانه وتعالى، فكونه رباً مقتضاه: أنه يخلق ويرزق، وأنه يفعل ما لا يقدر أحد على فعله إلا الله سبحانه وتعالى، فمن مقتضى ربوبيته أنه يرسل الرياح، وأن هذه الرياح تثير السحاب، وأن الله يبسط هذا السحاب في السماء كيف يشاء بقضائه وقدره.
قال تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48] فهكذا يكون التكوين للأمطار بقدرة الرب سبحانه وتعالى، فالرب الذي يصنع هذا يستحق أن يعبد دون غيره من آلهة تعبدونها، لا يستطيعون أن يصنعوا شيئاً فهم اتخذوا من دون الله آلهة، فإذا سئلوا: هل هذه الآلهة تخلق وترزق؟ يقولون: لا، لا تصنع شيئاً، وإذا سئلوا من الذي يصنع ذلك؟ يقولون: الرب الذي في السماء سبحانه وتعالى يصنع ذلك، فيقال لهم: كيف يكون الرب هو الذي يصنع وترجون رحمته سبحانه أن ينزل عليكم المطر من السماء، وأن ينبت لكم الزروع والثمار، وأن يعطيكم أرزاقكم سبحانه، ثم تؤلهون غيره، فتدعون إلهاً غير الله، أو تشركون مع الله سبحانه وتعالى أحداً غيره؟! فعبر ربنا بقوله: (الله) أي: الإله الذي يستحق العبادة هو الذي يصنع ذلك، وهو الذي يرسل الرياح.
والرياح هي التي تثير السحاب، وتحرك السحاب من مكان إلى مكان، وهي التي تكون هذا السحاب بأمر الله سبحانه وتعالى.
فمياه الأمطار تكون على الأرض منها البحيرات، وهذه البحار الموجودة وغيرها من المياه تصعد إلى السماء بالتبخر، وتحملها الرياح شيئاً وشيئاً حتى تصعد إلى السماء كما عبر الله سبحانه وتعالى هنا، وعبر في سورة النور فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43].
وهذه من دلائل قدرة الله سبحانه وتعالى مع تذكيره الناس بقضائه وقدره، فالله يقدر ما يشاء ولا شيء يكون إلا بقدره وتقديره سبحانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فالسحاب يمتلئ بالمياه، ويشاء الله أن ينزل منها المطر فيكون ذلك، وقد يصرفه عمن يشاء، فتكون السحابات قد غيمت وامتلأت، والناظر ينظر إليها في السماء ملآنة بالمطر، فيظن نزول المطر فإذا بالسحابات تنصرف إلى مكان آخر، ولا ينزل المطر على هذا المكان الذي ظن أهله أن ينزل عليهم المطر، لذلك ليس كون السحابة مغيمة أو ممتلئة بالماء بلازم أن تنزل في هذا المكان، ولذلك يقول الله تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43]، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره، وقد ينظر الإنسان إلى الشيء في متناول اليد، فيذهب ليأخذه فيضيع منه هذا الشيء، فالله يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وكم من إنسان يرفع اللقمة إلى فمه، فتقع اللقمة على الأرض فما يأكلها مرة أخرى، {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] سبحانه تبارك وتعالى.
فالإنسان ينظر في حكمة الباري سبحانه وفي قدرته وفي آياته العظيمة، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وعبر الله عن السحاب في هذه الآية بقوله: (يجعله كِسَفاً)، وقال في سورة النور: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، والودق بمعنى المطر، يعني: قطرات المطر تخرج من خلاله.(219/2)
الفرق بين الريح والرياح
يقول لنا سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم:48] وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف (الريح)، فقرءوا: ((الله الذي يرسل الريح فتثير سحاباً)).
ومن هنا قد يعبر بـ (الريح) عن (الرياح)، وبـ (الرياح) عن (الريح)، وهذه القراءة في كل القرآن على ذلك.
وذكر بعض أهل العلم ومنهم: أبو عمرو البصري أن الله سبحانه وتعالى يعبر بـ (الريح) ويعبر بـ (الرياح)، قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، هذا كلام أبي عمرو البصري ولم يصح ذلك عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكلام أبي عمرو البصري بناءً على قراءته هو، فهو يقرأ (الرياح) في مواضع، و (الريح) في مواضع، فيقول بناءً على ما فهمه مما قرأه من القرآن ومن كلام العرب: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، يعني: كلمة (الرياح) جمع، فتكون بمعنى (الرحمة)، و (الريح) مفردة تأتي بمعنى العذاب، هذا كلامه، وواضح أن هذا الكلام ليس له نصيب من الصحة، وإن كان أخذ به بعض المفسرين؛ لأن الذي يتتبع القراءات في القرآن سيجد القرآن يعبر بـ (الريح) ويعبر بـ (الرياح) في الموضع نفسه، فيقرأ البعض من القراء (الريح)، ويقرأ البعض الآخر (الرياح)، فلا تغتر بهذا الكلام، فإن قراء القرآن لم يفرقوا بين هذا وذاك؛ لأن الآية واحدة والقراءة فيها قراءتان (الريح)، و (الرياح)، وعلى ذلك الريح تنزل الأمطار، والرياح كذلك تنزل الأمطار.(219/3)
كيفية تجمع السحب
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48] إثارة الشيء دفعه ونشره، وهنا: الرياح تثير السحاب فتكونه شيئاً وراء شيء، قال تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] أي: تكون السحابات متفرقة في السماء في كل مكان، ثم يجعله كسفاً، أي: قطعاً تكبر السحابة، و (كسفاً) كأنه الجمع، سواء قرئت {كِسَفًا} [الروم:48] أو (كِسْفاً) ففي الحالتين هي جمع، ولذلك ففيها قراءتان: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] قراءة الجمهور، والأخرى: (ويجعله كِسْفاً) بالسكون قراءة أبي جعفر وابن عامر بخلف هشام فيها، فالقراءتان بمعنى الجمع، والمفرد منها: كِسْفة، هذه المفرد، والجمع (كِسفاً) أي: قطعاً مجموعة يجمع بعضها إلى بعض.
قال تعالى: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48] أي: ينزل المطر من خلال هذا السحاب، والآية الأخرى عبرت عن ذلك في سورة النور بتعبير أوضح فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43]، فقوله: (يزجي) بمعنى: الدفع والتقريب شيئاً فشيئاً، وكأنه يسوق هذا السحاب سوقاً خفيفاً، فأنت لا ترى السحاب تجري وتلتحم بالأخرى فجأة، بل تراها تسير سيراً خفيفاً وكأنها لا تمشي، فقوله تعالى: (يزجي) أي: يدفع برفق شيئاً فشيئاً، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43] أي: يجمع بينه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور:43]، وقال في سورة الروم: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم:48] أي: قطعاً، وهناك ذكر أن هذه القطع تتراكم بعضها فوق بعض، فترى: سحابة فوقها سحابة وفوقها سحابة، ولذلك يقول العلماء: إن السحابات إذا تراكمت بعضها فوق بعض تولد خلالها من الرياح ما يسحب هذه السحاب حتى يرتفع بعضها على بعض ويتجمع ويتكاثف إلى أن تصير كالجبال، لا يراها إلا من ركب الطائرة، فينظر إلى هذه السحابات كالجبال.
قال تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43]، الودق هو المطر ينزل من خلاله.
قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] أي: أن الذي ينزل الثلج والبرد من السحاب إنما هو نوع واحد فقط من السحاب الذي يكون مثل الجبال، أما غيره فينزل الودق ولا ينزل البرد، وهذا يقول به العلماء الذين اكتشفوا ذلك، فقالوا: السحاب الركامي الذي كهيئة الجبال هو وحده الذي ينزل منه قطع البرد، أي: قطع الثلج، أما غيره من السحاب فينزل منه رذاذ، وينزل منه قطرات المطر.(219/4)
أثر الأمطار في إدخال السرور على الناس
يقول سبحانه: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48] هذه نعمة رب العالمين سبحانه، فالناس إذا كانوا في جدب يطلبون من الله المطر، فيبذر بذره ثم ينتظر رحمة رب العالمين، ومن يذهب إلى البلدان التي يعتمد أهلها على المطر يرى حال الناس ونظرهم إلى السماء راجين نزول القطر من السماء، وينتظرون رحمة الله سبحانه، فينزل المطر من السماء فإذا بالأرض تنبت وتخرج ما أودعه الله سبحانه وتعالى بداخلها، قال تعالى: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48]، أي: إذا أصاب به من يشاء من عباده {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48].
وقد جاء حديث في صحيح مسلم يخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الرحمة العظيمة من فضل الله سبحانه وتعالى، يخبر عن رجل يسير ويرى سحابة فوقه ويسمع فيها صوتاً، اسق أرض فلان -ويسمع الرجل الصوت من السحابة- اسق أرض فلان، فيتعجب هذا الإنسان! وينظر إلى السحابة ويراقبها فإذا بها تسير والرجل يسير وينظر أين ستسقي هذه الأرض، إلى أن رأى السحابة تتجمع في مكان بين مكانين مرتفعين، وتنزل المطر على هذا المكان، فيجتمع المطر في مكان واحد، ثم يسيل كله والرجل يمشي وراءه ويتتبعه حتى وصل إلى أرض إنسان يسقي هذا الماء من ماء المطر، فيذهب إلى صاحب الأرض ويسأله: ما اسمك يا عبد الله؟ يقول: أنا فلان، لم تسألني عن اسمي؟ قال: لأني سمعت في هذه السحابة الذي هذا ماؤها صوتاً يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعته فوجدته إلى هنا، ما الذي تصنع فيها؟ يقول الرجل: أما إن قلت لي ذلك، فإني أزرع أرضي وآخذ ما يخرج منها فأقسمه أثلاثاً: ثلثاً أتصدق به، وثلثاً آكل منه أنا وعيالي، والثلث الثالث أجعله في الأرض، فهذا الرجل كان يقسم الأرض بينه وبين ربه سبحانه وبين الأرض نفسها، فثلث يرجعه في الأرض يزرعه مرة أخرى، وثلث ينفقه على الفقراء والمساكين لله عز وجل، وثلث ينفقه على نفسه وعياله، ومن كان بهذا الشأن لا يضيعه الله سبحانه وتعالى، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما نقص مال من صدقة)، فالله عز وجل جعل له هذه الآية العظيمة؛ ليرينا آية من آياته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الروم:48] أي: تأتيهم البشرى فتراهم يفرحون، ويظهر عليهم أثر هذه البشارة من سعادة وفرح.(219/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين)
قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] أي: قبل هذه البشارة وقبل الفرح كانوا منتظرين المطر في عبوس وضيق وكادوا يقنطون، قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ} [الروم:49] أي: من قبل أن ينزل عليهم هذا المطر، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ((من قبل أن يُنْزَل عليهم من قبله لمبلسين))، وأبلس الإنسان أي: صار يائساً قانطاً، فقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} [الروم:49] أي: آيسين من هذا المطر، فإذا به ينزل فيفرحون ويستبشرون.(219/6)
تفسير قوله تعالى: (فانظر إلى آثار رحمة الله)
قال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50] أي: انظر إلى الفرج من عند الله، وكيف يفرح العباد بذلك، فإذا فرحوا هلا شكروا الله سبحانه وتعالى أن أعطاهم ذلك، فلا تنس وأنت في غمرة فرحتك بنجاحك، أو برزقٍ أتاك الله عز وجل، أو بثمر أخذته من حديقتك، أو بزرع أخرجه حقلك، لا تنس في أثناء فرحك أن تشكر الله سبحانه، ولا تطغَ ولا تبغِ، ولا تكن من الباطرين الفخورين.
قال تعالى: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50] على الجمع قراءة ابن عامر، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف، وباقي القراء يقرءونها: ((فانظر إلى أَثرِ رحمة الله)) وهو: نتيجة الغيث، ونتيجة رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، والبشرى في وجوه الخلق والزرع والنبات والثمار، وما يخرج لهم من الأرض.
وكلمة (رحمت) مكتوبة بالتاء، ولذلك إذا وقف عليها الجمهور يقفون: ((فانظر إلى آثار رحمت)) فيقفون بالتاء، وهي تاء التأنيث هنا، ويقرؤها ابن كثير، وأبو عمرو ويعقوب، والكسائي في الوقف بالهاء {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ} [الروم:50]، والكسائي إذا وقف عليها فإنه يميل فيها ويقول: (رَحْمِةْ).
قال تعالى: {كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50] أي: انظروا إلى الأرض وقد ماتت وأجدبت، وإذا بالله يهزها ويحييها، وينمي فيها ما كان بداخلها بفضله ورحمته، فإذا رأيت كيف أحيا الله هذه الأرض، أفلا يحييك أنت وأنت منها؟! فالذي أحيا الأرض بعد موتها {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40]، {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33].
وقال هنا: إن ذلك الإله العظيم الرب القدير سبحانه وتعالى لقادر على ذلك، {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]، فهو ليس على إحياء الموتى فقط قادر، بل هو قادر على إحياء الموتى وإماتة الأحياء وعلى كل شيء الله سبحانه وتعالى قدير.(219/7)
تفسير قوله تعالى: (ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً)
قال تعالى: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم:51]، قوله تعالى هنا: ((رِيحًا)) لا توجد فيها إلا قراءة واحدة فقط وهي: (ريحاً) بالإفراد، و (الرياح) تأتي بالإفراد وبالجمع، و (الريح) هنا: مفردة.
وقوله: ((رأوه)) الضمير هنا يجوز أن يكون راجعاً إلى الريح، وكأن الريح التي تسير التراب تختلط به فترى الريح كأن لونها أصفر من التراب، فيكون المعنى: فرأوا الريح، ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الأثر، فيكون المعنى: رأوا الأثر من هذه الريح الاصفرار، فإذا بالنبات الأخضر يموت ويذبل ويصبح أصفر بعد ذلك، {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} [الروم:51]، ويحتمل أن يرجع إلى السحاب بمعنى: أنهم يعرفون أن السحابة السوداء يوجد فيها الرياح وتنزل المطر، أما السحابة الصفراء فإنها لا تنزل شيئاً، فقوله تعالى: (فرأوه) يحتمل أن يكون عائداً إلى هذه الرياح، أو إلى هذه السحابات والأثر الذي فيها أو إلى الزروع وأثر الاصفرار الذي فيها، فإذا رأوا رياحاً صفراء، أو رأوا سحابات صفراء، أو رأوا الزرع أصفر؛ يئسوا وقنطوا وحزنوا على ذلك، وظلوا من بعده يكفرون.
وعجيب جداً حال الإنسان! إذا وجد الرزق والماء والطعام، ووجد من فضل الله ورحمته عليه في الدنيا، فإنه يفخر به، ويرتفع على غيره، ويكفر النعمة ولا يشكر الله سبحانه وتعالى، فإذا ضيق الله عز وجل عليه كفر نعمة الله عليه، وبدأ يشتكي من الله، فينسى أنه أعطاه قبل ذلك، وأنه سيعطيه بعد ذلك، ولكن يضيق سبحانه وتعالى على العبد حتى يلجئه إلى ربه، وحتى يجأر إليه، ويعرف النعم.
ولولا أن الإنسان يصاب بشيء من الضيق، لما كان يعرف فضل رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وانظر لو أن إنساناً في نجاح دائم، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد، لكن حين يأتي عليه وقت فيه ضيق، ووقت يرسب فيه، فإنه سيشعر أنه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، ولو أن إنساناً في صحة دائمة، لبغى وكفر وشعر أنه لا يحتاج إلى أحد أيضاً، لكن حين يأتي على الإنسان شيء من المرض فإنه يرجع إلى ربه سبحانه ويشكر هذه النعمة، لذلك يقولون: لا يعرف النعمة إلا فاقدها.
فالذي يفقد النعمة يعرف نعمة رب العالمين سبحانه، فمن يتكلم لا يعرف نعمة الله عليه في الكلام إلا حين يفقد صوته، ومنهم من يعرف نعمة الصحة، فإذا أصابه المرض عرف أن هذا المرض شيء حجبه الله عز وجل عنه فترات ولم يشكر ربه سبحانه وتعالى على ذلك، فحين ابتلاه عرف هذا الشيء، والشيء يظهر حسنه ضده، ولذلك قالوا: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فلولا السواد ما عرفت فضل البياض، ولولا المرض ما عرفت فضل الصحة وهكذا، فرحمة رب العالمين عظيمة، يبتلي العبد ويختبره حتى يرجع إليه، فيعطيه الله سبحانه وتعالى، فشكرك لنعمة الله أعظم عند الله من النعمة نفسها التي أنزلها عليك.
فالنعمة من الله، والشكر نعمة أخرى من الله أيضاً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما أنعم الله على عبد من نعمة فشكره عليها، إلا كان شكره عند الله أحب إلى الله من النعمة نفسها)، فالنعمة التي أعطاك الله منه نعمة، والشكر نعمة من الله، هو الذي تفضل عليك بذلك، وأحب النعمتين إلى الله الشكر، فعود نفسك على شكر الله سبحانه، واحمد لله في السراء والضراء، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين)، وإذا حدث شيء وبلاء بالمسلمين قال: (الحمد لله على كل حال)، فحاله دائماً الحمد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الحامدين الشاكرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(219/8)
تفسير سورة الروم [52 - 54]
الموتى لا يسمعون، ومثلهم الصم إذا ولوا مدبرين، وعمي البصائر لا يبصرون الحق، ولا يرى الحق ويتبعه إلا المؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية، المستسلمون لأوامره وشريعته.(220/1)
تفسير قوله تعالى: (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:52 - 54].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأنه لا يقدر على إسماع الموتى إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
وإسماع الموتى يأتي على معنيين: إما الأموات غير الأحياء، وإما أموات القلوب أحياء الأبدان.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يحول الناس من الكفر إلى الإيمان، وإنما الذي يقدر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا ماتت قلوب الناس لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره على إحياء هذه القلوب، إنما الذي يقدر على ذلك الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله، إذ المعنى لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد عن أمر إلى أمر إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وقد يشكل على البعض قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] وكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب قتلى المشركين في بدر وأخبر أنهم يسمعون كلامه! والصحيح أن الموتى على الحقيقة لا يقدر أن يسمعهم لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره إلا ما يشاء الله سبحانه، وأن إسماع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر لقتلى الكفار وقد ألقوا في قليب بدر ونداءه لهم وهو على رأس القليب: يا فلان، يا فلان، يا فلان، (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ وتنبيه عمر للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ما تسمع من جيف لا تسمع)، وتأكيد النبي صلى الله عليه وسلم سماعهم بقوله: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) يعني: كما أنكم تسمعونني كذلك هم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم في تأنيبه لهم، وفي تذكيره لهم؛ فهذا كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ العادة ألا يسمع الموتى كما أخبرت الآية إلا أن يشاء الله عز وجل؛ فأسمع الموتى نداء النبي صلى الله عليه وسلم بما يشاء الله سبحانه، وبذلك علم أن الأصل أن الأموات لا يسمعون نداء الأحياء، ولا يخاطبهم الأحياء فيفهمون أو يسمعون ما يقولون، ولكن إذا شاء الله عز وجل كان هذا الأمر.
وعلى المعنى الثاني أنهم أموات القلوب، ويكون المعنى أن الكفار الذين ماتت قلوبهم، لم يذكروا الله سبحانه، ولم تنفعهم الموعظة، ولم ينفعهم شيء، وأنه مهما حاول النبي صلوات الله وسلامه عليه إسماعهم وهدايتهم ولم يشأ الله عز وجل لهم الهدى، فإنهم لن يسمعوا ولن يهتدوا.
وفي قوله تعالى: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [الروم:52] إخبار أن هؤلاء ماتت قلوبهم فإذا بهم صم بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون وهم لا يعقلون، لا يرجعون قولاً ولا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلهم يضحكون ويلعبون ويستهزئون بأشياء ليست محلاً لذلك، ولكن لجهلهم ولغباوة عقولهم، وللطبع والطمس على قلوبهم فإنهم لا يفهمون ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
وكالموتى الصم قال تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] أي: من كان أصم لا يسمع فكيف تسمعه نداءك؟! والمراد هنا الصمم عن سماع الحق، فالمعنى: آذانهم قد صمت عن نداء الحق، فلا يسمعون الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعقلون ما آتاهم به من حجج، ويريهم الله الآيات ومع ذلك لا يحاولون أن يعقلوا ما فيها! وأي آية أكبر مما رأوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحكام هذا القرآن العظيم وإعجازه؟! وفي قوله سبحانه في هذه السورة الكريمة: {غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3] تحقق ما ظنوه مستحيلاً فوجدوه كما أخبر الله سبحانه ومع ذلك لم يؤمن كبار الكفار! ومن الآيات: ما سألوه من النبي صلى الله عليه وسلم: أن يشق لهم القمر، ووعدوه إن هو فعل ذلك فسوف يؤمنون، (فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في ليلة من الليالي، ثم يشير إلى القمر بيده صلى الله عليه وسلم فينشق القمر) يقول الله سبحانه عن تلك الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فيرون القمر فلقتين، فلقة أمام الجبل وفلقة خلف الجبل، ومع ذلك لا يؤمنون، ماتت قلوبهم فلا حياة لهذه القلوب، وصمت آذانهم فلا يعقلون ما يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم! وبمعنى قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] قوله سبحانه عن هؤلاء: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18].
الإنسان الأصم هو: الأطرش الذي لا يسمع، قوله: (بكمٌ)، أي: لا ينطقون، وقوله: (عُميٌ)، أي: لا ينظرون، فلو أن إنساناً أصم لا يسمع، وأبكم لا ينطق بما يريد، وأعمى لا يبصر، قد اجتمعت فيه هذه الآفات كلها فهو كما قال الله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، فإنه ولا شك يتعذر التواصل معه، فلا ينتفع بشيء، وهؤلاء قد صمت آذانهم فلا يسمعون نداء الحق.
وعميت أبصارهم فلا ينظرون إلى الحجج، وذهبت عقولهم فلا يعقلون ولا يفهمون ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وبكمت ألسنتهم فلا ينطقون بحجة سليمة ولا برأي سديد.
وفي قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52] قراءتان، الأولى: قراءة الجمهور وهي المتقدمة، وقرأ ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع نداء من يناديه، وكيف يسمع وقد صمت أذناه؟! وما يؤكد أن الصمم في قوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] ليس الصمم في خلقة الأذن، قوله تعالى: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [الروم:52] يدبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لا يحاولون أن يفهموا أو يسمعوا ما يقوله عليه الصلاة والسلام إذا ناداهم، وليس ذلك فحسب، بل هم كذلك يستغشون ثيابهم، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا منه ما يقول.(220/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم)
قال سبحانه: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [الروم:53] أي: إذا كان العمى الذي هم فيه عمى الضلال فلا تستطيع أن تهديهم، وكيف ستهديهم وقد عميت أبصارهم؟! فكلما أشرت لهم: الطريق هنا وقد أغمضوا أعينهم فأنى يفقهون ما تقول؟ أو يدركوا إشارتك؟ بل قد ولوا مدبرين فطبع الله على قلوبهم.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} هذه قراءة الجمهور وقرأها حمزة: (وما أنت تهدي العميَ عن ضلالتهم).
ثم أخبر الله أن المؤمنين هم الذين يستفيدون من الآيات فقال سبحانه: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم:53] (إن وإلا) أسلوب قصر، والمعنى: لا تسمع إلا هؤلاء فقط، فالمؤمنون المتقون هم الذين يسمعون منه صلى الله عليه وسلم فيستجيبون، فقوله: {إِنْ تُسْمِعُ} [الروم:53] إن هي النافية والمعنى: ما تسمع، {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم:53] فالذين آمنوا، وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، واستيقنوا أنه الحق من عند الله، قد سلموا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، واستسلموا له، فهو يحكم فيهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد سبحانه وتعالى.(220/3)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف)
ذكر الله مننه على خلقه ونعمه عليهم، وبين مدى حاجتهم إليه فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
قوله: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) يدل لفظ الجلالة والفعل الذي يليه على توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ويؤكد أن الله الإله المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنه هو وحده، إذ الخلق مقتضى أنه رب سبحانه وتعالى، ولكونه رباً فهو وحده الذي يخلق، وهو وحده الذي يرزق، وهو وحده الذي ينفع ويضر، ويعطي ويمنع سبحانه وتعالى.
وفي الآية إشارة إلى توحيد الرب سبحانه في العبادة، إذ إنه ما دام أن الخالق واحد لا شريك له، فهو وحده الذي يستحق أن يعبد.
كما أن قوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] يبين المنحنى الذي يعيش فيه الإنسان، فهو في هذا المنحنى بدأ من الصفر، ثم أخذ يكبر شيئاً فشيئاً إلى أن يصل إلى أوج القوة والكمال، ثم بعد ذلك ينحني إلى الأسفل إلى أن يصل إلى الصفر مرة أخرى ويموت الإنسان! فالله خلق الإنسان من ضعف، ثم أوصله إلى القوة، ثم عاد به إلى الضعف مرة أخرى، ولذلك لا ينبغي أن يغتر الإنسان بما أعطاه سبحانه وتعالى في هذه الدنيا، بل لابد أن يستعين بما أعطاه الله سبحانه على طاعته، وما ينفعه في الدنيا وفي الآخرة.
أما الإنسان الذي يغتر بما أعطاه الله من قوة، فهو جاهل مغرور لم ينظر إلى غيره، كيف كان في يوم من الأيام صغيراً، ثم صار شاباً، ثم صار شيخاً، وتتابعت مراحل عمر الإنسان لتؤذن برحيله؛ لذا لابد أن يدرك أن الذي فعل بغيره ما فعل الذي يفعل بك ما يفعل بالغير، وقد قالوا: السعيد من وعظ بغيره.
وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [الروم:54] قراءتان فقراءة الدوري عن أبي عمرو وخلف بالإدغام: (الله الذي خلقكُّم).
وقوله: {مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] الضعف الأول هي المرحلة التي كان عليها الإنسان في بطن أمه من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم صار حملاً، وتتبعها مرحلة الطفولة التي تبدأ من نزول الإنسان من بطن أمه صبياً صغيراً إلى أن يكبر ويشب.
قوله سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] أي: بعد مرحلتي الجنين والطفولة تأتي مرحلة الشباب والفتوة والاكتمال.
ثم قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54] والضعف الأخير بسبب الشيخوخة والهرم كما بينت الآية.
وتنقل الإنسان بين هذه المراحل بدون اختياره يدل أن هناك قدرة مدبرة ذات مشيئة وإرادة، قال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54] سبحانه وتعالى، كما أن ضعف الإنسان ملازم له لا ينفك عنه، فإن كان ضعيفاً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، وإن كان قوياً فالذي يرزقه هو الله سبحانه وتعالى، ولذا ينبغي على الإنسان أن يكون دائماً وأبداً متوكلاً على ربه سبحانه، وليثق بالرب الذي أطعمه وهو في بطن أمه، وأطعمه وهو صبي صغير، فهو الذي يعطيه حتى يتوفاه سبحانه وتعالى.
وقرئت الآية على هذا النحو: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوةٍ ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) وهذه قراءة عاصم، وقراءة عاصم في هذا الموطن بخلاف قراءة حفص، وإن كانت القراءة بالضم هي اختيار حفص عن عاصم، وذكر عن حفص أنه ما خالف عاصماً في شيء إلا في هذه الكلمة لحديث عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكان الأشهر من قراءة حفص عن عاصم: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفَاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير)، كما أنها أيضاً قراءة حمزة، وسبب اختيار حفص لهذه القراءة ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن عطية العوفي قال: قرأت على عبد الله بن عمر: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: (الله الذي خلقكم من ضُعْفٍ ثم جعل من بعد ضُعْفٍ قوة ثم جعل من بعد قوة ضُعْفاً وشيبة) ثم قال له: قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأتها عليّ فأخذ عليّ كما أخذت عليه.
فـ عبد الله بن عمر قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم: (الله الذي خلقكم من ضَعْف) فأقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ضُعْفٍ) وإن كانت هذه قراءة صحيحة وهذه قراءة صحيحة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعض أصحابه بقراءة والبعض الآخر بقراءة، والكل كلام رب العالمين سبحانه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، فكلا القراءتين جائز، ولكن الغرض بيان: سبب اختيار حفص لهذه القراءة على القراءة الأخرى؟ فعلمنا أن اختيارها كان بسبب الحديث المتقدم، والحديث حسنه الترمذي وأيضاً حسنه الألباني.
قال العلماء: الضعف يكون بالضم: الضُعف، ويكون بالفتح: الضَعف، على الخلاف الذي بين القراءتين، فالضعف بالفتح يكون في الرأي، وبالضم يكون في الجسد، وهذا صحيح، وإن كان كلٌ منهما يعطي المعنى الآخر، فالمعنى على القراءة بالفتح: كنتم في ضَعف، أي: في العقول وفي الآراء، إذ المعلوم أن الصبي الصغير لا عقل عنده، وإن كان فيه عقل يميز ولكنه لا يكلف بهذا العقل قطعاً؛ لأنه غير سوي وغير مكتمل، وهو ما نعني بالضعف، وعلى ذلك ستخُصَ القوة في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] بالقوة في الرأي، والمعنى: صار بالغاً عاقلاً مكلفاً يفهم الأشياء، ذا خبرة في الحياة.
ثم بعد ذلك يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، أي: يصل إلى مرحلة الهرم والشيخوخة ويبدأ عقل الإنسان بالضعف، فما كان يحفظه ينساه، والأشياء التي كان يتذكرها إذا به ينسى الكثير منها، وكان واسعاً في مداركه وتفكيره فإذا به ضيق الأفق، وهو معنى الضعف الثاني على القراءة بالفتح ضعف.
وعندما يتأمل المرء في هذه المراحل العجيبة يدرك أنه ينبغي عليه أن يحاول قدر المستطاع أن يستفيد من قوته وشبابه، عملاً بوصية ابن عمر حيث يقول: خذ من قوتك لضعفك، وخذ من صحتك لسقمك، وخذ من حياتك لموتك، ولذا ينبغي على الإنسان أن يستغل فرصة قوته وصحته في عبادة الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في صحة بحيث تقدر على الصلاة قائماً، فأكثر من الصلاة قبل أن يأتي عليك الضعف والمرض فتصلي وأنت قاعد.
ومن الفروق بين مرحلتي الضعفين اللذين ذكرهما الله سبحانه، أن الإنسان إذا كان في الضعف الأول وهو صغير يحبه أبوه وتحبه أمه، أما في الضعف الثاني الذي يأتي وهو كبير يضيق به من حوله، لذلك ينبغي على الإنسان أن يكون ودوداً إلفاً مألوفاً، فإذا وصل إلى هذه المرحلة؛ إذا بالناس كلهم يحبونه، ففرق بين إنسان في شبابه مغرور، فهو يغتر على الناس، ويتقوى عليهم بقوته، ويستعرض عليهم بعضلاته، فإذا كبر وشاخ ضاق به الناس وتمنوا موته، وآخر كان ودوداً للناس، خيراً مع الناس، إلفاً مألوفاً؛ فإنه إذا كبر في السن لقي كل من حوله يحبه، والكل يحاولون أن يخدموه، وكذلك الآباء مع أبنائهم فالأب الذي مع أولاده يخدمهم، ويعطف عليهم، ويرحمهم، وملئ بالحنان والشفقة، ويؤدبهم ويعلمهم دين الله سبحانه؛ يطيعه أبناءه في الشيخوخة أتم الطاعة، ويبذلون قصارى جهدهم في خدمته.
أما الأب القاسي على أولاده، الذي لا يحبهم، ولا ينفق عليهم، ويؤذيهم ويؤذي أمهم، فإنه إذا وصل إلى الشيخوخة تجدهم كلهم تاركين له، لا أحد يسمع له، وقد يتمنون موته، فالذي قدمه في يوم من الأيام جناه بعد سنين من عمره، أو بعد ما وصل إلى أرذل العمر؛ لذلك قدم لنفسك، ولا تنظر إلى اليوم وانظر إلى الغد ما الذي يكون فيه؟ فالله سبحانه يخلق ما يشاء وهو العليم بخلقه سبحانه، القدير على تغيير أحوالهم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].(220/4)
تفسير سورة الروم [50 - 60]
بقيام الساعة تنكشف الحقائق، وينجلي الزيف، ويدرك المفتونون عظيم خسارتهم وفداحة جرمهم، فمرة ينكرون طول مكثهم في الدنيا، وأخرى ينكرون شركهم ويقسمون على إنكاره، وثالثة يطلبون العودة حين لا عودة، وهم لا يستعتبون ولا يعتبون، فقد بين الله لهم تمام البيان بكتابه فضرب للناس فيه من كل مثل لعلهم يهتدون، إلا أن قلوبهم طبع عليها بظلمهم فلا تنتفع بالآيات.(221/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في آخر سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * فَيَوْمَئِذٍ لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:55 - 60].
يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أمر الساعة وقيامها، وما الذي يحدث في هذا اليوم العظيم الذي ذكره الله عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه، ونزل هذا القرآن العظيم ليحذر الناس من هذا اليوم العظيم، فهو يوم يقومون بين يدي رب العالمين سبحانه ليسألهم: هل عبدوه -وقد أمرهم بعبادته- أو لم يعبدوه؟ وليسألهم: ماذا كنتم تعملون في هذه الحياة الدنيا؟ وحين جاءتكم الآيات هل أخذتموها مأخذ الجد فعملتم بها أم أنكم اتخذتم هذا القرآن وراءكم ظهرياً، وتركتموه وسخرتم بأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [الروم:55] في السياق تفخيم وتهويل لهذا اليوم العظيم، بما يجعل السامع يتسائل: ما الذي يكون يوم تقوم الساعة؟ فيجد الإجابة أمامه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55] حين تأتي على كل إنسان ساعته، وتأتي القيامة الكبرى، فيموت من على هذه الأرض قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ثم يأمر الله سبحانه بعد ذلك بالنفخ في الصور؛ فيبعثون من القبور ويقفون بين يدي رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وحينها ينظر الناس في أعمالهم، ويتساءلون عن لبثهم كم كانت مدته؟ قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] واختلف في السائل، فقيل: يسألهم ربهم سبحانه، وقيل: تسألهم الملائكة، وقيل: يسأل بعضهم بعضاً: كم لبثنا في هذه الحياة الدنيا؟ والأولى حمل الآية على الجميع، وهم حين يسألون: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] يجيبون كما ذكر الله عنهم: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] والعادون: من كانوا يحسبون ويعدون أيامهم ولياليهم، بل ويعدون حتى أنفاسهم، وفي الآية إشارة إلى جهلهم بمدة لبثهم.
وفي قوله سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] يخبر عن المجرمين إذا قاموا من القبور أنهم يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا اللبث إما أن يكون المقصود به في الدنيا كما سئلوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:112 - 113] أي: على ظهر الدنيا أو في باطنها، فإذا كان يوم القيامة إذا بهم ينظرون إليه أنه لا شيء، وأن لبثهم فوق الأرض -وإن عاش أحدهم ستين سنة أو مائة سنة أو حتى ألف سنة- لا شيء إذا قورن بيوم القيامة، فهو يوم واحد قدره خمسون ألف سنة، فلذلك قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113].
ثم يبين الله مدى استحقارهم لتلك الفترة التي لبثوها في الدنيا فيقول سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ} [الروم:55] إذاً يحلف المجرمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا غير ساعة، وهذا في توهمهم وظنهم، وإن كان الأمر أنهم عمروا سنيناً من سنين الدنيا، ولكن لما نظروا إلى طول الموقف قالوا: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [المؤمنون:113]، وعلى أن اللبث الذي أخبروا عنه في القبور يكون المعنى: أنهم حين يموتون، ويكونون في القبور، والقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار، ثم يقومون منها يقيسون ما كانوا فيه على ما يكون يوم القيامة، فيظنون أن ما فات كان أهون، وأنه كان شيئاً يسيراً، ويزعمون أنهم ما لبثوا في القبور إلا يوماً أو بعض يوم، أو يقولون: ما لبثنا غير ساعة، كما في هذه الآية، وهذا الظن الذي يقسم عليه المجرمون باطل في الحقيقة.
والمجرمون هم الذين وقعوا في الجرم، أي: في المعاصي والفواحش الكبرى، ونعتوا بذلك؛ لأنهم عصوا الله سبحانه تبارك وتعالى، وخرجوا عن طاعته وعن دينه، وفي الآية إشارة إلى أنهم يوم القيامة يكونون في حالة ذعر شديد، حتى يقسم أحدهم على الشيء وهو خلاف ما يقسم عليه، قال تعالى: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55].
قوله: ((كَذَلِكَ كَانُوا)) الإشارة هنا إلى ما هم فيه من انصراف عن الحق وبعد عن الصواب، والمعنى: كذلك كانوا في الدنيا، فهم كانوا في الدنيا وفي الآخرة على هذا الحال من البعد عن الحق.
ومن البعد عن الصواب.
وقوله: ((يُؤْفَكُونَ)) يؤفك الإنسان بمعنى: يصرف عن توحيد الله، ويصرف عن الحق، وهو حين ينصرف عن الحق يقع في الكذب، وحديث الإفك أي: حديث الكذب، وإفكهم في الدنيا أي: أنهم كانوا يصرفون عن الخير، ويصرفون عن الصدق، ويبتعدون عن تصديق رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فهم كما كانوا في الدنيا منصرفين عن الحق فكذلك يوم القيامة لا ينطقون بشيء ينفعهم، ولا يتكلمون بشيء فيه صواب، فكما صرفوا في الدنيا صرفوا يوم القيامة.
فقوله سبحانه: ((كَذَلِكَ)) أي: كذلك الذي تسمع في هذه الآية من أنهم يقولون: لبثنا ساعة، ويقسمون على ذلك، وكذبوا وما صدقوا كما كذبوا الآن وأقسموا وقالوا: والله ما لبثنا في الدنيا إلا ساعة واحدة، فكهذا الكذب كانوا يصرفون في الدنيا عن توحيد الله وعن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيكذبون في الدنيا على الله، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فكذبوا في الدنيا وكذبوا في الآخرة.
بل قام المنافقون بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى يحلفون قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18]، فهم لجرأتهم يكذبون على الله سبحانه يوم القيامة، والله يملي لهم، ويتركهم ليكذبوا، وذلك ليذوقوا أشد العذاب وأشد الويل يوم القيامة، فيحلفون لله سبحانه كما يحلفون في الدنيا: والله ما عصينا، والله ما أشركنا، والله ما عملنا كذا، قال تعالى: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18]، وقد تركهم الله فحلفوا وتركهم فكذبوا وأخرسهم فنطقت عليهم جوارحهم تكذبهم فبهتوا وخذلوا، فكانوا إلى النار بل إلى الدرك الأسفل من النار والعياذ بالله.
وككذب المنافقين وحلفهم يحلف هؤلاء، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] أي: أنهم عندما يقفون بين يدي الله عز وجل ويسألهم: أأشركتم بي؟ فيقولون: والله ما كنا مشركين، ويحلفون لله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة ويكذبون ليكون ذلك زيادة في عذابهم يوم القيامة.(221/2)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان)
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] أي: أن أهل العلم وأهل الإيمان يوم القيامة من رسل الله عز وجل، ومن أولياء الله، ومن ملائكة وغيرهم يردون على هؤلاء الكذابين فيقولون: {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم:56] أي: لبثتم في حكم الله سبحانه إلى يوم البعث، فقد مضت عليكم فترة طويلة، وعشتم في الدنيا سنيناً ثم نقلتم إلى القبور فلبثتم فترة طويلة، حتى بعثكم الله عز وجل الآن.
فهم نظروا إلى الفترة التي من ولادتهم إلى أن بعثوا يوم القيامة، فزعموا أنها ساعة واحدة فقط، وقد تكون هذه الفترة آلاف السنين؛ ولذا يجيبهم الذين أوتوا العلم فيقولون: بل إنكم قد لبثتم في حكم الله سبحانه منذ أن خلقتم إلى أن يبعثكم الله سبحانه.
قوله: {فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} [الروم:56] أي: هذا يوم بعث الإنسان، حيث خرج من موت في قبره إلى حياة ونشور، {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] فمع أن الرسل بلغوا هؤلاء المجرمين، وحذروهم من هذا وأقاموا عليهم الحجة كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، إلا أن علمهم كان كلا علم، بل علمهم محصور على ما ذكر سبحانه تبارك وتعالى في أول هذه السورة فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فمع أنهم علموا من الرسل بوقوع يوم القيامة إلا أنهم لم يستيقنوا، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، فكان علمهم كجهل، حيث لم ينتفعوا به، فيكون معنى قوله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الروم:56] أي: لا تعلمون علماً ينفعكم حيث لم تستيقنوا، ولم تصدقوا الرسل، فكان علمكم معرفة، عرفتم أن هناك يوم قيامة فلم تعملوا له.(221/3)
تفسير قوله تعالى: (فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم)
بين الله عدم جدوى اعتذارهم يوم القيامة فقال سبحانه: {فَيَوْمَئِذٍ} [الروم:57] أي: يوم القيامة، {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57]، وقراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (لا ينفعُ)، وأما قراءة الباقين فهي: (لا تنفع) على التأنيث، والمعذرة يجوز أن تذكر فيقال: (لا ينفع)، ويجوز أن تؤنث فيقال: (لا تنفع).
وإذا كان الاعتذار والاستعتاب والرجوع إلى رب العالمين ينفع الإنسان في الدنيا ولا ينفع في الآخرة؛ لأن الدنيا دار تكليف، أما الآخرة فهي دار جزاء، ولا ينفع أن يقول فيها الإنسان: آمنت وصدقت.
فقد صار الغيب شهادة.
قوله: {لا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الروم:57] أي: ظلموا أنفسهم في الدنيا بشركهم بالله سبحانه، وظلموا غيرهم.
وقوله: {مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم:57] أي: اعتذارهم.
{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم:57] أصل الاستعتاب: طلب إزالة العتب، يستعتب أي: لا يطلب منه إزالة العتب، يقال: استعتبني فأعتبته، يعني: طلب مني إزالة العتب فأزلته عنه، والمعنى: استرضاني فوافقته على ذلك.
فهؤلاء لا يستعتبون أي: لا يطلب منهم إزالة غضب الله عليهم بالطاعة، أو لا يطلب منهم ولا يقال لهم: ارضوا ربكم الآن، إذ إن طلب الرضا كان في الدنيا، أما في الآخرة فلا يطلب منهم ذلك، إذ الآخرة ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء وحساب، فلا ينفعهم فيها الاعتذار، ولا يطلب منهم أن يتوبوا إلى الله، ويرجعوا إليه، ويزيلوا الغضب الذي من الله عليهم.(221/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل)
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58] بين الله سبحانه تبارك وتعالى هذا القرآن العظيم بكل طريقة من شأنها أن تنفع الإنسان فيفهم ما فيه، وحتى لا يكون له عذر عند الله عز وجل يوم القيامة، فقد ضرب المثل بأقل الأشياء، فذكر البعوضة، وذكر الذبابة، وضرب المثل بأعظم الأشياء فذكر الجبال، وذكر السماوات، وذكر الأرضين، وضرب الأمثلة بالأحياء والأموات، فضرب من كل مثل لعل الناس يتذكرون ويعتبرون، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58].(221/5)
معنى قوله تعالى: (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)
قوله سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58] أي: مما طلبوا من الآيات، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى يعلم، بطبيعة هؤلاء، فكم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم من آية، فقالوا: نريد آية ونؤمن بما أتيتنا به من هذا القرآن، وبأنك رسول رب العالمين، على أن تكون هذه الآية كعصا موسى، أو تحيي الموتى كما كان يصنع عيسى عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاءهم بآيات عظيمة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لم تكن هذه الآيات آيات عامة؛ لأنه لو جاء بآية عامة يراها الجميع أمامهم فكذبوا لأتاهم العذاب من عند رب العالمين.
فكان يطلع على الآية من الآيات جموع منهم تتراوح بين العشرة والمائة والألف، ولكن لا يطلع عليها جميعهم في وقت واحد، وهذا من رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى بهذه الأمة، فمن آياته التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه: أنه شُق القمر بدعائه صلى الله عليه وسلم وبإشارته إليه، فرأى ذلك عشرات من أهل مكة، كما رآها مسافرون كثيرون ورجعوا وأخبروا بذلك ولم يؤمنوا، ولو كانت هذه آية عامة يتحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم الجميع ثم كذبوا بعدها؛ لأهلكهم الله سبحانه، ولكن جعلها بالليل يراها البعض ولا يراها الجميع حتى لا يهلكهم جميعهم سبحانه تبارك وتعالى بتكذيبهم.
ومن الآيات ما رآه المؤمنون من النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إذ وضع في البئر سهمه صلوات الله وسلامه عليه، ودعا ربه سبحانه؛ فجاشت البئر بالماء، وشرب منها الجيش كله! وفي غزوة أخرى من غزواته صلى الله عليه وسلم أُتي بكوز ماء لا يكفي لوضوئه صلى الله عليه وسلم فوضع يده في هذا الكوز، فنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فشرب الجيش كله مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسقوا إبلهم، وتزودوا بهذا الماء الطيب الطاهر في سفرهم! وغيرها من الآيات رأوها من النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومع أنها كانت آيات، إلا أن الله لم يعدها من الآيات في قوله تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ} [الروم:58]؛ لأن المراد بالآية هنا هي الآية العامة التي طلبوها كما طلب الحواريون من المسيح عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم مائدة من السماء، فهم يريدون أن يروا آية عامة، لكن الله منعهم إياها، وجعل القرآن الكريم هو الآية العظمى، أما غيره من الآيات فكان يراها البعض ولا يراها الجميع.
ثم يخبر سبحانه بما سيكون منهم لو أعطوا آية عامة وهو أعلم فيقول سبحانه: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58]، فالله رحيم بعباده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يعلم أنه لو جاءهم بآية كما طلبوا حيث قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]؛ لكذبوا بها، ولم يؤمنوا، فتكون النتيجة أن يهلكهم الله سبحانه بسبب تكذيبهم.
والمبطلون في قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ} [الروم:58] جمع مبطلٍ والمبطل: هو المتبع للباطل، فيقال: هذا مبطل: كأنه صانع للباطل ومتبع له.
كأنهم إذا جاءهم بالآية التي طلبوها سيكذبونه، ويدعون أن ما جاء به سحر كما قالوا في انشقاق القمر، ولذلك الله لم يأتهم بما طلبوا.(221/6)
تفسير قوله تعالى: (كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون)
قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59].
قوله: ((كَذَلِكَ)) أي: كهذا الطبع الذي تراه على قلوب هؤلاء فلم يفهموا آيات الله سبحانه، ولم يتدبروا موعظته وكتابه؛ يطبع الله على كل قلب لا يستيقن بالله سبحانه ولا يصدق المرسلين.
قال سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:59] قوله: (لا يعلمون) أي: الذين لا يعلمون علماً ينفعهم فيتعظون به.(221/7)
تفسير قوله تعالى: (فاصبر إن وعد الله حق)
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] أي: اصبر إذا كذبوك، فـ {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الروم:60] أي: أن القيامة آتية، والساعة لا ريب فيها.
ثم نهاه أن يستخفه المشركون فقال: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] الاستخفاف من الخفة، يقال: فلان أغضبني فاستخفني بمعنى: استفزني، فلما استفزني صار بي خفة، وطيش، وتهور، وكأنه يقول: لا تتهور، ولا تطيش، ولا يذهب عقلك بسبب ما يصنع هؤلاء في إجرامهم، فالله سبحانه يثبت النبي صلى الله عليه وسلم ويعظه: ألا تخرج عن حدك، ولا عن طبعك، ولا عن إيمانك العظيم، ولا عن هدوئك الذي أنت فيه، ولا يستخفنك هؤلاء بباطلهم؛ فإنهم لا يوقنون.
وهذه الآية قرأها رويس: (ولا يستخفنْك الذين لا يوقنون)، وباقي القراء: ((وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) بمعنى: الذين لا يستيقنون بما جاء في هذا الكتاب العظيم.(221/8)
تفسير سورة لقمان [1 - 5]
القرآن العظيم كتاب الله تعالى الذي أنزله لهداية الناس، وإقامة الحجة عليهم، ولذلك جاء محكماً في آياته وسوره وتشريعاته وحكمه وكل أموره، فلا عوج ولا خلل فيه، وقد تحدى الله عز وجل به أرباب الفصاحة وجهابذة البلاغة فما وقفوا أمامه، وقد حاء القرآن جديداً في نظمه عما ألفوه، فابتدأ بعض سوره بالحروف المقطعة التي أذهلتهم، وأثارت دهشتهم، وجاء القرآن مبيناً لصفات أهل الإيمان ومرغباً فيها، ومبيناً لصفات أهل النار ومحذراً منها، لكيلا يكون على الناس حجة أمام الله تعالى.(222/1)
نبذة مختصرة عن سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: بسم الله الرحمن الرحيم {الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:1 - 5].
هذه السورة هي الحادية والثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة لقمان، وآياتها أربع وثلاثون آية، وكلها مكية -وفيها خصائص السور المكية- إلا ثلاث آيات جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها آيات مدنية، منها: قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، وقوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، وباقي آيات السورة مكية.(222/2)
الكلام حول الحروف المقطعة
وهذه السورة من السور التي بدأها الله سبحانه وتعالى بالحروف المقطعة {الم} [لقمان:1] وقد جاءت هذه الحروف في سورة البقرة، {الم} [البقرة:1]، وآل عمران: {الم} [آل عمران:1]، وكذلك في سورة العنكبوت والروم ولقمان والسجدة فكل هذه السور بدأها الله عز وجل بقوله: ((الم)).
وهذه من فواتح السور تحدى الله عز وجل بها الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من جنس لغتهم ومن جنس كلامهم ومن جنس حروفهم، فهذا القرآن مركب من الحروف التي ينطق بها العرب ويصيغون بها خطبهم وكتاباتهم وأشعارهم، فتحداهم بأن يأتوا بسورة مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف.
وقد اختلف المفسرون في معنى هذه الحروف: فمن قائل: إن (الألف) إشارة إلى الله، و (اللام) إشارة إلى اللطيف، و (الميم) إشارة إلى الملك.
وهذا ليس عليه دليل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يفيد أن هذه إشارات إلى ذلك، ولكن ورد في كلام العرب من يعبر أحياناً بحرف ويقصد به كلمة أو جملة، ولكن هنا لا بد من وجود نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذا هو المقصود، وطالما أنه ليس فيه نص، فيبقى هذا على وجه الاحتمال فقط.
فهذا احتمال فقط أن يكون إشارة إلى أسماء الله الحسنى، أو إشارة إلى تسمية السورة نفسها، أو أن المقصود جذب انتباههم لسماع القرآن، فعندما يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم {الم} [لقمان:1]، ينصتون؛ لأنهم غير معتادين على هذا الكلام، فهو شيء غريب عليهم، فيشد انتباههم لكلامه، فيقرأ عليهم القرآن بعد ذلك.(222/3)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب الحكيم)
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، وهذا إشارة إلى هذا القرآن العظيم، وإلى آياته، وعبر باسم الإشارة (تلك) التي يشار بها إلى البعيد، أما لأنه بعيد المكانة أو المنزلة.
وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]، يعني: الكتاب الذي في يدك أنت، فهو ليس بعيداً، ولكن المقصود بُعد المكانة وعظمة المنزلة، فعبر باسم الإشارة (ذلك).
قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، وقال هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، أي: هذه الآيات العظيمة التي تسمعها هي آيات الكتاب الحكيم.
و (الكتاب) هو القرآن، (الحكيم) بمعنى: المحكم، قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]، فالله هو الحكيم، وكتابه الحكيم، والمحكم، تقول: هذا بناء محكم أي: لا خلل فيه ولا ثغرة، فكتاب الله عز وجل عظيم لا خلل فيه، ولو كان فيه شيء يخالف ما يعرفونه من لغتهم أو ما يعرفونه من نظمهم أو ما يعرفونه من إتقان كلامهم لاعترضوا عليه وقالوا: هذا لا يمكن أن يكون كلام رب العالمين سبحانه؛ لأن اللغة التي فيه لغة ركيكة، ولكنهم عرفوا أنه كلام متين وعظيم؛ ولذلك لم يقدروا على قبول التحدي وأن يأتوا بسورة من مثله، وقد ذكر لنا ربنا سبحانه أن هذا القرآن آياته محكمات، أي: حكيمة أحكمها الله سبحانه وتعالى وأتقنها.
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2].
وأيضاً: (الحكيم) من الحكمة، أي: أنه يحوي الحكم العظيمة من الرب الحكيم سبحانه.(222/4)
تفسير قوله تعالى: (هدى ورحمة للمحسنين)
قال تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3]، بالنصب، وقرأها حمزة بالضم: (هدى ورحمةٌ للمحسنين).
فأما معنى النصب فعلى الحال.
أي: أنه كتاب حكيم، وحاله أنه هدى، أي: يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه، وأيضاً حاله أنه رحمة للعالمين وللمحسنين، أي: يرحم الله عز وجل به من يشاء من خلقه، فهو محكم وهو حكيم، فحاله أن فيه الهدى وفيه الرحمة لعباد الله المحسنين.
وأما على قراءة حمزة: (هدى ورحمةٌ للمحسنين) فكأنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير هو: (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) أو أنه خبر ثاني لقوله: (تِلْكَ) فيكون قوله: ((تلك آيات)) مبتدأ وخبر، وقوله: ((هدى)) خبر ثاني لـ (تِلْكَ)، فتقرأ {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} [لقمان:3] و ((هدىً ورحمةٌ للمحسنين))، و (المحسنين) جمع المحسن، وهو الإنسان الذي يحسن عمله ويخلصه لله سبحانه، وأفضل ما يفسر به ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
فالمحسنون هم الذين يعبدون الله سبحانه، ويحسنون في عبادته حتى يصلوا إلى درجة أنهم يستحضرون خشية الله سبحانه، والخوف منه، حتى كأنهم يرونه أمامهم سبحانه وتعالى.(222/5)
تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة)
قال تعالى عن صفات هؤلاء المحسنين: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، والإحسان درجة عالية، وأقل منها درجة الإسلام، فيكون الإنسان أولاً مسلماً، ثم يرتقي فيكون مؤمناً، ثم يرتقي فيكون محسناً، وقد جاء في حديث جبريل: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: فأخبرني عن الإيمان قال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره).
فالإسلام أعمال يعملها الإنسان، وقد تكون متفقة مع ما في قلب هذا الإنسان، وقد يكون في قلبه شيء آخر غيرها.
والإيمان هو الشيء الباطن الذي يطلع عليه الله سبحانه وتعالى، وما كان في باطن الإنسان من خير فهو أعظم من ظاهره؛ لأن الظاهر يحتمل ويحتمل، وأما إذا كان الباطن موافقاً لهذا الظاهر فهذا هو الإيمان.
إذاً: المؤمن هو الذي يأتي بأركان الإسلام الظاهرة مع وجود الإيمان في قلبه.
وأما المحسن فهو الذي حصل الإيمان والإسلام ووصل لدرجة استحضار خشية الله سبحانه كأنه يراه أمامه سبحانه وتعالى، فهؤلاء المحسنون: مسلمون مؤمنون عابدون لله مخلصون له، كأنهم يرونه سبحانه.
ومن أوصفاهم: أنهم يقيمون الصلاة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، يعني: يؤدون الصلاة على الوجه الذي يرضى به الله عز وجل عنهم، وعلى الوجه الذي يحبه سبحانه، فيؤدونها بأركانها وبشروطها، وبهيئاتها وبسننها وبمستحباتها، ويأتون بها على الوجه الذي يرضي ربهم سبحانه وتعالى.
وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:4] من أقام الشيء بمعنى: رفعه، أي: أن هذه الصلاة ترفع إلى الله سبحانه وتعالى، لا أنها مجرد تأدية ونقر وانتهى الأمر، وإنما هي إقامة لها كما قال تعالى: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [لقمان:4].
قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [لقمان:4]، أي: يؤدون هذه الزكاة، والإيتاء: هو الإعطاء، وهو: إخراج المال ودفعه للفقير، والزكاة: إيتاء مال خاص لمستحقه، وهي ليست عوضاً.
وهذه الآية وغيرها من الآيات في الأمر بأداء الزكاة وإيتائها تبين خطأ من يقول: إذا كان لشخص على آخر ديناً فلهذا الأخير أن يخصم من الدين مالاً ويقول: هو زكاة المال؛ بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه ممن هو من أهل الزكاة؛ ليرفع عنه ما هو فيه من حاجة وفاقة.
وقد سميت الزكاة زكاة من زكى الشيء، بمعنى: نما وطهر، فالزكاة تطهير للمال وتنمية له، فأداؤك للزكاة عبارة عن تطهير لنفسك ومالك، وأيضاً تنمية لمالك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).
قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] أكد ذلك بأم هؤلاء هم بالآخرة هم يوقنون، أي: أن يقينهم بالله عز وجل عظيم وشديد، فهم محسنون ومستحضرون لعظمة الله، ومستحضرون ليوم القيامة، ومن كان مستحضراً ليوم القيامة فلا يقع في خطأ، ولا في الخطيئة، وإذا وقع في شيء من ذلك تاب بسرعة إلى الله عز وجل ورجع إليه؛ لأنه يخاف من الحساب يوم الدين.
قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4]، فهم ليسوا عارفين فقط، وإنما موقنون، أي: اليقين الذي يدفع للعمل، والإنسان الذي يعرف وجود الله غير الذي يستيقن بوجود الله، فالذي يستيقن بوجود الله يخاف منه سبحانه، ويستحضر عظمته، ويعمل له ويراقبه في كل مكان سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله معه، وأنه يراقبه وسيحاسبه، فيكون خائفاً من الله عز وجل، هذا هو اليقين بالله سبحانه.
وكذلك اليقين باليوم الآخر، فإنه يستحضر طول الموقف بين يدي الله عز وجل، فإذا قام في الصلاة وتعب في قيامه فيها تذكر القيام خمسين ألف سنة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وإذا شق عليه الصوم في اليوم الحار الشديد الحر وظمأ وعطش وجاع، تذكر يوم القيامة، وتذكر أن الشمس تدنو من رءوس الناس وهم قيام بين يدي الله سبحانه وتعالى، وأنهم يعطشون في هذا اليوم عطشاً شديداً، فذلك اليوم هو يوم العطش الأكبر، وأن الله عز وجل يروي فيه من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فيخاف من شر ذلك اليوم، ويدفع شره عنه بالعمل الصالح من صلاة وصيام وزكاة، وقد جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أنه سمع وهو في سفينة صوتاً ينادي عليهم: (يا أهل السفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه)، ولم يروه في الظلام فقالوا: (قل: فإنا نسمع، فقال: إن الله قضى على نفسه أنه من عطش نفسه في يوم أو من صام في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله أن يرويه في يوم العطش الأكبر) يعني في يوم القيامة.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ} [لقمان:5]، أي: الذين يفعلون ذلك، {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5]، أي: هداهم الله سبحانه وتعالى، والهدى من الله عز وجل، فيهدي من يشاء سبحانه وتعالى متفضلاً عليه، ويضل من يشاء سبحانه، وله الحكم والقضاء والتقدير، وهو الحكم العدل سبحانه.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5]، أي: هداهم وبين لهم وأخذ بأيديهم إلى طريق الخير، فكانوا على هدى من ربهم، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [لقمان:5] والفلاح: النجاح الذي لا خسران بعده أبداً، فهم الذين يفلحون في الآخرة فلا يخسرون أبداً.
قال تعالى: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(222/6)
تفسير سورة لقمان الآية [6]
حرم الإسلام الغناء الفاحش المصحوب بالآلات الموسيقية؛ لما فيه من فحش وفجور وتكسر ودياثة، ولما فيه من تهييج للغرائز وإثارة للشهوات؛ وقد كان مذموماً حتى في الجاهلية، فلم يكن هناك حر يرضى لنفسه ولا لأهله بذلك، وقد جاء تحريمه في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال علماء الأمة، ومن زل منهم في إباحته فقد رد عليه العلماء خلفاً عن سلف، وبينوا عوار قوله، وسوء مقاله، وردوا عليه بالنصوص الواضحة الجلية في هذه المسألة.(223/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6].
في هذه الآية من سورة لقمان يخبر الله سبحانه وتعالى عن بعض الناس الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا به عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وهذا الضلال الذي يضلون به بغير علم، وقعوا فيه بسبب جهلهم بالله سبحانه وتعالى وبدينه، وعدم سماعهم لنصح الناصحين، وعدم تأدبهم بكتاب رب العالمين، ولا بهدي النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ بل إنهم يتخذون ما هم فيه من اللهو واللعب حجة لهم فيما يفعلونه من الباطل والمنكر، بدعوى الترويح عن أنفسهم، فإذا استمعوا إلى كتاب الله عز وجل اتخذوا آيات الله هزواً، فيسخرون ويلعبون ويبتعدون عن دين الله سبحانه، قال تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] وفي هذه الآية عموم وهو أنه من اشترى اللهو وترك ذكر الله سبحانه فقد توعده الله سبحانه بالعذاب المهين.(223/2)
القراءات الواردة في الآية، ومعنى الآية
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ} [لقمان:6].
هذه قراءة الجمهور، على الفعل الرباعي من أضل، فيكون فعلاً متعدياً، تقول: أضل الإنسان غيره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب: (لِيَضِلَّ عن سبيل الله)، من الفعل الثلاثي اللازم، تقول: ضل فلان يضل، وأما الفعل الرباعي فهو أضل يضل.
وعلى القراءتين يكون المعنى: أن هؤلاء اشتروا اللهو وطلبوه، إما شراءً حقيقياً، فيدفع فيه الثمن كما هو واضح الآن، وإما في الماضي فقد كان بعض المفسرين يستبعد مسألة الشراء، ويقول: يمكن أن يكون المعنى: يسمع اللهو؛ لأنه لا يمكن أن يشتري اللهو، أما الآن فهو واضح تماماً، فإن الرجل يشتري اللهو في أشرطة التسجيل، ويتفرج على ما فيها من لهو ولعب ومن أشياء حرمها الله سبحانه وتعالى، ويستمع فيها إلى ما حرم الله، وهذا شراء حقيقي يدفع فيه مالاً، ويشتري بهذا المال لهو الحديث؛ لِيَضِلَّ ولِيُضِلَّ عن سبيل الله.
والمعنى: كي يضل.
فيكون هو في ضلال، ويضل غيره، ويدعوه إلى الضلال وإلى الباطل وإلى المتعة المحرمة.(223/3)
دلالة الآية على تحريم الغناء
وهذه الآية واحدة من ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل يستدل بها العلماء على المنع من سماع الغناء، إلا فيما أباحه الشرع الحكيم، وهي دليل على تحريم الموسيقى والمعازف، والغناء بهما.
والآية الثانية: قول الله عز وجل: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61]، أي: لاهون لاعبون في غناء ورقص وبعد عن الله سبحانه وتعالى، وعن ذكره سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:61] هو: الغناء بالحميرية.
والآية الثالثة: في سورة الإسراء، قال الله عز وجل لإبليس: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64].
فإن الشيطان توعد آدم وذريته، وقال للرب سبحانه وتعالى: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:61 - 62]، فالشيطان توعد آدم أن يحتنك ذريته، أي: يضلها ويستولي عليها إلا القليل منهم، فتوعده الله سبحانه وتعالى بقوله: {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:63 - 64].
فقال للشيطان: افعل ذلك، وسترى مصيرك وعذابك الذي يكون يوم القيامة، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64] أي: هذه هي مكائد الشيطان وحيله مع الإنسان، فهو يستفزه بصوته، قال مجاهد: صوت الشيطان: الغناء والمزامير والملاهي، وآلات الرقص وآلات الغناء والموسيقى، يستفز بها الإنسان ليخرجه عن وعيه وعن شعوره، فإذا استمع الإنسان إلى ذلك وغنى وطرب، فلعله يدخل على ذلك شرب الخمر فيها، فيرقص وهو في غاية اللهو واللعب والبعد عن الله سبحانه وتعالى.
فهذه ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل، ذكر أهل العلم أنها دليل على المنع من الغناء.(223/4)
الأدلة من السنة على تحريم الغناء
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المعازف وأن الناس سوف يستبيحونها، ففي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)، ومعنى: يستحلون هذه الأشياء: أنها محرمة فيستبيحونها بعد ذلك بأفعالهم وأقوالهم.
والحر: الفرح، أي: يستحلون ذلك، والحرير أي: يلبس الرجال الحرير، ويضربون بالنهي الشرعي عرض الحائط، فيستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وقد علموا أن الله عز وجل حرمها، ومع ذلك يستبيحونها إما بفعلهم وإما بقولهم، وكذلك المعازف.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: إن هذه الآية نزلت في الغناء، وقد صح ذلك عن ابن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما، بل قد أقسم ابن مسعود ثلاث مرات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وجاء عن ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وغيرهم أنهم فسروا هذه الآية بأن المقصود منها: الغناء.
يقول الإمام القرطبي: قال أبو الصهباء: سئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] فقال: الغناء؛ والله الذي لا إله إلا هو.(223/5)
رأي ابن حزم في الغناء والرد عليه
وابن حزم هو الوحيد من العلماء الذي أباح ذلك، فقد أباح الموسيقى، وألف رسالة في الملاهي، وقال: لم يصح شيء من ذلك عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وناقض نفسه في كتابه المحلى، فقد ذكر أن ذلك صح عن ابن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم زعم بعد ذلك أن هذا قول صحابي، وقوله ليس بحجة، وإنما الحجة فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتغافل رحمه الله عن أن المفسر إذا ساق سبب النزول فهو قطعي الدخول في الآية، فإذا منع الله عز وجل شيئاً وقال أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت في كذا، وصح ذلك عنه، فكأنه يبين الشيء القطعي الذي يدخل تحت هذه الآية.
فقد أقسم ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في الغناء والمعازف والملاهي، فعلى ذلك قول ابن حزم: إن هذا قول ابن مسعود وقول ابن عباس خطأ، فإن هذا ليس من قولهما.
وإنما قالا: إن الآية نزلت في هذا، ويكفي أن الأئمة الأربعة: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد مجمعون على المنع من المعازف، وعلى تحريمها.
وقد جاء أيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب.
وقال مجاهد مثل ذلك، وزاد: وإن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء، قال: وإلى مثله من الباطل.
وكذلك جاء عن الحسن البصري أنه لما ذكر هذه الآية قال: المعازف والغناء.
وقال القاسم بن محمد: الغناء باطل، والباطل في النار.
وقال ابن القاسم: سألت مالكاً، فقال: قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32].
أفحق هو؟! قال: لا.
فواضح كلام الإمام مالك رحمه الله أنه منع من ذلك.
وقد ترجم الإمام البخاري باب: كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6].
فقوله: (إذا شغل عن طاعة الله عز وجل) قصد به قول الله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6].
وإن كان اللهو بمعنى الغناء إلا أن العبرة بعموم اللفظ، فكل لهو باطل، وكل شيء يصد عن ذكر الله وعن سبيل الله فهو داخل تحت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6].(223/6)
سبب نزول الآية
كان بعض الكفار إذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن يأخذ غيره من الناس ويقول لهم: تعالوا، أنا أحدثكم أحسن من هذا الحديث.
وكان منهم رجل من كبار المجرمين من الكفار يقال له: النظر بن الحارث، وقد أنزلت فيه آيات في كتاب الله عز وجل تتوعده على ما كان يصنعه مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد اشترى كتباً للأعاجم فيها قصص رستم وأسفنديار من ملوك الأعاجم، فكان يجمع المشركين ويحدثهم ويقول: حديثي خير أم حديث محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فكان يزعم أن حديثه خير من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يجتمع الكفار يستمعون له كنوع من العصبية؛ لأنه كافر منهم، وإلا فقد كان سماعهم للقرآن سماعاً آخر، وكان كبيرهم يقول عن هذا القرآن: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وقد سمعت الجن هذا القرآن ورجعت إلى قومها تدعوهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، وكانوا قبل ذلك شياطين يجولون في الأرض يبحثون عن سبب إلقاء الشهب عليهم من السماء عندما كانوا يسترقون السمع.
فالغرض: أن هذا الرجل كان يقول للكفار: تعالوا اسمعوا إلي، ويحدثهم بهذه الأحاديث، ففيه نزل ذلك.
ومن ضمن أفعاله: أنه كان يشتري المغنيات، ومهنة الغناء في الجاهلية لم تكن مهنة الأحرار، ولم يكن يوجد حر يرضى لنفسه بذلك، ولا أن يكون صاحب موسيقى ومعازف، ولم تكن امرأة حرة ترضى لنفسها ذلك، وإنما كانت مهنة العبيد والإماء، فكانوا يشترون الأمة من أجل أن تغني، وكانوا يشترون القينات، والقينة: هي الأمة المغنية.
وقد كان النضر بن الحارث يشتري المغنيات، فإذا علم أن إنساناً يريد الدخول في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى هذه المغنية التي عنده وقال لها: انطلقي إلى فلان! فأطعميه وأسقيه وغنيه.
ويقول لهذا الإنسان: هذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم.
يعني: الغناء والمعازف خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فيقول للكافر: أيها الأحسن؟ أن تذهب تصلي وتصوم وتقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو تسمع الموسيقى والأغاني وأغديك وأعشيك وأسقيك خمراً؟ فينظر الإنسان للشهوة فيذهب معه على هذا الأمر، فنزلت فيه وفي أمثاله هذه الآية.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله ورواه ابن ماجة وغيره بمعناه: (لم أنه عن البكاء).
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم، فقد مات قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر أو بأربعة أشهر، فهذا من آخر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم لموت ابنه، وكان من الموجودين عبد الرحمن بن عوف، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أتبكي يا رسول الله؟! قال: إنما هذه رحمة.
ثم قال: لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة مزمار شيطان ولعب)، أي: إذا حصل للإنسان نعمة من الله فطرب وفعل ما نهى الله عز وجل عنه، أو استمع للنغمات وللموسيقى وطرب ولعب مع الناس ومع الشيطان فصوته هذا أحمق فاجر، قال صلى الله عليه وسلم: (صوت عند نعمة مزمار شيطان ولعب، وقال: وصوت عند مصيبة، خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان)، أي: إذا مات قريب له رفع صوته ولطم وخمش وجهه، فهذا هو الصوت الفاجر الثاني.
فانظر كيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوت الذي عند نعمة الإنسان وفرحه، وإتيانه الموسيقى والأغاني واللعب والرقص صوتاً فاجراً أحمقاً، والصوت الثاني: في حالة الموت والبكاء والصراخ والعويل، فهذان صوتان نهى عنهما النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر أنه سماه: (رنة الشيطان).(223/7)
أقوال الأئمة الأربعة في تحريم الغناء
وقد جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوال كثيرة في هذا المعنى، وكذلك جاءت أقوال عن الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، كالإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، فقد جاء عنهم تحريم ذلك.
قال الإمام القرطبي: قال العلماء بتحريم الغناء الذي تصاحبه الموسيقى، قال: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن.
فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه، والموسيقى والأغاني الآن فيها كل هذا؛ من الكلام على النساء، وأوصافهن، والحب الباطل، والمقصود عند الناس من الحب هو الفجور، فالرجل إذا أحب المرأة فإنه يغازلها ويفجر بها، وهذا هو الحب الذي يقصدونه، ويورون به عن الفجور والوقوع في الزنا، والعياذ بالله! فهم يقولون الآن الكلمة التي شاعت بين الناس: إنه يمارس الحب؛ حتى لا يظهر أمام الناس أنه يفعل الحرام، فيعلفونها بكلمة أخرى من أجل أن يبعدوا الناس عن معرفة شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا مما حرمه الله سبحانه، وضيع الناس فيه أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك -أي: من غناء ليست فيه معازف وموسيقى، وسلم من هذه الأشياء التي فيها الغزل وذكر النساء، وذكر الحب ونحوه- فيجوز القليل منه.
فلا يشغل المسجل طول النهار يسمع أغاني وأناشيد إسلامية، ويترك القرآن والسنة ودروس العلم، ويلهو عن ذلك، ويقول: نسمع أشياء ليست فيها موسيقى؛ فإنه لما أباح العلماء هذا أباحوه على وجه القلة، بشرط ألا يكون مصحوباً بآلات الموسيقى.
يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وعامر بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم -وهذا في زمن القرطبي رحمه الله- يقول: ما ابتدعته الصوفية اليوم، أي: في أيامه، ومن قبل ذلك ابتدعوا الأناشيد الدينية التي فيها المعازف، والتي يقومون ويتقفزون فيها ويرقصون بدعوى الوجد الذي حصل لهم من سماع هذا الشيء، ويهتزون ويرقصون، يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطرب والمعازف والأوتار فحرام.
قال ابن العربي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، يعني: ما يكون في الحرب من إثارة الناس وتحفيزهم على القتال، يقول: لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو، والدف مباح، والضرب على الدف -يعني: في العيد وفي الفرح- والدف: هو الطار المفتوح من أحد جانبيه، ويجوز الضرب عليه في الفرح وفي العيد.
يقول القشيري: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة فهم أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعهن يا أبا أبكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح)، وهذا الحديث ليس كما ذكر، وإنما الذي صح فيه الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض بيوت المدينة، فإذا هو بجوار -جمع جارية، والجارية: الفتاة الصغيرة السن، أي الطفلة، أو هي التي عمرها عشر سنين أو أقل من ذلك- وهن يضربن بدفهن، ويقلن: نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار).
صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان المدح والحب للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعلم الله أني أحبكن).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: واشتغاله بالغناء على الدوام سفه ترد به شهادته.
قال: فإن لم يدم على ذلك لم ترد الشهادة.
وقال الإمام مالك رحمه الله وقد سئل عن ذلك: إنما يفعله عندنا الفساق.
فأهل الغناء والمعازف يعتبرهم الإمام مالك فساقاً.
وقال أبو الطيب الطبري: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه.
وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، يعني: المنع من ذلك.
قال: أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعل سماع الغناء من الذنوب.
وهو مذهب سائر أهل الكوفة، ومنهم إبراهيم النخعي والشعبي وحماد والثوري وغيرهم.
وقال الإمام الشافعي: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
وهذا الغناء هو الذي ليس فيه موسيقى ولا شيء آخر، وإنما غناء فقط، قال: إنه مكروه، ومن ثم الذي يستكثر منه وأصبح يداوم عليه فترد شهادته.
قال: ثم ذكروا عن الشافعي رحمه الله فيمن يفعل ذلك، ويكثر منه، قالوا: إنه شدد في ذلك، وذكر أنه من الدياثة، والعياذ بالله! وأما الإمام أحمد رحمه الله فقد جاء عنه أنه سئل عن إنسان يتيم عنده جارية مغنية، إذا باع هذه الجارية على أنها مغنية تباع بثلاثين ألفاً، ولو باعها على أنها ليست مغنية تباع بعشرين ألفاً؟ قال: يبيعها على أنها ساذجة.
أي: ليست مغنية.
وحرم الزيادة على كونها تتعلم الغناء وتتعلم الطبل والزمر ونحو ذلك.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد منعوا من ذلك، وكلامهم منشور مشهور في المنع والتحريم للغناء، فليتق الله كل إنسان مؤمن يبيح لنفسه ما حرم الله عز وجل في كتابه، وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(223/8)
تفسير سورة لقمان [6 - 9]
ما أحل الله للناس من شيء إلا وفيه الخير والنفع لهم، وما حرم عليهم من شيء إلا وكان فيه الضر والشر، وإن مما حرم الله على عباده الغناء والموسيقى؛ فإنها تجر إلى سوء الأخلاق، والمعاملة السيئة مع الآخرين، وتؤدي إلى البعد عن الله تعالى والتعلق بها، فيضل الإنسان عن طريق الخير ويضل غيره معه.(224/1)
حكم الغناء والموسيقى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان:6 - 9].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة لقمان: أن من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم.
وصح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في الغناء، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] هو الغناء والموسيقى والمعازف.(224/2)
الغناء سبب في الضلال والإضلال
قال تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] وفي قراءة ((ليَضل عن سبيل الله)) أي: يتبع هذا الطريق ليكون حاله أنه في ضلال عن طريق الله سبحانه، فيضل نفسه ويضل غيره، وهذا معلوم مشاهد فيمن يتعاطى ذلك، والذي يتعامل بالموسيقى والغناء تجد ليله ونهاره ضائعاً، ففي الليل السهر والحفلات والمجون والمعازف والرقص وغيره، وفي النهار النوم والبعد عن الله سبحانه وتعالى، لا شيء يحبه إلا هواه وشهوته، فلا يزال على هذا الأمر حتى يبتعد عن طريق الله سبحانه، فيضل في نفسه ويضل غيره بهذا الذي يصنعه ويفعله.
ويتخذ آيات الله سبحانه وسبيله {هُزُوًا}، قال الله سبحانه: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] أي: بشرائه لهذا اللهو، فكأنه اشترى الدنيا ودفع الثمن الآخرة والدين، فضيع صلاته، وضيع أمر ربه سبحانه وتعالى، فضل في نفسه وأضل غيره بذلك.
قال تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [لقمان:6] وإن زعم أنه على علم، ولكنه علم كلا علم، بل هو علم كجهل، فيتعلم أشياء بعيدة عن أمر الله سبحانه، بل هي مما نهى الله سبحانه وتعالى عنه، فعلى ذلك هو ليس على علم، وليس على هدى من الله، ولم يتعلم لا كتاباً ولا سنة، وإنما تعلم لهواً وباطلاً.
قال تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، الهاء هنا عائدة على سبيل الله عز وجل، والمعنى: ضل هو عن سبيل الله، وأضل غيره عن سبيل الله، واتخذ سبيل الله هزواً، وما تتبع إنسان سبيل الغناء والمعازف ونحوها إلا وكان بعيداً عن أمر الله، ونحن نرى أنه لا يذهب إلى التلفزيون والسينما وغيرها إلا أهل الفسوق والضياع، فيأتي عليه وقت الصلاة وهو ينظر إلى التلفزيون، ولا يؤدي صلاته، فيُضل غيره عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان هذا الإنسان هو في هذا الضلال، فكيف بمن يُتفرج عليه من ممثلة وممثل، ومغنية ومغنٍ، وعازفة وعازف وغيرهم؟! وكيف تكون حياة هؤلاء؟ بل كيف يكون أكلهم وشربهم في معاصي الله سبحانه وتعالى؟ فطعامهم وشرابهم، وأرزاقهم التي يأخذونها من أجور على باطل يأتونه كلها حرام وإثم، فهؤلاء يَضلون ويُضلون، ويوجهون الناس إلى طريق النار والعياذ بالله، ويحسب أن عمله هذا فن، فيغني الشيء الذي يُعجب به الناس في شهواتهم، ويغني لهم عن الحب والضياع، ويغني لهم في لعن القضاء والقدر وسبه وسب الدهر، وغير ذلك، فيَضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، ولقد سمعنا التي تغني وتقول: قدر أحمق الخطى! وهذا القدر هو قدر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، فبعض الشعراء يضل ويبتعد عن طريق الله، ويتكلم في أي شيء، حتى إنه ليذم قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، ولقد سمعنا من يقول: لا أسلم بالمكتوب، ولا أرضى أبيت مغلوباً، يعني: إنه لن يسلم بقدر الله سبحانه، ولن يرضى بقدر الله سبحانه، ثم يأتي المغني فيغني بذلك، فيسمع الناس ويطربون بذلك، وإذا بالناس في ضلال مبين، لا يفهمون كالبهائم، وإذا بهم يرددون هذا الشيء، فإذا أتى على أحدهم قضاء الله عز وجل، أو مصيبة من المصائب، فإذا به يقول: لن أسلم للأمر، والثاني يأتيه مرض من الأمراض ويقول: إنه سيقاوم هذا المرض وسيقضي عليه بالعزيمة والإرادة، وليس عارفاً أين قضاء الله عز وجل وقدره، فهو يريد أن يغلب ويهزم المرض، وقد كان أهل الجاهلية يريدون أن يغالبوا دين الله سبحانه وتعالى، فشن عليهم حسان رضي الله تعالى عنه وقال: زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هؤلاء أهل الضلال أنهم يَضلون ويُضلون عن سبيل الله، وكانوا يقولون: الموسيقى فيها خير وشر، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جمعيها، وانظر إلى الغنى كيف بدأ وإلى أي شيء صار؟! فما كان يقال فيما قبل: فلانة مغنية، وفلانة رقاصة، أو فلان مغن، وفلان رقاص، أما الآن فيقال: مغنية ورقاصة، وتراهم يجلسون مع بعض، ويصلون إلى الفجور والعهر، والبعد عن دين الله سبحانه وتعالى، تتعرى المرأة وتقول: لا يوجد عيب حتى أستره! فيضلون عن سبيل الله، ويُضلون عن سبيل الله، وهذا الذي أداهم إليه هو بعدهم عن دين الله، ومن يفتيهم بأن هذا حلال، أو بأن هذا جائز لا يوجد فيه شيء، أو أن الموسيقى فيها وفيها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جميعها لهو، وأنها كلها ممنوعة، إلا ما كان من ضرب بالدف في العرس أو في العيد فقط.
وإننا لنرى من الناس اليوم من يتلهى عن أمر الله سبحانه، ويسمع الموسيقى والأغاني حتى تنسيه الهموم والأحزان، ولا يعلم أنها تنسيه الله سبحانه، فترى هذا يسمع عند مذاكرته، وهذا عند عمله، وهذا يزعج غيره، وإذا بالناس يفقد عندهم الدين والرحمة والأخلاق الحسنة، وترى الإنسان يشغل الأغاني ويزعج الجيران ولا يهمه نوم أحد أو مرضه، وقد يقف أمام المسجد وهو على هذا الأمر فلا يستحيي من الله، ولا يستحيي من أحد من الخلق.(224/3)
حكم الاستهزاء بدين الله وأوليائه
قال سبحانه: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} [لقمان:6]، فقوله: (ويتخذها) قرأها بالنصب حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها ((ويتخذُها هزواً)) بالضم على الاستئناف.
أما كلمة (هزواً)، فيقرؤها حفص فقط من غير همز، وباقي القراء يقرءونها بالهمز: ((هُزُءاً)) ويقرؤها حمزة (هُزْءاً) وإذا وقف عليها قرأها (هُزاً) أو (هُزْواً).
والغرض أن الله سبحانه وتعالى يخبر عمن طريقه اللهو واللعب والتفريط والتضييع أنه يتخذ سبيل الله هزواً ويستهزئ به؛ لأنه يريد من الناس أن يفرحوا به، فيمزح ويضحك كثيراً، ويستهزئ حتى يضحك الناس، ويسخر من أهل الله سبحانه ليضحك الناس عليهم، فيتخذ سبيل الله هزواً، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، أي: هم في هوان دائم، فيهينهم الله سبحانه وتعالى كما صنعوا بأوليائه ودينه، ويخزيهم في الدنيا والآخرة، ذل المعصية على وجوههم مهما قالوا: إن لهم المرتبة العالية، أو المرتبة الراقية، فهم يستشعرون الذل في أنفسهم.
ولقد اجتمع ذات مرة شخص من هؤلاء مع نقابة الموسيقى، فقال لهم النقيب: نحن فوق الناس، فقال له هذا الرجل: كيف تطرحنا فوق الناس ونحن أقذر خلق الله؟! فهم في أنفسهم يعرفون ما هم فيه من بعد عن الله سبحانه وتعالى، وإن قالوا: نحن أرق الناس حساً، يقول الله تعالى عنهم: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6]، وهم في أنفسهم يستشعرون هذا الهوان لبعدهم عن ذكر الله، وعن طاعة الله سبحانه وتعالى، ويوم القيامة لهم عذاب مهين بما استهزءوا بدين الله سبحانه وسخروا منه.
فالآية وإن كانت نزلت في هذا السبب لكن العبرة بالعموم، فكل من يتلهى عن دين الله سبحانه، ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، وبهدف اللهو واللعب والبعد عن دين الله سبحانه، فهذا له عذاب مهين عند الله سبحانه وتعالى.
فليحذر المؤمن أن يضل الخلق عن ربهم سبحانه وتعالى.
وانظر إلى واقعنا اليوم، حيث تجد هؤلاء يستقطبون الشباب على المقاهي لشرب الشاي أولاً، ثم يأتي لهم بالشيشة وما شابهها، ثم ينقلهم إلى التلفاز وإظهار الصور العارية، وكل هذا {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، وأنت ترى المقاهي ملأت الدنيا أكثر من عدد المصانع أو غيرها من الأشياء التي تنفع الناس، فإذا بالإنسان في ضلال دائم، سهر بالليل، ونوم بالنهار، وجيفة بالليل صخاب بالنهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(224/4)
الغناء والموسيقى سبب في الإعراض عن كتاب الله
يقول الله سبحانه وتعالى في هؤلاء: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7]، ونرى اليوم كثيراً من الشباب يسمع القرآن بعد قيامه من النوم قليلاً، ثم يجعل يومه كاملاً في بعد عن الله تعالى، ويرى أن الاستمرار عليه من الحزن والكآبة، ولهذا فهو يغير القرآن قاصداً اللهو واللعب، ولا يدري أنه يبتعد عن الله سبحانه بذلك، وهكذا حال الإنسان الذي لا يعرف ربه، إلا إذا نزلت به مصيبة من المصائب.
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان:7] أي: لا يعتبر ولا يتعظ بما يسمع من كلام رب العالمين سبحانه.
{كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:7] أي: كأن في أذنيه صمماً فلا يسمع شيئاً من كلام الله سبحانه، يسمع الآية ولا يستحيي ولا يعتبر من كلام رب العالمين سبحانه، ولقد أمر ربنا بالتدبر فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82].
وقوله تعالى: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] أي: صار له العذاب المهين، وصار له العذاب الأليم ببعده عن الله سبحانه، وبشرائه اللهو، وضلاله عن سبيل الله سبحانه.(224/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم وهو العزيز الحكيم)
يقول سبحانه في عكس اللاهين المفرطين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان:8]، وكأن الله يسلي المؤمنين ويصبرهم على هذا الدين، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر)، إذ أن الفتن في كل مكان، وهو متمسك بدينه، ويكاد الشيطان لا يعرف له طريقاً يدخل إليه، فيسلط عليه هذا، ويسلط عليه هذا، وهو متمسك بدينه، وكأنه يحترق في ذلك كالذي يقبض على جمر فيحرق يديه، ولكن تمسكه بدين الله يواسيه في ذلك نظره إلى المستقبل والمآل.
فهنا ربنا سبحانه وتعالى يخبر عن هؤلاء المؤمنين أن لهم جنات النعيم، فأنتم أيها المؤمنون لكم عند الله النعيم المقيم، والموسيقى التي تحرم نفسك منها في الدنيا ستسمع أفضل منها في الجنة من أصوات الملائكة وأصوات الحور العين، وأشياء لم تسمع قبل ذلك مثلها أبداً، وما عليك إلا أن تصبر حتى تتعدى هذه الدنيا، والدنيا حقيرة قليلة يسيرة، تجد الإنسان يعيش فيها ستين أو سبعين سنة، ويمر عليه يوم وفاته شريط الذكريات وشريط العمر كأنه يوم أو بعض يوم، وتقعد مع إنسان وهو في آخر حياته، فيحكي لك: كنا نقعد كذا ونعمل كذا، فيفكر بالماضي وكأنه شريط يمر في رأسه، فاحذر من هذه الدنيا، وخذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك، وحاسب نفسك في هذه الدنيا؛ لأن أمامك الجنة، فأنت مثل إنسان يسير في صحراء وأمامه آبار من المياه فيها كدورة، فصبر نفسه وواساها وأملها بنبع صافٍ يقدم عليه، ومنع نفسه عن الشرب من تلك المياه خوفاً من أن تسممه أو تؤذيه، فلا زال يصبر نفسه شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى بر الأمان، وإلى مكان النبع الصافي.
كذلك الإنسان المؤمن يصبر نفسه، كما قال الله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200]، وكما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال له: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، وهنا قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} [لقمان:8]، أي: الجنة التي يتنعمون فيها بنعم الله سبحانه، وبفضله عليهم.
قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا} [لقمان:9] وهنا يوجهك الله إلى مقارنة بين الدنيا والآخرة، وأنه مهما كان في الدنيا من لهو ولعب فإنه لن يدوم، فمصائب الدنيا وابتلاءاتها كثيرة، أما يوم القيامة في جنة الخلد فلا بلاء ولا خوف ولا حزن ولا تعب ولا نصب ولا مرض، ولا شيء مما يكدر على الإنسان أيامه ولياليه.
يقول الله سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا} [لقمان:9] أي: لن يخرجوا من الجنة أبداً، {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} [لقمان:9]، أي: هذا وعد، وليس هو وعد المخلوق، بل وعد الخالق سبحانه وتعالى، القادر على الوفاء.
يقول سبحانه: {وَهُوَ الْعَزِيزُ} [لقمان:9]، أي: الغالب المنيع الجانب سبحانه تبارك وتعالى، {الْحَكِيمُ} [لقمان:9] أي: الذي له الحكمة في أن حرم هذه الأشياء وإن اشتهتها نفوس الناس، فالشخص يشتهي أن يسمع الموسيقى، أو يسمع الغناء، فيأتي حكم الله بأن هذا ممنوع في الدنيا وهو لك في الجنة، والشخص في الدنيا يريد أن يلبس الحرير، أو يلبس الذهب، فيقال له: ممنوع عليك في الدنيا، وفي الجنة ستلبسها، ويحذره بقوله: لو لبستها في الدنيا لضاعت عليك في الجنة، ولو استمعت لهذا الشيء في الدنيا لم تستمع له في الجنة، فيقارن الإنسان المؤمن بين هذه الدنيا الفانية وبين الجنة التي فيها النعيم المقيم، فيختار الباقية على الفانية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والبعد عن محارمه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(224/6)
تفسير سورة لقمان [10 - 11]
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه عن عظمته وقدرته، وأنه خلق السماوات من غير أعمدة، ووضع في باطن الأرض وظاهرها جبالاً خشية أن تضطرب الأرض بسكانها، وخلق فيها من كل دابة سواء علمها الإنسان أو لم يعلمها، وأنزل من السماء ماء فأنبت به كل نوع طيب، فهذا هو خلق الله وحده فأين خلق الآلهة التي يعبدونها من دون الله؟ لا يوجد لها أي خلق، فدل هذا على أن من عبدها من دون الله فهو ظالم لنفسه، حيث عبد من لا يستحق العبادة وترك عبادة من يستحق العبادة.(225/1)
تفسير قوله تعالى: (خلق السموات بغير عمد ترونها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:10 - 11].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن قدرته العظيمة، وعن آياته في هذا الكون، التي يجب على كل إنسان عاقل أن ينظر فيها، وأن يتأملها؛ ليعرف قدرة الله سبحانه وتعالى، وليستيقن من عظمته سبحانه، وتقديره لكل شيء.
قال الله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] آية من آيات الله سبحانه، أن رفع هذه الكواكب، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها من أفلاك، ورفع المجرات في هذا الفضاء العظيم بغير عمد ترونها.
فليس هناك عمود تراه بين السماء والأرض يرفع الله عليه السماء، أو يضع عليه الأرض، ولكن كل شيء في فلكه يدور بأمر الله وقضائه، وقدره، وبحكمته، وحكمه، وإتقانه، وبديع صنعته سبحانه وتعالى.
وكلمة (تَرَوْنَهَا) إما أن المحل فيها على الكسر فتكون وصفاً لما قبلها، فيكون قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) أي: بغير أعمدة تَرَوْنَهَا، فيكون المعنى على ذلك، هناك أعمدة غير مرئية، لا ترونها أنتم.
وهذا ما يسميه علماء الفلك: قوة التجاذب بين الكواكب، وبين المجرات، وبين الشمس والقمر، فكأنه يخرج من مركز الشمس مع القمر ومع المجموعة الشمسية التي حولها أعمدة من التجاذب لا يراها الإنسان، فهذه مجذوبة إلى هذه، في فلكها تدور، فيدور القمر حول الأرض، والقمر والأرض مع بعضهما يدوران حول الشمس مع باقي مجموعة الكواكب الشمسية التي تدور حولها مرتبطة بها، لا تنفك عن جاذبيتها، فكأن معنى (بغير عمد): ليس هناك أعمدة كالتي تتخيلونها، عموداً بين الأرض وبين السقف، يرتفع عليه السقف، فترى عموداً، فليس الأمر كذلك، ولكنه شيء آخر من قدرة الله سبحانه، جعله من تجاذب بين هذه مع هذه، فلو زادت كمية الجذب لدخلت المجموعة الشمسية بداخل الشمس فأحرقتها، ولو ضعف هذا التجاذب لابتعدت عنها، وتاهت في الفضاء، وضاعت، ولما لم يحدث شيء من ذلك دل على قدرة الله العظيمة في ربط هذه الأشياء بعضها ببعض، هذا على النطاق الضيق.
والمجرات مليارات، وكل منها يحتوي على مليارات المليارات من الشموس والأقمار والنجوم، وكلها تدور في هذا الفضاء الواسع العظيم، فيرينا الله سبحانه آياته العظيمة، فلا توجد أعمدة مرئية كالتي تتخيلها، ولكن الله يخلق ما يشاء مما لا ترون يجذب هذه إلى هذه، فتدور هذه حول هذه، ويحرك هذه بطريقة، وهذه بطريقة، وكل في فلك يسبحون في هذا الكون العظيم.
إذاً قوله سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] جملة (تَرَوْنَهَا) إما أنها وصف للأعمدة، أي: بغير عمد مرئية، أو هي على الحال من السموات، فيكون المعنى: خلق السموات حال كونكم ترونها بغير عمد، أي: لا أعمدة حقيقة موجودة فيما بينها، وكلا المعنيين صحيح.
فليست أعمدة على الوجه الذي نعرفه ونتخيله، أنك ترفع سقفاً وتضع أربعة أعمدة حتى تضع عليه السقف، فليس الأمر كذلك أبداً، بل إن الله سبحانه وتعالى خلقها بنظام معين، من قوة شد وجذب بين هذه الكواكب، الله قدرها وخلقها سبحانه وتعالى على غير ما تعرفه أنت مما اعتدت عليه.(225/2)
عظمة خلق الله تعالى للأرض
{وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [لقمان:10] والتعبير بـ (في)، غير التعبير بـ (على)، فقوله: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) الرواسي فوق الأرض، ولكن الباحثين في علوم الأرض وطبقاتها يقولون: الجبل ليس فوق الأرض، الجبل جزء منه فوق الأرض وباقي الجبل تحت الأرض، فخمس الجبل فوق الأرض وأربعة أخماس الجبل تحت الأرض.
فالتعبير القرآني العظيم حين يعبر عن الجبال أنها أوتاد للأرض: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان:10] هو تعبير عظيم ودقيق يذهل ويعجز العلماء حين ينظرون فيه.
فالجبال داخل الأرض وفوق الأرض، وصفة هذه الجبال أنها أوتاد -جمع وتد- والوتد هو الذي تجعله للخيمة، فتدق في الأرض أعمدة من خشب تجعلها وتداً في الأرض، وتربط فيها الخيمة حتى لا تميل ولا تتحرك.
كذلك الجبال تثبت الأرض بعضها في بعض، والقشرة الأرضية العليا التي قد يكون سمكها من خمسمائة متر إلى الألف والألفين متر تحتها سوائل منصهرة في باطن الأرض، وفيها مياه جوفية، وفيها أشياء لو لم توجد الجبال لاضطربت الأرض ومالت القشرة الأرضية كالسفينة على الماء.
ولكن الله عز وجل ثبت هذه القشرة العليا في باطن الأرض بهذه الجبال الرواسي، فتتحرك الأرض وتدور حول نفسها، وتجري الأرض بحسب ما قدر الله عز وجل لها، ولا يحدث اهتزاز أو تحرك، والإنسان يركب حافلة مثلاً، ويشعر بأن الحافلة تتحرك، أما في حال دوران الأرض فلا يشعر بها، مع أن الأرض تتحرك بسرعة أعظم بكثير من سرعة القطار ومن سرعة الحافلة.
قال هنا سبحانه وتعالى: {أَنْ تَمِيدَ بِكْم} [لقمان:10] أي: لئلا، أي: كراهة أن تميد، والميد: هو الاضطراب، ومعنى تمور الأرض وتميد: تضطرب وتتحرك، كما تضطرب السفينة فوق الماء، فلم يجعل الله الأرض على هذا الحال، ولكنه ثبتها لكم لتستقروا فوقها بفضله وقدرته العظيمة سبحانه.
{وَبَثَّ} [لقمان:10] أي: نشر سبحانه وتعالى.
{فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [لقمان:10] ويخلق ما لا تعلمون، فقد بث في الأرض من كل دابة سواء اكتشفتم هذه الدواب أو لم تكتشفوها التي جعلها الله عز وجل على الأرض.
والإنسان قد أوتي من العلم شيئاً، ويظن أنه عرف كل شيء، وهو يجهل أشياء كثيرة موجودة على الأرض، ويجهل الحكمة من خلق الله عز وجل لهذه الأشياء، ولكن الله سبحانه لا يخلق شيئاً إلا بعلم وبحكمة سبحانه وتعالى.
وقد تكلمنا في سورة العنكبوت عن حشرة ضعيفة صغيرة ذكرها الله عز وجل، قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] وهذه الحشرة التي يحتقرها الإنسان يقول بعض العلماء: إنه لو انقرضت هذه الحشرة من على وجه الأرض لفني الإنسان، فلا يكون للإنسان بقاء مع عدم وجود هذه الحشرة، وكأن هذه الحشرة تقضي على أعداء للإنسان لا يقدر على القضاء عليها، والإنسان لا يدري ولا يعرف؛ بل إنه يحتقر هذه الحشرة.
وكذلك النملة التي تقرص الإنسان ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل النمل، وإذا كانت مؤذية فاقتل ما يؤذيك، ودع ما لا يؤذيك، فيقول العلماء: إن هذه النملة نافعة جداً للإنسان، تنفعه وتقضي على حشرات معينة لا يقدر على القضاء عليها.
ولذلك ذكرنا أنهم في اليمن يبيعون النمل، يأخذونه من الغابات بفروع الأشجار، وينقلون هذه الفروع على الجمال من الغابة إلى مكان البيع في السوق، ليأخذها أصحاب حقول الموالح، ليضعوا هذه الفروع في أشجار الموالح التابعة لهم، فيصعد النمل على الأشجار ويقضي على ميكروبات أو جراثيم معينة موجودة تتلف الموالح: البرتقال واليوسف أفندي وغيرها مما يأكله الإنسان، فالنملة نافعة للإنسان، وحين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها كان كثير من الناس لا يدرون ما الحكمة في ذلك، وأنت قد لا تعرف، ولكن غيرك يعرف، وعلم الله فوق كل ذي علم سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] فكل شيء له حكمة، والله عز وجل لم يخلق الذبابة عبثاً، ولم يضرب المثل بالبعوضة عبثاً، ولكن الله عز وجل يخلق الدواب ويضرب بها الأمثال، ليريك آيته وقدرته، فهل تقدر أن تصنع مثل ذلك؟ فانظر إلى آيات الله في خلقه من أصغر الأشياء إلى أكبر الأشياء! والبعوضة الصغيرة التي يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، التي تطير فيضربها الإنسان بيده ليقتلها، هذه البعوضة التي تؤذي الإنسان وتقرصه عندما يتأملها العلماء يقولون عنها لها تقريباً ستة وثلاثون عيناً، فهي تنظر بنظر عجيب جداً، وترى ما حولها من كل مكان.
والإنسان لا يقدر أن ينظر إلا إلى أمامه، أو يحرك عينه لليمين والشمال وفوق وتحت، لكن البعوضة تستطيع أن ترى ثلاثمائة وستين درجة، وكيف تقرص الإنسان هذه البعوضة؟ أنت عندما تذهب لتضرب إبرة تكون خائفاً وتقول: ضع لي شيئاً قبل أن تعطيني الإبرة، والبعوضة قبل أن تقرصك تبحث عن العرق الذي فيه دم؛ من أجل أن تسحبه، فترش قليلاً من البنج، وهو سائل موجود في داخلها، ثم تنزل إبرتها وأنت لا تحس بها، لكن تحس بشفط الدم، واللسعة تشعر بها وقت خروج الدم منك ودخوله في البعوضة، أما وخز الإبرة فلا تشعر بها، وأمهر مخلوق يضرب الإبر هي البعوضة.
والجاهل لا يعرف شيئاً، فالبعوضة تأتي أمامه فيغتاظ: لماذا خلقها الله مع أنها تؤذينا?! والعالم يتأمل البعوضة ويشرحها، فالبعوضة لها أربعون ضرساً وأنت معك ستة وثلاثون ضرساً، فسبحان الخلاق العظيم! حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26] لأنها خلق عظيم من خلق الله لا تقدر أنت ولا غيرك، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يخلقوا شيئاً ما استطاعوا أن يوجدوا ولا أقل الأشياء التي خلقها الله سبحانه وتعالى.
فهنا يقول الله: أنه بث في الأرض من كل دابة، والدابة هي التي تدب على الأرض، وكل ما يدب على الأرض يسمى دابة سواء كان يمشي برجليه أو يطير بجناحيه.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [لقمان:10] وقد عبر سبحانه وتعالى بنون العظمة هنا.
فقوله: (خَلَقَ) الضمير عائد على الله سبحانه وتعالى، (وألقى) الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى في الأرض رواسي أن تميد بكم، (وبث) ستجد الضمائر كلها عائدة على الله سبحانه وتعالى على الإفراد، وفي قوله: (وَأَنزَلْنَا) عبر بنون العظمة سبحانه وتعالى، وكأن هذه الأشياء السابقة لا يجرؤ الإنسان أن يقول فيها شيئاً، فلا يجرؤ أن يقول: أنا أخلق سموات، أو أنا أخلق أرضاً كهذه الأرض، أو أنا أخلق جبالاً، لا يقدر الإنسان أن يقول ذلك.
وكأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا سأنزل من السماء ماء، أنا سأوجه السحاب من مكان إلى مكان، وعندما تأتي سأفجر فيها بقنبلة أو بمدفع أو شيء آخر فتنزل الماء، وقد أراد الإنسان أن يصنع ذلك، وإذا بنون العظمة تقول: لا، لن تستطيع، فنحن الذين نتحكم في ذلك، لا تقدر أنت على ذلك، فالله وحده هو القادر على أن ينزل من السماء ماء، ويرسل الرياح فتثير سحاباً فيسيره الله سبحانه وتعالى إلى أي مكان شاء، ثم يقول له: كن فيكون، فينزل من السماء هذا الماء الذي يغيث الله عز وجل به عباده، فإذا بالعباد لا يملكون إلا أن يتضرعوا عندما يعجزون وييأسون: لم نستطع أن نحضر ماء، حركنا السحاب من مكان إلى مكان فلم نستطيع، انتظرنا حتى تأتي سحابة مليئة بالماء وفجرناها بقنبلة وبغيرها، ولم ينزل أي شيء، ولما نزل نزل رذاذ ولم نستفد منه، فعرفوا أنهم لا يقدرون على شيء فرجعوا إلى الله وقالوا: يا رب! ووقفوا يصلون صلاة استسقاء يطلبون من الله عز وجل أن ينزل عليهم من السماء ماء.
قال تعالى: (وأنزلنا) فعبر بنون العظمة هنا، وكل أفعال الله سبحانه وتعالى عظيمة.
قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا} [لقمان:10] عبر بنون العظمة أيضاً؛ لأن الإنسان قد يتبجح ويقول: أنا زرعت هذه الأرض، فالله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد لك غذاءك وكساءك وماءك وشرابك، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} [الواقعة:68 - 69] من الذي أنزل الماء من السماء؟! {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:63 - 65]، فالله عز وجل هو القادر على كل شيء سبحانه.
فهنا قال: {فَأَنْبَتْنَا} [لقمان:10] وهناك قال: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة:64 - 65]، والإنسان يرى نفسه أنه يزرع، ولكن هل الفعل الذي فعلته هو الذي شق هذه الحبة التي في الأرض، وهو الذي أنبت بذرها، وأخرج ساقها، وأخرج ورقها، وأخرج ثمارها؟
الجواب
لا، فما أنت إلا سبب من الأسباب.
قد تبذر الحب وقد لا تبذر، فتأتي الرياح على حبوب موجودة في مكان فتذروه الرياح فيطير ويقع على الأرض، فينزل المطر فيخرج من الأرض سنابل بقدرة الله سبحانه وتعالى، فالإنسان يجب عليه أن ينظر إلى نفسه أنه سبب من الأسباب، وأنه ليس خالقاً يخلق، وليس هو الذي يخرج الزرع وإنما الذي يخرجه هو الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان:10] أي: أنبتنا في الأرض من كل زوج أي: من كل صنف، ومن كل نوع، ومن كل ما يشتهيه الإنسان من طعام، (كريم) وصفه الله عز وجل بأنه كريم، والكريم عكسه: اللئيم، فالزرع الذي ينبت لئيماً لا ينتفع به الإنسان، ويكون خبيثاً، و(225/3)
تفسير قوله تعالى: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه)
قال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] أي: هذا الذي أراكم الله سبحانه هو خلقه البديع العظيم، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11].
والسورة مكية، والسور المكية تهتم بجانب التوحيد والعقيدة، وأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، كما تهتم بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية.
وتوحيد الربوبية: هو أنه لا رب إلا الله، ومقتضى ربوبيته أنه يخلق ويرزق، وينفع، ويضر، ويعطي، ويمنع، ويفعل ما يشاء سبحانه، والإله مقتضى ألوهيته أن يعبد سبحانه، لذلك يقرن بين الاثنين ليبين أن الرب هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً معبوداً.
والمشركون لم يتكلموا في أمر الربوبية، فلم ينكروا ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولم يقولوا: نحن نخلق، ونحن نرزق؛ بل إنهم نسبوا الخلق والرزق لله سبحانه.
لكن إذا قيل لهم من تعبدون؟ {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، نعبد أوثاناً صنعناها لتقربنا إلى الله، فالله عز وجل يقول: هذه الأوثان والأصنام هل خلقت؟! هل رزقت؟! هل خلقت السموات والأرض؟! أو أخرجت لكم غذاء أو ماء؟ فإذا كانت لا تفعل فلم تعبدوها؟ ولم تتوجهون إليها بالعبادة وتزعموا أنها آلهة؟! قال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11] أي: هذا الخلق الذي خلقه هو الرب وهو الله سبحانه المستحق للتأليه، المستحق للعبادة.
{فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان:11] والذين من دون الله هي هذه الآلهة التي تعبدونها، أي شيء خلقت؟ ثم أضرب عن هذا وقال: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [لقمان:11] فقد ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، فاعتقدوا غير ما هو حق، عرفوا الحق فأعرضوا عنه، وإذا بهم يعطون صفات الله عز وجل لغير الله سبحانه، فظلموا وبهتوا، ووقعوا في هذا الباطل الشنيع العظيم، فوصفهم بأنه ظالمون، والظلم هنا هو الظلم الأكبر وهو: الكفر بالله سبحانه وتعالى.
والظلم: هو أن يضع الإنسان الشيء في غير مكانه، فإذا بهم بدلاً من أن يصرفوا العبادة لصاحبها صرفوها لغير صاحبها، وقد ضرب يحيى بن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مثلاً للناس في أمر الشرك بالله سبحانه وتعالى: كمثل رجل بنى بيتاً وجعل حانوتاً واشترى عبداً بماله، وقال للعبد: هذا بيتي وهذا عملي، اعمل هنا وضع هنا، أي: اعمل في دكاني، وهات الأجر وضعه هنا في البيت، والبيت والدكان والعبد ملك لصاحبه، فإذا بهذا العبد يعمل في هذا المحل، ويعطي المال لإنسان آخر، فهل هناك أحد يرضى أن يعمل عبده في ماله ويعطي الربح لغير صاحبه؟ الإنسان لا يرضى بذلك، ويقول: هذا ظلم، فكيف إذا كان الأمر لكم قلتم: هذا ظلم؟ وإذا كان لله جعلتموه من الحق، وجعلتموه من العدل؟ فالله هو الذي خلقكم سبحانه، وسخر لكم ما في الأرض، وأنعم عليكم بنعمه، فإذا بكم تتوجهون إلى غيره بالعبادة، كعبد السوء هذا.
فالله سبحانه وتعالى يقول: {بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ} [لقمان:11] وإذا تاه الإنسان وابتعد عن الحق فقد وقع في الضلال.
وضل الإنسان بمعنى: تاه، فهؤلاء تائهون متحيرون، ابتعدوا عن ربهم سبحانه وتعالى، ولم يعرفوا الحق، أو عرفوا فأنكروا، فكانوا في ضلال مبين، ومعنى (مبين): بين واضح.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(225/4)
تفسير سورة لقمان الآية [12]
إن لله سبحانه وتعالى نعماً على عباده لا تعد ولا تحصى، منها: الحكمة والتسديد في المنطق والرأي، فهذه نعمة ما بعدها نعمة، ولا بد من شكرها حتى تبقى وتدوم، وليس الشكر لحاجة الله إليه؛ فهو سبحانه لا تنفعه طاعة الطائع ولا تضره معصية العاصي، وإنما من شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فلن يضر الله شيئاً، وإنما جنى على نفسه، وسيعرف شناعة وبشاعة هذه الجريمة يوم تبلى السرائر ويظهر المخفي في الضمائر، وممن أعطاهم الله تعالى الحكمة فشكروه عليها لقمان الحكيم رضي الله عنه.(226/1)
ما جاء في صلاح لقمان وحكمته
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قد آتى لقمان الحكمة، ولقمان رجل من الصالحين، جعله الله عز وجل حكيماً من الحكماء وعالماً من العلماء، ولم يجعله نبياً من الأنبياء، فقد كان لقمان عبداً من العبيد، والنبوة لا تكون إلا لإنسان حر.
فقد جعله الله عز وجل حكيماً، وآتاه الحكمة فينطق لسانه بها، وقد سميت السورة باسمه: سورة لقمان.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] كان لقمان من أهل مصر من سودانهم، وكأن مصر والسودان كانتا شيئاً واحداً، فالجنوب من مصر هو السودان، فكانوا يقولون: هذا من سودان مصر، أي: من جنوبها.
يقول سعيد بن المسيب: كان لقمان أسود من سودان مصر، أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة، وعلى هذا جمهور أهل التأويل، أي: أنه كان ولياً من أولياء الله سبحانه وتعالى، حكيماً من الحكماء، ولم يكن نبياً من الأنبياء، والله يعطي فضله من يشاء، يجعل من يشاء نبياً ويجعل من يشاء ولياً، فيجعل من يشاء على ما يشاء تبارك وتعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، فقد آتى لقمان الحكمة، فكان رجلاً حكيماً بحكمة الله تبارك وتعالى.
قالوا: كان يقضي في بني إسرائيل، إذاً: فهو في عصر بني إسرائيل، وكان يقضي بينهم بالحكمة التي أعطاه الله تبارك وتعالى.
ومعنى قضاؤه بينهم: أن يأتي إليه الناس يسألونه فيفصل ويقضي بينهم بحكمته، وبما أعطاه الله تبارك وتعالى من فقه ودين وعقل.
وكانت لـ لقمان الحكيم حكم عظيمة وكثيرة جداً، ذكر أهل التفسير بعضها، وذكر لنا ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات ما يدل على ذلك.(226/2)
أمر الله تعالى للقمان بالشكر
يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] يعني: بما آتيناك من حكمة فاشكر لربك سبحانه عليها، وكل إنسان يعطيه الله سبحانه من نعمه ما يشاء، فالفرض على كل عبد من العبيد أن يشكر ربه على نعمه العظيمة.
وكل نعم الله عظيمة، ومن أفضلها على العبد أن يجعله حكيماً، وأن يؤتيه العلم والسداد والحكمة؛ ولذلك قال ربنا سبحانه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] أي: من يؤت الحكمة فينطق بها، ويتفكر ويتعقل في الكلام وفيما خلق له، هذا من فضل الله عز وجل عليه.
وقوله سبحانه: (أن اشكر لله) بكسر النون هذه قراءة عاصم التي نقرؤها وكذلك قراءة البصريين أبي عمرو ويعقوب، وهي قراءة حمزة، وباقي القراء يقرءونها: (أنُ اشكر لله) بضم النون.
قوله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] وذلك لأن الإنسان إذا شكر لله عز وجل فسيحصل على الزيادة كما قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فكلما شكرت الله كلما أعطاك زيادة عن هذا الذي شكرته عليه؛ لذلك كانت التجارة مع الله سبحانه رابحة فكلما أعطاك نعمة وقلت: الحمد لله، زادك الله عليها من فضله.
فالإنسان الذي يفتح الله عز وجل عليه بالعلم يجب عليه أن يشكر ربه سبحانه على هذه النعمة العظيمة، التي يحتاج إلى أن يثبتها الله تبارك وتعالى له عنده، وأن يزيده منها؛ ولذلك علم الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه بقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
فقد أعطاه الله عز وجل النبوة والرسالة والحكم والحكمة والعلم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك أمره أن يسأل فوق ذلك وأن يستزيد، فالإنسان الذي يتعلم لا يشبع من علم أبداً؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من العلم، وطالب الدنيا لا يشبع من الدنيا.
فلذلك الذي يؤتيه الله عز وجل العلم والحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً من فضل الله ومن رحمته سبحانه.
وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] أي: الذي يشكر فشكره عائد إلى نفسه، أي: فضل هذا الشكر وثوابه يرجع إلى هذا العبد ولن ينتفع الله تبارك وتعالى منه شيئاً.
فالذي يعبد ربه هو الذي ينتفع، أما الله عز وجل فهو غني عن العالمين سبحانه، فلم يخلق العباد لحاجته إليهم سبحانه، ولكن لحاجة العباد إليه عز وجل، خلقهم لمقتضى رحمته؛ أي: ليرحمهم تبارك وتعالى، وليظهر فضله وعظمته وقدرته تبارك وتعالى.
وقد أوجد الله العباد ليعبدوه سبحانه، كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]؛ أي: ليكونوا عباداً له تبارك وتعالى، فينعم عليهم بفضله وبرحمته سبحانه.(226/3)
تخيير لقمان بين النبوة والحكمة
ومما جاء عن لقمان أنه خير بين النبوة والحكمة كما يقول قتادة: خير الله تعالى لقمان بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة على النبوة، وهذا عجيب؛ لأن الإنسان إذا خير بين مرتبتين إحداهما أعلى من الأخرى فالمفترض أن يختار المرتبة العالية، فلم اختار لقمان المرتبة الدنيا؟ فلما سئل لقمان عن ذلك، أي: قيل له: كيف اخترت الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال: إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيها العون منه، ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة.
وهذه من حكمته، وهذا من الله عز وجل قضاء وقدر، والله علم ذلك، أي: أن هذا يصلح له أن يكون حكيماً لا نبياً.
إذاً: فخيره الله فكان من حكمته أن اختار لنفسه ما وفقه الله عز وجل إليه، أي: اختار الحكمة، وترك النبوة، وكأنه قال: لو طلبت النبوة فلعلي لا أعان عليها؛ فسأختار ما هو أقل؛ ولذلك لما خير نبينا صلوات الله وسلامه عليه بين أن يكون ملكاً نبياً وأن يكون عبداً نبياً صلوات الله وسلامه عليه، فإذا به ينظر إلى جبريل وكأنه يقول له: ما الأمر؟ أو ما الذي أختاره؟ هل أكون ملكاً نبياً أم عبداً نبياً؟ فأشار إليه جبريل بيده أن تواضع، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عبداً نبياً؛ ولذلك كان يجلس صلى الله عليه وسلم جلسة المتخشع المتذلل بين يدي ربه سبحانه وتعالى، ويأكل على الأرض عليه الصلاة والسلام ويقول: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، ويقول: (آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد)، صلوات الله وسلامه عليه.
ولو جعله الله عز وجل ملكاً نبياً كما جعل داود وكما جعل سليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام لكان كذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن لما خير فاختار الأقل عليه الصلاة والسلام رفعه الله عز وجل بذلك فوق جميع خلقه.(226/4)
صنعة لقمان وصفته
اختلف في صنعة لقمان الحكيم، أي: ماذا كان يعمل؟
و
الجواب
أنه كان عبداً نوبياً خياطاً، وقال سعيد بن المسيب: كان خياطاً، وكان رجلاً أسود.
فاستغرب رجل قوله: أنه كان أسود، فقال سعيد بن المسيب لهذا الرجل: لا تحزن من أنك أسود؛ فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان، أي: ثلاثة سود كانوا من خير الناس.
فلون الإنسان ليس مقياساً على قلبه، فقد يكون فلان أسود اللون أبيض القلب، وعظيم العمل وأرفع درجة عند الله، وقد يكون آخر أبيض اللون أسود القلب، بل من أفسد خلق الله تبارك وتعالى، فاللون ليس مقياساً على ما في القلب، فيقول سعيد بن المسيب لهذا الرجل: لا تحزن من أنك أسود؛ فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان: بلال ومهجع مولى عمر ولقمان.
فهؤلاء ثلاثة كانوا سوداً ومع ذلك كانوا من خير الناس.
أما الأول: فهو بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم عانى وقاسى من أهل الجاهلية، من عذاب وجر على الأرض ووضع للصخر على صدره في اليوم الحار القائض، مع سحبه على رمال الصحراء، ومع هذا كله تزيد قوة إيمانه ويقول: أحد أحد.
فهذا بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه، والأحاديث في فضله كثيرة، وهو يأتي يوم القيامة أرفع الناس عنقاً؛ لأنه مؤذن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وأما الثاني: فهو مهجع مولى عمر رضي الله عنه، وكان عبداً أعتقه عمر رضي الله عنه، وكان أسود شديد السواد.
وكان أول شهيد يوم بدر رضي الله عنه، وكان شديداً مقاتلاً عظيماً، لم يكن يهرب عن القتال وإنما يقدم عليه ويقول للناس: أنا مهجع وإلى ربي أرجع، ثم يقاتل ويقدم ويضرب ويقتل الأعداء، حتى قتل شهيداً رضي الله عنه.
وأما الثالث: فهو لقمان الحكيم رضي الله عنه، ومما جاء عنه: أنه كان يحتطب كل يوم لمولاه.
وذات مرة كان رجل ينظر إلى سواده ويتعجب من شدته، فقال له: إن كنت تراني غليظ الشفتين، فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، أي: لا تعجب من منظري، أو من شفتي أنها غليظة، ولكن انظر إلى الكلام الذي يخرج منها، ثم يقول له لقمان: وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.(226/5)
سبب رفعة لقمان وعلو منزلته
قيل: كان لقمان راعياً، فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك، فقال: ألست عبد بني فلان؟ أي: أما زلت عبداً عند بني فلان؟ فقال: بلى فقال: فما بلغ بك إلى ما أرى؟ أي: ما الذي جعل الناس يلتفون حولك، ويتعلمون منك وقد كنت عبداً من العبيد؟ فقال له لقمان: قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني، وهذه من الحكمة التي آتاه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي يؤتى الحكمة يجعله الله عز وجل يتأمل في ذلك ويحاول أن يقرب من مثل هذه الأخلاق العظيمة بمجاهدة نفسه.
وما في قلب الإنسان يخرج من لسانه؛ ولذلك كانوا يقولون: إن قلب العاقل أمام لسانه، ولسان الأحمق أمام قلبه.
فالإنسان العاقل قلبه كالحجر أمام لسانه، فإذا أراد اللسان أن يتكلم أحاط به القلب، أما الأحمق فقلبه وراء لسانه، كلما انفعل القلب خرج أثره على اللسان، فيقول لقمان رضي الله عنه: إن الذي بلغ به إلى ما يراه هذا الآخر ويتعجب من أمره قدر الله، ولا شك أن كل شيء بقضاء الله وقدره.
فنستفيد من هذا: وجوب معرفة الفضل لصاحبه، فلم يقل لقمان: أنا الذي وصلت لذلك بنفسي، وإنما أشعره أن الله سبحانه وتعالى بفضله هو الذي أوصله إلى ذلك.
ثم ذكر طرفاً من الأخلاق التي كان عليها فقال: وأدائي الأمانة، أي: أديت أمانة الله عز وجل التي أمرت بأدائها، فأديت ما علمت من العلم، وأعطيت الناس حقوقهم، وعلمتهم ما أرادوا مني بأمانة.
ثم قال: وصدق الحديث، أي: أنه كان صادق الحديث، وكلما كان الإنسان صادق الحديث كلما أعطاه الله عز وجل من العلم والحكمة ما يشاء سبحانه، فيجاهد الإنسان نفسه بالامتناع عن الكذب، فيكون صادقاً في كلامه ومصيباً في رأيه واختياره.
ثم قال لقمان: وترك ما لا يعنيني، وهذا من أهم ما يوصل الإنسان إلى رضا الله تبارك وتعالى، أي: ألا يتدخل فيما لا يعنيه، كما قالوا: ما لا يَعنيك يُعنيك، فالإنسان الذي يتدخل فيما لا يعنيه يتعب نفسه من غير فائدة.
فالذي يتدخل في كل شيء لن يصل إلى كل شيء، لكنه يتعب نفسه في هذه الأشياء كلها ولن يصل إلى شيء، لكن العاقل هو الذي ينظر فيما ينفعه في دنياه وأخراه، فيؤتيه الله عز وجل الحكمة في ذلك وفي غيره.(226/6)
أطيب ما في الإنسان وأخبث ما فيه
مما جاء عن خالد الربعي أنه قال: كان لقمان نجاراً فقال له سيده: اذبح لي شاة، وأتني بأطيبها مضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق بأخبثها مضغتين، فألقى اللسان والقلب! فقال له: أمرتك أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب، وأمرتك أن تلقي أخبثها فألقيت اللسان والقلب، فكأنه يقول: ما الحكمة في ذلك؟
و
الجواب
أن الإنسان أطيب ما فيه لسانه وقلبه وهما أخبث ما فيه.
فصاحب اللسان الطيب لا يخرج منه إلا الكلام الطيب، وكل إناء بما فيه ينضح، فاللسان دليل على ما في قلب الإنسان؛ لذلك قال لقمان رضي الله عنه: ليس شيء أطيب منهما -أي: القلب واللسان- إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا.
وهذا مصداق لما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فقلب الإنسان إذا صلح صلحت سائر جوارحه، وإذا فسد فسدت سائر جوارحه.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة، ما بين لحييه ورجليه)، يقصد لسانه وفرجه، فإذا وقى الله سبحانه الإنسان شر لسانه وفرجه استحق أن يكون من أهل الجنة.
فاللسان قد يكب الإنسان على منخره في النار والعياذ بالله؛ ولذلك جاء في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، وهذا من أثر اللسان، والمجاهر فسر بقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر ربه)، فهذا المجاهر، السبب في أنه استحق عذاب الله عز وجل لسانه، فلعله عمل معصية فبات عليها، ولو أنه قام فتاب إلى الله سبحانه لتاب الله عليه، لكنه ذهب قائلاً: يا فلان عملت البارحة كذا، كأنه يفتخر بهذه المعصية فيجاهر بها، فاستحق عذاب الله سبحانه فلا يعافيه الله؛ لأنه فضح نفسه، فكان اللسان آفته فأوقعه في النار والعياذ بالله.
وقد قيل لـ لقمان أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً.
وهذا هو معنى ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فالإنسان الذي يسيء ولا يبالي ليس عنده حياء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وليس المعنى: أنه أمر بفعل ما يشتهيه من لا حياء له، لكنه تهديد، أي: أن اعمل وأنت قليل الحياء وانتظر عقوبة الله وناره يوم القيامة.(226/7)
من حكم لقمان رحمه الله
قال وهب بن منبه: قرأت من حكمة لقمان أرجح من عشرة آلاف باب، يعني: أن من الكلام الحكيم الذي قاله لقمان ما جاء في كتب السابقين فقرأ وهب بن منبه منها أشياء من حكمته.(226/8)
الصمت حكمة وقليل فاعله
مما جاء عنه: أنه دخل على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهو يسرد الدروع، وكان سيدنا داود عليه الصلاة والسلام ملكاً من الملوك ونبياً من الأنبياء، وكان مع ذلك لا يأكل إلا من عمل يده، فعلمه الله عز وجل صنعة الدروع التي يتقى بها الأعداء، وهي ما يلبسه الإنسان ليتقي بها الحرب، فدخل عليه لقمان وهو يسرد الدروع، أي: يصنعها، وقد لين الله تعالى له الحديد كالطين، فأسال له عين القطر وألان له الحديد، فإذا به يصنع الدروع بسهولة ويسر، فنظر إليه لقمان وهو يصنع، وكأنه يقول: يا ترى ما الذي يعمله داود عليه الصلاة والسلام؟ فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، ونستفيد من هذا: أنه ليس كلما رأى الإنسان حاجة يقول: ما هذه؟ بل اصبر قليلاً حتى تعرف، فلعل هذا الذي يصنع شيئاً يقول لك: هذا كذا، فهذا لقمان الحكيم أراد أن يسأل داود عن الذي يعمله ولكن أدركته حكمته فأمسك رضي الله عنه.
فلما أتم صناعتها داود عليه الصلاة والسلام لبسها، أي: لبس الثوب الحديد، ففهم لقمان أن هذا ثوب يلبسه الإنسان يتقي به عدوه، ثم قال داود: نعم لبوس الحرب أنت، فلبسه داود وتكلم عليه الصلاة والسلام.
فقال لقمان: الصمت حكمة، وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيماً.
فيصبر الإنسان قليلاً ثم سيعرف الأمر الذي فيه، لكن الإنسان عجول كما قال الله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] فيتعجل الإنسان فيضيع حكماً كثيرة، وعادة الإنسان أنه ملول، فإذا وجد إنساناً عجولاً مل منه وتركه وانصرف، وإذا وجد إنساناً صبوراً أعطاه وعلمه.(226/9)
صبر ابن عباس وتأنيه في العلم
ولذلك وصل ابن عباس رضي الله عنه إلى ما وصل إليه من العلم بصبره وحكمته رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلم يقل: أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، علموني وأعطوني كذا، ولو قال ذلك فلعلهم يعلمونه ويعطونه لفضله ولقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه تأدب متعلماً، فأذل نفسه متعلماً فصار حبراً عالماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان يعرف أن حديثاً عند أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب إليه في وقت الضحى، ويجلس عند بابه وينتظر حتى يخرج هذا الصحابي الفاضل، فإذا خرج سأله عبد الله بن عباس عن هذا الحديث.
فيقول الصحابي: لو طرقت علي بابي؟ قال ابن عباس: لا، ولكن هكذا يتعلم العلم، أي: لا أطرق بابك بل أنتظر حتى أن تقول لي هذا الشيء، فهذا عبد الله بن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله التأويل ويفقهه في الدين، يريد العلم خلال فترة طويلة.
وهو مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقريب منه، وهو يعرف أن عمر يعرف حديث المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم، واللتان نزل فيهما قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:4].
وكانتا السبب في أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه عليه الصلاة والسلام شهراً كاملاً، فإذا بـ ابن عباس ينتظر فرصة مناسبة من عمر، طال الوقت وهو ينتظر، حتى مر في سفر مع عمر رضي الله فسأله وهو يوضيه فقال: من المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: ويحك يا ابن عباس! وذلك أن ابن عباس أخبره أنه بقي فترة طويلة منتظراً فرصة مناسبة ليسأل فيها عمر رضي الله عنه، حتى أخبره عمر بالحديث الطويل في ذلك.
فالإنسان عندما يتأنى تكون السلامة في تأنيه، وعندما يتعجل تكون العجلة سبباً في تضييعه أشياء كثيرة قد يحتاجها، وهذا لقمان صبر فتعلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.(226/10)
وجوب شكر النعم والتحذير من كفرها
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12].
شكر الله عز وجل عكسه عدم الشكر وهو الكفر، أي: أن يكفر الإنسان النعمة.
وعندما ينعم الله على العبد بنعمة هناك من يستقل هذه النعمة، ويقول: ربنا ما أنعم علي، ربنا ما أعطاني، ربنا حرمني، لماذا ربنا أعطى فلان وما أعطاني؟ فهذا يكفر نعم الله تبارك وتعالى عليه، فإذا شكرت أظهرت نعم الله عليك، فتقول: ربنا أنعم علي، ربنا أعطاني الكثير من فضله سبحانه فيزيدك الله.
وقوله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ} [لقمان:12] الكفر بمعنى الستر، والله ينعم على بعض العبيد فيجحد النعم ويسترها بقوله: ما أعطاني الله شيئاً، فهذا من الكفر، والمقصود به كفر نعم الله سبحانه.
قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] أي: إن الله غني عن عباده وعن شكرهم، وليس محتاجاً لشكرهم؛ ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
فتقوى العباد لا تزيد ربنا شيئاً، وفجورهم لا ينقص شيئاً من ربنا تبارك وتعالى، ولكن الله يريد رحمة عباده، وأن يظهر مقتضى حلمه ورحمته وفضله وقوته وقدرته، فخلق العباد ليظهر قدرته سبحانه وعظمته.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(226/11)
تفسير سورة لقمان [13 - 15]
أمر الإسلام بالنصيحة وعظم شأنها، وجعلها الدين كله، وأعظم النصيحة نصيحة الأب لابنه في طاعة الله عز وجل وتقواه، وهذا فرض عليه من الله تعالى، فعلى الأب أن ينصح ابنه، ويوجهه نحو طاعة الله عز وجل، وما ينفعه في دينه ودنياه، ومن أعظم هذه النصائح ما سجله القرآن الكريم في هذه الآيات من نصيحة لقمان لابنه، ففيها النصح بكل خير، والبعد عن كل شر.(227/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:13 - 15]، يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات من مواعظ لقمان الحكيم لابنه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] وفرض على الأب أن ينصح أبناءه، وأن يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.(227/2)
النهي عن الشرك بالله سبحانه وتعالى
نصح الأب لابنه ما قصه ربنا سبحانه وتعالى علينا في هذه الآيات، وهذا لم يذكره الله عز وجل هنا لنسمعه ونضيعه، ولكنه ذكره لنا لنسمعه ونعيه ونفعل مثل ذلك، ولنقتدي بهذا الرجل الفاضل الحكيم رضي الله عنه، ونقول كما قال ونعظ أبناءنا وأهلنا ومن يلزمنا وعظهم، فننصح ونذكرهم بالله سبحانه وتعالى، فننصح الناس الأقربين ثم الأبعدين، وننصح من استطعنا أن ننصحه، وأول وأعظم ما ننصح به هو تقوى الله سبحانه وتعالى والبعد عن الشرك به سبحانه، وقد كان هذا أول نصائح لقمان لابنه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
فوعظه في أمر الشرك، وكأن في هذا إشارة -كما قال بعض المفسرين- إلى أن ابنه كان على شيء من الشرك، أو أنه كان مشركاً كافراً، فوعظه ونصحه حتى دخل في دين الله سبحانه وتعالى.
والله أعلم.
فقال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] فنهاه عن الشرك بالله.
أن ابنه كان مسلماً فوعظه لقمان ونصحه أن يداوم على ما هو فيه من توحيد الله سبحانه، وحذره من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله أعلم بأمره.(227/3)
القراءات الواردة في هذه الآية
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] (وهو) في كل القرآن تقرأ على وجهين: (وَهُوَ) وهي قراءة الجمهور.
(وَهْوَ) وهي قراءة قالون عن نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو والكسائي.
وقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ} [لقمان:13] تكررت هذه الكلمة ثلاث مرات في هذه الآية وما يليها فقال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] وقال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان:17] وقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان:16] فتكررت ثلاث مرات هنا.
وقوله تعالى: (يا بُنَيَّ) تصغير ابن، والتصغير إما أن يراد به الحقيقة، أي: أن الابن صغير، والابن الصغير لا يوعظ بهذه الأشياء، فكأن التصغير هنا المقصود به التحنن، فالأب يتحنن على ابنه ويترفق معه، فيقول له: يا بني! وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي بها الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يقولها لصغار أصحابه، صلوات الله وسلامه عليه، كـ أنس بن مالك وغيره ممن كانوا صغاراً في السن، وقد كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم لهم على وجه الترقيق لقلوبهم والتلطف بهم، صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الكلمة (يَا بُنَيَّ) قرأها حفص عن عاصم في هذه الثلاثة المواضع بالفتح فيها.
ووافقه ابن كثير في إحدى روايتيه في الموضع الثالث: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] فقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم، وأما باقي القراء فيقرءونها في هذه المواضع وفي غيرها من القرآن: (يا بني)، على الإضافة إلى النفس.
وابن كثير خالف حفصاً في الموضع الأول والثاني، فقرأها في الموضع الأول: (يا بُنَيْ لا تشرك بالله)، بالتسكين فيها، وفي الموضع الثاني قرأها كقراءة الجمهور: (يا بُنَيِّ إنها إن تك).
وفي الموضع الثالث: (يا بُنَيَّ إنها)، قرأها قنبل عن ابن كثير مثل قراءة الجمهور: (يا بُنَيَّ)، وقرأها البزي عن ابن كثير كما قرأها حفص عن عاصم.
وكلمة: (وهو) يقف عليها يعقوب بهاء السكت، فيقرؤها: (وهوه) وأما باقي القراء فيقفون عليها إما (وَهُوْ) أو (وَهْوَ).
وفي قوله تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] تحذير من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا التحذير مقصود في كتاب الله سبحانه، فقد نهى الله عن الشرك به، وذكر أنه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جاءوا إلى أقوامهم بالأمر بالتوحيد والتحذير من الشرك بالله سبحانه وتعالى.(227/4)
بيان أن أعظم الظلم الشرك بالله سبحانه
قال تعالى: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فبين أن الشرك ظلم عظيم، وأعظم الظلم الذي يظلم الإنسان به نفسه هو أن يقع في الشرك بالله تبارك وتعالى.
ولما نزل قول الله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فهم منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الذين لم يخلطوا إيمانهم بنوع من الظلم، فخافوا؛ لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، فخاف الصحابة من الظلم؛ لأن مآل الظالم إلى النار، سواء ظلم نفسه أو غيره ظلماً أصغر أو أكبر، فالظلم ظلمان: ظلم أصغر، وظلم أكبر.
فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم ذلك، فقالوا: يا رسول الله! أينا لا يظلم نفسه؟ أي: أن الآية التي في سورة الأنعام والتي قال الله سبحانه فيها: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] معناها: أن الأمن والأمان يوم القيامة للمؤمنين الذين لم يظلموا أنفسهم، فشق ذلك على الصحابة وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هو كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]).
فالإنسان قد يظلم نفسه، وقد يتجاوز ويعفو الله سبحانه وتعالى عنه.
وظلم الإنسان لنفسه يكون بالوقوع في صغائر الذنوب، أو في كبائرها، ومنها الشرك بالله سبحانه.
فالصحابة اختلط عليهم الأمر، ولم يفهموا المقصود بقوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] فظنوا أنه أي ظلم يقعون فيه سواء كان صغيراً أو كبيراً أو شركاً بالله، وسواء كان ظلماً للنفس أو ظلماً للغير فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية ليس المقصود منها الظلم الأصغر، وهو الوقوع في صغائر الذنوب، وإنما المقصود منها الظلم الأكبر، وهو الوقوع في الشرك بالله، فوضح الآية بالآية الأخرى فقال: (إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]).(227/5)
بيان عدم مغفرة الشرك
فالأمن والأمان يوم القيامة لمن جاء لا يشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى شيئاً، وكذلك لمن لم يظلم نفسه ظلماً أكبر، ولم يقع في كبائر الذنوب، ومات تائباً إلى الله عز وجل.
فإذا تاب الإنسان إلى الله من الشرك فما دونه تاب الله عز وجل عليه، وإن لم يتب منه جاء يوم القيامة وهو لا أمان له؛ لأن الله لا يغفر أن يشرك به.
وإذا وقع في الذنوب كبائرها وصغائرها ولم يتب منها فهو في خطر المشيئة، فإن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك.
ولذلك هنا يفرق بين من أتى بالشرك بالله فلا يغفر له، وبين من أتى بصغائر الذنوب ولم يقع في الشرك بالله فلعل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنه عند وفاته، ولذلك قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بأن الإنسان إذا اجتنب الكبائر ولم يقع فيما حرم الله من كبائر الذنوب، مثل: الشرك بالله سبحانه وتعالى، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، والوقوع في السرقة، والوقوع في الزنا، والرشوة، وأكل السحت، وأكل الباطل، وغيرها من الكبائر التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي رويت عنه، فإذا ابتعد عن هذه الكبائر، وجاءته وفاته وهو مجتنب لها؛ كفر الله عنه الذنوب الصغائر، وهذا من فضل الله ورحمته على عباده، ولذلك على المؤمن أن يحسن في دنياه ويجتنب الكبائر؛ حتى يكون هذا الاجتناب تكفيراً لصغائر ذنوبه.
وإذا وقع العبد في كبيرة من الكبائر ثم تاب إلى الله عز وجل ومات تائباً فإن الله يتوب على من تاب، وأما إذا لم يتب العبد من ذنوبه فهو في خطر المشيئة، والله عز وجل إن شاء الله عفا عنه، وإن شاء عذبه على ذلك.
وأما العبد الذي يأتي آمناً يوم القيامة فهو الذي لم يقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولم يكن في خطر المشيئة يوم القيامة على ما ذكرنا.
إذاً: فقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] يبين أن أعظم الظلم وأكبر الظلم أن يقع الإنسان في الشرك بالله سبحانه وتعالى.(227/6)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن)
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
هذه الآية جملة معترضة بين وصايا لقمان، وكأن الله سبحانه تبارك وتعالى لما ذكر نصيحة لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] أراد أن يذكر بعدها وصيته هو بعدم عقوق الوالدين، والوصية من الله عز وجل بالوالدين تكررت مراراً في كتاب الله سبحانه، فهو سبحانه ينهى عن الشرك به، ويأمر الإنسان بأن يوحد ربه سبحانه وتعالى، وأن يشكر لله سبحانه، ويشكر بعد ذلك للوالدين.
فالله هو الذي خلقك وأوجدك، وكان سبب وجودك في هذه الدنيا أن أباك تزوج أمك وكنت أنت نتيجة لذلك.
فأمرك الله أن تشكر له عز وجل الذي خلقك، وتشكر لوالديك اللذين كانا سبب وجودك في هذه الدنيا، وهما اللذان ربياك كما أخبر الله سبحانه.
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا} [لقمان:14] فالوصية من الله سبحانه تبارك وتعالى.
{وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] أي: بأبيه وأمه، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] وإن كان الأب قد أنفق على الابن ورباه، فإن الأم لها وصية زائدة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنها حملته وهناً على وهن، فكانت الوصية بالأم أكثر من الوصية بالأب، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل: (من أحق الناس بحصن صحابتي؟ -أي: من أبر أكثر؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك).
فوصى بالأم ثلاثاً وبالأب مرة، فكأن الأم تستحق أن يرعاها ابنها ويتحنن عليها مرات ومرات، وإذا كان قد أوصاه الله عز وجل بالوالدين إلا أن الأم أقرب وتستحق من الرعاية ما هو أكثر، وإن كان مطلوباً من الابن أن يبر الاثنين الأب والأم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وكذلك الأم لها حق الرعاية، ولها نفقة واجبة عليك إن احتاجت إلى ذلك.
قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا} [لقمان:14] الوهن: هو الضعف، فالأم كانت ضعيفة في حال حملها، وكلما كبر الحمل كلما ازداد ضعفها.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] وهي صابرة على ذلك، ومحبة لهذا الذي في بطنها، ولا تتضجر من ذلك، بل تنتظره، فإذا خرج إلى هذا الوجود وإلى هذه الدنيا كانت أشد حناناً عليه، وأشد محبة له، مع كونه يؤذيها وقد يضرها، ومع ذلك فإنها تفدي ابنها بنفسها، فوصى ربنا سبحانه الابن بها، وذكره بمراحل خلقه.
قال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] والفصال: هو الفطام، فهو يرضع من أمه عامين كاملين، وقد تتأذى به، ولكنها تفرح بتربيته وبقربه، وهو يبول ويتغوط عليها، وهي تحبه وتدلله.
فأي رعاية وأي حنان بعد حنان الأم على ابنها؟! فلذلك أوصاه الله عز وجل بأمه وأوصاه بالوالدين، وأكد الوصية بالأم، فقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ} [لقمان:14] والفصال: المفارقة، يعني: أنها تفطمه بعد عامين.(227/7)
الأمر بشكر الوالدين
قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، فأمر الله عز وجل العبد بأن يشكر لله سبحانه، وأن يحمده ويثني عليه الثناء الجميل؛ لأنه سبحانه هو الذي خلقه، وكذلك يشكر لوالديه؛ لرعايتهما وتربيتهما له.
قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] فما دمت حياً فاشكر لله سبحانه الذي خلقك، واعبده سبحانه حق العبادة، وكذلك اشكر لوالديك أحياءً كانا أو أمواتاً، فإذا كان الأب والأم أحياء فاشكر لهما حسن صنيعهما معك، وتذكر لهما هذا الجميل، ولا تنساه أبداً، فمهما عملت للوالدين فلن توفيهما جميلهما معك.
وانظر إلى الأب والأم عندما كان الابن صغيراً فقد كانا يرعيانه ويحملانه ويتعبان معه، وهما في ذلك في غاية الفرح بهذا الأمر، ويتمنيان حياة الابن، فإذا كبر الأب والأم واحتاجا إلى الرعاية من الأبناء فتجد الفرق الكبير بين رعاية الأب لابنه وبين رعاية الابن لأبيه، فقد كان الأب يتمنى حياة الابن، وإذا وصل الأب إلى الشيخوخة والهرم فإن الابن يتمنى وفاته.
لقد كان الأب والأم يربيان الابن وهو صغير، ويفرحان به في صوابه، ويعلمانه في خطئه، وأما الابن إذا كبر أحد والديه فينعكس الأمر؛ فإنه يتضجر سريعاً مما يفعلانه في كبرهما.
فالفرق كبير بينهما، فمهما فعل الابن مع أبيه وأمه فلن يوفيهما حقهما، فلذلك يجب على الابن رعاية أمه وأبيه والشكر لهما وإظهار الحب والملاطفة لهما، ولينظر في أحوال الصالحين السابقين كيف كانوا يصنعون مع آبائهم من رعاية، ومن تحنن، فقد كان أحدهم يبيت تحت قدمي أمه يرعاها ويخدمها، ويقول: هذا خير لي من قيام الليل، أي: السهر على أمه المريضة تحت قدمها فلعلها تحتاجه في شيء، يقول: هذا خير من قيام الليل، وكانوا يبرون والديهم طاعة لله سبحانه وحباً في هذه الطاعة، فليكن الإنسان المؤمن مقتدياً بالسلف الصالح في طاعتهم لله سبحانه وبرهم للوالدين.
قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، وهذه الآية فيها من التهديد ما فيها، فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان:14] وإذا لم تشكر فإنك سترجع إلي مرة ثانية وإذا لم ترع الوالدين فأين ستذهب؟ فمهما ذهبت ومهما علوت فسترجع إلينا مرة ثانية، فإن المصير والمرجع إلى الله سبحانه وتعالى.
والإنسان إذا تذكر ذلك يسأل نفسه: إن عصيت ربي فأين سأذهب بهذه المعصية؟ وأي أرض تحملني؟ وأي سماء تظلني إذا كنت عاصياً لله سبحانه؟ وأين أذهب من الله؟ وأين أهرب منه سبحانه وتعالى؟ قال تعالى: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] أي: سترجع إلي مرة ثانية.(227/8)
تفسير قوله تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم)
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] فقد أوصى الله عز وجل الابن أن يكون رحيماً بوالديه، وأن يكون باراً بهما، حتى وإن كانا مشركين كافرين، ولكن إن جاهداك على الكفر بالله سبحانه وأمراك به أمر مجاهدة، أي: أمراً شديداً بالكفر بالله عز وجل وجاهداك على ذلك فإذا فاصبر عليهما، اصبر على أبيك واصبر على أمك، ولا تطعهما في معصية الله سبحانه.
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، أي: إن أمراك بشيء من الشرك وأنت تعلمه ولم ينزل الله عز وجل به سلطاناً فدعه وانته عن الشرك بالله سبحانه، وأمرهما بالمعروف وانههما عن المنكر، وصاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تطعهما في ذلك، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله سبحانه وتعالى، لا في شرك ولا في غيره، فلا تطعهما أبداً في معصية الله سبحانه، ولكن تلطف معهما، كما قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] أي: ومع ذلك صاحبهما في الدنيا معروفاً، ولا تعنفهما ولا تزجرهما، ولا تشتمهما، كما قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
والإنسان البار يُعرف ببره لوالديه، فتعرف الإنسان التقي من الشقي من معاملته مع أهله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).
فإذا كان صاحبك الذي تحبه يؤذي والديه فاعلم أنه لا خير فيه، ولا يستحق المصادقة والمصاحبة، فمره بالمعروف وانهه عن المنكر، ولا تطل المودة معه، فهو لا خير فيه لوالديه.
وإذا أردت أن تعرف أن هذا الإنسان فيه خير أو لا فانظر إلى حاله مع أبيه وأمه وإخوانه وزوجته، فإذا كان خيراً مع هؤلاء فهو جدير بأن يكون خيراً معك، وإن كان مع هؤلاء سيء الخلق فلا تنتظر منه أن يكون خيراً معك، فلو كان فيه خير لبدأ بالخير مع والديه.
وقد تجد إنساناً يرد على أبيه، ويشتم أمه، ثم يأتي إلى المسجد ويصلي! وتراه طيباً مع الناس، مع أنه لو كان فيه خير لكان خيراً مع والديه، فلذلك أمره ببر والديه، فإن الله عز وجل أمر بذلك، قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14]، أي: حتى ولو كانا يجاهدانك على الكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وتجد الكثير من الناس طيبين وأخلاقهم حسنة مع الناس، وأما مع آبائهم وأمهاتهم فهم في غاية السفاهة، وهذا الذي يعملونه مع آبائهم وأمهاتهم سيعملونه مع أصدقائهم، فمرهم بالمعروف وذكرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى.(227/9)
سبب نزول الآية
وقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد كان باراً بأمه وكانت كافرة، وكان سعد رضي الله عنه يخاف أن يغضب أمه، فلما دخل في دين الله سبحانه وتعالى امتنعت عن الطعام والشراب، وحلفت ألا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى يكفر بدين محمد، أو تموت فيقولون له: يا قاتل أمه؛ لأنك أنت الذي قتلتني بهذا الشيء.
فامتنعت عن الطعام وعن الشراب، واحتار سعد ماذا يعمل معها؟ ولكنه تمسك بهذا الدين العظيم، وذهب إلى أمه وقال لها: لو كان لك عشرة أرواح فخرجت نفساً نفساً على أن أترك هذا الدين ما تركته، فكلي إن شئتِ أو دعي.
أي: فأنتِ حرة في هذا الأمر، ولن أترك هذا الدين لأمرك أنت، ولكن أطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، فنزلت الآية تطمئن سعداً في ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] وإن شاءوا أن يأكلوا ويشربوا ليعيشوا أو يموتوا فهذا أمر آخر، ولكن لا تشرك بي، {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فتكون المصاحبة بالمعروف، وعدم الطاعة في معصية الله سبحانه وتعالى، وقد جعل لنا سبحانه قاعدة وهي: أن حق الوالدين أن تطيعهما إذا أمراك بطاعة أو بأمر مباح، فإذا أمراك بالبعد عن الله سبحانه وبترك دينه فاحذر من ذلك، فإنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
ولذلك يقول العلماء: جملة هذا الباب: أن طاعة الأبوين لا تراعى في معصية رب العالمين سبحانه وتعالى، لا في فعل كبيرة، ولا في ترك فريضة من الفرائض، فإذا أمر الأب والأم ولدهما بعدم الصلاة أو بالبعد عن دين الله سبحانه، أو أمر الأب ابنته بالتبرج وحلف إن لم تخلع الحجاب الذي تلبسه فإنه سيخرجها من البيت وكذا، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سبحانه وتعالى، (إنما الطاعة في المعروف)، فيطيع الابن أباه وأمه في طاعة الله سبحانه وفي المباح، وأما في ترك فرائض الله عز وجل فلا طاعة لأحد في ذلك.
قال الله سبحانه: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15]، أي: من رجع إلى الله سبحانه.
والمنيبون إلى الله هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك أتباعهم من المؤمنين ومن الأتقياء ومن الأولياء.
قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] فالمرجع إلى الله عز وجل، وهذه الآية فيها من التحذير ما في الأولى، فإن المصير إلى الله والمرجع إليه، فاعملوا ليوم ترجعون فيه إلى الله سبحانه، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(227/10)
تفسير سورة لقمان [13 - 17]
إن أعظم وصية يتواصى بها المسلمون فيما بينهم هي توحيد الله عز وجل في العبادة، ولذلك كانت هذه الوصية هي أول وصية أوصى بها لقمان ولده، ثم أوصاه بمراقبة الله عز وجل، وأشار له إلى علمه المحيط بكل شيء، ثم أوصاه بأعظم فريضة فرضها الله على عباده وهي الصلاة، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمره بالصبر على ما يصيبه في طريقه إلى الله، ولأهمية بر الوالدين والرفق بهما فقد جعله الله بين هذه الوصايا تنبيهاً على عظم حقهما على الإنسان.(228/1)
وصايا لقمان لابنه
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:13 - 17].(228/2)
التحذير من الشرك بالله
يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وصية لقمان لابنه، ووعظه له، فقال: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) فأول وصية يجب على الوالد أن يوصي بها ولده هي: أن يوحد الله سبحانه وتعالى، وألا يشرك به شيئاً، وأن يعلمه التوحيد والعقيدة.
إن الإنسان الذي في قلبه عقيدة سليمة، بعيدة عن الشرك، فهو جدير بأن يبارك الله عز وجل له في عمله، وأن يلهمه الصواب، وأن يعينه في أمره.
أما الذي يشرك بالله سبحانه فهو جدير ألا يعينه؛ لأنه أشرك بالله، فالله يتخلى عنه ويتركه؛ لأنه يتوجه إلى غير الله، والله أغنى الشركاء عن الشرك سبحانه وتعالى، فإذا أشرك العبد معه إلهاً غيره فدعا غير الله، وتوكل على غيره، وطلب المعونة من غيره تركه الله عز وجل مع هذا الغير، ثم لا ينفعه هذا الذي يدعوه من دون الله.
إن الإنسان المؤمن يتعلم التوكل على الله سبحانه، وأن يوجه عبادته لله، فلا يدعو إلا الله، ولا يشرك بالله سبحانه وتعالى شيئاً، لا في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، بل يكون على التوحيد حتى يلقى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فأول وصية يوصي بها لقمان ابنه ألا يشرك بالله، وهي وصية الأنبياء والمرسلين للخلق أجمعين، قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14]، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالإنسان الذي يقع في الشرك بالله سبحانه يظلم نفسه، ويضع العبادة في غير محلها، وفي غير موضعها، فبدلاً من أن يعطي لله حقه يعطيه لغيره سبحانه وتعالى، فهذا هو أعظم الظلم.
وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، قال الله عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]، فيقسمون هذه القسمة العجيبة، ويتصدقون ببعض الأنعام ويجعلونها لله، وبعضها للأصنام وللأوثان، فإذا حصل اختلاط بين حق الله وحق غيره بزعمهم يقولون: اجعلوه كله لغير الله، فحتى القسمة الفاسدة التي قسموها يجورون بها، فإذا قيل لهم: لماذا تجعلونها لغير الله؟ قالوا: الله غني عن ذلك.
فهم يعلمون أن الله غني، ولكنهم يعبدون غيره ويجعلون له شركاء سبحانه وتعالى، فعقولهم فارغة، وأقوالهم بعيدة عن الصواب.
وكان أهل الجاهلية يدعون في رخائهم غير الله سبحانه وتعالى، يصنعون الأصنام ويدعونها ويعبدونها، فإذا جاء وقت الشدة والبلاء تركوها وتوجهوا إلى الله يدعونه وحده لا شريك له.
ففي وقت الشدة يدعون الله، ويعتقدون أنه لا ينفع إلا هو، والسؤال هو: ما الذي جعله لا ينفع في وقت الرخاء حتى يدعون غيره سبحانه وتعالى؟! إنها قسمة عجيبة تدل على عقول لا تفكر إلا فيما تشتهيه وتهواه، فيعبدون الأصنام ويقولون: تقربنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي وقت الضر والشدة يتركون الأوثان والأصنام ويدعون الله عز وجل! وهذه التفرقة لا دليل عليها، ولكن من ابتعد عن الله سبحانه فالشيطان يضله ويلعب به.
إن أول شيء يتعلمه الإنسان المؤمن هو توحيد الله سبحانه، وألا يشرك به شيئاً، فلا يدعو إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا تكون ثقته إلا في ربه سبحانه وتعالى، وإذا نذر كان نذره لله سبحانه، فيعلم أن الذي ينفع ويضر هو الله سبحانه، وأن الذي يعز ويذل هو الله سبحانه وتعالى، فيكون قد ركن إلى ركن عظيم، إلى ربه سبحانه وتعالى، فإذا ركن إلى غير الله استحق أن يتركه الله، وألا يعينه لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فأول ما يتعلمه المؤمن ويوصي به أهله هو توحيد الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله عز وجل هذه الوصية عن يعقوب (إسرائيل) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في وقت وفاته أنه أوصى أولاده بوصية إبراهيم لبنيه، كما قال الله تعالى عن إبراهيم أنه قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]، أي: على الإسلام، وهو الاستسلام لله، وتوحيده سبحانه، ثم قال في وصية يعقوب: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة:133]، إن العبادة التي أمر الله عز وجل عباده بها، والتي وصى بها الأنبياء أقوالهم هي أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.(228/3)
الوصية بالوالدين
بعد هذه الوصية وصى ربنا سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه، فذكر الله سبحانه الإنسان بفضل والديه عليه، فقال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، وتكرر معنى هذه الآية، كما في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
وهذه وصية من الله عز وجل لكل إنسان بوالديه، فكما حملته أمه، ورباه أبواه فليوف لهما هذا الحق في وقت كبرهما.
وقوله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف، والوهن على الوهن بمعنى: أطوار الحمل والتخليق للإنسان في بطن أمه، فكلما ازداد حجم الجنين في بطن أمه كلما ازداد ضعف الأم، وثقل بطنها، وازداد حملها، وإذا بها تضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تلد، وتكون تلك الولادة أصعب شيء على الأم، حتى إنهم ليعدون هذا الحال حال موت، فهي إخراج روح من روح، ويحتمل أن تموت الأم، ويحتمل أن تعيش بعد ذلك، وفي هذا الوقت العصيب يكون أهم شيء عند الأم هو ابنها وجنينها الذي في بطنها، ولذلك وصى الله سبحانه وتعالى بالأم فقال: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ في عامين) والفصال: هو الفطام، وهو انفصال الابن عن أمه في أمر الرضاعة بعد عامين، فبعد أن ترضعه ينفصل عن الرضاع ويتغذى بغير لبن أمه.
قال الله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، هذا أمر من الله للعباد أن يشكروه، ويؤدوا حقه من عبادة وصلاة وصيام، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، من طاعة لله، وثقة به، وحب لله سبحانه ولرسله عليهم الصلاة والسلام، وحب لدينه سبحانه، وبذل في سبيله، وجهاد وغير ذلك، فالإنسان المؤمن يجعل حياته كلها لله، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(228/4)
طاعة الوالدين بالمعروف
ثم بين الله سبحانه أن طاعة الوالدين تكون بالمعروف فقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15]، فإذا أمر الوالدان الابن بالشرك بالله سبحانه، واتخاذ الأوثان والأنداد مع الله سبحانه، فهذا ليس له به علم، أي: لم ينزل الله عز وجل به من سلطان، فهو من الجهل بالله سبحانه وتعالى، فإذا أمراه بذلك فلا يطيعهما، ولكن مع ذلك يقول الله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فلا يقسو عليهما، ولا يعاملهما بعنف، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وأكرم القول وأفصله وأحبه أن يقال لهما كما قال الله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24]، أي: كن معهما في غاية الذل، رعاية لحق الله عز وجل ثم لحقهما.
قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، يصاحب أباه وأمه في الدنيا بالمعروف، وكأن المصاحبة في الدنيا شيء، والمصاحبة في الآخرة شيء آخر، ففي الدنيا تصاحبهما بحسن الرعاية، سواء كانا مسلمين أو كافرين، وفي الآخرة لا توجد مصاحبة إلا للمسلمين فقط: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
وادع لهما: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
ففي الآخرة إذا كانا مسلمين فسوف يشفع الابن لأبيه ولأمه، والأب والأم لأبنائهما، أما الكفار فلا شفاعة بين المسلمين وبين الكفار.
وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، هذه وصية من الله عز وجل بدوام المصاحبة بالمعروف، فلا تؤذهما، وإن طلبا منك مالاً أو غيره فأعطهما وأجزل للوالدين ثقة بالله أنه سيخلف عليك سبحانه.
وقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا} [لقمان:15]، أي: ما داموا في الدنيا فصاحبهما بالمعروف، وبعد الوفاة يكون البر بالوالدين بالدعاء، والإحسان إلى أصدقائهما، فإذا كان أبوك يحب فلاناً، أو كان صديقه، فأحب من أحبه أبوك، وأعطه وتصدق عليه، وهذا من برك لأبيك، وكذلك إذا كانت فلانة صديقة لأمك، وكانت أمك تحبها، أو كانت جارة لها، فلتكرمها براً بأمك، وهذا من البر بالوالدين في الدنيا وبعد الموت.
ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما أنه كان في سفر، وكان راكباً على بعير وكان معه حمار، فلقي أعرابياً، فإذا بـ عبد الله بن عمر ينزل ويسلم عليه سلاماً حاراً، ويهدي إليه، ويعطيه أحد الدابتين اللتين معه، فإذا بمن حوله يقولون: ما الذي تعمله؟! إن هذا أعرابي يرضى بدون ذلك، وبأقل من ذلك بكثير، لقد أعطيته ركوباً مما معك، ولو أعطيته أقل من ذلك لرضي، فقال: إنه كان من أهل ود عمر رضي الله عنه، وكان صديقاً له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من البر بأبيك أن تبر أهل ود أبيك)، فـ ابن عمر ود هذا الأعرابي ليس لأنه صديق له، وإنما لصداقته لأبيه، فبره عبد الله بن عمر براً بأبيه بعد وفاته رضي الله تبارك وتعالى عنهما.(228/5)
تذكير الله عباده بأن مرجعهم إليه
وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان:15] أي: اقتد وائتس، وسر على درب الذين أنابوا إلى الله، وكانوا في طريق الله من قبلك، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأولياء الله، والصالحون من عباد الله.
قال تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، فالمرجع إلى الله، وسوف ينبئكم بكل ما كنتم تعملون، والإنباء: هو الإخبار بالغيب، وينبئك: يخبرك بما غاب عنك، والإنسان ينسى، ولكن الله لا ينسى فيحصي كل شيء سبحانه، ويوم القيامة: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، فينبئ الله عز وجل العبد بما عمل، ومن نوقش الحساب يوم القيامة عذب لا محالة، ولذلك جاء في قول الله سبحانه: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، عن السيدة عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)، فالذي يناقش الحساب سوف يعذب، فقالت: (أليس الله سبحانه يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:8]، قال: ليس ذلك، ولكن هذا العرض).
فالإنسان يعرض عليه كتابه يوم القيامة، وآخر يناقش في كتابه، وفرق بين من يقرأ الكتاب، وبين من يحاسب ويقال له: لم عملت كذا؟ ولم عملت كذا؟ ألم نعطك؟ ألم نربك؟ ألم ننعم عليك؟ ألم نجعلك رئيساً تحكم بين الناس؟ فما الذي صنعت في ذلك؟ هذا هو الذي يناقش الحساب، وهو المعذب كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15]، جملة معترضة بين وصية لقمان لابنه بألا يشرك بالله ووصية الله عز وجل للعباد بالوالدين وبين باقي الوصايا.(228/6)
تذكير لقمان لابنه بعلم الله المحيط بكل شيء
يقول الله عن لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا} [لقمان:16]، وهذه المرة الثانية التي يقول فيها: يا بني، وقد ذكرنا أن فيها قراءات: (يا بنيَّ) بالفتح، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء كلهم يقرءونها: (يا بنيِ).
وقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) هذه قراءة الجمهور، والمعنى: إذا وجد هذا المثقال الذرة من الخردل ثم اختفى في أي مكان من الأماكن، فاسم (كان) الضمير، والخبر: مثقال.
وقراءة نافع وأبي جعفر: (إنها إن تك مَثْقالُ حبةٍ من خردلٍ) على أن مثقال اسم لكان.
والخردل حبوب رقيقة وصغيرة جداً، أقل وأرفع من النملة، ووزنها شيء يسير، وهي التي يصنعون منها غاز الخردل السام المميت الذي يستخدم في الحروب.
فقوله: (إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي: هذه الحبة التي هي أقل حبة يعرفها الإنسان، إذا كانت هذه الحبة السوداء الصغيرة مختبئة بداخل صخرة، وهذه الصخرة مختفية بين السماء والأرض، فلا أحد يستطيع أن يبحث عنها، يقول الله سبحانه: (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) سبحانه وتعالى، مهما دقت أو صغرت فالله يعلمها ويأتي بها سبحانه.
والمعنى أين ستهرب من الله أيها الإنسان إذا كان هذا المثقال من الخردلة التي لا تساوي شيئاً إذا اختفى في أي مكان في السماوات أو في الأرض أتى به الله؟ فكيف بالشيء الكبير؟ والمعنى: أنه لا تخفى عنه خافية سبحانه وتعالى، ومهما دق من عمل الإنسان، ومهما أخفى من سر، ومهما أخفى من نيته في عمله، فالله يعلمه، ويجازي به يوم القيامة.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وهنا بيان للإنسان أن الله سبحانه لا يخفى عليه شيء، وأن رزقه الذي لا يراه فالله يراه، والذي لا يعلمه فالله يعلمه، والذي يبحث عنه في كل مكان فهو عند الله مقسوم، وسيأتيه في وقت قدره الله سبحانه وتعالى.
وهنا بيان للإنسان، أن يعبد ربه وسيأتيه الفرج من عند الله من حيث لا يحتسب.
فالإنسان يبحث عن الرزق، والله يوجد هذا الشيء الذي يبحث عنه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر رزق العبد المقسوم عند الله سبحانه فيما رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن عساكر من حديث جابر مرفوعاً: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، وهذا حديث حسن، وفيه: أن ابن آدم لو هرب من رزقه بحيث لا يريده فإنه سيأتيه.
وكذلك العكس، فلو طلب العبد شيئاً لم يقدره الله عز وجل له، وجرى وأتعب نفسه حتى كاد يناله، فإنه سيفلت من يده، ولن يحصل عليه، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فالله عز وجل مقدر الأرزاق والأقوات، فيأتي بالرزق من حيث لا يحتسب الإنسان {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وقال لنا هنا: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، لطيف من اللطف، وهو دقة العلم، فالله لطيف يعلم ما خفي وما دق، ويعلم ما جل وما عظم، فيعلم كل شيء، ولطف الله سبحانه رحمته، ففي وقت يضيق الأمر بالإنسان، وتأتيه المصيبة العظيمة التي تكاد تفتك به، فإذا بلطف الله عز وجل يأتيه ويهدئ من روعه، ويجعله يصبر ويتصبر على هذا البلاء، فكأن اللطف يتعلق بدقة علم الله سبحانه، وبرحمته.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فلطفه في رحمته، وخبرته في علمه سبحانه وتعالى، فهو عليم بكل شيء، فهذه خبرة الله سبحانه وتعالى.(228/7)
وصية لقمان لابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف
ثم قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17]، وهذه المرة الثالثة التي قال فيها: (يَا بُنَيَّ) وقد قرأها حفص عن عاصم: (يا بنيَ) ويوافقه فيها البزي عن ابن كثير.
وقراءة قنبل عن ابن كثير: (يا بنيْ) بالتسكين فيها، وقراءة باقي القراء: (يا بنيِّ أقم الصلاة).
والجمهور يقرءون: (الصلاَة) بترقيق اللام، ويقرؤها الأزرق عن ورش (الصلاّة) بتفخيم اللام.
قال الله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فأمره أولاً بالتوحيد، وهو حق الله عز وجل، ثم ذكر من حقوق الله عز وجل أعظم عبادة وهي الصلاة، التي تعتبر صلته بالله سبحانه وتعالى، فيؤديها ويوصي بها أولاده، فعلى الإنسان أن يؤديها ويوصي بها أولاده كما وصى لقمان ابنه؛ لتكون له خيراً ونوراً في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(228/8)
تفسير سورة لقمان [16 - 18]
إن دين الإسلام ليس عبارة عن آيات تقرأ فقط ثم تنسى، وإنما هو واقع عملي حي، يتفاعل فيه أفراد المجتمع المسلم المبادئ التي جاء بها، ويطبقونها حياة حية، فيترجمونها من كلمات تقرأ إلى أفعال تشاهد، وقد جاء هذا الدين بمجموعة من الوصايا والأخلاق التي تشكل سلوك الفرد المسلم في حياته بين الناس، وقد وردت بعض هذه الوصايا على لسان لقمان في وصيته لابنه، تلك الوصايا التي سجلها القرآن وخلدها، نظراً لسموها وعظمتها وفائدتها للناس.(229/1)
تفسير قوله تعالى: (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:16 - 18].
هذه من وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وأول موعظة وعظ بها ابنه وأوصاه بها: ألا يشرك بالله سبحانه وتعالى، وقد ساق الله عز وجل هذه الموعظة في كتابه سبحانه لتكون موعظةً خالدة إلى قيام الساعة، فينصح كل إنسان مؤمن أبناءه بمثل هذه الموعظة، فالمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فكيف بابنه! وكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ولكنه يحب أن يكون ابنه أفضل منه، وهذا عادة في الناس، فكل إنسان يحب أن يكون أفضل من غيره، ويحب أن يكون ابنه أفضل منه وخيراً منه.
ولقمان هنا يعظ ابنه بالموعظة التي تنفع الابن ويعود النفع على الأب؛ لأن الابن من كسب أبيه، فقال: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ثم نصح ابنه في موعظته العظيمة له بأن يطيع الله سبحانه وتعالى ويخاف منه، فهو الذي يعلم ما دق وما عظم، ويعلم كل شيء، فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
فهو يعظ ابنه بأن يخاف من الله سبحانه، الذي يعلم كل شيء، ويقول له: لو أنك أخفيت عملك في مكان لا يطلع عليه أحد من الخلق فالله يطلع عليك، ولو أنك أخفيت معصيتك في ظلمة الليل أو في ظلمة البحر أو في مكان تظن ألا يطلع أحد عليك، فيه فإن الله يعلم ما تفعل وسيحاسبك عليه.
وذكر له هذا المثل وهو: لو أن هذا العمل كان عملاً يسيراً صغيراً بقدر مثقال حبة الخردل التي هي أقل الحبوب حجماً ووزناً، وأراد الإنسان أن يخفيه، فأخفاه في صخرة عظيمة كبيرة، وألقيت هذه الصخرة في مكان في السماء أو في الأرض؛ لم يخف ذلك على الله سبحانه وتعالى، فإنه مطلع على كل شيء ورقيب عليه، ولذلك قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
والسموات مأمورة، وكذلك الأرض، وكل شيء يأمره الله بقوله: كن فيكون، فلو خبأ الإنسان شيئاً في الأرض فإن الله عز وجل يأمر الأرض التي جمعت هذا الشيء في بطنها أو ظهرها أن تأتي به، فتأتي الأرض به مطيعة لله عز وجل، كما في قصة الرجل الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم ينتظرون في يوم شديد ريحه فيذروه في البر والبحر، ففعلوا، وقد أمرهم بذلك لأنه خاف من الله، فأراد أن يهرب بهذا الطريق، فكان الأمر على الله في غاية السهولة، فأمر الله الأرض أن تجمع ما فيها، فجمعت الأرض ذرات هذا الإنسان وأتت به لربها سبحانه، وقال للبحر: هات ما فيك، فأتى البحر بما فيه، فجمع الله هذا الإنسان، وأحياه لينطق ويواجه ربه سبحانه وتعالى، فسأله: لماذا فعلت هذا؟ فإنك لا تقدر أن تعجز الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم كل شيء، ويحفظ كل شيء، ولا يغيب عنه شيء.
فعلى الإنسان أن يراقب ربه سبحانه، ويعلم أنه سوف يحاسبه، فلينظر بماذا سيرد على الله عز وجل فيما قال وفيما عمل، فإن الله لطيف في قضائه وقدره، خبير في علمه وتقديره سبحانه وتعالى.(229/2)
تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف)
قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17] فجمع له الموعظة العظيمة في هذه الكلمات القليلة اليسيرة، قال: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17]، وهي أعظم أركان الدين، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه سبحانه، وهي عبادة بدنية، ونور ينير بها الإنسان قلبه، وينير بها دنياه وقبره وطريقه إلى الجنة، فإذا قصر الإنسان وترك هذه الصلاة أظلمت عليه حياته، وأظلم عليه قبره، وأظلم عليه طريقه فوق الصراط، وظل وأخطأ طريقه إلى الجنة فسقط في النار والعياذ بالله.
قال تعالى: (يا بني أقم الصلاة) أي: أقم صلاتك وعدلها وائت بها على الوجه المستقيم وعلى الوجه القويم الذي ترضي به ربك سبحانه وتعالى، وكما أمرك الله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فقم إلى الصلاة وأنت غاية في النشاط، ومحب لهذه الصلاة، ومقبل على الله، حتى يقبلها الله سبحانه وتعالى منك، فقد قال تعالى في العبد الذي يتقرب إليه عز وجل: (وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فالإنسان الذي يمشي في طريق الله عز وجل وهو محب ومقبل على الله عز وجل فمستحيل أن يتركه الله سبحانه وتعالى وأن يبعده وقد دنا منه.
فالعبد يحب الله فيحبه الله سبحانه وتعالى، ويكون حبيباً لله، ويكون له سبحانه وتعالى كما قال: (كنت يده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وسمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، فهو ولي الله سبحانه وتعالى، قد أقبل على ربه وأحبه فأحبه الله.
والطاعات التي يتقرب بها إلى الله: أولها: توحيد الله سبحانه وتعالى وعدم الإشراك به.
ثانيها: هذا الركن العظيم من أركان الدين: وهو الصلاة.
ثالثها: فعل جميع الطاعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف يعني: بشرع الله سبحانه الذي بين أن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا حلال، وهذا مباح.
فلا تأمر إلا بما أمرك الله عز وجل به، وأمر بما ائتمرت به أنت، واللام هنا للجنس، واللام في الأولى أيضاً للجنس.(229/3)
الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ} [لقمان:17] أي: بجنس المعروف، وبكل ما هو معروف، وبكل ما هو خير وطاعة لله سبحانه، فأمر وأتمر به.
وكل ما هو منكر ومبعد عن الله سبحانه فانته عنه وانه غيرك عنه، فتكون النتيجة محبة الله عز وجل لهذا العبد الذي يصلي ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فلا بد من البلاء، ولا يظن الإنسان المؤمن أبداً أنه سوف يعيش في الدنيا سالماً من البلاء، فمن المستحيل أن يكون الإنسان مؤمناً ولا يبتلى ولا يختبر، وقد قال الله عز وجل في أول العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً من غير أي بلاء أو فتنة أو اختبار، فإن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام قد ابتلاهم الله واختبرهم وضيق عليهم، كما قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
فالرسل جاءت عليهم أوقات عصيبة، واستيأس الرسل وكاد أنيدب اليأس في قلوبهم من إيمان قومهم، وظنوا أنهم قد كذبوا، فإذا بالفتح والنصر يأتيان في هذا الوقت من الله سبحانه، كما قال تعالى: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110]، فالله عز وجل بفضله وبرحمته ينجي من يشاء عندما تضيق الأمور على أهلها من المؤمنين.
إذاً: فلا بد من البلاء، وقد ابتلي النبي صلوات الله وسلامه عليه فلما ابتلي قال: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فتأسى بمن كان قبله عليه الصلاة والسلام.
وقد ابتلي أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام من الخلق، ابتلاهم الله عز وجل بهم -وهم رسل الله وأنبياؤه وأولياؤه وأحب الخلق إليه عز وجل- حتى إن بعض الأنبياء قد قتلوا، فقد قتل زكريا عليه الصلاة والسلام، وقتل ابنه يحيى عليه الصلاة والسلام، وأرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].(229/4)
ابتلاء النبي صلى الله عليه وسلم
وقد أرادت اليهود قتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فحينما جلس تحت حائط من حيطانهم أمروا أحدهم أن يصعد فوق الحائط ليرمي عليه حجراً؛ ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم أذى شديداً بالأقوال وبالأفعال، وقد أوذي من الإنس، ومن الشياطين عليه الصلاة والسلام، ثم نصره الله سبحانه، وأيد دينه ورفع ذكره عليه الصلاة والسلام، وأجره على صبره صلوات الله وسلامه عليه.
وقد كان مرة يصلي فتفلت عليه شيطان وفي يده شعلة من النار أراد أن يحرق بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يوماً جالساً صلى الله عليه وسلم على حصير له فإذا بالشيطان يوعز لفأرة فتخطف شيئاً من النار وتأتي وتلقيه الحصير لتحرقه صلوات الله وسلامه عليه.
ويمسك شيطاناً بيده صلى الله عليه وسلم، ويخنقه وهو يتفلت عليه في صلاته يريد أن يقطع على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، ويتذكر دعوة سليمان عليه الصلاة والسلام: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فيتركه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء شياطين الجن، وأما شياطين الإنس فكان على رأسهم أبو جهل الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (هذا فرعون هذه الأمة)، فقد كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم كيداً عظيماً، وكان عمه أبو لهب يمشي وراءه في الطرقات يشتمه عليه الصلاة والسلام، فيقول: هذا كذاب، نحن أهله أعلم به، كان يمشي النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق ليدعو الناس إلى الله عز وجل ووراءه عمه يقول: هذا كذاب، هذا ساحر، هذا كذا، حتى يتفرق الناس عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت قريش إذا جاء أحد من خارج القبيلة قالوا له: لا تذهب إليه، إنه ساحر، إنه مجنون، إنه كذا، عليه الصلاة والسلام.
وكانت امرأة أبي لهب حمالة الحطب العوراء أم جميل لعنة الله عليها وعلى زوجها، كانت تقف للنبي صلى الله عليه وسلم لتشتمه، عليه الصلاة والسلام، وكانوا يحرفون اسمه من محمد إلى مذمم، عليه الصلاة والسلام، ويشتمونه ويسبونه عليه الصلاة والسلام.
هذا مما ابتلي به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن به هوان على الله عز وجل حتى يبتلى ويشتم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كان له صلى الله عليه وسلم درجة عالية عظيمة عند الله لا ينالها إلا بذلك، وبالصبر على ذلك، فصبر صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل له ونصره سبحانه تبارك وتعالى، وقد كانوا يكيدون له صلى الله عليه وسلم، ولكن الله يحميه ويحرسه، وإن كان قد يؤذى وقد يناله من التعب ومن النصب، ومن إسالة دمه صلى الله عليه وسلم في حروبهم وقتالهم وغزوهم، ثم بعد ذلك يفتح الله عز وجل له من فضله ومن رحمته، ولما فتحت الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم وانتصر وجاء نصر الله سبحانه، وفتحت مكة في العام الثامن، لم يذهب يحج صلى الله عليه وسلم؛ لوجود المشركين في مكة يحجون بيت الله، وهم يشركون بالله، ويطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً، فلم يذهب ليطوف مع هؤلاء الكفار المشركين العراة، وإنما أرسل أبا بكر في العام التاسع ينادي: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فانتهى الناس، فحج في العام العاشر صلوات الله وسلامه عليه ومعه الجم الغفير من خلق الله الذين وصل عددهم إلى حوالي مائة وثلاثين ألفاً من أصحابه عليه الصلاة والسلام، كلهم يأتمون به، فقد فتح الله عز وجل له القلوب والآذان، فقام يخطب في هذا الجمع العظيم في يوم عرفة، فأسمع الله الجميع خطبته صلوات الله وسلامه عليه، وكانت هذه الحجة الوحيدة التي حجها بعد هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ومات بعدها بوقت يسير صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: لما فتحت له الدنيا، وفتحت له الأسماع والقلوب، انتهت وظيفته عليه الصلاة والسلام، فهو لم يخلق ليجني ثماراً في الدنيا، ولا لينال منها، وإنما خلق كما قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144] وقد بلغت الرسالة، فالآن نقبضك، حتى لا تتمتع من الدنيا بشيء، وليكون نصيبك موفراً كاملاً وحظاً عظيماً عند الله سبحانه وتعالى.(229/5)
سنة الله في الابتلاء
إذاً: فأي إنسان يقول: أنا مؤمن صابر على أمر الله ولا يريد أن يأتيه شيء من قضاء الله عز وجل وقدره، ولا يريد أن يأتيه شيء من البلاء، فهو لم يفهم هذا الدين العظيم الذي جاء من عند الله سبحانه، ولم يفهم دين رسل الله، فإن الإسلام أن تسلم نفسك وقلبك وتوجه وجهك إلى الله سبحانه، وتسأل الله سبحانه أن يعينك على الآخرة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة بين يدي الله عز وجل، ثم ترى مصيرك بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار، فالإنسان المؤمن إذا قام يصلي تذكر هذا الموقف العظيم، فيهيء نفسه للدار الآخرة، وللقيام بين يدي الله عز وجل في هذا اليوم العظيم.
ولذلك لم تكن نصيحة لقمان لابنه بادخار الدنيا، أو جمع المال في الدنيا، والعمل لهذه الدنيا، وإنما قال له: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان:16 - 17].
وإذا فعلت ذلك فإن الناس سوف يعادونك؛ لأن الناس لا يحبون من ينصحهم ويقول لهم: هذا حرام، وهذا لا يجوز، فإذا ابتليت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكن حليماً وحكيماً وعلى علم، وكن لطيفاً مع الخلق، وادعهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وحتى وإن كنت على ذلك فلن يرضى عنك الخلق حتى تقول لهم في أخطائهم وفيما هم عليه: أنتم على صواب، فهم لا يحبون النصيحة، وإن تحرص على الناس أن يكونوا مؤمنين فلن تقدر أن تحولهم عما هم فيه إلا أن يعينك الله عز وجل على ذلك، قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
إذاً: لا بد من الصبر، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فاصبر حتى على نفسك وصابرها واضغط عليها إن تململت، حتى تقوم لله عز وجل في هذه الدنيا بأمر دينه، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] فاربط نفسك على طريق الله سبحانه وتعالى مثابراً مصابراً على هذه الطاعة، واتق الله ما استطعت، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وقال هنا: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، أي: فهذا الأمر الذي يخبرك الله عز وجل عنه من الصبر هو من عزائم الشريعة، ومن الواجبات في هذه الشريعة العظيمة، يقول ابن عباس: إن من حقيقة الإيمان: الصبر على المكاره قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
ويقول ابن جريج: أي: مما عزمه الله وأمر به، والمعنى واحد، أي: صبرك على أمر دين الله وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا مما شدد الله عز وجل فيه، وألزمك به، فاصبر وصابر ورابط، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر بكل صورة ووسيلة، حتى يفتح الله عز وجل قلوب الخلق على يديك، فاصبر لأمر الله فإن ذلك من عزم الأمور، أي: مما أمر الله به أمر عزيمة وشدد فيه، فادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا تقل: قد دعوت مرة وانتهى الأمر، وإنما اصبر على ذلك مرةً ومرتين وثلاثاً؛ لعل الله سبحانه يهدي على يديك أقواماً، ولا تدري متى يفتح الله عز وجل لك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة في دعوته وصبره- أنه قال: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، وعلى كم تطلع الشمس من إنسان ومن حيوان ومن ملك لله عز وجل! فخير لك من أن تأخذ هذا الملك العظيم الذي تطلع عليه الشمس ويكون ملكاً لك أن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً واحداً.(229/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس)
يقول لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18].
التصعير: من الصعر، يقال: هذا الجمل فيه صعر، وفيه صعار، أي: التوت عنقه عندما يصيبه مرض معين من الأمراض في رقبته فتلتوي رقبته وتعوج.
فهذا مثل وصورة للإنسان المغرور المتكبر الذي يلوي رأسه متكبراً متعالياً معوجاً له؛ لأنه يفكر في نفسه أنه أعظم من غيره، فهذا الصعار الذي تصاب به الدواب هو مرض في الدواب، وهو مرض في قلب هذا الإنسان الذي عوج نفسه عن الخلق وتعالى عليهم، ونسي نفسه، وهو أذل وأحقر ما يكون في هذا الحال، أي: حال استكباره.
قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع، وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف: (ولا تصاعر خدك للناس)، والمصاعرة: الميل بالخد، بمعنى: أن يكون أحد خديه عالياً والآخر منخفضاً، فيصعر رقبته على الناس متعالياً مستكبراً، وهذا الإنسان المتكبر يكون أحقر وأذل وأخسر الخلق عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ويكفيه خسراناً أن نار جهنم يخرج منها يوم القيامة عنق يصرخ في الناس: وكلت بمن يشرك بالله، وكلت بالجبارين والمتكبرين، وكلت بالمصورين الذين يضاهئون بخلق الله سبحانه.
فهو موكل بثلاثة أصناف من الناس منهم: المتكبرون، فيخطفهم من الموقف في القيامة إلى النار والعياذ بالله! فليحذر الإنسان من التكبر ومن الغرور، ولا يرى نفسه أنه أعلى من الناس وهو في حقيقته أذلهم، فالإنسان الكريم الطباع الحلو الشمائل الحسن الخلق يرى نفسه أنه مثل الخلق، وأنه ليس بأحسن من أحد، بل قد يكون الناس كلهم أحسن منه، فينظر إلى الناس كذلك، ويتواضع، فكلهم خلق الله سبحانه، وقد هيأ الله كل إنسان لما يصلح له.
والإنسان المتكبر ما تكبر إلا لأنه يشعر أنه ناقص، فيريد أن يعلو على الغير ويتعالى عليهم من أجل أن يداري العيب الذي فيه، والنقص والهوان الذي يشعر به.
فتجد الإنسان الجاهل يكلم الناس وكأنه عالم، ويحاول أن يعود لسانه على ذلك حتى لا يعرفوا حقيقته، فهذا الإنسان يشعر بالنقص في نفسه، ويحب أن يداريه بالتعالم على الخلق بكثرة الجدل، وأما الإنسان العالم فلا يجادل؛ لأنه يعرف حقيقة الأمر، ولا يحتاج إلى جدل فيه، وأما الجاهل فهو الذي يريد أن يجادل حتى يري نفسه ويظهرها، من أجل أن يتعالى على غيره.
ولذلك فهذا الإنسان يستحق أن يكون في النار يوم القيامة؛ لأنه مراءٍ بعمله، ويريد أن يظهر للناس أنه أفضل منهم.
فهنا يقول لقمان لابنه: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، أي: لا تستكبر على الخلق، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]، والمرح المقصود به هنا: الفرح الذي يفرحه الإنسان، ويحس أنه يطير على الأرض، وأنه أحسن من غيره، وأغنى من غيره، وأنه فوق الناس كلهم، فيشعر الإنسان في نفسه أنه مبسوط زيادة، ويمشي يدوس على الناس كلهم ويسير بفرح، ولا يهمه غيره، وإنما يهمه أن يفرح ولو آذى الناس كلهم.
وهذه علامة المستكبرين، فلا يراعون حقاً لغيرهم أبداً، ومرحهم فيه الآثر والبطر والطغيان على الخلق، ومجاوزة الحد مع الخالق سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله نعمة سلطوها في المعاصي من حشيش ومخدرات وغيرها.
قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فهو مرح وفخور بنفسه متعال على الخلق، يريد أن يفرح ويعيش وينسى أن وراءه الموت بعد ذلك.
قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] أي: لا تمش تضرب الأرض برجلك، ولا تمش على الأرض مرحاً، فإن عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً، أي: مشياً خفيفاً ومتواضعاً، وليس معنى ذلك أنهم يتماوتون في مشيتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم سريعاً في مشيه، ولكن فيه هدوء وطمأنينة عليه الصلاة والسلام، وفيه إسراع لقضاء حاجته عليه الصلاة والسلام، والمؤمن هين لين، فيه لطف ورفق ومودة للخلق، قال الله عز وجل هنا على لسان لقمان لابنه: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} [لقمان:18]، أي: لا يحب من يختال بنفسه ويعجب بها ويعجب برأيه، فهذا فيه الخيلاء والكبر، وهو فخور مفتخر بنفسه وماله، وهو بغيض إلى الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(229/7)
تفسير سورة لقمان [17 - 19]
في وصية لقمان لابنه آداب لا بد للمؤمن أن يلتزم بها، منها: إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأمور قد أوجبها الله عز وجل، ومنها: النهي عن تصعير الخد وعن التكبر، والأمر بالتواضع مع الناس، والاقتصاد في المشي، وخفض الصوت عند الكلام؛ لأن أنكر الأصوات صوت الحمير.(230/1)
تفسير قوله تعالى: (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان في وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ * أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:17 - 20] ذكر الله سبحانه وتعالى وصية لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه، وهذه الوصية عظيمة ينبغي على المسلم أن يتعلمها وأن يوصي أبناءه بمثلها، وأول الوصية: الوصية بتقوى الله سبحانه، وبتوحيده والخوف منه سبحانه وتعالى, قال تعالى: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] أي: اتق غضب الله سبحانه في أعظم الأشياء وهو التوحيد، لا تشرك بالله، واجتناب الشرك بالله سبحانه معناه: إثبات التوحيد لله سبحانه وتعالى في العبادة، وعقيدة الإنسان المؤمن أن الله وحده هو الرب الذي يخلق، وهو الإله الذي يستحق أن يعبد، وهو القوي القادر العليم سبحانه، ولذلك أكد هذه المعاني لقمان عليه السلام حين قال لابنه: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
إذاً: عقيدة الإنسان المؤمن فيها توحيد الله سبحانه وتعالى، وفيها العلم واليقين بصفات الله العظيمة سبحانه وتعالى, وأنه يعلم ما ظهر وما اختفى، ويعلم ما قل وما كثر، ما عظم وجل وما قل، كل ذلك يعلمه الله سبحانه ويقدر عليه، وهذا معنى قول لقمان عليه السلام: (إنها إن تكن مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله) ولن يأتي بها إلا وقد علم مكانها سبحانه وتعالى، فهنا إثبات العلم لله عز وجل والقدرة، علم لا يخفى عنه خافية، وقدرة لا يحتجب عنه شيء سبحانه وتعالى ولا يمانعه شيء، فإذا كان هذا المثقال الصغير الذي يخفى على كل مخلوق يعلمه الله سبحانه وإن كان مثل حبة الخردل؛ فالله يعلم كل شيء، ويقدر على كل شيء، ولطيف خبير سبحانه وتعالى.
ثم جاء الأمر بأركان هذا الدين العظيم، قال تعالى: (يا بني أقم الصلاة) فيأمره بأعظم أركان هذا الدين بعد التوحيد وهو إقامة الصلاة، ولاحظ هذه الوصية من لقمان التي تخللتها وصية الله لكل عبد بالوالدين إحساناً، قال الله سبحانه قولاً معترضاً في وسط كلام لقمان الحكيم عليه السلام: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [لقمان:14] إذاً: لقمان أوصى بعبادة الله، والله أوصى الأبناء برعاية الوالدين.
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فالعبادة أن تصلي لله سبحانه وتعالى، والصلاة كما قال سبحانه في سورة العنكبوت: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا أقمت الصلاة ونهتك صلاتك عن الفحشاء والمنكر فأنت مهيأ لأن تأمر غيرك بإقامة الصلاة والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وأمر غيرك بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، تعرضت لإيذاء الناس وللضرر وغير ذلك، فاصبر على ذلك, فإنك لن تأمر بالمعروف وتنجو من الناس وتسلم، ولن تنهى عن المنكر فتنجو من شر الناس، بل لا بد من بلاء في ذلك، ولابد من صبر على ما أصابك، وذلك مما عزم الله عز وجل عليك ومما شدد فيه، قال تعالى: (إن ذلك من عزم الأمور)، أي: من عزائم أمور هذا الدين ومن الواجب في هذا الدين، ومما أمر الله عز وجل به في هذا الدين أمراً مؤكداً، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في ذلك من أمر الله سبحانه الذي أمرك به.(230/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض فرحاً)
إذا كان الإنسان يتعرض للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعله قد يستشعر في نفسه أنه أعلى من غيره وأنه أفضل من غيره، وتحدثه نفسه بالعجب والخيلاء والاستكبار على الخلق، فتأتي النصيحة التالية: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] أي: لا تعوج على الخلق وتظن في نفسك أنك خير من الناس، فلعل هذا الذي تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر يكون خيراً منك في يوم من الأيام, وكم من إنسان قليل في علمه يدعو إنساناً جاهلاً لا يعرف شيئاً، فإذا بهذا الإنسان الجاهل يتوب ثم يتعلم ويفوق هذا الذي دعاه إلى الله سبحانه وتعالى؛ لذلك لا تغتر ولا تتكبر على الخلق، ولا تظن أنك أنت الذي هديت فلاناً، إنما الهدى بيد الله سبحانه يهدي من يشاء فضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
لذلك الإنسان المؤمن يخاف من الله عز وجل، فتراه يدعو الخلق إلى الله سبحانه، ويتمنى لهم أن يؤمنوا وأن يثبتوا وأن يثبت معهم هو على هذا الدين، ولا يرى لنفسه فضلاً على أحد أبداً، أما الإنسان المغرور إذا دعا إنساناً يستشعر أنه هو الذي سينجيه من النار، وأنه هو الذي بيده أن يحوله من ضلال إلى هدى، وأن له فضلاً على غيره، وأنه يستحق أن يكون من أهل الجنة, فليحذر المؤمن -وخاصة الذي يتحكم بالأمر بمالعروف والنهي عن المنكر- من الغرور، ومن أن يصعر خده للناس.
والتصعير والصعار: داء يصيب الإبل فيعوج رقبة الجمل، فكذلك الإنسان المغرور يعوج رقبته على الناس، يرفع شيئاً من عنقه على الناس متعالياً مستكبراً مختالاً فخوراً بنفسه.
قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] قالوا في معناها: لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً بنفسك واحتقاراً للخلق، هذا تأويل ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من أهل العلم.
وقيل في معناها أيضاً: (تصعر خدك للناس) أي: أن تولي شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره، فكل إنسان له قدر عند نفسه، وله قدر عند خالقه سبحانه وتعالى، والله أعلم بهذا الإنسان، فلا تحتقر أحداً من الخلق، ولكن ادع إلى الله سبحانه وتعالى، وظن الخير في غيرك، لعل هذا الذي تنظر إليه بازدراء واحتقار يكون أفضل منك في يوم من الأيام.
فعامل الناس بالصورة التي تحب أن يعاملوك بها، وانظر للذي تأمره وتنهاه وضع نفسك مكانه، إذا كنت أنت مكانه في هذه المعصية وهو يأمرك، فإنك تحب أن يأمرك باللين، فكن ليناً أنت معه، وأمره بالطريقة التي تحب أن يأمرك هو بها في يوم من الأيام، عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فالمعنى: أقبل على الناس متواضعاً مؤنساً مستأنساً، وإذا حدثك أصغرهم فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ومن هذا المعنى: ما جاء في حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً) يعني: لا تتعاطوا أسباب البغضاء فيما بينكم، بل أبعد هذه الأسباب التي تفسد العلاقة بينك وبين أخيك, ولا تعط دبرك -أي: ظهرك- لأخيك وتنصرف من الناحية الأخرى، لأن هذا قد يكون من باب المخاصمة، ومن باب الكبر والغرور، حيث إنه يرى نفسه أفضل منه.
وليس معنى ذلك: أن الإنسان يهين نفسه، فلم نؤمر في الشريعة بأن يهين أحدنا نفسه، فإن بعض الناس إذا ذهبت إليه قد يسخر مني، ولم تأمرني الشريعة أن أذهب إليه حتى يسخر مني, وقد أرى الإنسان الذي عنده غرور عجب بنفسه أني إذا تكلمت معه نزل علي وأزرى بشأني، فإن هذا لا يستحق أن يتكلم أحد معه، فالشريعة لا تأمرنا بأن نهين أنفسنا، ولا تأمرنا بأن نترفع على الخلق، فلا بد أن تكون مع الناس لطيفاً رءوفاً رحيماً كما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولا مانع من تأديب الإنسان، كأن يكون الإنسان معلماً يعلم غيره، ويؤدبهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، ويزجر من يستحق أن يؤدب وأن يزجر، وليس في هذا شيء من الغرور، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزجر من يستحق ذلك من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فقد جاء عمر بن الخطاب بصحيفة من التوراة قد ترجمت له وفيها مواعظ، فأراد أن يقرأها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتعجب منه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ما هذا يا ابن الخطاب؟!) والعادة منه صلى الله عليه وسلم أن يقول: يا عمر، أما في هذه المرة فقال: (ما هذا يا ابن الخطاب) والخطاب أبو عمر مات كافراً فكأن عمر عندما يأتي بصحيفة من التوراة ويقرؤها يعود إلى الكفر، فقال عمر: (يا رسول الله! صحيفة من التوراة أتيت بها حتى أزداد بها علماً، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، أي: لو كان موسى حياً في وجود النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له أن يقرأ في التوراة، بل يلزمه أن يتابع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من تأديبه صلوات الله وسلامه عليه، وقد أدب كعب بن مالك، وأدب غيره ممن تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تأدبوا الثلاثة، وكانوا عبرة وعظة لهم ولغيرهم.
إذاً: التأديب والزجر للإنسان ليس معناه: الغرور عليه، فالدين يأمرنا أن نهجر أهل المعاصي، فإن لم يكن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنك تلجأ إلى الزجر والتأديب، وفيه هجر لهذا الإنسان حتى يرجع إلى دين الله، ويراجع الصواب.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا) أي: لا تتعاطوا أسباب ذلك، أسباب الهجر، وأسباب القطيعة، وأسباب الحسد، وأسباب البغضاء، فالمسلم يرى نفسه أخاً لأخيه المسلم، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، فإذا أمر بالمعروف كان أمره بالمعروف معروفاً، وإذا نهى عن المنكر لم يكن فاحشاً ولا بذيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) فيكون الإنسان المؤمن رءوفاً رحيماً لطيفاً رفيقاً مع من يأمرهم من الناس، ويتمنى أن يتركوا ذلك الشيء السيئ قبل أن يأتيهم، وشتان بين إنسان تواضع لله وأخلص النية لله، وإنسان آخر أراد أن يقال عنه: فلان كذا، وفلان كذا.(230/3)
نهي المسلم عن المرح والخيلاء والكبر
قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37] المرح: هو التبختر، أن يمشي الإنسان متخبترا مستكبرا يختال في مشيته، ففي الأثر عن غضيف بن الحارث قال: أتيت بيت المقدس أنا وعبد الله بن عبيد بن عمير، فجلسنا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، يقول: يا ابن آدم! ما غرك بي ما غرك بي؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة؟ ألم تعلم أني بيت الظلمة؟ ألم تعلم أني بيت الحق؟ يا ابن آدم ما غرك بي؟ لقد كنت تمشي حولي فداداً.
هذه الموعظة ليس حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه, فلما قال: لقد كنت تمشي حولي فداداً، قال غضيف: ما الفداد يا أبا أسماء؟ قال: كبعض مشتيك يا ابن أخي! فالفداد: أن يمشي المرء مختالاً متكبراً، يدق برجليه على الأرض ويقفز، وهذا من أدبه رضي الله عنه حين قال: كبعض مشيتك يا ابن أخي! فلم يقل له: كمشيتك دائماً، وإنما قال: أحياناً.
ومشية الفداد أصلها مشية أصحاب الإبل، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفخر والخيلاء في الفدادين من أصحاب الإبل؛ فعندما يكون فوق الجمل يحس أنه أعلى من الناس, والرقة والتواضع في أهل الغنم، كذا ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض: أن الإنسان حين يكون معه مال، ومراكب عالية فارهة يستكبر على الخلق، ويمشي بينهم مرحاً باختيال وفخر، فحذر الله سبحانه وتعالى من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] ويأبى الله عز وجل أن يدخل الجنة إنساناً في قلبه مثقال ذرة من كبر، فكيف بالإنسان المستكبر! فالكبر من خصوصيات الله سبحانه وتعالى، وهي صفة لا تليق إلا به سبحانه، فالكبر لله عز وجل، والعظمة لله؛ لأنه يستحق ذلك سبحانه وتعالى، أما المخلوق الضعيف الذي خلق من طين، وخلق من تراب يداس إذا مشى الناس فوقه ما الذي يدعوه إلى الاستكبار وهو ضعيف؟! بل إذا كان ذا غنىً وقوة فإنه يرجع إلى الضعف مرة أخرى، فالكبر لله عز وجل، وهي صفة جلال له سبحانه وتعالى وحده ولذلك يقول الله سبحانه في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحدة منهما أدخلته النار) فالله سبحانه تبارك وتعالى له العزة، والمؤمن له عزة، بأن يعزه الله سبحانه وليس لأصله، ولكن الله يعز المؤمنين بإيمانهم، إذاً: العزة صفة جلال وكمال لله سبحانه وتعالى، فالكبرياء والعظمة والعزة له سبحانه وتعالى، فإذا كان الإنسان يتعزز على خالقه ويستكبر على الخلق وعلى الخالق، فإنه يستحق أن يكون في النار.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} [لقمان:18] أي: يختال ويعجب بنفسه وبرأيه وحسنه، ويعجب بأن حوله أنصاراً وأولاداً، فهو معجب بنفسه، مختال فخور مكاثر للخلق في المال والولد والجاه والوجاهة والذكاء، ويظن أنه أفضل من غيره، قال تعالى: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) فارجع الأمر إلى صاحبه سبحانه وتعالى وقل: اللهم وفقني إلى كذا، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فالتوفيق بالله سبحانه وليس بذات العبد في نفسه.
فمن وصية لقمان لابنه: (إن الله لا يحب كل مختال فخور) وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) فإذا كان الإنسان يمشي وثوبه إلى الأرض لا ينظر الله عز وجل إليه لا في الدنيا وهو يصلي ولا في الآخرة، فإذا كان هذا محله عند ربه سبحانه الاحتقار والازدراء، فليس من الممكن أن يكون هذا الإنسان من أهل الجنة؛ بل إن هذا يستحق أن يكون في النار.(230/4)
تفسير قوله تعالى: (واقصد في مشيك واغضض من صوتك)
يقول لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] أي: لا يكن مشيك اختيالاً، وليكن مشيك فيه قصد وسكينة، وليس معناه: أنك لا تسرع، فهناك فرق بين إنسان مستعجل في حاجة من حوائجه، وبين إنسان يقفز على الأرض، يسرع فرحاً بنفسه معجباً، فلا بد أن تقصد في مشيك كعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وقد كانت مشية النبي صلى الله عليه وسلم بحسب حاجته، فكان هادئاً في مشيته، ولكن كان يسرع كالذي ينزل من على جبل.
قال تعالى: (واغضض من صوتك) أي: عود نفسك على ذلك، فلا يكن صوتك عالياً؛ لأن الصوت العالي صوت الحيوان, فالحيوان في الغابة إذا رفع صوته يغيظ غيره، فالحمار ينهق، والأسد يزأر، والنمر يصرخ لكي ينبه غيره أنه موجود في المكان، والإنسان ليس حيواناً فلماذا يرفع صوته؟! فلا بد للإنسان أن يغض من صوته فيتلكم بصوت خفيف سواء كان رجلاً أو امرأة، فاغضض صوتك فإنك لا تخاطب أصم، وارفع صوتك بالقدر الذي تسمع به غيرك.
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان لقمان: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] إن الصوت المنكر الفاحش هو صوت الحمير، فالإنسان يغض من صوته سواء كان في درس علمي أو خطبة أو توضيح أو كلام مع الناس على القدر الذي يسمعك به فقط ليس أكثر من ذلك.
قال تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] فقد جعل الله عز وجل صوت الحمار أقبح صوت، ومثله الذي يرفع صوته في الناس، وهنا لعل هذا التنبيه الذي يذكره الله لأن العرب في الجاهلية اعتادوا على رفع الأصوات ظناً منهم أن رفع الصوت من التغلب على الغير، فجاء الإسلام وعلمنا التعقل؛ لأن بالعقل تغلب غيرك وليس بعلو صوتك، قيل: إن العرب كانوا يعتبرون من هو أشد صوتاً فيهم أعز نفس فيهم، ومن هو أخفض صوتاً يكون أذل رجل فيهم، يقول شاعرهم: جهير الكلام جهير العطاس جهير الرواء جهير النعم ويعدو على الأين عد الظليم ويعلو الرجال بخلق عمم والظليم: الضبي سريع الجري، والأين: هو الإنسان الذي أصابه الإعياء، ومعناه: أنه يلحق الذي أصابه الإعياء ويجري إليه ليعينه، ويعلو الرجال بخلق عمم، أي: أنه أعلى من الرجال في الخلق، طويل عريض أعلى من غيره، هذه هي الأشياء التي يكون الإنسان عزيزاً بها عندهم، لكن الإسلام علمنا أن الإنسان قد تحتقر منظره ويكون عند الله أعظم من جبل أحد، فإن الصحابة لما رأوا عبد الله بن مسعود وهو على شجرة يجني ثمارها ضحكوا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: نعجب من دقة ساقيه) فرجلاه رفيعتان جداً، نضحك عليه لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهي عند الله أعظم من جبل أحد) أي: هاتان الرجلان اللتان لا تعجباكم وتضحكون منها هي عند الله أوزن وأثقل من جبل أحد في ميزانه رضي الله عنه.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا وأن يفقهنا فيه، وأن يرزقنا العلم والحلم وحسن الخلق.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(230/5)
تفسير سورة لقمان [20 - 22]
يعدد الله عز وجل في آياته القرآنية ما أسبغ على عباده من النعم الوفيرة، فقد سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، ولكن بعض الناس يقابل نعمة الله بالجحود والنكران، وآيات الله بالجدال والعناد بغير علم ولا دليل ولا بينة، اتبع الآباء والأجداد في العبادات والطاعات، وأعرض عن رب الأرض والسماوات، والناجي والفائز بجنة الله هو من أسلم وجهه لله وأحسن إسلامه لربه.(231/1)
نعم الله عز وجل في السماوات والأرض
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ * وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:20 - 22].
في هذه الآيات من سورة لقمان يخبر الله سبحانه وتعالى عباده عن قدرته العظيمة في خلق السماوات والأرض، وتسخيره لعباده ما في السموات وما في الأرض لنفعهم.
وهذه الآيات مرئية أمام الإنسان، ولذا يقول الله عز وجل لعباده: {أَلَمْ تَرَوْا} [لقمان:20]، أي: هلا تدبرتم ونظرتم في خلق السموات والأرض، وما سخر الله عز وجل لعباده فيها، فعرفتم كيف خلق الله سبحانه، وكيف منح وتفضل على خلقه بأن نفعهم بذلك.
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} [لقمان:20] أي: لنفعكم، فجعل الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء مسيرة بقضائه وقدره وقدرته، وسخرها: سيرها كما يريد سبحانه وتعالى، فينتفع الخلق بما خلق سبحانه، وقوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [لقمان:20] أي: ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم وملائكة لمنفعة العباد، وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأرسل الرياح على العباد فيها النسيم وفيها منافع للخلق، لو نظروا وتأملوا فيها لعرفوا بديع خلق الله سبحانه، وعرفوا رحمة الله بعباده.
وسخر لكم ما في الأرض من نعم الله سبحانه في الجبال، وفي الأشجار، والثمار، وفي البحار والمحيطات والأنهار، وغيرها من الأشياء التي خلقها الله في الأرض فيرى الإنسان كيف سخرها الله سبحانه وتعالى لينتفع العبد بها.
قال الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} [لقمان:20]، فنعم الله عظيمة، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، والله بالناس رءوف رحيم سبحانه، حيث أنعم عليهم بالنعم العظيمة والكثيرة الجليلة الوفيرة، ومع هذا فالعباد في بعد عن الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، أي: ظالم لنفسه، كنود جحود لنعم الله سبحانه وتعالى عليه، قال تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ} [لقمان:20]، الإسباغ: الإكمال والإتمام والإحاطة بنعمة ربنا سبحانه وتعالى، فقد أحاطنا بنعمه العظيمة، ففي الليل والنهار نرى نعم الله عز وجل علينا وعلى أهلينا، وفي أرضنا وديارنا، في كل مكان نرى نعم الله سبحانه وتعالى، وفي كل شيء له آية ونعمة وفضل، فأسبغ، أي: أتم النعمة وأكملها بفضله سبحانه وتعالى.(231/2)
أقوال المفسرين في النعم الظاهرة والباطنة
قال الله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، (نعمه) جمع نعمة، وقد قرئت بالإفراد، وقرئت بالجمع، فقراءة الجمع قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو البصري، وقراءة حفص عن عاصم: نعمه ظاهرة وباطنة، فبالإفراد قرأ جمهور القراء: ((وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَة ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة))، و (نعمة): جنس، من باب قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34]، أي: نعم الله سبحانه، فالجنس يعبر فيه بالإفراد عن الجمع، وجنس النعمة منه سبحانه، والمفسرون يذكرون النعم الظاهرة والباطنة على اختلاف الروايات واختلاف تفسيرها، وإن كان المعنى لا يختلف، ولكن كل يذكر شيئاً من هذه النعم العظيمة.
يقول ابن عباس: النعمة الظاهرة الإسلام، وما حسن من الخلق، وهذه نعمة ظاهرة على الإنسان، فالله سبحانه أنزل هذا القرآن العظيم، فهدى به العباد ظاهراً بدينه سبحانه، فظهر الإسلام في الأرض، وهداهم بفضله سبحانه وتعالى، فحسنت أخلاقهم، وظهرت أمام الخلق كنعمة ظاهرة من الله سبحانه.
كذلك أتم على العباد نعمة الخلق، فجعل الإنسان سوياً معتدلاً، يمشي على رجليه، ويقف على قدميه، فمن فضل الله سبحانه تبارك وتعالى.
أن خلق الإنسان فسواه فعدله وهذه نعمة ظاهرة.
قال ابن عباس: والباطنة ما ستر عليك من سيئ عمل، وذلك أن العبد قد يقع في السيئات، والله يسترها عليه، ولا يفضحه بفضله سبحانه وتعالى وبرحمته.
ويقول بعض العلماء: النعمة الظاهرة: الصحة وكمال الخلق، فالله جعل الإنسان سوياً معتدلاً كاملاً، ينطق ويتكلم، ليس أعجمياً لا يجيد النطق، ولكن ينطق ويعبر عن نفسه، وليس كالحيوان الأعجم، والنعمة الباطنة: المعرفة والعقل، فالله أعطى الإنسان معرفة في قلبه، وعقلاً يعقل به ويفهم، وهذه من النعم الباطنة.
وقالوا أيضاً: النعم الظاهرة نعم الدنيا، وما يحصله الإنسان من الدنيا من نعم الله سبحانه، والنعم الباطنة أي: الخفية، مما يكون في الدار الآخرة، فالعبد يعمل الصالحات -وهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى- ويأخذ الثواب، وهذه نعمة خفية باطنة مستترة عنه؛ فهو لم ير الثواب ولكنه يوم القيامة سوف يجده.
كذلك قالوا: النعمة الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال، وتوفيق الله عز وجل لعباه في الطاعات، والنعم الباطنة: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من العلم بالله سبحانه، ومن حب الله سبحانه، ومن المودة في الله والإخاء فيه، ومن حسن اليقين به، وغير ذلك مما يدفعه الله سبحانه عن العبد من الآفات، فهذه بعض نعم الله الظاهرة والباطنة.(231/3)
معنى قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير)
إذا كانت نعم الله عز وجل على العباد بهذه الصورة العظيمة، فلم يجادل الإنسان بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؟ ولم يكثر من الجدل فيضيع عمره في المناقشة وفي الهراء، ولا يريد أن يشكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه؟ قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20]، أي: يجادل في أمر الله سبحانه، كما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون، وساحر، وكذاب، وهم أدرى الناس بكذبهم وأنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنون ولا ساحر ولا كذاب، ولكنهم يفترون على الله ورسوله الكذب، ويجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، أي: بغير آثار من العلم، وبغير كتاب نزل من عند الله سبحانه وتعالى، وبغير علم عقلي، ففي عقولهم غباء، فهي غائبة عن الحق ولذلك يجادلون بالباطل.
وقوله: {وَلا هُدًى} [لقمان:20]، أي: ولا هداية، بل هم في ضلال.
وقوله: {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20] أي: كتاب منزل من عند رب العالمين سبحانه.
هؤلاء الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، وهذا العلم الذي جاء من عند الله، كان
الجواب
{ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، وكأن الآباء هم أعلم الناس بكل شيء، وكأنهم كانوا على هدى، فهم يتبعونهم فيما هم فيه من الباطل، فاتبعوا آباءهم ليس لكونهم على هدى وإنما لعصبية جاهلية، فكما صنع الآباء صنعوا بغير نظر إلى الدليل ولا إلى البرهان، فيعبدون الأصنام والأحجار لأن آباءهم كانوا يفعلون ذلك، فهم يقلدونهم بغير تفكير ولا علم ولا هدى ولا كتاب منير، وعندما يناقشون أمراً من الأمور فكأنهم بلا عقول.(231/4)
صورة من صور الجدال بغير علم
إن أوضح مثال على الجدال بغير علم تلك المناقشة التي دارت بين الكفار وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء في حديث رواه أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش للنبي صلوات الله وسلامه عليه يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل، وهذا هو العلم الذي يزعمونه، فهو إما سحر أو شعر أو كهانة، فهم يريدون أحداً منهم عنده علم بهذه الأشياء ويجادل النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعادى ديننا، فليكلمه ولينظر ما يرد عليه، فبحثوا عن أعلم الناس بالشعر والسحر والكهانة، فوجدوا واحداً منهم، وهو عتبة بن ربيعة، رجل من كبار المشركين، وكنيته أبا الوليد، فقالوا: أنت يا أبا الوليد أعلم الناس بهذه الأشياء، فاذهب إلى محمد فانظر ماذا يقول، فذهب عتبة بن ربيعة -وهو أحد قتلى بدر هو وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، كلهم قتلوا في يوم بدر كفاراً- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -والغرض هو بيان كيف يناقش هذا الرجل- فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! أنت خير أم عبد الله؟ وهذه من المناقشات الغبية التي ليس فيها فائدة، فكما أنهم يقدسون آباءهم ويتبعونهم بحق أو باطل من غير تفكير، كذلك يريد أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد على هذا الكلام الفارغ؛ لأنه لا يستحق أن يرد، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: يا محمد! أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي نعبد.
وهو يريد أن يوصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة معينة، فالعادة أن الإنسان يستحي إذا قيل له: أنت أحسن أو أبوك؟ فيقول: بل أبي أحسن، فيقال له: إذا كان أبوك أحسن فإنه عبد الأصنام، فلماذا لا تعبدها؟ ولذلك فقد وفق الله النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب على هذا الجاهل.
فإذا بالرجل يفترض له الافتراض الجدلي الباطل، ويريد أن يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر من أمرين: أما أن يكون هو خيراً أو أبوه، وإذا كان أبوه وجده خيراً منه فلماذا لا يعبد الآلهة التي كانوا يعبدونها؟ ولماذا يعيبها؟ وإذا كان هو خيراً منهم فليقل ذلك.
وكأن هذا الأحمق الجاهل الغبي لم يسمع بهذا القرآن، ولم يسمع شيئاً مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن، وهم يعرضون عنه ولا يريدون أن يسمعوه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم، تكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحراً وكاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى بأن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى.
كل هذا يقوله للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنت السبب في هذا كله، فلم يبق إلا أن نقتل بعضنا بعضاً بسببك أنت، يقول هذا الكلام من غير تعقل ولا تفكير، فهو وقومه لا يفهمون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقد طمس الله على قلوبهم وعقولهم، وعلى بصائرهم وأبصارهم.
ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان إنما بك الحاجة -أي: إذا كنت تفعل ذلك لأنك فقير محتاج- جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة -أي: تريد أن تتزوج- اخترنا لك من نسائنا -أي: نساء قريش- فنزوجك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرغت)؟ أي: هل أكملت كلامك؟ -فقال: نعم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:1 - 5]، حتى بلغ قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13]، فقال عتبة: حسبك حسبك)، أي: يكفي، فهو لا يريد أن يسمع أكثر ذلك.
ثم رجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ أي: ما الذي عملته مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، أي: قلت له كل ما تريدونه قوله له، قالوا له: فهل أجابك؟ قال: نعم، ثم قال: والذي نصبها بنية -يحلف برب الكعبة- ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه قال: أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فقالوا له متعجبين: ويلك! رجل يكلمك بالعربية فلا تدري ماذا يقول! مع أنهم بحثوا عن أعلم رجل بالشعر والسحر والكهانة ليذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ما ذكر من الصاعقة.
هذا هو حالهم وتفكيرهم وجدلهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهم لا يعقلون شيئاً، وصدق الله العظيم سبحانه حيث قال فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7]، فهذا حالهم في الدنيا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3]، فليس عنده علم عقلي، ولا هو على هداية، ولا على كتاب من عند رب العالمين سبحانه حتى يعرف الحق من الباطل.(231/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله)
قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، أي: إن الذي كان يعبده آباؤنا سوف نعبده نحن، فيعبدون الأصنام والأحجار، وإذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: هذه الأحجار والأصنام لا تنفعكم، إن الذي ينفعكم هو الله الذي في السماء، فلماذا تعبدون هذه الأحجار؟ قالوا: إنها تقربنا إلى الله زلفى إنهم لا يعقلون ولا يفكرون، ومهما أوتوا من علم دنيوي من تجارة، أو صناعة أو غيرها، فهم في غفلة عن الخالق سبحانه وتعالى، وهذا حال الكفار، يعبدون غير الله سبحانه، ويهرفون بما لا يعرفون.
إن أحد الأطباء سافر إلى اليابان لتحضير الدكتوراه في المخ والأعصاب، عندما تكلم عن اليابانيين وعن المستوى العلمي والراقي الذي وصلوا إليه، وأنهم فاقوا أهل الدنيا في العلم وجراحة المخ والأعصاب وغيرها من العلوم، هذا الدكتور الذي تعلم هناك يحكي عن الأساتذة اليابانيين أنه عندما يأتي وقت العبادة -مع هذا الرقي العظيم في العلم الدنيوي- يذهبون إلى المعبد ليعبدوا بوذا، وهو تمثال كبير من حجر، وعندما يدخلون المعبد يدقون الجرس حتى يصحوا بوذا من النوم، فهو راقد كسلان، فإذا قام من النوم عبدوه!! إن هؤلاء لا عقول لهم، وقد طبع الله على قلوبهم وختم على عقولهم وأبصارهم، فلا يفهمون شيئاً، حتى إن الإله الذي يعبدونه يحتاج إلى من يوقظه من النوم! قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فالله سبحانه لا نوم يأخذه ولا حتى غفلة يسيرة، فهو سبحانه كما يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، فلو نام الإله كما يزعمون لزالت السموات والأرض، فهو الذي يقوم عليها ويمسكها سبحانه وتعالى، ومع ذلك يعبدون آلهة من دونه، ويتعجبون من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، أي: كيف تكون الآلهة هذه إلهاً واحداً فقط؟ وهذا من جهلهم وغيهم، وعدم معرفتهم.
يقولون: إن الذي ينفع ويضر هو إله واحد في السماء، ومع ذلك فإنهم يعبدون آلهة كثيرة، وعندما يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو الخالق سبحانه، وهو الذي يستحق العبادة، يتعجبون ويصفقون بأيديهم وأرجلهم، ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، ومما يدل على أن هؤلاء لا عقول لهم أن أبا جهل وغيره عندما يدعون يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، بمعنى: يا رب! إذا كان هذا الذي جاء به محمد حقاً فأنزل علينا حجارة من السماء! مع أن الإنسان العاقل يقول: يا رب! إذا كان هذا حقاً فاهدني إليه، ويقولون كذلك: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، أي: أنهم يستعجلون إنزال العذاب قبل يوم القيامة، ولذلك يقول الله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان:21]، وفي الآية الأخرى: {مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170]، أيي: ما وجدنا عليه آباءنا، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، الشيطان يدعوهم إلى نار الجحيم الملتهبة، فهم قد أغمضوا أعينهم وساروا إلى نار السعير بغير هدى ولا بصيرة ولا تعقل، {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21]، أي: هلا تفكروا في ذلك؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى رحمة رب العالمين سبحانه، والشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير، وهم وراء الشيطان حتى يلجوا معه النار.(231/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن)
إن المؤمنين يسلمون وجوههم لرب العالمين، ولذلك مدحهم سبحانه فقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، إن (المسلم) كلمة عظيمة سمانا بها ربنا سبحانه، فلا نرضى بغيرها بديلاً عنها، فنحن المسلمون، والمؤمنون، وعباد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كونوا عباد الله كما سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)، قال الله سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فملة أبينا إبراهيم هي ملة الإسلام، والله سمانا المسلمين من قبل، ولم نسم أنفسنا، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ} [لقمان:22] يدل على أن وجه الإنسان أشرق ما فيه، فإذا أسلم وجهه لله فباقي الأعضاء تبع له.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} [لقمان:22]، قيد لمن يكون هذا حاله، وهو أن يحسن في العمل ويتقرب إلى الله كأنه يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في درجة الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فالذي يسلم وجهه إلى الله ويحسن في العمل ويخلص لله سبحانه، فيعبده كأنه يراه؛ فهو المستمسك بالعروة الوثقى، قال الله تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22]، والعروة هي الحلقة التي تدق في الحائط ويشد عليها الحبل حتى تصل إلى الشيء المراد ربطه.
فهذه العروة الوثقى هي التي توصل الإنسان إلى طريق كلمة لا إله إلا الله، أو دين الإسلام العظيم، والعروة الوثقى في جنة رب العالمين سبحانه، ودين الإسلام حبل طرفه بيد المسلم، فعلى الإنسان أن يستمسك بالعروة الوثقى حتى يصل إلى جنة رب العالمين سبحانه، وقوله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: مرجع الأمور.
نسأل الله سبحانه حسن المرجع والمآب والإخلاص والإحسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(231/7)
تفسير سورة لقمان [22 - 28]
يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أن من استسلم وانقاد له وأحسن فإنه قد استمسك بلا إله إلا الله، وبدين الإسلام، وأنه سيثبته على ذلك حتى يلقاه، ثم يقول لبنيه عليه الصلاة والسلام: لا تحزن على من كفر بالله ولم يؤمن به حزناً يهلكك فلا تستطيع بسببه أن تدعو إلى الله سبحانه وتعالى، وقد حزن عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لأن قلبه مملوء بالرحمة، وهؤلاء أمرهم إلى الله فهو الذي سيحاسبهم ويعاقبهم على كفرهم.(232/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:22 - 28].
يخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين هم الذين يسلمون أنفسهم ويوجهون وجوههم إلى الله سبحانه وتعالى، فهم مستسلمون لله في أمره ونهيه وبقضائه وقدره، راضون بشرعه سبحانه، محسنون يعبدون الله كأنهم يرونه سبحانه وتعالى ويخافونه ويستيقنون أنه معهم سبحانه، فهؤلاء الذين تمسكوا بالعروة الوثقى، وأخذوا بحبل الله سبحانه الذي ينجيهم الله عز وجل به ويوصلهم إلى جنته قال تعالى: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان:22] وهي قول لا إله إلا الله، وهي دين الإسلام، تمسكوا به فثبتهم الله عز وجل عليه حتى يلقوه {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: مرجعها.(232/2)
تفسير قوله تعالى: (ومن كفر فلا يحزنك كفره)
يقول الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في شأن الكفار {وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان:23] ولا بد أن يحزن النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين لا يؤمنون، وفرق بين حزن وحزن، فقد حزن النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء حزناً يكاد يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يهلك نفسه من شدة أسفه وحزنه عليهم، وهذا هو الذي نهاه الله عز وجل عنه، أما أن يحزن على كفر هؤلاء ويرجو من الله عز وجل أن يهديهم إلى دين الله سبحانه فلا بأس، وقد أبوا وأصروا على ما هم فيه من كفر، فحزن صلى الله عليه وسلم لأن قلبه ملئ بالرحمة، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ولم يقل: للمسلمين، فقد كان رحمة للخلق جميعهم، فهو يتمنى الإيمان لجميع الخلق حتى ينجوا من النار، والحزن له مقدار معين، وإذا زاد عن هذا المقدار ربما أهلك صاحبه، قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] (لعلك باخع نفسك) أي: مهلك نفسك (ألا يكونوا مؤمنين) أي: ليس المطلوب منك أن يشتد حزنك عليهم حتى تموت حزناً عليهم، فهم لا يستحقون ذلك، ووظيفتك ليست إدخال هؤلاء وتحويلهم عن دينهم، ولكن وظيفتك أن تبلغ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] فاهتم بوظيفتك وهي تبليغ رسالة الله سبحانه وتعالى، ولا يشتد بك الحزن فيمنعك عن الدعوة إلى الله سبحانه.
فمن كفر من هؤلاء فلا يحزنك كفره، ولا تكن في ضيق مما يمكرون فالله معك: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] فالله بنصره وبقوته يؤيد المؤمنين، فهو مع المتقين ومع المحسنين، وهو معك يا رسول الله! وقراءة الجمهور: (فلا يحزنك كفره) وقرأها نافع: (فلا يُحزنك كفره) من أحزن الرباعي والثانية من الثلاثي (حزن).
(إلينا مرجعهم) أي: سيرجعون إلينا لنحاسبهم ونعاقبهم على ما فعلوا {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [لقمان:23] لقد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وكذبوا على الناس ولكن إذا جاءوا إلى ربهم يوم القيامة يوم الفزع الأكبر لن يقدروا على الكذب؛ فإن الله سيفضحهم بما كانوا يفعلون، فإن الله عليم بما أخفته نفوسهم وبما دار في صدورهم.(232/3)
تفسير قوله تعالى: (نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)
قال الله: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا} [لقمان:24]، المسلم حين ينظر إلى الكفار وقد تمكنوا ويرى المسلمين في ضعف وقلة، والأعداء في كثرة وفي قوة وفي غناء حينما يرى ذلك يحزن، فالله عز وجل يقول لا تحزن؛ فإن هذا متاع الحياة الدنيا ومتاع الحياة الدنيا قليل (نمتعهم قليلاً) وأين سيذهبون منا (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) إلى عذاب النار وبئس المصير، إلى عذاب شديد، فليس عذاباً سهلا هيناً يزول عنهم؛ بل إن عذابهم لا يزول، وهو عذاب غليظ يغلظه الله سبحانه وتعالى على الكفار.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يغلظ جلود الكفار) فجلد الإنسان في الدنيا له سمك معين، وجلد الكافر في نار جهم أضعاف مضاعفة فهو سميك جداً، ومعلوم أن أشد الإحساس في الإنسان يكون في جلده لما فيه من أعصاب كثيرة وفي عظمه أيضاً، فيكثف الله عز وجل ويغلظ جلودهم حتى تستوعب العذاب الشديد في نار جهنم والعياذ بالله! وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ضرس الكافر كجبل أحد) إذاً: رأسه كيف سيكون؟ وجسده كيف سيكون؟ والمقصود هو أن ينال كل جزء من جسده عذاباً شديداً، والمؤمن يكون على خلق آدم ثلاثين ذراعاً في السماء، ولكن فرق بين المؤمنين وبين هؤلاء الكفار الذين يجعلهم الله سبحانه وتعالى على هيئة عظيمة ليذلهم فيرون أنهم مهما كبرت أجسادهم فإن النار تستوعبهم وتقول: هل من مزيد، ويغلظ عليهم العذاب في نار جنهم، ولا حياة كريمة في النار، ولا موت يريح هؤلاء الكفار.
قال الله سبحانه: (نمتعهم!) أي: في الدنيا (قليلاً)، ومهما عمروا في الدنيا فلابد أن يرجعوا إلى الله عز وجل {(ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، (نضطرهم) أي: نلجئهم إلى عذاب غليظ، فيدفعون إلى نار جهنم دفعاً ولا يقدرون على الهرب مع أحجامهم الضخمة يوم القيامة، فالكافر الذي يكون في الدنيا شيئاً عظيماً أمام الناس لا يزن عند الله جناح بعوضة في ميزان الحسنات والسيئات.(232/4)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)
قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] تعجب من حال هؤلاء واحمد ربك على ما أنت فيه من نعمة، فهؤلاء الكفار إذا سئلوا من ربكم؟ من الذي خلقكم؟ يقولون: الله، فإذا سئلوا: من تعبدون؟ قالوا: الأصنام! أي عقول هذه العقول؟! يعرفون أن الله سبحانه هو الخالق ويوجهون الشكر والعبادة إلى غير الله سبحانه، (قل الحمد لله) على ما أنت فيه من نعمة، (بل أكثرهم لا يعلمون)، وإن علموا من الدنيا لكن علمهم بالله وهو أعظم العلوم وعلمهم باليوم الآخر لا شيء.
فليس عندهم خوف من الله، وليس عندهم علم يقيني ينجيهم من النار، ولكن أنت أيها النبي صلوات الله وسلامه عليه والمؤمنون معه عندكم العلم العظيم علم كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرفوا ربهم سبحانه بقدرته وبعظمته وبعلمه وبحكمته، عرفوا الله سبحانه وتعالى بآياته المرئية في الكون والمتلوة في كتاب الله سبحانه، فعبدوا الله ولجئوا إليه سبحانه وعلموا العلم الذي ينفعهم {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25] (الحمد لله) أي: الثناء الحسن على الله سبحانه بما يستحقه وبما يليق به سبحانه وتعالى وبجلاله وكرمه وصفاته العظيمة، واشكر ربك سبحانه على ما أنعم عليك من نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، وأهل الجنة حين يدخلون الجنة يقولون {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف:43] فالهدى العظيم هدى الله يهدي به من يشاء.(232/5)
تفسير قوله تعالى: (لله ما في السموات والأرض)
قال الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [لقمان:26] يعني: هؤلاء الكفار المغترون بقوتهم وهم ضعفاء، المغترون بكثرتهم وهم قلة، المغترون بأموالهم ويظنون أنهم أغنى خلق الله سبحانه، يقول الله: لله ما في السموات والأرض، فكل ما في السموات وكل ما في الأرض بما في ذلك هؤلاء وما يملكون، كل ذلك ملك لله الغني سبحانه، فهو وحده لا شريك له الغني بذاته وما سواه مخلوق ومفتقر إليه سبحانه وتعالى، فمهما أعطي المخلوق من مال فإنه يخاف الفقر ويخاف أن يضيع منه المال، ويشعر أنه لا بد أن يحرس المال حتى لا يذهب من بين يديه، ولكن الله الغني الغنى الكامل بذاته، عطاؤه كلام ومنعه كلام، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، خزائن الله ملأى لا تنقصها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق حتى تقوم الساعة فإنه لم ينقص شيء مما في خزائنه سبحانه وتعالى، وهو الذي يقول: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) فلو أن كل خلق الله سبحانه قاموا مرة واحدة وسألوا الله فأعطى كل واحد منهم أمنيته، فلن ينقص مما عند الله إلا شيء بسيط كما تجعل الإبرة في البحر فانظر بما تخرج من ماء {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26] أي: المحمود المستحق للحمد، المستحق لثناء الجميل سبحانه وتعالى على صفاته العظيمة وإحسانه على عباده.(232/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام)
يقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] ذكرنا أن هذه السورة مكية ولكن فيها أربع آيات مدنية هذه منها؛ لأن سبب نزولها اليهود، واليهود لم يكونوا بمكة وإنما كانوا بالمدينة، يقول ابن عباس: إن اليهود قالت يا محمد! كيف عنينا بهذا القول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] أي: كيف يذكر الله عنا ذلك وقد آتانا التوراة فيها كلام الله وفيها أحكام الله، وفي القرآن أن الله أنزل التوراة فيها أحكام كل شيء وهي تبيان لكل شيء، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44]، هذا كلام اليهود، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27].
فالتوراة كلام من كلام الله عز وجل، والله يتكلم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، فلو أن الله قضى أقضية كثيرة فكتب قضاء الله سبحانه، ولو أنه تكلم سبحانه وتعالى بكلامه العظيم الجليل فقطعت الأشجار إلى أقلام والبحار التي في الأرض جميعها كل بحر يمده من ورائه سبعة أبحر تحولت إلى مداد، فكتب بهذه الأقلام وكتب بهذا المداد، والله يتكلم بقضائه وقدره وبكتبه سبحانه؛ لتكسرت الأقلام ونفدت ونفد المداد ولم تنفد كلمات الله سبحانه وتعالى وحكمه وقضاؤه وقدره! قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27] وانظر للمناسبة العظيمة بين الآيات وختام الآيات، فحين يتكلم عن عطاء الله سبحانه وتعالى وما يملكه الله سبحانه يختم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26] وكل شيء ملك لله سبحانه، فهو الغني الذي يعطي من غناه سبحانه، وهو المستحق للحمد تبارك وتعالى.
(إن الله عزيز) أي: منيع الجانب غالب قاهر سبحانه وتعالى، (حكيم) ينزل ما يشاء بحكمة، ولو شاء لجعل القرآن العظيم الذي بين أيدينا مجلدات كثيرة فهو على كل شيء قدير، ولكن من يطيق ذلك؟ ومن يقدر أن يحفظ ذلك؟ فالله لرحمته بعباده أنزل هذا الكتاب العظيم على هذا القدر الذي فيه تفصيل كل شيء وفيه النفع بأحكامه، فما أنزله إلا بحكمته سبحانه وبعلمه.(232/7)
تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)
قال سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] وهذه آية مدنية أيضاً، وكأن الناس تعجبوا من قيام الساعة، فبعد أن فني البشر وأكلتهم الأرض وصاروا تراباً كيف سيبعثون يوم القيامة؟ وكيف سيعرف أن في هذه الأرض فلاناً وفي هذه الأرض فلاناً وقد اختلطت الأجساد وصارت تراباً في البر وفي البحر؟ وكيف يجمعها الله سبحانه؟ فيقول: إن الأمر أسهل مما تفكرون فيه، إن خلق الجميع وبعث الجميع كخلق النفس الواحدة، فإن أمر الله تعالى أن يقول للشيء: كن فيكون، هذا أمره سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، وأمر الموت وأمر القيامة بقول من الله عز وجل، فيأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور فيصعق من على هذه الدنيا من بشر، ويأمر سبحانه بالنفخة الأخرى فيقوم الناس من القبور.
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28] والله يسمع كل شيء، ويرى كل شيء سبحانه وتعالى، ولا يخفى عليه شيء من أصوات وحركات وأشياء يقولها الإنسان ويخفيها ويسرها، فالله يعلم كل شيء.
فقد ذكروا في هذه الآية وغيرها أن الكفار كانوا يتعجبون: كيف خلق الله عز وجل الخلق أطواراً؟ وتسأل الكفار في مكة وفي المدينة وفي غيرها النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أن الله خلق الإنسان أطواراً من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم جعل المضغة عظاماً وكسى العظام لحماً، ثم أنشأه خلقاً آخر؟ كل هذه المراحل مر بها الناس، ثم سيخرجهم الله مرة واحدة من القبور، فيقول الله سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] أي: كما هو يسير على الله سبحانه أن يخلق نفساً واحدة كذلك يسير عليه أن يخلق الجميع ويبعث الجميع من قبورهم مرة واحدة، فالله على كل شيء قدير، ولا يصعب عليه شيء.
وقد ورد أن مجموعة من الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال منهم أبي بن خلف ومنهم رجل اسمه أبو الأشدين، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متعجبين من هذا الأمر، وأبو الأشدين رجل من كفار مكة، ولذلك من يقول: إن هذه الآية مكية يقول: أبو الأشدين رجل من كفار مكة، والأشد مبالغة من الشديد، تقول: فلان شديد وفلان أشد، وأبو الأشدين كان فيه قوة عظيمة جداً، فقد كان يأخذ السجادة ويضع رجله عليها ويقول لعشرة: شدوها من تحت رجلي، وإذا قدرتم فخذوا كذا وكذا، فلا يقدرون، وتتمزق السجادة تحت رجله ورجله ثابتة فوقها، وكان كافراً، وكان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم كيداً شديداً، وفيه نزل قول الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]، وكان رجلاً كذاباً، فإذا سئل عن شيء قال: أنفقت مالاً كثيراً في كذا وفي كذا، والله عز وجل قد كذب هذا الرجل، فإنه لما سمع قول الله عز وجل في نار جهنم {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] اغتر وقال للناس: جهنم عليها تسعة عشر، أنا أكفيكم تسعة واكفوني الباقي، أكفيكم خمسة على ظهري وأربعة بيدي، واكفوني بقيتهم ونغلب محمداً بهذا الشيء! لقد كان مغروراً، لقد قاس الملائكة على الناس، ولم يعرف أنه في حماقته وغبائه وجهله لا يفهم شيئاً، فأين هذا المجرم الآن؟ وكم من مجرم مثل هذا الإنسان اغتر بقوته وظن بغبائه أنه قادر على ذلك، فيعجب الله عز وجل الخلق من مثل هذا الأحمق المغرور الغبي ثم يرينا نهايته، فإنه مات كافراً مجرماً، فإذا ذكر ضحك الناس على غبائه وأتبعوه لعنة إلى يوم القيامة، لعنة الله عليه وعلى أمثاله.
فليحذر الإنسان المؤمن أن يغتر بهؤلاء الكفار وبما أعطاهم الله من قوة ومال؛ فإن هذا كله مسلوب من هؤلاء، وسيرجعون إلى ربهم مهما تمتعوا في الدنيا يوماً من الأيام، وسوف يرينا في الدنيا عواقب هؤلاء الكفار، وعواقبهم غير محمودة، فيرينا كيف أنه إذا أعطاهم شيئاً سلبه منهم شيئاً فشيئاً، صحةً وقوةً وغنى، وفجأة يضيع منه كل هذا ليرينا أن الحياة الدنيا مهما استمتع فيها الإنسان فما هي إلا متاع الغرور.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا وألا يضلنا، ونسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(232/8)
تفسير سورة لقمان [28 - 31]
من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته ووحدانيته: تعاقب الليل والنهار، الناتج عن دوران الأرض حول نفسها، والشمس والقمر يجريان بنظام موزون وتقدير محكم، فيشرقان من المشرق ويغربان من المغرب، إلى أن يأتي اليوم الموعود فيختل نظام الكون وتشرق الشمس من مغربها، وذلك يوم لا ينفع نفساً إيمانها، وكل ذلك دليل على أن الله هو الحق سبحانه وتعالى.(233/1)
كلمات الله لا تحصى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:28 - 31].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عظيم قدرته التي بين شيئاً منها في هذه الآيات وما قبلها، فيخبر أنه سبحانه وتعالى يتكلم بما يشاء من حكمته، ومن علمه سبحانه، فيكلم عباده، وينزل عليهم كتبه، ولو أن كلام الله سبحانه سجل وكتب بأقلام، وهذه الأقلام من جميع أشجار الأرض، ولو أن كل ما في الأرض من شجرة صارت جميعها أقلاماً، والبحر كله صار مداداً وحبراً تمد به هذه الأقلام ويكتب به، والبحر ليس وحده ولكن من ورائه سبعة أبحر تمده، وتكلم الله سبحانه بأمره ونهيه، وشرعه سبحانه، وعلمه، وحكمته، لنفد هذا كله من أشجار وأقلام، ومن مداد وغيره، ولا تنفد كلمات الله سبحانه وتعالى، فالله عزيز غالب سبحانه، وهو حكيم لا يفعل شيئاً إلا بحكمة منه سبحانه وتعالى، يتكلم وقتما يشاء سبحانه بما يشاء، كيفما يشاء، بحكمته وبعلمه، وبقدرته سبحانه وتعالى.
ويسمع من يشاء، فقد أسمع في هذه الدنيا موسى النبي عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام، فكلمه سبحانه، وأسمع نبينا صلى الله عليه وسلم وهو فوق السماوات، وهو عند سدرة المنتهى، ويوم القيامة يكلم خلقه سبحانه، ويدخل المؤمنين الجنة ويرونه ويكلمهم بما يشاء سبحانه وتعالى، فالله عزيز وحكيم سبحانه.(233/2)
تفسير قوله تعالى: (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة)
يقول الله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، فالله القدير سبحانه، والسميع البصير، خلق العباد ثم يبعثهم، خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ونفخ فيه من روحه سبحانه، ثم جعل من ذريته هذا الكم الهائل العظيم الذي بثه ونشره وذرأه سبحانه على هذه الأرض، ثم وقتما ما يشاء يقبض الجميع، ثم يأمر بالنفخ في الصور ويقول: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فيرجع العباد مرة ثانية على وجه الأرض ليسألهم ربهم سبحانه، ويجازيهم على أعمالهم.
وقد تعجب الكفار من ذلك: كيف يبعثهم الله مرة واحدة؟ فقال الله سبحانه: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، أي: أن الأمر هين على الله، وكم يرى الإنسان من خلق الله بالليل والنهار! فالله يخلق ما يشاء، وفي اليوم الواحد يولد على وجه الأرض آلاف من البشر، ويموت الألوف والألوف من البشر، فالذي أحيا هؤلاء وأمات هؤلاء أليس قادراً على أن يحييهم مرة ثانية بعد أن يهلكهم سبحانه؟ فالله سميع لما يقوله هؤلاء المكذبون لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، والله بصير بأعمالهم وما يفعلون وما يكيدون لرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وسوف يأتون إلى ربهم ليسألهم بعد أن يبعثهم يوم القيامة.(233/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} [لقمان:29] فمن خلقه العظيم البديع أنه يولج أي: يدخل الليل في النهار، {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29]، فهذه قدرة عظيمة من الله سبحانه وتعالى، وهذه تعبيرات دقيقة في كلامه سبحانه وتعالى، وقد جاء هذا القرآن على النبي صلوات الله وسلامه عليه والعرب لا يفهمون أن يقال لهم: الأرض كالكرة، ولو قيل لهم ذلك لم يصدقوا هذا الشيء، ولسان حالهم: كيف تكون كرة ونحن نراها مبسوطة أمام أعيينا؟ هذا بعيد.
والكتب التي نزلت على أهل الكتاب من عند رب العالمين قد حرفت، ولا يذكر فيها أن الأرض كروية، فيجيء أهل الكتاب ويكذبون ويقولون: الأرض ليست كروية، ويجيء العرب ويقولون: نحن لا ننظر هذا الشيء، والتعبير القرآني لا يقول: الأرض كرة، ولكن يسوق لنا آياته لتفهم، وكلما جد قرن من القرون كلما جاء أناس وفهموا ما لم يفهمه السابقون، ووجدوا في هذا القرآن الدليل على صدق ما يقول الله سبحانه، وكلما اكتشفوا شيئاً وجدوه في القرآن، وذلك في تعبيرات عظيمة من كلام رب العالمين سبحانه تصدق الأولين ولا تخالف ما وجده واكتشفه المتأخرون، بل يجدون ذلك الذي اكتشفوه في كتاب ربهم سبحانه وتعالى.
وهنا آية من آيات الله سبحانه يقول فيها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، وفي آية أخرى يقول: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، وفي آية أخرى يقول: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1 - 3]، وفي آية أخرى يقول: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
فالذي ينظر إلى هذه الآيات يرى أن الأرض بحسب هذه التعبيرات جميعها لا تكون إلا كرة، ومن المستحيل أن تكون ثابتة، فلا بد أنها تتحرك في هذا الكون، فينتج عن حركتها الليل والنهار، ولا بد أن يخلف أحدهما الآخر، وليس معنى ذلك أن يأتي الليل والنهار، بل هم مع بعض في وقت واحد يتعاقبان، فهذا يخلف هذا، وهذا يخلف ذاك، وهذا ينسلخ من هذا، والآخر ينسلخ منه، فالتعبيرات القرآنية جميعها تدل على أن هذه الأرض عبارة عن كرة في هذا الفلك الدوار الذي خلقه الله سبحانه.
قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، والأرض تدور في هذا الفلك حول الشمس، الشمس مع مجموعة تجري في هذا الكون، فالأرض تدور حول نفسها، وتجري في هذا الكون بقضاء الله عز وجل وقدره سبحانه، ويجيء الليل والنهار ويتعاقبان فيها كما يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}، فالأرض هي بشكلها الكروي، يأتيها الليل ثم يدخل فيه النهار، والنهار يأتي على منطقة أخرى، ويسلخ الليل خلفه، يقول العلماء: إن الكون كله مظلم، إلا المنطقة التي من الأرض المقابلة للشمس، وهي الغلاف الخارجي الذي خلق الله فيه أشياء تعكس ضوء الشمس على هذه المنطقة فقط، فالقشرة الخارجية من الأرض حين تقابل الشمس إذا بالشمس تتضح عليها.
وانظر إلى التعبير الدقيق في قوله سبحانه: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:3]، فالذي لا يفهمه قد يقول: إن الشمس هذه تجلي النهار، وتوضحه، والعجيب أن التعبير القرآني يدل على أن النهار يجلي الشمس؛ لأن النهار عبارة عن غلاف رقيق حول الكرة الأرضية، فيه أتربة، وأشياء دقيقة، فإذا واجه الشمس انعكست عليه وظهرت الشمس في هذا المكان، فهو الذي يجليها، ولذلك هذا الغلاف نفسه عندما يتحرك مع حركة الأرض يكون بعيداً عن الشمس، فلا تظهر الشمس في هذا المكان وإنما يظهر الليل الذي حوله، ولذلك فالمراكب والسفن الفضائية عندما تخرج خارج غلاف الأرض يجد من بداخلها أن الكون كله مظلم، وكأن هذا الغلاف هو الذي وضح الشمس بداخل الأرض، فإذا خرجوا عنه يرون كوناً مظلماً.
قال الله سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37]، فالكون كله ظلمة ليل، والجزء المواجه للشمس -وهو الغلاف الجوي- يظهر هذه الشمس فتنعكس عليه فيأتي النهار، فإذا دارت الأرض إذا بها تتحرك ويبتدئ المكان يظلم شيئاً فشيئاً إلى أن يصير ليلاً مظلماً، والجزء الآخر المواجه لهذه الشمس مضيء، ولا يزال الأمر على ذلك، يخلف أحدهما الآخر، فالأرض تدور حول نفسها، ويكون الليل في المكان البعيد عن الشمس، والنهار في الوجه المواجه لهذه الشمس، ولا يزال الأمر هكذا، فقد جعل الله تعالى الليل والنهار خلفة، أي: يخلف أحدهما الآخر.
قال الله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40].(233/4)
تحرك الكون ودورانه
فالله عز وجل يخلق في هذا الكون ما يشاء، والكون يتحرك وكل شيء متحرك فيه بحركة عجيبة، فالكواكب تدور حول نفسها بحركة معينة، وحول مركز الكون بحركة معينة، وكل الكون يدور بطريقة لا يشبهه فيها إلا المسلمون فقط، وذلك عند الكعبة، فالطواف حولها عكس حركة الساعة، وكل الكون يدور بهذه الطريقة؛ الشمس والقمر والنجوم، وكل شيء، فإذا انعكس هذا النظام عرف أن آية من الآيات الكونية ستكون قريبة، وهي شروق الشمس من مغربها، بعد أن كانت كل يوم تشرق من المشرق، وتغرب من المغرب، وبعد أن كانت الأرض تدور عكس عقرب الساعة سيجيء في يوم من الأيام تقل سرعة الأرض إلى أن تقف في مكانها، وبعد ذلك تتحرك بعكس ما كانت تتحرك عليه، في هذا اليوم تشرق الشمس من مغربها كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الآية العجيبة التي لم يصدقها البعض قد اكتشفها علماء الفلك، حيث يقولون: إنه في يوم من الأيام ستقل سرعة الأرض، وهذا قد حدث لكوكب المريخ حيث أشرقت الشمس من مغربه، وهذه آية من آيات الله سبحانه، فالمريخ يدور بطريقة معينة كالأرض، ثم قلت سرعة دورانه حتى وقف في مكانه، وانعكست حركته فلف حول نفسه من الناحية الأخرى يوماً واحداً ورجع ثانية إلى الحركة الأولى، فكذلك يوم القيامة تكون من علاماته الكبرى أن تشرق الشمس من مغربها، فكل يوم تستأذن الشمس ربها أن تشرق من المشرق، وفي هذا اليوم الوحيد تأتي الشمس ويؤخرها الله عز وجل، ولا يأذن لها، فإذا بالشمس تقف في مكانها، فتقل سرعة الأرض، ثم تدور إلى الناحية الأخرى فيكون مشرق الشمس من مغربها، وفي هذا اليوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانا خيراًَ، وهذه علامة من العلامات الكبرى للساعة، وبعد ذلك تشرق الشمس من مشرقها كالعادة، فهو يوم واحد يحدث فيه هذا الشيء، فآمن من آمن، وكفر من كفر، وعلم الناس أن هذا مؤمن، وهذا كافر، وانتهى أمرهم على ما طبع الله عز وجل عليهم، ثم تقوم الساعة بعد ذلك حسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
والغرض: بيان أن الله يرينا قدرته العظيمة، فيأتينا بالليل ويأتينا بالنهار سبحانه وتعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس:40].
وآية النهار هي الشمس، وآية الليل القمر، وكل في فلك يسبح، ويمشي في المكان الذي قدر له، حتى يأتي يوم القيامة فإذا بالشمس تكور وإذا بالقمر يخطفه الله سبحانه وتعالى، وإذا بالنجوم تنكدر وتأتي الآيات الكبرى للساعة.
قال الله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} التسخير: هو تسيير جبري، فالله سخر الشمس، فهي في مدارها الذي خلقها الله عز وجل فيه، {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس:38]، حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى في يوم من الأيام، وسخر القمر، فجعله يدور مع الأرض حول هذه الشمس، ويدور حول الأرض، فيأتي الليل ويأتي النهار، ونرى آية الليل وآية النهار.(233/5)
حال الشمس والقمر يوم القيامة
قال الله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29]، أي: ليس إلى الأبد بل إلى أجل مسمى، وإلى أن تأتي القيامة، والشمس قد عبدها أناس، والقمر عبده أناس، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الشمس والقمر ثوران عقيران في النار)، فالشمس تكون يوم القيامة كالثور المعقور المذبوح في نار جهنم، والقمر كذلك، والشمس هذا الكوكب المشتعل الملتهب الذي تبلغ درجة حرارة غلافه الخارجي فوق الستة آلاف درجة، وفي باطنه تتجاوز الستة ملايين درجة، فهذه الشمس المشتعلة وهذا القمر سيكونان يوم القيامة مشتعلين في نار جهنم، زيادة في التسعير على أهل النار من الكفار الذين عبدوا الشمس والقمر.
فيقال لهم: من كان يعبد شيئاً فليتبعه.
فيقولون: بلى، فإذا بالله عز وجل يصور لهم هذه الشمس فيرونها فتجري ويجري عبادها وراءها إلى نار جهنم، فيحرقون بها وبنار جهنم والعياذ بالله، والقمر كذلك، يجري ويجرون وراءه إلى النار، وهذا ليس تعذيباً للشمس ولا القمر، بل هو تعذيب لمن كان يعبدهما.
قال تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [لقمان:29]، تقول: هذا مسخر، أي: ذليل خاشع مطيع مسير، لا يقدر أن يعترض، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} [لقمان:29] منهما {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [لقمان:29]، إلى أن يأتي يوم القيامة، قال تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:1 - 3]، إلى آخر الآيات التي ذكرها الله عز وجل فيما يكون في يوم القيامة.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان:29]، الخبرة: دقة العلم، فالله سبحانه خبير بما تعلمون، فهل عبدتم الله أم عبدتم الشمس والقمر؟(233/6)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [لقمان:30] أي: ذلك الذي ذكرناه من فعل الله سبحانه وتعالى، ومن قدرته وعظمته سبحانه وتعالى، وقوله: (بأن الله)، الباء هنا للسبب؛ أي: لأنه سبحانه وتعالى هو الحق، وما سواه باطل، فهو الإله الحق، الخالق، الرب وحده لا شريك له، وكل آلهة من دون الله عز وجل باطلة، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30]، أي: ما يعبدون من دون الله عز وجل باطل، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]، سبحانه، فالإنسان عندما ينظر إلى الشمس وهي عالية، فالله أعلى وأجل سبحانه وتعالى.
في يوم أحد لما وقف أبو سفيان يشمت بالمسلمين ويقول: اعل هبل، اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (ألا تجيبون؟)، هذا الكافر المجرم يقف في هذا اليوم ويقول ما يقول -وهذا قبل إسلامه- فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، سبحانه وتعالى.
إذا نظر الإنسان إلى آية من الآيات سيجد أنها كبيرة جداً، ولكن الله أكبر سبحانه وتعالى، ولذلك تدخل في صلاتك بقول: الله أكبر، لتقطع كل شواغل الدنيا عن نفسك، فإذا كان من مشاغل الدنيا شيء كبير كالعمل والتعب والمصائب فاقطعها عن نفسك، وكان من الحكمة إذا صعدت جبلاً والكون يصغر من حولك فتقول: الله أكبر، فكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد مكاناً مرتفعاً أن يقول: الله أكبر، وهذا مناسب لهذه الحال، فالإنسان يرى الجبل عالياً كبيراً، والله أكبر، وإذا نزل الإنسان من مكان منحدر إلى أسفل يستشعر أنه ينخفض فيقول: سبحان الله، فكل شيء في الكون يعلو وينخفض، ولكن الله العلي الكبير سبحانه منزه عن أي نقص سبحانه وتعالى، قال: ((وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ)) والْعَلِيُّ: البائن من خلقه، المستوي على عرشه سبحانه، فوق سماواته وفوق خلقه.(233/7)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله)
يقول الله لعباده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31].
وهنا آية من آيات الله سبحانه وتعالى، كقوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81] أي آية من هذه الآيات تنكرونها؟ فقوله: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي)) الفلك: هي السفن، تجري في البحر بنعمة الله، أي: بفضله سبحانه سيرها، وسخرها، وسخر الماء، وسخر الرياح، وسخر العقول التي يخترعون بها هذه الآلات، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل.
قال سبحانه: ((تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ)) أي: آية الليل والنهار وآية البحار والرياح والسحاب والاهتداء في الطريق في البر والبحر، وآية العقول التي تصنع بها هذه الأشياء، ويسخر الله عز وجل بها ما يشاء، ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) لمن؟ لمن يتدبر الآيات، {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31]، فالإنسان المتهور المندفع لا يفهم، يتكلم كلاماً ولا يفهم ما يقول، كما كان الكفار يفعلون، لكن الإنسان الذي يصبر ويفكر ويتأمل يصل في النهاية إلى حب الله سبحانه، وإلى عبادة الله، وإلى شكر الله، فالصبار من كان عنده صبر ويقين بالله سبحانه وتعالى، وعنده شكر؛ لأنه رأى النعم فشكر الله عز وجل على نعمه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(233/8)
تفسير سورة لقمان [31 - 33]
نعم الله سبحانه على العباد كثيرة، ولأنها تنسى مع طول المداومة يذكر الله بها بين الفينة والفينة في كتابه، ويبين عجز الإنسان لتظهر عظيمة منته سبحانه على عباده؛ ولأن الإنسان قد لا يتذكر بالوعظ فقد يبتلى بخوف أو مرض أو غيره ليعود إلى ربه، ويتذكر ما أعده له، وما سيلاقيه يوم القيامة من أهوال، ومدى حاجته إلى الحسنة الواحدة فيعمل للنجاة في ذلك اليوم العظيم.(234/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الفلك تجري في البحر ولا يغرنكم بالله الغرور)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:31 - 33].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لعباده نعماً من نعمه العظيمة، وما أكثر نعم الله سبحانه! فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، إن تيسير الانتقال في البحر نعمة من نعم الله سبحانه للعباد، وإذ كان في البحر قد يسر لهم الفلك، فإنه في البر خلق لهم ما يقوم بذات المهمة قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، فالله سبحانه يلهم الإنسان، ويرزقه من فضله وكرمه سبحانه، فقد ألهم الإنسان صنع السيارة لتحمله في الأرض، وألهمه صنع الباخرة لتحمله على البحر، وألهمه صنع الطائرة لتسبح به في الهواء، وغير ذلك مما يمن الله عز وجل على العباد فيصنعون، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس:22]، فكل ما ينتفع به الإنسان محض نعمة من نعم الله سبحانه، ولا شأن لنا في تسخيره، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، أي: ليس بقوتكم، ولا بتسخيركم ولكن الله يسخر ما يشاء سبحانه، وهو الحافظ لها ولو شاء لأوقفها، أو لأغرقها، ولكنه سبحانه يمن على العباد مما يشاء من فضله، ومن نعمه، فإذا بالإنسان إذا وجد نفسه مستغنياً قد أغناه الله سبحانه يستكبر ويتعالى، فإذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يذيقه من البلاء ما يجعله يرجع إلى ربه ويقول: يا رب! يا رب! ولذلك لما ذكر لنا النعمة ذكر بعدها النقمة، فذكر ما يحدث للإنسان إذا غشيه موج البحر كالظلل، وذلك لأن الإنسان يحتاج دائماً إلى التذكير، فإذا لم يتذكر بالقول وبالنصيحة، احتاج إلى أن يبتليه الله سبحانه وتعالى، ويذيقه شيئاً من بأسه عله أن يراجع نفسه، ويرجع عن غروره الذي هو فيه.
وقد صنع الإنسان يوماً من الأيام لنفسه الطائرة العظيمة التي تقله كما تقل الجيوش والمعدات، إلا أنه حين يستشعر الكبر والغرور أنه في السماء طائر فوق غيره ويفعل ما يشاء، فإذا بالله يبتليه فيحطم طائرته، ويجعلها سبباً لهلاكه، وفي ذلك عبرة لأهل الأرض بما رأوا ألا تغتروا، كما صنع الإنسان سفينة عظيمة لينتفع بها لكنه لم يطلب المنفعة فحسب؛ بل صنع ما بزعمه أنها تتحدى الأقدار وأسماها (تيتانيك)، أي: الجبارة، جاهلاً أنها قد تغرق، ومبالغة في الزهو يركب على هذه السفينة المليونيرات للنزهة على البحر ناسين الله سبحانه وتعالى، فإذا بها في أول رحلة لها في البحر تغرق بمن فيها، فقد قصمها الله سبحانه وتعالى، وهو قاصم الجبابرة.
فهذه الجبارة التي صنعها الإنسان وظن أنه فاق كل شيء، يريه الله عز وجل ويري جميع عباده من آياته سبحانه وتعالى، فيقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} [لقمان:31]، أي: بسبب نعمة الله وقدرته سبحانه.
وكلمة (نعمت) مكتوبة بالتاء المفتوحة، فالجمهور إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمت) بالتاء، والبعض من القراء مثل ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، والكسائي إذا وقفوا عليها يقولون: (بنعمه) بالهاء.
وقوله: {لِيُرِيَكُمْ} [لقمان:31]، اللام للتعليل، أي: أنه يجري السفن في البحر ليريكم من نعمه سبحانه، ويريكم من آياته العظيمة الباهرة، وقدرته الفائقة القاهرة.
والآية: العلامة، وقد تأتي بمعنى: المعجزة، وقد تعرف بأنها: الشيء العظيم الذي ينظر فيه الإنسان فيقول: سبحان الله ما أعظم هذا! وعادة ما يعجب الإنسان حينما يرى سفينة تطفو على البحر، لكنه قد لا يتذكر الله حين يراها، فلذا الله عز وجل يذكره: أن لست أنت الذي خلقت هذا البحر، ولا أنت الذي أجريت هذه الرياح، ولا أنت الذي تمكنت بفضل نفسك من صنعها، ولكن الله من عليك بهذا كله سبحانه وتعالى.
ثم بين سبحانه من يستفيد من الآيات فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31]، أي: علامات يعتبر بها كل صبار شكور، وقوله: (صبار) مبالغة من صابر، أي: صبر على قضاء الله وقدره، وصبر نفسه فنظر في آيات الله واعتبر بها، وعلم أن الله هو صاحب الفضل العظيم، وهو الذي من على الإنسان بكل نعمة، فالإنسان الصبار هو الذي ينظر بصبره ويتأمل فينتظر قضاء الله سبحانه، ويشكر ربه على نعمه سبحانه، فيصبر في البلاء، ويشكر في الرخاء.
وإنما خصت الآية هذا الإنسان لأنه هو الذي يعتبر بها، أما غيره فلا يعتبر حتى يكون هو العبرة لغيره، فنرى الإنسان المستكبر لا يعتبر بآيات الله سبحانه وتعالى، ويظل مستكبراً إلى أن تأتي الآية فتقصمه فيكون عبرة لغيره، ويتحدث عنه الناس ويصبح حديثهم، فمن شامت يذكر ما كان يفعل من أفعال تدل على الكبر كالتطاول والاستكبار، ومن معتبر بما صنع به قاصم الجبابرة سبحانه وتعالى، وكيف أرى الله العباد فيه آية من آياته سبحانه وتعالى، فقد أراهم كيف صنع بفرعون الذي استخف قومه فأطاعوه، وكانوا يظنون أن فرعون من المخلدين، فقد أعطاه الله من العمر والقوة والملك الشيء العظيم، فلما استخف قومه وقال: أنا ربكم الأعلى، وأطاعوه فيما قال؛ أغرقه الله سبحانه، وأذله وهو خارج أمام الناس بجيوشه ليأتي بموسى ومن معه، وقد قيل: إن عدد من كان مع موسى ستمائة ألف، وقيل أكثر، وقيل أقل من ذلك، والله أعلم، فلما نظر إليهم فرعون أخذ يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] ففهم من قوله أن جيشه جيش عظيم؛ لأنه إذا كان من مع موسى شرذمة قليلون، وعددهم ستمائة ألف، فإن جيش فرعون قطعاً سيكون أكثر من ذلك بكثير، ولذا نظر إليهم مستكبراً فقال كما أخبر الله عنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]، فكان الكبر في فرعون هو الذي دفعه لقتالهم، فمع أنهم لم يؤذوا فرعون ولا قومه بأي نوع من أنواع الأذى، وهم فقط إنما آمنوا بالله وكفروا بالطاغوت؛ إلا أن فرعون أبى إلا قتالهم، فإذا بالله عز وجل يملي له لينتقم منه ويكيد به، وهذه هي سنته في المتكبرين قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، ورأى فرعون أمامه الآية التي يعتبر بها كل من يعتبر، إلا أنه إذا جاء القضاء والقدر عمي عن الإنسان البصر، فلم ينظر إلى البحر العظيم وقد انفلق، وموسى وقومه يمشون في يبس من الأرض، ويؤمن أن هؤلاء على حق، بل قد رأى قبل ذلك تسع آيات بينات في بلاده، ولم يعتبر، وهذا هو ديدن الجبابرة لا يعتبرون حتى يكونوا هم العبرة لغيرهم، فأصر فرعون على المضي خلف موسى، فلما توسط البحر انطبق عليه البحر وأغرقه الله، وحينها قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].
وأصبح عبرة للناس في مقالته، ومثالاً للإنسان الجبان الذي يرى القوة من حوله فيقول: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء؛ فإن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، وبعد أن أغرقه الله قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، أي: أنا مثل هؤلاء، أنا مع هؤلاء.
ويجيبه ربه فيقول: {آلآنَ} [يونس:91] أي: آلآن تقول: آمنت؟ ثم ذكره بمعصيته فقال: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]، أي: لقد كنت كافراً مفسداً جباراً عنيداً، ثم يجعله الله عبرة لمن خلفه، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
وهكذا فالجبابرة لا يعتبرون، إنما يعتبر كل صبار شكور، فالذي يصبر على قضاء الله وعلى بلاء الله سبحانه وتعالى، وينتظر الفرج من الله ولا يعاند ربه أبداً، بل يشكر في حال الغنى والرخاء أهل لأن يعطيه الله سبحانه العقل فيتفكر، ويعطيه القلب فيتدبر ويؤمن ويستيقن، ويعطيه النعمة منه سبحانه وتعالى.(234/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذا غشيهم موجد كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين)
ذكر الله الناس بالأوقات التي تمر بهم فيلجئون إليه فيها قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، قوله: (إذا غشيهم) أي: غطاهم، والموج هياج البحر، وقوله: (كالظلل) الظلل: جمع ظلة، والظلة: ما يغطي الإنسان، وقد يطلق لفظ الظلل على السحابة، كما يطلق اللفظ على الجبال؛ لأنها أعلى من الإنسان فتظله، والمعنى: أنهم إذا دخلوا البحر وعلتهم الأمواج كالجبال، عرفوا أن الله حق، ورجعوا إليه، ونادوه: يا رب! يا رب! قال تعالى في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22].
فإن الإنسان يستكبر وهو بعيد عن الهلاك، ويظن نفسه بمنأى عن عذاب الله سبحانه، فإذا جاءه العذاب رجع إلى الله، وقد صور الله سبحانه وتعالى لنا هذه الصورة الصادقة العظيمة التي لم يرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد معه من العرب ليدل ذلك على أن القرآن كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه الصورة التي ذكرها القرآن إنما يعرفها علماء البحار الآن؛ لأنها لا تصور إلا بالطائرات والأقمار الصناعية؛ لأن من كان يصل إلى هذا المكان لا يرجع، فكان الذي عبر عنه الله سبحانه وتعالى رداً على الكفار الذين يقولون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ألف هذا القرآن؛ إذ كيف يأتي بهذه الصورة وهو لم يركب البحر صلوات الله وسلامه عليه، ولا رأى أحد من أصحابه ركبوا في مثل هذا المكان، كما أن أحدهم لو كان في هذا المكان لم يرجع! فلم يكن لديهم وسائل تنقذهم من موج على هذه الصورة، فالمحيط العميق الغريق هو الذي يأتي فيه الموج كالجبال من كل مكان، ويسميها علماء البحار الآن الدوامة، ويقرون أنه لا أحد ينجو من الدوامة؛ لأن الموج فيها يأتي من كل مكان، والعادة أن الناظر إلى البحر يرى الموج آت من مكان واحد فقط، أما في الدوامة التي تحدث غالباً في المكان العميق من البحر فإن الموج يأتي من كل مكان، ويحيط بالإنسان حتى يغرق، سواء كان الإنسان في مركب صغيرة، أو كان في سفينة كبيرة، فإنه ما دام دخل في هذا المكان فلا بد أن يغرق.
فإذا بالله يصور هذا المكان الذي يغرق فيه الإنسان ولا يرجع ليحدث بما وقع له، ويذكر الله عز وجل أنه في هذا المكان يظل الناس يرددون: يا رب! يا رب! يا رب! وقد يأخذهم الله عز وجل ويغرقهم سبحانه، إلا من يشاء فينجيهم على الندرة، وقد ذكر تعالى مدى إخلاصهم في الدعاء فقال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان:32]، وقد كان هذا سبب إيمان عكرمة بن أبي جهل ابن فرعون هذه الأمة، أبي جهل لعنة الله عليه، فقد كان عكرمة على دين أبيه وقومه، وكان بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطيق أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة هرب وترك مكة، يريد ألا يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فركب البحر، فلما كان في البحر إذا بالأمواج تعلو، وإذا بالسفينة تضطرب، وشعر كل من في السفينة أنهم سيغرقون، فقال لهم ربان السفينة: إنه لا ينجيكم الآن إلا الله، فاتركوا آلهتكم هنا.
وإذا بالإيمان ينسل في قلب هذا الرجل الذي كان كافراً فيفكر: سبحان الله! إن الذي ينقذنا الآن في هذا الضنك الذي نحن فيه والكرب الذي نحن فيه هو ربنا، ونحن نظل ندعو غيره لا والله، لئن أنجاني الله من هذا الأمر لأرجعن، ولأؤمنن، ولآتين النبي صلى الله عليه وسلم، ولأضعن يدي في يده، ولأجدنه رءوفاً رحيماً، فكانت هذه اللحظة سبب إيمان هذا الرجل.
قوله: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [لقمان:32]، أي: تاركين لكل الآلهة، متوجهين بالعبادة له وحده، والإخلاص من أخلص الشيء بمعنى: نقاه وصفاه، فهم أخلصوا عبادتهم من كل شوائب الشرك بالله سبحانه، ودعوا الله وحده، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} [لقمان:32]، أي: كتب لهم النجاة مما هم فيه آمن بعضهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32].
وقد ذكر الله عز وجل أن العباد أقسام ثلاثة، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، فالسابقون بالخيرات: هم المؤمنون المحسنون، والظالم لنفسه: الكافر، والفاجر، والفاسق، وأما المقتصد فهو الذي يمشي في طريق الخير ويقع في شيء من الفساد والشر.
فقد سمى الله بعض الناجين مقتصدين فقال: {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} [لقمان:32]، ومعنى مقتصد هنا أي: يوفي بما عاهد الله سبحانه وتعالى عليه، وقيل: مقتصد أي: أنه يرجع لطاعة الله سبحانه، وإن لم يكن مثل السابق بالخيرات الذي آمن أول الأمر ولم يحتج لمثل هذا الشيء حتى يتذكر ربه سبحانه، بل إنه متذكر لربه دائماً في الخير وفي الضير يشكر الله، ويحمده سبحانه.
ثم بين الله أن من يجحد بآيات الله ونعمه هو المتكبر فقال: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32]، فالذي يجحد آيات الله وهو يراها في البر، وفي البحر، وفي نفسه هو الختار، والختار من الختر وهو أسوأ الغدر، والمعنى: الإنسان الذي فيه غدر وعري قلبه من الخير، فهو يرى النعمة وينقلب من ورائها، وإذا أمنه الإنسان على نفسه فقد يمكر به ليغتاله ويقتله.
ولم يسمه الله سبحانه بالغدر فحسب بل وسمه بالكفر أيضاً فقال: {خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32] والكفور بمعنى: جحود لآيات الله سبحانه وتعالى.(234/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده)
تأتي التذكرة من الله سبحانه وتعالى في ندائه لعباده جميعهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [لقمان:33]، وهو يدعو الجميع إلى العود إلى الله سبحانه وتقواه، فيقول: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، والرب: هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي يفعل ما يريد، ويحكم بما يشاء سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (اتَّقُوا)، أي: اجعلوا وقاية بينكم وبين غضبه وعذابه، ومنه قول القائل: أنا أقي نفسي من حر الصيف بأن أضع شمسية على رأسي، أو أجلس في البيت، أو آتي بمكيف، وقد يقول: أقي نفسي من برد الشتاء بأن ألبس الصوف أو أعمل كذا من الوقاية، أخذاً بالأسباب لتدفع عن نفسك الضر.
والنداء هنا: اتق ربك، واتق غضبه، وخذ بالأسباب لتدفع عن نفسك عقوبة الله سبحانه، إذ إن عقوبته هي النار.
ثم أمرهم بأن يخافوا عذاب اليوم العظيم فقال تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:33] وقد نكر اليوم للتعظيم، أي: يوماً عظيماً، قال عنه تعالى: {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7].
وشرع سبحانه يبين بعض مواقف ذلك اليوم فقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، ففي يوم القيامة يفر كل إنسان من أقرب الأقربين إليه، قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36]، فالكل يقول: نفسي نفسي، حتى أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام يقولون ذلك، قال تعالى: {يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33]، وهذا معنى قوله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، أي: لن تأتي نفس آثمة محملة بالأوزار والذنوب يوم القيامة لتقول لغيرها: احمل معي قليلاً مما أحمل، ويستجاب لها، حتى الأب لا يقول ذلك لابنه، ولا الابن يقول ذلك لأبيه، على أنه في الدنيا قد يفعل الإنسان الكثير مع أبيه ومع ابنه، فالأب في الدنيا عندما يجد ابنه مريضاً يود لو يفديه بنفسه، وكذا الابن يود لو يفدي أباه بنفسه، أما يوم القيامة فتظهر الأمور على حقيقتها، فإن نار الله العظيمة المستعرة تجعل الإنسان يفر من أقرب الناس إليه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لآل بيته ذلك فقال: (يا فاطمة بنت محمد قي نفسك النار، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً)، أي: خافي على نفسك من النار، واهربي منها فإني يوم القيامة، أقول: قد أبلغتكم، والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وقال لكل الناس: قوا أنفسكم من النار، ثم قال سبحانه: {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان:33]، أي: لا الابن يحمل من أوزار الأب، ولا الأب يحمل من أوزار الابن، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [لقمان:33]، أي: إن يوم القيامة وعد من الله، وهو آت لا محالة، فالله لا يخلف الله الميعاد.
ثم حذر من الاغترار بالدنيا فقال: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33]، وفي الآية بيان أن الإنسان قد يؤمن، وقد يصدق، ولكن لا يعمل، فقد حمله الغرور على ترك العمل، فإذا رأى نفسه بصحة وعافية سوّف وأخذ يقول: ما زال أمامي عمر طويل، وقد يرى أمامه رجالاً ونساء يموتون ولا يعتبر، ظناً منه أنه سيظل مخلداً ولن يموت؛ فيقول الله عز وجل له: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33]، قد يخدع الإنسان نفسه، أو يخدعه الشيطان، أو بالأمل المكذوب، فيرى نفسه صغيراً فيسوف التوبة ويقول: سأتوب غداً بعد أن أعمل كذا، فالله يقول له: لا تغتر؛ فإن تكليفك من ساعة بلوغك، فمذ بلغت كتبت عليك آثامك، وستظل تكتب حتى يتوفاك الله سبحانه وتعالى.
وكما ينهاك الله عن أن تغر نفسك أيضاً لا تخدع غيرك، فالأب ينبغي أن يأمر أبناءه بالمعروف، ولا يقول: الولد ما زال صغيراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الأب فقال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فينبغي أن تأمر الابن أن يصلي لسبع سنوات، فإن السبع السنوات هي سن التمييز ويكتب له فيها الثواب، أما إذا وصل عمره العشر السنوات فمره بالصلاة، واضربه على تركها، حتى إذا بلغ كان عابداً لله سبحانه وتعالى، ذا تقوى ودين، فلم تحتج أن تأمره وأن تنهاه.
ولم يحذر الله من غرور الدنيا فحسب بل حذر أيضاً من غرور الشيطان، قال تعالى: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، والغرور هو الشيطان وفي هذه الآية قراءة واحدة فقط وهي: (الغرور) وهو بمعنى: الشيطان، وإن جاء في غيرها (الغُرور) بالضم، أي: المصدر الذي يغر الإنسان من خداع أو باطل، أو من زينة وزخرف، أما: (الغَرور) على وزن فَعول فإنه بمعنى: الشيطان، يعني: احذروا من الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
والإنسان عادة إذا عرف عدوه فاتخذه عدواً حذر منه، إذا مر في طريق وفي طريق آخر، وهكذا ينبغي ألا تمشي مع الشيطان، ولا تغر نفسك؛ فإن الموت آت ويوم القيامة قريب.(234/4)
تفسير سورة لقمان [33 - 34]
نداء من الرحمن يتردد صداه في قلب كل مؤمن، يأمر فيه عباده بالتقوى، ويحذرهم من يوم القيامة وأهواله، ويبين لهم كيف أنهم من شدة تلك الأهوال يهرب كل قريب عن قريبه، بل لا يحمل أحد عن أحدٍ شيئاً، نداء يحذرهم من الاغترار بالدنيا وزينتها، ويحذرهم من الشيطان وتلبيساته، وإذا كان الأمر كذلك فإن وقت الساعة غير معلوم قد استأثر الله بعلمه، كما استأثر بعلم نزول الغيث، وعلم ما في الأرحام، وعلم ما يكسب الإنسان في غده، وعلم متى وأين يموت الإنسان، وهو سبحانه العليم الخبير.(235/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة لقمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:42 - 34] في هاتين الآيتين يأمر الله عز وجل عباده بتقواه، وأن يخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، وهذا متحقق يوم القيامة، وهو يوم عظيم ذكره الله عز وجل في القرآن وسماه بأسماء متعددة فهو يوم القيامة، وهو الطامة الكبرى، وهو الصاخة، وهو الحاقة، فهو يوم عظيم تدل أسماؤه على ما فيه، وهو يوم تقوم فيه الساعة، وقد أخفاها الله سبحانه وتعالى على جميع خلقه فلا يعلمها إلا هو، فإذا أمر ينفخ الصور مات كل من على هذه الدنيا، ثم يأمر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بإحياء الخلق فيرجعون مرة أخرى: ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار)).
من أسماء يوم القيامة: الطامة، والطامة هي المصيبة العظيمة، وسميت طامة لأنها تطم وتعم، والصاخة؛ لأنها تصخ الآذان بهول الصحية التي تكون يوم القيامة، والحاقة؛ لأن الله عز وجل يحق فيه الحق، ويظهر للإنسان فيه ما كان يكتمه في الدنيا، كما ذكر الله عز وجل أن يوم القيامة فيه شر عظيم، قال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7]، أي: منتشراً عظيم الانتشار.
وفي هذه الآية يحذر الله عز وجل العباد منه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا} [لقمان:33] وقد ذكر طول هذا اليوم في القرآن، قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فمهما عمر الإنسان في الدنيا واستشعر بطول العمر فيها لأنه عاش ثمانين سنة، أو عاش مائة سنة، أو عاش ألف سنة، فسيأتي يوم القيامة ليجد هذا اليوم يوماً عظيماً طويلاً عبوساً قمطريراً، حتى يقول بعض الناس لربهم سبحانه يوم القيامة من شدة ما يعانونه في هذا اليوم: ربنا اصرفنا ولو إلى النار، يظنون أن النار أهون من هذا اليوم؛ لما يرونه في هذا اليوم من أصناف العذاب.
فيرون عذاب الإنسان الذي منع زكاة ماله، إذا كان ماله من غنم، أو من بقر، أو من إبل، فإنه يفرش لهذه الأشياء في قاع قرقر أي: منبسط واسع فسيح كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تأتي عليه إبله فتطؤه بأخفافها، وتعظه بأنيابها، وتظل تدور عليه في هذا اليوم الطويل حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة، ويؤتى بالإنسان الذي كان يكنز الذهب والفضة في الدنيا ولا يخرج زكاتها فتصفح له صفائح الذهب والفضة من نار يكوى بها وجهه وظهره وجنبه في هذا اليوم الطويل العبوس القمطرير، حتى يرى مصيره إما إلى النار وإما إلى الجنة.
لقد حذرنا الله عز وجل منه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] أي: لن يأتي رجل يوم القيامة ليقول: أنا أفدي ابني، بل يقول: نفسي نفسي {وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شيئاً} [لقمان:33] وكذا لن يقول الابن: أنا أحمل عن أبي، أو أدخل مكانه النار، بل كل إنسان يقول: نفسي نفسي، ونكر (شيئاً) في الآية، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: أي شيء ولو دق ولو قل، ثم أكد وقوع هذا اليوم فقال: ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) فقد وعد بأن يكون حساب وجزاء، فكان وعد من الله حق، ((إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) أي: لا يغرنكم الأمل، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر أصحابه وأمر المؤمنين أن يزوروا المقابر، فإنها تذكر الآخرة؛ فإن الإنسان عندما يذهب إلى القبور وينظر إليها وهي حفرة في الأرض صغيرة عميقة يدفن فيها الميت ويغطى، ولعله يتذكر كم كان الإنسان يلعب في هذه الدنيا، وكم كان يمرح ويجري ويضحك بملء فيه وهو لا يدري ما الذي يختبئ له في قبره، ولا يدري ما الذي يدخره له ربه سبحانه من حساب على أعماله التي عملها في الدنيا، وهو توجيه للمغرور: أن انظر إلى القبور، وانظر إلى الحفرة التي ستنزل فيها وهي بضيقها حيث لا تتجاوز نصف متر عرضاً في مترين ونصف طولاً، مكان لضيقه لو نزله الإنسان فيه حياً فلن يستطيع الحركة.
أيها المغرور! تذكر كم من الناس دفنوا فيها؟ لو عدو لبلغوا الملايين، كلهم نزلوا في هذه القبور وأكلتهم الأرض وفنوا، وانتهى أمرهم، ثم يظلون فيها حتى يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة، فالإنسان في غفلة عن الموت، في غفلة عن القبر، في غفلة عن هذا المكان الذي يسأل فيه: من ربك؟ ما دينك؟ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإذا كان الإنسان في لهو ولعب وغفلة عن القبور، فإنه يأتي في قبره فلا يحير جواباً، فيقول: هاه هاه لا أدري، هاه هاه لا أدري، كما كان يضحك في الدنيا، ويسخر في الدنيا، إلا أنه في الدنيا كان يضحك من قلبه، أما في قبره فإنه يقول: هاه هاه بصوته فقط، بل ببكاء مرير وخوف عظيم.
{وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أي: لا يفتننكم الشيطان الذي غركم وخدعكم في الدنيا فاقتتلتم فيها، وسلبتم أموالكم ظلماً وزوراً وعدواناً، لقد مكر بكم الشيطان حتى أرداكم، فلما متم ودفنتم في القبور وجدتم نتيجة هذه الأعمال، أما المؤمن فإنه يجد في قبره من يعينه على أن ينطق؛ لأن الله يثبته سبحانه وتعالى، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى يخبر عن تثبيته لهم: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، كما أن هذا القبر الضيق الذي لا يكفي أن يتكئ الإنسان فيه، يأمر الله أن يتسع له القبر مد بصره، وينور له في قبره، ويفرح الإنسان بما يرى، ويفتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا منزلك، وحين يفرح العبد يقول: يا رب! أدخلني فيها أدخلني منزلي، فيقال له: نم نومة العروس التي لا يوقظها إلا أحب الناس إليها، ثم ما زال أمامك وقت حتى تبعث يوم القيامة.
أما الإنسان الفاجر والكافر الذي لا يدري من ربه وما نبيه وما كتابه، فيقول: لا أدري، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، ويصرخ صرخة عظيمة فظيعة في قبره يسمعه كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن، فتسمعه الهوام والدواب والحيوان والملائكة، ولا يسمعه الإنس والجن؛ لأنهم لو سمعوا هذا الصوت لصعقوا ولتابوا إلى ربهم وأنابوا، ولكن الله شاء أن يجعل الدنيا دار ابتلاء ودار امتحان، ودار غرور، لينظر أيكم أحسن عملاً، وينظر من يصدق ربه سبحانه ومن يكذب ويعرض عن الله سبحانه وتعالى.
ويحذر الله سبحانه من الدنيا مع أنه زينها، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فقد زينها الله سبحانه وتعالى فتنة لعباده، وقال: احذروا من هذه التي زيناها لكم، فإنما أريناكم كيف نزينها حتى تعرفوا أن في الدار الآخرة الجنة وهي أجمل من هذه، فاتركوا هذه الدنيا للجنة، فالله سبحانه وتعالى أرى عباده ما يكون في الجنة بشيء مما أراهم في الدنيا؛ حتى يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى.
لقد حذر الله عباده من الشيطان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] فقد أخبرنا الله سبحانه في كتابه كيف يمكر الشيطان بالعبد، ويسخر منه، وبين موقف الشيطان حين يلجأ الإنسان إليه فيتبرأ الشيطان منه ويقول كما أخبر الله عنه: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:48] فالشيطان ينزع يده من الإنسان بعد أن يرديه في النار ويوقعه في معصية الله سبحانه، فليحذر المرء أن يغره بالله الغرور.(235/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الله عنده علم الساعة)
لقد اختص الله سبحانه نفسه بعلم أشياء لم يطلع أحداً من الخلق عليها ذكرها الله تعالى في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34]، وهذه من جملة مسائل العقيدة التي يؤكدها لنا الله سبحانه في هذه السورة المكية وفي غيرها من سور القرآن، ولكنها أكثر تأكيداً في السور المكية، وإنما يركز على أمر العقيدة لأنها تربية للإنسان المؤمن، إذ يربى المؤمن من خلالها على حب الله سبحانه، وطاعته وتوحيده وعدم الشرك به سبحانه، والخوف منه، والإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والاستعداد ليوم النشور، كما قال الله سبحانه {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فهذه خمسة من أصول الإيمان، يتبعها أصل الإيمان بالقضاء والقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وبذلك تمت الستة الأصول من أصول الإيمان التي يركز القرآن على بيانها وتوضيحها، وذلك حتى يؤمن العبد بأصول الإيمان، فيؤمن بربه، ويؤمن بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ويؤمن باليوم الآخر، وفي الآية التي بين أيدينا يذكر الله تعالى إحدى مسائل الإيمان.(235/3)
اختصاص الله تعالى بعلم الساعة
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] أي: أن الله اختص نفسه بعلم الساعة فلا يعرف أحد متى تكون الساعة، وإن كان الله سبحانه قد أخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أنها تقوم في يوم جمعة، إلا أننا قطعاً لا ندرك أي جمعة من الجمع ستقوم فيها، وقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم كذلك أن قبل الساعة علامات صغرى وعلامات كبرى، أما العلامات الصغرى فقد رأينا الكثير منها، ومن ذلك ما يراه الإنسان من معاص لله سبحانه وتعالى، ومن الفساد في الأرض، ومن نزع الأمانة من قلوب الرجال حتى يقال عن الرجل: ما أظرفه وما أعقله، وما في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومنها أيضاً: أنك ترى الناس قد تركوا دين الله عز وجل وراءهم، وضيعوا الأمانة، فترى المتبرجات ضيعن أمانة الله سبحانه وتعالى وانتشرن في الأرض يغوين ويضللن عن سبيل الله.
أما العلامات الكبرى فإنها إذا جاءت فإن الساعة على وشك أن تقوم كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم تلك العلامات لأمته، ومنها: ظهور الدابة، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوفات: خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونار تحشر الناس إلى أرض المحشر، فهذه العلامات إذا وقعت، عرف الناس أن الساعة قريبة، ومع ذلك فإنها تظل مبهمة حتى يأتي أمر الله فجأة، فتقوم الساعة وليس على الأرض من يقول: الله، الله، إذ إنها تقوم على شرار الخلق، وقد نسوا ربهم سبحانه، فلا أحد يقول الله، إلا عجائز من الناس يذكرون أنهم سمعوا من أجدادهم من يقول ذلك، كما تقوم الساعة والناس يتهارجون في الأرض كتهارج الحمر، فيكثر الزنا في الأرض حتى يرتكبه صاحبه في أي مكان كما تفعل الحمير، وكون الإنسان يدرك أن الساعة تكون قريبة لما يرى لها من علامات صغرى وكبرى، فهذا واقع، لكنه لا يدري متى تكون ساعته هو، كما لا يدري متى تكون القيامة الكبرى.
كما أن الله سبحانه قد يري أنبياءه عليهم الصلاة والسلام أشياء لا يطلع عليها غيرهم، كما يذكر: أنه يكون كذا في يوم كذا، فيخبر النبي عليه الصلاة والسلام بما غيبه الله سبحانه وأطلع عليه نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد يري الله سبحانه وتعالى رؤيا يكون فيها أنه سيموت في اليوم الفلاني ويحدث هذا الأمر، وهذا لا يقدح في علم الله، فالله عنده علم ساعة العبد، فهو الذي أطلعه على ميقاتها، كما أطلع نبياً من الأنبياء على شيء من علمه سبحانه وتعالى الذي غيبه، وليس معنى ذلك أنه يعلم صلى الله عليه وسلم متى تقوم القيامة، فيعلم في أي يوم تقوم، وإن كان قد علم أنه في يوم جمعة، لكنه لا يعلم صلى الله عليه وسلم أي جمعة من الجمع تقوم فيها، بل كان يقول في المسيح الدجال (إن يظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم)، فكان يظن عليه الصلاة والسلام أن المسيح الدجال قد يظهر وهو حي، صلوات الله وسلامه عليه، ولم يظهر في حياته ولا بعد وفاته إلى الآن، ولكن لا شك أنه سيظهر في يوم من الأيام.
وبذلك يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم العلامات التي تكون قبل الساعة، أما أنه علم متى تظهر هذه العلامات فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.(235/4)
اختصاص الله تعالى بإنزال الغيث وعلم ما في الأرحام
قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [لقمان:34] الغيث: هو المطر العظيم العميم الذي يغيث الله عز وجل به العباد، فيخرجهم به من العطش ومن المحل ومن القحط ومن الجدب إلى الري وإلى الخصب وإلى النماء والرواء من فضله سبحانه وتعالى، وهذا الغيث يدرك العباد برحمته بعدما كادوا ينقطعون؛ إذ إنه لا يقدر على إنزال الغيث من السماء إلا الله سبحانه وتعالى، ثم قال سبحانه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} [لقمان:34] أي: يعلم أن هذا ذكر أو هذه أنثى، فالله عز وجل كما أخبر في آية أخرى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] فإنه سبحانه يزيد الرحم شيئاً فشيئاً حتى يكون هذا الجنين في الشهر التاسع، ثم يخرج هذا الجنين إلى الدنيا، وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد:8] أي: ما تكون عليه من نطفة تحولت إلى علقة، ثم تحولت إلى مضغة، وجاء القدر فنزلت في حيض المرأة، وغاض الرحم وذهبت لأمر الله سبحانه وتعالى، والإنسان معلوم أنه لا يعرف ما يكون من شأن هذه النطفة، فلا يعرف هل سوف يعيش جنينها أم يموت؟ وإذا عاش هل سيكون شقياً أم سعيداً؟ وإذا كتب له الحياة فكم سوف يكون عمر هذا الإنسان في هذه الدنيا؟ وكيف سيكون عمله فيها؟ وكيف سيأتيه أجله؟ وهل يوم القيامة سيكون من أهل الجنة أم من أهل النار؟ ولذا فإن علم الله سبحانه تبارك وتعالى لما في الأرحام هو العلم المحيط بكل شئونها، ولا يقال أن الأطباء يعرفون بالأشعة التلفزيونية أن هذا ذكر أو هذه أنثى! نعم قد يعلم الأطباء بما علمهم الله عز وجل أن هذا ذكر أو هذه أنثى في المراحل المتأخرة من الحمل، ولكن العلم المحيط بكل أمور الحنين علم الله وحده لا شريك له سبحانه، فهو وحده يعلم ما في الأرحام، ويعلم كل شيء عن هذا الذي كون في رحم المرأة.(235/5)
اختصاص الله تعالى بعلم ما في المستقبل
ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان:34] قوله: (نفس) نكرة في سياق النفي تفيد العموم أي: أي نفس، فكل نفس لا تدري ما الذي تكسبه في غدها؟ وكسب الإنسان عام في كل كسب، فهو لا يعلم كسبه من حسنات ومن سيئات، ولا يعلم كسبه من أموال ومن أعمال، وقد يعد الإنسان نفسه بأنه في الغد سيفعل كذا وكذا، ولا يأتي عليه الغد إلا وقد مات، وقد يأتي عليه وهو حي لكنه لا يفعل شيئاً من هذه الأشياء، كأن يفجأه مرض فيمنعه من القيام بما وعد به نفسه، أو يطرأ عليه نسيان، أو تأتي عليه حوادث الدهر من باب المسجد وهو يفكر: سأذهب إلى البيت لكي أعمل كذا وأعمل كذا، فلا يذهب إلى البيت، بل يذهب إلى مكان آخر، أو يذهب إلى البيت ولا يعمل ما فكر فيه، فالله عز وجل هو الذي يقدر هل سوف يكون هذا الشيء أم لا يكون، وبذلك يعلم أنه لا تدري النفس ما الذي تكسبه في الغد من حسنات ومن سيئات، ومن أقوال ومن أعمال، ومن أموال وغيرها.(235/6)
اختصاص الله تعالى بعلم موعد أجل الإنسان ومكانه
ثم قال سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] قد يذهب الإنسان إلى مقبرة من المقابر ويشتري تربة ويجهزها تحسباً إذا مات أن يحمل إليها، لكن الله قد قدر شيئاً آخر، كأن يسافر إلى مكان آخر فيموت فيه ويدفن فيه، فالله سبحانه أخفى عن العباد مواقيت موتهم وأمكنتها، وأمرهم بالإيمان به سبحانه، وهو لا يقدر لهم إلا الخير، فاختيار أمر الله سبحانه، والرضا به، والرضا عنه سبحانه وتعالى دليل الإيمان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني والإمام أحمد من حديث أبي هريرة كما جاء من حديث أبي عزة الهدجي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] إلى قوله {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]).
قد يظل الإنسان عمره كله في بلده الذي ولد فيه، فلا يسافر خارجها مطلقاً، وفجأة يأتي أمر من الأمور، كأن يحتاج لحاجة من الحاجات، أو يظن أن رزقه في المكان الفلاني، ثم يترك بلده ويذهب إلى هذا المكان لقضائه وقدره، فما أن يصل إلى هذا المكان حتى يقبضه ملك الموت، فيموت في هذا المكان الذي لم يكن يخطر بباله أن يذهب إليه يوماً من الأيام، وبذلك تتجلى حكمة الله سبحانه وتعالى، أنه هو الذي قدر الأقدار، وأنه وحده الذي اطلع على الغيب، فهو يعلم كل شيء خفي عن العباد سبحانه وتعالى.
ولعلنا قد ذكرنا قبل ذلك قصة المليونير اللبناني الذي بنى لنفسه مقبرة ضخمة كبيرة، ثم أتى بزملائه من الناس الذين يحبهم وأصدقاء السوء الذين كانوا معه وقال لهم: أنا عندما يقدر أن أموت سأدفن في هذا المكان، وطلبي منكم أن تقيموا لي حفلة في كل سنة، وتحضروا فيها الموسيقى وترقصوا وتلعبوا حولي في هذا المكان لكي تؤنسوني في قبري، فإذا بالله عز وجل يري الناس في هذا الإنسان آية، فيركب هذا الإنسان الطائرة مع غيره من أصدقائه، وبينما تطير الطائرة فوق البحر تتعطل لتغرق في البحر، ويشاء الله أن تطفوا جثث زملائه إلا هو، فمع أنه أراد لنفسه الدفن في مكان وسخر من الموت بهذه الصورة، إلا أن الله عز وجل أهلكه، فأكلته أسماك البحر أو أخذه الله عز وجل حيث شاء سبحانه.
وليحذر المسلم من الاستهزاء أو السخرية بأمور الغيب، فإنه أمر الله عز وجل الذي قدر كل شيء، وقد جاء في حديث رواه البخاري من حديث ابن عمر قال: صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيط الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) وجاء في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت.
قال له: صدقت، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر وخيره وشره، قال: صدقت، فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، فأخبرني متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فحين سأله عن وقت قيام الساعة أجابه بما معناه: أنا وأنت في عدم العلم سواء فأنت لا تعلم وأنا كذلك، (قال: فأخبرني عن أمارتها)، أي: ما هي علامات الساعة؟ قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها- وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان).
وقوله: (أن تلد الأمة ربتها أو ربها)، أي: يكثر بيع الإماء، فتباع الأمة التي لها الولد، ويصير ابنها حراً وهو لا يعرف من أمه، وفي يوم من الأيام إذا به يشتري أمه لتصير أمة عنده وهو لا يدري أنها أمه، وهذا أحد تفاسير هذه الكلمة من هذا الحديث، وقوله: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان)، أي: الفقراء الذين كانوا لا يجدون ما يأكلون، بل هم من شدة فقرهم يمشون حفاة لا يجدون ما ينتعلون به، وعراة لا يجدون ما يلبسون، يصيرون أغنى الأغنياء ويتطاولون في البنيان، ولم يكن الصحابة يفكرون أن المباني ستبلغ الأدوار ذوات العدد، وأقصى ما كانوا يرونه بيتاً يتكون من طابقين، فكانوا لا يتطاولون في البنيان، ولم يكن في فكرهم هذا الأمر إلا علماً قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فإذا الذي كان في يوم من الأيام غنياً وآباؤه أغنياء قد أصبح فقيراً ممن لا يجدون شيئاً، وإذا بالفقراء الذين كانوا لا يجدون شيئاً قد أعطاهم الله عز وجل العطاء الجم، فالله سبحانه يغير ويبدل، ويري العباد من الآيات ما يعتبرون بها.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] أي: عليم بكل شيء، فعلمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون ومالم يكن لو كان كيف يكون، (خبير) والخبرة: دقة العلم، فالله عز وجل علمه دقيق يعلم ما لا يعلمه أحد، ويرى ما لا يراه أحد سبحانه وتعالى.(235/7)
تفسير سورة السجدة [1 - 3]
القرآن العظيم كتاب الله عز وجل، أنزله لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولينذر الكفرة والمخالفين والعصاة بالعذاب الأليم، وليبشر المؤمنين بجنات النعيم.(236/1)
تعريف عام بسورة السجدة
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:1 - 3].
هذه هي السورة الثانية والثلاثون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى وهي سورة السجدة, وهي من السور المكية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ما عدا آيات ذكر أهل العلم أنها نزلت بالمدينة، وهذه الآيات هي: قول الله عز وجل: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [السجدة:18 - 19] إلى آخر ثلاث آيات أو إلى خمس آيات.
وقوله عز وجل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] إلى قوله: {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].
وأغلب آياتها مكية، وفيها خصائص السور المكية، والتذكير باليوم الآخر، والتفصيل لما يكون في يوم القيامة، وهي مناسبة جداً ليوم الجمعة، ويوم الجمعة هو اليوم الذي تقوم القيامة فيه، وفيه خلق آدم، وفيه أنزل إلى الأرض، وهو يوم عيد للمسلمين.(236/2)
الحكمة من قراءة سورتي السجدة والإنسان يوم الجمعة
إذا كانت القيامة ستكون في يوم الجمعة، ونحن لا ندري متى تكون، إلا ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم عن علاماتها التي تكون قبلها, فمن المناسب جداً أن تقرأ هذه السورة في كل يوم جمعة؛ ليتذكر الإنسان يوم القيامة, وما يكون فيه من حساب وعذاب، وما يكون فيه من جنة ونار؛ فلذلك كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة وسورة الإنسان في يوم الجمعة.
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في يوم الجمعة في صلاة الفجر ((الم * تَنزِيلُ)) -هذه السورة- السجدة، و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)) الإنسان).
وقراءة هاتين السورتين مقصودة، فأما السجدة فقد ذكر فيها خلق آدم وكيف بدأ الله عز وجل خلقه من طين، {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:8 - 9]، ثم ذكر كيف يكون مصير هذا العبد عند ربه يوم القيامة، وكيف يجازيه ويحاسبه على ما ذكر في هذه السورة.
وهذا واضح في سورة الإنسان من أول السورة، قال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]-أي: هذا الإنسان الذي يستكبر ويتعالى على ربه سبحانه تبارك وتعالى هلا تذكر أنه أتى عليه يوم من الدهر لم يكن شيئاً ولم يكن حتى تراباً؟! فقد كان عدماً ثم أوجد الله عز وجل هذا التراب، وخلق منه الإنسان.
فهلا تذكر الإنسان ذلك فانتفع بهذه التذكرة؟ ثم ذكر الله عز وجل في سورة الإنسان أمر الكافرين، وكيف يفعل الله عز وجل بهم، فقد أعد لهم سلاسل وأغلالاً وسعيراً.
وذكر كيف يفعل بالمؤمنين، وأنه يدخلهم جنات، {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} [الإنسان:15].
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:19].
إلى آخر ما ذكره الله سبحانه في هذه السورة.
فهاتان السورتان مناسبتان ليوم الجمعة، فيقرؤهما المصلي في صلاة الفجر أو يسمعهما، لما فيهما من التذكير بأن يوم الجمعة وإن كان عيداً للمسلمين الآن إلا أن الساعة ستقوم فيه، ومن التذكير بأن بدء خلقه كان في هذا اليوم، وأن إنزالهم من الجنة إلى الأرض كان في هذا اليوم، فيتذكر يوم الجمعة وما يكون فيه.(236/3)
الحكمة من قراءة سورة السجدة عند النوم
سورة السجدة كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نومه؛ لما فيها من العبر والتذكير بالموت وبالبعث يوم القيامة وبالجزاء وبالحساب.
ومن المناسب للإنسان عند نومه أن يتذكر ما الذي صنعه في هذا اليوم، ويتذكر أنه راجع إلى الله سبحانه، فينوي نية حسنة إذا أحياه الله عز وجل في اليوم التالي أن يؤدي الحقوق لأصحابها، وأن يعمل الخير ويزيد في صلاح نفسه بما يشاء الله عز وجل له.
فيتذكر بهذه السورة وما فيها.
فقد جاء عند الترمذي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ ((الم * تَنزِيلُ)) السجدة، و ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))).
فعلى ذلك يستحب قبل النوم أن المسلم يقرأ سورة السجدة ويقرأ سورة تبارك، فقد جاء في فضل سورة تبارك أنها المنجية من عذاب القبر، وأن عبداً كان يقرؤها في كل ليلة، فلما مات جاءت هذه السورة تدفع عنه عذاب القبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها في قبره حتى دفعت عنه العذاب).(236/4)
ذكر الاختلاف في عدد آيات سورة السجدة
بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بقوله: {الم}، بالحروف المقطعة الثلاثة.
وعدد آيات هذه السورة ثلاثون آية حسب عد أكثر القراء.
والبصريون يعدونها تسعة وعشرين آية.
فالخلاف في هذه الآية الأولى وهي: {الم} هل هي آية وحدها أم مع غيرها؟ فعدها أكثر القراء وحدها، وعدها البصريون مع قوله: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] آية واحدة.
وخلاف آخر في قوله سبحانه: {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10]، فوقف عليها أكثر القراء وقالوا: إنها رأس آية، ولم يقف عليها الباقون، وقالوا: إنها ليست رأس آية.(236/5)
الكلام حول الحروف المقطعة
الحروف المقطعة التي في أوائل السور من أسرار القرآن، ومهما تأمل الإنسان فيها وخرج منها بحكمة من الحكم فليس معنى هذا أن هذه هي الحكمة التي قصدها الله عز وجل.
وقد حاول العلماء أن يعرفوا لماذا ذكر هنا ألف لام ميم؟ ولماذا ذكر هنا ص؟ ولماذا ذكر كذا؟ وذكروا أنه من ضمن ما وصلوا إليه: أن الحرف الذي يأتي في أول السورة أو الأحرف التي تأتي في أول السورة تكون أكثر الحروف تكراراً في هذه السورة، وليس معنى ذلك أن أكثرها تكراراً في السورة لابد أن يكون هو الأكثر، لا، ولكن هو من أكثر ما يكون في السورة.
فمثلاً الذي يعد الحروف في هذه السورة سوف يجد أن الألف وهو أول حرف بدأه الله عز وجل في السورة تكرر مائتين وتسعين مرة تقريباً، فهو أعلى حرف تكرر في هذه السورة، واللام تكرر فيها مائة وواحداً وخمسين مرة، فهو من أعلاها وليس الأعلى؛ لأن حرف النون تكرر فيها حوالى مائة وثمانية وخمسين مرة، فهو أعلى منه, والميم أيضاً من أعلا الحروف التي تكررت في هذه السورة.
فكأنه إذا افتتح السورة بأحرف معينة فإن هذه الحروف تكون من أعلا ما يتكرر في هذه السورة.
فكأنه يقول: هذه الحروف من جنس ما تنطقون به، وقد ألفنا منها هذا القرآن، وجمعناه منها، فأتوا بقرآن مثله إن كنتم تقدرون على ذلك، فلم يقدروا على ذلك.
والغالب في كتاب الله عز وجل أنه إذا بدأ بأحرف مقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة أو بعدها بقليل إشارة إلى هذا القرآن العظيم.
فهنا قال: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة:1 - 2]، فذكر هذا الكتاب الذي هو حروف من جنس ما تنطقون به وأنه منزل من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
وأيضاً ذكر العلماء أن هذه الحروف في بداية السور تسمى بها السورة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقرأ ((الم تنزيل))).
فسميت سورة السجدة بسورة ((الم تنزيل)) السجدة.
وذكروا غير ذلك من الحكم التي أنزل الله عز وجل هذه الفواتح فيها.
ومما ذكروه أنها لجذب الانتباه؛ لأن العرب لم يكونوا معتادين عليها.
فإذا أراد أحد أن يكلم أحداً فإنه يكلمه بكلمة، وأما أن يكلمه بحرف فهذا نادر.
فعندما يأتي القرآن يقول لهم: ((الم))، ويقرؤها آية، والقرآن له طريقة في القراءة بالتجويد وبالترتيل، فعندما يسمعونه يتسألون: ماذا يقول؟! فينتبهون لما يقول، فيقول بعدها: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2]، فكأن من ضمن الحكم جذب الانتباه، وشد الناس الذين ليسوا معتادين على هذا الشيء، فيستمعون له.
وأيضاً ذكروا من ضمن الحكم أنها نزلت إشارة إلى أسماء الله الحسنى.
فقالوا: (الألف) من اسم الله، و (اللام) من اسم الله اللطيف، و (الميم) من اسم الله المجيد.
وهذا محتمل.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه مثل ذلك.
ولكن لا نقدر أن نقول هذا هو السبب الذي من أجله أنزل الله عز وجل هذه الأحرف في أوائل السور.
وغاية ما يمكن أن يقال: إن هذه أحرف مفرقة مقطعة في أوائل السور، والغرض منها تعجيز الخلق، وهي من أسرار كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى.(236/6)
القراءات الواردة في قوله تعالى: (الم)
قال تعالى: ((الم)) [السجدة:1].
قرأها الجمهور بالوصل فيها مع مد اللام والميم، وقرأها أبو جعفر بالوقف على كل حرف من الأحرف الثلاثة، فيقول: ألف.
لام.
ميم.
والغرض من ذلك: بيان أنها ليست كلمة واحدة، ولكنها ألف ولام وميم.
وكذا في كل فواتح السور.
ومنها نعرف أن طه ليس اسماً، ولكنه حرفان؛ لأن أبا جعفر يقرؤها: ط ها، فيقف على الطاء ويقف على الهاء.
وكذلك ياسين ليس اسماً، ولكنه حرفان؛ لأن أبا جعفر يقرؤها: ي سين، فيقف على الياء ويقف على السين؛ لبيان أن الياء حرف وأن السين حرف، وأنهما حرفان في أول السورة.
وأما لحديث الذي جاء مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لي عند ربي عشرة أسماء، فذكر منها: طه وياسين).
فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.(236/7)
تفسير قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه)
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2].
قوله: (تنزيل) مرفوع على الابتدأ أو على الخبر؛ فعلى الخبر يكون المعنى: هذا تنزيله, وعلى أنه مبتدأ يكون الخبر: ((لا رَيْبَ فِيهِ))، أو ((مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وقوله: (تنزيل) أي: منزل من السماء من عند رب العالمين، وفيه إشارة إلى أن الله سبحانه فوق سماواته سبحانه تبارك وتعالى، فنزل الكتاب من عنده سبحانه على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام الملائكة، وإنما هو كلام رب العالمين نزله سبحانه كتاباً إلى السماء الدنيا، ثم نزله منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كل حادثة من الحوادث ينزل من القرآن ما يحكم الله عز وجل فيه بين خلقه.
قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك في هذا التنزيل ولا شك في أنه كتاب رب العالمين سبحانه.
وجمهور القراء على عدم المد في اللام، ووجه عند حمزة أنه يمده مداً متوسطاً، فيقول: (لآ ريب فيه).
وهذا المد المقصود منه المبالغة في النفي, وكأن مده مبني على حكمة من الحكم، مثل كثير من القراء الذين ينقصون في مد الهمز المنفصل فإذا جاءوا عند كلمة: لا إله إلا الله يمدونها، ليس من أجل المد المنفصل، وإنما مبالغة في التعظيم الله سبحانه تبارك وتعالى، ونفي الشريك عنه سبحانه تبارك وتعالى، وحمزة العادة في المد عنده أنه يمد مداً طويلاً ست حركات، ولكنه هنا يمد مداً متوسطاً على أحد الأوجه عنده، فيقول: (لآ ريب فيه من رب العالمين).
وأيضاً كلمة (فيه) يقرؤها ابن كثير بإشباع كسرة الهاء التي في آخرها، ويقرؤها باقي القراء بالكسر فقط من غير إشباع.
والرب سبحانه هو الخالق المالك المدبر سبحانه تبارك وتعالى، الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، وهو المشرع الذي يشرع لخلقه.
فله الخلق وله الأمر وهو الرب سبحانه تبارك وتعالى.
والفرق بين الإله والرب أن الإله بمعنى: المعبود، والرب بمعنى: الخالق والصانع والفاعل سبحانه تبارك وتعالى.
ومقتضى الرب أن يعبد سبحانه تبارك وتعالى؛ لكونه يخلق ويرزق ويفعل أفعالاً يستحق بها أن يعبده الخلق فيؤلهوه.
والألوهية مقتضاها عبادة الخلق للرب سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه مستحق لذلك، فالربوبية مقتضاها أفعال من الرب سبحانه من أنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويدبر الأمر، وينبني على ذلك أنه يستحق أن يؤلَّه وأن يعبد وحده لا شريك له.
قال تعالى: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) والعالمين: كل ما سوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنس عالم، والجن عالم، والدواب عالم، والحشرات عالم، وعالم علوي، وعالم سفلي، فكل واحد منها عالم من العوالم، والله سبحانه هو الرب للجميع، وهو ملك الملوك سبحانه تبارك وتعالى، ورب العالمين.
قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2].
وهذه إذا وقف عليها يعقوب ومثلها الأسماء المجموعة جمع مذكر سالم يقول: العالمينه، بهاء السكت.
ومثلها في الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، إذا وقف عليها أبو جعفر ويعقوب فيقرآنها بهاء السكت في آخرها.
وقوله تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:2] يرد على من يقول: إنه سحر أو إفك مفترى أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين، فهو يرد عليهم ويقول: إن هذا كتاب رب العالمين سبحانه.(236/8)
تفسير قوله تعالى: (أم يقولون افتراه)
قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3]؟ أم هنا يسمونها بأم الإضرابية المنقطعة، كأنه يقول: أضرب عن هذا، وأنتقل من حديث إلى حديث آخر.
فكأنه يقول: إن هذا القرآن نزل من عند رب العالمين، ثم قال: انتظر ننتقل إلى شيء آخر، بل أيقولون: أفترى هذا القرآن؟! فالله عز وجل يخبر عن هذا الكتاب أنه نزل من عنده، ثم بعد ذلك يقول: أهؤلاء الكفار يزعمون أنك افتريت هذا القرآن علينا؟! فأم هنا تقدر ببل وبهمزة الاستفهام بعدها، بل أيقولون افتراه؟ أي: اختلقه وألفه من عنده عليه الصلاة والسلام، وحاشا له.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة:3].
فالقرآن كلام حق، وهو كلام رب العالمين نزل من عنده.
قال تعالى: (بل هو الحق من ربك {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} [السجدة:3].
وتنذر: تعلن مخوفاً.
والنذير: المعلن الذي يأتي ليخبر ويهدد ويخوف.
وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، مبشراً أهل التقوى وأهل الطاعة والإيمان بالجنة، ومنذراً ومخوفاً ومهدداً لأهل المعاصي والكفر والشرك بعذاب الله سبحانه.
قال تعالى: {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة:3].
فمن أيام المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم حوالى ستمائة سنة لم يأت نذير في خلال هذه الفترة.
فاندرس دين إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يعلم هؤلاء الكفار عنه شيئاً، فكانوا أهل فترة، فنزل القرآن ليهديهم إلى سبيل الله سبحانه.
قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة:3].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(236/9)
تفسير سورة السجدة [4 - 5]
يذكر الله تعالى قدرته العظيمة على خلق الأشياء وإيجادها، فقد خلق السماوات السبع والأرضين السبع وما يبنهما، فهذا يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبده الخلق، وهو الذي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا.(237/1)
تفسير قوله تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4].
يذكر الله سبحانه وتعالى قدرته العظيمة وخلقه للسماوات وللأرض وللإنسان، وكيف أن هذا من بديع قدرة الله سبحانه وتعالى، التي تدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبده الخلق، ولا يعبدون من لا يملك لهم شيئاً لا ضراً ولا نفعاً.
فالله سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش سبحانه.
وهو المعبود وحده الذي يستحق أن يعبد وحده، وهو الرب الذي مقتضى ربوبيته أنه يخلق، فخلقه كله عظيم، كله حسن، وكله متقن ومحكم، فيرينا من آيات خلقه السماوات والأرض، فالإنسان يعيش فوق هذه الأرض، وإن كانت الأرض عند السماوات لا شيء، ولكن لكون الإنسان فوق الأرض يعيش عليها، والإنسان يحاسب على ما يصنع فيها، وفي هذه الأرض آيات للموقنين، فالله عز وجل يذكر الإنسان بأنه خلق هذه الأرض وما عليها، وخلق غيرها من الكواكب والنجوم والشموس والأقمار، ولكن الإنسان يعيش على الأرض فيرى آيات الله عز وجل فيها، من جماد ونبات وحيوان وإنسان وطير، مما خلق الله عز وجل وذرأ وبث فيها، فيرى آيات قدرة الله سبحانه، ويتدبر ويتأمل في هذه السماوات وما فيها وما فوقها وما تحتها، والأرض وما فوقها وما تحتها، وما بين السماوات والأرض هذا كله خلق الله سبحانه وتعالى، فقد خلق هذا الخلق العظيم كله في ستة أيام، وهنا لم يذكر لنا أنها من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة، أيام الدنيا معلومة عندنا، وأيام الآخرة كل يوم بألف سنة مما نعد، ولكن كون ربنا سبحانه خلق السماوات وخلق الأرض في ستة أيام فكأنها من أيام الله عز وجل التي كل يوم عنده بألف سنة مما تعدون.
فيكون خلق السماوات والأرض في هذا القدر، في ستة أيام من أيام الله سبحانه وتعالى، وهو قادر على أن يخلق كل شيء في لحظة بقوله: كن، فيكون كل شيء كما أمر، ولكن أراد أن يرينا حكمته وصبره وحلمه، انظروا كيف خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وترك آدم وهو من تراب ومن طين حتى مرت به الملائكة وتستعجب ما هذا؟ وآدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مر به إبليس فرآه وهو أجوف، فأضمر في نفسه: لئن سلطت عليك لأغوينك.
ولو شاء سبحانه لخلق آدم بقوله: كن فكان آدم، ولم يتركه لا أربعين سنة ولا أقل ولا أكثر من ذلك، ولكن لحكمة من الله عز وجل يرينا مقتضى أسمائه الحسنى، وأنه الحليم، وأنه الحكيم، وأنه العليم، وأنه الصبور سبحانه وتعالى، فيحلم ويحكم الله سبحانه بعلمه وقدرته سبحانه، فيخلق ما يشاء ويمهل سبحانه وتعالى، وهو القادر على أن يوجد في لحظة واحدة.
قوله: ((الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)) وفصل لنا سبحانه وتعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9]، وهنا خلق الله عز وجل هذه الأرض في يومين، ودبر أمر هذه الأرض جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين.
إذاً: إيجاد الأرض كان في يومين، وتدبير أمر الأرض كان في أربعة أيام بما فيها الخلق.
وقال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت:11 - 12].
يعني: الأرض هذا الكوكب الصغير دبر أمره وأوجده الله عز وجل في أربعة أيام، وكان قادراً أن يقول: كن، فيكون في لحظة.
وهذه السماوات التي هي أعظم بكثير من الأرض، الأرض بجوار هذه السماوات كحلقة في فلاة، وعلماء الكون والفلك لما نظروا إلى هذه الأرض قالوا: هذه الأرض صغيرة جداً بجوار المجرة التي نحن فيها وتسمى بمجرة درب التبانة، هذه المجرة التي فيها الشمس وفيها القمر وفيها النجوم الموجودة التي اطلع العلماء على بعض ما فيها، قالوا: فيها أكثر من أربعمائة ألف مليون كوكب مثل هذه الأرض وأعظم منها، وفيها النجوم وغيرها من الأشياء.
ومنذ فترة قالوا: فيها مائة ألف مليون، والآن يقولون: فيها أربعمائة ألف مليون، والله أعلم بعد هذا ماذا سيقولون! هذا في هذه المجرة وحدها، فكم عدد المجرات التي في الكون؟! يقولون: هناك مليارات مثل هذا العدد من الكواكب الموجودة في هذه المجرة التي نحن فيها، ويقولون: عدد المجرات مثل ذلك، فيكون العدد مهولاً جداً من المجرات! إذاً: ما هي الأرض بجوار ما خلق الله عز وجل من كواكب وشموس وأقمار ومجرات؟ وخلق الله سبع سماوات، وقدر في كل سماء أمرها وتدبيرها.
وهذه المجرات التي نتكلم عنها هي تحت السماء الدنيا، وإذا تخيلنا أن الكون كله كأنه كرة، فكلما خرجنا إلى خارج اتسع واتسع، فهذه السماوات العظيمة أوسع بكثير من الأرض، فالسماء الثانية أوسع من السماء الدنيا, والثالثة أوسع، والرابعة والسابعة، وفوق ذلك سدرة المنتهى، هذا كون عظيم جداً خلقه الله عز وجل، وأرانا كيف أن هذا الكون كبيراً والله العلي الكبير سبحانه وتعالى وحده، فهو يرينا آيات لنستدل بها على عظمته سبحانه وتعالى، فهو العلي الكبير.
إذاً: خلق هذه السماوات العظيمة في يومين اثنين، وخلق الأرض هذا الكوكب الصغير في أربعة أيام! إذاً: هناك حكمة من خلق هذا الكوكب الذي يعيش عليه الإنسان، ليبتلى فيه هذا الإنسان، ثم بعد ذلك يصير إلى الجنة أو إلى النار.(237/2)
إثبات صفة الاستواء لله على عرشه كما يليق بجلاله
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] أي: الله خلق العرش، فكما أن السماوات مخلوقة، والأرض مخلوقة، والكائنات كلها مخلوقة، فكذلك العرش مخلوق، والله استوى على العرش استواء يليق به من غير تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل، نثبت له سبحانه وتعالى صفاته كما أثبتها لنفسه.
إذا تكلمنا على الخلق نقول: استوى الملك على كرسي عرشه، فيكون المعنى: أن الملك يستوي على سريره ويستوي على عرشه، وكل مخلوق من مخلوقات الله عز وجل يستوي على ما يجلس عليه بما يليق به أنه مخلوق، أما الخالق سبحانه وتعالى فلا يحتاج إلى شيء، وهو مستغن عن العرش وما دونه، وهو فوق كل شيء سبحانه ومحيط به، وهو سبحانه يمسك السماوات أن تزولا، فالله سبحانه استوى على العرش كما يليق به، فلا نقول: كيف استوى على العرش؟ وإنما نقول: استوى استواء يليق به سبحانه وتعالى.
ولا نحرف هذه الكلمة كما تحرفها المعتزلة وغيرهم، يقولون: استوى على العرش يعني: استولى على العرش، وهذا كلام باطل؛ لأننا لو قلنا: استوى بمعنى استولى لكان له خصم، وهذا الخصم يريد أن يأخذ منه هذا الشيء، فهو يستولي على هذا الشيء بقهره لخصمه، وحاشا لله عز وجل أن يكون له شريك في ملكه سبحانه، أو من ينازعه ملكه سبحانه، نقول: استوى بالمعنى الذي يفهمه كل إنسان من استواء الإنسان على عرشه على كرسيه، ولكن لا نكيف ولا نمثل ولا نقول: استواء الله على عرشه كاستواء الإنسان على كرسيه، لا، وإنما نقول: استوى استواء يليق به سبحانه، الكيف لا نعلمه، أما معنى الاستواء فمعروف.(237/3)
معنى قوله (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع)
قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [السجدة:4] يعني: الله سبحانه وتعالى الذي خلق هذا كله، فهو يرينا كمال قدرته وعظيم قوته، فهو القوي العزيز سبحانه، فكيف تلجأ إلى غيره سبحانه وتعالى؟ وكيف تطلب النصر من غيره؟ قال: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ)) الولي أصلها من الولي وهو القرب، ومنها: الولاية أي: ولاية الإنسان مع الآخر، تقول: هذا وليي وهذا مولاي، فالمولى والولي بمعنى القريب وبمعنى ابن العم، ويطلق عند العرب على هذا المعنى، فكأن المعنى هنا: ((مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ)) يعني: من قريب نسيب يتولى أمركم فينازع ويخاصم فيكم ربكم سبحانه وتعالى، وليس لكم مخلوق يشفع لكم عند الله سبحانه.
والشفيع من الشفع عكس الوتر، فالإنسان يأتي وحده يوم القيامة فلا يأتي معه من يشفع به ويشفع له، فأنت تقف وحدك أمام الله سبحانه ليس لك شفيع، إلا حين يأذن الله عز وجل لمن يشاء من خلقه بالشفاعة، أما قبل ذلك فالإنسان يكون وحيداً ليس له من دون الله عز وجل من يشفع له أو ينفعه.
ثم قال: ((أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)) التذكر عكس النسيان، ويأتي بمعنى التدبر وبمعنى العظة، فهلا اتعظتم بذلك؟! كل إنسان أتى إلى هذا الكون وهو وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده، ويحاسب وحده، وهذا الإنسان إذا كان في قبره يأتيه الملكان فيجلسانه ويسألانه، وهو الذي يجيب وحده، لا أحد معه يلقنه ويقول له: قل كذا، إلا رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، فهلا اتعظتم بذلك وتذكرتم فعبدتم الله وأخلصتم له دينكم؟!(237/4)
تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)
قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] التدبير: هو القضاء والقدر، أي: يقدر سبحانه فيدبر ملكوته في السماوات وفي الأرض، ويأمر بالأمر فتنزل الملائكة من السماء بأمر الله سبحانه، إلى الأرض، فهم ينزلون في يوم واحد من السماء إلى الأرض، هذا اليوم لو أن مخلوقاً من المخلوقات بقدرته كمخلوق أراد أن يقطع هذه المسافة بين السماء والأرض، بما آتاه الله عز وجل من قوة من دواب ومن صواريخ ومن طائرات وغير ذلك لسار فيها ألف سنة لا يقدر أن يقطع هذه المسافة، والإنسان مستيقن من ذلك، ويعلم أن بينه وبين بعض النجوم التي في السماء مقدار خمسة آلاف سنة ضوئية.
السنة الضوئية مسافة يقيس بها الإنسان، عندما يتعذر أن يقيس بالكيلومتر وأن يقيس بالميل فإنه يقيس ذلك بالسنة الضوئية، يقول: السنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم بمقدار أربعة وعشرين ساعة، والساعة فيها ستون دقيقة، والدقيقة فيها ستون ثانية، والثانية يقطع فيها الضوء مسافة ثلاثمائة ألف كيلو متراً في الثانية الواحدة، فإذا كان في الثانية الواحدة يقطع فيها ثلاثمائة ألف كيلو متراً، فكم يقطع في الساعة؟ وكم يقطع في اليوم؟ وكم يقطع في السنة؟ فالإنسان لا يستطيع ولا يقدر أن يقطع هذه المسافة الطويلة؛ لأن المقدار الذي بين نجم من النجوم وبين الأرض طويل جداً فكيف بالسماء التي فوق ذلك؟ وكيف بالسماء السابعة؟ ومع ذلك فأمر الله ينزل من السماء، ينزل به جبريل أو ميكائيل أو إسرافيل أو ملك من الملائكة في يوم واحد، ولو أنكم قطعتم هذه المسافة لما أدركتموها ولا في ألف سنة بما آتاكم الله عز وجل من آلات ومن قدرات، قال الله عز وجل: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] يعني: بأمر الله سبحانه وتعالى، فلا تقدرون أن تتجاوزوا قدركم ولا ما آتاكم الله عز وجل من أشياء، وهو يدبر أمره وينزل هذا الأمر الذي دبره وأحكمه وقضاه وقدره سبحانه وتعالى من السماء إلى الأرض.
ثم تعرج الملائكة إلى الله عز وجل فيخبرونه: تم كذا وتم كذا وعملنا كذا ورأينا عبادك وأتيناهم وهم يصلون، كل هذا والله أعلم به سبحانه وتعالى، وتأتي الملائكة لتشهد للخلق، لتكون شاهدة لهم أو عليهم يوم القيامة، فيقضون أمر الله في الأرض ويرتفعون إلى السماء في يوم واحد، وبين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، ولو أن الإنسان مشاها أو جراها كان بهذا المقدار، ولكن الملائكة في نصف يوم تنزل ونصف يوم تصعد إلى السماء، وتبيت فيكم ملائكة بالليل في وقت العصر ثم إذا كانوا في الفجر جاءت ملائكة أخرى من السماء وصعدت هذه التي باتت فيكم لتخبر ربها وهو أعلم سبحانه وتعالى، فيقول لمن أتوه: (كيف تركتم عبادي؟ يقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون) أي: نزلنا في صلاة العصر وهم يصلون وتركناهم الفجر وهم يصلون، فتشهد الملائكة عند الله.
وقوله: ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)) أي: تعرج إليه الملائكة أو من نزلوا بهذا الأمر من السماء إلى الأرض ((فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) يعني: من سنينكم؛ لأن السنة عند الله غير السنة التي عند الإنسان، اليوم الذي عند الإنسان مقدر بطلوع الشمس وغروبها، أما اليوم الذي عند الله سبحانه فهو بألف سنة من هذه السنين ومن هذه الأيام التي تعدونها عندكم، فالله سبحانه يرينا كيف أنه دبر ملكوته سبحانه، وكيف أن الكون عظيم جداً، فكيف بخالق الكون وعظمته، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(237/5)
تفسير سورة السجدة [5 - 7]
يبين الله عز وجل عظيم قدرته وخلقه، ومن أعظم دلائل قدرته أنه خلق السماوات السبع دون عمد، وخلق الأرض والجبال، وخلق الإنسان من ماء مهين، وكان أصل خلقته من تراب، كل ذلك خلق العزيز الرحيم الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه، وصوره في أجمل صورة.(238/1)
تفسير قوله تعالى: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:6 - 7].
لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في الآيات السابقة كيف أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، فذكر من خلقه العظيم السماوات والأرض والعرش، ثم ذكر أنه ليس للخلق من دونه من ولي ولا شفيع، إذا كانت هذه مخلوقات الله سبحانه تبارك وتعالى، خلقها وسخرها وسيرها وألزمها بما يريده سبحانه تبارك وتعالى، فأتت ربها طائعة خاشعة لله كما قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فهذه السماوات وهذه الأرض وهذه الجبال أقوى من الإنسان بكثير.
ولذلك يقول الله سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33].
فذكر أن الإنسان ضعيف بأصله وخلقته، ضعيف بما آتاه الله عز وجل من قوة، فهو ضعيف إذا قارن نفسه بهذه الأرض التي يعيش فوقها، والتي يموت فيدفن بداخلها، فلو أنه ضرب بقدمه الأرض ما استطاع أن يخرق الجبال، ولذلك قال الله عز وجل للإنسان: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] مهما أوتيت من قوة، ومهما أوتيت من شيء لن تقدر على أن تخرق الأرض إذا ضربتها بقدمك، بل تتقطع قدمك ولا تستطيع أن تخرقها، ولو أنك تطاولت ورأيت نفسك أطول من غيرك لن تبلغ طول الجبال، فارجع إلى نفسك وتب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا تغتر بنفسك.
وهنا يذكر خلق السماوات والأرض وخلق العرش العظيم، ثم يقول: مالكم من دون الله سبحانه من ولي ولا شفيع، والولي: القريب الذي يدافع عنك من أعمام أو إخوة أو بني أعمام ونحو ذلك، مالكم من دونه من ولي ولا أقرباء يناصرونكم، ولا شفعاء يأتون فيسترحمون من أجلكم إلا أن يأذن الله لمن يشاء، فتذكروا واعتبروا واتعظوا بذلك، أفلا تتذكرون قدرة الله سبحانه ومخلوقاته فتعرفون قدر ربكم سبحانه؟! {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].
ثم ذكر أنه سبحانه: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
((يُدَبِّرُ)) يقضي ويقدر وينزل سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: ((الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ)) فتنزل الملائكة بأمر الله سبحانه وتدبيره في كونه يأمرهم: افعلوا كذا وافعلوا كذا وأتوا بكذا فتنزل الملائكة بأمر الله، ويتعاقبون فيكم بالليل وبالنهار، فتعرج ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار، فهؤلاء يقضون النهار مع البشر، وهؤلاء يقضون الليل مع البشر، ويعرج كل منهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا النزول بأمر الله، وهذا العروج بالإخبار لله سبحانه تبارك وتعالى، وهذا القدر الذي ينزلون فيه لو أن مخلوقاً من مخلوقات الله عز وجل -غير الملائكة-أراد أن ينزل وأن يصعد بما آتاه الله عز وجل من سرعة ما قدر على ذلك في ألف سنة، ولكن الله جعل للملائكة القدرة على أن ينزلوا ويصعدوا في مقدار يوم واحد، فينزلون بالليل والنهار فيما لا يقدر عليه الخلق في مدة ألف سنة قال تعالى: ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)).(238/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة)
قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6] (ذلك) اسم إشارة للبعيد، والمقصود منه هنا التعظيم والإشارة للبعيد، فإذا أراد الإنسان أن يتكلم إما أن يقصد البعيد في مكان، وإما أن يقصد التعظيم، فقد يتكلم الإنسان عن شخص قريب منه فيقول: هذا، فإذا أراد تعظيمه يقول: ذلك، وهو قريب منه، فالله عز وجل يعبر عن نفسه سبحانه بـ (ذلك) لأنه الخالق العظيم سبحانه تبارك وتعالىز و (عالم الغيب والشهادة) قدم الغيب على الشهادة لأن الغيب خفي، فلا يدري الإنسان عن الغيب شيئاً إلا بما يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى، فـ (ذلك عالم الغيب) أي: ما غاب عنكم من أشياء غيبها الله سبحانه تبارك وتعالى فما غيبه الإنسان في ضميره وأخفاه فإن الله يعلمه سبحانه، يعلم ما سيفعله الإنسان ولم ينوه بعد فعلم الله علم غيب، يعلم ما كان في الماضي، وما سيكون في المستقبل، بل وما لم يكن، الشيء الذي لم يوجد يعلم أن لو كان كيف سيكون سبحانه تبارك وتعالى، فيعلم كل شيء، يعلم ما أسره الإنسان لغيره، وما أخفى من السر وغيبه في نفسه ولم يقله لغيره، وما هو أخفى من ذلك مما لم يعلمه الإنسان بعد، وسيعلمه وسيفعله بعد ذلك، فأنت لا تعلم ما الذي ستكسبه في الغد والله أعلم بذلك، وأنت لا تعلم متى ستموت؟ وأين تموت؟ وكيف تموت؟ والله يعلم ذلك سبحانه، فهو عالم الغيب والشهادة سبحانه تبارك وتعالى.
والشهادة: هي الشيء المشاهد، ما يشاهده الإنسان أمامه، والله يعلمه ويراه سبحانه تبارك وتعالى، وما خفي عن الخلق فالله عز وجل يعلمه، فهو عالم الغيب والشهادة (العزيز الرحيم)، هذا الاسم العظيم العزيز مناسب لما قبله، وكذلك الرحيم، فعالم الغيب لا يخفى عليه شيء مهما أراد الإنسان أن يخفيه ويغالب في إخفائه، فالله مطلع عليه لا يغلبه أحد أبداً، فالله هو الغالب الذي لا يغلب، والعزيز القاهر فوق عباده سبحانه الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن، ولابد أن يكون بأمر الله سبحانه، وهو العزيز الذي يقضي الشيء ولابد أن يكون على ما قضاه الله، فمستحيل أن يتخلف الشيء عما أراده الله عز وجل له، لا شيء يغالب الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا شيء يمتنع على الله سبحانه.
الله عز وجل رءوف ولطيف بعباده، فإذا ذكر ما يفيض القوة والشدة ذكر ما يفيض رحمته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، فهو عالم الغيب والشهادة، اطلع على غيب كل مخلوق، واطلع على ما يفعله ويشاهده غيره سبحانه تبارك وتعالى، فيحاسب كل إنسان على ما يفعله، والله هو العزيز الغالب يحاسب الكافر والظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، والله هو الرحيم يحاسب المؤمنين فيسترهم سبحانه تبارك وتعالى ويغفر لهم، ويتكرم عليهم بفضله ورحمته سبحانه، فهو عزيز رحيم سبحانه تبارك وتعالى، والرحيم صفة لله عز وجل فيها رحمته، وهو صيغة مبالغة، فهو الرحمن الرحيم، الرحمن: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، والرحيم: ذو الرحمة العظيمة الجليلة، فالرحمن يختص بالرحمة العامة العظيمة من الله عز وجل لكل خلقه، فيدخل فيها المؤمن والكافر بأن يعطيه ويرزقه ويتفضل سبحانه تبارك وتعالى على خلقه بالهداية ويمن وينزل عليهم كتابه، ويرسل إليهم رسولاً فيبين للإنسان الخير والشر، ويبين للجميع سبحانه تبارك وتعالى، فهو الرحمن سبحانه، ولما طلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من ربه قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] أهل البيت {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] فيرزق الله عز وجل الجميع، فهذا من رحمته سبحانه، فلم يخلق الخلق ليأتوا إلى الدنيا فلا يجدوا ما يأكلون، وإنما خلق هذا وهذا.
إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام طلب الرحمة للمؤمنين، وطلب الرزق لهم، فالله عز وجل أخبر أنه يرزق الجميع مؤمنين وكافرين، وهذا مقتضى رحمته سبحانه تبارك وتعالى، يرزق جميع خلقه، ويبين لجميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى رحمته.
وهو الرحيم برحمة خاصة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، فإن رحم الجميع في الدنيا بأن بين ورزق وأعطى لكن في الآخرة لا تكون رحمته إلا للمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] سبحانه تبارك وتعالى، فيرحمهم ويدخلهم الجنة، وأما الكافر فإن أعطاه الله رحمة في الدنيا فيوم القيامة مصيره إلى جهنم؛ لأنه لم يرع ذلك، ولم يقدر ربه سبحانه حق قدره، ولم يعبد ربه، بل أشرك بالله مع ما أعطاه فاستحق أن تكون نهايته في نار جهنم والعياذ بالله قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].(238/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)
قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] كل خلق الله حسن، وكل خلق الله يليق بما خلقه الله عز وجل له، فخلق الإنسان وسواه فعدله، وجعله يمشي على رجلين منتصباً قائماً، وجعل الإنسان على هيئة معينة تليق بهذا الإنسان الذي كرمه الله سبحانه تبارك وتعالى، وخلق الحيوان على هيئة معينة تليق بهذا الحيوان، وخلق الطير والدواب والحشرات وكل مخلوق من خلقه سبحانه خلقهم فأحسن خلقته سبحانه على ما يليق بهذا المخلوق.
{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إذا رأى الإنسان شيئاً قبيحاً فيقال له: هذا وإن كان قبيحاً هل تقدر أن تخلق مثله؟! الله عز وجل له في كل شيء آية، فيخلق الخير والشر سبحانه، ويخلق الشيء الدميم والقبيح، لولا وجود القبيح ما علم الإنسان قيمة الجمال، فلو كل شيء جميل في نظرك ما عرفت قيمة هذا الشيء الجميل إلا بأن يخلق الله عز وجل ضده، ولا عرفت قيمة الصحة التي أنت فيها إلا أن يخلق الله عز وجل المرض، ولا عرفت قيمة البياض وجماله إلا أن يخلق الله عز وجل السواد، فتقارن بين هذا وذاك, ولذلك يقولون: والضد يظهر حسنه الضد (وبضدها تتميز الأشياء)، فالشيء لا يتميز عن غيره إلا بالضد الذي يوجد، فيعرف الإنسان قيمة هذا وقيمة هذا.
الله سبحانه تبارك وتعالى قد خلق هذا كله فأتقن كل شيء خلقه وأحكمه وأحسن فيه، فكل خلق الله سبحانه بإضافته إلى الله فهو حسن، وكل خلق الله عز وجل بإضافته إلى الله فهو خير من الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن كان في الدنيا هذا خير وهذا شر، الكافر هذا شر، ولكن الله عز وجل خلقه لخير يعلمه سبحانه تبارك وتعالى، يخلق هذا الكافر ليبتلي به المؤمن ويرتفع في درجات الجنة، وإلا فكيف سيبتلى إن لم يوجد هذا الكافر ليؤذي المؤمن وليجاهده ويكتسب الثواب والحسنات والدرجات عند الله؟! فيكون الله عز وجل هو الذي خلق هذا وخلق هذا، فهذا خير من هذا.
قوله: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)) هذه قراءة الكوفيين، وقراءة نافع أيضاً، وهذا فعل، وقراءة بقية القراء ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ)) ف (خَلَقَهُ) فعل، و (خَلْقَهُ) مصدر، وكأن المعنى على الأول: الذي أحسن كل ما خلقه عز وجل، فقد أحسنه أي: أتقنه وأحكم في صنع هذا الشيء الذي أوجده سبحانه وتعالى.
إذاً: أحسن كل شيء في الخلق والإيجاد من العدم، فكل شيء أوجده الله سبحانه تبارك وتعالى فقد أحسن في إيجاده، وقد ينظر الإنسان في الشيء ويقول: لماذا هذا الشيء خلقه الله عز وجل هكذا؟! وهو لا يدري أن هذا فيه نفع للإنسان من حيث يدري ومن حيث لا يدري، فكل مخلوق في هذا الكون إنما هو مخلوق لحكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، حتى إن بعض علماء الحشرات من أكابر العلماء يقولون: لولا وجود العنكبوت لفني الإنسان ومات! فوجود هذا العنكبوت يعمل توازناً في البيئة التي هو موجود فيها هذا الإنسان، فهو لا يدري إلا فيما يشاهده أمامه هذا عنكبوت يؤذيني ويضايقني ويعمل كذا ولكن لا يدري أن هذا مخلوق خلقه الله عز وجل لحكمة منه سبحانه، ولنفع أراده الله سبحانه، أنت اطلعت عليه أو لم تطلع عليه، فإن الله هو عالم الغيب والشهادة سبحانه وتعالى، فالإنسان يحتاج إلى هذا الشيء، وإذا قضى عليه سيجد أنه خسر أشياء أخرى من ورائه، فهذا العنكبوت يقضي على أشياء كثيرة تؤذي الإنسان، والعنكبوت يتكفل بأمر الله عز وجل بأن يقضي عليها.
كذلك الإنسان ينظر إلى النمل على أنه مؤذ فيزيله ويبعده، والله عز وجل يخلق الشيء لحكمة من الحكم سبحانه تبارك وتعالى، وينهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، ويقول العلماء: إن هذه النملة من فوائدها التوازن البيئي، فيقضي على أعداء للإنسان بحيث يأكلها، ويقضي على أشياء من فطريات تصيب طعام الإنسان فتؤذيه، ولعل عدم وجود هذا النمل يفسد على الإنسان أطعمة كثيرة جداً، كان النمل سبباً في أنه يقضي على ما يتلف هذه الأطعمة.
وقد ذكرنا أن أهل اليمن يأتون بالنمل من الغابات، يقطعون فروع الشجر المليئة بالنمل وينقلونها على ظهور الجمال إلى الحدائق التي فيها البرتقال واليوسفي وغيرها من الفواكه؛ وذلك لأجل أن يقضي النمل على أشياء من فطريات موجودة في هذه الأشجار التي تؤذي الإنسان وتفسد عليه الفواكه، فالنمل يقضي على أعداء هذه الفواكه فيستفيد الإنسان من طعامه وشرابه.
فهذه حكم عظيمة من حكم الله سبحانه، والإنسان قد يعرف بعضها، وقد يغيب منه الكثير من هذه الأشياء فيقول: لماذا خلق الله عز وجل هذا الشيء؟ والله يقول: (لا يسأل عما يفعل) سبحانه تبارك وتعالى، فلا تسأل الله عز وجل لماذا خلقت؟! وإنما تقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فالله هو الذي أحسن كل شيء خلقه.
ورد أن عبد الله بن مسعود صعد إلى شجرة من أشجار الأراك يجني من ثمارها للنبي صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الصحابة وضحكوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (علام تضحكون؟ قالوا: نعجب من دقة ساقيه) عبد الله بن مسعود كان قصيراً ونحيفاً جداً، فتعجب الصحابة من نحافته وضحكوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن خلق الله كله حسن سبحانه تبارك وتعالى، وأخبرهم لعل هذه القدم التي تنظرون إلى نحافتها أثقل من جبل أحد.
رجل آخر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لبس ثوباً يجره على الأرض، فأمره برفع ثوبه إلى أنصاف ساقيه، فالرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حمش الساقين أي: فيها شيء من الاعوجاج، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله حسن) خلق رجليك نحيفة أو معوجة فكل ما خلقه الله فهو حسن، افعل ما أمرك الله به من ألا تجعل ثوبك سابغاً، فإن الله لا يقبل صلاة إنسان قد أطال ثوبه حتى وصل إلى الأرض.
الله {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7] سبحانه تبارك وتعالى، والله هو الذي بدأ خلق الإنسان من طين، وأصل الإنسان هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وآدم خلق من طين، فبدأ خلق الإنسان من طين بعد أن كان عدماً، وخلق الله من آدم هذا الإنسان الذي يخاصم ويجادل ربه سبحانه تبارك وتعالى بالباطل، قال: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] ثم جعل نسل هذا الإنسان الذي هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من سلالة من ماء مهين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(238/4)
تفسير سورة السجدة [6 - 7]
إن الله تعالى له العلم المطلق سبحانه، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم كل ما غاب ويعلم كل ما حضر سبحانه، فعلمه بخلقه دقيق، ولذا كان كل خلقه حسن، وكان الإنسان المخلوق من طين أحسن الخلائق على وضاعة أصله، فسبحان الله الخالق الحكيم!(239/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك عالم الغيب والشهادة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:6 - 8].
يخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن نفسه سبحانه أنه: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، الذي يعلم ما خفي عن الخلق وما ظهر لهم، الذي يعلم كل شيء ظاهراً وباطناً سبحانه، وأخبر أنه {الْعَزِيزُ}، الذي يقدر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وأنه (الرحيم) الذي يرحم من يشاء من خلقه سبحانه.
قال سبحانه عن سعة رحمته: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فهو الرحيم الذي يسع برحمته كل شيء، وقد خلق آدم وذريته، ليري عباده مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإنه هو الذي يخلق، وهو الذي يرزق، وهو الذي يحيي، وهو الذي يميت، وهو الذي يرشد ويهدي، وهو الذي يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ثم يميتهم ثم يبعثهم من قبورهم، ويحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم.
مقتضى أسماء الله الحسنى سبحانه تبارك وتعالى أفعال وصفات له سبحانه يفعلها الله عز وجل فيرينا قدرته الباهرة وعظمته القاهرة، ولو سئل العبد عن ذلك كله؟ يجيبه القرآن: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [السجدة:6].(239/2)
تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)
قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، كل خلق لله عز وجل حسن، وكل خلق الله عز وجل إذا تأمله العبد وجد القدرة العظيمة، والخلق البديع له سبحانه تبارك وتعالى، يجد ذلك في الصغير والكبير؛ في القليل والكثير، في الشيء الذي يراه الإنسان كبيراً عظيماً أو صغيراً حقيراً، فقدرة الله عز وجل ظاهرة في كل شيء، فهو {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فالطين هو أصل الإنسان، منه خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعد أن كان عدماً، فقد أوجد الله عز وجل الماء ثم أوجد التراب ثم أوجد الطين، ومنه خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله عز وجل يباين بين خلقه أصلاً وشكلاً ونوعاً وكماً، فهو يخلق خلقه مما يشاء، فقد خلق الملائكة من نور {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15]، وخلق آدم من تراب، ثم خلق ذريته منه، وقد وصف الله سبحانه آدم عليه السلام في أكثر من موطن في القرآن الكريم منها قوله سبحانه: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، وقوله: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26]، وقوله: {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن:14]، وقوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ} [السجدة:7] أي: جنس الإنسان.
وقد ذكر الله عز وجل في القرآن، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وأنه نفخ فيه من روحه سبحانه تبارك وتعالى.
فبيان القرآن وبيان السنة يدل على أن آدم عليه السلام معجزة من المعجزات العظيمة، وآية من الآيات الباهرة التي تشهد بقدرة الخالق العظيم سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا كان كل إنسان مخلوق من أبوين: أب وأم، فقد يرينا الله عز وجل قدرته العظيمة بأن يجعل من البشر من يخلق بغير أب كالمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو مخلوق من أم فقط، فأرانا الله عز وجل في خلقه آية من عظيم آياته.
وإذا تعجب الإنسان من أن الله عز وجل خلق المسيح عليه الصلاة والسلام من أم فقط فإن الله عز وجل يقول: إن هذا ليس بأعجب من خلق آدم، فقد خلقته من غير أب ولا أم!(239/3)
شبهة القول أن لآدم أباً والرد عليها
من العجب ما تسمعه من بعض المتحذلقين الذين يتكلمون في خلق آدم عليه السلام ويقولون: إن آدم له أب وأم قبل ذلك، وكأنه ينكر ما يقوله القرآن! ومما يزيد الأمر عجباً أن الذي يتكلم بذلك رجل من الدكاترة وأستاذ في القراءات! وصدق معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه حين كان يقول: اتقوا زيغة الحكيم، فقد يكون الإنسان عالماً من العلماء وفجأة يخترع شيئاً من الأشياء العجيبة التي لم يقلها أحد قبله، فتعجب! ويقول قولاً يعارض القرآن كقول من يقول: إن آدم له أب وأم معارضاً قوله عز وجل: {بَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7]، والإنسان الذي خلق من طين هو آدم عليه السلام، وهو الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه سبحانه تبارك وتعالى، كما يدل على أنه لم يكن قبله بشر، وإنما خلق قبل آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الملائكة والجان، ويدل على أن الجن خلقوا قبل الإنس أنه لما أراد الله أن يخلق آدم أعلم الملائكة بذلك، فاعترضت وقالت لربها: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، فقد ذكر أهل التفسير أن الجن سكنوا الأرض قبل الإنس وسفكوا الدماء وكان هذا سبب اعتراض الملائكة كما تقدم، ولكنهم في اعتراضهم لم يذكروا أن إنساناً جديداً قد قطن الأرض، فلا حاجة لخلق إنسان آخر.
ثم بعد أن خلق آدم عليه السلام من الطين من غير أب ولا أم خلق حواء من ضلع من أضلاعه، وليس معنى أنه خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم أن يكون الذكور نقص من أضلاعهم ضلع، ولكن خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وكيف خلقت منه؟ هذا أمر الله عز وجل لم يطلعنا عليه، وليس بالضروري أنه إذا خلقت من ضلع من أضلاع آدم أن يكون نقص من آدم ومن ذريته شيء! إذ لم يثبت في ذلك شيء.
ومن الأدلة على أن حواء خلقت من آدم ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء)، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم قال: (إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج)، فهذا حديث في الصحيحين، ومن ينكر مثل هذا الحديث ويقول: إنه عالم في القراءات، لنا أن نسأله من أين أخذ علم القراءات إلا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الذي روى القرآن هو الذي روى لنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا جاء إنسان ينكر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: لم يصح هذا الحديث نقول: هذا يشكك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشكك في السنة يشكك بعد ذلك في القرآن؛ لأن الذين رووا لنا السنة هم الذين رووا لنا القرآن، فكيف يأخذ بهذا ويترك بهذا؟ لذلك نقول ما قاله معاذ رضي الله عنه: اتقوا زيغة الحكيم، وهذا الأثر رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي إدريس الخولاني - واسمه عائذ الله - عن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كان معاذ لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون المتشككون في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، قال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، وهذا أثر عجيب لا يقال من قبل الرأي، فإذا قاله معاذ فإنه لا يقوله من قبل رأيه، فإنه لا يعرف الغيب لكي يقول هذا الشيء، وبذلك علم ضرورة أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فساقه معاذ رضي الله عنه، والإسناد صحيح إلى معاذ بن جبل وهو سلطان العلماء رضي الله عنه، وسابق العلماء إلى الجنة.
قال معاذ رضي الله عنه: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر.
وفيه أن الله عز وجل يفتح على الناس من المال، ويفتح عليهم بحفظ القرآن حتى يحفظ القرآن الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والحر والعبد، قال: فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟! ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع! قد يكون الإنسان حافظاً للقرآن ذا علم به، فحينما يرى الناس لا تتبعه، يفكر في إحداث شيء يلفت انتباههم إليه، كأن يغني لهم القرآن بطريقة من طرق الألحان التي لا تعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه في قراءة القرآن.
يقول معاذ: فإياكم ما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلال، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، يعني: أن إنساناً قد يكون حكيماً، إلا أنه يسقط أو يهوي في براثن شبهة من الشبه، فيحدث أمراً ما جاء قبل ذلك في دين الله عز وجل، ويظن أنه أتى بشيء حسن، وقد يقع العكس فقد يكون الإنسان منافقاً، ويتكلم بالحق مرة فجأة.
يقول الراوي عنه: قلت لـ معاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات، يعني: قد يكون الإنسان عالماً من العلماء، وفجأة يأتي بقول جديد ما قيل قبله، كهذا الدكتور الذي ظهر علينا فجأة ليقول: آدم كان له أب وأم قبل، هل له أن يرينا أين هذا في القرآن؟ فإن قال: القرآن ما نفى، نقول: ولم يثبت القرآن ما تقول، والأصل في العلم الإثبات وليس النفي، فإذا كان القرآن لم ينف ذلك لكنه لم يثبت هذا، فنقول: القرآن سكت عن هذا أو تكلم فيه، أي هل القرآن ذكر قبل آدم وجود أب وأم لآدم قبل ذلك أم سكت عنه؟ فإذا قال: تكلم فيه، نقول له: أين في القرآن ما تكلم به؟ فإذا قال: سكت القرآن عن ذلك، نقول: إن سكت القرآن أفلا يسعك أنت السكوت، وإذا كان القرآن لم يتكلم في ذلك، أفتتكلم أنت في ذلك بغير علم أم أنك تتكلم في هذا للشهرة؛ لكي يقول الناس: قال الذي ما قيل وأتى بالذي ما أُتىَ به قبل ذلك؟ فهذا أتى بشيء في الدين لم يقله الله عز وجل، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع في مخالفة الكتاب والسنة ووقع في الضلال، وإني لأتساءل ما الذي يدفع المسلمين إلى ذلك؟ وإذا كان من يقول ذلك من علماء المسلمين فكيف بآحاد الناس، وكيف بالمستشرقين الذين لا يألون جهداً في الطعن في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد اتبع الناس بعضهم في دين الله عز وجل، وتركوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء العلماء بالبدع فقد ضاع دين الله ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول معاذ رضي الله عنه: اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، والمراد بالمشتهرات الشيء الذي يشتهر به بين الناس ولم يقله أحد قبله، يقول معاذ: التي يقال لها: ما هذه؟ أي: التي تنكرها القلوب، وينكرها أصحاب العقول، ثم يقول: ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلقى الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقد ذكر الله آدم في مواضع كثيرة من كتابه سبحانه، ولم يذكر سبحانه أن لآدم أباً ولم ينفه عنه إنما ذكر أن بدء الخلقية من البشر آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأنه أول من علمه الله سبحانه أسماء كل شيء، وليس هناك ما يثبت ما يقوله دكتورنا المتحذلق وغاية ما يستدل به قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33] حيث يزعم أن آدم كان في مجموعة ثم اصطفى الله منهم آدم، والرد على ذلك أن نقول: اصطفى آدم من البشر كبشر، فكل البشر إذا جاءوا يوم القيامة يجدون آدم قد اصطفاه الله عز وجل وفضله على غيره، كما تدل الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وليس معناه إن آدم كان موجوداً في مجموعة من البشر ثم اصطفاه الله من هذه المجموعة، بل خلقه الله عز وجل من التراب كما أخبر سبحانه، وأخبر أنه علمه الأسماء فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31].
فالملائكة لا تعلم إلا ما علمها الله سبحانه، وقد فضل الله آدم عليها وعلمه أسماء الأشياء، ولو كان قبله أب وأم لكان أبوه وأمه هما اللذان علماه هذه الأسماء كما يعلم البشر آباؤهم وأمهاتهم، ولكن لكون آدم لم يكن قبله لا أب ولا أم فقد اصطفاه الله وعلمه، فالله هو الذي خلقه من تراب وجعله آية من آياته، وهو الذي علمه أسماء كل شيء سبحانه فقال للملائكة: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:31 - 33].
ثم ذكر الله عز وجل في القرآن ابتلاء آدم عليه السلام فقال: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة:35]، فلو كان لآدم أب لتساءلنا أكانوا في الجنة أم كانوا في الأرض أم كانوا في كوكب من الكواكب الأخرى؟ كيف عاشوا وكيف جاء آدم منهم؟ وكيف انفصل آدم عنهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ لم يذكر لنا القرآن مثل هذه الأشياء، وإنما الذي ذكره القرآن أن الله عز وج(239/4)
تفسير سورة السجدة [6 - 9]
إن الله يعلم كل ما غاب عن المخلوقات، ويعلم ما يشاهدونه من باب الأولى، وهو العزيز الذي لا يغالب، الرحيم بعباده المؤمنين، والله سبحانه أتقن كل شيء خلقه، وخلق أبا البشر آدم من طين ثم جعل نسله من ماء مهين محتقر، ثم شرفهم بأن نفخ فيهم من روحه، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وقليل من عباد الله هم الذين يشكرون الله عز وجل على هذه النعم العظيمة.(240/1)
تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:6 - 9].
ذكر الله سبحانه وتعالى من صفاته أنه عالم الغيب والشهادة وأنه العزيز الرحيم، والله هو الذي خلق والذي رزق وهو رب العالمين سبحانه ومن صفاته، أنه يعلم الغيب أي: ما غاب عن الخلق، ويعلم الشهادة أي: ما يشاهده المخلوقون، فالله يعلم ويطلع على ذلك كله، ويجازي على ما يعمله الإنسان وعلى ما ينويه، والعزيز هو الغالب، والرحيم هو الذي يرحم عباده، ويرحم المؤمنين برحمته العظيمة الواسعة.
وهنا ذكر الله سبحانه من صفاته العزة والرحمة سبحانه والعلم، والله بعلمه خلق كل شيء، وبقدرته سبحانه وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر أوجد كل شيء وسخر كل شيء ودبر كل أمر.
وهو الرحيم الذي يرحم عباده إذا جازاهم بفضله وبرحمته سبحانه وتعالى، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.
والله عز وجل أحسن كل شيء خلقه، فهو العزيز أمره أن يقول للشيء: كن فيكون على النحو الذي يريده سبحانه، لا يتخلف عما يريده الله سبحانه، ولا يكون على شيء آخر خلاف ما أراده سبحانه، فهو الذي أحسن أي: أتقن صنع كل شيء أوجده وخلقه.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] أي: بدأ خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام من طين.(240/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)
قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] أي: ذريته.
{مِنْ سُلالَةٍ} [السجدة:8] إذاً آدم خلق من طين، ونسل آدم من سلالة، من ماذا هذه السلالة؟ قال: {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8].
والسلالة هو الشيء الذي يسل من الشيء، وسل الشيء من شيء أي أخرج منه، ودائماً تطلق على الشيء الذي يكون مائعاً وليس بجامد فإذا وضعت في يدك ماء انسل من بين أصابعك، فكذلك خلق الإنسان فقد خرج من المني الذي يخرج منساباً من ظهر الإنسان بأمر الله سبحانه وقدرته، فيطلق على الشيء الذي يخرج خروجاً رقيقاً من شيء آخر سلالة.
فيقول العلماء: إن السلالة هي التي سل منها الأشياء، فالإنسان مخلوق من تربة الأرض، آدم مخلوق من طين، وذرية آدم فيهم من هذا الطين، وكل إنسان مخلوق من تربة معينة فإذا مات الإنسان رجع إلى التربة التي خلق منها، فالله عز وجل خلق الإنسان من تربة من الأرض في البلد الفلانية، فإذا جاءت وفاة هذا الإنسان لابد وأن يموت في هذا المكان الذي كانت منه أصل تربته كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فكأن كل إنسان مأخوذ من تربة معينة من الأرض ومن مكان معين، فمن الناس من هو صعب ومنهم من هو سهل بحسب ما أخذ من تراب هذا الإنسان، من جبل صعب، من مكان وعر، من مكان سهل، فيكون خلق الإنسان على ما خلق منه من تراب هذه الأرض فمنهم السهل ومنهم الصعب، ومنهم الطيب ومنهم الرديء، ومنهم الحلو ومنهم الخبيث، بحسب ما أخذ من تراب الأرض التي خلق منها، فكأن السلالة بمعنى التراب الذي خلق منه يسل من كل مكان وبمعنى المني؛ لأنه ينسل من الإنسان ويخرج منه خروجاً رقيقاً وقالوا: السلالة ما سل من صلب الرجل ومن ترائب المرأة، يعني من مني الرجل ومن بويضة المرأة، خرج هذا فانسل من هنا وهذا من هنا فالتقيا فكان الإنسان كما يسل الشيء من شيء آخر.
كذلك يطلق على الإنسان أنه سليل، بمعنى مسلول فيقال: للإنسان هذا سليل كذا يعني من نسل كذا، ومعنى السليل؛ أنه خلق من سلالة وهو الماء الذي يسيل والمقصود منه المني، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى هذا الخلق ودبر أمر نسله.
{مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] يعني: من المني الذي يعتبره الإنسان شيئاً حقيراً لا يهتم له، فإذا خرج منه وأصاب ثوبه لزمه أن يغتسل من المني ويغسل ثوبه منه لأنه يستقذره، فأصل خلقة الإنسان هو ما يستقذره من نفسه وهو المني.(240/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه)
قال الله: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] أي: الله سبحانه وتعالى {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] فالله الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى.
والخالق يقدر الشيء لأنه المقدر، والإنسان حين يتكلم عن صنع شيء بين البشر يقول: المبنى الفلاني اعمل فيه كذا واعمل كذا واعمل كذا، هذا الخلق بمعنى التقدير.
ثم البرء الإيجاد، ثم إعطاء الصورة لهذا الشيء ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى فهو الخالق البارئ المصور سبحانه.
والخالق هو الذي يقدر الشيء فيكون على ما قدره سبحانه، ومستحيل أن يتخلف عما قدره الله، الإنسان هذا طويل وهذا قصير، هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، هذا فيه كذا وهذا فيه كذا يقدر الشيء فيقول: كن فيكون على ما قدره الله سبحانه، فهو الخالق.
البارئ الذي أوجد الشيء من عدم.
المصور الذي أعطى للمخلوق الصورة التي هو عليها، هذا صورته كذا وهذا صورته كذا، فإذا جاءت كلمة الخالق وحدها فإنها تعني هذه المعاني كلها، فإذا جمعت هذه الأسماء له سبحانه الخالق البارئ المصور ففيها المعاني التي ذكرنا خلق، قدر، برأ، أوجد من عدم، صور، أعطى الصورة للمخلوق فجعله على هيئته التي أراد الله سبحانه وتعالى.
جعل الإنسان سوياً يمشي على قدميه، منتصباً في قامته، مستوياً في خلقته، جميلاً، فالله هو الذي سواك فعدلك سبحانه.
{وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:9] نفخ في آدم من روحه سبحانه، ونفخ في بني آدم من روحه، فكل إنسان يوجده الله سبحانه يخلق في بطن أمه فيمكث نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يحوله الله سبحانه وتعالى إلى عظام وإلى لحم على هذه العظام، ويرسل الملك فيأمره بنفخ الروح في هذا المخلوق.
فشرف الله عز وجل الإنسان بأن نفخ فيه من روحه، ونسب الروح إليه سبحانه وتعالى، وكل شيء ينسب خلقه إلى الله سبحانه، فهذه سماؤه سبحانه، وهذه أرضه، وهذا مسجده، وهذا بيته، وهذا يختص بالله سبحانه وتعالى وهذا عبده أي: أنه عبد لله سبحانه وتعالى.
إذاً المقصد أن كل شيء خلقه الله فهو مختص بربه سبحانه وتعالى، فينسب إلى ربه سبحانه، وسماء الله يعني السماء التي أوجدها الله وخلقها الله، وأرض الله يعني: الأرض التي أوجدها الله وجعلها للبشر يعمرونها ويعيشون فوقها وينتفعون بما فيها، ونسبت إلى الله سبحانه لأنه هو الذي خلقها، وهو الذي أوجدها، فهذا خلق عظيم أوجده الله سبحانه فشرفه بنسبته إليه سبحانه.
كذلك روح الله سبحانه معناه: روح أوجدها الله وخلقها الله وجعلها سراً من أسراره لا يطلع عليها أحد أبداً، ولذلك قال في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] أي: مستحيل أن تصل إلى معرفة ما هي الروح؟ فالروح من الله سبحانه خلقة، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن أوجدها وجعلها حيث شاء، فهذا آدم وهذه ذريته فيهم من روح الله أي من الروح التي أوجدها وخلقها سبحانه وشرفها بهذه النسبة روح الله سبحانه وتعالى.
والمسيح ابن مريم من ذرية آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، نفخ الله عز وجل فيه من روحه سبحانه، فليست له مزية على غيره في أمر الروح، آدم نفخ فيه من روح الله، والبشر نفخ فيهم من روحه سبحانه، والمسيح نفخ فيه من روحه، فليس في هذا حجة للنصارى الذين قالوا: عندكم في كتابكم أن المسيح هو روح الله، فإن في كتابنا أن آدم نفخ فيه من روح الله، وأن البشر نفخ الله عز وجل فيهم من روحه، وليس المسيح وحده، فليس لهم حجة في قولهم: المسيح هو الله حيث نفخ فيه من روحه، وهو كلمته، فهو ابن الله، وهو من الله عز وجل إذاً هو ثالث ثلاثة، وهو خالق وليس مخلوقاً! فنقول لهم: في القرآن ذكر الله عز وجل أن آدم نفخ الله فيه من روحه، وذكر البشر أنه نفخ فيهم من روحه، وذكر المسيح أنه نفخ فيه من روحه فلا مزية لأحد على أحد فكلهم فيهم من روح الله سبحانه وتعالى.(240/4)
ذكر الروح في كتاب الله
وقد ذكر الله عز وجل الروح في مواضع من كتابه، منها قوله سبحانه في سورة الحجر {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:26 - 29].
فأبو البشر آدم خلقه الله من صلصال، ثم نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى، قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] أي من روح عندي خلقتها وشرفتها وأكرمتها وطهرتها وجعلت فيها من رحمتي وأودعتها في هذا الإنسان المخلوق.
كذلك في سورة ص ذكر الله عز وجل مثل ذلك، قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص:71 - 72] فإذا جاء ذكر المسيح مرة أنه روح الله سبحانه فقد جاء ذكر آدم مرات أنه نفخ فيه من روحه سبحانه وتعالى.
كذلك كلمة الروح في القرآن تأتي بمعنى جبريل الملك، يقول الله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، فجبريل روح من الله، خلقها الله سبحانه وتعالى وقدسها فأضاف هنا والإضافة هي من إضافة الموصوف إلى صفته، يقول الله في جبريل عليه السلام {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [النحل:102] أي الروح المقدسة المطهرة التي طهرها الله، وكل الملائكة قد طهرهم الله سبحانه عن المعاصي وعن الأدناس وعن الأكل والشرب وغير ذلك، فالملائكة خلقهم الله سبحانه وتعالى كما يشاء، خلقهم من نور، وسمى جبريل بروح القدس، وفي موضع آخر في سورة الشعراء يقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193] وجبريل عليه السلام روح الله سبحانه وتعالى أي روح خلقها الله وشرفها وطهرها وقدسها، فهذا جبريل روح من عند الله سبحانه، وهو مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
كذلك يسمي ربنا سبحانه الوحي الذي نزل من السماء روحاً من الله سبحانه؛ لأن به حياة الخلق، فقد كانوا ميتين في الضلالة، بعيدين عن ربهم، منغمسين في الكفر كالأموات، فأحياهم الله عز وجل بهذا الوحي العظيم الذي نزل من السماء، قال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر:14 - 15] الروح هنا هو الوحي المنزل بأمر الله عز وجل على من يشاء من عباده سبحانه.
كذلك ذكر جبريل في سورة النبأ فقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] فسماه ووصفه بأنه روح، والملائكة كذلك يقومون لرب العالمين سبحانه وهم مخلوقون خلقهم الله لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً.
والمرة الوحيدة التي ذكر المسيح فيها على نبينا وعليه الصلاة والسلام بأنه روح من الله في سورة النساء فقال سبحانه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] فذكر أنه روح من الله سبحانه وتعالى.
ولما ذكر آدم قال: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ولما ذكر المسيح قال: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171] أي من عنده سبحانه وتعالى، فإذا احتجوا بأن المسيح روح من الله نقول: التعبير بروحي أخص من التعبير بروح منه أي من عنده سبحانه وتعالى، فهذه معناها أوضح في أنه روح من الأرواح أوجدها الله سبحانه وتعالى وخلقها فجعل منها المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم في الآية بعدها من سورة النساء يقول الله سبحانه: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] هذا الروح الذي خلقه الله عز وجل لن يستكبر أن يكون عبداً لله سبحانه وتعالى، فليس المسيح كما يقولون: هو الله أو هو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة! بل هو عبد لله والآيات ذكرت ذلك، فالذي يحتج بالآية الأولى يحتج عليه بالآية الثانية التي يذكر الله سبحانه وتعالى فيها أن المسيح عبد لله سبحانه وتعالى.
كذلك ذكر الله سبحانه كلمة روح فقال عن المقربين يوم القيامة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ} [الواقعة:88 - 89] على قراءة، و (رُوح) على قراءة ثانية، روح أي: استرواح وراحة عند الله سبحانه من شقاء الدنيا وتعبها، فروح وريحان أي رحمة من الله سبحانه وتعالى، فالروح يعبر بها عن رحمة رب العالمين سبحانه، ويعبر بها عن الوحي الذي ينزل من السماء، ويعبر بها عن الملائكة وعن جبريل عليه السلام، ويعبر بها عن شيء خفي وسر من أسرار الله عز وجل خلقه سبحانه ولم يطلع أحداً عليه، قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] يعني: لن تصلوا أبداً إلى معرفة حقيقة الروح ولا كنه هذه الروح التي خلقها الله سبحانه وتعالى.(240/5)
معنى قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)
قال سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ} [السجدة:9] أي آدم، وخلقه قال: {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:9] إن نعم الله عظيمة فلا تقدر بمال أبداً, ومن نعم الله: السمع، والبصر، والقلب، والفؤاد والسمع نعمة من الله يعرف هذه النعمة من فقد سمعه، والإنسان الأصم قد يدفع ثروته كلها لمن يرد إليه سمعه، فتراه يضع سماعة لكي يسمع ويفعل ما يستطيع عليه لكي يسمع.
والبصر نعمة لا يعرف قدر هذه النعمة إلا من فقد نعمة البصر، والإنسان الأعمى يتمنى أن ينظر نظرة واحدة ويدفع مقابلها جميع ما يملك, هذه النعمة التي ينسى الإنسان أن يشكر ربه سبحانه وتعالى عليها.
والفؤاد قلب الإنسان وعقله {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فقلب الإنسان الذي يعقل به والذي يبصر به نعمة من الله سبحانه وتعالى يجب على العباد أن يشكروها.
لكن {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: جحود لنعم الله سبحانه، ينسى النعم العظيمة وينظر في أشياء قليلة وحقيرة فيقول: الله ما أعطاني مال، وينسى هذه النعم التي لا تقدر بمال {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] أي: شكركم قليل، فاشكروا الله سبحانه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(240/6)
تفسير سورة السجدة [10 - 13]
كان المشركون يستبعدون المعاد ويقولون: إذا تمزقت أجسادنا، وتفرقت في أجزاء الأرض، فكيف نعود بعد تلك الحال؟! وهو بعيد بالنسبة إلى قدرة الإنسان لا بالنسبة إلى قدرة الله الذي بدأهم وخلقهم من العدم، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، وهؤلاء المشركون يوم القيامة يكونون حقيرين ذليلين، ناكسي رءوسهم من الحياء والخجل والخزي والعار والندم على ما فرطوا في الدنيا.(241/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة:10].
في هذه الآية يخبرنا الله سبحانه وتعالى عمن أنكروا البعث من الكفار والمشركين، الذين قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: لا نعيش إلا في هذه الحياة الدنيا، ولدنا هكذا ونموت هكذا، ولا بعث ولا نشور، ولا قيام من القبور، ولكن كما خلقنا نرجع إلى الأرض مرة ثانية، وينتهي الأمر على ذلك.
لذلك اغتروا بهذا الذي يقولونه، فظلموا واستمرءوا الظلم، فإذا ببعضهم يظلم بعضاً، ويريد أن يحصل من الدنيا ما يستطيع تحصيله منها؛ لأنه لا يؤمن بالبعث يوم القيامة، ولا يؤمن بأن الله سيجازيه على ما فعله في هذه الدنيا.
قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، قوله: (ضللنا) بمعنى: غبنا، وضل الشيء بمعنى غاب، وبمعنى تاه وانمحى أثره، فلم يوجد ولم ير، كما نقول: ضل السمن في اللبن، أي: اختفى السمن بداخل اللبن، فصرت لا ترى هذا السمن الذي في اللبن؛ لأنه بداخله مختلط به، وهنا ضل الشيء في الشيء، بمعنى غاب فيه وتاه فيه فلم يوجد له أثر، فكأنهم يقولون: أئذا متنا وأهلكنا الله عز وجل وصرنا تراباً بداخل هذه الأرض، فهل سنرجع مرة ثانية؟! هم استبعدوا هذا الشيء، وكأنهم لم ينظروا إلى بدء خلقهم، وهم يرون في كل يوم أناساً يحييهم الله وأناساً يميتهم الله، ويرون النبات يحييه الله ويميته الله، ويرون الحيوان يحييه الله ويميته الله سبحانه وتعالى، وكأنهم لم يعقلوا ذلك، وقد قال الله في الآية التي قبلها مبيناً خلق الإنسان: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة:7 - 9]، هذه حواس الإنسان، فالله تعالى جعل للإنسان سمعاً وبصراً وفؤاداً، حتى يعي وحتى يفهم وحتى يعقل وحتى يستيقن من الأشياء التي حوله، {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9]، مع وجود أسماعهم يسمعون، ولكن سمع من لا يعقل، مع وجود أبصارهم يبصرون ولكن بصر من لا يهتدي، مع وجود قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يفهمون، ولذلك قالوا هذا القول الذي قالوه واستبعدوا الرجوع مرة أخرى، ونسوا أن الله أوجدهم من عدم، وأنهم كانوا لا شيء، قال عز وجل: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
إذاً: فقوله: ((وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ)) أي: غبنا في الأرض وتهنا في الأرض وصرنا تراباً وهلكنا فيها.
قوله: ((أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) أي: سنرجع مرة أخرى عظاماً ولحماً وآدميين حتى نجازى؟! قال سبحانه: ((بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) أي: هم مكذبون وجاحدون بالبعث يوم القيامة، ولذلك الإنسان عندما ينسى الحساب وينسى أن الله يبعثه يوم القيامة، أو يتناسى ذلك أو يتغافل عنه؛ يظلم، ويأكل مال غيره، ويغتصب حق غيره، ويفعل ما يحلو له وما يشاء، طالما أنه قادر على الناس.(241/2)
أهمية الإيمان باليوم الآخر والغيب وثمراته
الله سبحانه وتعالى يذكر الخلق بيوم القيامة وبيوم الحساب، وأنهم سيرجعون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم، فالمؤمن يخاف من الله سبحانه، وإن وجد لقطة إذا به يأخذها حتى يعيدها إلى صاحبها؛ لأنه أمين مؤتمن على ذلك، وهو يخاف من الله ليس من الناس، وفي قلبه ما يدفعه إلى فعل الخير، وفي قلبه من الخوف ما يمنعه من فعل الشر.
فالمؤمن يخاف من الله؛ لأن الخوف ثمرة من ثمرات الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث، لذلك أصول الإيمان هي: إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وهذا الإيمان له ثمرات في قلب المؤمن تظهر في أفعاله، فالمؤمن آمن بالله وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعرف قدر الله سبحانه، وعرف أفعال الله العظيمة, وعرف ربه سبحانه، فإذا به يخاف من الله سبحانه، ويأخذ من الله عز وجل شريعته، ويمشي على منهاجه، فهذا يحبه الله سبحانه وتعالى.
إذاً: ثمرة معرفة الله سبحانه تبارك وتعالى تكون في قلب الإنسان خوفاً من الله مع حب لله سبحانه، ولا يجتمعان لأحد سواه سبحانه وتعالى، كمال الخوف من الله مع كمال الحب لله سبحانه وتعالى، يخافه ويخشاه ويحبه ويرجوه، هذا من معرفة الله سبحانه واليقين به، وثمرة من ثمرات ذلك.
كذلك يؤمن الإنسان باليوم الآخر، وأن هناك رجوعاً إلى الله سبحانه، فطالما هناك رجوع، وأن الله سيسأل: لماذا فعلت كذا؟ فلابد أن نعد لهذا السؤال جواباً من الآن فلا أخطئ، فلا أقع في الحرام، ولا آخذ حق غيري.
والإنسان المؤمن يعلم أنه واقف يوماً من الأيام بين يدي الله عز وجل، وهذا اليوم يوم طويل، {يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] أي: كان شره عظيماً مستطيراً فظيعاً، ويوم القيامة قدره خمسون ألف سنة، لذلك المؤمن يتذكر الإيمان بالله سبحانه، والإيمان بملائكة الله، وكيف أن هذه الملائكة تحيط بالخلق يوم القيامة، ولا أحد يستطيع أن يهرب من الله عز وجل، أو أن يهرب من نار الله سبحانه، هناك ملائكة على نار جهنم يعذبون أهلها: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، فيؤمن الإنسان بالملائكة ويخاف، وهذه الملائكة ستعذب الإنسان في نار جهنم، ولن يستطيع أن يدفع لها رشوة، أو أن يطلب منها شيئاً فتستجيب له؛ لأن الملائكة تفعل ما يأمرها الله سبحانه وتعالى.
والمؤمن يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، ويعرف ما في النار من عذاب، ويعرف قدر نار جهنم: (ناركم التي في الدنيا جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم)، انظر أشد نار في هذه الدنيا، لو أوقد الإنسان أشد ما يكون من النيران، فهذه النار لا تساوي إلا جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم، والعياذ بالله.
كيف تكون هذه النار في الآخرة التي وقودها الناس والحجارة؟! في الدنيا نطفئ النار بالحجارة، لكن إذا اشتعلت الحجارة فهي أشد ما يكون من النار، فتكون الحجارة وقوداً لنار جهنم وكذلك الناس.
فإذاً: الإنسان يؤمن بالغيب: يؤمن بالجنة وبالنار، فيطلب الجنة ويهرب من النار.
إن ثمرة الإيمان بالغيب: العمل الصالح في الدنيا والبعد من المعاصي، أما هؤلاء المشركون الذين ينكرون البعث فلا آمنوا ببعث ولا آمنوا بجنة ولا بنار، ولكن قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] أي: سنعيش ونموت وينتهي الأمر على ذلك، لذلك كانوا يفعلون ما يحلو لهم، فقال الله سبحانه: ((بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ)) أي: جاحدون بلقائه يوم القيامة، ومنكرون ومكذبون.
فكفر هؤلاء المشركون المنكرون للبعث، وهم لم ينكروا قدرة الله سبحانه؛ لأنهم يعرفون قدرة الله؛ ولذلك شهد الله عليهم بقولهم، فقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، فهم معترفون أن الله قادر وأن الله يخلق.
قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، فهم يعرفون أن الله عزيز غالب عليم سبحانه، ويعرفون أنه قادر؛ لكنهم بلقاء ربهم كافرون، ويقولون: لا يوجد بعث، ويقولون: نعلم أن الله خلقنا لكن لن يحيينا مرة أخرى، فيكذبون بالبعث يوم القيامة.(241/3)
تفسير قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم)
قال الله تعالى: {قل يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة:11] هو ملك من ملائكة الله سبحانه وتعالى، جعل الله له قوة وقدرة عظيمة، يقدر على أن يأخذ أرواح البشر ويتوفاهم، والتوفي هو القبض، تقول: استوفيت حقي من فلان، أي: قبضته وأخذته وافياً، والله سبحانه يتوفى وملك الموت يتوفى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالله يتوفى وملك الموت يتوفى، لكن هناك فرق بين أن يتوفى الله سبحانه وتعالى وبين أن يتوفى ملك الموت، والله يخلق ويحيي سبحانه، وهو الله عز وجل يتوفى الأنفس حين موتها، والله سبحانه هو الذي خلق الموت والحياة، وهو الذي يحيي ويميت.
وملك الموت يتوفى الأنفس ولا يفعل إلا ما يقدره الله سبحانه وتعالى عليهم، فإذا خلق الله عز وجل الخلق، بأن أوجد الجنين في بطن أمه، وصار بأطوار: طور النطفة والعلقة والمضغة، فالله عز وجل يأمر فيكون عظاماً، ثم يأمر فتكسى هذه العظام لحماً، بعد ذلك ينشئ الله نشأة أخرى، فيبعث الملك ويأمره بنفخ الروح، والروح خلقها الله سبحانه وتعالى، والملك سينفخ هذه الروح فقط، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ} [الإنسان:30] أي: لا يقدر الملك على شيء إلا أن يقدره الله سبحانه وتعالى عليه.
فإذاً: الله أعطى هذا الملك القدرة، والله خلق الروح، والله جعل هذه النفس قابلة لهذه الروح وهو المدبر سبحانه وتعالى.
وهو جعل السبب والوسيلة الملك، فهو ينفذ أمر الله سبحانه وتعالى، والله الفاعل حقيقة سبحانه وتعالى، فهذا الجسد أحياه سبحانه، وأوجده، فإذا جاءت الوفاة أرسل ملك الموت وله قدرة عظيمة، يقدره الله على ما يشاء سبحانه، هذا مخلوق من مخلوقات الله سبحانه، قدره أن يقبض نفوس أناس في هذا المكان، وفي مكان آخر، وفي أقصى الدنيا وفي أدنى الدنيا، في وقت واحد يقبض الجميع، كيف يتواجد هنا وهنا وهنا؟ نحن لا نقيس الملك علينا نحن؛ لأن الله عز وجل جعل للإنسان قدرة معينة يتصرف فيها، وعقولنا لا تستوعب أن تفكر فيما هو أعلى مما خلقت له هذه العقول، فلذلك الإنسان لا يستطيع أنه يستوعب كيف يتحرك ملك الموت هنا وهنا وهنا، ويقبض هذا ويقبض هذا ويقبض هذا في وقت واحد، هذا أمر الله سبحانه، فما عليك إلا أن تثق في الله عز وجل وتستيقن من قدرة الله وأن الله على كل شيء قدير.
فالملك يقبض الأرواح، لكن الذي يزهق هذه الروح هو الله سبحانه وتعالى، كما أدخلها فهو الذي يخرجها، وملك الموت ما عليه إلا أن يأخذ هذه الروح وينتزعها، فمن الذي أعطاه القدرة على النزع؟ إنه الله سبحانه الذي دبر له ما يصنعه.
وملك الموت معه أعوان لا يدعونها في يده طرفة عين، فإذا كانت نفساً مؤمنة تقية إذا بهؤلاء ينزلون بأكفان معهم من الجنة وحنوط من الجنة، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها مباشرة ويصعدون بها إلى السماء، فلا يمرون على ملأ فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ يقولون: فلان بن فلان بأطيب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فإذا كانت النفس خبيثة، يخرجها ملك الموت وينزل الله عز وجل ملائكة من النار ومعهم أكفان من النار، ومسوح من النار والعياذ بالله، انظر الفرق بين الاثنين! فحين يقبض الملك الروح يقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة، فتخرج الروح ولا تقدر على التمنع، وإن كانت تتشعب في الجسد وتتفرق في الجسد من شدة الرعب والخوف، فإذا به ينتزعها كما ينتزع السفود -أي: السيخ- من الصوف يستخرجها وقد تقطع منه العروق والعصب، فتأتي ملائكة من النار ولا يدعونها في يده طرفة عين، فيأخذونها ويصعدون بها، فلا تمر على أحد فيما بين السماء والأرض إلا قالوا: ما هذه الروح المنتنة الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.
إذاً: ملك الموت يتوفاكم ويقبض النفوس وافية، لا يترك منها شيئاً، فيخرج بهذه الروح إما إلى مستقرها في أعلى عليين أو في أسفل سافلين، والكل عند الله سبحانه وتعالى موقوف، حتى يأتي يوم الحساب ليحاسبه الله سبحانه ويجازيه على أعماله.
وقوله تعالى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) أي: هو وكيل في ذلك، وكله الله سبحانه على كل إنسان فلن يتركه حتى يأخذ روحه.
ىجاء في بعض الآثار أن اسم ملك الموت عزرائيل أي: عبد الله، ولم يصح في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسمية، لكن جاءت بعض الآثار في هذا المعنى.
قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11] أي: المرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ترجعون إليه للجزاء وللحساب.(241/4)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم)
قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: إعجب لما تراه من أمر هؤلاء، لو أنك ترى كيف يكون موقفهم عند الله عز وجل وكيف يصنعون وكيف يصنع بهم لرأيت العجب العجاب!! قوله: ((إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ)) المجرمون جمع مجرم، والمجرم هو الإنسان المخطئ الآثم صاحب الخطيئة، الذي كفر بالله عز وجل والذي أشرك بالله والذي أتى الكبائر من الذنوب، يعني: أجرم في حق الخلق وفي حق الخالق سبحانه وتعالى، ولو ترى هؤلاء المجرمين إذ هم يوم القيامة قد نكسوا رءوسهم من الذل والغم والحزن والحياء من الله عز وجل، قد طأطئوا رءوسهم في ذل يوم القيامة بين يدي الله عز وجل قائلين: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] أي: رأينا النار والعذاب والموقف، وأيقنا من هذا الشيء، وسمعنا الوعيد وسمعنا التهديد وسمعنا التوبيخ، وعرفنا الحق الآن، فارجعنا إلى الدنيا، وقد قضى الله سبحانه أن الإنسان يعيش في الدنيا مرة واحدة، ولا يرجع إليها أبداً، فهؤلاء يطلبون المستحيل، فقالوا: ((فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)) يعني: إذا أرجعتنا إلى الدنيا سنعمل العمل الصالح ونحن على يقين أن هذا وعد حق، ونحن لن نكذب، ولن نخلف، والله يعلم أنهم كذابون، ولذلك قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28]، يعلم أنهم كذابون، وأنهم إذا رجعوا للدنيا مرة ثانية لرجعوا إلى التكذيب.
إذاً: الله سبحانه أراد أن يكون هناك جنة ونار، وأراد أن يكون للجنة أهل وللنار أهل، فخاطب هؤلاء وقال: أنتم رجوعكم للدنيا لن يفيدنا شيئاً، لا إيمانكم يفيدنا ولا كفركم يضرنا، ولكن أريناكم قدرتنا على أن نثيب المطيع ونعذب العاصي.(241/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] أي: لو شئنا لأعطينا كل نفس هداها، ولأوجدنا في القلوب الإيمان والهدى، ولأوجدنا في العقول التفكير والتبصر والنظر في آيات الله سبحانه، لو شئنا لفعلنا ذلك، ولكن مشيئة الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2]، هذا تقديره سبحانه وتعالى، فهو سبحانه خلقكم وأعطاكم العقول، وأنزل عليكم الكتب، وأرسل إليكم الرسل، وأقام عليكم الحجة، والآن الجزاء يكون يوم القيامة: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، فقد بين للناس، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(241/6)
تفسير سورة السجدة [12 - 14]
أخبر الله سبحانه عن المجرمين الذين كانوا يستكبرون في الدنيا، ويسخرون من المؤمنين، بأنهم يوم القيامة سينكسون رءوسهم في خزي وذل وحقارة بين يدي ربهم سبحانه على ما فرطوا وقصروا، وأنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، لكن هيهات! فلن يمكنوا من ذلك أبداً، ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ولكن حكمته اقتضت أن يخير عباده بين طريق الخير وطريق الشر، فمن اختار الأولى فله الجنة، ومن اختار الثانية فله النار.(242/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:12 - 14].
في هذه الآيات من سورة السجدة يحذرنا الله عز وجل من عقوبة الظلم والإجرام والكفر بالله سبحانه، فإن الإنسان الظالم في حق الله سبحانه وفي حق الخلق تراه يوم القيامة قد نكس رأسه من شدة ما هو فيه من الغم، والذل، والحزن، والخزي، والخجل، والحياء بين يدي الله سبحانه وتعالى على ما فرط فيه وقصر.
ترى الكافر في الدنيا يرفع رأسه شامخاً متعالياً معجباً بنفسه مستكبراً على الخلق، فإذا قام يوم القيامة بين يدي الله سبحانه طأطأ رأسه ووقف ذليلاً حقيراً مخزياً، فلو قد رأيت هذا الموقف لعلمت كيف نجازي هؤلاء على ما فعلوا، ولعلمت أننا لم ننس ما فعل هؤلاء وإنما نؤخرهم لهذا اليوم وهو يوم القيامة حتى يعلم الجميع أن هؤلاء يستحقون عقوبة رب العالمين سبحانه، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، ولهم عند الله يوم القيامة العذاب المهين والعذاب العظيم.
قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فيملي الله سبحانه وتعالى للظلمة ويتركهم {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]، فيستكبرون في الدنيا ويعلون فيها، فإذا جاءوا يوم القيامة كانوا أحقر من الذر، وأحقر من النمل، ولا يزنون عند الله سبحانه وتعالى شيئاً.
قال الله: {لَوْ تَرَى} [السجدة:12]، أي: لو رأيت المجرمين وقد نكسوا رءوسهم عند ربهم يوم القيامة لعلمت كيف نجازيهم وهم يقولون لربهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]، يعني: قد استيقنا الآن {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، لقد طلبوا أن يعودوا إلى الدنيا وهم في مواقف القيامة في غاية الخزي والذل والندم فيقولون: ربنا أرجعنا! يتحايلون ويطلبون من الله سبحانه ويستغيثون به وبالملائكة وبالمؤمنين، ولا مغيث لهم، يصرخون في نار جهنم ويدعون، فيقول بعضهم لبعض: لقد صبر المؤمنون فنالوا فاصبروا لعلنا ننال من الله عز وجل رحمة، فيصبرون في النار فيطول صبرهم، ويجزعون فيقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21]، فينادون مالك خازن النار، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: ليريحنا مما نحن فيه بالموت فيقول لهم مالك خازن النار: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] أي أنتم قاعدون في هذه النار فلا موت يريحكم ولن تخرجوا منها أبداً، ويستغيثون بربهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، فلا يزالون يسألون ويطلبون ويستغيثون حتى يرد عليهم رداً يفزعهم يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وكلمة: اخسأ تقال للكلب إذا زجر، فقيل لهم ذلك لأنهم كلاب أهل النار والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109 - 110]، فقد سخروا من المؤمنين في الدنيا، وتعجبوا من إيمانهم، فجازاهم الله عز وجل هذا الجزاء يوم القيامة على ما سخروا، وعلى ما تهكموا، وعلى ما ضحكوا بملء أفواههم في الدنيا ساخرين من المؤمنين.
أما المؤمنون فيقول عنه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]، ثم قال لهؤلاء: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، كم مكثتم في الدنيا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، العمر الذي عمره أحدهم في الدنيا يقول عنه يوم القيامة: لم يكن إلا يوماً أو بعض يوم فإذا كان يوماً أو بعض يوم فلم لم تعمل في هذا الشيء اليسير عملاً ينجيك من النار وتحصل بذلك الجزاء الأبدي عند الله عز وجل في جنة الخلد؟ لم لا تعمل في فترة حياتك القليلة ما ينفعك كثيراً؟ فإذا ضيعت فلا تلومن إلا نفسك.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12]، أي: لو رأيت المجرمين وقد نكسوا رءوسهم عند ربهم يوم القيامة لعلمت كيف نجازيهم وهم يقولون لربهم {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12]، يعني: قد استيقنا الآن {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} [السجدة:12]، لقد طلبوا أن يعودوا إلى الدنيا وهم في مواقف القيامة في غاية الخزي والذل والندم فيقولون ربنا أرجعنا يتحايلون ويطلبون من الله سبحانه ويستغيثون به وبالملائكة وبالمؤمنين، ولا مغيث لهم يصرخون في نار جهنم ويدعون، فيقول بعضهم لبعض: لقد صبر المؤمنون فنالوا فاصبروا لعلنا ننال من الله عز وجل رحمة فيصبرون في النار فيطول صبرهم، يجزعون فيقولون: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] فينادون مالك وهو خازن النار، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، أي: ليريحنا مما نحن فيه بالموت فيقول لهم مالك خازن النار: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، أي أنتم قاعدون في هذه النار فلا موت يريحكم ولن تخرجوا منها أبداً، ويستغيثون بربهم {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، عنهم فلا يزالون يسألون ويطلبون ويستغيثون حتى يرد عليهم رداً يفزعهم يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وكلمة: اخسأ تقال للكلب إذا زجر، فقيل لهم وذلك لأنهم كلاب أهل النار والعياذ بالله {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
لماذا؟ {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109 - 110]، فقد سخروا من المؤمنين في الدنيا، وتعجبوا من إيمانهم فجازاهم الله عز وجل هذا الجزاء يوم القيامة على ما سخروا، وعلى ما تهكموا، وعلى ما ضحكوا بملء أفواههم في الدنيا ساخرين من المؤمنين.
أما المؤمنون فيقول عنه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111]، ثم قال لهؤلاء: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، كم مكثتم في الدنيا؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، العمر الذي عمره أحدهم في الدنيا يقول عنه يوم القيامة، لم يكن إلا يوماً أو بعض يوم فإذا كان يوماً أو بعض يوم فلم لم تعمل في هذا الشيء اليسير عملاً ينجيك من النار وتحصل بذلك الجزاء الأبدي عند الله عز وجل في جنة الخلد؟ لم لا تعمل في فترة حياتك القليلة ما ينفعك كثيراً؟ فإذا ضيعت فلا تلومن إلا نفسك.(242/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها)
قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] أي: لو أردنا ذلك لجعلنا الجميع مؤمنين ولخلقناهم كالملائكة لا يعصون الله سبحانه، ولكن شاء الله سبحانه أن يخلق خلقاً من خلقه يختبرهم في الدنيا، لهم عقول وقلوب وأسماع وأبصار وأفئدة، ويجعل الله عز وجل أمامهم طريقين: طريق الخير وطريق الشر، وقد علم قبل أن يخلقهم من يستحق أن يكون في الجنة ومن يستحق أن يكون في النار، فإن علمه شامل ومحيط بكل شيء، فلو شاء الله لخلقهم كالملائكة، ولكن شاء أن يختبر صنفاً من عباده وهم الإنس والجن فخلقهم ثم هداهم بأن أرشدهم، قال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، ثم هم يكتسبون في هذه الدنيا قال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286].
فنفس المخلوق تكتسب إما الخير وإما الشر، وعلى هذا الكسب الذي يكتسبه المخلوق يحاسبه الله عز وجل ويجزيه يوم القيامة، فهو يفعل الفعل وهو يشعر أنه قادر على فعله أو تركه، وكل إنسان مطيع يشعر بالقدرة على الفعل والترك، وكل إنسان عاص يشعر بالقدرة على الفعل والترك، فأنت حين تذهب إلى الصلاة تشعر أنك مريد لهذه الصلاة، وأنك ذاهب بإرادتك، ولا تشعر أنك مجبور أو أن هناك أحداً يجرجرك من البيت إلى المسجد وإن كنت أتيت بمشيئة الله عز وجل، وأمر المشيئة إلى الله سبحانه وتعالى، فأنت مطلوب منك أن تفعل بإرادتك وأن تختار، وعلى هذا الاختيار يحاسبك الله عز وجل يوم القيامة.
فأهل الجنة يرسلهم إلى جنته بفضله وبرحمته جزاء بما كانوا يعملون، وأهل النار يدخلهم النار بعدله جزاء بما كانوا يعملون، إذاً: هؤلاء عملوا فاستحقوا رحمة الله عز وجل، فزادهم من فضله الثواب العظيم، والأجر الكبير منه سبحانه، وهؤلاء استحقوا العقوبة بجنس أعمالهم، وعصيانهم لله سبحانه، ولو شاء الله لآتى كل نفس هداها، ولأرشد كل نفس ففعلت الخير وكانت من أهل الخير، ولكن تركهم سبحانه وتعالى لينالوا ما يستحقون.
قال: {وَلَوْ شِئْنَا} [السجدة:13]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها الأصبهاني عن ورش وأبو عمرو وبخلفه حمزة -إذا وقف عليها- وأبو جعفر (ولو شينا لآتينا كل نفس هداها) أي: لأعطينا كل نفس ما تسترشد به وتستدل وتستيقن به فتستحق رحمة رب العالمين سبحانه، ولكن حق القول من الله عز وجل أن يختبر هؤلاء في الدنيا، وأن يجعل لهم اختياراً فيختارون بإرادتهم هذا الطريق أو ذاك الطريق، بعد أن يبين الله سبحانه وتعالى لهم، ولن يخرجوا عن مشيئته سبحانه، قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فالله خلق الجنة ووعدها أن يملأها، وخلق النار ووعدها أن يملأها، فحق القول من الله عز وجل أن يملأ هذه وتلك {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ}، وكلمة جهنم: تعني النار المشتعلة الحمراء المتلهبة، ولذلك تطلق هذه الكلمة على الشيء المشتعل المتقد، أو العين الشديدة الغضب التي تتقد من شدة غضبها، ولذلك يطلق على عين الأسد جهنم؛ لأن فيها اتقاداً حين ينقض على فريسته، حيث تحمر عيناه من الغضب، فكأن النار كهذا والعياذ بالله أي: شديدة وغاضبة على أهلها ومستعرة ومشتعلة.
قال: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119] فمن الجن من سيدخلون النار، ومن الإنس من سيدخلون النار، لقد حق القول من الله سبحانه بذلك ووعده الحق سبحانه وتعالى ووعيده ينفذه فيمن يشاء.(242/3)
تفسير قوله تعالى: (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا)
قال سبحانه: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14] أي: يقال لهؤلاء المجرمين الذين عصوا الله وكفروا به سبحانه واستهزءوا بالمؤمنين {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ}، أي: هؤلاء نسوا الله سبحانه فأنساهم أنفسهم فجعلهم في نار جهنم.(242/4)
من معاني النسيان
والنسيان يطلق على معان منها: أولاً: عدم التذكر، وإذا لم يتذكر الإنسان شيئاً فهو معذور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).
ثانياً: التغافل عن الشيء، فالإنسان الذي يعرف الكتاب، ويعرف السنة لكنه تارك لهما ومتغافل عنهما وهذا من النسيان المتعمد، وهو بمعنى: الترك، ومنه قول الله عز وجل في آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فقد عهد الله عز وجل إلى آدم فترك العهد، قال الله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:35].
ولو فرضنا أن آدم نسي فقد ذكره الشيطان بقوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20]، فالشيطان ذكر آدم أن الله نهاه عن الشجرة، لكنه أتاه من باب آخر وهو سبب النهي فقال له: لو أكلت منها ستكون خالداً، فإذا بآدم ينسى عهد الله سبحانه وتعالى فكان فيه شيء من التعمد؛ لأن الشيطان ذكره أن الله نهاه عن أكل الشجرة لكن أتى له من باب آخر وهو أنه إذا أكل منها سيكون خالداً، فإذا بآدم يأكل مما نهى الله عز وجل عنه {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] أي: على العهد الذي أخذ عليه من الله سبحانه وتعالى.
فكأن النسيان الذي يجازى عليه الإنسان هو ما فيه تعمد للإتيان بالمعصية وتغافل عن عقوبة الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه لا ينسى شيئاً، ولكن للمشاكلة اللفظية، والمقصود: عاملناكم معاملة المنسيين أي: تركتم طاعتنا فتركناكم واستحققتم العقوبة بذلك {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} أي: أدخلناكم النار وتركناكم فيها كالمنسيين، ينادون الله سبحانه وتعالى وهو يسمعهم ويراهم لكن لا يجيبهم فإذا أجابهم أجابهم بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
إذاً الله سبحانه لا ينسى أحداً، وإنما يعاملهم وهم في النار معاملة المنسيين {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [السجدة:14]، أي: تغافلتم عن هذا اليوم فتركتم العمل فاستحققتم أن تعاملوا معاملة المنسيين وأن تتركوا في النار ولا يؤبه لدعائكم.
{وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [السجدة:14] الخلود إما خلود في الجنة، وإما خلود في النار، والخلود هو أن يمكث فيها أبد الآبدين إلى ما لا نهاية، وأهل الجنة خالدون في الجنة لا يخرجون منها أبداً، ولا تفنى، وأهل النار خالدون فيها لا يخرجون منها، فقد أصحبوا أهلها وأصحابها والعياذ بالله، قال: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14].
إذاً: العذاب لن يخفف عن أهل النار المشركين، أما الموحدون من المسلمين الذين يدخلون النار بسبب ذنوبهم فهم يمكثون فيها ما شاء الله سبحانه، ولكن ينفعهم توحيدهم يوماً من الدهر، وهم إنما استحقوا دخول النار والخلود فيها بسبب بعض الذنوب والكبائر كالذي يقتل نفسه أو يقتل غيره أو يقتل ولده فهذا خالد في نار جهنم.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قاتل نفسه قوله: (من شرب سماً فتحساه فسمه في يده في نار جهنم يتحساه خالداً مخلداً فيها أبداً)، فهذا الذي انتحر وقتل نفسه دخل النار خالداً مخلداً فيها أبداً، هذا إذا كان من الموحدين ولم يمت على الكفر بالله سبحانه، ولم يشرك بالله سبحانه وتعالى، ولكن خلود هذا دون خلود الكافر، فالكافر خلوده لا ينتهي، وهذا خلوده بمعنى: طول العذاب في النار أمداً طويلاً وأبداً عظيماً، وبعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه.
وقد قال الله في الذي يقتل نفساً مؤمنة {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وإن قتله لكونه مؤمناً فهو كافر مستحق للخلود في النار؛ لأنه قتل المسلم لكونه مسلماً، أما إذا قتله لدنيا فهذا خالد في النار إلى ما شاء الله من أمد بعيد، ثم بعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين، لقوله: لا إله إلا الله، فتنفعه يوماً من الدهر أصابه قبل ذلك ما أصابه، ففرق بين خلود أهل الكفر والشرك، وبين خلود أهل التوحيد.
نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين، وأن يجعلنا من الموحدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(242/5)
تفسير سورة السجدة [15 - 16]
من صفات المؤمنين الصادقين التي امتدحهم الله بها: قيام الليل، ففيه يظهر الخضوع والتواضع من هؤلاء المؤمنين لربهم سبحانه، ولذلك فقد حث الله تعالى نبيه والمؤمنين على قيامه، ورتب عليه فضائل عظمية، ومزايا كثيرة، منها: قربه جل وعلا لهم في الثلث الأخير منه، ومنها أنه جعله سبباً لدخول الجنة والثبات على دين الله، ولهذا فقد شمر إليه الصحابة الكرام والنبي من قبلهم، فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقرباً وشكراً لربه سبحانه.(243/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات صفات المؤمنين بالله سبحانه وتعالى، والذين أعد لهم {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَار} [النساء:57]، وفيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
فإيمانهم هو الذي منعهم من المعاصي، ودفعهم لطاعة الله سبحانه وتعالى، ولجنة الله سبحانه.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3].
وفي سورة السجدة ذكرهم الله سبحانه بأنهم إذا ذكروا بآيات رب العالمين سبحانه أقبلوا إلى ربهم سبحانه، وخروا على وجوههم ساجدين له سبحانه وتعالى، مسبحين حامدين الله سبحانه، غير مستكبرين على ربهم، ولا مستكبرين على الطاعة، قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15]، أي: سجدوا لله سبحانه وتعالى، {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15]، فهم مؤمنون خاشعون لله متواضعون، لا يستكبرون على طاعة الله سبحانه وتعالى، والاستكبار أمره خطير، وهو أول جريمة وقع فيها مخلوق، وفعلها إبليس لعنه الله إذ أبى واستكبر أن يسجد لآدم، فكان مصيره الطرد من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وكذلك كل إنسان يستكبر على الله فمصيره النار، وأبى الله عز وجل أن يدخل الجنة إنساناً في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، بل الله سبحانه وتعالى يعذبه ويدخله جهنم بما كان يستكبر عليه سبحانه ويستكبر على خلقه، فالمؤمنون متواضعون لا يستكبرون.(243/2)
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
هذه الآية فيها أن من صفات المؤمنين أنهم تتجافى جنوبهم، تجافي جنب الإنسان بمعنى: ارتفع جنبه عن فراشه، أو تنحى عن الفراش، فإذا نام لا ينام نوماً طويلاً، وليس ليله كله نوماً وإنما ينام جزءاً ويقوم لله سبحانه وتعالى ما تيسر من الليل.
وقد جاء في قيام الليل من الآيات ما يفيد أنه ينبغي على المؤمن أن يكون بهذه الصفة؛ ليرضي الله سبحانه وتعالى.
ولقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:1 - 4]، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك فرضاً عليه وعلى المؤمنين حتى أنزل الله سبحانه: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20]، فبعد أن أمر بالقيام الطويل أمر بقراءة ما تيسر للإنسان، وصار نافلة بعد أن كان فريضة.
ومن الأحاديث التي جاءت في قيام الليل حديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم)، وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم حث وتحريض وإغراء لقيام الليل، وواضح أن القيام أصله: أن تقوم على قدميك واقفاً للصلاة، وإن رخص الله في النافلة أن تصلي قائماً أو قاعداً، سواء كنت قادراً على القيام أو غير قادر، فلك أن تقوم ولك أن تقعد في قيام الليل وفي النوافل، ولكن الأجر العظيم يكون على القيام، ولذلك قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: قياماً طويلاً بين يدي الله سبحانه وتعالى.
(فإنه دأب -أي: عادة- الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم) أي: يقربكم من الله سبحانه وتعالى، وأقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه وهو ساجد، فقيام الليل قيام عظيم، فإذا سجد العبد في جوف الليل الآخر كان قريباً من ربه سبحانه، وكان جديراً بإجابة الله سؤاله.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ومكفرة للسيئات) أي: أن القيام يمحو السيئات، (ومنهاة عن الإثم) أي: يعين الإنسان على اجتناب الآثام والمعاصي.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر)، فالليل أجزاء: ثلث أول، وثلث أوسط، وثلث أخير، وجوف هذا الثلث الأخير أقرب ما يكون العبد من ربه سبحانه، والرب من عبده سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فحاول قدر ما استطعت و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وذكر الله سبحانه بأن تصلي لله سبحانه وتعالى، سواء كانت صلاة طويلة أو صلاة قصيرة، وبأن تذكر الله سبحانه وتعالى فيه، ويدخل تحت الذكر كلما صدقت عليه هذه الكلمة، وسواء كان الشخص جالساً يذكر الله سبحانه بالتسبيح أو بالتهليل أو بالتكبير أو بقراءة القرآن، أو بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالانشغال بطلب العلم، أو بغير ذلك مما هو ذكر لله عز وجل فكله ذكر، قال صلى الله عليه وسلم: (إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة -يعني من آخر الليل- فكن)؛ لأنك تكون قريباً من ربك سبحانه.(243/3)
أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل
جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه) أي: تتشقق قدماه صلوات الله وسلامه عليه من طول القيام.
فقالت عائشة رضي الله عنها: (لم تصنع هذا -يا رسول الله- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟!) وهذا يدل أنه عمل ذلك صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه سورة الفتح وفيها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2].
فالله سبحانه مَنَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعله مغفوراً له ذنبه المتقدم والمتأخر عليه الصلاة والسلام، فعصمه الله سبحانه من أن يقع في الذنوب، ومَنَّ عليه بأنه لو حدث منه شيء فالله سبحانه وتعالى يغفر له ما تقدم وما تأخر، وسورة الفتح نزلت بعد صلح الحديبية في السادس من ذي القعدة سنة ست من هجرته صلى الله عليه وسلم، وبعد أن دعا إلى الله سبحانه وتعالى تسع عشرة سنة، حيث دعا إلى الله سبحانه في مكة ثلاث عشرة سنة، وفي المدينة ست سنوات حتى نزلت هذه السورة فأخبره الله عز وجل بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وكان قبل ذلك صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما الذي يدخره له ربه سبحانه وتعالى، ولذلك جاء عنه في حديث أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت عن صبي قد توفي: (طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، فقال: وما يدريك؟ فإني وأنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لا أدري ما يفعل بي)، فأعلمه الله عز وجل بعد ذلك بفترة طويلة عليه الصلاة والسلام أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذه السورة كانت قبل وفاته بأربع سنوات عليه الصلاة والسلام.
فتبين أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، فكان استفسارها وتعجبها هو أن الذي يصلي كثيراً، ويقوم كثيراً، ويتعب نفسه كثيراً، هو الذي يطلب المغفرة، أما أنت فقد غفر لك الله فلماذا تقوم؟ وكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم أن قال: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً) عليه الصلاة والسلام، وقوله: (عبداً) فيه مقام عظيم وهو مقام العبودية لرب العالمين، وهو مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم الليل لله، وهو قريب من الله سبحانه، فالعبد يتشرف بأنه عبد لله سبحانه، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يذكره ربه في القرآن في مقامات شريفة بأنه عبد عليه الصلاة والسلام، وفي مقام ذكر الله، وتلاوة القرآن، والمحاجة بهذا القرآن، حيث يقول للكافرين: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] عليه الصلاة والسلام.
وفي مقام تشريف النبي صلى الله عليه وسلم برفعه إلى السماء عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج يقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] عليه الصلاة والسلام.
وفي مقام التبليغ والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] عليه الصلاة والسلام.
فهذا أشرف مقامات العبد بين يدي الله سبحانه.
والإنسان في نفسه ما يدفعه إلى العبودية، وما يدفعه إلى الخضوع، فإما أن يوجه ذلك إلى الله عز وجل، وإما أن يأنف عن ذلك فيوجهه الله عز وجل إلى أحقر خلقه، فيصير عابداً للهوى، وعابداً للشيطان، وعابداً للإنسان، وعابداً للجان؛ لأنه أنف واستكبر عن عبادة الله سبحانه، وتطاول عن أن يعبد الله سبحانه، وظن أنه حر في نفسه يعمل ما يشاء دون تقيد بأحد، فنقول لمن كان هذا حاله: أنت لست حراً على الله سبحانه وتعالى ولكنك عبد لله، فإما أن ترضى بذلك كما رضي رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام والملائكة الكرام عليهم السلام، وإما أن تأنف فتكون كالشيطان، فيكون مصيرك مصيره، فانظروا إلى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذ يقول الله سبحانه عنه: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء:172]، بل الكل عبيد لله سبحانه، قد رضوا بذلك فأرضاهم الله سبحانه وتعالى.
كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟)، تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما كثر لحمه صلى جالساً) عليه الصلاة والسلام أي: لما أسن وكبر في سنه صلى الله عليه وسلم فصار عظمه لا يحمل بدنه صلى الله عليه وسلم، وقد ورد ما يفسر ذلك في حديث آخر وفيه: (لما بَدَّن أو لما بَدُن) يعني: صار ثقيلاً عليه الصلاة والسلام حتى إن عظامه لا تحمل جسده صلى الله عليه وسلم في القيام الطويل، ليس معنى ذلك أنه صار سميناً، بل المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم كان قيامه لليل في وقت طويل جداً، يستغرق صلاته الليل عليه الصلاة والسلام قائماً على قدميه، فلما تعب صلوات الله وسلامه عليه صار يقوم جزءاً من الليل ويقعد جزءاً، فيصلي صلاة طويلة قائماً، ثم يقعد ويصلي قاعداً، ثم يقوم صلى الله عليه وسلم ويكمل قائماً بحسب ما يستريح عليه الصلاة والسلام.
تقول: (فلما كثر لحمه صلى جالساً، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع صلوات الله وسلامه عليه).(243/4)
قيام الليل سبب لدخول الجنة
روى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟) وهذا السؤال من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه سؤال عظيم، حيث تعلم معاذ وتعلم غيره من هذا السؤال العظيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد سألتني عن عظيم) أي: سألتني عن شيء عظيم (وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، فأمره بالعبادة ونهاه عن الشرك بالله سبحانه، (وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).
فالنصيحة هي: إن كنت تريد دخول الجنة فهات هذه الفرائض التي فرضها الله عز وجل عليك وهي أركان الإسلام الخمسة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة) وهذا باب من أبواب الخير، (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل) وهذا باب عظيم من أبواب الخير حيث تقوم بالليل مصلياً لله سبحانه، (ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16])، فذكر هذه الآية، (ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد.
ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) أي: ما تملك به هذا كله؟ (قال: قلت: بلى يا نبي الله! -عليه الصلاة والسلام- فأخذ بلسانه وقال: كف عليك هذا) أي: أمسك بلسانه وقال: (هذا ملاك الأمر) أي: تملك أمر نفسك بأن تملك لسانك، فلا تنطق إلا بالخير، وتسكت عن الشر، فإذا ملكت لسانك وفقك الله عز وجل لكل الطاعات، فقال معاذ رضي الله عنه: (يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟) أي: كل شيء نتكلم به يحاسبنا عليه ربنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا معاذ!) وهذه كلمة ليس المقصود بها الدعاء عليه، وإن كان أصلها أن الأم الثكلى: هي التي فقدت ابنها بأن مات، حيث أصله دعاء على الإنسان بالموت، وهنا ليس المقصود الدعاء عليه، بل التعجب من قول القائل والتوجع لكونه لم يفهم ما الذي قاله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك) يعني: عجباً لك يا معاذ! (وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) أي: ما يكب إنسان على وجهه في نار جهنم إلا ما يحصده اللسان، وما يجمعه من شر.
والغرض أن الإنسان إذا أمسك لسانه وفقه الله سبحانه لجميع خصال الخير، ومن أفضل خصال الخير كما جاء في الأحاديث قيام الليل.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء القائمين المخلصين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(243/5)
تفسير سورة السجدة [15 - 17]
من صفات المؤمنين: أنهم يستجيبون لله تعالى عند سماع كلامه، فما أن يسمعوا بأمر الله إلا وبادروا إلى تنفيذه رغبة فيما عنده سبحانه، وطلباً للأجر والثواب، وما أن يسمعوا بنهي الله إلا واجتنبوه وابتعدوا عنه خوفاً من عقاب الله سبحانه، فتراهم مقبلين على طاعة ربهم من صلاة فريضة ونافلة، وقراءة قرآن وجهاد وقيام ليل وصدقة وذكر، وغير ذلك من أنواع الطاعات.(244/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15].
في هذه الآية وما بعدها من سورة السجدة يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن عباده المؤمنين، وكيف تكون استجابتهم لله رب العالمين عند سماعهم كلام الله سبحانه، حين يقرءون القرآن يستجيبون ويؤمنون ويزدادون إيماناً، وإذا ذكروا بآيات الله سبحانه أقبلوا عليها، فتفهموا وتدبروا وخروا لله سجداً في صلاتهم وفي غير صلاتهم، فهم إذا مرت بهم آية سجود سجدوا لله سبحانه وتعالى على جباههم، وكانوا معظمين لآيات الله سبحانه وخائفين من ربهم سبحانه ومعظمين له.
قوله: ((إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا)) (إنما) أداة قصر، والمعنى هؤلاء فقط الذين قد آمنوا بالله سبحانه وتعالى، الذين امتلأت قلوبهم خشية وخوفاً منه سبحانه وتعالى.
قوله: ((الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا)) أي: هؤلاء إذا ذكروا بالله سبحانه وأمروا بالسجود وأمروا بالطاعة أقبلوا إلى ربهم سبحانه، وخروا له ساجدين في صلاة وفي غير صلاة، فهم يسجدون لله خاشعين مخبتين منيبين متواضعين لرب العالمين، أذلوا أنفسهم؛ ليعزهم الله سبحانه يوم القيامة.
قوله: ((خَرُّوا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)) يعني: قالوا هذا الذكر الذي يكون في السجود والذي يكون في الركوع، قالوا: سبحان الله والحمد لله أو قالوا: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أو قالوا: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الركوع وفي ذكر السجود، وسبحوا وحمدوا الله سبحانه وتعالى، أو أنهم في حال ما يحمدون الله فهم مسبحون له، وفي حال تسبيحهم لله فهم حامدون له عز وجل، فسبحوا حامدين وحمدوا ربهم مسبحين.
قوله: ((وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)) أي: لا يستكبرون على ربهم، ولا يستكبرون على النصيحة، فإذا نصحهم إنسان استجابوا للنصح، ورجعوا إلى ربهم وأنابوا، وأقبلوا عليه وسجدوا له سبحانه وتعالى مستجيبين مطيعين.(244/2)
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
قال الله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] أي: هؤلاء المؤمنون بالله سبحانه يسمعون الأذان فيهرعون إلى الصلاة؛ ليخروا لله سجداً، كذلك إذا جاء عليهم الليل ناموا ثم إذا بهم يستيقظون لصلاة الفجر، ويستيقظون قبل ذلك لقيام الليل، فيقومون لله سبحانه مصلين مستمتعين بالعبادة.
قوله: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ)) من الجفوة كأنهم يجافون الفرش عن جنوبهم، يرتفعون عن الفرش، وتنبو جنوبهم عنها، فهم يتجافون عنها.
قوله: ((عَنِ الْمَضَاجِعِ)) مضجع الإنسان مكان نومه، فالمؤمنون إذا جاء الليل ناموا ما كتب لهم، ولكن لا ينامون الليل كله، وإنما يقومون جزءاً من الليل مصلين لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا واستشعروا الراحة في النوم فإنهم يعتبرون بما يكون يوم القيامة، من الراحة الكبرى، الراحة التي تكون في الجنة حيث لا عمل ولا تكليف فيها، فيستعدون لهذا؛ وذلك بأن يتعبوا أنفسهم بالقيام بين يدي الله عز وجل مصلين لله سبحانه، ذاكرين يوم القيامة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، وهم يطلبون الراحة من رب العالمين في ذلك اليوم، يوم أن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويطلبون أن يبعد الله عز وجل عنهم نار جهنم يوم القيامة، وأن يخفف عليهم الموقف الطويل والحساب العسير يوم القيامة، فلذلك تتجافى جنوبهم عن المضاجع ويقومون مصلين لله رب العالمين بالليل.
قوله: ((يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)) أي: يدعون ربهم في صلاتهم وفي جميع أحوالهم، فهم يكثرون من الدعاء، ومن ذكر الله سبحانه، ويدعونه في وقت البلاء وفي وقت الرخاء، وهم يدعون الله خوفاً من عقابه وطمعاً فيما عنده سبحانه.
وهذا حال الإنسان المؤمن الذي عرف فضل الله فطمع في فضل الله سبحانه، فهو يعبد ربه خوفاً وطمعاً، رجاء فيما عند الله وهرباً مما عند الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن يطلب الله من فضله؛ لأنه علم أن الله الغني وأنه الكريم والجواد سبحانه، وأن الله رحمن رحيم، والله لا يعظم عليه شيء، فمهما طلب الإنسان ومهما سأل الله، فإنه يعطيه؛ لأنه حيي كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردها صفراً بدون شيء، والله يحب من عبده أن يسأله، فهو يحب الذين يسألون، ويطلبونه سبحانه: يا رب أدخلنا جنتك، يا رب نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، يا رب نسألك الخير، اللهم اغفر لنا ذنوبنا.
إذاً: المؤمنون يسألون الله دائماً؛ لأنهم علموا أن الله يحب من عبده أن يسأله، وعلموا أن الله جواد كريم يحب أن يعطي عبده سبحانه وتعالى، ولما علموا ذلك سألوه من فضله وألحوا عليه في السؤال، فأعطاهم الله سبحانه ما أرادوه، وأمنهم مما يخافون منه يوم القيامة.
إذاً: الخوف والرجاء من الله سبحانه، والمؤمن دائماً في الدنيا خائف من الله راج لله سبحانه، فهم خائفون الخوف الذي لا يؤدي إلى اليأس من الله سبحانه، ولكن الخوف الذي يمنع العبد من المعاصي، كالشرك بالله سبحانه وغيره، والخوف الذي يدفع العبد للعمل الصالح، لا الخوف الذي يؤدي إلى أن ييئس من روح الله: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
فهم مع شدة خوفهم هم في غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه وتعالى، يرجون كرمه وفضله، ويرجون الثواب منه سبحانه، ويرجون مغفرة الذنوب، فهم يخافون من الذنوب وهم يرجون من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى.
ولذلك العبادة لا تكون إلا بذلك: غاية الخوف من الله عز وجل مع غاية الرجاء فيما عند الله سبحانه.
قوله: ((وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) أي: أن العبادة تكون بالدعاء وبالصلاة وبالنفقة، يعني: عبادة بدنية وعبادة مالية، فهم ينفقون في سبيل الله سبحانه، فمهما أعطيناهم من كثير أو قليل فحالهم أنهم ينفقون لله سبحانه وتعالى مما قل أو كثر.(244/3)
تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)
قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] أي: لا تعلم أي نفس من النفوس، لا ملك مقرب ولا رسول ولا غيره ما أخفاه الله لهؤلاء المؤمنين في الجنة، إلا من شاء أن يطلعه سبحانه، وهذا يدل على أن هذا الشيء الذي أخفي شيء عظيم جداً وشيء غال جداً، شيء يليق بعظمة الله سبحانه وتعالى، فمهما أراد إنسان أن يتخيل ومهما تخيلت ما الذي عند الله للمؤمنين فلن تصل إلى كنه ذلك؛ فهو أعظم بكثير مما تتخيل، فلا تعلم نفس خلقها الله سبحانه وتعالى أن تعلم ما الذي أخفاه الله سبحانه لهؤلاء من قرة أعين، أي: العين القريرة، والعين القارة، والعين الباردة، فالإنسان في حال فرحه تقر عينه وتستريح عينه، فإذا بكى من الفرح تكون دموع البكاء من الفرح باردة بخلاف الحزن، وإذا حزن الإنسان وخاف وبكى من حزنه نزلت دموع الحزن حارة، فهناك فرق بين الفرح والحزن، فهؤلاء قرت أعينهم بفرحهم وباطمئنانهم بالله سبحانه وتعالى، فإذا اشتد فرحهم وبكوا من الفرح كانت دموعهم قارة باردة وليست دموعاً حارة ساخنة، فهم في فرحهم بالله سبحانه وفي رجائهم بالله سبحانه قد قرت أعينهم.
قوله: ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) أي: بسبب ما كانوا يعملون، فسبب دخولهم الجنة أعمالهم، والأعمال سبب لدخول الجنة وليست ثمناً للجنة؛ لأنه الجنة عظيمة غالية.(244/4)
فضل قيام الليل
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، هذا في قيام الليل، أي: يقوم الإنسان لله سبحانه وتعالى فيصلي بالليل، وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في ذلك، وكان الصحابة ينتهزون الليل؛ ليقوموا بين يدي الله سبحانه، بل ينتهزون أيضاً زيادة ما بين المغرب والعشاء؛ ليقوموا لله عز وجل، فقد كان قيامهم بين يدي الله عز وجل بالليل يطول، وكانوا يتأولون هذه الآية، كما جاء في الحديث عند أبي داود وعند الترمذي (عن أنس بن مالك في هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] قال: كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون)، وهذا حديث صحيح وفيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء، ويعتبرون ذلك من قيام الليل.
وكان الحسن يقول: قيام الليل، أما قيام الليل بعد العشاء فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم منها: ما رواه الترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بقيام الليل) أي: الزموا قيام الليل، وهذا إغراء، كأنه يحفز ويحث ويحرض المؤمن على أن يقوم من الليل ولو بالشيء اليسير، ولو بأن تقرأ الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فأنت إذا قرأت عشر آيات من كتاب الله سبحانه لا تكتب من الغافلين، فلا تكن من الغافلين، وإذا قمت من الليل ولو وقتاً يسيراً قبل الفجر تصلي ركعتين بعشر آيات أو ما فوقها، تكون ممن ذكر الله سبحانه ولم تكن من الغافلين، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم) أي: عادة الصالحين قبلكم، فقد كانوا يقومون بين يدي الله عز وجل بالليل، وقيام الليل عظيم جداً، فكونك تتشبه بالصالحين تكون منهم، كما ورد في الحديث: (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
ثم قال: (وهو قربة إلى ربكم) أي: تتقربون لله عز وجل بقيام الليل.
وقال: (ومكفرة للسيئات) قوله: (مكفرة) هذا مصدر ميمي، معناه: أنه تكفير للسيئات.
(ومنهاة عن الإثم) يعني: ينهى صاحبه عن الإثم.
كذلك ورد في قيام الليل في القرآن: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
الناشئة: هي الارتفاع، يعني: بعدما نام الإنسان على فراشه ارتفع عن فراشه وقام لله عز وجل ليصلي، فالناشئة هي القيام بعد المنام، قوله: {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} أي: مواطأة بين اللسان وبين القلب، فأنت تقرأ بلسانك ما يستقر في قلبك، فهناك موافقة بين الاثنين، لكن في أحوال العبد في النهار وانشغاله بمعاشه تجده يقرأ ما يقرأ، ويسهو عما يقرأ وينسى أشياء بسبب ما ينشغل به، ولكن إذا قام لله عز وجل بالليل اجتمع قلبه، فينطق بلسانه ما يعيه قلبه، فيتفكر ويتدبر ويدعو ربه سبحانه مخلصاً لله عز وجل.
قوله: ((وَأَقْوَمُ قِيلًا)) أي: يقول قولاً مستقيماً في ذلك، ويقول أرضى الأقوال لله سبحانه وتعالى، للموافقة بين القلب واللسان.
فإذاً قيام الليل يكفر الله عز وجل به عن العبد السيئات، وقيام الليل ينهى صاحبه عن الإثم، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وخصوصاً قيام الليل، وقيام الليل يقوي العبد على اجتناب المعاصي والآثام، ولذلك أفضل العباد هم الذين يواظبون على صلاة الفجر والعشاء في جماعة، والذين يقومون لله عز وجل من الليل ولو شيئاً يسيراً، فهؤلاء يكون لهم الأجر العظيم والقربى من الله، ولذلك ورد في حديث عمرو بن عبسة عند الترمذي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن) أي: إذا قدرت أنك تكون من الذاكرين الله في آخر الليل فافعل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(244/5)
تفسير سورة السجدة الآية [15]
من صفات عباد الله عز وجل المؤمنين: أنهم يسجدون لربهم بكرة وعشياً، ولا يستكبرون عن ذلك ولا يستنكفون، والسجود أنواع، فمنه السجود في الصلاة، ومنه السجود عند التلاوة، سواء كانت التلاوة في الصلاة أو خارجها.(245/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجداً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17].
في هذه الآيات كما قدمنا في الدروس السابقة ذكر الله سبحانه من صفات المؤمنين بالله سبحانه وتعالى أنهم مقبلون على كتابه؛ فإذا ذكروا بآيات ربهم سبحانه يخرون لله عز وجل سجداً، فهم في طاعة الله سبحانه، فيسمعون الذكر ويطيعون ربهم ويقبلون إليه، ويسمعون الأمر بالسجود لله سبحانه فيسجدون في الصلاة وفي غير الصلاة، وذكر الله عز وجل من صفاتهم: أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
إذاً: هم يقبلون على تلاوة كتاب الله سبحانه، ويسجدون لله سبحانه سواء في الصلاة أو في غيرها، ويسبحون حامدين ربهم سبحانه، ولا يستكبرون عن طاعة الله وعن عبادته، ويقومون لله بالليل، فتتجافى جنوبهم عن المضاجع وهم يدعون ربهم سبحانه، سواء في القيام أو في غيره، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فهم يكثرون من الدعاء خوفاً من الله سبحانه، فيستجيرون به من عذابه ومن ناره، ويستغيثون به سبحانه، وكذلك يطمعون في رحمته وفي جنته، فيسألون الله الجنة، ويتعوذون بالله من النار، وينفقون مما رزقهم الله تبارك وتعالى.(245/2)
حكم سجود التلاوة
قوله: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} [السجدة:15] آية من آيات السجدة في كتاب الله سبحانه، وعدد آيات السجود في كتاب الله عز وجل خمس عشرة سجدة، فتوجد خمس عشرة آية في القرآن فيها السجود، وبعضها بصيغة الأمر، وهي في ثلاثة مواضع من كتاب الله سبحانه: في قوله سبحانه في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
وكذلك في خاتمة سورة النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62].
وكذلك في سورة العلق في آخرها أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19].
وباقي الآيات فيها الإخبار عن السجود فالعلماء يقولون: هذه الآيات الخمس عشرة التي في كتاب الله عز وجل يستحب السجود عند قراءتها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة، وقد قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وسجد فيها.
ومن الإخبار بالسجود المأخوذ من الآيات ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومن الآثار عن الصحابة أخذ جمهور العلماء أن السجود ليس فرضاً واجباً عند سماع هذه الآيات أو عند تلاوتها، وإنما هو مستحب متأكد الاستحباب، فهي من عزائم السجود، أي: من العزائم التي يعزم على الإنسان فيلزم بها، ولكن ليس إلزام الوجوب، وذهب الأحناف إلى أنه يجب السجود عند هذه الآيات عند سماعها أو عند تلاوتها.
والجمهور أخذوا بأن الآيات نفسها التي ذكر فيها السجود فيها ثلاث آيات بصيغة الأمر التي في الحج وفي النجم وفي العلق، وهذه الثلاث اختلف العلماء هل يجب السجود لها أو لا يجب؟ قالوا: فعلى ذلك باقي الآيات التي بصيغة الإخبار هي أولى بأن لا يلزم السجود فيها.
والإمام البخاري في صحيحه قال: باب: من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود.
وقيل لـ عمران بن حصين: الرجل يسمع السجدة ولم يجلس لها، قال عمران رضي الله عنه - وهو صحابي فاضل-: أرأيت لو قعد لها؟ كأنه لا يوجبه عليه، يعني: أن السائل يقول: لو أن واحداً سمع السجدة ولم يأت من أجل أن يستمع القرآن، وإنما جاء لحاجة، فهل يلزمه أنه يسجد لما سمع التالي يقرأ آية السجود، فـ عمران بن حصين رضي الله عنه قال: أرأيت لو قعد لها؟ يعني: هل تظن أنه لو قعد لها كان يجب عليه السجود؟ فكأنه يرى أنه لا يجب السجود عند تلاوة هذه الآيات، إنما هو مستحب.
كذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: ما لهذا غدونا، فقد جاء في الأثر عند عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: مر سلمان على قوم قعود فقرءوا السجدة فسجدوا، فقيل له، فقال: ليس لهذا غدونا، والمعنى: أنهم قاعدين يقرءون القرآن فمروا بسجدة فسجدوا، لكن سلمان يقول: نحن لسنا نقرأ معهم ولا نسمع معهم، بل نحن نمشي لحاجة، فهم سجدوا، ونحن لا يلزمنا أن نسجد؛ لأننا لم نقعد معهم للسجود أو للتلاوة، إنما نحن مارون.
والغرض من هذا: بيان أن الصحابة رضوان الله عليهم ذكروا هذا السجود، وذهبوا إلى أنه ليس فرضاً واجباً كالذي يجب على الإنسان من ركوع وسجود في الصلاة، فالسجود للتلاوة يتأكد استحبابه، ولكن لا يصل إلى الفرضية.
قال عثمان رضي الله عنه: إنما السجدة على من استمعها، هذا ذكره الإمام البخاري.
وجاء عن عثمان رضي الله عنه أيضاً في مصنف عبد الرزاق: أنه مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان، فقال عثمان: إنما السجود على من استمع، ثم مضى ولم يسجد، وكأن عثمان رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين مر بالمسجد والقاص يذكر الناس، ولما نظر عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قرأ آية فيها السجدة من أجل أن يسجد هو ومن معه ومن أجل أن عثمان أيضاً يسجد معهم، فلم يسجد معهم رضي الله عنه، ومر وانصرف، وقال عثمان رضي الله عنه: إنما السجود على من استمع، يعني: أن القاعد معك الذي يسمع هو الذي عليه أن يسجد، لكن أنا مار ولست بجالس معكم.
ففيه أن سيدنا عثمان رضي الله عنه لم ير أنه يلزمه أن يسجد حتى ولو استمع لمن يقرأ السجدة، طالما أنه لم يجلس للسماع، وكذلك رأى سلمان الفارسي وعمران بن حصين.
فالغرض: أنهم لم يروا وجوب السجود، فالراجح أن سجود التلاوة مستحب متأكد الاستحباب وليس فرضاً واجباً.
ومن أقوى الأدلة على عدم الوجوب كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: ما رواه الإمام البخاري عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير التيمي عما حضر ربيعة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، أي: لما جاء عمر رضي الله عنه على آية فيها سجدة نزل وسجد، وسجد الناس وهم في أثناء الخطبة، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، يعني: قرأ آية السجود في سورة النحل مرةً ثانيةً وهو رضي الله عنه على المنبر، قال: حتى إذا جاء السجدة قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)، ولم يسجد عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
إذاً: سواء كان في خطبة أو في غيرها يجوز أن الإمام أو القارئ ينزل إذا قرأ آية فيها سجدة ويسجد ويسجد الناس معه، ويجوز أنه يتم حديثه ويكمل ولا يجب عليه السجود، وهذا فعل عمر.
وقد يقال: إن هذا فعل عمر، وهو فعل صحابي واحد، وقول الصحابي كما يقول البعض: ليس حجة، ولكن قول عمر رضي الله عنه لا يقال فيه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع الخلفاء الراشدين المهديين، فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ) فـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه من هؤلاء.
ويقال أيضاً: إن عمر كان يخطب، وكان الحاضرون يسمعون خطبة عمر، وكلهم من الصحابة ومن التابعين، ولم ينكر أحد على عمر رضي الله عنه فصار إجماعاً.
إذاً: هنا إجماع من الحضور على موافقة عمر رضي الله عنه، ولو خالف أحد عمر في ذلك لرد عليه وقال له: يجب عليك أن تنزل وأن تسجد، ولكن لم يقل له أحد ذلك، فدل على أن فعل عمر كان بموافقة جميع من في المسجد، وهذا من أقوى ما يكون من الإجماع: أن يكون صحابي موجوداً في مجمع يصعب أن يقال: إنه لم يحضره صحابة، بل كانوا يحضرون مع عمر رضي الله عنه خطبة الجمعة، وهذا شاع عن عمر رضي الله عنه، فلو فرضنا أن البعض كان بعيداً عن عمر فلا بد أن يسمع ممن حضر من عمر ذلك، فلو كان هناك منكر لأنكر عليه ولم يسكت عن ذلك، فعلى هذا فهذا إجماع سكوتي من أقوى الإجماعات، فإنهم حضروا لـ عمر وسكتوا عما قال، فدل هذا على الموافقة.(245/3)
عدد السجدات في القرآن الكريم
وعزائم سجود القرآن خمس عشرة سجدة جاءت في القرآن في مواطن من آخر سورة الأعراف إلى سورة العلق، وهذه الآيات ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيها الإشارات في السجود في خمسة عشر موضعاً.
قال العلماء: هي من عزائم السجود، والبعض قال: هي إحدى عشرة فقط، والبعض قال: هي أربع عشرة، وأخرج منها السجدة التي في سورة (ص) فقال: ليست من العزائم باعتبار أنها توبة نبي، يعني: أنه تعالى ذكر في سورة (ص) عن النبي داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه خر راكعاً وأناب، فظن داود أنما فتناه، فذكر الله عز وجل أن داود ظن أن الله ابتلاه وامتحنه، فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب، فقالوا: هذه ليست من العزائم؛ لأنها فعل نبي عليه الصلاة والسلام، فعلها فسجد، وليس فيها أمر أو إخبار عن المؤمنين، إنما هي توبة نبي، لكن قد سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه فدل على أنها سجدة من ضمن السجدات التي يسجد فيها.
والسجود في القرآن جاء عن أبي رافع في الصحيحين في البخاري ومسلم قال: (صليت خلف أبي هريرة -العتمة يعني: العشاء- فقرأ: ((إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ))) وهي من المفصل وفيها سجدة (فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه) فمن ضمن السجود في المفصل السجود في سورة الانشقاق عند قول الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] فسجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أيضاً: في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: ((إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)) و ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))) يعني: كأنه يرد على من يقول: ليس في آخر المصحف في المفصل سجود؛ فهنا سورة الانشقاق وسورة اقرأ من المفصل، وكذلك سورة النجم سجد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قرأ سورة النجم فسجد فيها وما بقي أحد من القوم إلا سجد) وسورة النجم مكية، وسجد فيها صلى الله عليه وسلم في مكة وسجد معه المسلمون، بل والكفار أيضاً سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وفي سورة (ص) ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها، ففي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر سورة (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه).
إذاً: هنا لما قرأ عمر رضي الله عنه سورة النحل نزل وسجد اتباعاً لما في القرآن، ولما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب الجمعة وقرأ عليه الصلاة والسلام: سورة (ص) ولما بلغ السجود نزل وسجد فيها عليه الصلاة والسلام، قال: (فلما كان يوم آخر لعلها الجمعة التي تليها ولعلها بعد ذلك بفترة قرأها، فلما بلغ السجدة تنشز الناس للسجود) أي: لأن الناس سجدوا في المرة الأولى، وظنوا أنه سيسجد، فاستعدوا للسجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تنشزتم للسجود) فنزل عليه الصلاة والسلام فسجد بهم صلوات الله وسلامه عليه وسجدوا.
وقوله: (إنما هي توبة) أي: أن السجود ليس واجباً، فمن الممكن أننا نسجد كما سجدنا في المرة السابقة، ومن الممكن أننا نقرأها ولا نسجد، وكذلك غيرها من السور يجوز فيها أن الإنسان يقرأ ويسجد، ويجوز أنه يكمل ما بعدها ولا يسجد.
وفي سورة الحج سجدتان في أول السورة وفي آخر السورة.(245/4)
حكم الوضوء لسجود التلاوة
والساجد إما أن يكون في صلاة، وإما ألا يكون في صلاة، فإن كان في الصلاة فهو على وضوء صلاته، وإذا كان في غير الصلاة فلا يسجد إلا أن يكون على وضوء؛ لأنها هيئة من هيئات الصلاة، وهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، وإن خالف في رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وجاء ذلك أيضاً عن واحد من التابعين، لكن جماهير أهل العلم على أنه لا بد أن يكون الساجد على وضوء؛ حتى يسجد سجدة التلاوة في غير الصلاة.(245/5)
حكم التكبير لسجود التلاوة
إذا أراد أن يسجد يكبر ويقول: الله أكبر، ويسجد، ويرفع منها ويكبر؛ فإن جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد على أنه إذا كان في الصلاة يكبر ويسجد، ويكبر ويرفع، لكن الخلاف هل يرفع اليدين أو لا يرفع اليدين إلا إذا كان في الصلاة؟ فالذين رأوا أنه لا يرفع اليدين قالوا: الأصل في الصلاة أن الهوي للسجود لا يرفع فيه اليدين، وأنت في الصلاة ترفع اليدين عند إرادة الركوع ففقول: الله أكبر وتركع، وترفع من الركوع وتقول: سمع الله لمن حمده، وترفع اليدين معها، فإذا نزلت للسجود فليس هناك رفع اليدين إلا على الندرة؛ فإن رفع اليدين جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الروايات، فأحياناً كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع اليدين مع السجود، فعلى ذلك إذا سجد وهو في الصلاة يكبر، وعليه الأئمة الأربعة كما ذكرنا، وإن شاء رفع اليدين، وإن كان الأغلب عدم رفع اليدين فيه، وأما في غير الصلاة هل يكبر أو لا يكبر؟ فيه خلاف؛ فذهب الإمام مالك رحمه الله وحده إلى أنه لا يكبر في غير الصلاة، فجاء عنه أنه قال: إذا كان في الصلاة كبر، واختلف عنه في غير الصلاة، يعني: البعض يروي عن مالك أنه يكبر، والبعض يروي عنه أنه لا يكبر.
إذاً: إذا كان في الصلاة فالأئمة الأربعة على أنه يكبر إذا نزل لسجود التلاوة، ويكبر إذا رفع منها، وما هو دليلهم على التكبير؟ قالوا: إن كان في الصلاة فهذه هيئة من هيئات الصلاة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل خفض في الصلاة ورفع، إلا ما استثني من الرفع في قوله: سمع الله لمن حمده، فليس تكبيراً، وعلى ذلك الأئمة الأربعة على أنه في الصلاة يفعل ذلك، أما ما جاء من حديث ابن عمر أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) فهذا الحديث رواه الإمام أبو داود عن ابن عمر، والذي روى هذا الحديث اثنان من التابعين: أحدهما: عبد الله بن عمر العمري وهو ضعيف في حفظه، والآخر أخوه عبيد الله بن عمر العمري وهو ثقة، فـ عبيد الله لم يذكر (كبر)، وأخوه ذكرها، قال عبد الرزاق: كان الثوري يعجبه هذا الحديث، أي: يعجبه الحديث الذي فيه التكبير؛ لأن فيه التكبير، وإن كان راويه فيه ضعف في حفظه، قال أبو داود: كان يعجبه -يعني: الثوري - لأنه كبر.
والحديث في سنده ضعف، ولكن يغني عن ذلك عموم حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع)، وهذا صح عنه صلوات الله وسلامه عليه، فالحجة أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل خفض ورفع.
إذاً: إذا كنت في الصلاة فكبر واسجد، وإذا كنت في غيرها فقياساً عليها أيضاً تكبر وتسجد، وتكبر وترفع إن كنت في الصلاة لحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل خفض ورفع).(245/6)
أذكار سجود التلاوة
يقال في سجود التلاوة أذكار السجود في الصلاة: سبحان ربي الأعلى، ويقول: اللهم لك سجدت وبك آمنت وعليك توكلت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره، وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الله الخالقين.
إذاً: الأذكار التي يقولها في السجود يقولها أيضاً في سجود التلاوة.
أيضاً: ثبت في حديث عند الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيتني الليلة أصلي خلف شجرة، فقرأت السجدة -يعني: آية فيها سجدة- فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي) في هذه الرؤيا أن الرجل قرأ آية فيها سجدة فسجد، والشجرة أيضاً سجدت لسجود الرجل، فقال: (فسمعتها وهي تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود).
إذاً: الشجرة سجدت، وهذه رؤيا منامية رآها الرجل، وهي رؤيا حق، فقالت الشجرة في سجود التلاوة: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) قال الرجل: (فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد، قال ابن عباس: فسمعته يقول ما أخبره الرجل عن قول الشجرة)، فصارت سنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما ذكره الرجل عن الشجرة في المنام، فصارت سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في سجود التلاوة يقال ذلك، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(245/7)
تفسير سورة السجدة (تابع) الآية [15]
يستحب للقارئ والمستمع لكتاب الله أن يسجد عند مواضع السجدات في القرآن العظيم، ولسجود التلاوة أحكام فصلها العلماء، ومن مواضع السجدات آية السجدة في سورة السجدة، فقد وصف الله بالإيمان من إذا ذكر بآيات الله سجد لله وسبح بحمده، وتراه يقوم الليل خوفاً من عذاب الله وطمعاً في جنته، فهؤلاء قد وعدهم الله عز وجل بما لا يخطر على قلوبهم من نعيم في الجنة.(246/1)
أحكام سجود التلاوة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15 - 17].
آيات السجود في القرآن خمسة عشر آية، هذه الآيات ورد في بعضها الأمر بالسجود في ثلاث مواضع وفي باقي القرآن إشارة إلى السجود أو إخبار عن حال المؤمنين في سجودهم لله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا أن جمهور العلماء على أن هذه الآيات يستحب السجود عندها إذا سمعها الإنسان أو إذا قرأها القارئ سواء في الصلاة أو في غير الصلاة.
فالذي يقرأ سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة يستحب له أن يسجد، والذي يستمع إذا قصد الاستماع فيسجد مع القارئ، وإذا كان في الصلاة وجب عليه أن يتابع الإمام في السجود.
والسجود في غير الصلاة لابد أن يكون على طهارة، والذي يسمع الآية التي فيها سجدة لابد أن يكون على طهارة إذا أراد أن يسجد، وعلى ذلك جمهور أهل العلم.
ويكبر إذا سجد، سواء في الصلاة أو في غير الصلاة على الراجح، ويجوز أن يرفع اليدين ويسجد، ويجوز عدم رفع اليدين في السجود، خاصة إذا كان في الصلاة؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم في النزول إلى السجود عدم رفع اليدين إلا أحياناً كان يرفع اليدين، وهذا نزول إلى السجود، يعني: القارئ في الصلاة يقرأ آية السجدة وينزل إلى السجود، ويجوز أن يرفع اليدين، وإن كان الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في نزوله إلى السجود أنه كان لا يرفع اليدين.
وقد ذكرنا أذكار سجود التلاوة، وما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكرنا الذكر الذي سمعه الرجل من شجرة في رؤيا منامية، وذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلها من عبدك داود).
فإن قيل: هل يستحب إذا كان في غير الصلاة أن يسلم بعد سجود التلاوة؟ ف
الجواب
الراجح: أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم فيه، فالذي في الصلاة سيسلم عند الانتهاء من صلاته، أما الذي في غير الصلاة فالمشابهة فقط في السجود، إذاً: يكبر ويسجد، ويكبر ويرفع، وليس فيها تسليم على الراجح.(246/2)
حكم قراءة آية فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها
قراءة سورة السجدة في صلاة لا يجهر فيها، بعض أهل العلم كرهوا ذلك، كرهوا أن يقرأ الإمام سورة السجدة في صلاة الظهر أو في صلاة العصر؛ لأنه يربك المأمومين بذلك، والبعض الآخر رأى أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد قرأ بسورة الانشقاق في صلاة الظهر صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: يجوز للإمام أن يفعل ذلك ولكن لا يربك الناس، فلو أراد قراءة سورة فيها سجدة فلينبه الناس قبل الصلاة أنه سيقرأ هذه السورة وفيها سجدة وأنه سيسجد فيها مثلاً، أو أنه إذا وصل إلى هذه الآية فليرفع صوته حتى يسمع الناس وراءه أنه قرأ آية فيها سجدة وليسجد بعد تنبيههم أنه يسجد لسجود التلاوة.
ولو فرضنا أنه لم يفعل ذلك جاز له، ولو أن الناس لم يدروا أن الإمام سجد سجود تلاوة، بل ظنوا أنه غلط الإمام، فعلى ذلك لو أنهم لم يتابعوه فلا شيء عليهم، أو أنهم ظنوا أن الإمام أخطأ فنزل إلى السجود بدلاً من الركوع فلا شيء عليهم في ذلك، هذه بعض الأحكام التي تتعلق بسجود التلاوة.(246/3)
حكم الذي يقرأ آية السجدة وهو في سفر
إذا كان الإنسان في سفر، وقرأ آية فيها سجدة فله أن يومئ بالسجود، وإذا قرأ في المصحف آية فيها سجدة، فله أن يكبر وينحني بالركوع، ولا يلزم عليه أن ينزل على الأرض للسجود، وإذا فعل الركوع حسن، وإذا لم يفعل وأومأ بالسجود جاز له ذلك.(246/4)
كراهة جمع آيات السجود واختصارها بسجدة واحدة
يذكر العلماء أنه يكره اختصار السجود يعني: جمع الآيات التي فيها سجود، ويقرؤها كلها ويسجد فيها، قالوا: لم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يسجد إذا مر بسجدة التلاوة أثناء قراءة السورة، لكن أن يتعمد جمع ذلك بسجدة واحدة فهذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم.(246/5)
حكمة قراءة سورة السجدة فجر يوم الجمعة
في فجر الجمعة يستحب قراءة سورة السجدة، ولكن ليس قراءة سورة السجدة لأن فيها سجدة، بل كان يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم للتذكير بما في هذه السورة، فهي تشير إلى خلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإلى نزول آدم إلى هذه الدنيا، وإلى ما فعله الشيطان بالإنسان، وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وفيها إشارة إلى الجنة وإلى النار، وهذا كله في يوم الجمعة، خلق آدم فيها، ونفخ فيه الروح فيها، وأنزله من الجنة فيها، والبعث يكون يوم القيامة، والفناء لهذه الدنيا يوم القيامة يكون في يوم الجمعة، فهذا اليوم تقرأ فيه سورة السجدة للتذكير بيوم القيامة، والتذكير ببدء الخلق، وليس لكونها فيها سجدة، فالبعض في يوم الجمعة إذا لم يكن حافظاً لسورة السجدة يتعمد قراءة سورة أخرى فيها سجدة حتى يسجد فيها ظناً منه أنه أتى بالسنة، مع أنه لم يأت بالسنة بذلك، فإما أن يقرأ سورة السجدة وإما أن يقرأ غيرها من السور إذا كان لا يحفظها، ولكن لا يلزمه أن يقرأ آية فيها سجدة في يوم الجمعة.
أيضاً يستحب للإمام إذا ظن أن الناس يتوهمون أن قراءة سورة السجدة واجبة في يوم الجمعة أن لا يقرأها أحياناً، إذا كان الناس لا يعرفون الحكم الشرعي، ويظنون أن قراءة سورة السجدة فرض يوم الجمعة، فهي ليست فرضاً وإنما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا توهم الناس أنها فرض فيستحب له أنه لا يقرأ بها أحياناً؛ حتى لا يظن الناس أن هذا السجود فريضة في يوم الجمعة.(246/6)
حكم سجدة التلاوة
سجود التلاوة ليس فرضاً، وإن كان عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله واجب على قاعدته في التفريق بين الفرض والواجب، فهو يحتج بقول الله عز وجل: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:20 - 21]، فيقول: هذه الآية حجة في وجوب السجود للتلاوة.
لكن جمهور العلماء يجيبون عن ذلك: بأن الله عز وجل ذم هؤلاء على ترك السجود؛ لأنهم لا يعتقدون فضله؛ لأنهم كفار، ولا يسجدون لله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يعتقدون فضل ذلك، فذمهم على ذلك بقوله تعالى:: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:20 - 23].
فهذه الآية في الكفار الذين لا يعتقدون فضل ذلك، لكن المؤمنين يقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد سجد وترك صلوات الله وسلامه عليه، وجاء عن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ سورة النحل على المنبر، وأتى على السجدة ونزل فسجد فيها، وفي جمعة أخرى أتى على السجدة ولم ينزل ليسجد فيها.
يسن السجود للتالي وللمستمع، وهناك فرق بين المستمع والسامع، المستمع: الذي جلس للاستماع، والسامع: الذي مر فسمع، ولم يجلس للاستماع، فالذي يقرأ والذي يجلس للاستماع يسن لهما السجود، والذي لم يقصد السماع لا يلزمه ذلك، كما قدمنا عن عثمان وعن ابن عباس وعن عمران بن حصين رضي الله عنهم.
فالإنسان الذي يسمع الآيات التي فيها سجدة يسجد، ولا يغني الركوع عن السجود في غير الصلاة عند جماهير أهل العلم، فإما أن يسجد وإما أن يترك، لكن لا يركع بدلاً من السجود، فإن كان في الصلاة وقرأ السجدة وكان في آخر تلاوته، كأن يقرأ في سورة النجم مثلاً ووصل إلى قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62]، فإنه يجوز للإمام أن يكبر ويسجد، وبالتالي المأمومون معه يسجدون، ويجوز له أن يكتفي بالركوع؛ لأن السجود يكون بعده، وهذا ما عليه جمهور العلماء فيجوز له أنه يكبر ويركع، ويجوز له أن ينزل فيسجد، فإذا سجد ثم قام بعد ذلك فليقرأ آية ثم يركع للاستحباب، فلو أنه قام ولم يقرأ شيئاً ثم وقف ثم كبر وركع جاز له ذلك.
وينبغي للمأموم أن يتابع الإمام وأن ينظر إلى الإمام هل سيسجد أم لا؟ حتى لا تحصل مخالفة بين المأموم والإمام.
ولو فرضنا أنه حدث ذلك فلينبه المأموم بقول: سبحان الله ونحو ذلك، حتى يرجع المأموم ويدرك الإمام في ركوعه.(246/7)
حكم سجود التلاوة في أوقات الكراهة
حكم سجود التلاوة حكم صلاة النافلة، فإذا كان في أوقات تحريم صلاة النافلة فلا يسجد، وأوقات التحريم الثلاث، هي عند طلوع الشمس؛ لأنها تطلع بين قرني شيطان، وعند غروب الشمس؛ لأنها تغرب بين قرني شيطان، وكذلك قبيل الظهر بدقيقة أو دقيقتين، هذه أوقات تحرم فيها الصلاة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة النافلة فيها؛ ولا يجوز تأخير الفريضة إليها.
وإذا قرأ آية سجدة في هذه الأوقات فلا يسجد، لكن إذا كان في غيرها من الأوقات فله أن يسجد حتى ولو كان في أوقات كراهة الابتداء بالنافلة؛ لأن هذه الأوقات يجوز فيها صلاة ما له سبب، فإذا دخل الإنسان المسجد مثلاً بعد صلاة الفجر، فله أن يصلي تحية المسجد؛ لأنها صلاة سبب، فما له سبب من صلوات له أن يصليها.
كذلك سجود التلاوة فهو سجود له سبب، فإذا صلى الفجر وجلس يقرأ القرآن ما لم يدخل في وقت التحريم، له أنه يسجد للتلاوة وله أن يترك سجود التلاوة، كذلك إذا صلى صلاة العصر وجلس يقرأ القرآن فمر بآية فيها سجدة تلاوة يجوز له أنه يسجد، ويجوز له أن لا يسجد، لكن إذا كان وقت التحريم وهو دقائق قليلة، فلا يجوز له أن يصلي فيه نافلة ولا أن يسجد سجود تلاوة، أما وقت الكراهة فوقته ممتد من العصر إلى غروب الشمس ومن بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس.
ووقت التحريم أقل من ربع ساعة من وقت طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس، فهذا تحرم الصلاة فيه، فلا يصلي فيه نافلة ولا يسجد فيه للتلاوة، وقبيل الظهر بمقدار ركعة قبل صلاة الظهر، هذا الوقت لا يصلي فيه نافلة؛ لأنه تسجر فيه جهنم، يقول عقبة بن عامر: (كان ينهانا صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تضيف للغروب، وحين يستقل الظل بالرمح) وهذه ثلاث أوقات قليلة لا يُصَلَّي فيها نافلة، وأيضاً لا يسجد فيها للتلاوة.(246/8)
تفسير قوله تعالى: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها)
قال الله عز وجل عن المؤمنين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة:15] يعني: نزلوا على رءوسهم ساجدين على جباههم لله عز وجل، مسبحين الله سبحانه، حامدين له سبحانه.
وقوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة:15] أي: وهم لا يستكبرون عن الطاعة ولا يستكبرون عن عبادته سبحانه وتعالى، كما استكبر أهل الكفر.
قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] أي: ترتفع وتنبو عن المضاجع، وتتنحى جنوبهم عن المضاجع، يقومون لصلاة الليل، ولا ينامون نوماً طويلاً فيضيعون الصلاة.
وهم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] يعني: في كل وقت يدعون الله خوفاً من الله، وطمعاً فيما عند الله من فضل ورحمة سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، فجمعوا العبادات البدنية والعبادات المالية، فهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، وهم يقومون لله مصلين عابدين، وهم ينفقون لله سبحانه مما رزقهم.(246/9)
تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)
من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل قيام الليل حديث سهل بن سعد الساعدي قال: شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17]) رواه الإمام مسلم في صحيحه.
فقوله تعالى: ((فلا تعلم نفس)) كل النفوس وأي نفس من النفوس مهما بلغت من العلم لا تعلم ما الذي ادخره الله عز وجل من ثواب عظيم جدير لعباده المؤمنين، ففي الحديث: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، إذاً: فيها: جمال عظيم، وفيها نعيم مقيم، والعين مهما رأت من نعيم في الدنيا فإنه لا يقارن بما في الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا أذن سمعت) من أصوات جميلة، وموسيقى طيبة، ومن أشياء يسمعونها وينعمون بها، والله سبحانه وتعالى يفككهم بها في الجنة، لم يسمعوا قبل ذلك مثلها، وهذا يجعل الإنسان المؤمن يصبر على هذه الدنيا، ويصبر على أمر الله، ويصبر عما نهى الله عز وجل عنه، وهو يريد من الله سبحانه هذا الفضل العظيم، فيترك الدنيا لنعيم الجنة.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنتين)، نهينا عن الحسد، ولكن يجوز الحسد وليس بمعنى الحسد الحقيقي، ولكن بمعنى الغبطة، يغبط الإنسان صاحبه، والحسد معناه: تمني زوال النعمة من الغير، لكن المقصود هنا: تمني أن يكون لي مثل ما لهذا الإنسان، قال: (رجل آتاه الله الكتاب، وقام به آناء الليل والنهار)، يعني: رجل علمه الله سبحانه وحفظه القرآن فقام يصلي بالليل، فيتمنى الإنسان أن يكون مثله، ويحاول أن يقلده في ذلك، والآخر: (رجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل والنهار)، فيقول المسلم: يا ليت لي مثل فلان، وأنا أعمل مثل فلان، فيؤجر مثل عمل هذا الآخر.
أيضاً مما جاء في الحث على قيام الليل: حديث رواه البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق الباب عليه وعلى فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، والله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهد أهله عليه الصلاة والسلام بالصلاة وخاصة قيام الليل، وهم لا يتركون الفرائض، ولكن قيام الليل قد يكسل الإنسان عنه، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لبيت ابنته فاطمة رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب زوجها رضي الله عنه، فطرق الباب ثم قال: (ألا تصليان؟ وقام علي بن أبي طالب من النوم فقال: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية من سورة الكهف: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54])، وكان هذا تأديباً لـ علي بن أبي طالب أي: لا ترم كسلك على تقدير الله سبحانه وتعالى، وتقول: ربنا لو أراد أن نقوم لقمنا، كما أن كثيراً من الناس يقول لك: لو أراد الله أن نصلي لصلينا، فنقول له: اذهب وصلَّ، وانظر هل يمنعك من الصلاة أم لا؟ إذاً: لا تعلق الأمر على قضاء الله وقدره سبحانه، ولكن افعل ذلك، فالإنسان المؤمن يأخذ بالأسباب ليقوم الليل، وفرق بين إنسان يضبط المنبه ليقوم قبل الفجر ويصلي ركعتين، وبين إنسان أطفأ المنبه قبل أن ينام، ويقول: لو أراد الله أن أقوم لقمت! لا يستويان أبداً، فلو أن هذا الإنسان الذي أخذ بالأسباب، نام ولم يقم الليل، ولا حتى صلاة الفجر، وقام بعد الشروق فهذا مأجور، له أجر قيام الليل، وأجر صلاة الفجر؛ لأنه معتاد على ذلك، وتصدق الله عز وجل عليه بنومه ذلك، وأما الآخر لم يأخذ بالأسباب فضيع وفرط بتقصيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي رضي الله عنه: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54].
والمعنى الآخر الذي ذكرناه في سنن أبي داود عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل يغلبه عليها نوم، إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة)، وهذا فضل من الله الكريم سبحانه وتعالى.
نسأل الله من فضله العظيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(246/10)
تفسير سورة السجدة الآية [16]
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن من صفات المؤمنين أنهم يتركون أماكن النوم والراحة ويقومون الليل لله تعالى فيتهجدون ويذكرون الله تعالى، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً، وينفقون مما رزقهم الله تعالى.
وقيام الليل سلاح المؤمن، وفوائده كثيرة ومنافعه عظيمة عاجلاً وآجلاً، ويسن للمؤمن أن يوقظ زوجته وأهله من أجل أن يقيموا الليل، ويكون لهم في ذلك الأجر العظيم عند الله تعالى، والمؤمن إذا صدق مع الله في قيامه بالليل فإن صلاته ستنهاه عن الفحشاء والمنكر.(247/1)
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:15 - 16].
مدح الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين لأنهم يقبلون على ذكر الله سبحانه، ويخرون لله سجداً، ويسبحون بحمد ربهم وهم لا يستكبرون.
كذلك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] أي: لا ينامون الليل كله ولكن يقسمونه أجزاء فينامون ويستريحون في جزء من الليل، ويقومون لله سبحانه في جزء آخر، فيصلون ويذكرون الله، ويطلبون العلم، فهم في قيامهم الليل في ذكر وفي فقه وفي علم وفي تعلم وفي خشية لله، وفي قراءة القرآن وسماعه وغير ذلك.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في هذا المعنى، منها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان لا يفر إذا لاقى عليه الصلاة والسلام).
فأحب الصلاة إلى الله سبحانه صلاة داود، فكان يقسم ليله فنصفه ينام فيه فيستريح ثم يقوم ثلث الليل ثم ينام سدس الليل، فقسم الليل أسداساً فثلثين من الليل للنوم وثلث لقيام الليل.
والمؤمن يقتدي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبفعل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنبي الله داود كان ينام ثم يقوم الليل ثم ينام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حاله أنه كان يقوم الليل وينام فيه عليه الصلاة والسلام، وأخبر عن رجل نام حتى أصبح، أي: نام الليل كله من أوله إلى آخره حتى جاء وقت صلاة الصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
والشيطان لا يترك الإنسان أبداً، فيأتيه عند النوم ويعقد على قافيته كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) وفي رواية أخرى: أنه يأتي بجرير وهو حبل فيعقده الشيطان على رأس الإنسان عند النوم ويعقد ثلاث عقد، ولذلك يتعلم السحرة من الشيطان هذا الشيء، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعقدون الخيط وينفثون فيه بكلام يقولونه حتى يغووا خلق الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالمؤمن إذا نام جاء الشيطان عند رأسه فعقد على رأسه عند قفاه ثلاث عقد يضرب على كل عقدة ويقول: عليك ليل طويل فارقد، فيوهم الإنسان أن ما زال الليل أمامه طويلاً فينام، فكلما أراد أن يستيقظ ليصلي أو يذكر الله عز وجل قال له الشيطان: مازال الليل طويلاً، فينام حتى تطلع الشمس وضاع عليه الليل فلا قام الليل ولا صلى الصبح.
فالشيطان يضحك على هذا الإنسان ويستهزئ به حتى أنه يبول في أذنيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما لا نعرف، ويرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه.
ولو قيل لإنسان: إن إنساناً يبول في أذنك لأنف عن ذلك وتغيظ وعادى هذا الذي يفعل ذلك، فكيف بهذا الشيطان الذي يتوعد الإنسان أنه سيبول داخل أذنيه، ومن يرضى لنفسه أن يستهين به الشيطان ويضحك عليه، ويسخر منه ويبول في أذنيه، فهذا الذي ينام الليل كله ويضيع ليله في النوم، والذي يضيع ليله سهران يتفرج على التلفزيون وعلى الدش وعلى كذا، فيا ترى ماذا سيعمل الشيطان بهذا الإنسان؟ وإذا كان الشيطان سخر من الذي لم يقم يصلي بالليل واستهان به واحتقره فتبول في أذنيه، فكيف بمن يقضي الليل في معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، ويجلس يتفرج على الحرام، ويضيع وقته في الحرام ولا يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى؟! لذلك الإنسان المؤمن علم من القرآن {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] والشيطان يدعو أصحابه من بني آدم لكي يدخلوا النار؛ لأن آدم هو السبب في إخراج الشيطان من الجنة، وهو السبب في أنه لن يدخلها؛ لأن الشيطان لم يرض أن يسجد له، وعلى ذلك توعد الشيطان بني آدم كما قال تعالى عنه: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، وقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ:20] أي: ظن إبليس ظناً وصدقه على أوليائه وعلى أتباعه، فإذا بهم يطيعون الشيطان، ويبتعدون عن طاعة الله، فيثقل عليهم أن يقوم أحدهم فيصلي ركعتين من الليل، ولو أنه قام في مكان لغير الصلاة، أو مشى ليلاً على البحر أو كان يلعب فإنه يمكنه هذا الشيء، لكن أن يصلي ركعتين فهذا ثقيل عليه، وقد يسهر الليل في ضحك وفي لهو أما أن يصلي لله عز وجل فهذا لا يمكن، والإنسان إذا أراد أن يصلي يأتي إليه الشيطان ويجعله يتعب من صلاته ويمل منها ويسرح فيها، بل يريد أن يخرج منها مباشرة، مع أن صلاة الليل من أجمل ما يكون من الصلاة، قال تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وحثهم على أن يقوموا من الليل، ولذلك جاءت أحاديث عنه صلوات الله وسلامه عليه فيها الحث على ذلك، منها هذا الحديث الذي يخبر أن الشيطان يقعد لكم بالمرصاد ويفعل ذلك.
ويزيل المؤمن عن نفسه عقد هذا الشيطان بالعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة) والإنسان أول ما يقوم بالليل فإنه يضبط المنبه على أن يقوم قبل الفجر بساعة أو بنصف ساعة أو أكثر أو أقل، فأول ما يسمع المنبه لا يطفئه ويكمل نومه، ولكن يستيقظ من نومه ويذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فيقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، الحمد لله الذي عافاني في بدني، ورد علي روحي، وأذن لي بذكره.
فيقوم ويجلس ويذكر الله ثم يتوجه فيتوضأ ليصلي لله سبحانه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده أو عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس) الذي قام فصلى من الليل شيئاً وصلى الفجر يصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان.(247/2)
حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)
من الأحاديث حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في الصحيحين أيضاً أنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل).
وجاء في حديث آخر لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رؤيا كأن النار أمامه، وكأنها بئر والبئر بعيدة عنه وجاء رجلان فأخذاه ولما وصلا به عند هذه البئر وجد من يمنعه عنها وقيل له: إنه ليس من أهلها، ووجدها مطوية ومقفولة فأصبح وقص الرؤيا على أخته فقصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل) يعني: كأنه لم يكن يقوم من الليل في ذلك الوقت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) أي: لم يكن يحصل له هذا الشيء الذي كان في الرؤيا وهو دخول النار فإنه بعيد عنها، فكان عبد الله رضي الله عنه لا ينام من الليل إلا قليلاً بعدما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
فـ عبد الله بن عمرو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكن مثل فلان) وهذا من أدب الراوي أنه لم يذكره، ولعل فلاناً هذا قد تاب بعد ذلك، أو لعله كان لا يقوم من الليل ولم يفضحه الراوي الذي حدثهم عنه وهو عبد الله بن عمرو، ولعله النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلان وذكره هكذا، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ذكره باسمه حتى يقال له: قال عنك النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيرجع ثانية إلى قيام الليل، فالغرض أن قيام الليل جاءت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث عليه.(247/3)
صلاة الليل تنهى عن المعاصي
جاء في حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق) أي: يمد يده على حاجة فيأخذها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سينهاه ما يقول)، والمعنى أن هذه الصلاة ستحدث في قلبه توبة وينتهي عن هذا الشيء.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يمكن أبداً لإنسان يقوم الليل ويكون صادقاً في ذلك حتى لو كانت من عادته أنه يفعل شيئاً من المعاصي فإذا قام الليل قياماً صادقاً فإنه سيمنعه القيام من هذه المعصية التي هو فيها، وقد جاء في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا صدق الإنسان في صلاته أعانته على البعد عن معصية الله، لذلك الكثير من الشباب يشكو ويقول: أنا أعاهد ربنا أني أغض البصر، ويرجع مرة أخرى للنظر إلى ما حرم الله، أو أعاهد ربنا أني لا أشرب السجارة ويعود مرة ثانية ويشربها! فنقول له: قم الليل، واصدق مع الله سبحانه في صلاتك تمنعك عن هذا، ولكن ليكن عندك العزيمة الصادقة التي لا تعلق المعصية على القضاء والقدر، كأن تقول: لو هداني الله سأبطل السجاير، أو سأكون أفعل كذا، ولكن قم وادع ربك سبحانه، واعزم على هذا الشيء، فتجد صلاتك هذه تنهاك عن الفحشاء والمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(247/4)
حديث: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها)
من الأحاديث العظيمة عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها) الغرف جمع، والغرفة معناها الموضع العالي، وأشرف المواضع في البيت يسمى الغرفة، فالجنات العالية فيها غرف، وعرفنا من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، فليست من الطوب الذي عندنا، ولكن الحجارة التي في الجنة من اللؤلؤ والياقوت والذهب والفضة.
ومع كونها من ذلك فقد بلغ النقاء في هذه الأشياء التي بنيت منها هذه الغرف أن صاحب الغرفة يرى ما بداخلها من خارجها، ويرى ما بخارجها من داخلها، فهي غرف عظيمة طيبة، فالأعرابي لما سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه فقال: يا رسول الله! لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام) أي: أربع خصال إن فعلتها وعودت نفسك عليها كانت لك هذه الغرف العظيمة الطيبة سواء للرجال وللنساء.
قال صلى الله عليه وسلم: (هي لمن أطاب الكلام) والمعنى: أن كلامه طيب، وأسلوبه جميل في الكلام، وخلقه عظيم، فهو يتشبه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وليس هو إنساناً نفوراً أو إنساناً يرفع صوته على الناس أو بذيء اللسان شتاماً سباباً، ومن صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالجاهل يؤذيه في الكلام، ومع ذلك فهذا العبد الصالح يرد عليه بطيب الكلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأطعم الطعام) يعني: أكثر من الصدقة والهدية، فيطعم الضيف والفقير والمحتاج ويعطي للجار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأدام الصيام) أي: صام الشهر الذي فرضه الله سبحانه وأكثر من الصيام في غيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى لله بالليل والناس نيام) إذا كان الناس يقظى فإن الإنسان قد يصلي مثلما يحصل في رمضان في صلاة القيام، فإن الناس يشجع بعضهم بعضاً، فإذا رأى إنسان إنساناً يصلي فإنه يصلي معه غيرة منه، فهذا شيء طيب أن الإنسان يغار في الخير، ولكن أفضل من ذلك أن يقوم بالليل وحده لا يراه أحد من الناس.
الإنسان وهو في بيته إذا قام بالليل والناس نائمون ومع ذلك لم يقل: أنه مثل الناس فينام مثلهم، ولكن قام لله عز وجل فصلى والناس نيام واستمتع بذلك؛ فهذا من أهل هذه الغرف التي يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها.(247/5)
فوائد صلاة الليل
صلاة الليل تنير قلب المؤمن، وتنير وجهه، وتجعل المؤمن محباً للخير، محباً للطاعة، والذي صلى من الليل وصلى الفجر في جماعة أصبح وقد حفظه الله وحرسه الله سبحانه، فهو في حفظ الله سبحانه وفي كلئه، ويتوعد ربنا سبحانه من يؤذي الذي يصلي الفجر؛ لأنه في حفظ الله سبحانه، ويتوعد من يعاديه ومن يؤذيه؛ لأنه صلى لله عز وجل الفجر فكان في حفظ الله سبحانه تبارك وتعالى فيصبح طيب النفس.
وإذا ضيع صلاة الليل وضيع صلاة الفجر وكانت عادته ذلك فإنه يصبح خبيث النفس كسلان، ويقوم من النوم ويريد أن ينام مرة أخرى، ولا يريد أن يشتغل، لأنه تعبان ومتضايق، ولا يريد أن يكلم أحداً ويقوم من النوم ثم يمشي ولا يسلم على أحد، ولا حتى يرد عليه السلام، ولو أنه قام لله عز وجل بالليل ثم صلى الفجر لجعل الله عز وجل نفسه راضية طيبة، ووجهه منيراً من صلاته، ويجعل الله عز وجل عليه الرضا وفيه الرضا، وتجده طيب النفس، والإنسان الذي لا يفعل ذلك تجد منه التكشير والعبوس والبعد والنفور، وهذا نتيجة للكابوس الذي كان عليه طول الليل في نومه وبعده عن ربه سبحانه تبارك وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطاً طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).(247/6)
فضل الرجل إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين
من الأحاديث العظيمة التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته).
فصلاة الليل ليست مقصورة على واحد من البيت هو الذي يقوم الليل، ولكن يقوم الليل ويدعو زوجته أن تصلي ولو في آخر الليل، ولو أن تصلي ركعتين من آخر الليل، وبعد ذلك يرددان الأذان ثم يصليا صلاة الفجر فيكسبا الأجرين بذلك.
ويدعو النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ويدعو لامرأته، فيقول: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء) يعني احتال حيلة لكي يصحي زوجته، ونضح بمعنى رش، ولم يأت بماء وصبه عليها، والنضح بمعنى رش الماء اليسير بحيث يعينها على أن تقوم لتصلي، ودعا للمرأة أيضاً فقال: (ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) إذاً: البيت فيه تعاون بين الرجل وبين المرأة على قيام الليل، وعلى ذكر الله سبحانه وعلى حبه، فهل يدخل الشيطان بيتاً مثل هذا؟ وهل يكون في هذا البيت من وساوس ومن بعد عن الله سبحانه؟
الجواب
لا، طالما الرجل يخاف الله ويحب الله والمرأة كذلك، فتجد البيت بيتاً طيباً، والكل يحرص على العبادة، والكل يحرص على أن يقوم لله سبحانه تبارك وتعالى بالليل.
أما فضل ذلك فقد روى أبو داود أيضاً عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين والذاكرات).
وقال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، فانظر للترقي فبدأ بالمسلمين، فالإسلام اشترك فيه الجميع، ثم يرقى درجة وراء درجة، وأعلى درجة يصل فيها الإنسان أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فهؤلاء الذين أتوا بكل الطاعات يجعلهم الله من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وطاعة الله سبحانه منها قيام الليل، أن يقوم الرجل ويوقظ امرأته فيصليا، فذكر في الحديث صلوات الله وسلامه عليه أنهما صليا ركعتين جميعاً، ركعتين ركعتين، حتى لو أن الرجل أم بامرأته فقرأ بها الفاتحة وقل هو الله أحد في ركعتين اثنين، فهذا من أقل ما يفعله المسلم مع زوجته، وكتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، ومع المداومة والمواظبة على ذلك تصير عادة للإنسان ويحب هذا الشيء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فصليا أو صلى) أي: سواء أن كل واحد منهما صلى لوحده أو هما الاثنان صليا معاً، فيكتبان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً.(247/7)
تفسير سورة السجدة [16 - 22]
إن المؤمنين الصالحين لا يستوون مع الفاسقين الظالمين، فلكل فريق جزاء، فجزاء المؤمنين الصالحين الجنة، وجزاء الفاسقين الظالمين النار، والكافر له عذابان: عذابٌ في الدنيا، وعذاب في القبر ويوم القيامة.(248/1)
تفسير قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة السجدة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 19].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها صفات المؤمنين الصالحين الذين يؤمنون بآيات الله سبحانه ويقبلون عليها خاشعين متدبرين، ويخرون لله سبحانه سجداً مسبحين بحمده، لا يستكبرون عن عبادته، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، فيقومون لله عز وجل ليلاً طويلاً يصلون، أو بحسب ما يقدرون عليه.
قال تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، يعني: في جميع أحوالهم يدعون الله سبحانه وتعالى وليس في الصلاة فقط، ولكن الدعاء في اليوم كله ما استطاعوا، فيدعون الله سبحانه، ويسألونه من فضله، ويتعوذون به من عذابه، ويدعون ربهم خوفاً من ناره، ومن أن يحرموا من جنته سبحانه، وطمعاً في فضله وفي كرمه وفي رحمته وفي رضوانه، وينفقون لله سبحانه وتعالى من أموالهم ومما رزقهم الله، فالفضل من الله أولاً وآخراً، هو الذي أعطى الإنسان المال وأعطاه الصحة وأعطاه حياته، فهو الذي أعطاه من فضله ومن كرمه سبحانه، وهو الذي هداه ووفقه، فهم ينفقون مما رزقهم الله، ومما تفضل به عليهم، ولم يبخلوا وقد علموا أن المال مال الله سبحانه، والرزق رزقه سبحانه، وأن المال لا تنقصه الصدقة أبداً، فهم مما رزقهم الله عز وجل ينفقون، قال تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
وفي هذه الآية إشارة إلى أن المال ليس مال العبد، وإنما هو رزق الله سبحانه، وفيه أيضاً أن الإنسان ينفق من القليل ومن الكثير، (مما) أي: من كل ما أعطاهم الله سبحانه، أعطاهم شيئاً يسيراً، أو آتاهم شيئاً كثيراً، فهم مما أعطاهم ينفقون، فيخرجون زكاة أموالهم، وينفقون النفقة الواجبة عليهم، ويتصدقون من أموالهم، فيزيد الله عز وجل لهم أموالهم، فلا ينقص مال من صدقة أبداً.(248/2)
تفسير قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)
هؤلاء جزاؤهم عند الله جزاء عظيم، ولا يتخيل الإنسان عظمة هذا الثواب وفضل الله سبحانه وتعالى في ذلك، فلا تعلم نفس مهما أوتيت من علم: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
قراءة الجمهور: {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، وقراءة حمزة والكسائي ويعقوب: ((مَا أَخْفَي)).
على الماضي، والأولى على المبني للمجهول، أي: ما قد أخفي لهم، فبنى الفعل للمجهول، والمعنى: تعظيم هذا الشيء الذي قد أخفي لهم، والذي أخفاه هو الله سبحانه الذي خلقه، فقد أخفى عنهم ذلك ليعملوا بالغيب وللغيب، فهذا غيب الثواب، والجنة غيب، والنار غيب، فالإنسان يعبد ربه وهو مستيقن بهذا الغيب، ومستيقن بثواب الله سبحانه، فيستحق هذا الثواب الذي أخفاه الله سبحانه وآمن به العبد، فهؤلاء يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالجنة ولم يروها، ويخافون من النار ولم يروها، فلذلك استحقوا هذا الثواب من الله سبحانه وتعالى.
والقراءة الأخرى: (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ) أي: ما أخفيه على الفعل المضارع، أي: الذي أخفيه لهؤلاء من الثواب العظيم عندي.
وقوله تعالى: {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، أي: مما تقر به أعينهم وتستقر وتفرح وتطمئن به، وتطمئن القلوب من قرة الأعين، فداخل الجنة يكون قرير العين، يعني: فرحان في غاية الفرح، يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، فهم في جنة يحبرون، ينعمون، ويسرون، وقال تعالى في سورة يس: {فَاكِهُونَ} [يس:55]، فرحون مسرورون، لا أحزان في الجنة، ولا خوف فيها، قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38].
هذا الجزاء من الله بسبب ما كانوا يعملون، بسبب العمل الذي عملوه في الدنيا، إذ عاشوا في الدنيا يعبدون الله سبحانه بالمعنى الأعم للعبادة، بصلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بالمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيله سبحانه، فهم يعبدون الله بأعمالهم وتقواهم، ويتقنون أعمالهم ويتقربون بها إلى الله سبحانه بكل ما فرضه الله عز وجل عليهم وحثهم عليه، واستحبه منهم، فهم يفعلون ما يرضي ربهم سبحانه، فجازاهم الله بالجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وفي الحديث: قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واقرؤوا إن شئتم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، إلى قوله سبحانه: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).
أيضاً جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى عليه السلام ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الله عز وجل: هو رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟)، هذا أقل أهل الجنة منزلة، يقال له: (أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب)، ويرضى بأقل من ذلك (فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله ومثله معه، ومثله ومثله ومثله، فيقول في الخامسة: رضيت رب، فقال: هذا لك وعشرة أمثاله!) يعني رضي بالشيء الواحد مثل ملك من ملوك الدنيا، فقال: مثله ومثله، ومثله ومثله، ومثله خمس مرات، قال: رضيت رب، قال: وعشرة أمثال هذا أيضاً، هذا لأقل أهل الجنة منزلة.
قال: (ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردتهم، غرست كرامتهم بيدي) غرست، يعني: ما أكرمهم به في الجنة أنا بيدي فعلت لهم ذلك، قال: (غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها) يعني: أغلقتها وأخفيتها فلا يراها أحد أبداً، قال: (فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومصداقه من كتاب الله: قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، هؤلاء أعلى أهل الجنة منزلة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.(248/3)
تفسير قوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)
قال الله سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، هل الإنسان الذي آمن بالغيب وآمن بالله، وآمن بالجنة، وآمن بالنار، وآمن بوعد الله الحق، وآمن بكتابه، وآمن برسله، وآمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، يستوي مع الفاسق؟ أي: خلع عن نفسه عباءة الإسلام، وخرج من دين الله سبحانه وتعالى، وخرج عن طاعة رب العالمين سبحانه، وإن زعم أنه على الإسلام، هل يستوي هذا المؤمن الذي يعمل مع هذا الفاسق الذي يفجر، والذي يبتعد عن شرع رب العالمين، والذي لا يريد دين الله سبحانه، والذي يعصي الله ليل نهار؟ هل يستويان؟ فالله هو الحكم العدل سبحانه وتعالى، ومن حكمته سبحانه أنه خلق الخلق ليريهم آياته، وليدخل من يشاء منهم جنته، ويعذب من يشاء منهم بناره، فهل يستوي المطيع مع العاصي؟ قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق لا في الدنيا ولا في الآخرة.(248/4)
تفسير قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلاً بما كانوا يعملون)
فصل الله سبحانه وتعالى عدم الاستواء فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19]، هذه أعمالهم، إنسان آمن بالله، وصدق واستيقن وعمل، هذا هو المؤمن، وقوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: كل الأعمال الصالحة وكل عمل يرجى به رحمة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} [السجدة:19] يؤويهم الله سبحانه، كما آواهم في الدنيا إلى بيوتهم، كما آواهم في الدنيا وأطمعهم وسقاهم، كذلك يؤويهم يوم القيامة فيدخلهم جنات عدن، فهي جنة مأوى، وجنة إقامة دائمة، يقيمون فيها فلا يظعنون منها، ولا يخرجون منها.
وقوله تعالى: {نُزُلًا} [السجدة:19] أي: كرامة من الله، وضيافة منه سبحانه، والنزل: أصله طعام الضيف، والمعنى: ننزلهم هذه الجنة ليقيموا فيها إقامة دائمة، ونحن نطعمهم، ونحن نسقيهم، ونحن نعطيهم هذا النزل، ليس من عند أحد من البشر، وليس من عند أحد من الملائكة، ولكن منا نحن، {نُزُلًا}.
وقوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:19] أي: ثواباً من الله سبحانه وتعالى، وما يهيأ لهم من الضيافة هذا من الله سبحانه جزاء على أعمالهم.(248/5)
تفسير قوله تعالى: (وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20]، هذا القسم الثاني: الإنسان الكافر الفاسق الذي يستكبر، والفاسق: الإنسان العاصي وإن كان مسلماً، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق أبداً، سواء كان فسقاً أكبر مخرجاً من الملة، أو فسقاً ليس مخرجاً من الملة، فلا يستوي المؤمن مع الفاسق، ولا يستوي المطيع مع العاصي، ولا يستوي البر مع الفاجر، ولا يستوي التقي مع الشقي، قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20]، هذا مكان الإيواء الذي يؤويهم، والذي لا يخرجون منه إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:20]، كأنهم توهموا أنهم يخرجون، والنار سوداء مظلمة والعياذ بالله، تدور بهم النار فتفور بهم، فإذا فارت صعدوا إلى أعلاها فظنوا أنهم يخرجون منها، فيريدون الخروج فتهوي بهم مرة ثانية، قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة:20]، والعياذ بالله: ((أُعِيدُوا فِيهَا)).
وقال تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22]، والمقامع: ما يقمع به الإنسان من مرازب من حديد، ومرزبة حديد يعني: مقلاع من حديد، يضربون بها على رءوسهم فيعادون إلى أسفل النار والعياذ بالله، قال تعالى: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة:20].(248/6)
تفسير قوله تعالى: (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر)
قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ} [السجدة:21] أي: لنذيقنهم في الدنيا، {مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، والعذاب الأكبر: في القبر، ويوم القيامة، لكن في الدنيا لا بد أن يعذب الله عز وجل الكافر بما يبتليه من مصائب في الدنيا، ويبتليه بالحرمان، ويبتليه في الدنيا بعدم الاطمئنان، ويبتليه في الدنيا بعدم الراحة، وعدم الركون إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا بالكافر لا يستريح، فمهما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من مال وبنين ففي قلبه عدم الراحة، وهذا عذاب في الدنيا، فأنت تلاقي الكافر يعطيه الله أموالاً جمةً، وأشياء كثيرة ولا يُحَصِّل السعادة المنشودة، وفي النهاية ينتحر؛ لأنه لا يستشعر بالراحة التي يستشعرها الفقير المسلم، فالإنسان المؤمن بالله سبحانه يستشعر بالطمأنينة مع ربه سبحانه، يقول: يا ربي! يا ربي! يقول: لا إله إلا الله، يصلي لله سبحانه، ويستشعر بأنه في راحة عظيمة جداً، ولذلك كان يقول العباد من المؤمنين: نحن في نعمة لو علم بها الملوك لقاتلونا عليها، فالمؤمنون في نعمة وفي راحة، وفي طمأنينة وفي سعادة، لو علم بها الملوك لقاتلوهم عليها، وراحة القلب تكون بذكر الله سبحانه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالمؤمن يطمئن قلبه بذكر الله، يقول: الله، فيستريح بذلك قلبه، ويقول: لا إله إلا الله ويعلم أنه يعبد إلهاً واحداً، هو الذي ينفعه، وهو الذي يضره سبحانه تبارك وتعالى، وهو الذي يقدر على كل شيء، فيطمئن قلبه ويركن إلى ربه، ويتوكل عليه سبحانه، فيستريح من كل شيء.
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى في هؤلاء الكفار: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة:21]، قالوا: هي مصائب الدنيا، وأسقام الدنيا مما يبتلى به العبيد، وأيضاً مما يذيق الله به الكفار من عذاب في الدنيا في جهاد مع المسلمين وغير ذلك.
وقوله تعالى: {دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21] عذاب النار وعذاب يوم القيامة.
قال تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] أي: لعلهم يتوبون إلى الله بما أذاقهم في الدنيا ويرجعون إليه.(248/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22]، فالإنسان الذي يذكر بالله سبحانه، ويرى أمامه هذه الآيات، ومع ذلك يعرض عن الله سبحانه، من أظلم منه؟
الجواب
لا أحد أظلم منه، بل هذا أظلم الظلمة؛ لأنه عرف الحق ولم يتبعه وحاد عنه.
قال الله سبحانه: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أي: سننتقم من هؤلاء الفجرة الكفرة الذين أعرضوا عن ذكر الله سبحانه، ننتقم منهم في الدنيا وفي الآخرة، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، يذيقه في الدنيا الحياة الضنك الشديدة التي يسأم منها ويمل، من كثرة ما يبتليه الله سبحانه وتعالى حتى ولو أعطاه المال، ولكن يذيقه عذاب الدنيا وفتنها وبلاءها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(248/8)
تفسير سورة السجدة [23 - 30]
يذكر الله عز وجل عباده أنهم سيقفون يوم القيامة بين يديه فيحاسبهم على أعمالهم، ويفصل بينهم فيما كانوا فيه من خلاف في هذه المعبودات، وكما أن هذه الأرض تموت ثم يرسل الله عليها الأمطار فتحيا وتخرج خيراتها، فكذلك الإنسان سوف يموت ثم يحييه الله مرة أخرى للحساب والجزاء.(249/1)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا منكم أئمة يهدون بأمرنا)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] (منهم) تبعيض {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] وكلمة (أئمة) يقرؤها الكوفيون بهمزتين وكذلك يقرؤها هشام عن ابن عامر بهمزتين، أما باقي القراء فيسهلون الهمزة الثانية، ومبنى ذلك على اللغة العربية، فإن العرب في الغالب لا تجمع همزتين مع بعض كما في لفظ: آدم بهمزة وبعدها مد، فعلى ذلك قرءوها هنا بتخفيف الهمزة والتسهيل، فأكثر القراء ومنهم قالون وورش بخلفه، وابن كثير ورويس وأبو عمرو يقرءون: (أئمة) بتحقيق الهمزتين وغيرهم يقرءونها بالتسهيل هرباً من جمع همزتين مع بعض فيصعب النطق بها، ولهم في هذه الكلمة: (أئمة) أربع قراءات.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فالله عز وجل جعل من هؤلاء أئمة يقتدى بهم، فهؤلاء الأئمة من بني إسرائيل كيف وصلوا إلى هذه المرتبة؟ قال الله عز وجل: {لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] لأنهم جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا الخلق حتى وصلوا إلى درجة عظيمة من الصبر، فاستحقوا أن يتقدموا غيرهم، وأن يكونوا أئمة للخلق، فلم يكونوا كلهم أئمة، ولكن كان بعض منهم أئمة يهدون بأمرنا، يعني: بشرعنا أو لشرعنا، يهدون الناس بأمر الله، وبإذنه، وبشريعة الله التي أمرهم أن يدعوا الناس فيها، وكذلك يهدون بأمرنا، يعني: لشريعتنا ولديننا، وقراءة الجمهور: {بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] وقراءة حمزة والكسائي ورويس عن يعقوب: {لِمَا صَبَرُوا} [السجدة:24]، بكسر اللام، أي: بسبب صبرهم، فيكون المعنى: لما صبروا استحقوا أن يكونوا أئمة، فصاروا أئمة لصبرهم على دين الله سبحانه، وتمسكهم بدينهم.
{وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، كانوا مؤمنين بآيات الله ومستيقنين، لا شك في قلوبهم من وعد الله سبحانه تبارك وتعالى.(249/2)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة)
قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة:25] إن ربك هو وحده لا شريك له، الحكم يوم القيامة لله وحده لا شريك له، لا حاكم مع الله سبحانه، لا ملك مع الله سبحانه، فهو ملك الملوك، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكم الذي يحكم بين عباده يوم القيامة سبحانه وحده لا شريك له، وهو الذي يفصل ويقضي ويفتح ويحكم، وكلها بمعنى واحد، فإن فصل القضاء يوم القيامة لله وحده لا شريك له، إن ربك هو وحده لا شريك له الذي {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة:25]، فهو الذي يقضي، وهو الذي يحكم بين المؤمنين وبين الكفار، فيجازي كلاً بما يستحقه يوم القيامة، ويقضي بين الأنبياء وبين أقوامهم.(249/3)
تفسير قوله تعالى: (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} [السجدة:26] (أولم يهد لهم) أي: أو لم يتبين لهم؟ هلا ساروا في الأرض فنظروا واهتدوا أن الله سبحانه تبارك وتعالى قد أهلك أمماً سابقة كثيرين! ويتبين للناس بالبحث والتنقيب والسير في الأرض كيف أهلك الله عز وجل السابقين، فيقولون: في هذا المكان كان الفراعنة فأهلكهم الله سبحانه، وهذه آثارهم، وفي هذا المكان كانت ديار عاد، وفي هذا المكان كانت ديار ثمود، فهؤلاء صنعوا وفعلوا وفعلوا، وهذه آخر حالهم فقد صاروا جيفاً، صاروا رمماً، وتبدلت أيامهم، وذهبت أحلامهم، وهذا واقعهم أمامنا.
قوله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ}، القرن: الزمن الذي يجمع أمة من الناس، فإذا فنيت هذه الأمة مضى قرن من القرون، وتأتي أمة تليها، مثلما نقول: القرن الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم هو الزمن الذي اجتمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم مع قوم رأوه صلى الله عليه وسلم، وعاشوا معه عليه الصلاة والسلام، ثم مات هو صلى الله عليه وسلم ومات أصحابه الذين رأوه، حتى مات آخر من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى هذا القرن.
ثم القرن الذي يليه: قوم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا أصحابه عليه الصلاة والسلام، فإذا فني القرن الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي رأى أصحابه عليه الصلاة والسلام، وقرن من بعدهم لم يلقوا الصحابة ولقوا الذين من بعدهم وهكذا، فهؤلاء قرون كثيرة، والبعض جعل مدة القرن مائة سنة أو دون ذلك، والغرض: أن القرن هو الذي يجمع أمة من الناس عاشوا معاً ثم انتهى آخرهم.
قوله: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ}، يمشي اللاحقون في مساكن السابقين، يعني: هذه كانت مساكن هؤلاء الأقوام، فلو كانوا عائشين هل كان أحد منهم يقدر على أن يأخذ مساكنهم؟! ولو كانوا عائشين هل كانوا سيضعونهم في متاحف يتفرجون عليهم؟! هذا فرعون وهذا فلان وهذا فلان لولا أن الله قد أهلكهم وأبادهم لما رأيتموهم، لو كانوا أحياء ما كان أحد يقدر على أن يأخذ منهم ذهبهم وحليهم وينظر إلى أجسادهم، ما كان أحد يقدر على ذلك لولا أن أبادهم الله وأفناهم سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [السجدة:26] فيها عبرة وتذكرة، {أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26] أي: هذه الآيات فيعتبرون بذلك، وأن كل من على هذه الدنيا يفنى ويبيد كما أباد الله عز وجل هؤلاء السابقين.(249/4)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27]، في الآية السابقة وهذه الآية التذكرة بالموت والحياة، فالموت: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} [السجدة:26]، وبعد الموت الدنيا فنيت ويكون البعث، كما أن الله عز وجل يميت الأرض، ثم ينزل الغيث فيحييها سبحانه تبارك وتعالى، فيكون فيه رجوع مرة ثانية للجزاء وللحساب، كما يحيي الله عز وجل أمامكم الأرض الميتة.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ} [السجدة:27]، السوق: الدفع، يسوق الله عز وجل السحاب من مكان إلى مكان، فينزل الماء إلى الأرض الجرز، وأصل الجرز القطع، وكأنها هي التي انقطعت عن الإنبات لسبب من الأسباب، وانقطعت عن الإنبات، وفرق بين الأرض الجرز والأرض السبخة، الأرض السبخة لا تنبت، لا أمل في حياتها، فهي أرض سبخة لا تنبت شيئاً، والأرض الجرز ماتت بسبب نقص الماء، فينزل عليها الماء فيحييها الله عز وجل أمام من ينظر إليها، قال سبحانه: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة:27] أي: نخرج من هذه الأرض الميتة {زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ} [السجدة:27] يخرج الزرع وهو قصير صغير فتأتي عليه الأنعام وتأكله، فإذا نبت هذا الزرع وصارت له سنابل وحبوب أكل منه الآدمي، فتأكل الأنعام ويأكل الإنسان.
قوله: {أَفَلا يُبْصِرُونَ} [السجدة:27] أي: أفلا ينظرون فيعتبرون أن الله على كل شيء قدير، الذي أحيا هذه الأرض الميتة أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير.(249/5)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
ولكن مع ذلك كله فهؤلاء الكفار يجادلون ويقولون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28]، ما زلتم تقولون: ربنا سيفتح لكم، ربنا سيحكم لكم، سيقضي لكم، سيكون لكم النصر علينا، سنبعث يوم القيامة! فمتى سيكون هذا الكلام كله الذي تقولون؟ {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28]، والجواب من الله سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، يوم أن نحكم ونقضي وننصر المسلمين {لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29].
والكافر لو انتصر عليه المسلم هل ينفعه إيمانه؟ نقول: ينفع الإيمان في وقت ولا ينفع في وقت آخر، فإذا دخل الإنسان في هذا الدين نفعه حتى ولو كان كافراً مهزوماً، ودعي إلى الدين فدخل فيه، حتى لو رفع عليه السيف فوق رقبته وقال: لا إله إلا الله عصم دمه، فلا يقتل في هذه الحالة، وينفعه إيمانه إذا كان صادقاً في قلبه، ولكن الكافر الذي يضرب بالسيف، فيموت فيعاين الملائكة لا ينفعه إيمانه في هذه اللحظة، فوقت الغرغرة لا ينفع الإيمان، ووقت خروج الروح لا ينفع الإيمان، فإذا شاهد الكافر الملائكة وهي تأخذ روحه من جسده فقال: آمنت، لا ينفعه الإيمان ذلك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، ففي وقت انتصار المسلمين وقتلهم للكفار، ووقت معاينة الكافر للملائكة، فتقبض روحه؛ لا ينفعه الإيمان، كذلك يوم القيامة، يوم أن يصير الغيب شهادة، ويصير الشيء الذي كان لا يراه الإنسان ماثلاً أمام عينيه، فلا ينفعه إيمانه إذا جاء يوم القيامة ورأى الملائكة، ورأى الجنة والنار وقال: آمنا ربنا أرجعنا ربنا صدقنا وآمنا، لا ينفعه طالما أنه لم يؤمن من قبل.
قال سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، والفتح له معان منها: الفتح والفصل والقضاء الذي يقضيه الله عز جل بين عباده، إما بنصر المؤمنين على هؤلاء، فهو فتح في الدنيا، أو بالقضاء يوم القيامة، فهو الفتح والفصل من الله عز وجل بين العباد.
يقول سبحانه: {لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [السجدة:29]، يطلبون الانتظار والرجعة مرة ثانية إلى الدنيا ليعملوا.
قال الله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [السجدة:30] أعرض عن هؤلاء، أعرض عن جدالهم وكلامهم الذي يقولونه: {وَانْتَظِرْ} [السجدة:30] أمر الله سبحانه، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ} [السجدة:30]، فهم ينتظرون عذاب رب العالمين، ويدعون: ربنا عجل لنا قطنا، وعذابه آتيهم آتيهم! فاصبر أنت حتى يأتي أمر الله.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(249/6)
تفسير سورة الأحزاب - مقدمة
سورة الأحزاب سورة مدنية، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وسميت بالأحزاب لأنها ذكرت تحزب المشركين وتجمعهم على رسول الله، وقد ذكرت ما امتن الله عز وجل به على المؤمنين في هذه الغزوة، وأخبر الله عن المنافقين وما يلمزون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ونهت النبي صلى الله عليه وسلم عن طاعتهم وطاعة الكافرين المحاربين لله ورسوله، وذكر بعضاً من الأحكام المتعلقة بالنساء والإرشادات والآداب التي ينبغي فعلها والتحلي بها.(250/1)
مقدمة عن سورة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].(250/2)
مكان النزول وسنته
السورة الثالثة والثلاثون من كتاب الله رب العالمين هي سورة الأحزاب، وهي من السور المدنية بالاتفاق، وإن ذكروا في سنة نزولها قولين: أحدهما: أنها نزلت في سنة أربع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر: في سنة خمس، وهذا هو الأرجح، فإنها نزلت في شأن الأحزاب وهي غزوة الخندق وكانت في شوال سنة خمس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.(250/3)
سبب التسمية
وسميت بالأحزاب؛ لأن أحزاب المشركين تجمعوا على النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ومن معهم من الأحزاب وأتوا إلى المدينة، وكان عدد هؤلاء الأحزاب من قريش والأحابيش وكنانة وغطفان حوالي عشرة آلاف من المقاتلين، وكان عدد جيش المدينة لا يتجاوز الثلاثة آلاف.
فكان الأحزاب ثلاثة أضعاف المسلمين، والمسلمون لم يكن لهم طاقة بقتال هؤلاء، لذلك كان الحل أن يستشير النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فكان في النهاية أن وصلوا إلى أن يحفروا خندقاً بينهم وبين المشركين فمن عبر إليهم عن طريق الخندق قاتلوه، وكان أمر الله سبحانه فلم يقاتل المسلمون إلا فرادى، وجاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فقلب الجيش رأساً على عقب بأن أرسل عليهم الرياح فهرب الجيش كله خوفاً مما حدث، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجمهم، وكان النصر من عند الله سبحانه، لم يكن لأحد فيه بلاء ولا قتال إلا شيئاً يسيراً من أفراد المسلمين كـ الزبير وغيره رضي الله تبارك وتعالى عنه.(250/4)
رقم السورة وعدد آياتها
وهذه السورة في عداد نزول القرآن تعتبر السورة التسعين، وفي عد المصحف هي السورة الثالثة والثلاثون، وذكروا أنها نزلت بعد سورة آل عمران وقيل: نزلت بعد سورة الأنفال، ونزلت قبل سورة المائدة.
وعدد آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية أيضاً اتفاقاً، فليس هناك خلاف بين أهل العد، وإن كانت هذه السورة لما نزلت كان عددها أكثر من ذلك، ونسخ منها ما شاء الله سبحانه وتعالى، ولذلك جاء في حديث في مسند الإمام أحمد أن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعدون سورة الأحزاب، أي: تعدون هذه السورة كم آية؟ قال: قلت: نعدها ثلاثاً وسبعين آية، قال: فوالذي يحلف به إن كانت لتعدل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فرفع فيما رفع.(250/5)
النسخ في القرآن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].(250/6)
وقوع النسخ في القرآن
فالغرض أن هذه السورة من السور التي نسخت منها آيات وكانت سورة كبيرة، والله عز وجل ينسخ بمعنى: يرفع، فهو إما أن يرفع الآية تلاوة وحكماً، وإما أن يرفعها تلاوة فقط ويبقى الحكم، وإما أن يرفعها حكماً فقط وتبقى التلاوة.
فالله عز وجل ينسخ ما يشاء سبحانه، وقد ذكر في سورة البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:106]، فالله على كل شيء قدير.
فيأتي بأحكام للعباد، ويبتلي عباده بآياته وأحكامه سبحانه وتعالى أيؤمنون أم يكفرون؟ وجههم إلى الكعبة بعد أن كانوا متوجهين إلى بيت المقدس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي إلى الكعبة متوجهاً إلى بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة لم ينفع هذا الأمر، فهو إما أن يتوجه إلى الكعبة، وإما إلى بيت المقدس، فتوجه إلى بيت المقدس وظل على ذلك ثمانية عشر شهراً أو نحوها.
وبعد ذلك إذا بالله عز وجل يوجهه إلى الكعبة كما قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فإذا بالمنافقين واليهود يقولون: إما أنه كان على الصواب فتغير إلى الخطأ، وإما أنه كان على الخطأ فتغير إلى الصواب، وفي كلا الحالتين كان مخطئاً في ما يفعل، وهذا التشكيك لإلقاء الشك في قلوب المؤمنين.
والنبي صلوات الله وسلامه عليه على الحق دائماً، فما ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من تلقاء نفسه، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كذبهم الله عز وجل فيما قالوا وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، وسواء وجهكم إلى المشرق أو إلى المغرب فالله عز وجل له أن يوجه إلى ما يشاء، وطالما أنتم مطيعون لله عز وجل في توجهكم فأنتم على الحق وأنتم على عبادته سبحانه وتعالى.
وكذلك في إنزاله القرآن، فإنه ينزل آيات بغرض معين ثم بعد ذلك إما أن يستمر الحكم فيها، وإما أن ينسخه الله عز وجل لحكمة عنده، وقد تعلم هذه الحكمة لنا أو تخفى عنا.
ولذلك لما أراد الله أن يحرم الخمر إذا به يتدرج مع الناس في تحريمها، فعرفنا الحكمة وهي أنه لو أمر مرة واحدة بترك الخمر لما تركها الناس، ولكن الله عز وجل بدأ يشير إلى أن الخمر فيها مفاسد وأن فيها إثماً، وأن فيها إذهاباً لعقل الإنسان، ولهواً عن الصلاة.
فنهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى بقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43]، ثم يتدرج معهم عن الخمر والميسر فيقول: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ثم يأتي التحريم القاطع على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
فهنا تدرج مع العباد، فلما أنزل آيات فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إني أرى الله يشير بتحريم الخمر أو يعرض بتحريمها، فمن كان عنده شيء منها فليتخلص منها ببيع ونحوه)، أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا الإشارات في الآيات الأول، وفيها تعريض للمسلمين بأن الخمر ستحرم، وتنبيه بأن لا يضع أحد ماله في الخمر فتدرج معهم شيئاً فشيئاً فقال، (فمن كان عنده شيء منها)، وهذا في وقت لم يحرمها الله عز وجل، فإذا بالرجل منهم يبيعها ويتخلص منها.
ومن بقيت عنده بقايا منها إذا به تنزل عليه آيات التحريم فيتخلص منها فوراً؛ لأنها صارت محرمة.(250/7)
الحكمة من النسخ
والغرض أن النسخ له حكمة من الله عز وجل، منها التدريج في التشريع كما هنا، ومنها أن الله عز وجل يختبر عباده هل يطيعونه أم أنهم يتشككون ويرتابون في الدين؟ فإذا به ينسخ أشياء سبحانه وتعالى، ويبقيها في كتابه مثل عدة المرأة التي توفى عنها زوجها فذكر الله عز وجل حكمها بقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240]، أي: أن المرأة تمكث في بيتها معتدة حولاً كاملاً.
ثم خفف الله سبحانه وتعالى ذلك وقال: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، فحكمة النسخ هنا هي التخفيف.
وقد يكون من الحكم فيها التثقيل وذلك بأن يشدد على العباد بشيء، أو التثقيل مع التخفيف مثل أمره بالصيام، فإن أول ما فرض الصيام على العباد كان من العشاء إلى غروب شمس اليوم الثاني، أي: يصومون ثلاثة وعشرين ساعة في اليوم أو نحو ذلك فهذا كان ثقيلاً عليهم، ولكن مع هذا التثقيل جعل تخفيفاً وهو أنه من شاء أن يصوم فليصم، ومن أراد الفطر فله ذلك لكن بشرط أن يطعم مسكيناً بدلاً عن ذلك اليوم، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فلهم أن يصوموا ولهم أن يفطروا ولكن يطعمون مسكيناً مكان إفطارهم.
فهنا تثقيل في شيء وتخفيف في شيء آخر، ثم نسخ بعد ذلك بالأمر بالصيام، فكان فيه شيء من التخفيف وشيء من التثقيل إذ لابد أن تصوم، كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، وخفف في شيء آخر وهو قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187].
فجعل هنا تخفيفاً وهو الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، فقد كان فيه تثقيل فنسخ الأثقل بالأخف، وكان هناك تخفيف من ناحية التخيير فنسخ الأخف بالأثقل والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
ومن الحكم أيضاً ابتلاء العباد؛ لأن العبد مخلوق ليطيع الله تبارك وتعالى، فإذا أمر بطاعة فلابد أن يجعل له اختياراً؛ لينظر هل يختار الطاعة أم أنه يأنف من ذلك ويرفض ويستكبر ويترك طاعة الله سبحانه وتعالى؟ ومن ذلك ما نسخ من آيات كاملة وإن بقي من أحكامها، وذلك مثل نسخ الآية التي كانت في سورة الأحزاب وهي: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، فقد كانت آية في سورة الأحزاب ثم نسخت تلاوة وبقيت حكماً.
فرفع الله عز وجل تلاوتها، لكن أبقى حكمها وهو أن الإنسان إذا كان محصناً أي: متزوجاً سواء كان صغيراً أو كبيراً ووقع في الزنا فعليه الرجم، والآية ذكرت الشيخ والشيخة، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم جارية حتى فيمن هم دون ذلك فرجم ماعزاً، ورجم الغامدية اللذين زنيا.
فالغرض أن الله سبحانه وتعالى قد ينسخ الآية تلاوة ويبقي حكمها، فهذه السورة من السور التي كانت آياتها أكثر من ذلك فرفع الله عز وجل ما شاء منها وبقيت هذه الآيات الثلاث والسبعون محكمة، وأمر الله عز وجل فيها بما شاء.(250/8)
ما اشتملت عليه سورة الأحزاب
أغراض السورة يعني: ما أشارت إليه هذه السورة من أولها إلى آخرها: يذكر الله سبحانه وتعالى في أولها قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
وهذه السورة ترد على الكفار والمنافق، فهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فالله عز وجل حذره أن يطيع هؤلاء الكافرين والمنافقين، وكان من اعتراضهم على النبي صلى الله عليه وسلم أنه كيف يتزوج بـ زينب بنت جحش وهي ابنة عمه، وكان قد زوجها مولاه زيد بن حارثة، وزيد بن حارثة كان حراً في البداية، ولكن خطفه بعض العرب من أهله، ثم باعوه، فوصل إلى خديجة بنت خويلد ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه عليه الصلاة والسلام.
فصار ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه أمر العرب الأول، ولما تبناه وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم شرفه بأن جعله يتزوج ابنة عمه وهي السيدة زينب بنت جحش، وهي شريفة من آل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مرتبته أنه كان عبداً، فأنفت من ذلك، ولهذا لم تدم العشرة بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيه زيد ويريد أن يفارقها ويريد أن يطلقها، فيقول له: اتق الله واصبر كما حكى الله أنه كان يقول: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37]، حتى أخبره ربه سبحانه أن زيداً لن يعيش معها، بل سيفارقها وستتزوجها أنت يوماً من الأيام، فإذا به يستحيي صلوات الله وسلامه عليه، فيأتيه زيد ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أفارقها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستحيي فيقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
فإذا بالله عز وجل يعاتبه في ذلك ويقول: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37].
والنبي صلى الله عليه وسلم مستحيل أن يخفي شيئاً من كتاب الله أو من شرع الله سبحانه، فإذا كان في هذا الأمر البسيط الذي انبنى على حيائه صلى الله عليه وسلم حيث كان يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
فقد كان في خاطر النبي أنه إن طلقها تزوجتها كما أمر الله، وليس بلازم علي أن آمره بطلاقها، فهذا ما كان يجول في خاطره، فإذا بالله يعاتبه ويقول: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب:37]، فمهما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم فالله يبديه سبحانه، ولم يكن ليخفي شيئاً أبداً صلوات الله وسلامه عليه من شرع الله وقد قال له ربه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
فهنا لما طلقها زيد إذا بها تصير شيئاً كبيراً في نظره، فبعد أن طلقها صار يهابها، ويعلم أنها لا تليق إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا تليق بـ زيد، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وصارت أماً للمؤمنين بما فيهم زيد الذي كان زوجاً لها في يوم من الأيام.
وإذا بالمنافقين يتكلمون في هذا الشيء، ويقولون: كيف يتزوج زوجة ابنه؟ وهو يقول لنا: الرجل يحرم عليه أن يتزوج زوجة ابنه، فإذا بالله عز وجل يكذبهم في ذلك، ويخبر أن هذا ليس ابناً على الحقيقة، وكذلك كل من ادعيتموه من أولاد ليسوا أبناءكم، بل قال الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وإذا بالله عز وجل يشرع أنه لا يجوز التبني.
فيجوز أن تكفل اليتيم، وتربيه، أما أن تتبناه ويصير ابناً لك فلا يجوز ذلك، وهذا الأمر أمر عصيب على إنسان جربه، فلو أن إنساناً أخذ طفلاً من ملجأ ونسبه إلى نفسه ورباه فترة طويلة إلى أن كبر وصارت بينهما علاقة، وشفقة، فإنه يصعب عليه أن يقول له: لست ابني.
فلو أن الله عز وجل أنزل للناس هذا الحكم لكان يصعب عليهم تطبيقه، فإذا بالله ينزله أول مرة في النبي صلى الله عليه وسلم حتى نقتدي به، فإذا بالناس منهم من يقول: أأحب هذا أكثر من حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد؟ لا يكون أبداً، وهل هو متعلق بي أكثر من تعلق زيد بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن أن يكون هذا الشيء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره ربه أن فارق هذا؛ فإنه ليس ابناً لك، ولكن ادعه لأبيه، فإذا به بعد أن كان اسمه زيد بن محمد عليه الصلاة والسلام يعود إلى اسمه الأول زيد بن حارثة.
أما كونه كان حبيباً للنبي صلى الله عليه وسلم فهذا لم ينقطع، إذ هو حبيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حبيب للنبي صلوات الله وسلامه عليه أيضاً.
إذاً: من أغراض هذه السورة تحريم التبني، وبدأ الله عز وجل بنبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومن أغراضها: أنه يجوز لمن كان قد تبنى إنساناً أن يتزوج زوجة متبناه إن طلقها؛ لأنه ليس حماً لها على الحقيقة.
ومن أحكام هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الحق في قوله، وأنه العليم الخبير بأعمال العباد سبحانه، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:234]، ويقول تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4].
فمهما قلتم من شيء عارض كلام الله فكلام الله الحق وكلامكم الباطل، فخذوا بكلام الله سبحانه وتعالى.
ومن أغراض هذه السورة التنبيه على ولاية النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6]، أي: حتى من أنفسهم، فإذا اختار الإنسان لنفسه شيئاً، واختار له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر فليأخذ هذا الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أولى به من نفسه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(250/9)
تفسير سورة الأحزاب الآية [1]
النبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس لله وأعلمهم به، ولكن الله يأمره بالتقوى بقصد المداومة عليها، ومن أجل أن يتبعه المؤمنون على ذلك، وقد حذره الله من طاعة الكفار والمنافقين؛ لأنهم يريدون فساد الدين.(251/1)
الكلام عن موضوعات سورة الأحزاب وأهم ما ذكر فيها
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].
وقد قدمنا أن هذه السورة الكريمة من السور المدنية، وأن آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية، وأنها نزلت في غزوة الأحزاب أو بعدها في أواخر سنة خمس من الهجرة على الصحيح فيها، وقد كانت غزوة الأحزاب في شوال أو في ذي القعدة من سنة خمس.
وقد نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم لتبين له أحكاماً من أحكام المنافقين والكافرين وغيرهم، فبدأ ربنا سبحانه وتعالى فيها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1].
وقد كان عدد الكفار لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عشرة آلاف وعشرة رجال، وكان عدد المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، فقد تجمعت قريش والأحابيش وغطفان وغيرهم وجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن استشار المؤمنين، فأشار عليه بعضهم بأن يحفر خندقاً بينه وبينهم، فكان الأمر وجاء النصر من عند الله سبحانه كما ذكرنا.
والحق أن أهم ما ذكر في هذه السورة: هو الرد على الكفار والمنافقين؛ لأنهم تقولوا بأقوال كاذبة فردها الله سبحانه وتعالى عليهم، وفيها الرد على قولهم لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش كيف يتزوج بامرأة ابنه وقد حرم ذلك ربنا تبارك وتعالى؟ فرد ربنا سبحانه بالنهي عن التبني وإبطال نسبة الولد إلى أبيه بالتبني، وذلك في قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فالاختيار يكون لله سبحانه وتعالى، فهو من يختار لنا ما يليق بنا وينفعنا ثم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فإذا اختار لنا شيئاً فالخيرة فيما اختاره الله سبحانه وما اختاره النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
كذلك يوجد في هذه السورة تحريض للمؤمنين على التمسك بشرع الله تبارك وتعالى كما ذكر أنه أخذ العهد على النبيين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخذ العهد والميثاق على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نوح والنبيين من بعد نوح عليه الصلاة والسلام.
وفيها: وجوب التمسك بعهد الله وميثاقه الذي أمر به.
وأيضاً الاعتبار بما أظهره الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين على أعدائهم من الكفرة، فيعلم الإنسان أن النصر من عند الله؛ لأن المؤمنين إذ ذاك لم يتوقعوا انتصاراً في هذه الغزوة؛ وبالذات لأن عددهم ثلاثة آلاف وعدد الكفار عشرة آلاف.
وقد جعلوا حصناً منيعاً بينهم، حتى اضطر المؤمنون إلى اللين مع اليهود حتى يحفظ اليهود ظهورهم، فإذا باليهود يغدرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح المشركون من أمامهم واليهود من ورائهم، فشعر المسلمون أنهم بين فكي كماشة.
ثم إذا بالنصر يأتي من عند رب العالمين تبارك وتعالى، في وقت يأس المسلمين من النصر، فإذا به يأتي من عند الله من حيث لا يتوقعون، فأرسل الرياح حتى جعلت الكفار يهربون ظناً منهم أن المؤمنين قد هاجموهم في ذلك الوقت، ففيها: أن الله سبحانه وعد المؤمنين بالنصر متى يشاء سبحانه إن استحقه المؤمنون.
وفيها أيضاً: الثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن دين رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، فمن كان بهذه الصفة صح فيه المدح ودخل تحت هذه الآية.
وفيها أيضاً: إظهار نعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن مكنهم من الكفار ومن أهل الكتاب، وجعل لهم ديارهم وأموالهم، وجعل لهم الظهور عليهم، فهذه نعمة من الله تبارك وتعالى بأن نصر المؤمنين وأعطاهم الغنائم والفيء.
وفيها أيضاً: ذكر أحكام العشرة الزوجية، وما يكون من الرجل مع أهله، وكيف يتزوج الإنسان، وكم هو العدد المسموح به في الشرع، وبيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وأن المؤمنين لا يدخلون معه في ذلك؛ لأن الله سبحانه يعلم ما ينفع له وما ينفع للمؤمنين فشرع ذلك سبحانه وتعالى.
وفيها كذلك: ذكر عدة المطلقة قبل الدخول بها والبناء عليها.
وفيها أيضاً: ما ذكره سبحانه من صفات المنافقين، وكيف أنهم يرجفون بالمؤمنين، وأنهم أشد الناس جبناً وخوفاً مع ادعائهم القوة والشجاعة.
ثم اختتمت هذه السورة بالذي افتتحت به، فكما قال سبحانه في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] قال في آخرها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73].
فذكرهم في أولها ثم بين عاقبتهم في آخرها وما هم صائرون إليه، وفي هذه السورة أيضاً: بيان القدوة والأسوة الحسنة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والحث على التأسي والاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.(251/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:1 - 4].
وقد قدمنا أن هذه السورة الكريمة من السور المدنية، وأن آيات هذه السورة ثلاث وسبعون آية، وأنها نزلت في غزوة الأحزاب أو بعدها في أواخر سنة خمس من الهجرة على الصحيح فيها، وقد كانت غزوة الأحزاب في شوال أو في ذي القعدة من سنة خمس.
وقد نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وسلم لتبين له أحكاماً من أحكام المنافقين والكافرين وغيرهم، فبدأ ربنا سبحانه وتعالى فيها بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1].
وقد كان عدد الكفار لما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عشرة آلاف وعشرة رجال، وكان عدد المسلمين يومئذ ثلاثة آلاف، فقد تجمعت قريش والأحابيش وغطفان وغيرهم وجاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن استشار المؤمنين، فأشار عليه بعضهم بأن يحفر خندقاً بينه وبينهم، فكان الأمر وجاء النصر من عند الله سبحانه كما ذكرنا.
والحق أن أهم ما ذكر في هذه السورة: هو الرد على الكفار والمنافقين؛ لأنهم تقولوا بأقوال كاذبة فردها الله سبحانه وتعالى عليهم، وفيها الرد على قولهم لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بـ زينب بنت جحش كيف يتزوج بامرأة ابنه وقد حرم ذلك ربنا تبارك وتعالى؟ فرد ربنا سبحانه بالنهي عن التبني وإبطال نسبة الولد إلى أبيه بالتبني، وذلك في قوله سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5]، وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فالاختيار يكون لله سبحانه وتعالى، فهو من يختار لنا ما يليق بنا وينفعنا ثم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فإذا اختار لنا شيئاً فالخيرة فيما اختاره الله سبحانه وما اختاره النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
كذلك يوجد في هذه السورة تحريض للمؤمنين على التمسك بشرع الله تبارك وتعالى كما ذكر أنه أخذ العهد على النبيين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقد أخذ العهد والميثاق على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى نوح والنبيين من بعد نوح عليه الصلاة والسلام.
وفيها: وجوب التمسك بعهد الله وميثاقه الذي أمر به.
وأيضاً الاعتبار بما أظهره الله سبحانه وتعالى بنصر المؤمنين على أعدائهم من الكفرة، فيعلم الإنسان أن النصر من عند الله؛ لأن المؤمنين إذ ذاك لم يتوقعوا انتصاراً في هذه الغزوة؛ وبالذات لأن عددهم ثلاثة آلاف وعدد الكفار عشرة آلاف.
وقد جعلوا حصناً منيعاً بينهم، حتى اضطر المؤمنون إلى اللين مع اليهود حتى يحفظ اليهود ظهورهم، فإذا باليهود يغدرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح المشركون من أمامهم واليهود من ورائهم، فشعر المسلمون أنهم بين فكي كماشة.
ثم إذا بالنصر يأتي من عند رب العالمين تبارك وتعالى، في وقت يأس المسلمين من النصر، فإذا به يأتي من عند الله من حيث لا يتوقعون، فأرسل الرياح حتى جعلت الكفار يهربون ظناً منهم أن المؤمنين قد هاجموهم في ذلك الوقت، ففيها: أن الله سبحانه وعد المؤمنين بالنصر متى يشاء سبحانه إن استحقه المؤمنون.
وفيها أيضاً: الثناء على صدق المؤمنين وثباتهم في الدفاع عن دين رب العالمين سبحانه وتعالى، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، فمن كان بهذه الصفة صح فيه المدح ودخل تحت هذه الآية.
وفيها أيضاً: إظهار نعم الله سبحانه وتعالى على المؤمنين بأن مكنهم من الكفار ومن أهل الكتاب، وجعل لهم ديارهم وأموالهم، وجعل لهم الظهور عليهم، فهذه نعمة من الله تبارك وتعالى بأن نصر المؤمنين وأعطاهم الغنائم والفيء.
وفيها أيضاً: ذكر أحكام العشرة الزوجية، وما يكون من الرجل مع أهله، وكيف يتزوج الإنسان، وكم هو العدد المسموح به في الشرع، وبيان خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وأن المؤمنين لا يدخلون معه في ذلك؛ لأن الله سبحانه يعلم ما ينفع له وما ينفع للمؤمنين فشرع ذلك سبحانه وتعالى.
وفيها كذلك: ذكر عدة المطلقة قبل الدخول بها والبناء عليها.
وفيها أيضاً: ما ذكره سبحانه من صفات المنافقين، وكيف أنهم يرجفون بالمؤمنين، وأنهم أشد الناس جبناً وخوفاً مع ادعائهم القوة والشجاعة.
ثم اختتمت هذه السورة بالذي افتتحت به، فكما قال سبحانه في أولها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] قال في آخرها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73].
فذكرهم في أولها ثم بين عاقبتهم في آخرها وما هم صائرون إليه، وفي هذه السورة أيضاً: بيان القدوة والأسوة الحسنة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والحث على التأسي والاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه.(251/3)
الفرق بين النبوة والرسالة
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، مع أن النبي صلوات الله وسلامه عليه هو أتقى الخلق لربه تبارك وتعالى وهو أعلم بما يتقي، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتقوى كان غيره من باب أولى أن يؤمر بتقوى الله سبحانه.
والتقوى: هي المدافعة عن النفس، فتتقي الشر والظلم بأن تجتنب ذلك وتخاف أن يصيبك منه شيء، وتتقي الله بمعنى: تدفع غضب الله سبحانه وتعالى عنك بعملك الصالح، فتخاف من عذابه وعقوبته، وتدفع ذلك بالإيمان بالله سبحانه والعمل الصالح.
قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وهذه قراءة الجمهور.
وقرأ نافع (النبيء) في كل القرآن بإلحاق الهمزة، وأصلها من النبوءة، أي: أنه أخبر بالغيب، فهو المنبأ صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فالنبي هو المبلغ أخبار الله سبحانه وتعالى مما غاب عن الخلق، فهو منبئ مخبر بما غاب عن غيره من وحي الله تبارك وتعالى، والرسول: هو الذي أرسل برسالة من الله عز وجل، والنبي هو المنبأ بوحي أو بغيب وأمر بتبليغ هذا الشيء الذي غاب عن غيره، كتوحيد الله والأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والزكاة والجهاد إلخ.
والفرق بين النبي والرسول: هو أن النبي من يحكم بشرع من قبله من الأنبياء، أما الرسول فهو صاحب كتاب منزل من الكتب السماوية؛ فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، وقد نبئ النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله سبحانه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]، ثم أرسل بالمدثر والمزمل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]، أي: اذهب وأنذر الناس وبلغ رسالة الله سبحانه كما قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67].
وصاحب الرسالة أعلى وأشرف من صاحب النبوة؛ ولذلك كان أولو العزم من الرسل لا من الأنبياء كنوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وكذلك موسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(251/4)
بيان خطر الكفار والمنافقين على المجتمع الإسلامي
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1].
فأمره الله عز وجل بتقواه، ونهاه أن يطيع الكافرين والمنافقين فقال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، وطاعة الكفار المنافقين شر كلها؛ لأن الكافر يأمرك بالمنكر، فليس بعد الكفر ذنب، وإذا كانت علاقته بالله سبحانه مبنية على الجحود والنكران والكفر بالله سبحانه وتعالى فكيف ستكون علاقته مع الخلق؟! ولذلك حذرنا الله بقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]؛ فإنه يأمرك بالكفر بالله سبحانه، ولن يرضى عنك الكافر أبداً حتى تصير مثله، حتى وإن قال لك: إن هناك تسامحاً في الأديان، فكلنا شيء واحد تحت مظلة الإنسانية والحرية، فهو كذاب في دعواه، بل قد يكون من أكثر الناس دعوةً إلى الكفر والباطل.
وقد يزعمون أن هذه الدولة دولة علمانية ثم إذا خالف أحد نظامها قالوا عنه: إنه من اليمين المتطرف، أي: يدعو الناس إلى التطرف، ومثل هؤلاء يعرفون في لحن القول كما قال الرئيس الأميركي في حرب العراق: إنها حرب صليبيه، فهم في الحقيقة يحاربون لا لشيء إلا للدين، وصدق الله العظيم إذ يقول محذراً المؤمنين: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
ومع ذلك تجد المسلمين يتناسون ذلك ويتغافلون عنه، ويصدقون كلام هؤلاء الكذابين الذين ينادون بحرية الأديان والتسامح الديني وحرية المرأة ونزع الحجاب؛ حتى لا يكون هناك فرق بين المسلمين والكفار؛ ولذلك تجد الكفار يسعون جاهدين لتحرير المرأة راجين بذلك الوصول بالمسلم إلى أوحال المعاصي والمنكرات، وما ذلك إلا بسبب الغل والغيظ والحقد الذي يكنونه للمسلمين ولدين الإسلام؛ ولذلك فالله عز وجل يحذرنا من طاعة الكفار فيقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]؛ فإنهم يضلونك.
والحق أن هذا هو دأب الكفار في كل زمان ومكان، فقد كان كفار قريش يعرضون الدخول في دين الإسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بشرط أن يذكر آلهتهم كاللات والعزى بخير وألا يشتمها، استدراجاً له صلى الله عليه وسلم، فإذا بالتحذير الرباني يصل مباشرة فيقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب:1]، ثم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيجدون حوله الفقراء من أصحابه رضي الله تبارك وتعالى عنهم فيقولون: نحن نجلس مع هؤلاء -وكان فيهم بلال وغيره- بل اجعل لنا يوماً ولهؤلاء يوماً حتى لا تتحدث العرب أنا جلسنا مع هؤلاء الضعفاء والفقراء.
فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوشك لحرصه على الدعوة إلى دين الله أن ينفذ ما طلبوه، لكن التحذير الرباني يصل إليه مباشرة فيقول: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، فلا تترك هؤلاء الذين يحرصون على الحضور والاستجابة لك، والذين يدعون ربهم بالغدو والآصال يبتغون وجه الله سبحانه وتعالى، قال: {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28]، أي: لا تبتعد عيناك عن هؤلاء المؤمنين الصالحين تريد زينة الحياة الدنيا وطاعة هؤلاء الكفار، وهنا قال: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1].
فالكافر يضلك ويدعوك إلى ما هو عليه، والمنافق أشد من ذلك، فالمنافق أبطن النفاق في قلبه وأظهر الإسلام على لسانه فهو غير معلوم، أما الكافر فمعلوم كفره باطناً وظاهراً.(251/5)
علامات المنافقين
وقد حذر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم من طاعتهم؛ لأن المنافق ينصرف عن المؤمن ويأنف أن يكون معه في أوقات الجد والشدة، كما صنع عبد الله بن أبي بن سلول مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما انسحب بثلث الجيش عن النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا ألف مقاتل والكفار ثلاثة آلاف، فصار النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة مقاتل، وانصرف المنافق ومن معه في وقت الشدة والحرج.
ومن علامات المنافقين أيضاً: سلاطة ألسنتهم وبذاءتها على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، كما قال بعضهم: والله ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً ولا أجبن عند اللقاء.
فقراء القرآن في نظرهم أجوع الناس وأجبنهم عند القتال والجهاد، وكأن هؤلاء المنافقين هم الذين يجاهدون في سبيل الله عز وجل.
وكانت النتيجة أن فضحهم الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة، فذكر أوصافهم وأحوالهم بدقة متناهية، حتى إنهم خافوا أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، فتبين أن المنافقين هم أشد خطراً على المؤمنين من الكفار؛ لأن الكفار معلومون ظاهرون، أما المنافقون فقد يصلون ويتصدقون، ولكنهم يفسدون العلاقة بين المسلمين مع بعضهم.
وانظروا إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأفعاله مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين، فقد خرج ذات مرة في غزوة مع المسلمين فلما رجع قال لمن معه: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]، أي: حتى لا يبقى أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يتركنا وينصرف، ثم يقول لمن حوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، أي: إذا رجعنا إلى المدينة فسنخرج هؤلاء الضعفاء الأذلين من بيننا -يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه- فإذا سئل عن ذلك ومن معه إذا بهم يحلفون بإنكار ذلك عنهم، كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74].
وكذلك المنافق في كل زمان، فهو إنسان متسلق يريد أن يصعد على أي شيء مهما كان ثمنه؛ فلا تكاد تجد في قلبه الخوف من الله سبحانه وتعالى، بل لا تجد في قلبه سوى حب المنصب والعلو على الخلق.
ومن علاماتهم كذلك: التكاسل عن العبادات والتذبذب، فلا تجده يقف على قدم ثابتة أبداً، بل يصلي إذا وجد القوة مع المصلين، وإلا فالأصل فيه التكاسل والتشكك في وعد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل هنا يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] أي: خف الله يا محمد! ولا تمل لهؤلاء الكافرين والمنافقين، وإذا كان ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فهو للمؤمنين من باب أولى.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [الأحزاب:1] أي: عليماً بما تقولون وما تفعلون وما تنوون، حكيماً سبحانه وتعالى في أوامره ونواهيه، فإذا نهاكم عن الشيء فاحذروه واتركوه سواء فهمتم الحكمة أم لم تفهموا؛ لأن الله حكيم في أوامره ونواهيه، فما عليك إلا أن تنفذ أمر الله وستجد الخير من وراء ذلك.
ولذلك اتبع الصحابة النبي صلوات الله وسلامه عليه في كل ما يقوله لهم، لعلمهم بأن الخير يجري على لسانه صلوات الله وسلامه عليه، فهو لا ينطق عن الهوى، وكذلك يجب على كل مسلم أن يطيع الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أن الله له العلم الكامل وله الحكمة البالغة سبحانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(251/6)
تفسير سورة الأحزاب [2 - 4]
لقد أدب الله نبيه عليه السلام فأحسن تأديبه، فالقرآن مليء بالأوامر والخطابات المصدرة بمناداة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وقد أمره تعالى باتباع ما يوحيه إليه آمراً لأتباعه المؤمنين بذلك.(252/1)
طاعة الكفار والمنافقين ضلال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:1 - 3].
في هذه الآيات يخبر الله سبحانه وتعالى عن تقواه سبحانه، وأنه ينبغي على جميع خلقه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فمن دونهم أن يتقوا الله سبحانه، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتقي الله، وهو أتقى خلق الله صلوات الله وسلامه عليه وأعلمهم بالله وأخشاهم له، فغيره من باب أولى أن يؤمر بذلك وأن يجعل بينه وبين عقوبة الله وقاية من العمل الصالح والإخلاص وتوحيد الله سبحانه وتعالى وغير ذلك.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، فتحذير المعصوم عليه الصلاة والسلام من طاعة الكفار والمنافقين، مع أنه إذا فعل شيئاً فيه طاعة لهؤلاء في أمر من الأمور فإنه لا يبتغي بذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى، معناه أن غيره من باب أولى، فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافراً أو يطيع منافقاً؛ فإنه إذا أطاعهم دلوه على الشر وصدوه عن طريق الخير.
فليحذر المؤمن من طاعة الكفار والمنافقين، فإنهم لن يدلوه على خير وقد ضلوا، فهم أهل ضلال فكيف يدلون غيرهم على الخير وهم لم يأخذوا به أصلاً، فلا تطع الكافرين ولا تطع المنافقين.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1]، أي: فالله عليم بما يأمر سبحانه، عليم بمن يطيعه من عباده، عليم بمن يدل على الخير ومن يضل عن الخير، وبمن يهدي إلى الرشد ومن يهدي إلى الضلال، والله حكيم في أوامره ونواهيه، حكيم إذ يقول: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] ويقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59].
وهو حكيم سبحانه في تشريعه، حكيم في أمره ونهيه، فأطع الله واحذر من طاعة الكفار والمنافقين فإنهم قد ضلوا ويريدون أن يضلوك عن سبيل الله سبحانه.(252/2)
تفسير قوله تعالى: (واتبع ما يوحى إليك من ربك)
قال تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2].
وهذا أيضاً أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره بالاتباع لما أوحاه الله سبحانه من الوحي، وهناك وحي في كتاب الله عز وجل ووحي في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم نطقه وكلامه إما بقرآن وإما بسنة، قال الله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، أي: لا ينطق عن هوى في نفسه، وإنما ينطق عن وحي بالقرآن أو بالسنة، وكلاهما وحي من الله تبارك وتعالى.
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2]، فما نطقت به وأمرت غيرك به، فأنت مطالب بأن تفعله وأن تتبع تشريع ربك سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب:2]، والخبير: هو الدقيق في علمه، الذي يعلم ما جل وما قل، ما استتر وخفا وما ظهر من الإنسان، فيعلم الله عز وجل كل شيء، فهو العليم وهو الخبير سبحانه، وهو العليم بدقائق وخفايا النفوس.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب:2]، هذه قراءة الجمهور.
وقرأها أبو عمرو (إن الله كان بما يعملون) على الغائب.
وهذه الآية هي كقوله تعالى: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، في قراءة الجمهور، وأما في قراءة أبي عمرو فهي: (بما يعملون بصيراً).
فالله يخاطبكم ويقول: كل ما تعملون فهو الخبير به وهو البصير به سبحانه وتعالى، وما يعمل الكفار والمنافقون فالله عليم وخبير بذلك كله أيضاً.
وفي هذه الآية الأمر بالاتباع، وكأنها إشارة وتحذير من الابتداع في دين الله سبحانه، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، فيأمركم بالاتباع للكتاب والسنة، فكل ما جاء فيهما فهو وحي من عند رب العالمين والمؤمن مطالب باتباعه.
ولذلك يحذر الله سبحانه من سلوك سبل الضلالة، وفي فاتحة الكتاب تقرأ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أي: اهدنا ودلنا وأعنا على اتباع هذا الصراط المستقيم، وقال هنا: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من البدع فقال: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، ففي هذا الحديث تحذير من الابتداع في دين الله سبحانه.
فلا تبتدعوا ويكفيكم ما جاء في القرآن والسنة، وقد قال الله لنبيه محمد: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب:2] وكذلك المؤمنون أمروا بالاتباع تبعاً.(252/3)
تفسير قوله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً)
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3].
وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أيضاً.
والتوكل على الله هو أن تجعل ربك وكيلاً، وأن تعتمد عليه وحده لا شريك له، وأن تكل أمرك إليه، وأن تفوض أمرك إليه، وأن تلجأ إليه، وأن تجعل ظهرك وسندك إليه سبحانه وتعالى، فهو الذي يعينك وهو الذي ينصرك ويحميك ويدافع عنك إذا اعتمدت وتوكلت عليه، وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3].
أي: يكفيك ربك سبحانه وكيلاً يدبر أمرك ويدافع عنك، فهو وكيلك وحافظك وحسيبك، يكفيك من كل شيء، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب:3].(252/4)
تفسير قوله تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(252/5)
أقوال المفسرين في معنى (ما جعل الله لرجل من قلبين)
يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] وكأن هنا أناساً ادعوا ذلك فأكذبهم الله سبحانه وتعالى.
وهذه الدعوى محتملة من الإنسان، فقد يدعي لنفسه أنه كذلك؛ ليري الناس أنه أفضل من غيره حتى من النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو الناس إليه، فإذا بالله يكذب من يقول ذلك، وأن الله جعل القلب قلباً واحداً في كل إنسان: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
وقد يكون بعضهم اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وقالوا: إنه ذو قلبين: قلب معكم وقلب مع غيركم، يرمونه بذلك عليه الصلاة والسلام، فيكذبهم الله بأنه ما جعل لأحد من قلبين لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإنما هو قلب واحد في كل إنسان.
قال مجاهداً: نزلت هذه الآية في رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين، ويلقبونه بأنه صاحب القلبين، لماذا؟ وقالوا: إن ذلك من ذكائه، وإنه كان شديد الدهاء، والمكر، فهذا الإنسان كان يمكر ويكيد ويزعم أن ذلك من الذكاء الشديد، فكانوا يلقبونه بذي القلبين من دهائه.
وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين أعقل بكل منهما أفضل من عقل محمد، وكان رجلاً ثرياً، واسمه جميل الفهري، وقيل: بل هو غيره.
الغرض أن هذا الرجل كان شديد الحفظ، يسمع الشيء فيحفظه بسرعة، فكان مُعجباً بحفظه ومعجباً بذكائه، فيقول للناس: أنا أولى بالاتباع من محمد! فقالت قريش: لا يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان، فهو ادعى دعوى وهم صدقوه في ذلك؛ لأنه يحفظ بهذه السرعة.
فلما كانوا في يوم بدر كان هذا الرجل من ضمن الكفار الموجودين، وكان ممن هرب في يوم بدر، فرآه أبو سفيان وهو يحمل نعلاً في يده ونعلاً في قدمه، فقال له أبو سفيان: ما بال الناس؟ قال: انهزموا.
قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك.
فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، أي: كنت أظن أني لابسهما في رجلي، فعرفوا أنه كذاب فيما يدعي من حفظه، ومن أنه ذو قلبين.
فكأنه قال له: لو كان لك قلبان لم تضع نعلاً في يدك ونعلاً في رجلك.
هذا مما قيل في ذلك، والآية تحتمله.
وكذلك جاء أنهم ادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهم زعموه لهذا الرجل الذي اسمه جميل من باب المدح له، فلما قالها المنافقون عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوها من باب الذم والقدح في النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال بعض المنافقين: إن محمداً له قلبان؛ لأنه يكون جالساً معكم وفجأة ينزل عليه الوحي من السماء، فيغيب عنكم ثم يرجع مرة أخرى، إذاً: له قلبان قلب معكم وقلب ليس معكم.
يريدون بذلك أن ينفروا الناس عن النبي صلوات الله وسلامه عليه فأكذبهم الله سبحانه وقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
أيضاً مما قيل في ذلك: إنها نزلت تمثيلاً في زيد بن حارثة لما تبناه النبي صلوات الله وسلامه عليه -وهي محتملة- تمهيداً لتحريم التبني؛ لأنه لا يعقل أن يكون للإنسان أبوان، بل لا يوجد له إلا أب واحد، كذلك لا يوجد أحد له أمان بل هي أم واحدة، وهي التي ولدت الإنسان، وكان من هذا الأب ومن هذه الأم.
فمن تدعيه تبنياً هو ابن لغيرك وليس ابناً لك، كما أن الله لم يجعل في جوفك إلا قلباً واحداً كذلك لم يجعل رجلاً ابناً لاثنين.
وكذلك قالوا: إن هذا تمهيد للنهي عن الظهار، فالمظاهر يقول لامرأته: أنت أمي وهي ليست أمه، فما جعل الله لإنسان أمين كما أنه لم يجعل له قلبين، إذاً: لا قلبان لإنسان، ولا أبوان له، ولا أمان له؛ فكأن في الآية تمهيداً لتحريم الظهار وتحريم التبني.
وكذلك مما قالوا في معناها وهي تحتمله أيضاً: ليس للإنسان قلب يكفر به وقلب يؤمن به، فإما أن يكون قلبه مؤمناً وإما يكون كافراً ومنافقاً، فلا يجتمع الإيمان مع الكفر في قلب الإنسان، وكيف يجتمع الإيمان الذي هو توحيد لله سبحانه مع الشرك بالله سبحانه والجحود به؟ فالآية على هذا القول تمهيد لتحريم الشرك بالله سبحانه.(252/6)
وظيفة القلب وأهميته
قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
وقلب الإنسان من أعظم أعضائه، والجسد فيه مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب، كما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فقلب الإنسان يعقل ويحفظ ويعرف ربه تبارك وتعالى، وهو نفس القلب الذي إذا انقلب إذا بالعبد يشرك بالله ويجحد ربه سبحانه ويفعل المعاصي والذنوب، فالقلب في الإنسان قد يذكر أنه الذي في الجوف كما قال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] وقد يذكر في آية أخرى أن القلب في الصدر كما قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
إذاً: هنا قلب الإنسان الذي في صدره هو محل الإيمان ومحل الكفر، ومحل العقل الذي يتعقل به الإنسان، فهو يعقل بهذا القلب، ويشعر به، ويحس به، وفيه العاطفة، ولذلك الذين يعملون زرعاً للقلوب شعروا أن الإنسان الذي زرع له قلب مكان قلبه لا عاطفة فيه، بل قلبه قلب ميت لا إحساس ولا شعور ولا حب فيه، لا يوجد تعاطف بينه وبين الناس الذين من حوله، وصدق الله العظيم عندما يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ولم يقل: المخ الذي في رأس الإنسان، فالقلب هو محل تعقل الإنسان ومحل إيمانه، ومحل عاطفته، فذكر الله سبحانه القلوب التي في الصدور.(252/7)
معنى قوله: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون)
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4].
والمظاهرة: هي أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.
وهذه الكلمة كانت مشهورة عند العرب، وكان الرجل يتغيظ من امرأته ويريد أن يهجرها فيقول لها: أنت علي كظهر أمي.
والظهر يعبر به عن الركوب، وأصله ركوب الإنسان على ظهر الدابة، فعبر بهذا التعبير كناية عن جماع الإنسان لأهله، فكأن هذا الإنسان عندما يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، كأنه يقول: كما لا يجوز لي أن آتي أمي كذلك لا يجوز لي أن آتيك، فيحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى له، ويتكلم بالزور من القول.
فالله عز وجل لا يرضى أن تجعل هذه المرأة أمك، وهي ليست بأمك، ولا يحل لك أن تقول ذلك.
فحرم الله عز وجل الظهار في هذه الآية، وفي سورة المجادلة منع من ذلك أيضاً، قال تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2]، أي: الذين يظاهرون من نسائهم.
وهذا منكر من القول، وهو أن يزعم الإنسان شيئاً على غير الحقيقة ويعلم أنه كاذب فيما يقول، فقال هنا: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4].
وهاتان الكلمتان فيهما قراءات للقراء: {اللَّائِي تُظَاهِرُونَ} [الأحزاب:4] يقرأ هذه القراءة عاصم وحده.
ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب والبصريون: (تَظَّهَّرون).
ويقرؤها باقي الكوفيين (تَظَاهرون).
ويقرؤها ابن عامر: (تَظَّّّاهرون).
إذاً: هناك أربع قراءات في هذه الكلمة: (تَظَّهَرون)، (تَظَّاهرون)، (تُظَاهرون)، (تَظَاهرون).
كذلك كلمة (اللائي) فيها قراءات: فيقرؤها أهل مكة والمدينة والبصرة: (اللاي) إذا وقفوا عليها، أو إذا وصلوها فإنهم يقرءوها بالتسهيل أو بالهمز الذي فيها.
فبالترتيب يقرؤها قالون قنبل يعقوب: (واللاءِ تَظَّهَّرون) واللاء بالكسرة فيها والمد الذي في الوسط.
ويقرؤها ورش أبو جعفر بالتسهيل: (واللاي تَظَّهَّرون) بتسهيل الهمز فيها.
وإذا وقف عليها من يسهل فيها يقول: (واللاي).
وباقي القراء يقرءونها: (واللائي تَظّاهرون)، (واللائي تُظاهرون)، (واللائي تَظَاهرون).
وهناك قراءة أخرى وهي قراءة أبي عمرو وقراءة البزي: (واللاي تَظَّهَّرون).(252/8)
معنى قوله: (وما جعل أدعياءكم أبناءكم)
قال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4].
الابن المتبنى ليس ابناً حقيقة، ويحرم عليك أن ترتبط به ارتباط النسب فتقول: هذا ابني، وتكتب اسمه باسمك في النسب، كما يحدث من البعض حين يتبنى طفلاً من ملجأ أو من غيره، ثم يكتبه باسمه ثم يرثه فهذا لا يحل، وقد يكون لهذا الإنسان أقارب ومحارم فيدخل هذا الغريب عليهم بدعوى أن هذا صار أباه، وهذه عمته، فيدخل عليها ويراها، وهذا كله غير جائز، فمتى صار هذا الغلام بالغاً فهو ليس ابناً لهذا، وينبني عليه أن هؤلاء ليسوا محارم له، ويجوز له أن يتزوج منهن.
إذاً: التبني يحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، فلا يجوز لأحد أن يتبنى أحداً.
وهناك فرق بين إنسان يكفل إنساناً ويربيه ويسميه بأي اسم، وبين أن يسميه باسمه هو، ويأخذه ليربيه ويتبناه، فالدين لا يمنع من أن يكفل الإنسان يتيماً ويربيه، ولكنه يمنع من أن ينسبه إلى نفسه، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب:4]، أي: إنما هذا قول قلتموه بألسنتكم وليس قولاً صحيحاً، والله هو الذي يقول الحق سبحانه وتعالى، فقوله هو الحق وحكمه هو العدل سبحانه.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:4]، أي: يدل على السبيل ويوفق إليه، ويحول العبد من شيء إلى شيء بقضائه وقدره سبحانه.
نسأله أن يهدينا سواء السبيل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(252/9)
تفسير سورة الأحزاب [4 - 5]
لقد أبطل الله تعالى عادة التبني التي كانت قبل الإسلام، وكذلك الظهار الذي كان يعتاده الجاهلون، ولذلك فلا يجوز فعل ذلك في الإسلام.(253/1)
حكم الظهار وبيان كفارته
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:4 - 6].
في هذه الآيات حرم الله سبحانه وتعالى مظاهرة الرجل من امرأته، كما حرم أن يدعي ابناً ليس له، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] وقد تقدم ذكر القراءات في هذه الآية.
وقد منع الله سبحانه وتعالى من المظاهرة، وهي أن يظاهر الرجل من امرأته فيقول لها: أنت علي كظهر أمي، وجاء المنع هنا بصيغة الإخبار فقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4].
في سورة المجادلة ذكر الله سبحانه تحريم ذلك كما ذكر أن ذلك هو قول للزور وقول للمنكر، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2] فبين أن من الزور والمنكر أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد: أنها محرمة عليه كحرمة أمته.
ثم بين ما يجب على من وقع في ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
فبعد أن ذكر أن هذا منكر من القول وزورا، ذكر ما عليه من الكفارة إذا عاد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] أي: يرجعون عن القول الذي قالوه ويريد أحدهم أن يعاشر امرأته وأن يرجع إلى حياته الطبيعية، فإذا أراد أحدهم ذلك وجب عليه أن يكفر عن هذا القول الذي قاله وكأن قوله بمثابة اليمين المغلظة التي يحلف بها، ولكن كفارة هذا القول الزور الذي قاله أن يعتق رقبة، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
ولأن بعض الناس لا يملكون الرقبة فقد بين حكم من لم يجد ما يعتق، وأن الفرض عليه أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4].
فإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4].
وهذه الأحكام وعظ من الله تبارك وتعالى، وقد بينت الآيات أن الكفارة لا تكون إلا قبل أن يتماسا أي: قبل أن يعاشر الرجل امرأته، فعليه أن يكفر بواحدة من ثلاث على الترتيب: فعليه أن يعتق رقبة إذا وجدت الرقاب، فإذا انعدمت الرقاب، لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، فإذا لم يقدر على ذلك كان عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فلو أنه عكس الترتيب فبدأ بإطعام ستين مسكيناً وهو واجد لرقبة أو قادر على الصيام لا يجزئ ذلك عنه، ولا بد أن يعتق الرقبة إن وجد.(253/2)
تفسير قوله تعالى: (ادعوهم لآبائهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:4 - 6].
في هذه الآيات حرم الله سبحانه وتعالى مظاهرة الرجل من امرأته، كما حرم أن يدعي ابناً ليس له، قال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] وقد تقدم ذكر القراءات في هذه الآية.
وقد منع الله سبحانه وتعالى من المظاهرة، وهي أن يظاهر الرجل من امرأته فيقول لها: أنت علي كظهر أمي، وجاء المنع هنا بصيغة الإخبار فقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4].
في سورة المجادلة ذكر الله سبحانه تحريم ذلك كما ذكر أن ذلك هو قول للزور وقول للمنكر، قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2] فبين أن من الزور والمنكر أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يريد: أنها محرمة عليه كحرمة أمته.
ثم بين ما يجب على من وقع في ذلك فقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
فبعد أن ذكر أن هذا منكر من القول وزورا، ذكر ما عليه من الكفارة إذا عاد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3] أي: يرجعون عن القول الذي قالوه ويريد أحدهم أن يعاشر امرأته وأن يرجع إلى حياته الطبيعية، فإذا أراد أحدهم ذلك وجب عليه أن يكفر عن هذا القول الذي قاله وكأن قوله بمثابة اليمين المغلظة التي يحلف بها، ولكن كفارة هذا القول الزور الذي قاله أن يعتق رقبة، قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
ولأن بعض الناس لا يملكون الرقبة فقد بين حكم من لم يجد ما يعتق، وأن الفرض عليه أن يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4].
فإذا لم يستطع ذلك فعليه أن يطعم ستين مسكيناً، قال تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4].
وهذه الأحكام وعظ من الله تبارك وتعالى، وقد بينت الآيات أن الكفارة لا تكون إلا قبل أن يتماسا أي: قبل أن يعاشر الرجل امرأته، فعليه أن يكفر بواحدة من ثلاث على الترتيب: فعليه أن يعتق رقبة إذا وجدت الرقاب، فإذا انعدمت الرقاب، لزمه أن يصوم شهرين متتابعين، فإذا لم يقدر على ذلك كان عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فلو أنه عكس الترتيب فبدأ بإطعام ستين مسكيناً وهو واجد لرقبة أو قادر على الصيام لا يجزئ ذلك عنه، ولا بد أن يعتق الرقبة إن وجد.(253/3)
قصة تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة
ومن الأحكام المذكورة في الآية تحريم التبني، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4].
الدعي: هو الابن الذي يدعيه الإنسان لنفسه، أو يدعي هو أن فلاناً أبوه بدلاً من أبيه الحقيقي.
ومعنى الآية: أن الله عز وجل ما جعل هؤلاء الأدعياء أبناءً لكم، فدلت على أنه لا يجوز للإنسان أن يتبنى، كأن يدعي إنساناً لنفسه فيقول: فلان ابني، وهو ليس كذلك.
ثم بين سبحانه ما ينبغي عليهم من دعوة الأبناء لآبائهم الحقيقيين فقال: سبحانه: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] فكان العدل الذي حكم الله عز وجل به أن يُدعى الإنسان لأبيه طالما أن أباه معروف، أما إذا لم يعرف أبوه فيقال له أخٌ في الدين، ولا يدعى لغير أبيه.
قال العلماء: إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ذكر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5].
وكان زيد بن حارثة قد ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، وبعد ذلك نزل القرآن يحرم التبني فنودي بعد ذلك زيد بن حارثة.
وذكر أنس بن مالك وغيره: أن زيداً كان مسبياً من الشام، أي أن زيداً كان أصله من الشام ولم يكن من الحجاز، وإنما سباه ناس من عرب من تهامة، ثم ذهبوا به إلى بلاد الحجاز فباعوه عبداً.
وكان السبي والاستبعاد في الجاهلية كثير، حيث يختطف الإنسان من أهله ثم يباع في سوق العبيد، كما فعل بـ زيد مع أنه كان حراً رضي الله عنه، وكان أهله أحراراً، وبعد أن خطف زيد من أهله وبيع في الحجاز، اشتراه حكيم بن حزام بن خويلد، وهو ابن أخ للسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أي أنها عمته.
ومعروف أن خديجة هي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد أن اشتراه حكيم بن حزام وهبه لعمته السيدة خديجة، ثم وهبته السيدة خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تكرم وتفضل النبي صلى الله عليه وسلم فأعتق زيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه وتبناه.(253/4)
تقديم زيد البقاء عند النبي صلى الله عليه وسلم على اللحوق بأبيه
وقد ذكر أن أهل زيد بن حارثة كانوا يبحثون عنه ليلاً ونهاراً، فجاء أبوه وعمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا أنه عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ندفع لك ما تريد وتترك لنا ابننا، فترك النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد الاختيار وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خيروه! فإن اختاركما فهو لكما دون فداء) أي: لو اختار أن يكون مع أبيه ومع عمه فهو لهما من غير ثمن، فاختار الرق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع إلى أبيه وعمه.
والحقيقة أن زيداً رفض الرجوع إلى أبيه وعمه لا لأنهم كانوا قساة عليه، فلم يحرموه من حاجة طلبها، وإنما كان زيد مخطوفاً من أبيه ومن أمه وهو ما زال صغيراً رضي الله تبارك وتعالى، ولكن من يعاشر النبي صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقبل أن يكون عند غيره بل سيفضل أن يكون عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون حراً وملكاً في مكان آخر.
فـ زيد قد أحس بقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنس برحمة النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته ورأفته، وعلم أن هذا النبي لا يضاهيه أحد مكانة أو شرفاً ولذلك اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم على أبيه وعلى عمه، وبعد أن اختار زيد النبي صلى الله عليه وسلم أخذه وخرج إلى قومه من قريش وقال: (يا معشر قريش! اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه).
فتبناه النبي صلى الله عليه وسلم على العادة التي كانت جارية في العرب قبل أن يحرم الله عز وجل التبني، فانصرف أبوه وقومه بعد ذلك تاركين زيداً عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد طول بحث وشوق جسده أبوه شعراً يقطع قلب من يسمعه، من شدة حبه لابنه، ومن شدة حزنه على فراقه، حيث يقول: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فو الله لا أدري وإني لسائر أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بدل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل فأعمل نص العيس في الأرض جاهداً ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتي أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل ولكن بعد أن وجد حنان النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته مع ابنه، واختيار ابنه للنبي صلى الله عليه وسلم أحس أنه في أمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أولى به، فتركه للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فكافأه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تبناه وجعله ابناً له.
وقد توفي أبوه بعد ذلك فظل عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قتل زيد رضي الله تبارك وتعالى في غزوة مؤتة، في سنة ثماني من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في سرية الأمراء التي أمّر النبي صلى الله عليه وسلم فيها زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وجعلهم على البدل، فقال: (أميركم زيد، فإن قتل فـ جعفر، فإن قتل فـ عبد الله بن رواحة).
فقتل الثلاثة في هذه الغزوة وبكاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتأمر بعدهم خالد رضي الله عنه من غير إمرة وفتح الله عليه في تلك الغزوة.
ومن يسمع هذه القصة يعرف عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد وحب زيد للنبي صلى الله عليه وسلم، وشفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته معه، ولكن مع هذه المحبة العظيمة ينزل الله قرآناً على نبيه: أن لا تدعيه لنفسك فهو ليس ابنك! فينفذ النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به، فمن سيكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لإنسان كهذا الحب الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد ومن زيد للنبي صلى الله عليه وسلم.(253/5)
الحكمة من إبطال تبني النبي صلى الله عليه وسلم لزيد
ومن حكم الله تبارك وتعالى أن يتبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً، ومن حكمه سبحانه أيضاً أن ينزل التحريم والحال هكذا، فيطبق أول ما يطبق على النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعلل الإنسان عن تنفيذ الأمر بحجة الخوف من أن تنكسر نفس الإنسان الذي تبناه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونفذ وأطاع ربه حيث قال له وللمؤمنين: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] لأن هذا هو العدل، فالأب حقيقة هو الذي تزوج ثم رزقه الله عز وجل هذا الولد، أبعد أن يرزق فلاناً ابنه تدعيه لنفسك؟ بل القسط والعدل أن تدعوه لأبيه الذي كان سبب وجوده.(253/6)
من لا يعرف له أب ينادي بالأخوة أو المولى
قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5].
فبين أننا إذا لم نعلم أبا هذا الإنسان نقول: أخونا في الدين، أو أخونا في الإسلام أو هو مولانا.
وكلمة المولى من الكلمات التي لها معان كثيرة، وأصلها من الولي، والولي: القرب، فمن كان قريباً مني، كان وليي، ومن معاني المولى أيضاً: ابن العم: لأنهم قرابة أبناء العم.
ومن معاني الموالي: العبيد الذين أعتقوا، والمولى هو السيد الذي يعتق.
ومن معانيها: النصير والمدافع والمحامي أو الحامي عن الإنسان.
فتشير الآية إلى أن من لم يعلموا آبائهم إما أن يكونوا أحراراً، فهم إخوانكم في الدين، وهم كذلك إخوانكم في الدين ومواليكم، إن كانوا أرقاء.(253/7)
حكم الخطأ في نسبة شخص إلى من تبناه
قال الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وكان الله غفوراً رحمياً} [الأحزاب:5].
قد يريد الإنسان أن يعمل الصواب ولكن يقع في الخطأ، فالله غفور رحيم.
وكان هناك أناس قد تبناهم آخرون غير النبي صلى الله عليه وسلم، جرياً على ما كانوا عليه من عادة التبني، فلما نزلت الآية وحرم التبني، كان يجري على ألسنة الناس نسبة المتبني إلى المتبنى، كأن يقال: زيد بن محمد، فبينت الآية أن من تعمد ذلك وقع في الإثم، ومن لم يتعمد ذلك وإنما جرت الكلمة على لسانه خطأً فالله غفور رحيم.
على أن منهم من لصق به هذا الاسم، حتى أن الناس لا يكادون يعرفون له اسماً غيره، مثل: المقداد بن الأسود، وقد كان المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي غزوة من الغزوات لقبه بذلك عليه الصلاة والسلام.
والأسود ليس أباه، وإنما هو عمه، فهو المقداد عمرو ولكن صار على الألسنة المقداد بن الأسود، فـ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبنى المقداد في الجاهلية ومكث معه فترة طويلة إلى أن أصبح رجلاً، وحينها نسي أباه الحقيقي، فأصبح الناس ينادونه بهذا الاسم لا يكادون يعرفون غيره، وأصبح من يناديه لا يقصد أن يقول له: أبوك ليس عمرو وإنما أبوك الأسود؛ ولكن لما لصق به هذا الاسم عرف به، على أن الله عز وجل قد عفا عن مثل ذلك، أي: أن الإنسان لا يتعمد أن ينسب الإنسان إلى غير أبيه، وعلى هذا فمن التصق به الاسم فصار لا يكاد يعرف إلا كـ المقداد بن الأسود لم يأثم من ناداه به.
لكن من قصد نسبة فلان إلى فلان وهو ليس أباه ولو بالتبني فهذا حرام لا يجوز إطلاقه، كما لا يجوز لإنسان أن يقول: أنا ابن فلان على وجه التبني، ولا للرجل أن يقول: فلان ابني على وجه التبني، ولا لثالث أن يقول: فلان بن فلان كأنه ينسبه إليه وهو يعلم أنه ليس ابنه، ومن فعل ذلك كان عاصياً.
قال الله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] أي: إن الله غفور للإنسان الذي تعمد ذلك ثم تاب إلى الله، والله رحيم بأن رفع عنكم المؤاخذة في الخطأ.
وهناك فرق بين الخطأ والخطيئة: فالخطيئة أن يريد الإنسان المعصية، أو يقع في المعصية وهو متعمد لها.
والخطأ: أن يريد الإنسان الطاعة فيخطئ فيقع في المعصية، فهو لم يرد معصية ولكن أخطأ فوقع في الشيء فالله سبحانه وتعالى رحيم، ومن رحمته أنه رفع عنا الإثم في الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه.(253/8)
حكم من حلف على شيء فتبين خطؤه
ومن قول الله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] استنبط العلماء: أن الإنسان الذي يخطئ في الشيء فيظنه كذا ثم يكون غير ما قال، أنه لا شيء عليه، حتى ولو حلف يميناً على ذلك، كأن يرى إنسان خيالاً فيقول: والله إن فلاناً هو الآتي وهماً منه، فلما دنا منه كان إنساناً آخراً.
فالحالف كان يعتقد في نفسه الصدق ولم يقصد أن يكذب في ذلك، فأخطأ فيها فقال: والله إنه فلان فتبين غيره، فليس عليه في ذلك إثم وليس عليه في ذلك كفارة يمين.
كذلك: لو أن إنساناً طلب من إنسان حقه، ثم حلف قائلاً: والله لا أفارقك حتى تدفع لي حقي! فدفع له ما يرضيه، فأخذ منه المال وفارقه، فلما انصرف وجد المال مزيفاً غير حقيقي، فلا كفارة عليه؛ لأنه حين فارقه اعتقد الصدق في ذلك واعتقد أنه استوفى حقه، فليرجع إليه وليطلب حقه بعد ذلك ولا كفارة عليه في ما أقسم.
كذلك: لو أن إنساناً حلف قائلاً والله لا أسلم على فلان، ثم جاء من أقسم ألا يسلم عليه مستخفياً وهو لم يره، فما أدرك إلا ويده في يده فيقال: هذا أخطأ ولم يتعمد فلا حنث عليه في ذلك طالما أنه لم يتعمد الحنث.(253/9)
حكم قول الكبير للصغير (يا بني) وقول الرجل لزوجته (يا أمي) من باب الشفقة
بين الله حقيقة التبني فقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب:4] أي: في التبني، يقول الإنسان: هذا ابني، قولاً بالفم وليس له صدق في القلب؛ لأنه ليس ابنه، كما يقول المظاهر لامرأته: أنت علي كظهر أمي، وهي لست أمه.
وقد يسأل سائل هل من هذا الباب أن إنساناً يقول لامرأة على وجه الرأفة والرحمة: افعلي يا أمي! ولم يقصد بذلك الظهار ولكن من باب التلطف الراجح أنه ليس من هذا الباب.
ومثله أن يقول: إنسان للغلام الصغير: تعال يا بني! اذهب يا بني! إذ إنه لم يقصد أنت ابني حقيقة ولكن ذلك من باب الشفقة والرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك: (أين كنت يا بني؟) وكان يقول ذلك له ولغيره.
فهذه الكلمة لا يقصد منها الإنسان أنك ابني حقيقة ولا من يخاطب زوجته فيقول: يا أمي! لا بقصد الحقيقة.(253/10)
تفسير سورة الأحزاب [5 - 6]
ذكر الله تعالى حكم التبني، وأن الإسلام جاء بإبطال التبني، وأمر بأن ينسب الولد إلى أبيه، وبين سبحانه أن هذا هو العدل والقسط والبر، وبين سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شفيقاً رحيماً بالمؤمنين؛ فلذلك جعله أولى بهم من أنفسهم، وحكمه فيهم كان مقدماً على اختيارهم لأنفسهم.(254/1)
الأحكام المتعلقة بالتبني(254/2)
أضرار التبني
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:5 - 6].
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] فيه دلالة على النهي عن التبني، وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] فيحرم على المسلم أن يتبنى إنساناً وينسبه لنفسه، ويلزمه أن ينسبه إلى أبيه الحقيقي إذا علم هذا الأمر.
فإن لم يعلم فلا يجوز له أن ينسبه إلى نفسه وإن أخذه ورباه، فيقول: فلان أخي في الله، أو هذا مولاي، فنسبتهم لآبائهم هو الأعدل عند الله سبحانه، وهو الحق الذي أمر الله عز وجل به.
فالإنسان الذي ربيته ليس ابناً لك ويكون هذا معروفاً بين الناس، ولا يتكلم الإنسان بعقله في مثل هذا الشيء، وما أكثر ما يقول الإنسان: الله أعلم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
والصبي الصغير عندما يكبر سيقول للذي رباه: هذا أبي وهذه أمي، وهما ليسا بأبيه ولا أمه، والله أعلم به سبحانه وتعالى.
وهذا الإنسان اليتيم قد جعل الله له أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتيماً، وتربى صلى الله عليه وسلم وهو يتيم، وماتت أمه وهو صغير عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك صار سيد الخلق وهو يتيم.(254/3)
أضرار التبني على الفرد والمجتمع
ليس عيباً أن يكون الإنسان يتيماً ليس له أب، ولكن العيب أن يترك الإنسان ما يقوله الله سبحانه، ثم يحكم هواه، ويكون فعل الإنسان طاعة لله والخير له في الدنيا وفي الآخرة حين يلتزم بشرع الله تبارك وتعالى، فتكون له البركة من وراء ذلك.
فمن ربى اليتيم أو كفله فإنه يؤجر عند الله سبحانه، فإذا نسبه إلى نفسه وجد شؤم ذلك يوماً من الأيام في الدنيا وفي الآخرة، فهو عاص لله تبارك وتعالى.
عندما يكبر هذا اليتيم وهو يدعى لفلان قد تتبين له الحقيقة في يوم من الأيام، فيقول: لماذا كذبتم علي في ذلك؟ والكذب خيبة للإنسان، ولا يقود الإنسان إلا إلى الشر، فالإنسان إذا ربى شخصاً ثم نسبه إلى نفسه فقال إنه ابنه، فإنه في يوم من الأيام يرثه وليس له أن يرث هذا الإنسان.
أو يموت هذا الذي تبناه ثم يرثه المتبني وليس من حقه ذلك.
أو لعل هذا الذي تبنى يتزوج ينجب ثم يظن المتبنى أنه أخ لهذه الفتاة وليس أخاً لها، أو أخ لهذا الغلام وليس أخاً له، ويشاركه في الميراث وليس من حقه ذلك، ويظن أنه محرم لها وليس كذلك.
فيتبدل أمر الله سبحانه في هذه الصورة، لذلك يخبرنا ربنا أنه لا يحل هذا التبني، حتى لا تتغير أحكام شرع الله، فيستحل ما حرم الله.(254/4)
معنى قوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به)
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] فإذا أخطأ الإنسان في شيء فلا جناح عليه، إنما الجناح في التعمد في ذلك، كأن يعرف شرع الله في كذا ثم يتعمد مخالفته.
والخطأ مرفوع عن الإنسان، فإذا جهل حكماً شرعياً فأخطأ فيه، فلما تبين له الحكم عمل بما قاله الله سبحانه فهذا معذور، والإنسان إذا اجتهد في الشيء فأخطأ فيه يرفع عنه الوزر، فإذا كان من أهل الاجتهاد فإنه يؤجر على خطئه في اجتهاده.
لكن إذا لم يكن من حقه أن يجتهد فليسأل أهل العلم؛ لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال).
قال الله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5] فالله يغفر ما وقع فيه الإنسان من ذنب، إذا تاب إلى الله عز وجل، والله يرحم بتشريعه سبحانه، فيرفع الإثم عمن أخطأ أو سها أو نسي أو أجبر وأكره على شيء.(254/5)
التغليظ على من دعي لغير أبيه وهو يعلم
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في النهي عن التبني، فقال صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام).
فهذا حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنهما.
ففيه: (من ادعى إلى غير أبيه) أي: من نسب إلى شخص ليس أباً له، فرضي بذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فالجنة عليه حرام)، وهذا شائع عند بعض الناس، وفي بعض أوساط الناس، مثل ما يحصل لبعض الفنانين وغيرهم، فينتسب أحدهم إلى غير أبيه فيتسمى باسم فلان الذي اكتشف موهبته أو الذي عينه أو غير ذلك، فيصير اسمه على ذلك طول عمره، وهو يعلم أن هذا ليس أباً له، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه) يعني: ناداه الناس فلاناً بن فلان وهم يعلمون أن هذا ليس أباه، (فالجنة عليه حرام).
فأمثال هؤلاء قد جمعوا من المآسي، بسبب ما وقعوا فيه من قول زور، ومن شهود فجور، ومن أفعال ماجنة تغضب رب العالمين، ومن تسم بغير أسمائهم الحقيقية، فجزاء كل جريمة من هذه الجرائم الدخول في النار، والحرمان من جنة رب العالمين، ثم يكونون هم الأسوة الحسنة للشباب يقتدون بهم ويحبونهم، فيأخذونهم إلى نار جهنم.
أيضاً: حديث آخر له صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر وهو أيضاً في الصحيحين: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر) يعني: يعلم أن أباه ليس هو الذي ادعاه ومع ذلك يسكت عن ذلك ويرضى بذلك إلا كفر.(254/6)
حكم من انتسب إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس منهم
قال: (ومن ادعى لقوم ليس منهم فليتبوأ مقعده من النار) كأن يدعي أنه من بني فلان، أو من عائلة فلان وهو ليس من هؤلاء.
وأشر من ذلك من انتسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً فيقول: أنا من آل البيت، وليس هو من آل البيت، فيزعم أنه من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وليس منهم.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى قوماً ليس هو منهم فليتبوأ مقعده من النار).
يعني: يجهز نفسه لنار جهنم، والعياذ بالله.(254/7)
تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
يقول الله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6].
هذه الآية فيها عدد من الأحكام، يقول الله سبحانه: {النَّبِيُّ} [الأحزاب:6] وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6].(254/8)
معنى قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
والنبي عليه الصلاة والسلام جعله الله عز وجل لنا أسوة حسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] فالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام أولى بنا من أنفسنا، وكلمة (أولى) من الولي، والولي بمعنى القرب، تقول: فلان يليني، أي: قريب مني، أو جنبي أو بعدي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب إلى كل منا من نفسه، ورأيه لنا عليه الصلاة والسلام أفضل من آرائنا لأنفسنا، فيقول سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] فإذا اختار لنا شيئاً صلى الله عليه وسلم، نختار ما يختاره لنا صلوات الله وسلامه عليه سواء علمنا الحكمة من وراء ذلك أو لم نعلمها.
والذي شهد بذلك هو ربنا سبحانه الذي يعلم السر وأخفى، فهو سبحانه أعلم بخلقه، أعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأعلم بالمؤمنين، فجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا.
وننظر إلى رحمته بنا وشفقته علينا عليه الصلاة والسلام، كيف يكون يوم القيامة؟ وهو الذي قد نجا عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقف على جانب الصراط ويقول: (اللهم سلم سلم).
فهذا دعاؤه صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وهم يمرون على الصراط، فهو أولى بهم من أنفسهم عليه الصلاة والسلام.
لما ذبح كبشين في الأضحى، واحداً عن نفسه صلى الله عليه وسلم وعن أهل بيته، والآخر عمن لم يضح من أمته، فرفع عن أمته الحرج عليه الصلاة والسلام فلا تلزمهم الأضحية، فقد ضحى عنهم صلى الله عليه وسلم، وصارت الأضحية سنة على المسلمين وليست فريضة، فقد كفاهم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع عنهم الحرج في ذلك، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم صلوات الله وسلامه عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه ويدعو لأمته عليه الصلاة والسلام.
فما ترك من خير إلا ودل الأمة عليه، وما ترك من شر إلا وحذر الأمة منه عليه الصلاة والسلام، فبلغ رسالة الله سبحانه، ووضح وبين وذكر ووعظ الأمة، وقال لهم في النهاية: (ألا هل قد بلغت؟ فقالوا: نعم.
فقال: اللهم فاشهد).
فمدحه الله سبحانه بأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.(254/9)
معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم)
ثم ذكر أزواجه عليه الصلاة والسلام ومدحهن وقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب:6].
أي: نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من هذه الأمة.
والراجح أن المعنى هو أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لكل مؤمني الأمة رجالاً ونساءً؛ لأن العلماء اتفقوا على أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لجميع رجال الأمة، ولكن هل هن أمهات أيضاً لنساء الأمة؟ الراجح: نعم؛ لأن الله عز وجل لم يفرق بين الرجال والنساء، قال: ((وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6].
والأمومة قسمين: أمومة في الحرمة وأمومة في المحرمية.
فأمومة الحرمة أنه يحرم عليه أن ينكحها، أي: يتزوجها، فأمه في النسب محرمة عليه وهو محرم عليها.
وأمومة المحرمية: أنه لا يحرم عليه أن يدخل عليها ويسافر معها.
فنساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين في الحرمة، فيحرم على أي مؤمن أن يتزوج نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده.
فالتحريم رعاية للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وإكراماً له عليه الصلاة والسلام، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم، فالتي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل بها وخلا بها عليه الصلاة والسلام، فليس من حق أحد أن يتزوجها بعده إن طلقها أو مات عنها طالما أنه دخل بها عليه الصلاة والسلام.
فهذا الحكم لا ينطبق على من لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أنه عقد بامرأة ثم طلقها صلى الله عليه وسلم قبل الدخول لم تكن أماً للمؤمنين، إنما أمهات المؤمنين من تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بهن.
قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] فهذه حرمة دائمة.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم له فقط، وليس من حق أحد أن يتزوجهن بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه.
ويجوز للمؤمنين أن يذهبوا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونهن من وراء حجاب عن مسائل الشرع ومسائل الدين، وعن أحكام القرآن وأحكام سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستعيروا منهن متاعاً من أمتعة الدنيا على وجه العارية.
وقد شرف الله سبحانه نساء النبي بهذه المنزلة العظيمة، وأمرهن بتبليغ دين الله سبحانه فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] فنساء النبي صلى الله عليه وسلم مطالبات بذكر وتبليغ كل ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة.(254/10)
الحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
وإذا كانت امرأة واحدة لا تقدر أن تقوم بذلك، ولا امرأتان، فكم من النساء يبلغن هذا الدين العظيم والأحداث التي تأتي للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وينزل بسببها القرآن أو السنة، فلذلك جعل الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء ولم يحد له كما حد للمؤمنين، قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50]، فيجوز للمسلم أن ينكح أربع نسوة.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فترك الله سبحانه تبارك وتعالى له أن يتزوج ما يشاء فجمع بين تسع نسوة في وقت واحد صلوات الله وسلامه عليه.
والغرض من ذلك: الدعوة إلى الله سبحانه والتبليغ للأحكام الشرعية، فالواحدة أو الأربع لا يكفين لتبليغ كل هذا الدين العظيم، فترك للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج فكان يأتي كل امرأة، فمرة يدور عليهن صلوات الله وسلامه عليه في غسل واحد، وكان يقسم لكل امرأة ليلة، فعندها قد تنزل آيات أو أحكام أو يحدث شيء فيحتاج الناس لمعرفة هذا الحكم، فتبلغ المرأة ما حدث في بيتها، أو من جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وسأل وشهدت ذلك، فتبلغ أحكام الشريعة التي أمر الله عز وجل بتبليغها.(254/11)
أزواج النبي أمهات للمؤمنين وهو أب لهم
قال الله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] فإذا كانت زوجات النبي أمهات للمؤمنين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهذه الأمة، وكل نبي أب لقومه، هذا حكم من الله سبحانه، ولذلك فإن سيدنا لوطاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78] وما كان عنده إلا بنتان، فالمقصود بالبنات بنات قومه فهن أطهر لهم، فكان قوم لوط يأتون الرجال - والعياذ بالله - فقال لهم: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78] أي: تزوجوا من النساء، واحذروا هذه الفاحشة، التي كانت سبباً في إهلاكهم.
وقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو أب للمؤمنين، وقرئت في الشواذ في قراءة أبي وابن عباس رضي الله عنهما: (وهو أب لهم) وليست قراءة، والراجح أنها تفسير، أو كانت قراءة ونسخ ذلك فصارت تفسيراً، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للأمة، ولذلك يقول للأمة عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم) فيعلمهم الآداب الشرعية.
ولذلك فإن اليهود يحسدون هذه الأمة على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون: ما ترك شيئاً إلا علمكم حتى الخراءة، أي: حتى أدب الخلاء فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد) يعني: لا تستحيوا أن تسألوا في أحكام الطهارة وغيرها من الأحكام، فأنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، أي: بمنزلة الوالد في الشفقة والتعليم والتأديب والتهذيب صلوات الله وسلامه عليه.(254/12)
قضاء النبي دين من مات ولم يترك قضاء
أيضاً في قوله سبحانه: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6] لما نزلت هذه الآية كان فيها فرج من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وكان قبل نزولها كلما جيء النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة يسأل، هل عليه دين؟ فإذا قالوا عليه دين، فيسأل هل ترك له وفاءً؟ فإذا قالوا: نعم، صلى عليه، وإذا قالوا: لا، لم يصل عليه، وقال: (صلوا على صاحبكم)، فلما نزلت هذه الآية: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] وفتح الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم فتوحاً، كان بعد ذلك يقول: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته).
وفي رواية: (فأيكم ترك ديناً أو ضياعاً فأنا مولاه).
فانظروا إلى شفقته عليه الصلاة والسلام، فكان من يموت بعد ذلك من أصحابه وعليه دين يتكرم ويسدد عنه هذا الدين.
فإذا توفي إنسان وترك مالاً، لم يأخذ منه صلى الله عليه وسلم ليقضي دينه، ولكنه كان يترك المال للورثة، فالذي يموت ويترك ديناً أو ضياعاً، أي: عيالاً يضيعون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم، ويقضي دين هذا الميت عملاً بما في هذه الآية، ففيها بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة، وأنه أولى بالمؤمنين من الأمة، فاستحق المنزلة العظيمة عند الله، واستحق أن يصلي عليه المؤمنون في كل وقت، صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(254/13)
تفسير سورة الأحزاب [6 - 8]
حق النبي عليه الصلاة والسلام على أمته عظيم، فقد أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وعلمنا ما لم نكن نعلم، ولذا جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وجعل أزواجه أمهاتهم.(255/1)
تفسير قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا * وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:6 - 8].
في هذه الآيات من سورة الأحزاب يخبرنا الله تبارك وتعالى عن فضيلة للنبي صلوات الله وسلامه عليه وخصيصة اختصه الله سبحانه وتعالى بها، والنبي صلوات الله وسلامه عليه هو الذي أرسله رب العالمين كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
فهذا النبي البشير النذير الرسول عليه الصلاة والسلام يخبرنا ربه سبحانه أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولذلك قال الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فالمؤمنون يفضلون النبي صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، ورأي النبي صلى الله عليه وسلم لهم أحب إليهم من آرائهم وإن اجتمعوا، فالنبي معصوم عليه الصلاة والسلام، وربنا مدحه وجعل له هذه الفضيلة، وهي أنه أولى بكل مؤمن ومؤمنة.
لما أنزل الله تبارك وتعالى عليه هذه الآية أتي بجنازة ليصلي عليها، فسأل هل عليه دين؟ فأخبروه أن عليه ديناً، فقضى عنه دينه صلوات الله وسلامه عليه وقال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي وعليه دين فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته)، فمن يتوفى ويترك مالاً فماله لأهله يرثونه، ومن ترك ديناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقضي عنه هذا الدين.
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يدفعنا عن النار، فيقول: (أنا آخذ بحجزكم) وحجزة الإنسان معقد إزاره، فمن أمسك الإنسان من حزامه فالممسوك لا يفلت منه، فيقول: (أنا آخذ بحجزكم) يعني: ممسك بكم حتى لا تقعوا في النار، ومع ذلك تتفلتون مني، وتقحمون فيها، يعني: تقعون في النار بسبب المعاصي والشهوات والفتن، وهذا مثال الإنسان الذي يسمع كلام رب العالمين ويسمع حديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فيلقي ذلك وراء ظهره، ويوقع نفسه في المعاصي والشهوات والشبهات فيقع في النار.
فالنبي صلى الله عليه وسلم حريص على نجاتنا وتخليصنا من النار، ولكن الإنسان تدفعه الفتنة وتدفعه الشبهة والشهوة إلى أن يوقع نفسه في النار، وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه في تخليصنا من النار وفي نجاتنا منها، فهو أولى بنا من أنفسنا، هو علم ونحن جهلنا، فهو أولى بنا من أنفسنا عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان الذي يقتحم النار ويوقع نفسه فيها لا يدري بخطرها، فإذا وقع فيها يعلم أنه ظلم نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم خطرها فأمسك بحجزنا ليبعدنا عن النار، فهو أرأف بنا وأرحم بنا صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي يعمل في نجاتنا عليه الصلاة والسلام، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فإذا أمرنا بشيء يلزمنا أن نتبعه حتى لو وجدنا أن هذا الشيء لا تريده أنفسنا، فلا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك أولى بنا من أنفسنا إذا حكم علينا بحكم فنرضى بحكمه وننفذه على أنفسنا.(255/2)
معنى قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم)
قال الله سبحانه: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] أي في الحرمة، فلا يحل لإنسان أن يتزوج بزوجة النبي صلى الله عليه وسلم سواء طلقها أو مات عنها عليه الصلاة والسلام، فهي أم للمؤمنين، فقال: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] يعني في التحريم وليس في المحرمية، يعني: لسنا محارم لهن، فلا يجوز لأحد المؤمنين أن يسافر مثلاً مع زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم على أنه محرم لها، فهن أمهاتنا في التحريم لا في المحرمية، بينما يتعلق بأم الإنسان شيئان: الأول: أنه يحرم عليه أن يتزوجها.
الثاني: أنه محرم لها.
فأم الإنسان فيها حرمة ومحرمية، حرمة يحرم عليه نكاحها، ومحرمية أنه يخلو بها ويسافر معها، فأمهات المؤمنين نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحرمن على المؤمنين، ولكن ليس المؤمنون محارم لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فمن سألها متاعاً مثل أن تسلفه متاعاً من متاع البيت كمكنسة على وجه العارية، فليسألها من وراء حجاب، ولا تحصل مقابلة بينه وبينها، ولكن من وراء حجاب فحجب شخصها عنه.
قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي قال الله عز وجل فيهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، فطهرهن الله سبحانه وتعالى تطهيراً عظيماً، وأذهب عنهن الرجس، ومع ذلك أمرهن بأعظم أنواع الحجاب وهو حجاب الشخوص، يعني لا يكفي أن تلبس جلباباً وتتنقب، بل تكون أيضاًَ من وراء ساتر، فتتحجب بحجابها الشرعي ومن وراء ساتر أيضاً، فأمرن بهذا وهن أعف النساء رضوان الله تبارك وتعالى عليهن، فكيف بغيرهن! بعض النساء إذا قلت لها: احتجبي وانتقبي، تقول لك: هذا الأمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقط، فنقول: إذا كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم قد طهرهن الله تبارك وتعالى، وجعلهن أمهات للمؤمنين، ومنع أي إنسان أن يتزوج بإحداهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فصرن محرمات على المؤمنين؛ ومع ذلك أمرهن بذلك، فغيرهن من باب أولى أن تحتجب وألا تتكشف أمام الناس، وهن القدوة الحسنة لغيرهن من النساء، فلتقتد النساء بنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد جعلهن الله سبحانه أسوة وقدوة للخلق، وطهرهن تطهيراً رضوان الله تبارك وتعالى عليهن.(255/3)
هل إخوة أمهات المؤمنين أخوال لهم
قال الله عز وجل: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] هل ينبني على أن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم للمؤمنين أن إخوتها أخوال للمسلمين؟ قال بعض العلماء بذلك، ولكن الراجح أن هذا الحكم لا يتعداهن، فزوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم للمؤمنين وليس أخوها خالاً للمؤمنين، لكن في الآية نفسها: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، فهو أبٌ للمؤمنين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد)، وكذلك كل نبي مع قومه هو لهم بمنزلة الوالد، وفي قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال لقومه: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، وكان قوم لوط يأتون الفاحشة، فيأتي الرجال الرجال والعياذ بالله، فأمرهم النبي لوط عليه الصلاة والسلام أن يتزوجوا النساء، وهو ما كان عنده غير ابنتين، فلم يقل: هاتان بنتاي، وابنتاه لا تكفيان لزواج الأمة، ولكن قصده بنات قومي الذين أدعوهم إلى الله عز وجل، فتزوجوا من هؤلاء النسوة، فهذا دليل على أن النبي أب لقومه، فهو أب للرجال وأب للنساء عليه الصلاة والسلام، وهو لهم بمنزلة الوالد، ولكن هذه الأبوة لا تحرم عليه أن يتزوج من النساء عليه الصلاة والسلام، بخلاف أمومة أمهات المؤمنين، فالله تبارك وتعالى راعى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل له حرمة عظيمة، فجعل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين يحرم على المؤمنين أن يتزوجوهن كما يحرم على الرجل أن يتزوج أمه، والنبي صلى الله عليه وسلم هو لهم بمنزلة الوالد، ولكن لا يحرم عليه أن يتزوج من نساء أمته عليه الصلاة والسلام.(255/4)
معنى قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)
قال الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6].
وقال الله سبحانه في أول سورة النساء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] يعني: اتقوا الله سبحانه وتعالى الذي تساءلون به، يعني: ينشد بعضكم بعضاً بالله، فتقول: بالله افعل كذا وكذا، وأيضاً تتساءلون بالأرحام، فتقول للإنسان: راع الرحم التي بيني وبينك، فتنشده الرحم بمعنى مراعاة الرحم ومراعاة القرابة التي بيني وبينك، وهذا على قراءة: {اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1].
وفي القراءة الأخرى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1] يعني: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، فالأرحام هي القرابات، فهنا يقول الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} [الأحزاب:6] يعني: القرابات الأنسباء: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6] أي: في المواريث.
وسبب نزول هذه الآية أنه كان في أول الإسلام لما كان المؤمن في مكة يترك أقاربه الكفار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مؤاخاة بين المؤمن والمؤمن، حتى تزداد الصلة فيما بينهم، فكانوا يتوارثون بذلك، فلما هاجر أهل مكة إلى المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين تسعين من المهاجرين والأنصار، فكانت هذه الأخوة الإيمانية تربط الجميع، وكانوا يتوارثون بها، فإذا مات أنصاري وله أخ من المهاجرين ورثه، فبعدما نزلت هذه الآية جعل الله عز وجل الأخوة التي كانت بينهم أخوة الإسلام، لكن ليست أولى من أخوة النسب في الإرث، فجعل التوريث بين المسلمين بالقرابات، فقال الله سبحانه: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:6] من المؤمنين أي الأنصار الذين في المدينة، والمهاجرين الذين هاجروا إليهم، فصار كل إنسان يرثه قريبه من المؤمنين وهم يرثونه.
يقول الزبير رضي الله عنه في هذه الآية: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6]: وذلك أنا معشر قريش قدمنا المدينة ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان، فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد قال عروة بن الزبير: فارتث كعب يوم أحد، يعني: جرح في يوم أحد جراحة شديدة، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ كعب من الضح والريح لورثه الزبير.
يعني: لو كان مات كعب بن مالك يوم أحد من جراحه لكان الذي سيرثه الزبير رضي الله عنه، والزبير مهاجري وكعب أنصاري، لكن لم يحدث هذا، ونزلت هذه الآية بعد ذلك وألغت أمر التوارث بالهجرة والنصرة.
قال: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} [الأحزاب:6] أي: بالأنسباء.
{بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب:6] في حكم الله.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} [الأحزاب:6] يعني بالوصية أن تفعل معروفاً مع هؤلاء، فتوصلهم بشيء من الثلث فما دونه، فهذا جائز.
{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب:6] مسطور بمعنى: مكتوب، فهذا حكم الله عز وجل في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنزله في القرآن العظيم، وجعله حكماً مكتوباً لتقرءوه ولتعملوا به.(255/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم)
قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7].
يذكرنا الله عز وجل بالميثاق الذي أخذه على النبيين، ولله عز وجل مواثيق كثيرة أخذها على خلقه، وأول هذه المواثيق: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، فربنا خلق آدم واستخرج من ظهر آدم من يكون من ذريته إلى يوم القيامة، فاستخرجهم قبل أن ننزل إلى هذه الدنيا، ثم أشهدهم على أنفسهم، فكل إنسان في نفسه ما يجعله يعرف ربه سبحانه وتعالى.
قال الله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا {تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173].
إذاً: ربنا أخذ علينا ميثاقاً جعله في صدورنا نسيه من نسيه وعمل به من عمل به، ويوم القيامة يتذكر الجميع هذا الميثاق الذي أخذه الله تبارك وتعالى عليه.
وبهذا الميثاق جعل الله عز وجل في قلب الإنسان الفطرة السليمة التي تهديه إلى ربه سبحانه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، فالإنسان مولود على هذه الفطرة، وعلى الميثاق الأول يعرف ربه سبحانه، فإذا بالأبوين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وميثاق آخر أخذه الله سبحانه على النبيين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
وهنا ميثاق خاص بهؤلاء الأنبياء الخمسة الذين هم أولو العزم من الرسل، وكل الرسل من أولي العزم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن اختص هؤلاء فميزهم وفضلهم على الباقين فقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} [الأحزاب:7] وهذا عموم، ثم خص: {وَمِنْكَ} [الأحزاب:7] يا محمد عليه الصلاة والسلام، {وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب:7] أبو الأنبياء بعد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، {وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب:7] أبو الأنبياء الذين جاءوا من بعده، {وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب:7] ميثاقاً مؤكداً أن كل نبي يصدق النبي الذي قبله، وينصر من وجد معه، ويبشرهم بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاء نبينا صلى الله عليه وسلم صدق بكل الأنبياء والرسل السابقين، وعلمنا ذلك، وأخذ الله عليهم الميثاق الغليظ أن يقيموا شرع الله سبحانه، وأن يصدق بعضهم بعضاً، وأن ينصر بعضهم بعضاً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فالميثاق الذي يؤخذ على النبي هو مأخوذ أيضاً على أتباعه، فيلزمهم ما التزمه نبيهم عليه الصلاة والسلام.(255/6)
تفسير قوله تعالى: (ليسأل الصادقين عن صدقهم)
قال الله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] هؤلاء الأنبياء الصادقون يسألهم الله سبحانه وهم صادقون، فإذا سألهم عن صدقهم أفلا يسأل الكذابين عن كذبهم؟ ففيه التهديد لكل كذاب مكذب بالرسل، فإذا كان الرسل يسألون يوم القيامة وقد علم الله سبحانه وشهد أنهم كانوا على الحق فكيف يغيرهم؟! يوم القيامة يجمع الله الرسل ويسألهم كما قال الله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109]، ويسألهم: هل بلغتم؟ كما قال: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116].
فإذا كان المسيح الذي صدقه الله سبحانه وتعالى وأخبر عنه في هذا القرآن العظيم أنه بلغ رسالة ربه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنهم افتروا عليه وكذبوا، ومع ذلك يسأله يوم القيامة: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116]، فهذا موقف يفزع فيه المسيح من هذه التهمة: أأنت قلت للناس ذلك؟ فإذا قيل للمسيح ذلك فكيف يقال لعباد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟! وكيف يقال للمشركين؟ {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الأحزاب:8].
فيصدق الصادقون ويكذب الكذابون، وقد أعد الله عز وجل للكافرين عذاباً أليماً.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(255/7)
تفسير سورة الأحزاب [9 - 10]
لقد وعد الله عباده المؤمنين بالنصر على الأعداء إذا صدقوا في إيمانهم وتوكلهم على الله عز وجل، وقد لقي المؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب الضيق والحرج والحصار الشديد، فضلاً عن نقض اليهود للعهد، فهم أهل غدر وخيانة، وما من مصيبة إلا من ورائها اليهود.(256/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
هذه الآية التاسعة من سورة الأحزاب يذكر الله سبحانه وتعالى فيها سبب تسمية هذه السورة بسورة الأحزاب، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأحزاب:9]، يذكر المؤمنين بنعمته سبحانه وتعالى عليهم، وما أعظم نعم الله عز وجل على عباده.
{اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:9]، نعمة من نعم الله سبحانه، فمن نعمه سبحانه ما حدث في يوم الأحزاب {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11]، وكان يوماً فظيعاً على المسلمين لم يكونوا يتوقعونه؛ حتى يعلموا أن النصر بيد الله سبحانه، وأن الإنسان مهما كادت له الدنيا وأراد الله عز وجل شيئاً لا بد أن يكون ما أراده الله سبحانه وتعالى، مصداقاً لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].
ونرى في غزوة الأحزاب نصر الله تبارك وتعالى كيف جاء؟ ومتى جاء؟ وكيف زلزل المؤمنون، وكيف زاغت الأبصار وبلغت القلوب الجناجر؟ فقلب الإنسان في صدره يبلغ الحنجرة، وهذا في غاية الرعب وشدة الخوف؛ إذ يشعر الإنسان أن قلبه سيخرج من فمه مع شدة رعبه وشدة خوفه، فبلغ الأمر بالمؤمنين كذلك، وننظر في هذه القصة العجيبة في غزوة الأحزاب.
هذه الغزوة تسمى بغزوة الأحزاب، تسمى بغزوة الخندق وبني قريظة.
وغزوة الأحزاب هذه كانت في سنة خمس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن اختلف العلماء في زمن وقوعها فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة وهذا الأرجح، وجاء عن الإمام مالك رحمه الله أنها كانت في سنة أربع للهجرة.
والظاهر أن ذلك بحسب عد السنة الهجرية، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في شهر ربيع، فمن اعتبر الهجرة من أول السنة يعد من السنة التي بعدها؛ لأن السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم لا تحسب، بل يحسب بالمحرم من السنة التي تليها، وبناءً عليه تكون غزوة الأحزاب في سنة أربع للهجرة.
ومن يعد السنة التي هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فيها فيعتبر أولها من شهر المحرم فتكون غزوة الأحزاب في السنة الخامسة، فعلى ذلك كان الخلاف بينهم، لكن قول الجمهور أن غزوة الأحزاب في السنة الخامسة.
وباقي الغزوات كلها على ذلك، فمن سيقول غزوة بدر في السنة الثانية يكون على اعتبار أن السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي الأولى، والسنة التي تليها هي السنة الثانية، والذي سيقول أنها في السنة الأولى فذلك باعتبار أنه لا يحسب الجزء من السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم.(256/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)(256/3)
معنى قوله: (من فوقكم ومن أسفل منكم)
قال الله عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، يعني: من شدة الرعب، ومن شدة الخوف.
فقوله تعالى: {جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأحزاب:10]، واضح أنه من مكان عال، وقوله: {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10]، من مكان آخر منخفض.
فجاءوا من المشرق وجاءوا من المغرب وأحاطوا بالمسلمين وخانت اليهود من خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصار الكفار حولهم من كل مكان، فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر من الخوف ومن الرعب، خاصة أن الكفار كان عددهم ضخماً، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين.
قال الإمام مالك رحمه الله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة وذلك قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، قال مالك رحمه الله: ذلك يوم الخندق، جاءت قريش من هاهنا، واليهود من هاهنا، والنجدية من هاهنا، يعني: جاءوا من فوقكم، ومن ورائكم مكان مرتفع جاءت منه اليهود.
{وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10]، أي: جاءت قريش وغطفان ومن معهم من أسفل منكم.(256/4)
سبب غزوة الأحزاب
وكان سبب هذه الغزوة اليهود، وأي مصيبة على المسلمين فمن ورائها اليهود لعنة الله عليهم، فسببها أن البعض من اليهود منهم كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وسلام بن أبي الحقيق، وسلام مشكم وحيي بن أخطب وهؤلاء من بني النضير، وهوذة بن قيس وأبو عمار من بني وائل، وهم كلهم من اليهود الذي حزبوا الأحزاب.
وفي كل غزوة من مغازي النبي صلى الله عليه وسلم يعمل اليهود فيها عاملاً من العوامل فيكونوا سبباً في قتال المسلمين لهم، وكان من اليهود بالمدينة ثلاثة طوائف: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فبنو قينقاع أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وطردهم؛ لأنهم بعد غزوة بدر يقولون للمؤمنين: وما الذي فعلتم بغزوة بدر؟ لم تقاتلوا إلا رجالاً لا خبرة لهم بالقتال، لكن لو قاتلتمونا نحن لعلمتم من الرجال، وما زالوا يتقولون على المسلمين حتى أحدثوا حدثاً فطردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة.
وجاءت غزوة أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وبعد ما انتهت غزوة أحد إذا ببني النضير تحدث حدثاً، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يجليهم ويطردهم من المدينة.
فهؤلاء من بني النضير ما زالوا موتورين حين طردهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فألبوا قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإذا بقريش تستجيب لذلك ووعدتهم يهود بني النضير أنهم يعينونهم في المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أهل مكة الفرصة في استئصال المسلمين فأجابوهم إلى ذلك.
وخرجت اليهود من مكة إلى غطفان ودعوهم أيضاً لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فوعدوهم بقتال النبي صلى الله عليه وسلم بجانبهم وبجانب قريش.
وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري من بني مرة، وغيرهم وأحاطوا بالمدينة، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم شاور أصحابه صلوات الله وسلامه عليه.
العدد عدد ضخم جداً، وجيش المدينة ثلاثة آلاف رجل، أما الكفار فبلغ عددهم عشرة آلاف وزيادة، فكل واحد من المؤمنين يواجه ثلاثة من الكفار، فالعدد غير متكافئ.(256/5)
حفر الخندق
استشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذا الحدث تطبيقاً لأمر الله له بالمشاورة، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
ومدح الله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمشاورة، فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذا الأمر، فكل واحد من المؤمنين أشار بشيء، وأشار سلمان الفارسي رضي الله عنه بأن يحفروا خندقاً حول المدينة يحول بينهم وبين الكفار بحيث إن الكفار لا يقدرون على العبور إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت فكرة سلمان فكرة حسنة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا، بحيث إنهم لا يقدرون على العبور إلينا، فحفر المسلمون الخندق مجتهدين في ذلك.
وكان المسلمون يحفرون الخندق، ويتعبون أنفسهم، ويبذلون جهدهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر كما يحفرون، ويحمل الحجارة ويحمل التراب، حتى كان التراب يتناثر على صدره وبطنه وملابسه صلوات الله وسلامه عليه.
والمنافقون كانوا كعادتهم لا يساعدون في شيء وإنما يتسللون لواذاً، أما المؤمنون فقد فعلوا أفعالاً عظيمة، وصنعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كل صنيعة كريمة، فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات يمدح فيها المهاجرين والأنصار، أما المنافقون فأنزل فيهم ما فضحهم به من آيات.
وقسم النبي صلى الله عليه وسلم حفر الخندق على المسلمين، كل مجموعة تحفر جزءاً من الخندق، حتى إذا أتمت المجموعة ما عليها من حفر انطلقت لمساعدة غيرها من المجموعات، فكان المؤمنون كمثل الجسد الواحد رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
ولما أشار سلمان بحفر الخندق وجد المسلمون في هذا الخندق شيئاً غريباً، فإذا بهم يختلفون فقال المهاجرون: سلمان منا؛ لأن سلمان مهاجر مثلهم، وقال الأنصار: سلمان منا؛ لأنه كان في المدينة، ففصل النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وقال: (سلمان منا أهل البيت)، فالنبي صلى الله عليه وسلم مدح سلمان وجعل له هذه المزية العظيمة.(256/6)
ما تعلمه المؤمنون أثناء حفرهم الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم
النبي صلى الله عليه وسلم لما حفر مع المؤمنين الخندق علمهم الأسوة الحسنة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
وفي الصحيحين عن البراء بن عازب: (لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى الغبار جلدة بطنه صلوات الله وسلامه عليه، وكان كثير الشعر عليه الصلاة والسلام) فكان ينقل التراب مثل آحاد المسلمين والتراب يتناثر على بطنه وعلى صدره عليه الصلاة والسلام.
قال البراء: (فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل هذه الأبيات التي قالها ابن رواحة ويقول: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا -وفي رواية- اللهم لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا).(256/7)
ذكر ما جاء من معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق
هذه الغزوة كان فيها آيات عظيمة من الله سبحانه وتعالى، من هذه الآيات أن المسلمين وهم يحفرون الخندق استصعب عليهم مكان فيه، فالأرض منها أرض ترابية ومنها أرض صخرية.
روى الإمام النسائي عن أبي سكينة -وهو رجل من المحررين- عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رداءه ناحية الخندق، وأخذ المعول ونزل بنفسه، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] وضرب الصخرة، فندر ثلث الصخرة، وخرج معها بريق عظيم، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الثانية: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115]، ويضرب الضربة الثانية فندر الثلث الثاني، فبرقت برقة وهكذا في الثالثة)، كل مرة يضرب النبي صلى الله عليه وسلم ضربة فينفلق ثلث الصخرة ويخرج بريق عظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية، وانكسرت الصخرة ثلاثة أجزاء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس.
قال سلمان: (يا رسول الله! رأيتك ضربت ما تضرب ضربة إلا كانت معها برقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت ذلك يا سلمان؟! قال: إي والذي بعثك بالحق يا رسول الله! قال: فإني حين ضربت الضربة الأولى رفعت لي مدائن كسرى وما حولها حتى رأيتها بعيني، فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله! ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ويخرب بأيدينا بلادهم! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فمن الآيات، أن النبي بضربه ضربها على الصخرة نظر إلى بلاد الشام، وإلى بلاد العراق والله عز وجل سيغنمه ذلك، ووجد أنه سيفتح هذه البلاد.
وفي رواية أخرى أنه كبر صلوات الله وسلامه عليه وقال: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، وإني لأبصر إلى قصورها الحمراء من مكاني هذا)، هذا في الضربة الأولى، وفي الضربة الثانية قال: (باسم الله، الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض)، ثم ضرب الثالثة وقال: (باسم الله، فقطع الحجر، وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر باب صنعاء).
وهذه بشارة في وقت انتشر فيه الرعب بين الناس؛ ليري الله عز وجل المؤمنين آية من آياته سبحانه، وليعلم من يصدق ذلك ومن يكذب، أما المؤمنون عندما يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك فيقولون: يا رسول الله! ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم، ويخرب بأيدينا بلادهم! وما النصر إلا من عند الله سبحانه، والمؤمنون لا يطلبون النصر من النبي صلى الله عليه وسلم إنما يقولون: ادع الله أن ينصرنا على هؤلاء.
وأما الرواية الأولى ففيها (أنه في الضربة الثالثة قال: رفعت لي مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى رأيتها بعيني)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم)، وهو حديث حسن.
والغرض: أن حفر الخندق آيات من آيات الله سبحانه في وقت كان المسلمون في غاية الخوف والرعب، ولا يقدرون على قتال الكفار، فلا يصدق بهذه إلا مؤمن قوي الإيمان، ولا يكذب بها إلا منافق، فقد كان المنافقون يقولون: يعدنا بفتح مدائن كسرى، وقيصر، والشام، والحبشة، والعراق، ونحن لا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا.(256/8)
تجمع الأحزاب حول المدينة ونقض بني قريظة للعهد
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من حفر الخندق أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة، وأهل تهامة، وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فكانوا بظهر جبل سلع بالمدينة وعددهم ثلاثة آلاف، وقد ضربوا خندقهم بينهم وبين المشركين، واستعمل النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم وكان رجلاً أعمى رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وخرج المؤمنون جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق وبقي أهل الأعذار في المدينة، وأيضاً تسلل إليها المنافقون ليكونوا مع أهل الأعذار، وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من يهود بني قريظة عهداً أن يحموا ظهور المسلمين، فذهب حيي بن أخطب إلى سيد بني قريظة كعب بن أسد يقول له: أريد أكلمك بشيء، فإذا بسيد بني قريظة يغلق الحصن ويقول: اذهب إنك رجل مشئوم، ليس منك إلا الشر، تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته ولم أر منه إلا وفاء وصدقاًَ، فلست بناقض ما بيني وبينه.
فظل حيي بن أخطب حتى فتح له الباب، قال له: اسمع الذي سأقوله لك وإذا أعجبك كلامي فخذ به! فلما فتح له وسمع منه إذا به يعده بعزة الدهر ويقول له: هذه قريش وهذه غطفان ومعهم عشرة آلاف رجل، فخن محمداً, وسنكون كلنا معك ونعطيك كذا وكذا، وما زال به حتى خان النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى نزل مع هذا الرجل على أن يغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.(256/9)
تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [9 - 10]
سميت غزوة الأحزاب بذلك لتجمع الأحزاب على استئصال المسلمين، وتسمى بالخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفره عندما أشار عليه سلمان الفارسي به، وفي هذه الغزوة ظهر للمسلمين الحقد الدفين عند اليهود عندما خانوا العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين، كما ظهر أيضاً موقف المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ولقد نفذ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ الشورى مع أصحابه في هذه الغزوة.(257/1)
مواقف من غزوة الأحزاب(257/2)
سبب تسمية غزوة الأحزاب
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:9 - 12].
ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات ما حدث في غزوة الأحزاب -الخندق- التي كانت في العام الخامس من هجرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكانت غزوة عظيمة جداً، وفيها معجزات وكرامات، وكانت من أشد الأيام على المسلمين.
أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلم المسلمين أن النصر إنما هو بيد الله سبحانه وليس بيد الخلق، فإن نصر المؤمنون دين الله عز وجل نصرهم من حيث لا يحتسبون.
ولقد اجتمع الناس على المسلمين من كل مكان، فجاءت قريش بحدها وحديدها ومعهم غطفان واليهود ليحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن استشار المؤمنين ما الذي يصنع مع هؤلاء؟ فأشاروا عليه بآرائهم، وأشار سلمان برأي عظيم، وهو أن يُصْنَعَ خندق بينهم وبين الكفار، فسميت هذه الغزوة بغزوة الخندق لحفرهم خندقاً بينهم وبين الكفار؛ فإنهم لا يقدرون على محاربة الكفار، لأن عدد الكفار عشرة آلاف أو يزيد، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، والكفار جاءوا مستعدين من كل مكان، فكان الحل في ذلك هو ما أشار به سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يحفروا خندقاً بينهم وبين الكفار.
ونزل الكفار إلى جانب جبل أحد، ونزل المسلمون إلى جانب جبل سلع من المدينة، وبدأ الكفار يستعدون لقتال المسلمين، ففوجئوا بهذا الخندق الذي بينهم وبين المسلمين، فلا يقدرون أن يعبروا إلى المسلمين.(257/3)
خيانة اليهود وغدرهم
ذهب رجل من بني النضير وهو حيي بن أخطب ومعه مجموعة من اليهود إلى المشركين من أهل مكة فقالوا لهم: تعالوا إلى عز الدهر، تعالوا لقتال محمد ونحن معكم، فاستجاب الكفار لذلك.
ثم ذهبوا إلى غطفان وقالوا لهم مثل ذلك فاستجابوا لهم، واجتمعت العرب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم واليهود معهم.
ثم ذهب هذا الرجل اليهودي إلى سيد بني قريظة وهو كعب بن أسد ودعاه وقال له: جئتك بعز الدهر، فقال له كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه -يعني: أتيتني بسحاب ليس فيه مطر- فقال حيي: اسمع مني ما أقول، ثم بعد ذلك ترى رأيك، فلم يزل يكلمه ويعده ويغره حتى تعاقدا على نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كعب بن أسد وقد قال في أول كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض العهد ولا يغدر، وإني عاهدت النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر منه إلا وفاءً وصدقاً، فكيف أغدر بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! ولكن اليهود في طبيعتهم الغدر حتى ولو رأوا الإحسان والجميل، ومهما رأوا من آية من آيات الله سبحانه وتعالى سرعان ما ينقلبون عليها.
فالإحسان يكافئونه بالإساءة العظيمة البالغة، فلقد رأوا من الله صنيعه الجميل بهم، حيث أنجاهم من آل فرعون بعدما كانوا في غاية الذل، وكانوا مقهورين مغلوبين، فإذا بهم يعبدون العجل من دون الله سبحانه وتعالى، يرون من موسى عليه الصلاة والسلام النصح لهم، ويرون منه الآيات والمعجزات، ويعلمون أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فمجرد ما ذهب للقاء ربه تبارك وتعالى إذا بهم يقولون عن العجل {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، أي: موسى لا يعرف إلهه فإنه ذهب ليبحث عنه، فعبدوا عجلاً من دون الله تبارك وتعالى.
ويأمرهم الله سبحانه أن يدخلوا الباب سجداً {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58]، فإذا بهم يستهينون ويستهزئون فدخلوا الباب ولم يسجدوا، ومشوا على مقاعدهم وقالوا: (حنطة) استهزاءً بدينهم، فبدل ما يقولون: (حطة) أي: يا ربنا حط عنا خطايانا، يقومون بتحريف الكلمة من حطة إلى حنطة، أي حبة من شعير.
فهؤلاء لا أمان لهم أبداً؛ لأنه إذا كان هذا حالهم مع ربهم سبحانه وتعالى، ومع موسى نبيهم عليه الصلاة والسلام، فكيف بهم مع غيرهما، وها هو صنيعهم، فإنهم انقلبوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه وغدروا به وراسلوا الكفار وصاروا معهم.
أصبح المؤمنون كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10].
أي: أن الكفار أتوا من الشرق ومن الغرب، فبقي المسلمون محصورين لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً.
و {زَاغَتِ الأَبْصَارُ} [الأحزاب:10] أي: أبصار المؤمنين.
{وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] أي: من شدة الرعب، {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].(257/4)
استيقان النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود
ولما بلغت هذه الخيانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مع المؤمنين أرسل إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وسعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنهما، وكانوا حلفاء اليهود في الجاهلية، فأرسلهما إلى اليهود لينظرا حقيقة الأمر دون أن يعلم بذلك أحد.
وهذا من ذكاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على المؤمنين، فلو علموا أن اليهود قد غدروا بهم لأثر ذلك على قلوبهم ومعنوياتهم، لذلك قال لهذين الرجلين: انطلقا إلى بني قريظة، أرسل معهما أيضاً عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير، قال: (فإن كان ما قيل حقاً فالحنوا لي لحناً ولا تفتوا في أعضاد الناس)، أي: فإذا كانوا قد غدروا فلا تنشروا الخبر في وسط الناس، مع أن الخبر قد وصل إليهم، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لو استيقنوا الخبر لفت في أعضاءهم، وألقوا بأيديهم ويئسوا.
وقوله لهم: الحنوا لي لحناً، يعني: قولوا كلاماً آخر أفهمه أنا والناس لا يفهمون منه شيئاً.
قال: (وإذا كان الكلام كذباً فاجهروا للناس).
وفعلاً ذهب السيدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير إلى اليهود فوجدوهم على أخبث ما يكون، فقد غدروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وانقلبوا وشتموهما.
ورجع سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهما، وكان سعد بن معاذ أشد المسلمين على اليهود فشتمهم وسبهم وشتموه أيضاً، فقال سعد بن عبادة: دع عنك شتمهم، فالذي بيننا وبينهم أكبر من ذلك، ثم أقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: عضل والقارة، وهنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفهم الناس شيئاً.
وعضل والقارة قبيلتان من العرب، أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد أن ابعث لنا من يعلمنا القرآن، فأرسل إليهم ستة من قراء القرآن، فلما ذهبوا إليهم غدروا بهم وخانوهم وقتلوهم، فكأنهم يذكرونهم أن اليهود قد عملوا بمثل ما عمل به عضل والقارة بالقراء، فهذا هو اللحن الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم قال: (أبشروا يا معشر المسلمين).
وقد كان الأمر كما ذكر الله سبحانه وتعالى بأنهم جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وكادوا يظنون بالله الظنونا، بل ظنوا بالله ظن السوء، بأنه لا ينصرهم وأنه تركهم.(257/5)
موقف المنافقين في غزوة الخندق
وفي هذه الغزوة جاءت الفرصة التي أظهرت المنافقين في وقت ضعف المسلمين، وفي وقت مجيء أعداء المسلمين، فإن المنافقين يخافون من قوة المسلمين، فإذا كان المسلمون أقوياء فإن النفاق لا يظهر في هؤلاء، وإذا كانوا ضعفاء فإن نفاهم يظهر.
وكان في المدينة منافقون ولم يكونوا في مكة؛ لأن الكفار أقوياء ظاهرون، والمسلمين ضعفاء مستضعفون، فكان المسلم في مكة يخفي إسلامه، أما المنافق فإن قلبه فيه كفر، فإذا كان في مكة أظهر الكفر معهم، وإذا كان في المدينة فإنه يخاف من المسلمين فيظهر لهم الإسلام، فإذا حدثت مصيبة كهذه المصيبة ظهر المنافقون وتكلموا.
فمنهم من قال: إن بيوتنا عورة فإذا وقفنا هنا بجانب جبل سلع والكفار عند جبل أحد فسوف يأتون إلى بيوتنا فيدخلونها.
فيتركون النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذنونه ويرجعون إلى بيوتهم من خوفهم ورعبهم وتخذيلهم للمسلمين.
ومنهم من قال: يعدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح كنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن على نفسه! وذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم صخرة وحطمها بثلاث ضربات في كل ضربة وجد بشارة من الله عز وجل أن يفتح له بلاد الشام وبلاد الفرس وبلاد الروم وبلاد اليمن، فبشر المسلمين بذلك، فإذا بهؤلاء المنافقين يسخرون ويقولون: يعدنا أن نفتح بلاد قيصر وبلاد كسرى وبلاد اليمن ونحن محتارون في هؤلاء الكفار لا نستطيع أن نعمل شيئاً.
فظهر ما في قلوبهم من الكفر والتكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستحيون أن يظهروا هذا الشيء.
فهم يظهرون إذا وجدوا المسلمين في ضعف، فأظهروا نفاقهم لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، يقول قائلهم: يعدنا محمد أن نفتح كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، قال ذلك من المنافقين معتب بن قشير أحد بني عمرو بن عوف، وممن قال {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]، أوس بن قيظي.(257/6)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
ولقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحصار بضعاً وعشرين ليلة، فغزوة الأحزاب ليس معناها أنها كانت يوماً واحداً، بل ظلت بضعاً وعشرين يوماً على هذا الرعب وهذا الخوف، والكفار كانوا مستعدين يبحثون عن مكان يدخلون منه على المسلمين، والمسلمون كانوا متحصنين بهذا الخندق، ومن ثم قد يخرج اليهود عليهم من الخلف، ولكن تحدث من الله عز وجل المعجزة والنصر للمؤمنين وهم على ذلك.
وحصل بين الكفار والمسلمين مناوشات بالرماح والرمي بالأحجار، ولم يصل بعضهم إلى بعض بسبب الخندق، ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البلاء قد اشتد على المسلمين وأصابهم الخوف، ومن ثم بدأ الشك في قلوبهم وذلك لخيانة اليهود أراد أن يذهب عنهم هذا الخوف، فلجأ إلى أن يعمل معاهدة بينه وبين بعض الكفار، أن يكفون عن القتال ويعطيهم شيئاً، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك لا خوفاً على نفسه عليه الصلاة والسلام، لكن خوفاً على المؤمنين الذين زاغت أعينهم واضطربت قلوبهم.
فأرسل إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة ويكفون عن الحرب.
إذاً هنا نصف جيش الكفار سيرجع ويبقى خمسة آلاف وعدد المسلمين ثلاثة آلاف، فالعدد يكون متكافئاً بينهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاور الأنصار، كان ليفعل شيئاً حتى يستشير أصحابه عليه الصلاة والسلام.
فشاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة على أن يعطيهم ثلث ثمر المدينة ويرجعوا عن الحرب.
والمشاورة دائماً تكون مع كبار القوم أهل الحكمة وأهل العلم وأهل الإيمان، فلا يمكن أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيش عدده ثلاثة آلاف مقاتل ويستشيرهم واحداً واحداً، ولكن يشاور الكبار مثل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، فالكبير دائماً عنده أدب وعنده رأي وحكمة، فقالا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذا أمر تحبه فنصنعه لك؟ أو شيء أمرك الله به فنطيعه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أمر أصنعه بنفسي)، أي: لم يأمرني ربي ولا أريد هذا الشيء ولكن من أجل الخوف الذي ملأ قلوب الناس قلت لكم هذا الأمر.
أو قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا رسول الله! والله لقد كنا ونحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه وأعزنا بك نعطيهم أموالنا، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
فسر رسول صلى الله عليه وسلم)، أي: فرح صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأنه لم يرد غير ذلك عليه الصلاة والسلام، وقال: (أنتم وذا، وقال للاثنين من رؤساء الكفار: انصرفا فليس لكم عندنا إلا السيف).(257/7)
موقف علي بن أبي طالب مع عمرو بن عبد ود
وقبل نصر الله للمؤمنين حصل شيء من المناوشات، فالكفار ضاق بهم الأمر، فأخذوا يبحثون عن أضيق مكان في الخندق من أجل أن يعبروا إلى المسلمين من خلال هذا المكان، ففوارس قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب الفهري وكانوا من فرسان قريش وشجعانهم.
فأقبلوا حتى وقفوا على الخندق يبحثون عن مكان من أجل أن يعبروا إلى المسلمين، وأيضاً فإن فيهم شجاعة، حيث إنهم أربعة أو خمسة ويريدون أن يذهبوا لثلاثة آلاف رجل، فكانت شجاعتهم منقطعة النظير، من أجل أن نعرف أن المسلمين لم يجاهدوا أناساً ضعفاء أو أوباشاً لا يعرفون القتال، هؤلاء أناس أقوياء جداً وفي غاية الشجاعة والجرأة، بدليل أن أربعة يريدون أن يتعدوا الخندق من أجل أن يقاتلوا من وراء الخندق.
وتوجهوا إلى مكان ضيق من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحمت بهم الخندق.
أي: قفزت حتى وصلوا إلى المسلمين وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين جبل سلع الذي كان عنده المسلمون، فخرج إليهم علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما خرج علي رضي الله عنه أقبلت الفرسان نحوه ومعه مجموعة من المسلمين.
وعمرو بن عبد ود هذا كان في يوم بدر قد أثبتته الجراحة فلم يقاتل في يوم أحد بعد ذلك، وفي يوم الخندق أراد أن يري الناس شجاعته وأنه هو الرجل العظيم الشجاع الجريء، فلما وقف نادى في المسلمين: من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى.
وهنالك فرق كبير في السن بين علي بن أبي طالب وبين هذا الرجل، فقال له: يا عمرو! إنك عاهدت الله فيما بلغنا عنك أنك لا تدعى إلى إحدى خصلتين أو خلتين إلا أخذت إحداهما، أي الأفضل منهما قال: نعم.
فـ علي بن أبي طالب قبل أن يقاتله يدعوه للإسلام لأنه عاهد الله على ذلك، فقال له: يا عمرو بن عبد ود! إني أدعوك إلى الله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك، أي: لا أريد هذا الشيء، قال: فأدعوك إلى المبارزة فإنك على باب الموت، فقال الرجل: يا ابن أخي! والله ما أحب أن أقتلك! فهو مستعظم لنفسه أنه من كبار المشركين وعلي بن أبي طالب مثل ابنه الصغير، ففي ظنه أن علياً لا يقدر عليه، فقال لـ علي: لا أحب أن أقتلك، لأننا أقرباء وأنت من قريش فلا أريد أن أقتلك، فهل هناك أحد آخر غيرك من أجل أن أقتله فثقته بنفسه أنه سيقتل علياً ويقتل من معه.
فقال علي بن أبي طالب أنا والله أحب أن أقتلك! فظهرت شجاعة علي رضي الله عنه كأنه يحمسه ويقول له: تعال إذاً قاتلني، فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه فعقره، من أجل إثبات الشجاعة والقوة في أنه ينزل عن فرسه، بل ويقتله من أجل ألا يقتله أحد ومن أجل أن يريهم أنه يقاتل على رجليه، وأقبل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فتنازلا وتجاولا وثار النقع -أي: الغبار- بينهما حتى حال دونهما الناس فلا يستطيعون أن ينظروا شيئاً لأن الغبار حولهما، فلما انجلى النقع إذا بـ علي على صدره وهو يذبحه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأى أصحابه أن علياً قتل صاحبهم فروا منهزمين وهم من أشجع الكفار وقال علي رضي الله تبارك وتعالى شعراً جميلاً عن هذا الإنسان الكافر: نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب نازلته فتركته متجدلاً كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو انني كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب هذا علي رضي الله عنه يقول: أنا قتلته، وأنا دافعت عن دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدافع عن الحجارة، وأنا دعوته إلى الله فأبى أن يسلم، وعففت عن أثوابه عندما قتلته، ولو أنني كنت المقتول لسلبني أثوابي وتركني عرياناً على الأرض.
فهذا شرف المؤمنين في قتالهم رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقال حسان بن ثابت لما رأى عكرمة بن أبي جهل وهو يفر: فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل حسان بن ثابت يشنع به لما هرب وهو ابن أبي جهل الذي كان سيد قريش فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظليم ما أن يجور عن المعدل ولم تلو ظهرك مستأنساً كأن قفاك قفا فرعل أي: أن قفاه مثل قفا الضبع، فهذا من حسان وفيه قصة طويلة.(257/8)
تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [9 - 10]
لقد حصلت في غزوة الأحزاب بعض المواقف الإيمانية التي سطرها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: قتل علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود، وموقف الأنصار الشجاع من عدم إعطائهم لغطفان ثلث ثمار المدينة، وموقف نعيم بن مسعود الأشجعي وتخذيله للكفار، وموقف صفية بنت عبد المطلب من اليهودي الذي تسلل إلى الحصن، وموقف حذيفة بن اليمان عندما دخل في صفوف الأحزاب تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.(258/1)
مواقف عظيمة في غزوة الأحزاب(258/2)
تصدي المسلمين للأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11].
هذا اليوم الذي يذكره الله تبارك وتعالى كانت فيه هذه النعمة العظيمة من ربنا سبحانه على المؤمنين، وهو يوم غزوة الخندق، وتسمى غزوة الأحزاب، وكانت في العام الخامس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اليهود الذين دعوهم لذلك وجمعوهم، فجاءت قريش ومن معها من أهل نجد وغطفان وغيرهم من المشركين في عشرة آلاف رجل، يزعمون أنهم يستأصلون النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين معه في المدينة.
وأشار سلمان على النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحفر خندقاً يكون بينهم وبين المشركين، وكان عدد جنود المسلمين ثلاثة آلاف رجل.
أمر الأحزاب كان أمراً شديداً، ولم يحدث كثير قتال، فالقتال كان قليلاً، والبعض من المشركين حاولوا أن يبحثوا عن ثغرة في الخندق ليعبروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعبر مجموعة من فوارسهم منهم عمرو بن عبد ود العامري، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب، وكان هؤلاء فرسان قريش وشجعانها.
فلما اقتحموا الخندق وصاروا عند المسلمين خرج منهم من يطلب من المسلمين المبارزة وهو عمرو بن عبد ود، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومكنه الله عز وجل منه مع كون الفرق كبيراً بين الاثنين، هذا رجل كبير ومن الجريئين والمشهورين بالشجاعة، وعلي بن أبي طالب شاب صغير رضي الله عنه، ولكن الله سبحانه وتعالى قواه بإيمانه، فغلبه وعلاه وذبحه، فلما رأى الكفار ذلك فر الباقون وهربوا.
كان اليوم كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى إنه يوم عظيم ويوم شديد، زاغت فيه الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، وخانت اليهود من خلف المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم مشغول بالكفار الذين أمامه، وبلغ خبر اليهود للمسلمين ففت في أعضادهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل للتأكد من ذلك، فقد أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وغيرهم، حتى يأتوه بخبر اليهود ولا يذكرون الخبر تصريحاً إذا خانوا، فإذا لم يخونوا فليصرحوا بذلك، فجاءوا وعرضوا بالكلام الذي فيه أن اليهود قد خانوا فعلاً.(258/3)
حكمة الله في نصر عباده المؤمنين
فالأمر كان شديداً، والله تبارك وتعالى له الحكمة العظيمة البالغة، أنه يزلزل الناس ويخيفهم حتى لا يجدوا لهم ملجأً من الله إلا إليه، فيكون اعتمادهم وتوكلهم على الله سبحانه وحده لا شريك له، وله الحكمة سبحانه في أن تكون الهزيمة على طائفة والانتصار لطائفة أخرى، فالمسلمون في بعض الغزوات يغلبون من أولها، وفي بعضها يغلبون ثم يغلبون، وفي بعضها يغلبون من أولها إلى آخرها، وقد يهزمون كما حدث في يوم أحد مثلاً، فالله عز وجل يرينا آيات من آياته، أن هؤلاء المسلمين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم بشر كغيرهم من البشر عرضة للنصر وعرضة للهزيمة.
والهزيمة لها أسباب في داخل نفوس الناس، كما قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، فكثرة العدد ليست كل شيء، فيوم حنين كان عدد المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم يقارب من عدد الكفار، كانوا عشرة آلاف ومعهم ألفان من مسلمي الفتح، والكفار كانوا عشرة آلاف أو نحو ذلك، وإذا بالمسلمين ينهزمون ولم يبق إلا سبعون رجلاً.
فإذاً أمر القتال ليس لعبة، إنه قتال الكفار {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فليس كل مسلم يذهب إلى المعركة ويقول الله أكبر فإن الله سينصره مباشرة من غير أخذ بأسباب القتال وأسباب النصر، التي منها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60]، أي: استعدوا لذلك بالقوة الإيمانية وبقوة العدد والعتاد، فإذا كان معكم عدد وسلاح وإيمان فقاتلوا في سبيل الله عز وجل، وتوكلوا عليه سبحانه، فسوف يأتي النصر والفتح من عند الله.
وإذا لم يوجد معكم الإيمان فإذاً لا تنتظروا النصر من الله، وكذلك إذا وجد الإيمان ولا يوجد عدد ولا إعداد للقتال، فأمر القتال ليس لعبة، لا بد من الاستعداد كما أمر الله تبارك وتعالى.
وفي غزوة الأحزاب كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف؛ والكفار عشرة آلاف، فإذاً العدد غير متكافئ بين المسلمين وبين الكفار.
وقد أنزل الله تبارك وتعالى قبل ذلك في يوم بدر ويوم أحد، ما يدل على أن الواحد من المسلمين يمكن أن يقاوم عشرة من الكفار، وليس له أن يفر منهم؛ قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال:65]، فإذاً المائة من المؤمنين يغلبون ألفاً، ثم بعد ذلك خفف عنهم لما علم أن فيهم ضعفاً، فإن يكن منهم مائة صابرة يغلبون مائتين، وإن يكن منهم ألف يغلبون ألفين بإذن الله، فالواحد أمام اثنين، أما في غزوة الخندق فإن الواحد أمام ثلاثة، فلا يستطيعون المواجهة، لكن الخندق حال بينهم وبين الكفار حتى أتى نصر الله، فليس المسلمون هم الذين خرجوا إليهم، بل الكفار هم الذين جاءوا، فانتظروا من الله سبحانه تبارك وتعالى الفرج.(258/4)
موقف الأنصار من رأي النبي في إعطاء ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان
ولقد ضاق الأمر بالمسلمين حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليشفق عليهم، فكاد أن يتفق مع بعض الكفار على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة ويرجعوا ليخذلوا جيش الكفار من قريش.
وإذا بالأنصار يرفضون ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا أمراً من الله سبحانه فإنا سنطيعه وإن كان أمراً تحبه أنت أيضاً نطيعه، وإن كان أمراً تعمله لنا نحن فلا، فإنهم لم يكونوا يطمعون ونحن في الكفر أنهم يأخذوا منا ثمرة من ثمار المدينة إلا شراءً أو قرى أو هدية، أما أنهم يأخذون هكذا من غير سبب فليس لهم إلا السيف.
وكان أهل المدينة شجعاناً، وكانوا مشهورين بذلك، ولما جاء تبع اليمن بجيشه يحارب أهل المدينة فكانوا يقاتلونهم بالنهار، ويطعمونهم بالليل على أنهم ضيوف.
فلم يمنعهم قتالهم من أنهم يبعثون لهم شيئاً من الطعام، فلما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس لهم عندنا إلا السيف، فرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنهم ثابتون على دينهم.(258/5)
موقف نعيم بن مسعود الأشجعي
ولما علم الله من قلوب المؤمنين أنهم أقوياء في إيمانهم، جاء فضله سبحانه وتعالى عليهم، ولكل شيء سبب من الأسباب، فأرسل الله سبحانه وتعالى رجلاً كان كافراً وأسلم في ذلك الحين، واسمه نعيم بن مسعود الأشجعي، رجل من أشجع، وكان حليفاً لليهود يعرفه اليهود ويعرفه أهل مكة، فتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! إني قد أسلمت، ولم يعلم قومي بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا).
النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أنه لا يعمل شيئاً في القتال، وإنما يستطيع أن يخذل بأن يلقي في قلوبهم الخوف ويوقع بينهم العداوة بحيث ينصرفون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاخرج فإن الحرب خَدعة)، وهذه اللفظة تقرأ على وجوه، الحرب خَدعة، والحرب خُدعة، والحرب خِدعة، وكل وجه له معنى، وأجمل المعاني الحرب خَدعة، والمعنى: إذا عرفت أن تخدع خصمك فقد قتلته، وخَدعه قتله، وهي اسم مرة.
فخرج نعيم بن مسعود رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة الذين خانوا النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان بينه وبينهم كلام ومنادمات وزيارات في الجاهلية، فقال: يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، قالوا: قل، فلست عندنا بمتهم، أي: نحن لا نتهمك بشيء، وهم يظنون أنه ما زال على الكفر، فقال لهم: إن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وإن قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادكم، وخلوا بينكم وبين الرجل ولا طاقة لكم به، فعليكم أن تأخذوا رهائن من قريش من أجل أن لا يفروا ويتركوكم لمحمد.
فقالوا: لا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً.
ثم تركهم وخرج وتوجه إلى قريش فقال لهم: قد عرفتم ودي لكم معشر قريش وفراق محمد، وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحاً لكم، فاكتموا عني.
قالوا: نفعل! قال: تعلمون أن معشر اليهود قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمداً، وقد أرسلوا إليه أنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم.
ثم أتى غطفان وهو منهم وقال لهم مثل ذلك، فلما كانت ليلة السبت وكان ذلك من صنع الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أرسل الله تبارك وتعالى ريحاً تقلب عليهم أوانيهم، وتطفئ نيرانهم وأصبح الكفار متخبطين لا يدرون ما يعملون؟ فقالوا: إلى متى سنستمر فلنقم للقتال.
فأرسلوا لليهود: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر، فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمداً فنقاتله ونخلص من هذه الحرب.
واليهود أرسلوا إليهم وقالوا لهم: إن اليوم يوم السبت، ونحن لا نقاتل يوم السبت، وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت، ومع ذلك لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً.
فهذا الذي أراداه نعيم بن مسعود رضي الله عنه، فلما سمعوا ذلك قالوا: صدق نعيم بن مسعود فردوا إليهم وقالوا: والله لا نعطيكم رهناً أبداً، فاخرجوا معنا إن شئتم، وإلا فلا عهد بيننا وبينكم، فقال بنو قريظة: صدق والله نعيم بن مسعود! وخذل الله الكفار، فلا هؤلاء قاموا للقتال ولا هؤلاء.(258/6)
موقف صفية بنت عبد المطلب من اليهودي الذي تسلل إلى الحصن
وكان اليهود يحاولون أن يعملوا شيئاً في حصن من حصون المسلمين الذي فيه النساء، فاليهود غدارون كعادتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل نساء المسلمين في حصن من الحصون وكان فيه حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان في هذا الحصن نساء النبي صلى الله عليه وسلم والسيدة صفية بنت عبد المطلب عمة النبي صلوات الله وسلامه عليه وأخت حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
فقالت رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت وكان فيه النساء والصبيان، وحسان لم يكن يقدر على القتال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعله في الحصن الذي فيه النساء والصبيان، فجاء مجموعة من اليهود فجعل أحدهم يدور حول الحصن، لعله لا يجد فيه رجالاً فيهجم اليهود على الحصن ويأخذون كل من فيه.
فطلبت صفية من حسان أن ينزل إليه، ولكن حسان كان شاعراً مجيداً رضي الله عنه، لم يكن يستطيع القتال، فلم ينزل رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما رأت ذلك السيدة صفية رضي الله عنها، إذا بها تأخذ عموداً من أعمدة الخيام، وتضرب به اليهودي على رأسه حتى قتلته رضي الله تبارك وتعالى عنها، وألقته على اليهود من الحصن.
فاليهود لما نظروا إليه قالوا: ما كان محمد ليدع نساءه وحدهن.
فالسيدة صفية كانت شديدة وجريئة، فعلت ما لم يفعله حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهذا ليس أول ما فعلته فقد شهدت مقتل أخيها حمزة رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم خاف عليها أنها ترى في يوم أحد حمزة وهو مقتول والكفار قد شوهوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يرد أمه حتى لا ترى أخاها حمزة وهو قتيل رضي الله عنه، فلما ذهب يردها فإذا بها تضربه في صدره وتقول: إليك عني، وتذهب بقوة وشجاعة وتنظر إلى أخيها وتسترجع وتتصبر رضي الله تبارك وتعالى عنها، في موقف لو أن رجلاً رأى مثله لعله ينهار، ولكن ثبتها الله تبارك وتعالى وصبرها ورجعت وأتت بكفنين ليكفن بهما حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرادت أن تنقل حمزة على الجمال إلى المدينة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بدفنه حيث قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فالسيدة صفية أرى الله سبحانه وتعالى كرامة على يدها لما قتلت اليهودي وألقته على اليهود، فخاف اليهود من هذا الحصن أن يكون فيه رجال يقاتلونهم، وانصرفوا عنه، ثم جعل الله عز وجل نعيم بن مسعود يخذل بين اليهود وبين الكفار حتى ارتعب الجميع، ثم إذا بالرياح تهيج عليهم فإذا بـ أبي سفيان من شدة رعبه يقول: يا معشر قريش! إني مرتحل.(258/7)
موقف حذيفة بن اليمان
ويحكي لنا حذيفة بن اليمان رضي الله تبارك وتعالى عنه خبر هؤلاء فيما يرويه الإمام مسلم عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل من التابعين: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة رضي الله عنه: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وبرد شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة)، أي: واحد منكم يذهب يأتينا خبر هؤلاء وأدعو له أنه يكون معي يوم القيامة، فلم يقم أحد.
قال حذيفة رضي الله عنه: (فسكتنا فلم يجبه منا أحد)، لأنهم كانوا مرعوبين، قال الله عز وجل: {وَزَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10]، أي: من شدة الرعب والخوف.
قال رضي الله عنه: (فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة.
فسكتنا فلم يجبه أحد، فقال: قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي)، أي: فقمت في هذا الوقت.
قال صلى الله عليه وسلم: (اذهب فائتني بخبر القوم ولا تذعرهم)، أي لا تخوفهم، ولا تعمل فيهم شيئاً أو تحدث حدثاً هنالك، لأنهم في غاية الرعب، فهذه إذاً بركة وكرامة من الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.
يقول حذيفة: (فلما وليت من عنده وكانت الليلة شديدة الرياح، شديدة البرد، فكأنما أمشي في حمام).
بركة وكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من المعجزات، قام حذيفة وكأنه يمشي في حمام، أي: مكان حار، ولا يحس بشيء.
قال: (حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار)، أي: من شدة البرد يضع ناراً خلف ظهره من أجل أن يتدفأ بها، قال: حذيفة رضي الله عنه: (فأردت أن أرميه).
وهنا بلغت به الشجاعة بعد الخوف الشديد، فلو أراد أن يرميه بسهم لفعل وأبو سفيان هو زعيم هؤلاء الكفار في ذلك الحين، قال: (فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تذرعهم، قال: ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام)، فرجع مثلما ذهب في مكان حار، لا يشعر بشيء.
ولما وصل إليهم قال أبو سفيان كل رجل يتعرف على من يليه، لئلا يكون فيهم جواسيس للنبي صلى الله عليه وسلم، قال حذيفة: (فأخذت بيد الذي بجواري وقلت له: من أنت)، أي: أظهر نفسه أنه منهم، فسأل من بجواره: ما اسمك؟ فلما قال: ما اسمك؟ فالثاني لن يقول له: وأنت ما اسمك؟ وجلس حذيفة في وسطهم في الظلام، وهم يظنونه منهم، فسمع أبا سفيان يقول: ويلكم يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، أي الخيول والإبل بسبب الرياح التي أرسلها الله سبحانه وتعالى، وبسبب خلف بني قريظة للعهد.
فمن شدة ما أرسله الله عز وجل عليهم من الريح، فإن خيامهم لا تقف مكانها، فإنها تطير في الهواء ولا يثبت لهم قدر فكيف سيأكلون، ولا تقوم لهم نار، فارتحل أبو سفيان ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم، فمن شدة الرعب الذي وقع في الكفار، فإن أبا سفيان وثب على جمله، ولم يحل عقاله إلا وهو قائم.
قال حذيفة: (ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتلته بسهم)، أي: لقتل أبا سفيان ورجع للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما رجع شعر بالبرد مرة أخرى، حتى أدفأه النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، ونام رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان)، أيْ: يا كثير النوم، فقام رضي الله عنه، وقد ذهب الأحزاب.
هذه قصة الأحزاب مختصرة فيها عبرة لمن يعتبر، فإن النصر من عند الله وحده لا شريك له، إن تنصروا الله ينصركم.(258/8)
تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [9 - 10]
يوم الأحزاب هو يوم من الأيام العصيبة التي واجهها المسلمون، فقد اجتمعت قوى الكفر والأحزاب من يهود ومشركين ومنافقين للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة، ولكن الله للمشركين بالمرصاد، فلم تلبث قوى الكفر أن جاءتها جنود الله، فرجع المشركون على أعقابهم ينكصون، ثم اتجه النبي وأصحابه إلى بني قريظة ناقضي العهد، فقتلوا رجالهم ووسبوا نساءهم وأطفالهم، وغنموا أموالهم بإذن الله.(259/1)
نصر الله للمؤمنين بريح وجنود لا ترى
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
قصة الأحزاب قد ساق الله عز وجل صوراً منها في هذه السورة، وذكرنا بنعمته العظيمة على المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:9]، فنعم الله كثيرة وعظيمة {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، أي: جنس نعمة الله تبارك وتعالى، فهذه نعمة من نعم الله تبارك وتعالى عليكم حين نصركم على الكفار، وكانوا قد أحاطوا بكم وأحدقوا بكم، ولولا فضل الله عليكم لكنتم بين أيديهم يفعلون بكم ما يشاءون، ولكن الله من عليكم بالنصر.
قوله: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9].
المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم جنود يجاهدون في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن الجنود الذين قصدهم هنا هم ملائكة الله سبحانه وتعالى.
فأرسل جنوداً من السماء: الريح جند من جند الله سبحانه، الملائكة جند من جند الله تبارك وتعالى، النار الماء الكائنات التي خلقها الله، كل شيء من جنود الله سبحانه وتعالى، نحن لا ندري إلا بما يخبرنا الله تبارك وتعالى عنه.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا} [الأحزاب:9] أرسل على هؤلاء الكفار شيئاً من الريح فإذا بهذه الريح ترعب هؤلاء، وأرسل عليهم جنوداً من الملائكة، ولم تقاتل الملائكة في هذه الغزوة، وإنما سلطهم الله عز وجل على هؤلاء الكفار يكفئون قدورهم، ويفكون قيود إبلهم وخيولهم فإذا هم في رعب، فالخيل يفك رباطها فتجول بعضها على بعض، القدور موجودة على النار فتطفأ النار وتقلب القدور، فإذا هم في رعب شديد مما يحدث أمامهم.
فلذلك يذكرنا الله بأننا لم نقاتل هؤلاء الكفار، وإنما أرسل الله عز وجل من عنده من يرعبهم.
ذكرنا ربنا كيف أنه سبحانه تبارك وتعالى جعل هذه الليلة على الكفار غاية في البرودة، فالمسلمون شعروا بالبرودة، ولكن بينهم وبين الكفار خندق لم يشعروا بشيء من هذه الريح، وهذه معجزة من المعجزات، فالمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وبين الكفار خندق، ومن وراء هذا الخندق العظيم ريح شديدة عاصفة تهيج على هؤلاء الكفار، فلا يقدرون على القيام، وأما في الناحية الأخرى عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يشعروا بشيء من هذه الريح، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليحتاج أن يرسل من يأتيه بخبر القوم، فيقوم حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى هؤلاء الكفار، ويرى ما هم فيه من الرعب والبرد الشديد، فيقول حذيفة رضي الله عنه: لم أشعر بشيء من هذا كله، وكأني أمشي في حمام، أي: في مكان ساخن.
فيجلس ويسمع منهم ما يقولون، وأنهم راجعون إلى مكة، فيرجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره بذلك، وعند رجوع حذيفة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشعر بالبرد.
ويبقى أن المسلمين لم يشعروا إلا بالبرد الشديد، أما ريح هائلة كما عند الكفار فلم يشعروا بشيء من ذلك، لكن الكفار هم الذين شعروا بذلك، رجع حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنام في تلك الليلة، ولما أصبح أيقظه النبي صلى الله عليه وسلم.(259/2)
غزوة بني قريظة وما فيها من مواقف ودروس(259/3)
أجر المجتهد على اجتهاده وإن أخطأ
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب وعادوا إلى بلادهم، إذا بجبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي على بغلة عليها قطيفة ديباج، فقال: يا محمد! إن كنتم وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة أسلحتها بعد.
وهنا يستحي النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، حيث إنه وصحابته قد وضعوا سلاحهم، والملائكة لم تضع أسلحتها بعد، فقال له: إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة، وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم.
فتقدم إليهم جبريل فزلزل بهم حصونهم، فألقي الرعب في قلوبهم، فخافوا وارتعبوا من مجيء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي في الناس: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
فتوجه المسلمون إلى بني قريظة، وفي أثناء الطريق صلى بعضهم العصر، وقالوا: إنما مقصود النبي صلى الله عليه وسلم الإسراع في المسير.
وبعضهم لم يصل العصر إلا بعد وصوله إلى بني قريظة، وقالوا: نحن نفذنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم حرفياً.
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لم يؤنب أحداً من الطائفتين، فهؤلاء اجتهدوا وأولئك اجتهدوا، فالذين قالوا: نصلي في بني قريظة، أخذوا بظاهر نص النبي صلى الله عليه وسلم، والذين قالوا: نصلي ونذهب إلى هناك، أخذوا بالمعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الإسراع في المسير.
وهنا ذكر العلماء في ذلك قاعدة وهي: أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فهو مأجور، وإذا اجتهد فأخطأ فهو أيضاً مأجور، لذلك كان كلا الفريقين على صواب، فالفريق الذي صلى العصر في بني قريظة قد نفذ كلام النبي صلى الله عليه وسلم بحرفه، فهؤلاء يكون لهم الأجر أعظم من أولئك الذين صلوا في الطريق.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخطئ واحداً، ولا عنف واحداً من الفريقين، ففيه دلالة على تصويب المجتهدين، فإذا اجتهد هذا واختار رأياً، والآخر اجتهد واختار خلافه، فلا يخطئ واحداً من الاثنين، لكن هل يكون في المسألة قولان كلاهما صواب؟
الجواب
لا، فالصواب قول واحد، فالمجتهد إن أصاب فله أجر عند الله عز وجل، وإن أخطأ فله أجر عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لا يعنف هذا ولا ذاك، فالكل اجتهد، لكن إن علم أحد بالدليل أن أحد الاثنين هو المصيب فيلزمه اتباع الدليل، وإن لم يعلم الدليل القاطع فيبقى الجواز بأخذ قول هذا أو ذاك، طالما أن المسألة ليس فيها دليل يدل على تصويب واحد من الاجتهادين.(259/4)
جرح سعد بن معاذ في غزوة الأحزاب ودعاؤه بأن تقر عينه من بني قريظة
وهنا كان سعد بن معاذ سيد الأوس أحد الذين أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، ليعرف منهم هل ما زالوا على العهد أم قد خانوا؟ فقدم هو وسعد بن عبادة الخزرجي وعبد الله بن رواحة وغيرهم، فلما قدموا على اليهود كان أشد المجموعة على اليهود هو سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسبهم وشتمهم، فسبوه وشتموه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وسعد بن عبادة قال: دعك منهم الآن فالأمر أكبر من ذلك، أي: ارجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لينظر في أمرهم.
وكان سعد بن معاذ قد أصابه سهم في هذه الغزوة، رماه به أحد المشركين، يسمى ابن العريقة، وكان رجلاً كافراً، فلما رماه قال: خذها وأنا ابن العريقة.
فأصاب السهم أكحله رضي الله عنه الله عنه، فجرحه جرحاً شديداً، ودعا سعد على من رماه فقال: عرق الله وجهك في النار.
ودعا ربه سبحانه تبارك وتعالى بدعوة عجيبة فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك صلى الله عليه وسلم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاللهم لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
أي: إذا لم يكن هناك حرب مع قريش فاجعل الشهادة لي بهذا السهم الذي أصابني، وقبل ذلك أقر عيني من بني قريظة، هؤلاء الذين خانوا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
واستجاب الله له دعوته، فالتأم الجرح، وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الذي حكم في بني قريظة، ثم بعد ذلك إذا بالجرح ينفجر، فيموت سعد بن معاذ شهيداً من هذا الجرح رضي الله تبارك وتعالى عنه.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن اليوم الذي أصيب فيه سعد في أكحله: مر سعد وعليه درع مقلصة مشمر الكمين وبه أثر الصفرة وهو يرتجز.
وكان فارعاً في الطول رضي الله عنه، وكانت أطرافه خارجة من درعه لطوله رضي الله عنه وضخامة جسده.
فخافت عائشة أن يحصل له شيء من الكفار؛ إذ لو أرادوا أن يرموه فسيرمونه في أطرافه، فممكن أن يحدث له شيء رضي الله عنه، وكان وهو متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز ويقول: لبث قليلاً يشهد اليهجا جمل ما أجمل الموت إذا حان الأجل وفعلاً أصيب بالسهم، فجاء في أكحله -في عرق في يده- فكان فيه استشهاده رضي الله تبارك وتعالى عنه، والناس قالوا: نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته.
وفعلاً استجاب الله دعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه، فمات شهيداً ولم تعد هناك حرب بين المسلمين وكفار قريش، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدها: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا).
أي: لن يأتوا إلينا، بل سنذهب نحن إليهم، وكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ففتحت مكة بعد ذلك، وصارت دار إسلام.(259/5)
غدر يهود بني قريظة وعدواتهم للإسلام
خرج المسلمون إلى بني قريظة، واليهود من طبعهم أنهم لا يقاتلون المسلمين مواجهة، وإنما من خلف الحصون والجدران، فيرمون بالسهام والرماح على المسلمين من خلف هذه الحصون التي يتحصنون بها، قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] فتحصنوا في حصونهم، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم فحاصرهم في قريتهم، وكان الحصار شديداً.
وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه المسلمين إلى هناك، فلما وصل إليهم علي سمعهم يشتمون النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه أراد منه ألا يذهب هو إليهم.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ألا تبلغ إليهم.
فهو رضي الله عنه عرض للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يفاجئه بأن اليهود يشتمونه، وهذا أدب منه رضي الله عنه وأرضاه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى قال: (أظنك قد سمعت منهم شتمهم لي).
فهو رضي الله عنه لم يرد للنبي صلى الله عليه وسلم الذهاب إليهم، فقال النبي (لو رأوني لكفوا) أي: لو رأوه لكفوا عن سبهم وشتمهم ولخافوا؛ لأن الله عز وجل نصره بالرعب الذي ألقاه على هؤلاء اليهود.
وفعلاً نهض إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه أمسكوا عن السب والشتم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فقال لهم: (نقضتم العهد يا إخوة القردة! أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته)، فقالوا: ما كنت جاهلاً يا محمد! فلا تجهل علينا.
أي: ليس من عادتك أن تشتم يا محمد! بينما هم في الأول كانو يشتمون ثم سكتوا، بعد أن ألقي في قلوبهم الرعب، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم بضعاً وعشرين ليلة، وعرض عليهم كعب بن أسد سيدهم -وكان يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي ورسول، ولم يرض بشتم هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم - واحدة من ثلاث خصال: إما أن تسلموا وتتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم والذي جاء به، فتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم، فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن تقتلوا أبناءكم ونساءكم ثم تتقدموا فتقاتلوا حتى تموتوا، وإما أن تبيتوا المسلمين ليلة السبت، لأنهم سيظنون أننا لا نقاتل يوم السبت.
أي: فنحن ممنوعون من القتال في يوم السبت.
لكن هذا ليس مهماً لأن عادتهم خداع الأنبياء، وبخداعهم هذا يظنون أنهم يخدعون ربهم، فقال: في ليلة السبت نخرج ونقاتل المسلمين، وهم غير متوقعين ذلك منا، وفي ذلك زيادة طمأنينة لهم، فنقتلهم قتلة عظيمة.
فردوا عليه بقولهم: ولا نخالف حكم التوراة، وهو قد حلف لهم أنه النبي الحق الذي سيبعث في آخر الزمان.
قالوا: وأما قتل أبنائنا ونسائنا، فما وزرهم حتى نقتلهم؟ فلا نفعل هذا الشيء.
وأما القتال في يوم السبت فنحن لا نقاتل ولا نتعدى يوم السبت.(259/6)
موقف أبي لبابة بن عبد المنذر من بني قريظة
ثم بعثوا إلى أبي لبابة بن المنذر، وهو رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل والإنسان قد يحدث منه شيء من الأشياء، فيعثر ويقع في الخطأ أو الخطيئة، فـ أبو لبابة عندما أرسلوا إليه، وهو من الأوس، وكان حليف بني قريظة في الجاهلية، فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم، وقالوا له: يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد صلى الله عليه وسلم، ويعمل فينا الذي يريده؟ فقال لهم أبو لبابة: نعم، وأشار إلى حلقه، أي: سيذبحكم.
فهنا رضي الله عنه قال: نعم، لأن الله سبحانه تبارك وتعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم بين الناس، وأبو لبابة كان بإمكانه أن ينصح اليهود في شيء ويقع في الخيانة لكن لن يقع في الكفر، ويقول لهم: لا تنزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهنا قالوا: ننزل على حكم محمد.
قال: انزلوا على حكم محمد، وأشار إلى أنه إذا نزلتم على حكمة سيذبحكم عليه الصلاة والسلام، فوقع في الخيانة بسبب هذا الكلام.
فلما فعل ذلك تخلى الشيطان عنه وتركه، وهو الذي أغواه وأوقعه في ذلك، وإذا به يتذكر أنه قد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبدل أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة، فدخل المسجد وربط نفسه في سارية من سواري المسجد، حتى يتوب الله عليه، أو يموت على هذه الحالة، وكانت امرأته تفك رباطه وقت الصلاة فيصلي مع المسلمين، ثم يعود إلى رباطه مرة أخرى، فبلغ أمره للنبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر إلى الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، قال: (أما إنه لو أتاني لاستغفرت له، لكن أما وقد فعل ما فعل، فلا أطلقه حتى يطلقه الله)، أي: حتى تأتي براءته وحكمه من الله عز وجل، فيتوب عليه، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102].
فكان أبو لبابة من ضمن الذين اعترفوا بذنوبهم، وتابوا إلى الله سبحانه فتاب الله عز وجل عليهم.(259/7)
حكم سعد بن معاذ في بني قريظة
ولما طال الحصار على بني قريظة رفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قالوا: ننزل على حكم رجل كان حليفنا في الجاهلية، ألا وهو: سعد بن معاذ رضي الله عنه، فرضي النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وعند ذلك جاء الأوس إلى سعد بن معاذ يذكرونه كيف كان يهود بني قريظة حلفاءهم في الجاهلية، وأنهم كانوا معهم في الضراء والسراء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عبد الله بن أبي ابن سلول يهود بني النضير، فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم من أجله، وكانوا حلفاءه في الجاهلية، فقالت الأوس لـ سعد: فلا تكن أقل من ابن سلول في نفع حلفائه من يهود بن النضير، وسعد بن معاذ رضي الله عنه ساكت لا يتكلم بكلمة، ثم قال: آن لـ سعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
ويخرج رضي الله عنه إلى يهود بني قريظة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم فأنزلوه).
فقاموا إليه وأنزلوه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم جلس وحكم في يهود بن قريظة فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى نساءهم وذريتهم وتقسم أموالهم، فكان هذا حكم سعد في هؤلاء الخونة الذين خانوا الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، فحكم فيهم ولم تأخذه في الله لومة لائم.
وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات).
فوصفه بأنه اجتهد فأصاب حكم الله في هؤلاء، ولو حكم بغير ذلك لخالف حكم الله سبحانه وتعالى، فكان هذا هو حكم الله فيهم.
فقتل من هؤلاء سبعمائة، ولم يسلم أحد منهم، مع معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، لكن فضلوا القتل على أن يدخلوا في دين النبي صلوات الله وسلامه عليه، فاليهود نادر أن يدخل منهم أحد في دين النبي صلى الله عليه وسلم، لطمعهم في الدنيا، وطمعهم في الرياسة، مع ما هم فيه من أكل أموال الناس بالباطل، واليهود يفضل أحدهم الموت على أن يضيع منه المال، أو يضيع منه المنصب الذي هو فيه.
فأبوا أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فخندقت لهم خنادق وقتلوا فيها، وكانوا عددهم من الستمائة إلى السبعمائة، وكان على حيي بن أخطب حلة جميلة فظن أن المسلمين سيأخذونها، فمزقها قطعاً صغيرة، حتى لا ينتفع بها أحد، وهذه عادتهم في أنهم لا يتركون مكاناً حسناً بعدهم، حتى لا ينتفع به أحد، فهم يفسدون ويخربون في الأرض، فهذا الرجل لما أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله ما لمت نفسي في عداوتك أبداً.
يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول للناس: يا أيها الناس! لا بأس بأمر الله قدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.
نسأل الله عز وجل أن يقتل بقية بني إسرائيل في الدنيا كلها، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يخذل أعداء الدين، وأن يحصيهم عددا، ويقتلهم بددا، ولا يبقي منهم أحداً، وأن يمكن للإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.(259/8)
تفسير سورة الأحزاب (تابع4) [9 - 10]
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات ما حصل للمؤمنين في غزوة الأحزاب من البلاء والخوف الشديدين، فأرسل الله تعالى على الكفار ريحاً وجنوداً من الملائكة، فهزمهم الله تعالى شر هزيمة، ثم بعد ذلك حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأولادهم ونساءهم، ثم قسم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهماً واحداً.(260/1)
دروس وعبر من غزوة الخندق وغزوة بني قريظة(260/2)
حكمة الله في ابتلاء المؤمنين يوم الأحزاب
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:9 - 11].
يذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما بعدها ما كان في غزوة الخندق، حتى إن المؤمنين زلزلوا زلزالاً شديداً، فاضطربت قلوبهم، وحدث لهم خوف شديد فاضطروا إلى عمل الخندق، فحاصرهم الكفار من المشرق ومن المغرب، وكان من ورائهم اليهود، فحدث في النفوس خوف ورعب شديد.
فمن المؤمنين من وصل خوفه إلى بدنه ولم يجاوزه، ومنهم من وصل خوفه إلى قلبه فإذا به يقول كلاماً فيه كفر، كـ معتب بن قشير وغيره من الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يعدنا كنوز قيصر وكسرى وأحدنا يخاف أن يذهب إلى الخلاء.
كان فضل الله عز وجل على المؤمنين عظيماً، فقد نصرهم الله سبحانه وتعالى نصراً عظيماً لا يتوقعونه، فهم لا يقدرون على قتال هذا العدد الكبير من الكفار، ولكن الله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، فقد أرسل الرياح وهي جند من جنود الله سبحانه، وأنزل الملائكة.
والله لا يحتاج إلى ذلك سبحانه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
ولكن ليري المؤمنين أسباب النصر، فقد كان بقدرته تعالى أن يمنع الكفار أصلاً من المجيء إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى له الحكمة في أن يبتلي المؤمنين {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وفي أن يحدث لهم الخوف {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
فإذا أصيب المسلم بمصيبة يصبر ويتصبر ويقول: إن لله وإنا إليه راجعون، وينتظر الفرج من الله تبارك وتعالى، فلذلك جعل الله سبحانه هذا بلاءً للمؤمنين وجعله محنة ثم منحة بأن نصرهم وفضلهم تبارك وتعالى.
انتهى أمر الأحزاب بهذه الرياح الشديدة التي هاجت عليهم ولم يقدروا معها على نصب الخيام، ولم يقدروا معها على إيقاد النار، ولم يقدروا معها على عمل الطعام، ولم يقدروا معها على إمساك خيولهم وإمساك ركابهم فإذا بها تضطرب وتميل وتتحرك، ولم يجدوا إلا أن يفروا وعلى رأسهم قائدهم أبي سفيان فإنه ركب جمله ونسي أن يفك قيد يده، فما فكه إلا وهو راكب فوقه، وصاح فيهم: النجاة النجاة، الهرب الهرب! فيهربون بفضل الله تبارك وتعالى.(260/3)
حصار النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة
يرجع المؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ويضعون أسلحتهم، فإذا بجبريل يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى ثناياه النقع -أي على أسنانه الأمامية الغبار- فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: وضعتم سلاحكم؟ والله ما وضعت الملائكة أسلحتها.
ثم يأمره أن يتوجه إلى بني قريظة ويحاصرهم.
ويتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ويحاصرهم عشرين ليلة، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه، فحكم فيهم بحكم الله تبارك وتعالى: أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم وأولادهم ونساؤهم، وأن تؤخذ أموالهم، فقتل من بني قريظة في هذا اليوم ما بين الستمائة إلى السبعمائة رجل.
وكانوا في غاية العناد، حتى إن سيدهم وهو كعب بن أسد دعاهم لخصلة من خصال ثلاث منها: أسلموا، فإنكم تعلمون أنه رسول، فيرفضون ذلك فإذا به يرفض معهم، فيقتل الجميع.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المقاتلة من الرجال، وقتلت امرأة واحدة فقط، وقد نهى النبي عن قتل النساء، وإنما قتلت هذه المرأة واسمها بنانة امرأة الحكم القرظي لأنها قتلت رجلاً من المسلمين بأن طرحت عليه رحى من فوق الحصن فقتلته عمداً وعدواناً، وهذا المسلم اسمه خلاد بن سويد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها لكونها قتلت مسلماً، ولم يقتل من النساء غيرها، ثم استحيوا النساء والذرية أي: الأطفال، فأبقوهم على الحياة.(260/4)
شفاعة ثابت بن قيس بن شماس لرجل من بني قريظة
ثابت بن قيس بن شماس كان يلقب بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل الفاضل من الأنصار، ولما أنزل الله عز وجل سورة الحجرات وفيها نهي المؤمنين عن رفع الأصوات على النبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، وكان الرجل جهوري الصوت، فظن أن الآية نزلت فيه وأنه هو الذي حبط عمله، فحبس نفسه في بيته، وظل يبكي ويقول: أنا أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم، فأُخْبِرَ أن الرجل حبس نفسه في البيت لأنه يظن أن هذه الآية نزلت فيه وأنه حبط عمله، فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس من أهلها، وكان بعد ذلك لا يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا همساً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
هذا الرجل كان خطيباً بارعاً، وكان عادة العرب أنهم يأتون للنبي صلى الله عليه وسلم وفوداً ومعهم الشعراء والخطباء لإظهار نوع من التحدي، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: أينا أفضل في الخطابة أو الشعر، نحن أم أنت؟ فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يدخل معهم في ذلك ولا يرد عليهم، ولكن كان يأمر ثابت بن قيس بن شماس فيتكلم فيبهرهم بخطبته رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويأمر أحد الشعراء كـ حسان أو غيره فيغلبهم بما يقول، أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كان له أن يتكلم في مثل هذا أبداً.
الغرض أن ثابت بن قيس بن شماس جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يستشفع في رجل من اليهود، لأنه عمل له جميلاً في الجاهلية فلا يريد أن يُقتل هذا اليهودي، فالنبي صلى الله عليه وسلم طيب خاطره بذلك، فـ ثابت بن قيس بن شماس استوهب منهم عبد الرحمن بن الزبير كان صبياً وأسلم، ورجلاً كبيراً اسمه رفاعة بن سموءل القرظي وهبه النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم المنذر سلمى بنت قيس، ووهب لـ ثابت بن قيس رجلاً آخر وهو ابن باطا وكانت له عنده يد، فقال له: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك التي لك عندي.
فلما سمع ابن باطا هذا الكلام فرح فرحاً شديداً لأنه لم يقتل، فقال اليهودي: ذلك يفعل الكريم بالكريم، يعني أنا عملت لك جميلاً في يوم من الأيام وأنت عملت في هذا اليوم، فهذا فعل الكرماء، وهو رد الجميل بالجميل، فيا ترى ما الذي كان عمله هذا الرجل معه؟ كان في الجاهلية قد أسر ثابت بن قيس بن شماس وكاد يقتله، ثم منَّ عليه بالحياة فجزَّ ناصيته وتركه فلم يقتله، فلذلك طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمنَّ عليه بذلك، فتركه له النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولكن الرجل اليهودي قال لـ ثابت: كيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ أي: أنهم مأسورون وسيبقون عبيداً، فذهب ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشفع له في عياله وزوجته، وكان عياله قد أسلموا أما هو فلم يسلم، فهو كان اسمه الزبير بن باطا، وابنه هو عبد الرحمن بن الزبير بن باطا، وهو مسلم.
فشفع ثابت بن قيس أن يُرد عليه ماله فأعطاه ماله، وبعد ذلك قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كان وجهه كأنه مرآة صينية؟ فقال: قتل، قال: فما فعل المجلسان؟ يعني الكبار من بني قريظة؟ أي: بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة.
قال: قتلوا، قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا.
قال: برئت ذمتك، فألحقني بهم، فأبى ثابت بن قيس بن شماس أن يقتله، فقام غيره من المسلمين فقتله، لأنه يعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي حق ومع ذلك لم يسلم ويريد أن يلحق بأصحابه إلى النار، لعنة الله على الظالمين، فقتل كما قتل الباقون.
قسم النبي صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً واحداً، وكانت غزوة الخندق فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.(260/5)
شهداء غزوة الخندق
ولما تم أمر بني قريظة وقتلوا استجاب الله عز وجل لدعوة سعد بن معاذ رضي الله عنه، عندما قال: اللهم إذا أبقيت شيئاً من قتال قريش فأبقني لهم.
فلما تم القتال قبضه الله في ذلك السهم الذي أصابه في أكحله، فانفجر الدم بعدما كان الجرح قد اندمل ومات شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وكانت له منزلة عظيمة جداً، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه اهتز لموته عرش الرحمن، أي: أن العرش مخلوق خلقه الله تبارك وتعالى، فكأن أهل السماوات اهتزوا طرباً لقدوم سعد بن معاذ إلى جنة الله سبحانه وتعالى.
استشهد رضي الله عنه في غزوة الخندق، وكان عدد الكفار في هذه الغزوة عشرة آلاف، وعدد المسلمين ثلاثة آلاف وكان القتال بينهما مراشقات بالسهام.
وقتل في هذه الغزوة من المسلمين ستة، وهم: سعد بن معاذ وأبو عمرو من بني عبد الأشهل وأنس بن أوس بن عتيك وعبد الله بن سهل والطفيل بن نعمان وسلمة بن غنمة وكعب بن زيد.
وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على المؤمنين، فلو حصل التحام كان سيكثر عدد القتلى من المسلمين ومن غيرهم، وألقى الله في قلوب الكفار الرعب ففروا، وهذا الرعب ليس من عدد القتلى في الكفار، فقد قتل منهم ثلاثة فقط، إنما هو بسبب ما ألقاه الله في قلوبهم من الخوف، وما جاءهم من الرياح، من أجل أن يعرف المسلمون أنهم لم يعملوا شيئاً، فليسوا هم الذين أخافوهم، فهم قتلوا منهم ثلاثة، وقُتِلَ الضعف من المسلمين، فالنصر من عند الله وحده لا شريك له.
وبعد هذه الغزوة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزوننا) أي: لا تجرأْ قريش أن تغزو النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، فكان المسلمون هم الذين يتوجهون إليهم، فكانوا يذهبون في سرايا إلى قرب مكة، ولم تخرج قريش إليهم، إلا ما كان في يوم الحديبية عندما حدث الصلح فقد جاءوا غير مقاتلين، وبقيت بين المسلمين وبينهم زيارات فيسمعون من المسلمين، ويذهب المسلمون إليهم فيسمعون منهم حتى فتح الله عز وجل مكة بعد ذلك بفضله وبكرمه سبحانه وتعالى.(260/6)
انشغال المسلمين عن الصلاة في غزوة الخندق
وفي يوم الخندق جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كُفينا، وذلك قول الله عز وجل: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام فصلى الظهر فأحسن كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام فصلى العصر، ثم أمره فأقام المغرب فصلاه، ثم أمره فأقام العشاء فصلاها، وذلك قبل أن ينزل {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239].
ففي آخر ذي القعدة من سنة خمس كان أمر صلاة الخوف لم ينزل، وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء:102].
ولما شغل الكفار المسلمين عن أربع صلوات الله وسلامه عليه فلم يصلوها إلا في وقت العشاء، وهي الظهر والعصر والمغرب جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر).
فعرف الصحابة أن الصلاة الوسطى التي أمر الله عز وجل بالمحافظة عليها هي صلاة العصر، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن ثم أقام فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بعد المغرب ثم أقام، فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، وكان وقت العشاء قد دخل فصلى بعد ذلك العشاء صلى الله عليه وسلم، فكأنه صلى بعد المغرب صلوات اليوم كلها ما عدا الفجر، ثم منع من تأخير الصلاة عن وقتها.
فأنزل الله عز وجل أمر صلاة الخوف أو صلاة المسايفة، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة:239]، أي: صل على حالك الذي أنت فيه سواء كنت راكباً فوق الخيل أو راجلاً، فإن وجدت ماءً فتوضأ، فإن لم تجد فتيمم ولا تضيع وقت الصلاة وصل بحسب ما تيسر، فصار تأخير الصلاة عن وقتها ممنوعاً إلا ما يكون من الجمع بين الصلاتين النهاريتين: صلاة الظهر والعصر، والصلاتين الليليتين: المغرب والعشاء، فيجوز جمعها عند الانشغال بالقتال، أما إخراج صلاة نهارية عن وقتها حتى يأتي الليل فهذا غير جائز، وكذلك تأخير صلاة ليلية حتى يدخل وقت الفجر، وكذلك تأخير صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فهذا غير جائز، فكل صلاة يجب أن تصلى في الوقت الذي حده الله عز وجل لها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].(260/7)
عمل الملائكة في غزوة الأحزاب
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
ذكر المفسرون أن الله سبحانه وتعالى أرسل الملائكة على هؤلاء الكفار ولم تقاتل في هذا اليوم، بخلاف ما حدث في يوم بدر فإنها نزلت وقاتلت مع المسلمين، فكان أحد المسلمين في يوم بدر يرفع السيف من أجل أن يقتل الكافر فيرى رقبته قد طارت أمامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة هي التي صنعت ذلك).
أما في يوم الأحزاب فإن نزول الملائكة من أجل تكثير المسلمين، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار، فقلعت أوتاد الخيام، وقطعت الحبال، فطارت الخيام، وأطفأت النيران وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عز وجل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يا بني فلان هلم إلي! ظنوا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما اجتمع القوم إلى سيدهم أبي سفيان قال لهم: النجاة النجاة، فهرب الجميع.
كان الله بما يعملون بصيراً، والله بصير ورءوف بعباده سبحانه، وهزم الكفار وكان الله قوياً عزيزاً.(260/8)
تفسير سورة الأحزاب [9 - 14]
يخبر الله تعالى عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم عندما تحزبوا عام الخندق، ويخبر عن حال المؤمنين وما كانوا فيه من شدة الخوف والرعب مع التسليم التام لقضاء الله وقدره، وعن حال المنافقين وما كانوا فيه من الخور والضعف والاستسلام للكفار لو تغلبوا على المسلمين.(261/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن يوم الأحزاب وما كان فيه من شدة وزلزلة للمؤمنين، ثم ما كان فيه من نصر الله سبحانه لعباده المؤمنين.
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)) أي: اذكروا جنس نعمة الله سبحانه وتعالى، ومن هذه النعم هذه النعمة في يوم الأحزاب، إذ جاءتكم جنود وجاءكم جيش جرار من مكة وغطفان وغيرها، جاءوا للمدينة، قال الله عز وجل: ((إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)).
أي: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حين جاءكم هؤلاء فأسرع الله عز وجل بالنصر إليكم، ونصر الله قريب، وكل ما هو آت من عند الله فهو قريب، فمهما ظن الإنسان أنه تأخر، ومهما ظن الإنسان أن ربنا سبحانه لم يعطه الذي طلبه فإنه ما تأخر الشيء الذي يريده الإنسان إلا لحكمة من الله عز وجل.
ولو أن الأحزاب حين جاءوا وهم في الطريق أرسل عز وجل عليهم الريح فقلبتهم وكفأتهم وقتلتهم لما شعر المؤمنون بحلاوة هذا النصر، ومعلوم أنه عندما تقع الشدة على الإنسان ثم يأتي الفرج بعدها يعرف الإنسان قيمة هذا الفرج، ويعرف فضل الله سبحانه وتعالى.
ولا يعرف الشيء إلا بضده، ويذوق المسلمون العناء والتعب ويصبرون ويصابرون فيتذوقون بعد ذلك حلاوة النصر وحلاوة الفرج من عند الله سبحانه، فذكرهم بهذه النعمة ثم فصل الله عز وجل ما كان.(261/2)
تفسير قوله تعالى: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم)
قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].
أي: اذكروا عندما جاءكم هؤلاء الأحزاب من كل مكان فنصركم الله عليهم.
قال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) يعني: كأنهم جاءوا من مكانين: من فوقكم ومن أسفل منكم، من المشرق ومن المغرب، من مكان عال ومن مكان منخفض.
وقوله: ((جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)) فهؤلاء الكفار بينكم وبينهم الخندق، واليهود من ورائكم خانوكم بعد ذلك، فإذا كانت القلوب بلغت الحناجر من شدة الخوف والرعب من الكفار، فكيف حين يعرفون أن اليهود أيضاً صاروا من ورائهم، وصار المسلمون بين فكي كماشة؟! هؤلاء من ورائهم وأولئك من أمامهم، والمسلمون في غاية الرعب والخوف، فيذكرهم الله عز وجل بهذه النعمة.
لقد بلغ الخوف بهم مبلغاً عظيماً، قال تعالى واصفاً حالهم: ((وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)) يعني: صار الواحد منهم كأنه لم ير شيئاً أمامه قد زاغ بصره، فينظر في كل مكان فلا يستطيع أن يركز، وكأن القلب وصل إلى الحنجرة من شدة الرعب والخوف.
انظر وأنت راكب المصعد حين ينزل بك فجأة وأنت غير منتبه تحس أن قلبك قد طار، وكذلك عندما يفزعك أحد في شيء تحس أن قلبك قد طار، ففي هذه الحالة لا تستطيع التفكير، فحال المسلمين كان كذلك، فقد بلغت القلوب الحناجر، وزاغت أبصارهم، لا يعرفون من أين تأتي لهم المصيبة، فهؤلاء هل يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وقد بلغ من حالهم ذلك؟ حينها جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، ولم يقتل من المسلمين سوى ستة، ولم يقتل من الكفار سوى ثلاثة.
إذاً: لم يكن هناك حرب وقتال بينهم ولم تحصل مسايفة، ولكن حدث ما أخبر الله عز وجل به أن جاء النصر من عند الله وحده لا شريك له.
فالمؤمن في قلبه الإيمان وإن قال: يا رب أخرت النصر لكن أنا واثق في نصرك، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] يعني: لابد من الصبر، فيخبر الله عز وجل عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ)) من إيمان قومهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)) أي: وظن الرسل واستيقنوا أن هؤلاء مكذبون لهم، وانتظر الرسل النصر من الله سبحانه وتعالى، وتأخر النصر شيئاً ثم جاء النصر بعد ذلك، ((جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ)) أي: ينجي الله عز وجل من يشاء ويهلك من يشاء سبحانه وتعالى.
إذاً: الإنسان قد يتمنى شيئاً ولكن ليس شرطاً أن تدرك ما تتمناه، وأن يحقق الله عز وجل الذي تتمناه بعينك، لكن له حكمة سبحانه وتعالى أن يحقق هذا الشيء أو يؤخر، وفي كل خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فالأمر كله خير للمؤمن، والله أعلم بما هو خير وأفضل للمؤمن، فأنت حين تتمنى شيئاً والله عز وجل يقول لك: لن أعطيك هذا الشيء، بل نعطيك ما هو أفضل منه، فيتمنى المؤمن أن يقتحم على عدوه وأن يقتل عدوه وينتصر عليه، والله يرى لهذا العبد مكانة أنك لو قتلت هذا العدو فلن تصل لها، ولو قتلك العدو تصل إليها، فالله يحكم بالشيء الذي يمكن أن الإنسان لا يريد هذا الشيء، قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] المؤمنون يطلبون شيئاً.
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال:7].
فالله سبحانه وتعالى له الحكمة فيما يفعل بعباده، فالمؤمنون ظنوا بالله الظنونا، فمنهم من ظن أن سيغلبون الكفار، لكن لحكمة من الله عز وجل تأخر النصر، أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه كعادتهم.
فقوله: ((وتظنون)) الخطاب هنا موجه للمؤمنين وللمنافقين الذين معهم، المؤمنون ظنوا أن النصر تأخر لحكمة من الله سبحانه وتعالى، المنافقون قالوا: إنه يعدنا بكنوز كسرى وقيصر ونحن لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الخلاء، فأساءوا الظن بالله سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) فيها قراءتان: فيقرأ نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم وأبو جعفر: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وصلاً ووقفاً، إذا وقف قال: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) وإذا وصل الآية بالتي تليها ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
ويقرؤها ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي وقفاً: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) بالألف في آخرها، فإذا وصل حذف الألف وجعلها فتحة فقط قال: ((وتظنون بالله الظنون)) * {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
وباقي القراء يقرءونها بغير ألف وقفاً ووصلاً: (وتظنون بالله الظنون).
والذي سيقال في هذه الكلمة: ((وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا)) سيأتي في كلمة (الرسولا) و (السبيلا) في الوقف والوصل.(261/3)
تفسير قوله تعالى: (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً)
قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
قوله: ((هنالك)) وإن كانت للمكان ولكن المقصود بها هنا: في هذا الوقت ابتلي المؤمنون، أي: ابتلاهم الله سبحانه وتعالى.
فالله سبحانه يبتلي ويختبر ويمتحن ويمحص عباده ليظهر الجيد من الرديء، قال سبحانه: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] وهنا قال: ((هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ)) أي: الله عز وجل لابد وأن يبتلي عبده المؤمن، ولذلك قال في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تريد أن تقول: أنا مؤمن ولا يحصل لك بلاء أبداً، هذا لا يمكن أن يكون، فلابد من البلاء، وكلما ازداد الإيمان ازداد البلاء، فلذلك أشد الناس ابتلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ويليهم في ذلك الصالحون ثم الأمثل فالأمثل.
قوله: ((وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)) أصل الزلزلة الحركة، كأن المؤمنين زلزلوا وحركوا حركة شديدة، حركة في المكان الذي هم فيه بحيث إنه يروح ويجيء في المكان، لا يستطيع أن يثبت فيه.
فقوله: ((وَزُلْزِلُوا)) اضطربت القلوب وخافت من شدة الرعب، وكان الاضطراب في النفس وفي القلب من شدة الرعب والخوف.(261/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)
قال الله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
يظهر النفاق في مثل هذه المواقف، فالمنافق تراه ساكتاً عندما يكون المؤمنون أقوياء ولا يوجد بلاء، لكن عندما يحدث البلاء يبدأ المنافق يخرج لسانه ويتكلم.
والمنافق: هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، فالمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}، في قلوبهم مرض، في قلوبهم كفر، في قلوبهم شك، في قلوبهم أنجاس الجاهلية ورجسها، يقولون: ((مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)).
فالمنافق عندما يتكلم في وقت الضراء التي تصيبه فأول ما يشتم ويسب في الله سبحانه وتعالى وفي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والمنافقون يخافون من الناس ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، يقولون عن الله عز وجل: ما وعدنا الله إلا باطلاً، ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: يغرنا ويضحك علينا بهذا الشيء، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].(261/5)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13].
قوله: ((وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ)) أي: من المنافقين.
والطائفة تطلق على المجموعة، وقد تطلق على الواحد، فهنا قالها واحد ووافقه الباقون، فقال رجل اسمه أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس الذي كان يضرب به المثل في الكرم، وهذا أبوه كان منافقاً، فقال هذا الرجل كما أثبت الله سبحانه وتعالى قال: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ)).
ويثرب هي المدينة، كانت تسمى بذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم سماها (طابة) وسماها (طيبة) وسماها (المدينة)، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحب هذا اسم يثرب، فالله عز وجل أثبته؛ لأن ذلك المنافق قال ذلك، فنادى على أهل يثرب.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحب هذا الاسم؛ لأن يثرب مأخوذ من التثريب، كما قال سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف:92] والتثريب بمعنى التوبيخ، فتسمية المدينة بطابة وطيبة لأنها أسماء جميلة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميها بذلك، ولها أسماء أخرى.
فهنا قالوا: ((يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)) ولماذا سميت يثرب؟ قيل: سميت على اسم رجل نزلها من العماليق واسمه يثرب بن عبيل، هذا أصل التسمية فيها.
قالوا: ((لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة جمهور القراء: ((لا مَقام لكم فارجعوا)).
قوله: ((لا مُقَامَ لَكُمْ)) (مُقام) مصدر من أقام يقيم إقامة فهو مقام، وعلى القراءة الأخرى: (لا مَقام) كأنه مكان، أي: لا موضع إقامة.
إذاً: لا إقامة ولا مكان تقيمون فيه في هذا المكان الذي أنتم فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: ((فَارْجِعُوا)) أي: اتركوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه، وارجعوا إلى المدينة.
قوله: ((وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)) المنافق يكذب ولا يهمه أنه يكذب، فيستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نحن تركنا بيوتنا في المدينة عورة ومكشوفة، وجدارها قصيرة فقد يأتي أحد ويدخل فيها، وهم لا يقولون ذلك صدقاً، وإنما يقصدون أن يفروا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، هذا فعل المنافقين في كل وقت، يقول الله عز وجل: ((وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ)).
ويكذبهم الله قال: ((وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ)) أي: ليست بعورة، وإنما حقيقة أمرهم ((إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)) ففضحهم الله سبحانه وتعالى.(261/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها)
قال الله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] أي: من أنحائها.
لو دخل الكفار عليهم المدينة من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وطلبوا منهم أن يشركوا وأن يعصوا الله سبحانه وتعالى لم يتلبثوا ولم ينتظروا، وإنما يدخلون في الكفر بسرعة؛ لأنهم منافقون، والمنافق ينتظر متى يظهر الكفر لكي يظهر كفره، فلذلك لو دخلت عليهم المدينة من نواحيها وطلب منهم الفتنة لما توقفوا.
قال تعالى: ((ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا)) أي: لوقعوا في هذه الفتنة، وهذه قراءة الجمهور ((لَآتَوْهَا)).
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن ذكوان بخلفه (لأتوها) يعني: لدخلوا فيها.
فآتى بمعنى أعطى، وهم يعطون بأيديهم الفتنة وهي الكفر والشرك والنفاق، ويعطون المعصية، و (لأتوها) أي: أي مكان فيه فتنة يجرون إليه.
قوله: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)) يعني: على استحياء، أي يطلب منه الكفر والمعصية فيستحي قليلاً أن يعرف المؤمنون حقيقة كفره ونفاقه، قال الله عز وجل: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا)) يعني: ما صبروا على إيمان يظهرونه إلا شيئاً يسيراً، ثم أعطوا الكفر وأظهروا ذلك.
ومعنى آخر فيها: ((وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا)) يعني: كم سيعيشون بعدما يكفرون، سيقبضهم الله وسيأخذهم مهما عاشوا، فلن يعيشوا إلا فترة قليلة ثم يقبضهم الله على ما هم فيه من سوء خاتمة.
نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة، ونسأله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(261/7)
تفسير سورة الأحزاب [12 - 19]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات حال المنافقين في غزوة الأحزاب من أنهم يشكون في وعد الله تعالى ووعد رسوله، وأنهم يفرون من أرض المعركة بمبررات واهية، وأنهم أخلفوا وعد الله ووعد رسوله.(262/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:13 - 17].
لما ذكر الله عز وجل ما كان في يوم الأحزاب من نصر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، بعدما زلزلوا زلزالاً شديداً وفتنوا فتنة عظيمة، ذكر لنا ما صنع المنافقون في هذا الوقت، ليفضح المنافقين ويحذر المؤمنين أن يطيعوا مثل هؤلاء أو أن يقتدوا بهم.
فالمنافق يظهر أنه إنسان حكيم، وأنه يريد الحق والصواب، ويتشدق بالكلام على الجهاد، فإذا جاء موطن الخوف ووقت الجهاد كان أول من يفر، ويتأول لنفسه ويعتذر بأعذار يرى أنه محق في هذا الذي يصنعه، ويكذبهم الله عز وجل بما يقولون، فهنا فضحهم الله عز وجل في سورة الأحزاب، وفضحهم أكثر من ذلك في سورة براءة.
فذكر هنا سبحانه: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12].
والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، وفي قلوبهم شك ونفاق، وكل إنسان بحسبه، فمنهم من زاد النفاق في قلبه وزاد الشك والمرض حتى خرج عن الإسلام.
ومنهم من بلغ به نفاقه إلى أن يعصي الله ورسوله، وأن يترك المؤمنين ويخذلهم، فحكم هؤلاء المنافقين بحسب قدر هذا النفاق، إما أن يخرجهم من الدين بالكلية، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، أو أنه يدفعهم بأن يعصوا رسول الله، أو أن يفروا من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالذين قالوا ما وعدنا الله ورسوله إلا غررواً لا شك أنهم كافرون، لأنهم قالوا: إن وعد الله ليس بحق، والله عز وجل يقول: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس:55].
فمن قال إن وعد الله باطل، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل فهو كافر.(262/2)
تفسير قوله تعالى: (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم إن يريدون إلا فراراً)
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [الأحزاب:13] المنافقون مجموعات فطائفة منهم يقولون: يا أهل يثرب، أي: يا أهل المدينة {لا مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب:13]، وهذه قراءة حفص عن عاصم.
وقراءة الجمهور: {لا مَقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب:13]، أي: لا موضع إقامة لكم.
فهو مصدر أي: لا إقامة لكم في هذا المكان، ولا عيش لكم في هذا المكان، فإنكم ستضيعون وستهلكون، ففروا منه واتركوا النبي صلى الله عليه وسلم عند جبل سلع خارج المدينة وارجعوا أنتم إلى المدينة.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13].
هنا التظاهر بالحكمة، فهم يظهرون الشيء ويبطنون خلافه، فيقولون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] فنحن نريد أن نرجع من أجل أن ندافع عن المدينة وندافع عن أهلنا، وبيوتنا أسوارها قصيرة، ويسهل دخولها من الكفار وفيها النساء.
وقوله تعالى: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13] بيوتنا تقرأ بضم الباء، وتقرأ بالكسر، فهما قراءتان سبعيتان أو مشهورتان.
وقراءة الضم قرأها ورش عن نافع وقرأها أبو عمرو وحفص عن عاصم، وقرأها أبو جعفر، ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها: {إِنَّ بِيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13]، بكسر الباء.
قال الله عز وجل مكذباً لهم: {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب:13] أي: أنهم كذابون فيما يقولون.
وقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب:13] أي: حقيقة الأمر أنهم يريدون الفرار من مواجهة الكفار.(262/3)
تفسير قوله تعالى: (ولو دخلت عليهم من أقطارها)
قال تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب:14] أي: لو دخلت البيوت أو دخلت المدينة عليهم من أقطارها، أي: من أنحائها، {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} [الأحزاب:14] أي: ثم طلب منهم أن يكفروا بالله عز وجل، وأن يعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] أي: لأعطوا بأيديهم هذه الفتنة.
وقوله تعالى: {لَآتَوْهَا} [الأحزاب:14] هذه قراءة نافع وأبي جعفر وحفص عن عاصم.
وقراءة ابن كثير، وقراءة ابن ذكوان: {لَأتَوْهَا} [الأحزاب:14].
ومعنى: (لأتوها) أي: لجاءوا إلى الفتنة، و (لآتوها): لأعطوا هذه الفتنة، فهم يقدمون ويعطون، وهم يذهبون بأنفسهم إلى مواطن الفتن.
وقوله تعالى: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14]، أي: وما صبروا على الدين في الظاهر إلا شيئاً يسيراً، ثم بعد ذلك ينقادون إلى الفتنة.
وأيضاً: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب:14] أي: ما تلبثوا بالحياة والاستمتاع بما صنعوا إلا يسيراً، ثم قبضهم الله سبحانه وتعالى إليه.(262/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15].
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب:15] أي: أنهم عاهدوا الله قبل ذلك كما في غزوة أحد أو في غزوة بدر، كأنهم لم يشهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الغزوتين؛ فلذلك قالوا: لو شهدنا الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم سترون الذي نصنعه.
والفرق بين المؤمنين والمنافقين، أن المنافقين يتكلمون كثيراً، ويعدون كثيراً، ولا ينفذون ما يقولونه.
أما المؤمنون فإنهم يخافون الله، يروى أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، فقال: لو أشهدني الله تبارك وتعالى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أفعل.
وخاف أنه يقول: سأفعل كذا ولكن قال: ربنا ينظر الذي سأفعله.
فلما حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد قاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فكان الذي قاله: ليرين الله ما أصنع فقط، ولم يزد على ذلك.
أما المنافقون فيتكلمون كثيراً فيقولون: لئن شهدنا سنفعل وسنفعل، وسترون منا الشجاعة والإقدام والتثبيت، وعهدٌ علينا إذا حضرنا القتال سنعمل أشياء.
ومعنى قوله تعالى: {لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب:15] أي: نحن ما نفر أبداً وعهد علينا ذلك.
ومعنى قوله تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] أي: الأمر ليس لعبة أنك تقول: يا رب عهد عليَّ أن أفعل كذا، أو تقول: لله عليَّ نذر أن أفعل كذا وكذا، وبعد ذلك تظن أنه كلام قد انتهى، فأنت تخاطب الله سبحانه تبارك وتعالى، فإنه سيسألك عن هذا العهد: لم قلته؟ وهل نفذته أم لا؟ وإذا نفذته هل أخلصت أم لا؟ وأسئلة كثيرة في هذا الشيء الذي يفعله الإنسان ويقوله.
وكثير من الناس يقولون: يا رب عهد عليَّ ألا أعمل هذه المعصية، أو أن أفعل كذا، فيسأل العبد يوم القيامة: لم عاهدت؟ وهل فعلاً فعلت هذا الذي قلت أو لم تفعل؟ وإذا فعلت فهل نفذت أم لا؟ وإذا فعلت أو نفذت فهل كنت مخلصاً لله سبحانه، أم كنت تفعل رياءً أمام الناس؟ أسئلة كثيرة عند الله عز وجل يوم القيامة، قال تعالى: {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} [الأحزاب:15] أي: يسأل الله سبحانه تبارك وتعالى صاحب العهد عن عهده.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} [الأحزاب:15] أي: لا يهربون مولين الناس دبرهم، أو معطين ظهورهم لأعدائهم فيهربون من أمامهم.(262/5)
تفسير قوله تعالى: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت)
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16].
فكر أيها الإنسان أنك إذا فررت من القتال وقد حذرك الله عز وجل من ذلك أن ذلك من الكبائر، قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
والفرار من القتال من الكبائر، فلا تفر إذا قاتلت، ولكن واجه ودافع عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، واطلب إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة.
ومن الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى ويضحك إليهم سبحانه تبارك وتعالى ويثيبهم الثواب العظيم: رجل قابل الكفار فلم يفر، أي: توجه إلى الكفار وقاتلهم حتى نصره الله أو حتى قتل شهيداً، هذا أحد الثلاثة الذين يحبهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
فيقول الله تعالى لهؤلاء الفرار: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:16] أي: ستفر من أين؟ فكر في هذا الموت الذي تفر منه، فالموت آت ومقدور ومعلوم، فأن تموت شهيداً أفضل لك من أن تموت وأنت على معصية الله سبحانه تبارك وتعالى.
فلو تفكر الإنسان أنه إذا قتل شهيداً، فإنه لا يستشعر بألم القتل أو ألم الذبح أو ألم الإصابة، والصحابة كانوا يقاتلون في سبيل الله ويقول أحدهم: والله ما شعرنا بألم القتال، أي: ألم الجروح وغيرها من ضرب بالسيف وغير ذلك، والواحد منهم كانت تقطع يده في القتال، وتكون متعلقة في كتفه، فيضع يده تحت رجله على الأرض ويتمطى عليها، ثم ينزعها من كتفه من أجل أن يكمل القتال ولا يستشعر بشيء، فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الذين يحسون ويشعرون بألم الدواء، فإن ذلك كان بعد انتهاء القتال تماماً، فعندما يضعون الدواء أو العلاج فإنهم يحسون بألم الدواء، لكن في القتال لا يحسون بشيء، فإنهم قاتلوا في سبيل الله سبحانه، وأخلصوا لله عز وجل، فأعانهم الله وثبتهم، فما كان أحدهم يشعر بشيء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا في الشهيد أنه لا يشعر إلا بمثل القرصة، والله عز وجل يطمئنه فيغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، ويرى الحور العين، ويزوج باثنتين وسبعين منهن، ويتوج بتاج الكرامة، ويلبس حلة الكرامة، وعندما تخرج روحه فإنه ينظر الكرامة التي أمامه، ويقيه الله من عذاب القبر وفتنته.
فالذي يمزق بدنه في سبيل الله أو يقتل شهيداً، لا يحس بشيء، وعكسه الذي يموت على فراشه، أو كان قد أكل وشرب واستراح ثم بعد ذلك قبضت روحه، فألم الموت أشد من ألم السيوف، حتى المؤمن فإنه يموت بعرق الجبين، فيشتد على المؤمن التقي في خروج روحه، ويشعر بألم شديد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني كرباً عظيماً في حال وفاته، ولذلك فإن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: ما غبطت أحداً مات بغير ذلك.
يعني بعدما رأت من النبي صلى الله عليه وسلم.
فالذي يموت على فراشه فإن الله سبحانه تبارك وتعالى يشدد عليه ليرفع درجته، والشهيد قد ارتفعت درجته فلا يحتاج لهذا الشيء، فلا يشدد عليه، وإنما يرى المنزلة من الجنة ويرى الحور العين، ويعطى من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى ومن رحمته.
فلو تفكر الإنسان لتمنى أن يكون شهيداً، وأجر الشهادة يعطى لمن تمناها وسألها من الله سبحانه تبارك وتعالى بإخلاص.
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} [الأحزاب:16] فإذا فر الإنسان من الموت، أو من القتل، فإنه سيأتي عليه الموت، أو مكتوب عليه أنه سيقتل.
فلو أنه كان مكتوباً عليه أنه سيقتل في سبيل الله سبحانه، وهو مقدم مقبل على الأعداء، سيضربه العدو ويقتله.
فلو أنه فر سيأتيه سهم من غرب، أي: من ورائه فيقتله، فأيهما أفضل أن يأتيه السهم من أمامه وهو مكر على الأعداء أو وهو فار من الأعداء؟ فيقول الله عز وجل لعبده: إذا كان مكتوباً عليك أن تموت في هذا الحين فلن ينفع الفرار.
وبفرض أنكم ما استطعتم أن تفروا، وهذا فرض جدلي وليس حقيقياً، قال سبحانه: {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:16] أي: حتى لو فررتم من هذا الشيء، وتمتعتم بهذه الحياة الدنيا، فإنها متعة قليلة ثم بعدها الموت.(262/6)
تفسير قوله تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله)
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17].
أي: تفكر أيها الإنسان من يعصمك ويمنعك ويقيك من الله تبارك وتعالى؟ ومن يدفع عنك شيئاً أراده الله سبحانه؟ فالأمر أعظم بكثير من أن يوجد من يقدر أنه يفعل شيئاً، مثلما تقول لإنسان: من ذا الذي قدر علي؟ من ذا الذي يفعل فيَّ كذا؟ فالله تبارك وتعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} [الأحزاب:17] فأي مخلوق هذا الذي يقدر أن يقف أمام قضاء الله وقدره فيمنع ذلك.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} [الأحزاب:17] أي: إن أراد أن يسيئكم، أو يمسكم السوء والكرب.
وقوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]، قال تعالى في سورة أخرى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] فلا يقدر الإنسان أن يمنع ذلك.
قال الله تعالى: {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [الأحزاب:17] ذكرنا قبل ذلك أن الولي بمعنى القريب، وأصله من الولي وهو القرب، فالولي هو ابن العم والعم وغيرهما من القرابات، فالأولياء كأنهم قريبون منك في نسبك، فلا ينفعك من دون الله قريب ولا نسيب ولا غريب ولا بعيد، ولا أحد ينصرك ويدافع عنك، أو يمنعك من الله.(262/7)
تفسير قوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم)
يقول سبحانه وتعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] وقد هنا للتحقيق والتأكيد وليست للشك، كما في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] ومعنى: ((قد يعلم الله المعوقين)) أي: قد علم الله يقيناً ما يقول هؤلاء المعوقون.
وكلمة المعوق مأخوذة من التعويق، وعوق بمعنى: صد عن الشيء، أي: منعه.
فهؤلاء المعوقون المانعون للمؤمنين من القتال، الصادون لهم عن الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يتعللون بالأعذار فيقولون للمؤمنين: لا تقاتلوا فإنكم متعبون أو مرضى، أو إن أبناءكم ونساءكم يحتاجون إليكم فلو رجعتم إليهم كان أحسن لكم، فيعوقون المؤمنين ويخوفونهم، وهذا فعل الشيطان.
فالشيطان يقف للإنسان في مواطن، فيأتي المؤمن عند دخوله في دين الله سبحانه فيقول له: أتدع دينك ودين آبائك وتدخل في هذا؟ فلأجل أن يصده يذكره بآبائه، فإذا عصى المؤمن الشيطان ودخل في دين الله سبحانه، فإنه يأتيه عن طريق الهجرة فيقول له: أتهاجر وتترك أرضك وديارك وتكون في أرض الغربة والفتنة؟ والمؤمن يعصي الشيطان ويهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فيأتيه عند الجهاد فيقول: أتجاهد فتقتل ويضيع أولادك ومالك وتترك كذا وكذا؟ فيعصيه المؤمن ويطيع الله سبحانه تبارك وتعالى.
والمنافق مثل الشيطان فهو أسوته وقدوته، فهو يفعل كفعل الشيطان، فيعوق المؤمن عن الخير، يقول تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] أي: المعترضين لكم ليصدوكم عن سبيل الله سبحانه.
وقوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: إلينا، وتعالوا أو عودوا معنا أين ستذهبون؟ قال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] فهؤلاء من المنافقين.
والمنافقون المعوقون لهم صور كثيرة، فالواحد منهم يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال، فيدعو من معه ويقول لهم: تعالوا للقتال، ثم يذهب ويتولى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في يوم أحد، وخذل النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ ثلث الجيش وهرب ورجع بهم إلى المدينة.
كذلك في يوم الخندق، فإن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله بعذر من الأعذار ليفعل شيئاً، فترك السيوف والرماح ورجع ليأخذ حاجة من المدينة ثم بعد ذلك يرجع للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجد واحداً من هؤلاء المنافقين جالساً يأكل ويشرب ويلهو، وقال له: هلم إلي، أي: تعال كل معنا واترك القتال وابعد عن هؤلاء.
قال ابن زيد: هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ، أي: يأكل لحماً ورغيفاً ويشرب خمراً، فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إليَّ، فقد تبع لك ولأصحابك، والذي يحلف به لا يستقل بها محمد أبداً.
ومعنى فقد تبع أي: فقد أحيط، يعني: أنهم سيهلكون وسيضيعون فإن الكفار قد أحاطوا بهم، فلا يفعلون شيئاً في القتال.
فقال له المؤمن التقي: كذبت، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فقبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم نزلت الآية تفضح هذا وأمثاله، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18] أي: أقبلوا إلينا.
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} [الأحزاب:18] أي: لا يأتون القتال {إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] القليل هم الذي يأتون القتال، من الخوف والرعب، ولأجل السمعة والرياء، وهؤلاء المنافقون إذا حضروا القتال لم يقاتلوا إلا قليلاً.
إذا فروا إلى المدينة يقومون يذكرون للصحابة نحن فعلنا وفعلنا، ولو لم نكن في المدينة لضاعت بيوتكم، وهم يكذبون في ذلك.(262/8)
تفسير قوله تعالى: (أشحة عليكم وكان ذلك على الله يسيراً)
قال الله سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] أي: أبخل الناس عليكم.
والشحيح هو الإنسان الذي يضن بما في يده، بل وبما في يد غيره أيضاً، فهم يمتنعون عن إعطائكم أي خير، ولا يوجد في هؤلاء خير، فلا يواسونكم بألسنتهم، ولا يعطونكم من أموالهم، بل هم في غاية الشح.
وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] فصورتهم في وقت الخوف في غاية من الرعب، والإنسان الجبان غير مستقر في مكانه من شدة رعبه، ((تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ)) أي: تتحرك في كل مكان يريدون أن يهربوا إلى مكان آمن.
قال تعالى: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] كأن الموت آتيه لا محالة.
قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: أنهم في وقت الخوف مرعوبون خائفون، يبحثون عن حماية، فإذا ذهب الخوف تشجعوا وظهروا.
وقوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ} [الأحزاب:19] السلق بمعنى رفع الصوت وإكثار الكلام، ومنه السالقة والصالقة بالسين وبالصاد بمعنى: الرافعة صوتها، فذم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصالقة والحالقة والشاقة ودعا عليهن.
والمرأة الصالقة: هي التي تصوت، والحالقة: هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عندما يموت لها قريب، فالتي تصنع ذلك معلونة، فالصلق والسلق بمعنى رفع الصوت.
والمعنى: أظهروا الجراءة والبجاحة والكلام بالصوت العالي، والشتم والنبذ في المسلمين.
وقوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: ألسنتهم حادة مثل الحديد الشديد، ففي وقت عدم الخوف فإنهم يتكلمون على المؤمنين، فيقولون مثلاً: لا يعرف كذا، أو هؤلاء المجاهدون الذين أنفقوا فإنهم يراءون الناس في الإنفاق، فمن أنفق منهم شيئاً قليلاً، قالوا فيه: ربنا غني عن هذا الشيء، فلا يعجبهم من أنفق كثيراً أو قليلاً.
فالمجاهدون من المؤمنين لم يعملوا أي شيء، فلو كنا نحن كنا عملنا.
وهم لا يفعلون لا قليلاً ولا كثيراً، قال سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] أي: ما عندهم خير لا في كلامهم ولا في فعالهم ولا في إنفاقهم.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19] أي: أن الدافع لهم إلى ذلك هو عدم الإيمان في القلوب، فأحبط الله أعمالهم، أي: أبطل ما أظهروه من أعمال ظاهرها الخير وحقيقتها الرياء، فلا ثواب لهم.
وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] أي: إحباط أعمالهم على الله يسير، هذا المعنى الأول.
والمعنى الآخر: كان نفاقهم عند الله لا قيمة له؛ لأن هؤلاء لا ينصرون دين الله، إنما ينصر دين الله من آمن بالله سبحانه، والله غني عن عباده.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الناصرين دينه، المدافعين عنه، المخلصين له.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(262/9)
تفسير سورة الأحزاب [18 - 22]
يخبر تعالى أن من صفات المنافقين الجبن والخور والخوف، فهم في غزوة الأحزاب أصابهم الهلع والجزع، حتى تمنوا أنهم في البوادي يسألون عن حال الرسول والمؤمنين من بعيد، بخلاف المؤمنين فقد وصفهم الله تعالى بأنهم استمروا على العهد والميثاق، فمنهم من استشهد في سبيل الله، ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك ولم يبدلوا تبديلاً.(263/1)
هلع المنافقين وخوفهم من القتال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:20 - 22].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الأحزاب وما قبلها الفرق بين المؤمنين وبين المنافقين، كيف صنع المنافقون في يوم الأحزاب من تخذيلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذبهم عليه وعلى المؤمنين، ومن ظنهم السوء بربهم سبحانه وتعالى، وكيف صنع المؤمنون من تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وحسن ظنهم في الله سبحانه، وإن كان الأمر شديداً عليهم، ولكن كل إنسان يبتليه الله سبحانه وتعالى بحسب ما في قلبه من إيمان.
فابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، واضطربوا وظنوا أن النصر تأخر شيئاً، ولكن هم واثقون في الله سبحانه بأنه لن يخذل رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما المنافقون فأساءوا الظن بالله سبحانه، وكذبوا على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:12] أي: إلا محالاً وباطلاً.
فهؤلاء المنافقون فضحهم الله سبحانه، وبين أنهم المعوقون للمؤمنين عن القتال، والصادون للمؤمنين عن جهادهم في سبيل الله سبحانه وتعالى، الذين يقولون لإخوانهم في النسب أو لأصحابهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] فهم من أجبن الناس ويرمون غيرهم بالجبن، فقد قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه: إنهم من أجبن الناس عند اللقاء، وإنهم من أجوع الناس بطوناً، ويقولون عنهم: إنما هم أكلة رأس، يعني: عددهم قليل، فلقلتهم يكفيهم الرأس من الغنم.
فهؤلاء المنافقون يقولون لإخوانهم: هلم إلينا، أي: دعوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعالوا فاجلسوا معنا وكلوا، {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:18] (البأس) أي: القتال.
قوله: (أشحة عليكم) أي: هم من أبخل الناس وأشح الناس، فالبخيل: هو الذي يضن بما في يده وبما في يد غيره، لم يكتف بما في يده، فهو شحيح ضنين على المال الذي معه وعلى المال الذي مع غيره، فهو شحيح مقتر لا يبذل.
فقوله: ((أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ)) يعني: يرفضون لكم الخير، ويرفضون منكم إنفاقاً في سبيل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ} [الأحزاب:19] أي: إذا جاء القتال، {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] هذا حالهم، كالإنسان الذي يرى الموت أمامه مرعوب يهتز ويرتعش، هذا حال هؤلاء المنافقين.
فإذا انتهى هذا الخوف إذا بهم يتشجعون ويظهرون الشجاعة، ويقولون: عملنا وعملنا، انظروا نحن لو كنا موجودين كنا عملنا كذا، وهم أجبن خلق الله.
يذكر سبحانه هؤلاء المنافقين بقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] هذا حال هؤلاء المجرمين المنافقين، تجدهم طوال الأجسام عراضها، أشكالهم ومناظرهم جميلة، كذلك تأخذ منهم كلاماً كأن مقتضاه الحكمة، وهو في الحقيقة خلاف ذلك.
وقال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4] الخشب يستفاد منه في صناعة الأبواب وسقافة البيوت، لكن إذا كان الخشب مسنداً إلى الجدران فليس فيه أي فائدة، وإنما يحصل منه ضيق على الناس، فهذا هو حال هؤلاء، كأنهم خشب غير منتفع به، ولكن خشب مسنود على الجدران.
يذكر الله سبحانه صفات المنافقين، ويبين أنهم في غاية الخوف والرعب والجبن إذا جاء الأعداء، يقول تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب:19] أي: ألسنتهم لاذعة حادة، يتكلمون كلاماً سيئاً عن المؤمنين، بل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (سلقوكم) أي: أيرفعوا أصواتهم بالقول، وكانوا في حال الخوف في غاية الجبن، لكن بعد أن غادر الأعداء رفعوا أصواتهم على المؤمنين، فهم ليسوا أشحة في الإنفاق لما في أيديهم فقط، بل هم لا يحبون من المؤمنين الإيمان، ولا يحبون للمؤمنين النصر على الأعداء، ولا يحبون خيراً يأتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين.
ثم قال: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأحزاب:19] أي: أولئك يزعمون الإيمان بألسنتهم، أما القلوب فهي خالية من الإيمان، والنتيجة تكون كما قال الله: {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب:19] هم يستحقون ذلك؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فهم وإن صلوا معكم ظاهراً، لو استطاعوا أن يتركوا الصلاة لتركوها، ولذلك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، فهم لولا خوفهم من أن النبي صلى الله عليه وسلم يعاقبهم، لما صلوا مع الناس الجماعة، ولتركوا الصلاة بالكلية.
إذاً: هم يفعلون الخير في الظاهر أمام الناس، وهم في الحقيقة إنما يفعلون ذلك رياء وسمعة أمام الناس، فاستحقوا أن يفضحهم الله سبحانه، وأن يحبط أعمالهم، قال تعالى عن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
أي: جعلناه هباءً كالغبار الذي يرى في الكوة التي تدخل منها الشمس، فكذلك أعمالهم لا وزن لها عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:19] يعني: الأمر كله يسير على الله سبحانه، فكونهم يؤمنون أو يكفرون كل هذا يسير على الله سبحانه، وكذلك كونه سبحانه يحبط أعمالهم هذا يسير على الله؛ لأنه سبحانه، {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].(263/2)
تفسير قوله تعالى: (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا)
يقول سبحانه عن هؤلاء: {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} [الأحزاب:20] أي: من الرعب الذي أصابهم، أما المؤمنون فقد صدقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة ليأتيه بخبر الكفار، فرأى الكفار وهم يقولون: النجاء النجاء، وجاء حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن القوم قد ذهبوا، وجاء جبريل يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف المؤمنون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق فيما يقول، فرجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
أما هؤلاء المنافقون الذين ملأ الجبن قلوبهم فهم لا يصدقون أن الكفار قد ذهبوا، فقد استغربوا: كيف يفر عشرة آلاف كافر من ثلاثة آلاف من المؤمنين، فهم يحسنون الظن في الكفار ويسيئون الظن في الله سبحانه وفي المؤمنين.
وقوله: (يحسبون) قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب: (يحسِبون) بكسر السين.
والباقون يقرءون: (يحسَبون) بفتحها، وهم عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر.
قال تعالى: {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ} [الأحزاب:20].
يعني: هؤلاء يحبون لو أنهم يهربون من المدينة إلى البادية حتى ينظروا لمن الغلبة، فهم مع المنتصر، هذا حال المنافق، قال تعالى عنهم: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143] أي: لا مع المؤمنين ولا مع الكفار، فهم يقفون مع من ينتصر.
قال الله سبحانه: {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} [الأحزاب:20] يعني: يسألون عن خبركم مع الكفار هل انتصرتم أو انهزمتم، أما أن يكونوا معكم يعينونكم على القتال فلا؛ لأنهم لا يجيدون ذلك.
قوله: (يسْألون) هذه قراءة الجمهور.
أما قراءة رويس عن يعقوب: (يسَّاءلون عن أنبائكم).
النبأ: هو الخبر المغيب، فهم لا يريدون خبراً مشاهداً، وإنما يريدون أن يسمعوا الذي حصل مع المسلمين من بعيد فقط.
قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20] يبين ربنا سبحانه للمؤمنين أن هؤلاء وإن كثروا العدد فلا تفرحوا بهم؛ لأن حقيقتهم أنهم يخذلون بينكم، ويلقون في قلوب المؤمنين الاختلاف وبذور الشقاق، فهم يخوفون المؤمنين من الكفار، وهم يفسدون فيما بين المؤمنين، وهم يثبطونهم عن القتال.(263/3)
تفسير قوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
أما المؤمنون فهم يتبعون الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أسوتهم وقدوتهم عليه الصلاة والسلام، وانظر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء، يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
يعني: لقد كان لكم أيها الناس جميعاً الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان الخطاب في الآيات السابقة للمنافقين، وهنا الخطاب للجميع -للمؤمنين وللمنافقين- أي: اقتدوا جميعاً برسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذروا ما أنتم عليه من معاصي الله سبحانه.
قوله: (أسوة) بالضم، وهي قراءة عاصم وحده.
أما باقي القراء فإنهم يقرءون: (إسوة) بالكسر.
فقوله: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) يعني: القدوة الحسنة في الإتساء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه للمؤمنين، فالمؤمن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن هوى المؤمن تبع للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به.
والمؤمن يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وبأهله وبماله.
ولذلك يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن هؤلاء المؤمنين الذين يأتون من بعده ولم يروه، لكنهم يودون أن يروه، ولو فقدوا أهليهم وأموالهم.
قال تعالى: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21] أي: يرجو ثواب الله ويرجو لقاء الله، ويرجو اليوم الآخر فهو يؤمن بالله وباليوم الآخر ويعتقد يقيناً جازماً أنه ملاقي الله، وأنه يأتي عليه يوم الحساب للجزاء والثواب والعقاب، فهو يود أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم مقتدٍ به في الدنيا؛ فهو إمامه يوم القيامة، يوم يدعو الله عز وجل كل أناس بإمامهم.
يقول الله سبحانه: {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] الذكر يعين على طاعة الله سبحانه، والله مع الذين يذكرونه سبحانه وتعالى، فحين يذكر المؤمن ربه يكون الله معه.(263/4)
تفسير قوله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله)
قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
يذكر الله كيف كان حال المؤمنين لما رأوا الأحزاب، فقد أعلمنا حال المنافقين، وأنهم كانوا في غاية الخوف والرعب تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت.
أما المؤمنون فإنهم لما رأوا الأحزاب قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، أي: هذا وعد الله أن يأتي الكفار وأن يحدث بيننا وبينهم الالتحام والقتال ويأتي نصر الله، وصدق الله ورسوله.
فرق بين المؤمن والمنافق، المنافق أصابه الخوف والرعب فقال: يعدنا محمد بكنوز قيصر وكسرى وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء، لكن المؤمن لما رأى هذا الرعب وهذا الخوف قال: صدق الله ورسوله.
يعني: بمجيء الأحزاب الكفار سيأتي نصر الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعدا بالنصر والتمكين، وبأننا نفتح قصور الشام وقصور العراق وبلاد الحبشة وغيرها، وصدق الله وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنكون في وقت من الأوقات منتصرين، ويدخل الإيمان في كل مكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمنون ما زادهم ما هم فيه من خوف ومن شدة إلا إيماناً، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم).
لما رأى الأقوياء كـ سعد بن أبي وقاص وغيره في يوم بدر أن لهم مزية وفضلاً على غيرهم من المؤمنين، وذلك بأنهم قاتلوا بالسيف وغيرهم ضعفاء، فقال سعد للنبي صلى الله عليه وسلم: (أعطني هذا السيف لعله يعطاه من لا يبلي بلائي -أي: قد يأخذ السيف من لا يعمل مثل ما أعمله- فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد: وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟).
يعني: النصر لا يأتي بقوة الأجسام والسلاح وإنما يأتي بقوة هؤلاء في إيمانهم، فهؤلاء الضعفاء يدعون الله ويستغيثون بالله ويطلبون النصر منه سبحانه فينصرهم، أما القوي فقد يعجب بنفسه ويظن في نفسه قوة فينسى أن يدعو ربه.
إذاً: فالمؤمنون ازدادوا في حال خوفهم إيماناً بالله، وثقة في الله سبحانه، وتسليماً لأمر الله؛ لأنهم سلموا أنفسهم لله بما يشاء، فصدقوا الله سبحانه وتعالى، فصدقهم الله سبحانه.
قال تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا} [الأحزاب:22] أي: بالرب سبحانه {وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] بالقضاء والقدر، وهذا حال المؤمنين أنهم يسلمون لله سبحانه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيرضون فيرضيهم الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(263/5)
تفسير سورة الأحزاب [22 - 23]
إن الدين الإسلامي بحاجة إلى رجال يحملونه بصدق وجدية لا تعرف الكسل ولا الفتور ولا التراجع، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء هؤلاء الرجال وتربيتهم، ولقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الهدف، فبنى رجالاً مؤمنين بالله حق الإيمان، ولذلك مدحهم الله عز وجل بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله عليه.(264/1)
تكذيب المنافقين لله ورسوله
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:22 - 25].
ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها وما بعدها ما كان في يوم الأحزاب: وهي غزوة الخندق، وقد كانت في شوال من العام الخامس لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد جاء فيها الكفار بسبب اليهود الذين ألبوهم على المسلمين وأغروهم بأن يأتوا إلى المسلمين في بلادهم، فجاءت قريش وغطفان، وظاهرهم المنافقون من بني قريظة، وكان عدد الكفار عشرة آلاف رجل، وكان عدد المسلمين ثلاثة آلاف.
فلما رأى المؤمنون هذا الأمر قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22].
والله عز وجل وعد المؤمنين إما النصر والتمكين، وإما الشهادة والجنة.
فلما رأى المؤمنون هذا الذي أمامهم ولا طاقة لهم به قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، أي: إما ينصرنا، أو نقتل ونكون في الجنة.
وقد صدقوا الله وصدقوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد أراهم النبي صلى الله عليه وسلم آية من الآيات حين كسر الصخرة التي كانت في الخندق ومنعت المؤمنين من الحفر، فنزل إليها بنفسه عليه الصلاة والسلام وضربها ثلاث ضربات، وفي كل ضربة يتفتت جزء من هذه الصخرة ويخرج منها من الشرر ما يشاء الله سبحانه، ويرى نوراً يخرج منها، فيقول: (الله أكبر، أعطاني الله عز وجل كنوز كسرى، أعطاني الله كنوز قيصر، فتح الله عليكم اليمن)، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر من أمر الله سبحانه، فصدق المؤمنون وقالوا: هذا وعد من الله سبحانه سيكون ويتم.
وأما المنافقون فكذبوا بذلك وأظهروا كفرهم وتكذيبهم، وقالوا: يعدنا بكنوز قيصر وكسرى ونحن لا يأمن أحدنا أن يدخل الخلاء.
وظهر النفاق من هؤلاء، ودعا بعضهم إخوانهم إلى أن يهربوا إلى المدينة وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13]، أي: اتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وارجعوا إلى المدينة فلا مقام لكم في هذا المكان ولن تقدروا على الكفار، حتى جاء نصر الله سبحانه وتعالى ففضح المنافقين وأيد المؤمنين، وأخبر عن حال الفريقين، فقال عن المؤمنين: إن هذا الهم الذي كانوا فيه ما زادهم إلا إيماناً وتسليماً، فازداد إيمانهم، والمصائب والبلاء يجعلهما الله سبحانه على المؤمنين رحمة بهم، فيزدادون إيماناً بما يحدث لهم من بلاء، ويزدادون إيماناً ويقيناً، ويمحص الله ما في قلوبهم من إيمان فيظهر الإيمان، ويظهر التمسك بدين الله تبارك وتعالى.
فإن في وقت الرخاء يزعم الجميع أنهم على الدين، وأنهم يفدون هذا الدين بأرواحهم وأموالهم ودمائهم، ولكن إذا نزل البلاء لا يثبت إلا المؤمن الزائد الإيمان، فمدحهم الله سبحانه أنهم ازدادوا في هذا البلاء إيماناً، وازدادوا تسليماً لله سبحانه، ورضا بالقضاء والقدر، فرضوا بقضاء الله وبقدره، وبما يكون من أمر الله سبحانه فأعطاهم الله النصر، ومكن لهم سبحانه، ووعدهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عندما قال: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، فكان ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.(264/2)
معنى قضاء النحب
قال الله سبحانه في المؤمنين: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
مدح الله المؤمنين بأنهم لم يبدلوا وثبتوا على دينهم، فقد عاهدوا الله تبارك وتعالى وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوه على أن يجاهدوا في سبيل الله، وعلى أن يثبتوا على هذا الدين، وأن يبذلوا في سبيل هذا الدين كل غال وثمين، فيبذلوا النفوس والأموال في سبيل الله تبارك وتعالى، ويبذلوا ما استطاعوا بذله، فعاهدوا الله سبحانه وتعالى وصدقوا في عهدهم، ونفذوا ما عاهدوا عليه، فمدحهم الله بقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23].
والنحب يأتي بمعنى: العهد، وبمعنى: النذر، وبمعنى: الموت، وبمعنى: الحاجة.
والمعاني الثلاثة الأولى مقصودة في هذه الآية، أي: أنهم وفوا بعهودهم مع الله سبحانه تبارك وتعالى ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يعاهد الله ويقول: إذا لقيت الكفار ليرين الله ما أفعل، فيوفي بما قاله، كما روى أنس بن مالك عما صنعه عمه أنس بن النضر رضي الله عنهما.
فقال الله سبحانه: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، أي: عاهد ووفى بما قال، ومنهم من عاهد ولكن لم يتمكن، وسيتمكن بعد ذلك وسيوفي، فهو ينتظر الوفاء بما عاهد عليه الله سبحانه، من جهاد في سبيل الله وبذل في سبيله تبارك وتعالى.
وهذا على أن النحب بمعنى: النذر والعهد، وهذا الذي يليق بأول هذه الآية.
فهم عاهدوا الله ونذروا له سبحانه أن يبذلوا في سبيله ما استطاعوا، من بذل ومن جهد، فوفوا بعهودهم وبنذورهم.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: ينتظر فرصة ليبلي بلاءً حسناً ويظهر ذلك.
وقيل: من معانيها الموت.
{فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، يعني: قتل شهيداً في سبيل الله، ومنهم من لا يزال حياً، وسيوفي الله عز وجل بما عاهد عليه.(264/3)
غياب أنس بن النضر عن بدر واستدراكه ذلك في أحد
وقد جاءت أحاديث في الصحيحين في هذا المعنى، منها ما جاء في صحيح البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين.
وقد كان أنس بن النضر من شجعان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المؤمنين الصادقين، رضي الله تبارك وتعالى عنه وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم بدر لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين جميعهم بالخروج، وإنما أمر من كان سلاحه حاضراً أن يخرج، حتى يلحقوا عير قريش القادمة من الشام قبل أن تفوتهم، فلم يكن الخروج من أجل القتال وإنما من أجل العير؛ ليغنموها ويرجعوا بها؛ فلذلك لم يكن الأمر بالخروج واجباً على الجميع، وإنما على من كان سلاحه حاضراً، فلم يخرج أنس بن النضر رضي الله عنه؛ لأن سلاحه لم يكن حاضراً في ذلك الحين.
فخرجوا وقاتلوا فكانوا أعظم الناس عند الله عز وجل، واطلع الله سبحانه على أهل بدر فقال لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
أي: مهما عملتم من ذنوب، وحاشا لهم أن يقعوا في كبائر يعصون بها الله سبحانه، ولكن الله من عليهم بذلك ليطمئنوا، فأنتم وأنتم في الدنيا من أهل الجنة، ومصيركم إلى الجنة، وقد غفرت لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
ولم يحضر أنس بن النضر، وسمع ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، وخاف أن يقول غيرها، أو أكثر من ذلك.
وفي رواية مسلم قال أنس رضي الله عنه: عمي الذي سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً.
يعني: أن أنس بن مالك سموه على اسم عمه أنس بن النضر أما أبوه مالك فمات كافراً، ولكن عمه أنساً هذا كان مؤمناً، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فيقول: إني سميت على اسم عمي هذا.
ويقول عن عمه: إنه لم يشهد بدراً، قال: فشق عليه أن غاب أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: لئن أراني الله مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، خاف أن يقول أكثر من هذا الشيء، وخاف أن يقول: سأكون شجاعاً وأبلي بلاءً حسناً، وخاف أن يقول: سأقاتل قتالاً عظيماً؛ لأنه خاف ألا يقاتل ويفر.
فلم يقل إلا: إن الله سيرى ما أصنع.
وفرق بين المؤمنين والمنافقين الذين يدعون أشياء لا يقدرون عليها، يهربون من القتال ثم يزعمون شجاعات فعلوها، وهم لم يصنعوا شيئاً، ويقولون: لو كنا نحن لفعلنا وفعلنا، وهم لن يفعلوا، ولو كانوا حاضرين لكانوا أول من يهرب.(264/4)
موقف أنس بن النضر يوم أحد
قال أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه: فشهد يوم أحد، يعني: عمه أنس بن النضر.
قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون؛ لأن أكثر المسلمين فروا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نصرهم الله في البداية بثباتهم وبطاعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما طمع الرماة في الغنيمة، وتركوا أماكنهم التي حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتركوها، ونزلوا يجمعون الغنيمة، جعل الله عز وجل الدائرة عليهم بعدما انتصروا، فهزموا هزيمة منكرة؛ بسبب معصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى أنس بن النضر في يوم أحد المسلمين منهزمين قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء.
أي: الذين هربوا، يعتذر لله عز وجل مما لا ذنب له فيه، ولكنه قال ذلك تأدباً مع الله.
قال: وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين.
ثم تقدم للقتال، في وقت كان الكفار فيه أربعة أضعاف المسلمين.
وقد كان عدد جيش المسلمين يوم أحد ألفاً ويزيدون قليلاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، ثم عاد المنافق الملعون عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث جيش النبي صلى الله عليه وسلم من الطريق، وهرب به، راجعاً إلى المدينة، وترك النبي صلى الله عليه وسلم بين الستمائة إلى السبعمائة من المسلمين.
فكان الكفار أربعة أضعاف المسلمين عندما فر هذا المنافق عن النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه.
فلما وجد أنس بن النضر المسلمين منهزمين يوم أحد قال لله عز وجل: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وتقدم لهذا الجمع العظيم من الكفار ليقاتل وحده رضي الله عنه فيراه سعد بن أبي وقاص رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان أيضاً من الشجعان.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه: إنه استقبله وهو آت، وفي رواية أخرى: أنه استقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر.
يقسم بالرب سبحانه وتعالى أنه ينظر إلى الجنة، فيقدم على الكفار وكأنه يرى الجنة أمامه، فيقول: إني أجد ريحها دون أحد.
أي: أشم رائحة الجنة دون أحد.
قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: فما استطعت -يا رسول الله- ما صنع.
يعني: وهو من الشجعان، قال: ولكن ما قدرت أن أفعل ما فعله هذا الرجل العظيم رضي الله عنه.
قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف، والإنسان قد يضرب ضربة أو ضربتين فيقع، وهذا وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فكم الذين هجموا عليه رضي الله تعالى عنه حتى يتسنى لأحدهم أن يضربه بالسيف، والثاني يرميه بالرمح والثالث يرميه بالسهم؟ لا شك أنهم كانوا مجموعات كثيرة من الكفار قد هجموا على هذا الرجل الواحد من المؤمنين، رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى قتلوه.
فمن شدة ما صنع بهم اغتاظوا منه، فمثلوا به وشوهوه، وقطعوه حتى لم يعرفه أحد، ولم تعرفه إلا أخته ببنانه، أي: بأصبعه؛ فقد قطعه الكفار ومزقوه، حتى لم يعرف وجهه من جسده وإنما عرف بأصبعه، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان في أصبعه أثر فعرفته أخته بهذا الأثر، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال أنس رضي الله عنه: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، يعني قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، وأخته تسمى الربيع بنت النضر.
وقد كانت عائلة أنس بن مالك رضي الله عنه عائلة عفيفة جداً، هذا عمه أنس بن النضر رضي الله عنه الذي عرفناه، وأمه هي أم سليم، وخالته أم حرام بنت ملحان رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، وزوج أمه أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه.(264/5)
منزلة أنس بن النضر عند الله
فهذا الرجل العظيم أنس بن النضر قتل في سبيل الله، فماذا كانت منزلته عند الله وهو في الدنيا؟ فمن الضرورة أن تكون له في الدنيا منزلة عند الله؛ حتى يعطيه الله عز وجل هذه الشهادة العظيمة، وينزل فيه قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب:23]، وحتى يصدقه الله سبحانه وتعالى في حسن بلائه في سبيل الله سبحانه.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: إن أخته وهي تسمى: الربيع كسرت ثنية امرأة.
أي: تشاجرت مع امرأة فضربتها في سنها، فكسرت سنها، فذهب أهل المرأة يشكون للنبي صلى الله عليه وسلم: أن هذه ضربت ابنتنا، وكسرت سنها، ويريدون القصاص.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالعدل، فحكم بالقصاص كما طلبوا، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذا بـ أنس يقول: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها؛ يحلف بالله أنه لن يقع القصاص فإذا بأهل المرأة يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: عفونا.
فصدق الله يمينه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال لأصحابه: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره).
فبعد أن طلبوا القصاص ورفضوا الدية إذ بهم يرضون بها بعد ذلك، بعد أن أقسم فبر الله قسمه، وكان شهيداً بعد ذلك.(264/6)
إبرار الله لقسم البراء بن مالك رضي الله عنه
ومثله في هذه البسالة والجهاد في سبيل الله أخ آخر لـ أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو البراء بن مالك فقد كانوا من عائلة عجيبة جداً، رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وعلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فـ البراء بن مالك كان في غاية الشجاعة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وله فيها مواقف عديدة، ولكن أعجب ما فيه القسم على الله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه من الذين إذا أقسموا على الله أبرهم.
وعندما غزا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تستر في بلاد فارس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووجدوا القتال قتالاً شديداً قالوا للبراء بن مالك: يا براء! اقسم على ربك أن يمنحنا أكتافهم.
فخاف على نفسه من الشهرة؛ لأنه إذا أقسم على ربه فإنه سيستجيب له، ثم يعيش مشهوراً بعد ذلك، فرأى أنه لا ينفع أن يعيش بعد ذلك، فأقسم على ربه فقال: اللهم إني أقسم عليك لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد في المعركة، فاستجاب الله دعائه، وبر قسمه، فدارت الدائرة فقتلهم المسلمون وأسروهم، واستشهد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فما كانوا يقسمون على الله من أجل أن يشتهروا بين الناس، فإذا اشتهروا بين الناس فإنهم يكرهون العيش، ويحبون الموت؛ لأنهم لا يريدون الدنيا، وإنما يطلبون الآخرة.
إذاً: قوله سبحانه هنا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: منهم من ينتظر الوفاء بعهد الله الذي عاهده فيه على الجهاد في سبيل الله.(264/7)
وفاء الصحابة بعهدهم مع الله
وقوله تعالى: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، أي: وما غيروا دين الله سبحانه، ولم يتغيروا عما عاهدوا عليه الله تبارك وتعالى، وإنما وفوا الله بما عاهدوا الله عليه، وثبتوا على دينهم، حتى قبضهم الله، فمنهم من مات شهيداً، ومنهم من مات على فراشه، وله أجر الشهداء؛ بعهده لله سبحانه، ومصداقاً لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الإنسان الذي يتمنى الشهادة: (من طلب الشهادة بصدق يعطى أجرها ولو مات على فراشه).
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الشهداء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(264/8)
تفسير سورة الأحزاب [23 - 24]
أخذ الله سبحانه وتعالى العهد من المؤمنين الصادقين أن يجاهدوا من أجل هذا الدين وأن يموتوا شهداء في سبيله، فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فما بدلوا وما غيروا، بل وفوا بعهودهم مع الله، فاستحقوا من الله الجنة على صدقهم ووفائهم بما عاهدوا الله عليه.(265/1)
تفسير قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إن الله كان غفوراً رحيماً)(265/2)
بيان عظم الوفاء بالعهد مع الله سبحانه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:23 - 25].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المؤمنين منهم رجال عاهدوا الله سبحانه وتعالى فوفوا بهذا العهد وعاهدوه أن يجاهدوا في سبيل الله، وألا يبدلوا وألا يغيروا، وأن يثبتوا في قتالهم حتى يتوفاهم الله سبحانه أو يفتح الله سبحانه وتعالى لهم، فمنهم من وفى بهذا العهد مع الله سبحانه، ومنهم من لم يزل على الحياة ينتظر الفرصة للوفاء بهذا العهد مع الله سبحانه وتعالى، {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] أي: لم يبدلوا ولم يغيروا ما عاهدوا الله سبحانه وتعالى عليه.
والإنسان الذي يعاهد ربه على الشيء يلزمه الوفاء بما عاهد عليه في طاعته لله سبحانه، وله أجر عظيم، وإن عاهد الله ووفى بعهد فالله يمدحه، فإذا نذر نذراً ووفى بنذره فهذا إنسان وفي، وله أجره عند الله سبحانه، ولكن الذي يغير ويبدل وينسى عهده مع الله سبحانه، أو يتغافل عن ذلك، ففي هذه الآية إشارة إلى ذم مثل هذا الذي يبدل ويغير، وينقلب على عقبيه، فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه وتعالى، عكسهم المنافقون الذين يكذبون، يتكلمون بما لا يفعلونه، يقولون أشياء هم في غاية البعد عن هذا الشيء الذي يقولونه.(265/3)
الابتلاء يميز الله به المؤمن من الكافر
والإنسان المؤمن ينتظر فضل الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الله يمحصه ويبتليه حتى يثبت على هذا الإيمان وحتى يرى الله سبحانه وتعالى منه ما عاهد الله عز وجل عليه.
وقد ابتلى الله عز وجل المؤمن بالكافر، فليصبر المؤمن إذا رأى الكافر أمامه أقوى منه، وأكثر عدداً منه، فقد ثبت المؤمنون في مثل هذه المواقف، وعرفوا أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فتوكلوا على الله فكانوا مؤمنين، فمدحهم الله سبحانه، والمنافقون مذبذبون بين هؤلاء وبين هؤلاء، لا هم أظهروا إيماناً وكان في قلوبهم هذا الإيمان، ولا هم أظهروا كفراً وعلم من حالهم أنهم كفار، فهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فلذلك كان مصيرهم من الله أن يكونوا في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة، فقد فضحهم في الدنيا وسوف يعذبهم ويجعلهم في أسفل سافلين يوم القيامة، فالمؤمنون الذين مدحهم الله سبحانه وتعالى قال فيهم: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، وهذا وعد من الله مؤكد ويقين.
فقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ} [الأحزاب:24] أي: لتكون العاقبة للمؤمنين أن يجزيهم الله جزاءاً بصدقهم؛ لأنهم صدقوا الله سبحانه وتعالى فصدقهم الله، وعاهدوا الله فوفوا فاستحقوا من الله سبحانه الجزاء الأوفى، فقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، أي: بسبب صدقهم، يجزيهم ويعطيهم الثمن على ذلك الجنة بسبب صدقهم.(265/4)
معنى قوله: (ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم)
قوله تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، فالله غفور رحيم، لما ذكر المؤمنين جزم وقطع بالثواب، ولما ذكر المنافقين علقه بمشيئته سبحانه وتعالى؛ لأنه قد يتوب على المنافق الذي هو شر من الكافر، فالله غفور رحيم، ومن تاب تاب الله عز وجل عليه.
هذا أبو سفيان بن حرب الذي جاء زعيماً وقائداً لجيش من جيوش المشركين، وهو الذي فر في النهاية وقال: النجاة النجاة، وهرب من غزوة الأحزاب مع من معه، وشاء الله عز وجل أن يتوب هذا الرجل فيؤمن والنبي صلى الله عليه وسلم ذاهب ليفتح مكة، يعني: بعد يوم الأحزاب بثلاث سنوات، وكانت غزوة الأحزاب في شوال من سنة خمس للهجرة، وفتح مكة كان في رمضان من سنة ثماني للهجرة.
والإنسان قد يكون في قلبه دخن، وقد يكون في قلبه نفاق، ثم فجأة يأتي الفضل من الله سبحانه، ويتوب إلى الله فيتوب الله عز وجل عليه، ولذلك الإنسان المؤمن لا ييأس أبداً من روح الله ومن رحمته سبحانه، فهو القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فالله ودود، يتحبب إلى عباده بمغفرته وبحلمه عليهم وبكرمه سبحانه وتعالى، ونحن نعلم أذى المنافقين وكثرة مؤامراتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومع ذلك فإن الله سبحانه يعذب المنافقين إن شاء، فأدخلهم تحت خطر المشيئة، إن شاء تاب عليهم فألهمهم التوبة، وإن شاء ظلوا على ما هم فيه من كفر ونفاق، حتى يأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.
قال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ} [الأحزاب:24]، فكانوا تحت خطر المشيئة، {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24]، أي: إذا تابوا تاب الله عز وجل عليهم، مهما وقع الإنسان في أعمال الكفر والشرك، وأعمال النفاق والمعاصي، فإذا تاب إلى الله وصدق في توبته فالله يتوب عليه، حتى ولو كان قبل هذه التوبة يستحق الدرك الأسفل من النار.
ويزيد ذلك وضوحاً سورة النساء في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
صلاتهم رياء وليست حباً في الله عز وجل، ولا تقرباً إليه، ولكن ليروا الناس أنهم يصلون، قال الله سبحانه وتعالى في مثل هؤلاء: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:143].
ثم يذكر بعد ذلك سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، فالجنة درجات عالية، بعضها فوق بعض والنار دركات بعضها أسفل من بعض، فهم في أسفل نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].
ومع ذلك يدرك الله برحمته من يشاء فيقول: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:146].
والمؤمنون لهم الأجر العظيم، ومن صار إليهم ورجع معهم فهذا من المؤمنين، وله أيضاً الأجر العظيم، وإن عمل المنافقون ما عملوا، فإنهم إن تابوا صاروا مع المؤمنين؛ لأنهم أصلحوا {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:146]، أي: رجعوا للتوحيد، وأخلصوا الدين لله سبحانه، فالله يتجاوز عنهم، ويجعلهم مع المؤمنين، ومن المؤمنين، ويؤتيهم الأجر العظيم.(265/5)
معنى قوله تعالى (إن الله كان غفوراً رحيماً)
ويبين الله سبحانه سبب هذا التجاوز وهذا الكرم، فيقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]، من صفات الله سبحانه، ومن أسمائه الحسنى: أنه الغفور وأنه الرحيم، فهو يتوب على خلقه؛ لأن التوبة بيده سبحانه، ويرزق من يشاء توبة نصوحاً ثم يتوب عليه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه، فهو يتوب على من يشاء بفضله ورحمته، فنحن نفرح بكرمه، ونفرح بتوبته على عباده سبحانه وتعالى، وانظروا كيف أنه يدخل الله عز وجل الجنة رجلين أحدهما قاتل لصاحبه، ولا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى.
فهذا مؤمن يخرج للجهاد في سبيل الله عز وجل فيقتله الكافر، ثم أدركت الكافر رحمة رب العالمين سبحانه، فأسلم ومات على الإسلام فدخل الاثنان -القاتل والمقتول- الجنة برحمة منه سبحانه، يغفر لمن يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله تعالى: {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] هذا التعبير الوحيد الذي يفيد أن الغفران والرحمة صفتان من صفاته سبحانه كانت وما زالت دائمة، سأل رجل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]، يعني: كان وانتهى على ذلك في الماضي؟ فتعجب ابن عباس من غلط هذا الإنسان ومن جهله باللغة العربية، فأخبره أن معنى: {كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24]: أنه كان ولا يزال على ذلك أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينتهي منه ذلك، فهو في الماضي غفور رحيم، والآن غفور رحيم، ويوم الدين غفور رحيم، فهي صفة دائمة أبدية له سبحانه وتعالى، يعبر عنها بهذا التعبير الذي يفيد جميع الأزمان: الماضي والحاضر والمستقبل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ} [الأحزاب:24]، (إن)، للتحقيق ولتأكيد ذلك، وقوله: {غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:24] صفة ثابتة لازمة له سبحانه وتعالى، وكذلك جميع صفاته سبحانه لازمة له عز وجل لا تزول منه أبداً.
والغفر: المحو والستر، فالله يغفر، أي: يمحو الذنب ويستره، رحيم: يرحم العباد سبحانه وتعالى في الدنيا وفي الآخرة، وصفة الرحيم لله عز وجل تختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] يرحم المؤمنين، هو الرحيم وهو الرحمن، والرحمن صفة عظيمة لجميع خلقه سبحانه، وهي رحمة دائمة، والرحيم: رحمة تختص بالمؤمنين فيرحمهم يوم القيامة سبحانه وتعالى، ولا يغفر لمن مات على الكفر والشرك بالله عز وجل.(265/6)
أنس بن النضر وطلحة بن عبيد الله ممن قضى نحبه
وقال الله سبحانه في هؤلاء المؤمنين: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب:23]، أي: منهم من وفى بعهده لله سبحانه وتعالى، ومن هؤلاء الذين وفوا بعهودهم أنس بن النضر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد قاتل يوم أحد ببسالة، فكان شهيداً عظيماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ومن هؤلاء أيضاً طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم جميعاً، بشرهم الله عز وجل بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا طلحة بن عبيد الله ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم أحد حتى أصيب، وكان ذلك في سنة ثلاث من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً، وذلك لما حوصر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سبعة من الأنصار، من هؤلاء السبعة: طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من للقوم؟ من للقوم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقال آخر: أنا، حتى قتل هؤلاء الأنصار جميعاً، ولم يبق إلا طلحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من للقوم؟ فقام طلحة يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم دفاعاً شديداً فقاتل كقتال هؤلاء السبعة رضي الله تبارك وتعالى عنه حتى ضرب ضربة على يده قطعت له عرقاً رضي الله عنه، فشلت يده التي وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان المقصود بالضرب: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقاه طلحة بيده فشلت رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن طلحة: (أوجب طلحة)، أي: وجبت لـ طلحة الجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وجاء في سنن الترمذي عن طلحة بن عبيد الله أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي: سله عمن قضى نحبه؛ لأن الصحابة كانوا يخافون أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نهاهم عز وجل عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.
والنحب معناه: النذر أو الحاجة أو العهد أو الموت، فكل المعاني صحيحة، فسأل الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ولم يرد عليه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثانية، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، ثم سأله مرة ثالثة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، يقول طلحة بن عبيد الله: فدخلت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من السائل عمن قضى نحبه؟) فقال الأعرابي: أنا، قال: (هذا ممن قضى نحبه!) فذكر طلحة بن عبيد الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فعلمنا من الحديث أن من قضى نحبه ليس معناه: الموت؛ لأن طلحة حي وليس ميتاً، فمن فعل ذلك يكون المعنى {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23]، أي: وفى بنذره، ووفى بعهده مع الله عز وجل، وقد يكون منهم من مات، فالآية ليست متعلقة بمن مات فقط، بل هي متعلقة بمن وفى بنذره سواء مات أو كان باقياً على قيد الحياة.(265/7)
مصعب بن عمير ممن قضى نحبه
جاء أيضاً في حديث رواه البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر مصعب بن عمير وكان قد مر عليه صلى الله عليه وسلم في أحد وهو مقتول رضي الله تبارك وتعالى عنه فذكر هذه الآية.
وكان مصعب أول داعية إلى الإسلام في المدينة، حيث سبق النبي صلى الله عليه وسلم في المجيء إلى المدينة، وظل يدعو الناس في المدينة، فما ترك من بيت إلا ودخل فيه الإسلام بفضل الله ثم بسبب مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان جهاده وبلاؤه حسناً.
وكان مصعب في مكة شاباً فتياً غنياً عزيزاً في قومه، وكانت أمه غنية جداً، وكانت تنفق عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وتعطيه مالاً كثيراً، ومع ذلك فضل أن يدخل في دين الله عز وجل، وأن يترك المال الذي كان فيه، فترك الغنى وترك الترف، ودخل في دين الله عز وجل ليبتلى ويقتل شهيداً رضي الله تبارك وتعالى عنه في يوم أحد، فقيراً ليس معه شيء إلا بردة، إذا كفنوه فيها فغطوا رأسه بدت قدماه، فإذا غطوا قدميه بدا رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذكره وقرأ هذه الآية: ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23])، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم).
فأمرهم بأن يزوروا شهداء أحد، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم شهداء عند الله عز وجل.
فالمعنى هنا: أن هؤلاء قضوا ما أمر عز وجل به، ووفوا لله سبحانه بعهدهم، فكان لهم الأجر العظيم عند الله، ولهم الجزاء على صدقهم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} [الأحزاب:24]، ليس من جنس طلحة فقط، بل منهم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، وحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنس بن النضر، وصحابة كثيرون، كلهم قضوا ما أمر الله عز وجل به، عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وعاهدوه على الجهاد في سبيل الله، وبايعه بعضهم على الموت في سبيل الله شهداء، فكان أن وفوا لله عهدهم فأعطاهم الله الأجر العظيم.
نسأل الله عز وجل أن يحشرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هؤلاء الصحابة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(265/8)
تفسير سورة الأحزاب [25 - 27]
اجتمع المشركون يوم الأحزاب على حرب الإسلام، وساندهم اليهود بخيانة العهد، ولكن رد الله الذين كفروا بغيظهم وأنزل الذين ظاهروهم من اليهود فمكن المسلمين من رقابهم.(266/1)
تفسير قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:25 - 29].
في هذه الآيات يخبرنا الله تبارك وتعالى عن الذين كفروا أنهم جاءوا من قريش وغطفان فردههم الله سبحانه خائبين خاسرين لم ينالوا خيراً، ظنوا أنهم ينتصرون على الإسلام والمسلمين، وأنهم سيغنمون المدينة وما فيها، فردهم الله خاسرين خائبين لم ينالوا شيئاً من الخير، ورجعوا متغيظين، قل موتوا بغيظكم.
وكفى الله المؤمنين القتال بقدرته وقوته تبارك وتعالى، ودون شدة قتال، وإنما كان القتال شيئاً يسيراً من بعض الكفار الذين عبروا الخندق إلى المسلمين، فقتلهم البعض من المسلمين وهم عدد قليل، ومن المسلمين كذلك؛ ليري الله سبحانه المؤمنين كيف أنه بقوته سبحانه وبأمره يرتد الكفار خائبين خاسرين مدحورين بغير قتال من المسلمين، جاءوا بغيظ وحنق فرجعوا به وبأزيد منه، ولم ينالوا خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وكفى الله المؤمنين القتال، وكم ممن لا كافي له ولا مؤوي! ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يثني على ربه سبحانه في كل ليلة حين ينام صلوات الله وسلامه عليه يقول: (الحمد لله الذي كفانا وآوانا، والذي أطعمنا وسقانا، والذي من علينا فأفضل، والذي أعطانا فأجزل، الحمد لله على كل حال، رب كل شيء ومليكه، وإله كل شيء، نعوذ بك من النار).
وكان يقول: (الحمد لله الذي كفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي).
الله كفى المؤمنين، فأمنهم بعد أن كانوا خائفين، ووعدهم -ووعده الصدق سبحانه تبارك وتعالى- أن ينصرهم فرأى المؤمنون أن الأمر أشد وأصعب، فلما زلزلوا زلزالاً شديداً إذا بالنصر يأتي من عند الله، وكفى الله المؤمنين القتال فعرفوا نعمة الله، وهم الذين صدقوا الله {قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] فاستسلموا وسلموا لقضاء الله وقدره، ورضوا بما هم فيه من أمر أراده الله سبحانه تبارك وتعالى، وانتظروا كيف يفرج الله سبحانه تبارك وتعالى عنهم هذا الغم.
وقد قال الله عز وجل في كتابه: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6] وقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (واعلم أن الفرج مع الكرب).
اعلم أن النصر بيد الله سبحانه تبارك وتعالى يأتي في وقت الضيق والكرب والشدة، ويأتي الفرج في وقت ما يشتد الكرب على الناس، فالنصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسراً، وجاء اليسر والفتح من عند الله، وجاء وعد آخر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحدث أبداً أن يأتي هؤلاء الكفار مرةً ثانية إلى المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).
{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25] الله القوي القادر يحكم أمره ويفعل ما يشاء سبحانه، ولا راد لأمره سبحانه.
فالله عزيز غالب لا يغلب ولا يمانع سبحانه وتعالى، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن فيكون على ما أراد الله سبحانه، وإن أراد الخلق غير ما أراد الله سبحانه وتعالى فأمره لا بد وأن يكون، فهو العزيز المنيع الذي لا يغلب.(266/2)
تفسير قوله تعالى: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)(266/3)
معنى قوله: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم)
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} [الأحزاب:25] فهؤلاء المشركون -كفار قريش وغطفان- رجعوا بغيظهم لم ينالوا خيراً.
أما اليهود الكفرة المجرمون فقال: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26].
وظاهر بمعنى: ناصر وأيد، وكان معه ظهيراً أي: مدافعاً عنه، ومقوياً له، فاليهود ظاهروا الكفار أي: قووهم وقالوا: نحن معكم، اليهود من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، والكفار من أمامه من المشرق والمغرب، فإذا بالله يخذل الجميع، وأنزل هؤلاء الكفرة من بني قريظة من اليهود من صياصيهم.
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26] والصياصي: الحصون، فأنزلهم الله عز وجل من حصونهم يعني: مكان مناعتهم وقوتهم، فهذا هو معنى الصيصية للشيء أنه الذي يدفع به عن نفسه، ومنه يقال: صياصي البقر أي: قرونها؛ لأنها تدفع بقرونها عن نفسها، وكأن الصياصي مكان الدفع عن الإنسان والمكان الذي يتحصن فيه.
فبنو قريظة تحصنوا في حصونهم فأنزلهم الله سبحانه وتعالى من حصونهم، واليهود دائماً وأبداً يجهزون لأنفسهم ويعملون حساب القتال، فيملئون الحصون طعاماً وشراباً بحيث يقعدون فيها سنين من غير ما يقدر أحد أن ينزلهم منها، ولكن أنزلهم الله تبارك وتعالى رغم أنوفهم، فرفضوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وارتضوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وظنوا أنه سيجاملهم، وأنه كالمنافق عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه الذي جامل اليهود ومات على كفر ونفاق، وحاشا لله أن يكون سعد بن معاذ كذلك، وإنما هو الرجل التقي النقي المحب لله عز وجل ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه، فأنزلهم الله سبحانه من حصونهم.
قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26] فقد كانوا متحصنين ومستعدين أن يمكثوا أشهراً طويلة في هذه الحصون، ولكن الله سبحانه له جنود يلقون الرعب في القلوب فأرعبهم فإذا بهم يخافونه، وينزلون من حصونهم، وقد قال لهم أبو لبابة بن عبد المنذر: إنما هو الذبح، فازداد رعبهم، ونزلوا ليذبحوا ويقتلوا فقتل منهم ما بين الستمائة إلى السبعمائة إلى لعنة الله سبحانه تبارك وتعالى، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم وحكم فيهم سعد بن معاذ بحكم الله سبحانه، فقتل هؤلاء.
قال الله سبحانه: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} [الأحزاب:26] قتلتم فريقاً من هؤلاء اليهود، وأسرتم آخرين كان حكم سعد بن معاذ أن تقتل المقاتلة من اليهود، ويؤخذ النساء والصبيان أسارى وسبياً، فالله عز وجل من على المؤمنين بذلك.
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26] وهذه قراءة الجمهور: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} [الأحزاب:26].
وقرأ يعقوب: (مِنْ صَيَاصيهُمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ)).
و (الرعب): قراءة الجمهور فيها بتسكين العين، وقراءة ابن عامر والكسائي.
وأبو جعفر ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين.
وفي وصل (قلوبهم الرعب) قراءات للقراء، فيقرأ يعقوب: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمِ الرُّعْبَ) بكسر الهاء والميم على الوصل بالكلمتين.
وقرأ الكسائي: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرُّعُبَ) بضم الهاء والميم وبضم العين أيضاً.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ)) على قراءة غيرهم أنه بكسر الهاء في قلوبهم، وبضم الميم على الوصل، و (الرعب) بضم العين فيها.
وقرأ: (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعُبَ) حمزة والكسائي وخلف.
وباقي القراء: (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرُّعْبَ).(266/4)
معنى قوله: (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم)
قال الله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] الله تبارك وتعالى إذا أراد شيئاً لابد وأن يكون، وكل شيء عنده بمقدار، فالمؤمن يتمنى من الله سبحانه أن ينصر الإسلام والمسلمين، ويتمنى من الله أن يغنم المسلمون أموال الكفار.
والله عز وجل له حكمة عظيمة بالغة، دعا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة إلى ربه ثلاث عشرة سنة ولا مال للمسلمين، ولا شيء لهم، فقد كانوا فقراء، وكانت الدعوة بطيئة جداً في مكة، كانوا يدعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والذين يستجيبون هم عدد قليل.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان أهل المدينة كذلك في فقر، والمسلمون جاءوا إلى المدينة فعانوا من الفقر والشدة سنين طويلة، وصبروا على ذلك حتى جاءت بعض الفتوح منها هذا الفتح، فإذا بهم يغنمون في سنة خمس من الهجرة بعد ثماني عشرة سنة من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وجاءت الأموال للمسلمين فقال الله سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب:27] أي: بني قريظة {أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:27] غنموا كل ذلك، وأخذوا نساءهم وأولادهم سبياً، فالله عز وجل فتح لهم فتحاً من فضله سبحانه وتعالى.
{وَأَوْرَثَكُمْ} [الأحزاب:27] وهنا الإرث ما يئول من إنسان إلى إنسان آخر، فاليهود قتلهم الله سبحانه وتعالى، وورث أموالهم للمسلمين، وكذلك ديارهم، هل كان المسلمون يظنون ذلك قبل القتال؟! هم كان يكفيهم أن يرجع الكفرة فقط، بل أكثر من ذلك كاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لمن جاء من غطفان ثلث ثمار المدينة على أن يذهبوا، وعاهد اليهود على أن يكفوا شرهم عن المسلمين، لكن أعلنوا: إنا مع قريش، فإذا بالله سبحانه وتعالى يزلزل الناس وحتى يتبين الجيد من الرديء حتى يظهر الإنسان المؤمن بإيمانه ويظهر الخبيث المنافق بنفاقه، فميز بين الطائفتين وجاء الفتح والفرج من عند الله سبحانه، ورد الكفار جميعهم لم ينالوا خيراً ولا ثمرةً من ثمار المدينة.
ثم رجع المسلمون إلى اليهود ليحاسبوهم على غدرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فغنموا أراضي اليهود التي لم تكن على بال المسلمين قبل القتال، وغنموا ديارهم وأموالهم ونساءهم وذراريهم.(266/5)
ما وعد الله به رسوله يوم الأحزاب
ثم من الله عز وجل على المؤمنين ووعدهم أيضاً: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
أي: سنعطيكم أرضاً لم تطئوها، ولما هاجروا من مكة إلى المدينة منعوا من مكة ولم يستطيعوا أن يرجعوا إلى مكة مرةً ثانية، فالله عز وجل يعدهم وعداً حقاً يقول: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] وهي مكة، فكان هذا الوعد بعد ثلاث سنوات حيث فتح الله عز وجل للمؤمنين مكة فدخلوها ووطئوها وصارت أرضاً للإسلام، ولا هجرة بعد ذلك من مكة إلى المدينة.
قال: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] كان ممنوعاً عليكم أن تذهبوا إليها، حتى إنه في الحديبية بعد غزوة الخندق ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ألف وخمسمائة من المسلمين، فهم عدد قليل يذهبون ليعتمروا لا يخافون إلا الله سبحانه وتعالى، ثم هم يمنعون وكادوا يقاتلون، ثم إذا بالكفار يتعاهدون مع المسلمين: أن ارجعوا هذا العام، وتعالوا في العام القادم لتدخلوا مكة.
فاعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضية سنة ثمان للهجرة وتوجه إلى مكة، ومعه حوالي خمسمائة فقط، ثم إذا بالله تبارك وتعالى يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم مكة في السنة التي تليها، ففي سنة سبع للهجرة دخل عدد قليل مكة وقال لهم المشركون: لكم ثلاثة أيام فقط، ثم بعد ذلك فتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة بفضل الله سبحانه.
فهم لم يكونوا يقدرون على أن يطئوها فوصلوها بعد ذلك وصارت أرض إسلام قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] يا ترى مكة فقط؟ لا، وإنما دخلوا مكة ثم توجهوا إلى هوازن والطائف، وفتح الله عز وجل لهم بلاداً كان مستعصية عليهم.
وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم قبل هجرته إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وكانت قريش قد شددت عليه وآذته حتى خرج وترك مكة ثم توجه إلى الطائف؛ فإذا بهم يقفون له صفين ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه صلوات الله وسلامه عليه، ثم إذا بالطائف تفتح بعد ذلك، {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] فتحت.
ولما توجهوا إلى حنين وكانوا في قوة ظن المسلمون أنهم بقوتهم يفتحون هذا المكان فما استطاعوا، ووقف لهم الكفار في الشعاب فرشقوهم بالسهام والرماح، ففروا وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء النصر من عند الله سبحانه، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الكفار يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه، وإذا به ينادي على الأنصار فيأتون إليه، وقبل أن يأتوا جاء النصر من عند الله، وبدأ من مع النبي صلى الله عليه وسلم يأسرون من الكفار بفضل الله ورحمته؛ ليعلم الخلق أن النصر من عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وكان الله على كل شيء مما وعدكم ومما لم يعدكم به قديراً، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] لا ترد قدرته، ولا يجوز عليه العجز، تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً.
ولما جاء الفتح، وجاءت المغانم، وفتحت الدنيا على المسلمين، فإذا بنساء النبي صلى الله عليه وسلم ينظرن إلى المال الطيب ويقلن: أعطنا مما أعطاك الله.
وهنا تأتي آيات التأديب لنساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم طاهرات مطهرات، فربنا تبارك وتعالى اختارهن لنبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
الدنيا لم يطلبها صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول للمؤمنين: (ليس لي من أموالكم ولا من هذه المغانم غير الخمس) ليس لي منها أكثر من ذلك ولو شعرة من بعير، والخمس ماذا سيعمل به رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ يقول: (والخمس مردود عليكم) سأرده عليكم في الضيوف الذين ينزلون علينا وفي الفقراء والمحتاجين، وفي الأرامل واليتامى، والذي يموت وعليه دين فأنا أسدد عنه هذا الدين، فإذا مت أنا فليس لي من المال شيء، ولا لآل محمد ولا لنسائه صلى الله عليه وسلم، بل هو صدقة على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة) المال الذي نتركه يكون صدقة لا أحد يرث من هذا المال من أهالينا، فلم يمتع النبي صلى الله عليه وسلم بمال في الدنيا صلوات الله وسلامه عليه.
فكان نساء النبي عليه الصلاة والسلام يطلبن النفقة والنبي صلى الله عليه وسلم يصبر عليهن، حتى بدأت بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم تغاضبه على النفقة في سؤالها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يغضب منهن، وينزل القرآن يخيرهن: إما أن تعشن على هذا الوضع الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الآخرة، وإما أن يفارقكن بالمعروف كما سيأتي في الدرس القادم إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(266/6)
تفسير سورة الأحزاب [28 - 29]
اختار الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه أزواجاً ليكن قدوات لنساء الأمة جمعاء، فاصطفاهن وطهرهن وزكاهن، وكان أعظم تزكية لهن أن خيرهن بين حب الله ورسوله والدار الآخرة وبين حب الدنيا والمال، فكن أعقل النساء وأعظمهن رجاحة وعقلاً حين اخترن الله وصحبة نبيه في الدنيا والآخرة، فكن الأزواج المطهرات والداعيات إلى الله، والمبلغات عن الله ورسوله ما عملن من هذا الدين.(267/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا)(267/2)
سبب نزول آية التخيير
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:28 - 31].
لما ذكر الله تبارك وتعالى في الآيات السابقة في هذه السورة كيف نصر المؤمنين على الكفار، وكيف رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكيف أنزل الذين ظاهروهم من بني قريظة من صياصيهم وألقى في قلوبهم الرعب، وجعل للمؤمنين أن يقتلوا ويأسروا من هؤلاء، وغنموا مغانم كثيرة في ذلك، ثم بدأت الفتوح من الله عز وجل على المؤمنين فتلاها فتوحات عظيمة، فكان هذا تمهيداً لما جاء بعد ذلك من فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة، ومن قتال هوازن وحنين ونصر المؤمنين في هذه المواطن، وفتح الله عز وجل الفتوح على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
لما رأت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك -وعادة النساء إذا وجدن الخير أن يطلبنه- طلبن من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة النفقة، والنبي صلوات الله وسلامه عليه كان يدخر لأهله قوته ثم ينفق ما زاد عن ذلك على الضيف، وعلى الفقراء والمساكين، وعلى كل من يحتاج، ومن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم من وفود ونحو ذلك.
فكأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم غاضبنه وهن يطلبنه مرة وراء مرة، فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً كاملاً، حتى ظن بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه.
لم يطلقهن عليه الصلاة والسلام ولكنه هجرهن تأديباً لهن، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم عظيم، وأيضاً مقام نساء النبي صلى الله عليه وسلم مقام عظيم، فالمقام مقام القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للمؤمنات، تقتدي كل مؤمنة بنسوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فينبغي أن يترفعن عن طلب الدنيا، وعن طلب الزيادة من المال، وعن النظر إلى حطام الدنيا، فكان من الله سبحانه أن أدب نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى يصلحن أن يكن نساءه في الجنة عليه الصلاة والسلام، فكان التأديب بأن هجرهن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنزل الله عز وجل هذه الآية في تخيير نساء النبي عليه الصلاة والسلام.(267/3)
معنى قوله: (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
أي إذا كنتن تردن الدنيا ومتاعها وحطامها فإننا سنعطيكن ذلك ونطلقكن طلاقاً جميلاً، والطلاق الجميل: هو طلاق السنة، فيكون إذا استحالت العيشة ما بين الرجل وامرأته أن يطلقها على السنة طلقة واحدة له أن يراجعها فيها.
كذلك يمتعها بعد طلاقها سواء كان مفروضاً لها المهر أو ليس مفروضاً لها، فالمتعة على وجه الاستحباب في هذه الحالة.
إذاً المعنى: تعالين أمتعكن ما شئتن من مال ثم أطلقكن الطلاق الجميل الذي لا عضل فيه ولا أذى، فتذهب المرأة لحالها وتأخذ متاعها، ولتترك النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى ربه صلوات الله وسلامه عليه على ما هو عليه من موضع وضعه الله سبحانه وتعالى فيه.
يقول هنا: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] يعني: أعطيكن متعة الطلاق، وهو المال الذي يعطى للمرأة نفقةً لها بعد طلاقها، وهذا إما أن يكون واجباً إذا كانت المرأة لم تعط مهراً، ولم يفرض لها صداق.
فإذا كانت المرأة قد أعطيت الصداق فيكون إعطاء المتعة لها مستحباً لا فرضاً، فقال: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] والتسريح هنا بمعنى: التطليق، وجاء في القرآن لفظ الطلاق ولفظ التسريح، وهما بمعنى واحد، فمن صريح ألفاظ الطلاق كلمة الطلاق، وأيضاً: كلمة التسريح على قول الكثير من أهل العلم.
{وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] يعني: على طلاق السنة وليس فيه مغاضبة، ولا أذى، وليس فيه إعضال.(267/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن كنتن تردن الله ورسوله)
{وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} [الأحزاب:29] إذا أردتن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلوات الله وسلامه عليه والدار الآخرة؛ فلا تطلبن الدنيا، ولا متاعها الزائل، ولا حطامها، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً.
إذاً: هنا وصلنا إلى درجة الإحسان، فإذا طلبنا الله والرسول عليه الصلاة والسلام وطلبنا الدار الآخرة وصلنا لدرجة الإحسان، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أي: فإذا وصلتن إلى درجة الإحسان فإن لكل محسنة منكن عند الله الأجر العظيم.
فهنا جاءت الآية للتخيير بين الدنيا والآخرة، بين البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال وبين متاع الحياة الدنيا.
إذا كنتن تردن الله والدار الآخرة فلا بد من الصبر على أمر الله سبحانه، ولكن عند الله الأجر العظيم.(267/5)
قصة تخيير النبي لنسائه وهجره لهن
روى الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه لم يؤذن لأحد منهم، فأذن لـ أبي بكر فدخله، ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالساً حوله نساؤه واجماً ساكتاً) صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: هنا دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت واجم، هيئته هيئة الغضبان عليه الصلاة والسلام فقال: (والله لأقولن شيئاً أضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
هذا عمر لقي النبي صلى الله عليه وسلم غضبان حزيناً فقال: سأقول له مقالة أضحكه بها، قال: (فقال: يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة -زوجة عمر - حين سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: جاء على المقصود والمطلوب، فـ عمر بن الخطاب قال هذه الكلمة ولم يعرف ما هو الأمر، ولكن وافق ما عند النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من أنه عمر أدبها وضربها رضي الله تبارك وتعالى عنه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (هن حولي كما ترى يسألنني النفقة) أي: كلهن قاعدات يسألنني النفقة.
قال: (فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها) هنا التأديب الآن من أبي بكر لـ عائشة.
وقام عمر يضرب حفصة ابنته كلاهما يقول: (تسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أبداً ليس عنده) يعني: لا نطلب منه حاجة ليست عنده، وإنما نطلب من المال الذي عنده.
وهنا اعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم شهراً يعني: بعد هذا الأمر قام واعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة له صلى الله عليه وسلم مرتفعة، ثم نزلت هذه الآية بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] فبدأ بـ عائشة فقال: (يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمراً أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك).
السيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وكان عمرها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة صلى الله عليه وسلم وعمرها تسع سنوات، ومات عنها صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة.
إذاً: كانت صغيرة في غزوة الأحزاب، فقد كانت في سنة خمس من الهجرة، يعني: كان عمرها حوالي أربع عشرة سنة تقريباً.
كونه يقول لها صلى الله عليه وسلم: (أخيرك) هنا راعى النبي صلى الله عليه وسلم أنها صغيرة في السن، ممكن يكون فيها نوع من الاندفاع والتهور لا تفهم شيئاً، فلذلك قال لها: أنا سأقول لك شيئاً لا تعجلي فيه واستشيري أبويك في ذلك.
فقالت: (وما هو يا رسول الله؟! فتلا عليها هذه الآية) وهنا ظهرت رجاحة عقلها رضي الله عنها، وأنها وإن كانت صغيرة السن لكنها كبيرة في القلب والعلم والعقل رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقالت لرسول صلى الله عليه وسلم: (أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك ألا تخبر أحداً من نسائك).
وهذه فرصة لـ عائشة أنها تطلب الدار الآخرة وتريد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حظ نفسها أنها لا تريده أن يقول لأحد من نسائه أنها قالت هذا القول، فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) عليه الصلاة والسلام.
النبي صلى الله عليه وسلم مقامه مقام عظيم، مقام المعلم، مقام التيسير على الناس، فلا معنى لأن تسأله نساؤه عن قول السيدة عائشة فيكتم عنهن، فالدين ليس فيه أغلوطات، نهينا عن الأغلوطات في المسائل، كأن تطرح المسألة بصورة غلط حتى لا يعرف الصواب، وخاصة إذا كان ذلك في القرآن.
فبعض الناس لما يسمع القرآن يتحير عندما يقول له أحد: الآية كذا أو كذا؟ حتى يخبطه في الإجابة فهذا ليس تعليماً، ولكن إن شئت فحفظ الإنسان واسمع منه هذا الذي يقرأ وتسأل وهو يجيب عليك، أما أن تغلطه في الشيء بحيث إنه يقول في القرآن أو في السنة خطأ فهذا لا ينبغي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث متعنتاً، ولا معنفاً عليه الصلاة والسلام، وإنما كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال هنا: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) هذه الرواية هنا.
وفي رواية للترمذي أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة).
ثم مضى على نسائه عليه الصلاة والسلام وكل امرأة من نسائه قالت كما قالت عائشة رضي الله عن الجميع، فاخترن الدار الآخرة، واخترن الله ورسوله، ولم يطلبن شيئاً من الدنيا.(267/6)
الحكمة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من زوجة
نساء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرهن الله عز وجل في القرآن وناداهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} [الأحزاب:30] فأخبرهن فقال: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ} [الأحزاب:30].
إذاً: إذا جاءت بالشيء الذي فيه الأجر والثواب فإنه يضاعف لها الأجر والثواب، وإذا جاءت بفاحشة فسيضاعف لها العذاب، فناداهن الله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
فالتي تدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم تكون طاهرة مطهرة، يريد الله أن يطهرها ويرفع درجتها، لذلك جعل الله عز وجل لنبيه أن يتزوج ما شاء من النساء يكن طاهرات مطهرات، يبلغن دعوة الله تبارك وتعالى التي أمرهن بالتبليغ، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
احتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج عدداً من النساء، فلا تكفي واحدة ولا اثنتان ولا مجموعة من النساء قليلة في تبليغ هذا الدين العظيم، فالله بكرمه تبارك وتعالى نظر إلى مصلحة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى مصلحة نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى مصلحة الأمة كلها.
النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله، والأحكام التي تنزل منها أحكام تكون ظاهرة فيعلمها الناس، وأحكام تكون خفية فلا يعلمها إلا العدد القليل، وأحكام تأتيه وهو في بيته، وأحكام تأتيه وهو عند الناس، يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله في بيته، ولا يمكن لكل الناس أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقابل الجميع في وقت واحد ليسمعوا منه، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسمعن من باقي الناس، ويجبن بما يحدث عند النبي صلى الله عليه وسلم وبما عرفن من القرآن ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى نسائه مثل كل إنسان منا، ولو تخيلنا له صلى الله عليه وسلم زوجة واحدة فقط وهو مشغول بالدعوة إلى الله وهي داعية معه؛ فمن سيقوم بحق النبي صلى الله عليه وسلم الواجب عليها في البيت؟ فتخيل لو كنت أنت عندك امرأتك، وأنت رجل عندك عملك وبيتك وواجبك، وزوجتك متفرغة للدعوة، تذهب إلى الجامع الفلاني، وتذهب لتحفظ قرآناً في المدرسة، فهي ليل نهار مشغولة بالدعوة إلى الله، لذلك يقوم الإنسان فيقول لها: أنا أريد حظي ونصيبي، لابد أن يأخذ الإنسان راحته في بيته.
فالله بكرمه سبحانه جعل للنبي أن يتزوج ما شاء، فتزوج النبي صلى الله عليه وسلم تسعاً في وقت واحد، فالمرأة التي ليس هو عندها يأتيها من يشاء فيسألها، وتأتيها النساء يسألنها، كل امرأة تحكي مشاكلها فتجد من يجيب عليها، فتكون المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم متفرغة ثمانية أيام، فهو عنده صاحبة القسم، فيقسم بين نسائه صلى الله عليه وسلم، وإذا فرغ من هذا اليوم ذهب إلى الثانية في اليوم الذي بعده.
إذاً: هذه في باقي الأيام تدعو إلى الله عز وجل، وتخبر بما أخبر الله عز وجل به، وتذكر ما يحدث في البيوت من أحكام وحكم، فهذا مقام التعليم، فلذلك كانت الواحدة لا تكفي والثنتان لا تكفي، والثلاث لا تكفي، فأباح له الله أن يتزوج ما شاء، فيدعو إلى الله، وتدعو نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه وتعالى.
إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم وكانت له امرأة واحدة فربما تنسى أشياء، وكل إنسان معرض للنسيان، فامرأة واحدة لا تكفي في تبليغ هذا الدين العظيم وبكل ما يحدث في أمور النساء، وأمر بيت النبي صلى الله عليه وسلم، الإنسان منا ينسى ماذا عمل أمس، وماذا عمل في أول السنة، فكل منا قد ينسى، فكيف بالمرأة التي هي مشغولة بحال النبي صلى الله عليه وسلم؟! إذا مات عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحصل لها من الحيرة والاندهاش والحزن والغم على النبي صلى الله عليه وسلم ربما تنسى أحكاماً كثيرة، فإذا كن نساء كثيرات ذكرت إحداهن الأخرى بهذا الشيء، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يتزوج عدداً من النساء يكون فيهن الخير والدعوة إلى الله سبحانه.
وقد عمرن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهن التي عاشت حتى سنة خمسين من الهجرة، والتي عاشت حتى سنة ثماني وخمسين من الهجرة، فبعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة أو خمسين سنة وهناك امرأة موجودة من نسائه تدعو إلى الله سبحانه، ويسألها الناس، ويحتاج إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلها الوحيدة تجتهد في أمر من الأمور ويخالفها الباقون، فتكون أخطأت في هذا الشيء، ولو كانت امرأة واحدة فسيؤخذ كلامها على أن هذا كلام نهائي، ولكن لم يكن هذا في واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
انظروا إلى حادثة من الحوادث مثلاً: السيدة عائشة رضي الله عنها اجتهدت في أمر رضاع الكبير، مع أن الرضيع يفطم بعد سنتين من رضاعه.
فهل ممكن أن نرضع من عمره ثلاث سنين أو أربع ويصير ابناً لك إذا أرضعته زوجتك؟ هذا حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع سالم مولى أبي حذيفة حيث صار بالغاً عند أبي حذيفة رضي الله عنه، وبدأ أبو حذيفة يغار منه، وهو الذي تربى في بيته فقد كان عبداً عنده، ثم أعتقه وصار كأنه ابن لـ أبي حذيفة رضي الله عنه.
فذهبت امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال لها: (أرضعيه حتى يذهب ما في نفس أبي حذيفة) فأرضعته وعمره فوق العشر فصار ابناً له، فجاءت مسألة من المسائل وهي رضاع الكبير، هل هذه القضية خاصة بـ أبي حذيفة فقط أم أنها له ولغيره؟ فأكثر علماء الأمة على أنها لـ أبي حذيفة فقط، فالسيدة عائشة أخذت بأنه ما كان في سالم مولى أبي حذيفة فهو لغيره، فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد، تأمر أحداً من أهلها أن يرضعه، وعندئذٍ فمن الممكن أن يدخل على عائشة بهذا الرضاع، وتصير له بمنزلة الخالة من الرضاعة، فاجتهدت في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها.
فلو كانت وحدها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم لأخذ هذا الحكم على أنه حكم مسلم به، ولكن نساء النبي صلى الله عليه وسلم الباقيات اعترضن وقلن: لا يدخل علينا أحد بمثل هذا الرضاع، وهذا اجتهاد منك أنت، وقصة سالم مولى أبي حذيفة لا نراها إلا لـ سالم فقط، وليست لغيره.
كذلك زواج النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الإسلام حين كان غريباً، فهو بدأ برجل واحد، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكل من في الدنيا كان عليه وضده، ولا بد من بذل أسباب حتى يقرب من الناس ويقرب الناس إليه، فكان من ضمن الأسباب: النكاح، فعند العرب: إذا تزوج الإنسان بامرأة من قبيلة صارت القبيلة كلها أهلاً لهذا الإنسان، فيكون له قوة من الناس، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نبذه أهله فسيجد من هؤلاء من يكون بينه وبينهم صلة رحم، فيراعون ما بينهم وبينه لأنه متزوج منهم، فيفرحون بذلك ويسمعون منه صلوات الله وسلامه عليه.
فعندما يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم من هذه القبيلة وهذه القبيلة فيقرب بعضهم إلى بعض، ويؤاخي بينهم، فتكون قوة لدين الله سبحانه وتعالى.
كذلك الزواج كان له أسباب أخرى، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج المرأة ليس لها أحد، تكون مهاجرة في مكان، وزوجها مات في مكان آخر، مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذه أبوها شيخ قريش، وكان من الكفار، وكانت مهاجرة مع زوجها في بلاد الحبشة، فمات زوجها هناك، فهل ترجع إلى أبي سفيان ليعذبها؟ ذهبت إلى المدينة وليس لها أحد، فكان من النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوجها ليكون هو وليها صلوات الله وسلامه عليه، ويشرفها صلى الله عليه وسلم بذلك.
أمر آخر: أنه لعل قلب أبي سفيان وابنه معاوية يميل إلى الدين، وقد فرح أبو سفيان بنكاح النبي صلى الله عليه وسلم لابنته فرحاً شديداً، وظل هذا في قلبه شيء حتى قبل فتح مكة بشيء يسير، ثم دخل في الإسلام.
إذاً: كان هناك حكمة من نكاحه صلى الله عليه وسلم لعدد من النساء.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(267/7)
تفسير سورة الأحزاب (تابع1) [28 - 29]
من حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تبليغهن رضي الله عنهن أحكام الإسلام بعد موته صلى الله عليه وسلم، وهناك حكمة أخرى في ذلك وهي تقوية الرابطة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقبائل شتى من العرب، وأمهات المؤمنين هن القدوة الحسنة لنساء المسلمين.(268/1)
تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29].
يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه: إن كن يردن الحياة الدنيا وزينتها فيمتعهن النبي صلى الله عليه وسلم ويسرحهن سراحاً جميلاً، وإن كن يردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً.
فخيرهن النبي صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله، واخترن الدار الآخرة، وتركن الدنيا بما فيها، فكان لهن عند الله عز وجل أعظم الأجر، قال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:29].
وقدمنا أن الله سبحانه ربى نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم التربية فكان عبداً لله، عبد ربه حق العبودية، وتوجه إلى ربه سبحانه بكل طاعة أمره الله عز وجل بها، وتواضع لربه عليه الصلاة والسلام فاستحق أعظم الدرجات عند الله سبحانه، قال له ربه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
فجعل له الله عز وجل يوم القيامة المقام المحمود بعبادته لربه، وبتواضعه لله، وبانصرافه عن الدنيا، كانت تأتيه الدنيا عليه الصلاة والسلام فإذا به ينفق ويخرج المال، وكان يحزن أن يبقى عنده المال أكثر من ليلة، فيصلي بالناس الفجر ثم يهرع إلى بيته عليه الصلاة والسلام، فيتعجب الناس لسرعة النبي صلى الله عليه وسلم في دخول بيته، فيقول: (تذكرت مالاً قد آتانيه الله فهو عندي)، فكان صلى الله عليه وسلم يسرع لينفقه، وليخرجه لمن يستحقونه ويقول: إنه لا يفرح أن يبيت ثلاث ليال وعنده مال يدخره صلى الله عليه وسلم، ولا يحب ذلك بل يصرفه هكذا وهكذا وهكذا، فأنفق هذا المال في كل وجه من وجوه طاعة الله سبحانه وتعالى ولم يبق شيئاً.
فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لا يبقي شيئاً من المال عنده، إلا ما يكون من نفقة لنسائه وما عليه من دين، أما غير ذلك فكان ينفق المال كله صلوات الله وسلامه عليه، وكان بلال هو المسئول عن نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأمره النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق بلال! ولا تخف من ذي العرش إقلالاً) أي: أنفق يا بلال هذا المال في سبيل الله عز وجل، ولا تخف أن يضيق الله عز وجل علينا، ما كان الله ليضيق علينا سبحانه وتعالى.
هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كرمه العظيم وتواضعه، وجاء حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة: (جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء) جبريل كان جالساً في يوم مع النبي صلى الله عليه وسلم ونظر جبريل إلى السماء.
(فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة) يعني: أول مرة ينزل فيها هذا الملك من ساعة أن خلقه الله عز وجل.
(فلما نزل هذا الملك قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، قال: أملكاً نبياً يجعلك أو عبداً رسولاً؟!) أي: ربنا يخيرك ماذا تحب أن تكون، هل تحب أن تكون ملكاً مثل ما كان داود وسليمان ملكين وتكون نبياً، أم تحب أن تكون عبداً وتكون رسولاً لله سبحانه وتعالى؟ (فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: تواضع لربك يا محمد!) صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه استشار جبريل ماذا أختار؟ هل أكون ملكاً نبياً أو أكون عبداً رسولاً؟! فأشار إليه أن تواضع، يعني: كن عبداً لله عز وجل، فتواضع النبي صلى الله عليه وسلم وطلب من ربه أن يكون عبداً رسولاً.
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل، فرفعه الله على جميع خلقه أعظم منزلة وأعظم مكانة، فجعل له لواء الحمد يوم القيامة، وجعل له الشفاعة العظمى، وجعل له المقام المحمود، وجعله أول من يهز حلقة الجنة وأول من يدخلها، ولا تفتح الجنة لأحد قبله صلوات الله وسلامه عليه، فهو عندما تواضع لله عز وجل رفعه الله أعظم المنازل.
كان يجلس عليه الصلاة والسلام للطعام وللشراب جلسة العبد، ويقول: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وآكل كما يأكل العبد) صلوات الله وسلامه عليه، فأعظم مراتب النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العبودية لربه سبحانه.
فهذا النبي الكريم العبد الرسول عليه الصلاة والسلام الذي تواضع لربه هل يعقل أن يكون له من النساء من تطلب هذه الدنيا؟ لا تصلح هذه المرأة أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك نزلت الآية تخير هؤلاء: إذا كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن لا تصلحن للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] أي: أدفع لكن المتعة، أعطيكن ما تستمتعن به من مال ونفقة.
وقوله تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] أي: أطلقكن طلاقاً جميلاً، أي: طلاق سنة ليس فيه أذى وليس فيه إعضال وليس فيه إمساك مع التأذي، يسرحهن صلى الله عليه وسلم إذا كن يردن الحياة الدنيا وزينتها.
وإن كن يردن الله ويردن الرسول عليه الصلاة والسلام ويردن الدار الآخرة، فعليهن أن ينتظرن من الله عز وجل أعظم الأجر، وهو الأجر العظيم الذي يليق بعطاء الله سبحانه وتعالى.(268/2)
إباحة الله لنبيه أن يتزوج ما شاء
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له ربه سبحانه أن يتزوج ما شاء من النساء، فقال له ربه سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50].
فالله سبحانه وتعالى أحل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء بهذا القيد الذي في هذه الآية، وقال له سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50].
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم ودفع المهور، وأحل الله له ذلك.
كذلك أباح له الله سبحانه ملك اليمين، أي: ما ملك من سبي، فالله عز وجل أباح له وطأهن بملك اليمين.
وملك اليمين شيء والزواج شيء آخر، إنسان يتزوج المرأة فلا يملك منها سوى العشرة، يعيش معها ويملك منها أنه يطأها، لكن ليست أمة عنده يأخذها ويبيعها مثلاً أو يتنازل عنها لغيره؛ لأنه عقد زواج بين الرجل وبين ولي المرأة برضا المرأة وبالشهود وبالإعلام في ذلك، فالإنسان يعيش مع زوجته بالمعروف، فإذا لم تكن هنا عشرة بالمعروف يطلقها، فالنكاح عقد بين الرجل وبين ولي المرأة على أن يستمتع الرجل بهذه المرأة عشرة زوجية معلومة، فهو لا يملك هذه المرأة وإنما يملك الاستمتاع ببضعها.
لكن ملك اليمين أن يملك المرأة كما يملك الشيء، فكان العبيد يباعون، تباع المرأة ويباع الرجل فيجوز للرجل أن يشتري الأمة ويجوز له أن يطأها بملك اليمين؛ فيملك أن يبيعها، ويملك أن ينتفع بها، فهي أمة عنده، فأباح الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره أن يملك ما شاء من الإماء.
كانت الإماء في زمن من الأزمان موجودات، لكن الآن ليس هناك عبيد ولا إماء، فالباقي الآن أن الإنسان يتزوج المرأة بالنكاح الشرعي المعروف.
فأباح الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ما شاء من النساء وأباح له ملك اليمين، قال تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} [الأحزاب:50]، بقيد ليست أي بنات عم، ولا أي بنات خال وإنما: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50]، فهن لهن فضيلة أن هاجرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لم تهاجر لم يحل الله له أن يتزوجها.
فعلى ذلك إن كانت من آل بيته عليه الصلاة والسلام فإنما شرفها بهجرتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالقيد في بنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك هو أنهن اللاتي هاجرن معك.
كذلك أباح له: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، امرأة مؤمنة جاءت تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم تريد أن تكون زوجة له، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى ذلك إذا وهبت امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز له أن يتزوجها، وجاز له أن يزوجها لأحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام، فهو أولى بها من نفسها.
فقوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] هذه الصورة {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فليس لأحد أن يقول: فلانة وهبت نفسها لي، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهو الذي يجوز له ذلك.
والله عز وجل قال: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب:50] {فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب:50] يعني: أنه لك مثنى وثلاث ورباع ليس لك أكثر من ذلك، وملك اليمين لك أن تطأ ما شئت إن وجد ذلك.
قال الله سبحانه: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50]، أي: لئلا يكون عليك حرج في هذا النكاح، فرفع الله عز وجل عنه الحرج صلوات الله وسلامه عليه، في أن يقول له أحد: لماذا؟ يقال: يفعل الله ما يشاء، فقد أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يبح لغيره والتشريع بيد الله، وهذه شريعة الله عز وجل، يبيح ما يشاء ويمنع ما يشاء، ويحل ما يشاء لمن يشاء من عباده، فاختار نبيه صلى الله عليه وسلم وأباح له ذلك.
وذكرنا الحكمة أو بعضاً من الحكم في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من مجموعة من النساء، وأعظم الحكم في ذلك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فامرأة واحدة لا تكفي لتبليغ هذه الشريعة، فقد تتعب وقد تمرض، فيحتاج النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من النساء يبلغن ما أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فأمر الله سبحانه نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغن هذا الدين، ولا تكفي واحدة فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج مجموعة من النساء.(268/3)
ذكر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وحياتهن العطرة(268/4)
ذكر نبذة من سيرة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها
أول امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الخامسة والعشرين من عمره، أي: قبل أن ينزل عليه الوحي بخمس عشرة سنة، لأنه نزل عليه وله أربعون سنة صلوات الله وسلامه عليه.
ففي سن الخامسة والعشرين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة سنة، فالسيدة خديجة كان لها أربعون سنة حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فتزوجها وهو شاب صغير، وهي قد تعدت مرحلة الشباب ودخلت في الكهولة فكانت في سن الأربعين رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت حكمة من الله تبارك وتعالى أن يتزوج من هذه المرأة الفاضلة الصالحة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
والسيدة خديجة كانت امرأة غنية وحكيمة رضي الله عنها، وكانت متزوجة قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
واسمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، فتجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده صلوات الله وسلامه عليه، فجدها قصي بن كلاب وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً.
كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند رجل كنيته أبو هالة واسمه زرارة بن النباش من بني أسد، وقبل ذلك كانت عند رجل آخر اسمه عتيق بن عائذ، وولدت منه غلاماً اسمه عبد مناف، وولدت من أبي هالة هند بنت أبي هالة.
فالسيدة خديجة تزوجت مرتين قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت صاحبة مال عظيم، وقد تاجر لها وقتاً من الأوقات في مالها عليه الصلاة والسلام فظهرت بركة النبي صلى الله عليه وسلم في مالها، وزاد مالها ونما نمواً عظيماً ببركة عمل النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فأحبت النبي صلى الله عليه وسلم فتزوجها صلى الله عليه وسلم، وذهب عمه أبو طالب وخطبها للنبي صلى الله عليه وسلم وفرحت بذلك فرحاً عظيماً.
فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم الزوجة الصالحة العظيمة الرءوفة الرحيمة، وكانت له كالأم، وهذه من حكم الله سبحانه أن يتزوج أول ما يتزوج من امرأة تكبره سناً صلوات الله وسلامه عليه بخمس عشرة سنة، فعمره خمس وعشرون سنة، وعمرها أربعون سنة، فلم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه حتى توفيت بمكة رضي الله عنها بعد سبع سنوات من بعثته صلوات الله وسلامه عليه، أو عشر سنوات.
توفيت السيدة خديجة ولها خمس وستون سنة، أي: مكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة، وكل هذا الحين لم يتزوج عليها امرأة أخرى صلوات الله وسلامه عليه.
وبعدما بعث مكثت معه في مكة سبع سنوات أو عشر سنوات، ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكان من أعظم البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم ومن أعظم أسباب الحزن والهموم موت السيدة خديجة وموت عمه أبي طالب في عام واحد، والاثنان كان بين موتهما أشهر يسيرة فسمي هذا العام بعام الحزن؛ لأنه عام حزن فيه النبي صلى الله عليه وسلم حزناً شديدا ً على وفاة عمه وعلى وفاة السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فعمه أبو طالب كان يدافع عنه عليه الصلاة والسلام، فلم يجرؤ أحد من المشركين أن يؤذيه صلى الله عليه وسلم في حياة عمه أبي طالب، والعجب أنه مات على الكفر، ولله الحكمة العظيمة سبحانه وتعالى أن يموت هذا الرجل الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم كافراً.
إن السيدة خديجة هي أول امرأة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أول من دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو في الغار عليه الصلاة والسلام، ويأتيه جبريل فيذهب إلى بيته عليه الصلاة والسلام وهو في غاية الرعب والخوف ويقول: زملوني، زملوني دثروني، دثروني، أخاف أن يكون قد ذهب عقلي، تقول له: لا والله ما ذهب عقلك، وما كان الله ليصنع بك ذلك، وإنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتقري الضيف.
فهي أول من آمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتذهب إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وتحدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وما حدث له وتقول: أخبر ورقة بذلك فيحدثه فيقول: إنه الناموس الذي جاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
هذه السيدة خديجة المرأة الحكيمة العاقلة رضي الله تبارك وتعالى عنها، مكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم عمراً طويلاً، وهو يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وأعانته على ذلك بمالها وبنفسها، فقد كانت تعطف على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف لها ربها فضلها، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) والقصب هو اللؤلؤ، أي: ببيت من لؤلؤ.
وقوله: (لا صخب فيه ولا نصب) أي: لا تسمع فيه صراخاً ولا صياحاً، وكم سمعت من الكفار وهم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وكم ترحمت عليه صلى الله عليه وسلم مما يفعله به هؤلاء، فقد رحمت النبي صلى الله عليه وسلم وواسته ووقفت بجواره رضي الله تبارك وتعالى عنها، فبشرها الله عز وجل لصبرها على إزعاج هؤلاء المشركين في الدنيا، ببيت في الجنة من لؤلؤ، لا صخب فيه ولا نصب، ولا تعب بعد هذه الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجنة له عند الله المنزلة العظيمة، وهي زوجته في الدنيا وفي الآخرة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ماتت السيدة خديجة بمكة، ودفنت بالحجون، وهي مقبرة موجودة في مكة، دفنت هنالك ولم يصل عليها، إذ لم يكن قد فرضت الصلاة على الجنازة في هذا الوقت، فخرج بها من بيتها ودفنها النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها عليه الصلاة والسلام، ليكون في الأرض التي دفنت فيها أثر بركة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاتها عدداً من النساء كما سنعرف بعد ذلك.(268/5)
ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها
من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، ونلاحظ أن السيدة خديجة كانت من بني أسد، وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس من بني عامر، وذكرنا في الحديث السابق أن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم للنساء من قبائل شتى مما يقوي رابطته بهذه القبائل، فكلهم ينتمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك، ويقوى دين الله سبحانه وتعالى، وهذه حكمة أخرى من الله عز وجل.
والسيدة خديجة ذكرنا أنها أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكل أولاد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما عدا واحداً، وهو إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية المصرية.
يقول هنا الإمام القرطبي: (ومنهن السيدة سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديماً وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم) إسلامها كان قديماً وكانت متزوجة من ابن عم لها اسمه سكران بن عمر وأسلم أيضاً، وهاجروا جميعاً إلى الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدم زوجها مكة بعد الهجرة الثانية مات، وقيل: مات في الحبشة، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما حلت من زوجها وتزوجها، ودخل بها في مكة.
أيضاً السيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، لكن لم يدخل بها في مكة، وإنما دخل بها بعد سنتين في المدينة صلوات الله وسلامه عليه.
هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة سودة إلى المدينة، والسيدة سودة كانت أكبر نساء النبي صلى الله عليه وسلم سناً، فلما كبرت في السن واستشعرت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا حاجة له فيها طلبت منه أن يبقيها، أي: لا يطلقها ولا يفارقها؛ لأنها لا تحتاج أن يكون لها زوج للنكاح ولا للوطء، فتنازلت عن يومها للسيدة عائشة رضي الله عنها، وقالت: أريد أن أكون زوجتك في الجنة، فكان الأمر على ما طلبت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وأمسكها النبي صلى الله عليه وسلم، وتوفيت بالمدينة رضي الله عنها في شوال سنة 54هـ، أي: عمرت طويلاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، فوفاتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربع وأربعين سنة.
فهذه حكمة من الله عز وجل أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة من النساء، فقد عاشت سودة رضي الله عنها حتى عام 54هـ، يا ترى كم من حديث حدثت به حتى ماتت في سنة 54هـ، وهي واحدة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والباقيات من نساء النبي صلى الله عليه وسلم كل واحدة منهن كم حديثاً حدثت، وكم حكماً من الأحكام الشرعية بلغته، فاستفاد المسلمون من تعليم نساء النبي صلى الله عليه وسلم لهم.(268/6)
ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
ثالث امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام: السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، وكان سيتزوجها رجل آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبير بن مطعم، وقد كان أبوه المطعم بن عدي من كبار أهل مكة، وأراد أن يزوج ابنه جبير بن مطعم من السيدة عائشة رضي الله عنها، فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة عائشة بعد أن جاءه جبريل وأراه خرقة من حرير فيها صورة السيدة عائشة وقال: هذه زوجتك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذاك متزوجاً من السيدة سودة، والسيدة عائشة ما زالت صغيرة وعمرها سبع سنوات، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أن عائشة ستكون زوجته، وهذا إخبار وإعلام من الله عز وجل أنه سيتزوجها.
وفعلاً طلبها من أبي بكر الصديق، فـ أبو بكر الصديق قال للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أسلها من جبير، فكأنه تفاوض مع جبير ومع أبيه على أمر الإسلام أو غير ذلك، فلما بقوا على ذلك انسحب جبير ورفض الزواج من السيدة عائشة، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وعقد بها ولها سبع سنوات، لكن لم يدخل بها إلا بعد أن جاوزت التسع سنوات وهي في المدينة.(268/7)
تفسير سورة الأحزاب (تابع2) [28 - 29]
أحل الله تعالى لنبيه أن يتزوج ما يشاء من النساء، وهذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة من تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم نقل التشريع الإسلامي إلى الأمة، وهذا ما ظهر جلياً من تتبع استنباط الأحكام الشرعية من زواجه بأمهات المؤمنين ومعاملته معهن.(269/1)
اختصاص النبي بالزواج بأكثر من أربع(269/2)
اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالزواج من أكثر من أربع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29].
الله سبحانه وتعالى أباح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من النساء ما شاء، فليس مقيداً بعدد كغيره من المؤمنين، قال سبحانه: {قََدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب:50] أي: لكيلا يكون على النبي صلى الله عليه وسلم حرج في ذلك ((قََدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ)) أن يتزوجوا مثنى وثلاث ورباع وليس للرجل أن يزيد على ذلك.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحل الله عز وجل له أن يتزوج ما شاء من النساء، قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:50].
فالله فرض على المؤمنين أشياء معينة، ورخص لهم في أشياء أخر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فاختصه الله عز وجل بأشياء منها: أن له أن يتزوج ما زاد عن الأربع، فقد أباح له ذلك سبحانه وتعالى.
وله حكم، فمن ضمنها: أن كثرة عدد النساء يبلغن عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتيه من عند ربه من أحكام شرعية فتقص كل واحدة منهن ما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينها وبينه من أشياء فيها أحكام يستفيد بها الخلق.
فلو كانت امرأة واحدة ما قدرت على تبليغ هذا الدين العظيم كله وأحكام النساء كثيرة، فمنها أحكام الحيض والنفاس وأحكام الطلاق، وأحكام الخلع، وأحكام إرجاع الرجل امرأته، وأشياء كثيرة تكون المرأة بحاجة إليها فتذهب وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم.(269/3)
الأحكام المستفادة من حياة النبي مع أزواجه(269/4)
كيفية إتباع المرأة الحيض بفرصة ممسكة
وقد تستحي المرأة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فتسأل نساءه فيعلمنها، وقد تتجرأ المرأة وتسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء يستحي هو منه صلوات الله وسلامه عليه، كما ذهبت امرأة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنها طهرت من الحيض فكيف تصنع؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تتبع أثر الدم، قال: (خذي فرصة ممسكة فتتبعي أثر الدم).
فالمرأة قالت: كيف أصنع؟ فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم من سؤالها فقال: سبحان الله! خذي فرصة ممسكة فتتبعي بها أثر الدم، فإحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم كانت موجودة فأخذتها وذهبت بها وقالت: اصنعي كذا وكذا.
فهنالك من الأشياء ما يستحي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم بها بصريح العبارة، ولكن المرأة لا تستحي أن تقول للمرأة: اصنعي كذا وكذا، فلو كانت امرأة واحدة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تكفي أن تبلغ أحكاماً كثيرة، فكم من صحابيات يأتين من المدينة ومن خارجها فيسألن؟ فإذا كان عدد المسلمين في حجة الوداع مائة وثلاثين ألفاً فهو يبلغهم والصحابة يعلمونهم، ولكن الأحكام التي تتعلق بالنساء وبأحكام البيت والعشرة الزوجية وأحكام كثيرة يحتاج كل إنسان أن يعرفها ويتعلمها.(269/5)
الطلاق والرجعة
فمن الأحكام الطلاق، وهو: أن يطلق الرجل امرأته، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق إحدى زوجاته لكان يوجد على الإنسان حرج في نفسه إذا أراد أن يطلق فيقول: كيف أطلق ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن طلق النبي صلى الله عليه وسلم إحدى زوجاته، فلو كانت امرأة واحدة فإن كل الأحكام ستحصل في المرأة الواحدة، وهذا صعب جداً أن يكون، لذلك آذت النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فلما اشتد الأمر به صلى الله عليه وسلم طلق إحداهن وهي السيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها ثم أرجعها.
فهذا حكم من الأحكام، وهو أن الرجل الفاضل قد يطلق امرأته ويكون الخطأ منها وليس منه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة حفصة رضي الله عنها.(269/6)
حكم حيض المرأة المحرمة
وقد يحج الإنسان ومعه امرأته تحيض ويحتار ماذا يفعل؟ فالسيدة عائشة سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وحاضت في سرف ولم تعتمر، إلا أنها أدخلت عمرتها على حجها وصارت قارنة بعدما كانت مفردة، ثم أعمرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من التنعيم.
فهذا الحكم الجديد من الأحكام عرفناه بسبب زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أكثر من امرأة.
فهنالك أمور كثيرة تعلقت بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عرفنا منها أحكاماً عظيمة في العشرة الزوجية بين النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه.
وقد يتزوج الإنسان اثنتين فيجد بيته جحيماً، هذه تؤذيه بشيء وتلك تؤذيه بشيء آخر، فيظن أنه صابر عليهما فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في وقت واحد تسع نسوة، وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم عندهن غيرة من بعضهن البعض، وقد تصل إلى حد مضايقة النبي صلى الله عليه وسلم.(269/7)
العدل بين الزوجات
امرأة من نساءه ترسل إليه في بيت السيدة عائشة رضي الله عنها بصحفة فيها طعام، فإذا بالسيدة عائشة تضرب الصحن وتقلبه فينكسر وينقلب الطعام.
فهذا حكم من الأحكام كيف سيتصرف النبي صلى الله عليه وسلم فيه؟ بل كيف ترمي نعمة الله على الأرض؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم يغتفر لها الغيرة في ذلك؛ لأن غيرة المرأة تدفعها إلى أنها لا تفكر فيغتفر منها ذلك، ولكن يعاقبها لأنها كسرت الصحن بأن ترسل إليها بصحنها.
فعرفنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم صبره على غيرة امرأته، وعدله صلى الله عليه وسلم في الصحن الذي انكسر بأن تدفع صحناً مكانه، فإن من أتلف شيئاً فعليه أن يصلحه.
ومسند الإمام أحمد وغيره من كتب السنة فيها أحكام كثيرة روتها نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتعلم الناس منها الكثير من أفعاله في داخل بيته عليه الصلاة والسلام.
ولذلك كان كبار الصحابة عندما يسألون عن أشياء تتعلق ببيت النبي صلى الله عليه وسلم أو تتعلق بأحكام النساء يرسلون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منهن ذلك.(269/8)
الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة خديجة
فأول زوجة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بها هي السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكان أولاده كلهم منها، ثم تزوج الثانية وهي السيدة سودة، وذلك بعد وفاة السيدة خديجة، فقد عاشت مع النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة، تزوجها ولها أربعون سنة، وتوفيت ولها خمس وستون سنة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فمكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين عاماً ودفنت بمكة.
والعام الذي توفيت فيه السيدة خديجة هو العام الذي توفي فيه عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب فكان يسمى هذا العام بعام الحزن، فإذا بالكفار يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويكيدون له كيداً لم يكونوا يصنعونه في حياة عمه أبي طالب وزوجته السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
والسيدة خديجة امتازت بأنها وحدها التي كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم خلال خمس وعشرين سنة، فلم يتزوج عليها صلوات الله وسلامه عليه، فقد عرف لها فضلها عليه الصلاة والسلام، لأنها راعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت له زوجة وأماً وكانت تصنع كل شيء في بيته لتريح النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد خلفت للنبي صلى الله عليه وسلم بناتاً وبنين عليه الصلاة والسلام، البنات عشن بعد السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ومات أولاده كلهم في حياته صلى الله عليه وسلم ما عدا السيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ومن خصائص السيدة خديجة أن الله عز وجل بشرها ببيت في الجنة من قصب، ومن لؤلؤ لا صخب فيه ولا نصب، وكانت من سيدات نساء الجنة، وابنتها السيدة فاطمة رضي الله عنها من سيدات نساء الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وامرأته سيدة النساء وابنته كذلك، وهذا شيء عظيم جداً من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وأولاده صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من السيدة خديجة رضي الله عنها، ولم يكن من نسائه أولاد غيرها رضي الله عنها، وابتلاه الله عز وجل ابتلاء عظيماً جداً، وهو أن كل أولاده ماتوا في حياته صلوات الله وسلامه عليه ما عدا السيدة فاطمة، لكي يتسلى المسلم بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم عندما يموت له الولد فلا يجزع، بل يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما مات أولاده وصبر عليهم صبراً عظيماً صلوات الله وسلامه عليه، ففي غزوة بدر ماتت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وكتم عن المسلمين ذلك حتى لا يضيع عليهم فرحتهم بالنصر، فقد بلغه وفاة ابنته ولم يحضرها صلى الله عليه وسلم، وإنما جعل زوجها معها في المدينة ليقوم بأمرها، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يضيع على الناس فرحتهم بالنصر في يوم بدر بحزنه الخاص صلوات الله وسلامه عليه.
فانظروا كيف كان مع الناس في نصرهم وأظهر لهم الفرح بذلك وفي داخله الحزن على وفاة ابنته صلوات الله وسلامه عليه.
ومكث فترة طويلة جداً صلى الله عليه وسلم، ولم تنجب واحدة من نسائه، وربنا ذكر ذلك: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] أي: لم يكن له ولد، لو كان له ولد لكان نبياً بعده صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: (لا نبي بعدي) إذاً لا يمكن أن يعيش له ولد صلوات الله وسلامه عليه.
وفي آخر حياته يرزقه الله سبحانه وتعالى من أمة عنده وهي مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر، ووطأها بملك اليمين عليه الصلاة والسلام فكان له منها إبراهيم ابن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فلو عاش لكان من الأنبياء ولكن مات وله من العمر سنتان وهو في الفطام، مات ابن النبي صلوات الله وسلامه عليه قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر ليبتليه الله سبحانه وتعالى، وليعلم صبره، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر العمر، وتوفي وله ثلاث وستون سنة عليه الصلاة والسلام.
في هذا السن الكبير يرزقه الله سبحانه وتعالى ولداً صغيراً عمره سنتان، وهذا أحب ما يكون إلى الأب، ثم يبتليه الله عز وجل بأعظم بلاء بأن يموت ابنه الوحيد، فيصبر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وتسيل عيناه دموعاً ويقول: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) وتخسف الشمس في هذا اليوم فإذا بالناس يقولون: خسفت الشمس لموت إبراهيم عليه السلام، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة).
فلا يمنعه حزنه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ حكماً من الأحكام الشرعية في الحال، فلا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فالشمس لم تكسف لموت إبراهيم ولا لحياة أحد ولا لموته، إنما هذه آية من آيات الله، فإذا حدث ذلك فافزعوا إلى الصلاة.
فزاوج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة أنجب منها الولد وماتوا في حياته عليه الصلاة والسلام.
وتزوج غيرها فمنع من الولد صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا يصبر الإنسان إذا تزوج امرأة وكانت لا تنجب فهذا الشيء ابتلاء من الله عز وجل، ويتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج مجموعة من النساء، ولم تنجب له واحدة منهن، وقد تكون الواحدة منهن أنجبت لزوجها قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الكثيرات منهن كن متزوجات قبل ذلك وأنجبن لأزواجهن ولكن مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصل ذلك إلا مارية فقد كانت أمة عنده فوطئها فأتت بولد ثم مات بعد ذلك، فصبر النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لنا المثل العظيم والأسوة الحسنة في الصبر على أمر الله وعلى قضائه وقدره سبحانه وتعالى.(269/9)
الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة سودة بنت زمعة
والسيدة سودة بنت زمعة أسلمت قديماً رضي الله عنها وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها فتوفي هنالك، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة الثانية، فهاجر بها إلى المدينة، فقد كانت معه في مكة عليه الصلاة والسلام ودخل بها هنالك، وهي التي وهبت يومها للسيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها، لأجل أن تكون زوجته في الجنة، أما في الدنيا فهي لا تريد الوطء؛ لأنها كانت كبيرة في السن.
فقالت: يا رسول الله، يومي لـ عائشة.
ففيه الإيثار وحب ما يحبه الحبيب، فهو صلوات الله وسلامه عليه حبيبها، وهي تحبه وتعلم أنه يحب عائشة أكثر منها، وحب القلوب لا يملكه الإنسان، والحب ميل في القلب يحركه الله عز وجل كما يشاء تبارك وتعالى، فقد علمت أن أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه السيدة خديجة ثم السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فهي تحب ما يحبه صلى الله عليه وسلم.
فهذا إيثار عظيم جداً من زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فتتعلم المرأة المسلمة كيف تصبر إذا كان زوجها قد تزوج عليها بضرة كما صبرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ففيهن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة.
وتوفيت السيدة سودة في سنة أربع وخمسين، يعني بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربع وأربعين سنة، فقد عاشت تبلغ أحكاماً شرعية ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها.(269/10)
الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة عائشة
والسيدة عائشة رضي الله عنها هي الصديقة بنت الصديق التي نزل فيها آيات من سورة النور يبرئها الله سبحانه مما رماها به أهل الكذب والإفك والنفاق، لعنة الله على من رماها واستمر على ذلك حتى قبضه الله منافقاً، أما من تاب من المؤمنين فقد حد الحد وانتهى أمره بهذا الشيء.
والسيدة عائشة كانت أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وذكر في فضلها أن: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)، ولكن لم يذكر أنها من سيدات نساء الجنة، إنما ذكر السيدة خديجة والسيدة فاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
والسيدة عائشة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ودخل بها في المدينة، ففيه من الأحكام أنه يجوز أن يكون بين العقد وبين الزفاف فترة زمنية، وقد كان بين عقده ودخوله بها سنتان.
كما يجوز للمسلم أن يعقد على زوجته ويدخل بها في الليلة التي عقد فيها، فجواز إطالة الفترة بين العقد وبين الدخول، مأخوذ من زواجه بالسيدة عائشة.
وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم عنها ولها ثمان عشرة سنة ولم يتزوج بكراً غيرها، وقد دخل بها ولها تسع سنوات، وهي الوحيدة التي لم تتزوج قبله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يريد أن يخطبها جبير بن مطعم، فتفاوض مع سيدنا أبي بكر الصديق في شيء فرفض الرجل فتركه أبو بكر رضي الله عنه وانحلت الخطبة بذلك وتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وماتت السيدة عائشة رضي الله عنها سنة تسع وخمسين أو ثمان وخمسين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فقد عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانياً وأربعين سنة، وقد كانت تقص وتحكي وتذكر أحكاماً شرعية وتعلم من يسألها من الناس، وهي الحافظة العظيمة الماهرة بهذا الأمر العظيم أمر دين الله سبحانه، فلقد بلغت أحكاماً عظيمة كثيرة.(269/11)
الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة حفصة
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية رضي الله تبارك وتعالى عنها، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن توفي عنها زوجها.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرضها على أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم عرضها على عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ففيها أن الرجل الفاضل قد يعرض ابنته الفاضلة على أهل الفضل، كالسيدة حفصة رضي الله عنها كانت لها المنزلة ولها المكانة وعندها جمال رضي الله عنها، وأبوها عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يخاف على ابنته الفتنة، فعرضها على أبي بكر الصديق وقال له: إن كنت ترغب أن تنكح فانكح حفصة، فـ أبو بكر الصديق سكت رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكذلك عرضها على عثمان بن عفان فرد عليه بقوله: ليست لي حاجة في النكاح.
فـ عمر كأنه وجد على أبي بكر حين لم يرد عليه فكأنه حصل في نفسه حزن، ثم حدث بعد ذلك أن خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، فقال أبو بكر لـ عمر: لعلك وجدت علي عندما لم أرد عليك؟ قال: نعم، -فقد كانوا أهل صدق رضي الله تبارك وتعالى عنهم- قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلو تركها لتزوجتها، ولا يمكن أن أفشي لك سر النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ذكرها، فقد يمكن ألا يتزوجها.
فـ أبو بكر حمو النبي صلى الله عليه وسلم، وعائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم.
ونتعلم من نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بعديد من النساء كيف تكون أخلاق الأحماء، فـ أبو بكر حمو للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صديقه ووزيره رضي الله تبارك وتعالى عنه، ففيه الأدب الشرعي الذي علمهم به الإسلام العظيم، وهو أن الإنسان يتكلم بالحق وبالعدل، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أكثر من امرأة كما جعل الله عز وجل ذلك له، فـ أبو بكر الصديق يرضى بهذا الشيء ويقول لـ عمر بن الخطاب: إن ابنتك لو لم يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لكنت أنا تزوجتها.
والسيدة حفصة رضي الله تبارك وتعالى عنها كانت امرأة عظيمة فاضلة لها جمال وأبوها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بينهن نوع من الغيرة كما يحدث بين الضرائر، فالسيدة حفصة كانت واحدة من اللاتي غيرتهن شديدة،، فلما زاد ذلك منها غضب النبي صلى الله عليه وسلم فطلقها.
وكان عمر يذهب ليؤدب ابنته عند النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالاً، سليني من مالي ما شئت، ولا تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوبخها بكلام شديد جداً فيقول لها: إنما تزوجك النبي صلى الله عليه وسلم من أجلي، وليس من أجل جمالك -وهذا القول يكسر نفس المرأة- والزمي حدك وإلا طلقك النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما طلقها النبي صلى الله عليه وسلم لم يعمل عمر شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، إنما جاء جبريل من عند رب العالمين سبحانه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: راجعها إنها صوامة قوامة، أي: أن لها فضيلة أخرى، فهي كثيرة الصيام والقيام والله عز وجل راض عنها، فهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة.
فتتعلم المرأة من ذلك أنها إذا كانت ترضي ربها سبحانه وتعالى فالله لا يتخلى عنها أبداً.
فنتعلم من طلاق النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة حفصة لما ضايقته صلى الله عليه وسلم في شيء أن الله عز وجل عرف لها فضل قيامها وفضل صيامها، فنزل جبريل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة.
وفيه جواز أن يطلق الرجل امرأته إذا أغضبته، وفيه أنه يراجع نفسه وينظر إلى مزاياها وإلى فضائلها، فإذا كانت مطيعة لله سبحانه صبر عليها وارتجعها.
توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها في شعبان من سنة خمس وأربعين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فمكثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة تبلغ دين ربها، وماتت ولها ستون سنة، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنها كانت قد جاوزت الخمس والعشرين سنة رضي الله عنها فمكثت بعده خمسة وثلاثين سنة، ثم توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها.(269/12)
الأحكام المأخوذة من زواجه بالسيدة أم سلمة
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من هجرته عليه الصلاة والسلام.
وكانت السيدة أم سلمة زوجة لـ أبي سلمة وهو أحد الصحابة الأفاضل المهاجرين رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت له فضيلة، فلقد صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر جنازته ونهى النساء أن ينحن عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون) ودفن أبو سلمة رضي الله عنه وكان لـ أم سلمة خير الرجال وكانت لا تعرف من هو خير من أبي سلمة رضي الله عنها، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء تدعو به في هذه المصيبة وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها.
قالت: من خير من أبي سلمة؟) ليس على بالها أبداً أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة فكانت تقول ما قاله صلوات الله وسلامه عليه.
فالبركة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من أناس لم يقولوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
أرأيتم الرجل الذي كان غضبان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما فيه.
قالوا: وما هي؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فقالوا له: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال: أمجنون أنا؟ أي: لست مجنوناً حتى أقول هذا الكلام، فرفض أن يقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن - أم سلمة - استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم وقالت: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد ذلك ويتزوجها وتصير من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه في الدنيا وفي الآخرة.
وكان للسيدة أم سلمة أطفال صغار، منهم عمر بن أبي سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وزينب بنت أبي سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وكانت زينب طفلة صغيرة، وكانت تبيت مع أمها في غرفة واحدة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي امرأته فصبر على ذلك لطيبة خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن أدبه عليه الصلاة والسلام، فقد صبر ليلة أو ليلتين، إلى أن انتبه عمار بن ياسر رضي الله تبارك وتعالى عنه وكان قريباً لها فدخل يزورها فوجد عندها هذه البنت فقال: أهذه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخذها رضي الله عنه وذهب بها إلى أهله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أهله عليه الصلاة والسلام.
ففي هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج المرأة ومعها ابنتها وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالاثنين وإن جنى على نفسه عليه الصلاة والسلام، فليس مهماً أن يأتي امرأته، المهم أنه لا يحرم المرأة من ابنتها حتى تنتبه هي إلى ذلك.
فهذه من أحكام البيت ومن أحكام زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عدد من النساء، فنجد حكماً عظيمة لحوادث كثيرة، فلو لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العدد فمن أين كنا سنعرف كيف يعاشر الرجل امرأته؟ وكيف يؤدبها؟ وكيف يكون طيباً معها؟ وإذا كان معها طفلة كيف يصنع؟ وكم من إنسان يقول كلاماً ووقت التنفيذ يكون صعباً عليه ولا يعرف تنفيذ هذا الشيء، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو الأسوة الحسنة والقدوة للخلق، يجعل الناس يتأسون به عليه الصلاة والسلام ويتابعونه في ذلك، ويسهل عليهم المتابعة.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا معه في الجنة.(269/13)
تفسير سورة الأحزاب (تابع3) [28 - 29]
جعل الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين، وبين الله فضلهن على نساء العالمين، وحرم الزواج منهن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إكراماً له، ولهن سيرة عطرة مبسوطة في كتب السير تدل على عظم قدرهن وعلو مكانتهن، فهن طريق إلى تبيين الشريعة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.(270/1)
ذكر ما جاء من سير أمهات المؤمنين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم(270/2)
نبذة من سيرة أم سلمة رضي الله عنها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة بنت خويلد، والسيدة سودة بنت زمعة، والسيدة عائشة رضي الله عن الجميع، ومنهن أيضاً حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها، والخامسة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة واسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، وذكرنا أنها كانت تحت رجل تظنه خير الناس، وكان من خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانت تظن أن هناك خيراً منه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمرها لما مات زوجها أن تسأل ربها سبحانه أن يؤجرها في مصيبتها وأن يخلف عليها خيراً منها، وتعجبت من ذلك وقالت: من خير من أبي سلمة رضي الله عنه؟ وما خطر ببالها قط أن يتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فدعت ربها: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها).
هنا سنة من السنن: أن الإنسان إذا ابتلي بمصيبة من المصائب يدعو بهذا الدعاء العظيم: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، حتى لو كان الإنسان لا يدري ما هو الخير الذي يأتيه من هذا الشيء الذي فقده، فإذا سأل الله سبحانه وتعالى لاشك أن الله يستجيب له، ويخلف عليه ما هو خير من هذا الشيء الذي فقده، إما في الدنيا وإما في الآخرة، يخلف عليه في الدنيا بأشياء هي أفضل مما فاته، أو في الآخرة يجد الثواب العظيم على الصبر على هذه المصيبة.
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة أم سلمة رضي الله عنها وبقيت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي صلى الله عليه وسلم، وعمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وماتت سنة (59) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في سنة (62)، يعني: عمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم (49) سنة أو (52) سنة تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتروي ما حدث من النبي صلى الله عليه وسلم وما نزل من الأحكام في بيتها، وما حفظته عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.(270/3)
نبذة من حياة أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
من نساء النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما: أم حبيبة كانت من المسلمات الأوائل، وزوجها كان مسلماً ثم تنصر، والله سبحانه وتعالى يَمُنّ على من يشاء بفضله ويخذل من يشاء بعدله، فمنّ عليها بالثبات على دينها، وخذل زوجها الذي هاجر معها إلى الحبشة وإذا به يجد أهل الحبشة نصارى فيتنصر مثلهم، لكنها ثبتت على الدين في دار البعد ودار الغربة.
كانت متزوجة من عبيد الله بن جحش أخو السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، السيدة زينب بنت جحش صارت أماً للمؤمنين رضي الله عنه، وأخوها مات نصرانياً كافراً في دار الحبشة دار الهجرة.
فمن سوء الخاتمة: إنسان أسلم وهاجر في سبيل الله عز وجل ثم غلبت عليه شقاوته فصار كافراً بعد ذلك؛ لذلك لا يأمن الإنسان مكر الله أبداً، وإذا أعطاك الله من فضله ومن خيره فاحرص على هذا الخير وتمسك به، تمسك إذ هداك الله سبحانه بالإسلام ولا تغتر، ولا تقول: أنا بعد عشرين سنة سأصلي، أو بعد خمسين سنة أصلي، لا تمن على الله عز وجل، فإن الله يقول: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
المنّة لله عز وجل على خلقه، فأنت لا تدري أن الله سبحانه قد يملي لعبده ثم يختبره، فإذا به ينقلب على عقبيه، وكم من إنسان كان على خير وكان على دين، وإذا به فجأة ينقلب حاله ويترك دين الله عز وجل ويترك صلاته ويترك التزامه، وكم من إنسان كان على هدى وعلى تقوى، ثم صار منافقاً بعد ذلك، فاسقاً شريراً.
فلا تأمن مكر الله سبحانه ولا تمنّ عليه عز وجل بأنك متمسك بدينه، فالفضل بيد الله سبحانه يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء، ويخذل من يشاء.
فهذا الرجل عبيد الله بن جحش ممن خذله الله سبحانه وتعالى، ارتد في الحبشة، وصار نصرانياً وكفر، وإذا به يموت على ذلك، وصارت هي وحيدة في هذه الدار.
أين تذهب هذه المرأة الفاضلة؟ أبوها أبو سفيان زعيم قريش وزعيم الكفرة في هذا الحين، أسلم بعد ذلك رضي الله عنه، لكن حتى هذا الحين كان كافراً، هل تذهب إلى هذا الرجل أم أنها تظل في أرض الحبشة مع من هم هنالك ليس لها أحد، أو ترجع إلى المدينة؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يشرفها ويكرمها ويتزوجها صلوات الله وسلامه عليه، هي في الحبشة وهو في المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ويتولى هذا العقد الرجل المسلم الفاضل الذي هو ملك الحبشة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليه فيزوج أم حبيبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومن العجب أن ملك الحبشة ملك النصارى يسلم، وهذا الرجل المهاجر إلى أرض الحبشة يتنصر، فعندما تنظر في قضاء الله سبحانه تتعجب للأمر، ولكن لا عجب في ذلك، إنه أمر الله سبحانه، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14]، علم أن هذا في قلبه الإسلام وفي قلبه الخير فهداه، فهذا النجاشي ملك الحبشة الذي كان نصرانياً إذا بالله يهديه إلى دينه سبحانه.
والعجب أن قومه كلهم لم يسلم منهم أحد، ولم يسلم أحد من أهل الحبشة، وإنما أسلم الرجل وجمع البطارقة وجلس معهم، وجاء بالمهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منهم ما يقولون، فإذا بـ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يتلو عليه من كتاب الله سبحانه ويخبره عن أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصدق ويؤمن علانية، وقومه يعلمون أنه على الإسلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيأتيه من الكفرة القرشيين من يقول له: اسمع ماذا يقولون في المسيح عيسى بن مريم؟ يريدون أن يوقعوا بينه وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يجمعهم ويسمع منهم، فيقولون له: إن المسيح بن مريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سبحانه وتعالى.
إذاً: هو عبد مخلوق، فإذا به يقول: (ما زاد المسيح على مثل هذا بحصاة)، فأسلم وقال: لولا ما هو فيه من أمر الملك وأمر البلد لذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يغسل قدميه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ملك لم يغتر بملكه، ولم يفتنه أتباعه، عرف الحق فاتبع الحق فاستحق أن يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (مات أخوكم النجاشي فقوموا فصلوا عليه، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو المسلمين ويقول: مات أخوكم النجاشي قوموا فصلوا عليه)، فيصلي عليه صلاة الجنازة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
مَنّ الله عز وجل عليه وهو ملك في قومه، وكل ملك يخاف على ضياع الملك من يده ولكن هذا لم يخف شيئاً، وقال: إن الله هو الذي ردّ عليّ ملكي، ليس لأحد فضل عليّ في ذلك.
كان ملكه قد ضاع منه يوماً من الأيام، ورده الله سبحانه وتعالى عليه، فعرف الفضل لله.
أسلم الرجل وزوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة بنت أبي سفيان ودفع المهر من عنده، فكان أعظم مهر أمهرته امرأة، إذ دفع في السيدة أم حبيبة أربعة آلاف درهم، أي: أربعمائة دينار دفعها فيها، فكان أعلى مهر دُفع لامرأة من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، دفعه عنه النجاشي رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعث بالسيدة أم حبيبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل من الصحابة وهو شرحبيل بن حسنة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة معززة مكرمة قد أبدلها الله سبحانه وتعالى خيراً مما كانت فيه ومما كانت عليه، وتوفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم في سنة (44) للهجرة، وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم (34) سنة.(270/4)
الكلام على ما جاء في صحيح مسلم من تزويج أبي سفيان للنبي بأم حبيبة
جاء حديث في صحيح مسلم من طريق عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل، قال: حدثني ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه.
أبو سفيان أسلم متأخراً، وابنته أسلمت قبله بكثير، أما أبوها أبو سفيان وأخوها معاوية فإنما أسلما قبل فتح مكة بشيء يسير، فالمسلمون كانوا يعرفون أن هذا أبو سفيان وكان شيخ قريش، وهو أبو سفيان الذي كان حارب المسلمين يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق؛ لذلك لم يكونوا يجلسون معه حتى بعدما أسلم، كانوا يعرفون أن له ما للمسلم من حق، لكن ما كانوا يقعدون إليه، وهو لم يعتد ذلك، بل كان يعتاد أنه كبير في قريش، والمسلمون لا يأبهون له ولا ينظرون إليه.
هنا هذه الرواية التي في صحيح مسلم أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، فقال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم).
قال أبو زميل الراوي: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال: نعم.
هذا الحديث حديث مشكل فهو في صحيح مسلم، ولكن فيه إشكال عند العلماء، وهو أنه كيف يقول هذا الكلام: أزوجك أم حبيبة وهي متزوجة به صلى الله عليه وسلم من قبل، وليس هو الذي زوجها، بل الذي زوجها له ملك الحبشة الذي كانت عنده.
فلذلك كان الراجح: أن هذه الجملة التي في هذا الحديث وهم من الراوي، أن أبا سفيان طلب ذلك، وإن تأول بعض أهل العلم ذلك وقالوا: إنه يريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيب نفسه، بأن يكون هو الذي يتولى أمر العقد، ولكن كيف يكون ذلك وهو عقد قد مرت عليه سنون، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أبوها بسنين، وما كان له أن يجدد عقداً على امرأة هي زوجته صلى الله عليه وسلم.
فالصواب: أن هذا وهم من الراوي، وأن أبا سفيان رضي الله عنه قال شيئاً آخر فتوهم الراوي هذا فقاله، فالراوي يقول هنا: إن أبا سفيان قال: أزوجك من أم حبيبة، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، وهذا بعيد جداً أن يكون؛ لأنه كان قد تزوجها قبل ذلك صلى الله عليه وسلم، وهذا مشهور في السير والمغازي وفي صحيح البخاري، أن النجاشي هو الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم حبيبة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
لكن طلب أبي سفيان الثاني أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه فهو صحيح، إذ كان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي بعد ذلك، فكان من كتاب الوحي رضي الله عنهم.
وأبو سفيان صار له منزلة بعد ذلك بجهاده في سبيل الله سبحانه وتعالى، يعني: كونه كان كبير قريش لم يكن له كلمة عند المسلمين؛ لأنه كبير قريش في الزمن الماضي يوم أن كان مع الكفار، وبما أنه حارب المسلمين ليس له منزلة، فهو رجل مسلم الآن وليس مهاجراً، إذاً: ليست له مزية، لا هو مهاجر ولا هو مسلم قديماً.
فهنا لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله سبحانه وتعالى، لكن لما صار مجاهداً بعد ذلك في سبيل الله سبحانه عرف المسلمون له فضله في جهاده في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا طلبه، أنه مثلما حارب النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يكون مجاهداً بعد ذلك في سبيل الله تبارك وتعالى.
وابنته أم حبيبة اسمها: رملة بنت أبي سفيان، توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ (34)، أي: في سنة (44) للهجرة.(270/5)
ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم: زينب بنت جحش، وأخوها عبيد الله بن جحش الذي كان زوجاً للسيدة أم حبيبة رضي الله عنها، وتوفي الرجل نصرانياً مرتداً، وأخته صارت أم المؤمنين، فسبحان مغير الأحوال! هذه أم المؤمنين زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا أخوها كافر نصراني يكون في النار والعياذ بالله، فمن نساء النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية، وكان اسمها برة، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب.
والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب الأسماء التي فيها تزكية، فنتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ألا نختار الأسماء التي فيها تزكية للأولاد، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يدخل عنده الصحابة ويخرجون فيقولون: إنه كان عند برة، أو خرج من عند برة، أو دخل لـ برة.
وبرة من المبرة، وهي المرأة التي جمعت خصال الخير، فتكون قد جمعت خصال البر كلها، فكره ذلك وغير اسمها صلى الله عليه وسلم وسماها زينب، وفعل نفس الشيء مع ابنة زوجته أم سلمة، كان اسم ابنتها برة، فغيره إلى زينب صلوات الله وسلامه عليه.
تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في سنة خمس من هجرته عليه الصلاة والسلام، وتوفيت في سنة عشرين، يعني: بعد النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنوات، وكان لها ثلاث وخمسون سنة وقت وفاته رضي الله عنه، يعني: توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولها من العمر ثلاث وأربعون سنة.(270/6)
نبذة من حياة أم المؤمنين زينب بن خزيمة رضي الله عنها
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم: السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث، وهذه كانت تلقب من الجاهلية لكرمها بـ أم المساكين وهي السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف الهلالية، زينب الهلالية.
وكانت تلقب في الجاهلية بـ أم المساكين؛ لأنها كانت تحب المساكين وكانت تطعمهم.
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته بحوالي واحد وثلاثين شهراً، يعني: سنتين وثمانية شهور أو سبعة شهور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم.
مكثت عند النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أشهر رضي الله عنها ثم توفيت، وهي من نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي توفين في حياته، وكانت وفاتها في آخر ربيع الأول بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بحوالي (39) شهراً رضي الله تبارك وتعالى عنها، ودفنت بالبقيع بالمدينة.(270/7)
ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، من بني المصطلق، وكان بنو المصطلق قد غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هي من سبي بني المصطلق.
يعني: لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق كان من الأسارى السيدة جويرية رضي الله تبارك وتعالى عنها، فوقعت في سهم واحد من الصحابة اسمه: ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، خطيب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وقعت في سهمه ذهبت تبحث عمن يدفع لها مالاً حتى تتحرر من الرق، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعين به، وكانت بنت سيد قومها رضي الله تبارك وتعالى عنها، وسبحان من يعز ويذل، هي ابنة سيد القوم وصارت الآن أمة تبحث عن مال لكي تفك رقبتها وتعتق.
فالنبي صلى الله عليه وسلم خيرها، إما أن يعطيها ذلك وإما أن يتزوجها ويعتقها صلوات الله وسلامه عليه، فاختارت النبي صلى الله عليه وسلم، فصارت زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم ومكثت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم ماتت بعده في سنة (56)، يعني: بعد النبي صلى الله عليه وسلم بـ (46) سنة، وعمرها (65) سنة حين توفيت رضي الله عنها.(270/8)
ذكر نبذة من حياة أم المؤمنين صفية رضي الله عنها
ومن نساء النبي صلى الله عليه وسلم السيدة صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، من أولاد هارون أخي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
كانت السيدة صفية بنت سيد قومها أيضاً، وسباها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم خيبر، ومنّ عليها صلى الله عليه وسلم وأعتقها وأسلمت، وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فصارت أماً للمؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ففي غزوة خيبر كانت أمة عند واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اسمه دحية الكلبي، وقعت في سهمه وأراد بيعها فاشتراها منه النبي صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وصارت أمة للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها ومن عليها وتزوجها.
نلاحظ أن السيدة جويرية كانت أمة واشتراها النبي صلى الله عليه وسلم ومَنّ عليها وأعتقها وتزوجها، وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم أن من الناس من يؤتى أجره عند الله مرتين، أي: يؤتى الأجر مضاعفاً عند الله، منهم: (من كان عنده أمة رباها فأحسن تربيتها، ثم أعتقها وتزوجها)، فالإنسان عندما يكون عنده أمة يملكها، فما الذي يجعله يعتقها ثم يتزوجها كأي حرة؟ فأي إنسان سيكون تفكيره على ذلك، إذ هي عندما تكون أمة عنده فهو يملكها، ويستمتع بها كما يشاء، ويوماً ما تضايقه فيبيعها، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحث الناس على تحرير الرقاب فبدأ بنفسه يعتق عليه الصلاة والسلام، وكم أعتق من الرقاب عليه الصلاة والسلام، يقولون: فلان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: كان عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه.
ولعل الإنسان عندما يقول: هذه الأمة أنا أعتقها ثم أتزوجها تكون هذه معرة، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك حتى يكون قدوة للخلق عليه الصلاة والسلام، فهذه جويرية رضي الله تبارك وتعالى عنها كانت من سبي بني المصطلق، كانت أمة وصارت عند النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، فإذا به يعتقها صلى الله عليه وسلم ويتزوجها حتى يتعلم من كانت عنده أمة أن يعتقها.
ولعله إن أعتق الأمة وتركها ليس لها أهل؛ لأنها من قبيلة أخرى، فقد تضيع بين الناس، فإذا تزوجها حافظ عليها وصارت معززة مكرمة عنده فازدادت منزلتها، ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم بالسيدة جويرية وفعل ذلك بالسيدة صفية بنت حيي.
وصفية بنت حيي أبوها حيي بن أخطب، قتل كافراً يهودياً، فهو الذي كان سبب مجيء قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعامل إنساناً بمعاملة إنسان آخر آثم، ولكنه يعتقها صلى الله عليه وسلم وتسلم رضي الله عنها، ويتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكون أماً للمؤمنين تحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالسيدة عائشة اغتاظت منها مرة من المرات، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن صفية -وتشير بيدها- قصيرة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)، أي: فلو وضعت هذه الكلمة في ماء البحر لأنتن، مع أن البحر طهور لا ينجسه شيء، لكن هذه الكلمة تنجس ماء البحر لو وضعت عليه، والكلمة هي أنها أشارت بيدها أنها قصيرة.
وكم في مجالسنا من القيل والقال، وهذا من شؤم الإنسان أن يتكلم بالغيبة والنميمة على الخلق.
السيدة حفصة في مرة من المرات كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، وكانت السيد صفية معه أيضاً، والسيدة صفية راكبة على جملها، وحدث للجمل حدث فلم يصلح للركوب، وكان عند السيدة حفصة أكثر من جمل، فطلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعين بما عندها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان عنده فضل ظهر فليعد من لا ظهر له)، فالسيدة حفصة كأنها أخذتها الغيرة، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أعطي هذه اليهودية.
وهذه كلمة ليست طيبة أبداً، ولما قالتها سكت عنها النبي صلى الله عليه وسلم وهجرها فترة طويلة على هذا حتى تأدبت، وحتى يئست من أن يأتيها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكلمها أبداً عليه الصلاة والسلام فترة طويلة حتى أحدثت توبة إلى الله عز وجل، فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تابت من هذا الذي قالته، وبعدما عاقبها فترة طويلة على ذلك.
وفي ذلك دلالة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته، فالغيرة موجودة، ولكن أن تصل الغيرة إلى أن يقال عن واحدة قد أسلمت: يهودية؛ فهذا لا ينبغي، واليهودية إذا أسلمت لها أجران عند الله عز وجل، أجر أنها كانت يهودية ثم عرفت الحق، فاتبعت الحق ودخلت في الإسلام، فتؤتى أجرها مرتين عند الله تبارك وتعالى.
وكان بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتعالين عليها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم السيدة صفية أن ترد عليهن بقولها: إنها تحت نبي وأبوها نبي، أي: أبوها سيدنا هارون أخو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لها حقها ممن يظلمها، وقد تعلمنا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيرته مع نسائه كيف كان يعدل بينهن عليه الصلاة والسلام، كيف كان يأخذ الحق لصاحبه، وهذا من ضمن الحكم في تعدد نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تحدث حوادث ونرى كيف يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكيف يصبر على أذى نسائه عليه الصلاة والسلام، وكيف يؤدبهن ويهذبهن عليه الصلاة والسلام، فيتعلم المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة الحسنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا معه في الجنة صلوات الله وسلامه عليه، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(270/9)
تفسير سورة الأحزاب [28 - 31]
لأنبياء الله سبحانه وتعالى منزلة عظيمة عنده سبحانه، وأعلاهم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم، ولأزواجه منزلة عليا، ومقام رفيع، ولا بد أن تكون زوجة النبي راضية بقضاء الله وقدره غير ساخطة، فإذا رضيت وأطاعت ضوعف ثوابها، وإن عصت الله ورسوله ضوعف عقابها.(271/1)
ما ينبغي أن تتخلق به نساء الأنبياء(271/2)
سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:28 - 31].
ذكرنا في الدروس السابقة كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يخير أزواجه لما نظرن إلى شيء من الدنيا، وطلبن زيادة النفقة، وقد رأينا أن الله سبحانه قد فتح للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الفتوح، وأغنمه أرضاً ودياراً وسبياً، فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عادته ذلك، إنما كان ينفق على المسلمين، ويعطي نساءه عليه الصلاة والسلام ما يحتجن إليه من النفقة، أما أكثر من ذلك واستمتاع بالدنيا فما كان يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.
وقد كرم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم فصرفه عن الدنيا فلم يكن صلوات الله وسلامه عليه يدخر مالاً لأهله إلا ما يكون من نفقة واجبة عليه.
فنساء النبي صلى الله عليه وسلم ظنت كل واحدة منهن أن الله قد فتح الفتوح، فمن حقها أن تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في النفقة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقد سألنه وألححن عليه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وغضب الله لغضب نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل الآيات يخير نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب:28] أي: نعطيكن من الذي تردنه من المتاع ومن المال.
وقوله تعالى: {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28] أي: يطلقكن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعلى هذا الوضع لا تصلحن للمعيشة مع النبي صلى الله عليه وسلم، لأن امرأة النبي لا بد أن تكون قانتةً لله سبحانه وتعالى، وراضية بقضاء الله وقدره، وبالمعيشة التي يعيشها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه سنة الله مع أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.(271/3)
قصة إبراهيم مع أهل بيت ولده إسماعيل عليهما السلام
إنَّ في قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لعبرة، وذلك حين ترك إسماعيل مع أمه هاجر عند بيت الله المحرم، تركها ومعها سقاء فيه ماء، وجراب فيه تمر، وتركها في مكان قفر لا ناس فيها، فقالت: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ فتركها وانصرف عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله أمره بذلك سبحانه، فلما ألحت عليه في النهاية قالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم.
قالت: إذاً: لا يضيعنا.
فوثقت في الله سبحانه فلم يضيعها الله سبحانه وتعالى، فلما نفد تمرها وماؤها وخشيت أن يموت ولدها في هذا المكان استغاثت بربها فأغاثها سبحانه بأن أرسل جبريل وبحث بعقبه فكانت عين زمزم التي نعرفها، ويشرب الآن منها ملايين الخلق منذ أن أنشأها الله سبحانه وتعالى وحتى تقوم الساعة.
ولما شبَّ إسماعيل النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، تزوج امرأة من جرهم، وجاء إبراهيم ليطالع تركته، فرأى امرأة، فعلم أنها امرأة ابنه إسماعيل، فسألها عن عيشهم وحياتهم، فقالت: نحن في ضيق.
فمثل هذه المرأة التي تعيش على هذا الأمر من التضجر على الله سبحانه والرفض لقضاء الله وقدره لا تصلح أن تكون زوجةً لنبي ورسول.
فقال إبراهيم: (إذا رجع زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه) وانصرف إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء إسماعيل وأحس بشيء فسألها: (أتاكم أحد؟ قالت: نعم شيخ صفته كذا وكذا، قال: أوصاك بشيء؟ قالت: نعم.
يقول لك: غير عتبة بابك.
قال: أنت العتبة اذهبي إلى أهلك) فطلقها وتزوج غيرها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وجاء إبراهيم مرةً أخرى يطالع تركته فوجد هذه المرأة فسألها: (كيف عيشكم؟ قالت: نحن بخير.
قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم وسقاؤنا الماء.
قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم) فبارك الله عز وجل لهم في طعامهم وشرابهم، ولم يكن لهم شيء من الزروع، ولو كان لهم زروع لبارك الله عز وجل في هذه الزروع.
فعلى ذلك ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف أن المرأة لما سخطت جوزيت بأنها لا تصلح أن تكون امرأة نبي فطلقها إسماعيل عليه الصلاة والسلام، أما الأخرى لما رضيت بقضاء الله سبحانه وتعالى قال لها يوصيها: (إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: أمسك عتبة بابك، فجاء إسماعيل فسألها: فقالت: جاء شيخ صفته كذا وكذا.
قال: هذا أبي فقال: هل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم.
يقول: أمسك عتبة بابك.
قال: أنت العتبة، فأمسكها إسماعيل عليه الصلاة والسلام).
إذاً: امرأة النبي لا بد أن تكون صابرة قانتة لله سبحانه، مطيعة لربها ونبيها عليه الصلاة السلام.
كذلك نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا بد لهن من ذلك، وإن لم يكن ذلك فلا يصلح أن يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء التخيير من الله، وهو ليس تطليقاً لهن، ولكن إن اختارت نفسها طلقها النبي صلى الله عليه وسلم ومتعها بمال، وإن اختارت ربها ورسول الله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة فالله عز وجل يعطيها الأجر في الآخرة ولا يعطيها في الدنيا نعيماً، فكلهن اخترن النبي صلى الله عليه وسلم.(271/4)
تعداد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرنا في الأحاديث السابقة أنَّ عدد نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي جمع بينهن تسعةٌ من النساء، وذكرنا في الحكمة من ذلك: أن النبي صلوات الله وسلامه عليه جعل له ربه ما لم يجعل لغيره لحكمة من الله سبحانه وتعالى، وأعظم شيء في ذلك: التبليغ، قال الله سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34].
وامرأة واحدة لا تكفي لتبليغ هذا الدين العظيم مع كثرة عدد المؤمنين والمؤمنات الذين يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعده نساؤه، فمنهن من عاشت حتى سنة خمس وأربعين، ومنهن من عاشت إلى سنة ثمانية وخمسين أو تسعة وخمسين أو بضع وستين.
إذاً: عشن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أعواماً طويلةً، فبلغن دين الله سبحانه، ولو كانت امرأةً واحدة لكانت عرضة للنسيان، فتنسى ما يتلى في بيتها، وتنسى بعضاً من الأحكام، ولكن عدداً من النسوة تذكر إحداهن الأخرى بأحكام الله سبحانه وتعالى وبما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم هن: السيدة خديجة بنت خويلد وسودة بنت زمعة وعائشة وحفصة بنت عمر وأم سلمة وأم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وكنيتها أم المساكين، وجويرية بن الحارث المصطلقية وصفية بنت حيي بن أخطب وريحانة بنت زيد بن عمرو بن خناقة من بني النضير سباها النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها في سنة ست وماتت في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والسيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في مكان اسمه سرف على بعد عشرة أميال من مكة، وكان ذلك في سنة سبع من الهجرة، وهي آخر امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها في سرف وماتت في نفس المكان، وصلى عليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: عبد الله بن عباس رضي الله تبارك تعالى عنه، ماتت في سنة إحدى وستين للهجرة وقيل: في سنة ثلاث وستين، فعمرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وخمسين سنة، أو واحداً وخمسين سنة تدعو إلى الله عز وجل وتبلغ ما أمرها الله سبحانه بإبلاغه.
وجل النساء اللاتي تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم منهن من ماتت في حياته عليه الصلاة والسلام، ومنهن من مات عنها صلى الله عليه وسلم، فكان عدد من اجتمعن معه في وقت واحد تسع نسوة رضي الله تبارك وتعالى عليهن.(271/5)
ذكر النساء اللاتي خطبهن النبي ولم يتزوجهن أو طلقهن قبل الدخول
وهناك نساء أخريات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بهن، منهن: امرأة من بني كلاب، واختلفوا في اسمها قيل: اسمها عمرة، وقيل: العالية وقيل: فاطمة، وقيل: غير ذلك، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء ليدخل بها قالت: أعوذ بالله منك.
فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من الله سبحانه وتعالى من كلمة هي قالتها، وهي لم تقصد هذه الكلمة، ولكنها لما قالت: أعوذ بالله، يعني: ألجأ إلى الله وأعتصم بالله منك، فخاف النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها وقد لجأت إلى الله واعتصمت به منه، فتركها وطلقها النبي صلوات الله وسلامه عليه.
روى الإمام البخاري قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك.
وفي رواية أنها قالت: الملكة لا تأتي السوقة.
فقد كانت كبيرة في قومها فظنت أنها ستتعالى حتى على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين وطلقها النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذه المرأة أشقى الخلق لمَّا حرمت نفسها بكلامها وسوء عقلها من أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكون إحدى نسائه في الجنة عليه الصلاة والسلام.
امرأة أخرى خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بأبيها يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بها برصاً ولم يكن فيها شيء، ولكن الرجل لم يرد أن يزوجها من النبي صلى الله عليه وسلم، فتركها النبي صلى الله عليه وسلم.
ورجع الرجل إلى بيته فوجد ابنته برصاء، وجد فيها ما قاله عنها كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، فعاقبه الله سبحانه وتعالى.
وهناك من خطبهن النبي صلى الله عليه وسلم وتعللن للنبي صلى الله عليه وسلم بعذر، وعذرهن صلى الله عليه وسلم منهن: السيدة أم هانئ بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، فتعللت واعتذرت وقالت: إني امرأة مصبية، يعني: عندي أطفال صغار، فعذرها النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لها، وغيرهن ممن خطبهن النبي صلى الله عليه وسلم وحدث عذر من الأعذار ولم يدخل بهن عليه الصلاة والسلام، ولم يعقد عليهن.
ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه إن اخترن نساؤه الحياة الدنيا فعليه أن يمتعهن، والمتعة: النفقة، أي: يعطيهن مالاً ثم يطلقهن، وإذا أردن الله ورسوله والدار والآخرة فإن الله أعد للمحسنات منهن أجراً عظيماً.
والأجر العظيم أجر يليق به سبحانه وتعالى؛ لأن الله سماه عظيماً، والجنة شيء عظيم جداً؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).(271/6)
مكافأة الله لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم لاختيارهن له
ثم في الآيات التالية تأديب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنات، وقد اختار هؤلاء النسوة الكرام النبي صلى الله عليه وسلم، فشكرهن الله سبحانه على ذلك، وكافأهن بأن قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس له أن يتزوج عليهن لأنهن اخترنه، قال تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] إذاً: هذه مكافأة من الله عز وجل لهؤلاء النسوة الطيبات الطاهرات اللاتي اخترن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تتزوج عليهن بعد ذلك.
ولكن لم يمت حتى أباح له الله أن يتزوج غيرهن، ولكن لم يفعل عليه الصلاة والسلام.
إذاً: هنا منة من الله سبحانه وتعالى عليهن، ثم أباح له ذلك لتظهر منة النبي صلى الله عليه وسلم عليهن، فهو لم يتزوج عليهن بعد ذلك حتى بعد ما أباح له ربه سبحانه له ذلك.
كذلك قال للمؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب:53] إذاً: هنا ميزة وخصيصة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، أن من تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل فهي أم للمؤمنين، ويحرم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم بامرأة النبي صلى الله عليه وسلم إذا توفي عنها صلوات الله وسلامه عليه.(271/7)
تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة)
وذكر الله سبحانه وتعالى أن لهن في الفضل والثواب والأجر والحسنات ما هو مضاعف على غيرهن، وكذلك في أمر الإساءة وحاشا لهن أن يفعلن ذلك فتكون العقوبة مضاعفة، كما قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] وحاشا لهن أن يقعن في ذلك.
والفاحشة: المعصية، وتطلق على كبار الذنوب، فمن الفاحشة الوقوع في الزنا والعياذ بالله.
ومن الفاحشة: المعصية لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] أي ظاهرة قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه وقد كشفت عن نفسها هذه الفاحشة فظهرت ولم تستتر.
{بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الأحزاب:30] هذه قراءة الجمهور.
وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم: (بِفَاحِشَةٍ مُبيَّنَةٍ) يعني: بين الله حكمها في كتابه، ومبيِّنة يعني: ظاهرة في نفسها يعرفها كل من يفهم ويعقل.
وجزاء من تأتي بفاحشة مبينة: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30] هذه قراءة الجمهور.
وقراءة ابن كثير وابن عامر: {نضعفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، وقراءة أبي عمرو ويعقوب: (يُضعَّف لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ).
وقوله تعالى: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30] أن يعذب أحداً من عباده هذا يسير عليه سبحانه وتعالى سواء كان هذا قريباً أو بعيداً من النبي صلى الله عليه وسلم.
وعكس ذلك: من يقنت، والقنوت: الطاعة والمبالغة في عبادة الله سبحانه وتعالى، والخشوع له.
قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31] إذاً: الخشوع لله عز وجل والطاعة لله وعمل الصالحات جزاؤه {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
إذاً: يضاعف لها الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
وقراءة الجمهور: {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31].
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ويَعْمَل صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ).
فسمى الأجر الذي عنده بالأجر العظيم وأن الرزق الذي يعطيه الله عز وجل لهن هو رزق كريم يعني: غاية في الكرم من الله سبحانه وتعالى، أي: رزقاً يكرمهن الله سبحانه وتعالى به.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يجعلنا مع نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(271/8)
تفسير سورة الأحزاب [30 - 33]
لقد جعل الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لنساء المسلمين في الآداب الإسلامية، فإذا كان الله سبحانه وتعالى حذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع بالقول مع الرجال ومن الاختلاط وتبرج الجاهلية مع جلالة قدرهن وفضلهن على نساء العالمين، فنساء المؤمنين أولى بالتحلي بهذه الآداب.(272/1)
الثواب والعقاب في حق نساء النبي
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأحزاب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:32 - 34].
في هذه الآيات من سورة الأحزاب يخاطب الله سبحانه وتعالى نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويبين فضلهن رضوان الله تبارك وتعالى عليهن، فهنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك طهرهن الله سبحانه وتعالى تطهيراً، أدبهن ورباهن بكتابه سبحانه وتعالى، وبما أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام، فذكر في الآيات قبل ذلك خطاباً لهن: بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من تقع منهن في خطأ أو سوء يضاعف الله لها العذاب، قال الله تعالى: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، إذاً: الخطيئة منهن ليست كغيرهن، بل هنّ أشد، لذلك يعاقبن على ذلك عقوبة مضاعفة، قال سبحانه: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب:30].
قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} [الأحزاب:31]، المرأة الصالحة إذا اتقت ربها سبحانه وتعالى، وعملت بما أمرها به ربها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلها الأجر المضاعف عند الله عز وجل.
إذاً: سيئتها مضاعف لها العقوبة فيها، وحسنتها حسنة مضاعفة، وهذا تكريم للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وبيان أنه لابد من مراعاة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهن أن يهتكن حرمات النبي صلوات الله وسلامه عليه بوقوعهن في الفاحشة أو بوقوعهن في إساءة، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن إذا وقعن في شيء مما نهى الله عز وجل عنه عاقبهن الله عقوبة مضاعفة، وإذا أتينَ ما أمر الله عز وجل به يكون الأجر مرتين، قال تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب:31].(272/2)
تفسير قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)
ثم قال: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32].
قوله: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ))، تشريف لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالتخصيص بالخطاب.
قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32] أي: أنتن لستن كغيركن من النساء، فقد شرفكن الله سبحانه وتعالى بأن جعلكن زوجات للنبي صلى الله عليه وسلم.
{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، ويجوز الوقف على (اتَّقَيْتُنَّ) وله معنى، ويجوز الوقف على: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ويبدأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32]، وإن كان الأول أجمل، فالمعنى: أن النساء كلهن متساويات، والفرق بين امرأة وامرأة: التقوى.
فقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب:32]، أي: إذا اتقيتن سبحان الله وتعالى لستن كغيركن من النساء، ولكنكن أعلى منزلة وأشرف موضعاً، فـ (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ) بتقواكن لله سبحانه وتعالى.
أي: (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) صرتن عند الله عز وجل أشرف وأفضل من غيركن من النساء.
وتقوى الله سبحانه وتعالى ترفع الإنسان عند الله عز وجل درجات، قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وما رفع الله الذين أوتوا العلم درجات إلا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد تقوى لله سبحانه، وازداد إحساناً في عمله، فيرفع الله المؤمنين عنده درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم فوقهم درجات بتقواهم لله سبحانه وتعالى.
إذاً: هنا: ((يا نساء النبي)) الخطاب لهن أنهن لسن كغيرهن من النساء بشرط، والشرط هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
فالفضيلة عند الله بكونهن تقيات، ثم بكونهن نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم إذا اتقين الله هنّ مع النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الدرجات الدنيا من الجنة، وليس في ربض الجنة، بل في أعلى الجنة، فلن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الجنة ونساؤه أسفل منه، بل يرفع الله الإنسان إلى منزلة من يحبه ممن هو أعلى منه، فيرفع الله نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ويكن معه في الجنة.
وعلى الوقف الثاني: وهو أن تقف عند قوله تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) ثم تقرأ: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
ولها معنى أيضاً، والمعنى فيها: أن الإنسان أحياناً إذا اتقى الله سبحانه وتعالى يتنازل، فتواضعه يجعل غيره يركب عليه ويخدعه ويطمع فيه.
إذاً: المعنى هنا: اتق الله سبحانه وتعالى، ولكن لا تكن ليناً بحيث تخدع في الشيء، والنساء في ذلك أولى، فالمرأة تكون تقية فتتواضع، ولكن لا يجعلها هذا التواضع تلين أمام الرجال في القول، والرجل حين يتواضع للرجال أكثر من حده ينقص قدره عندهم فلا يعرفون قدره.
والمرأة كذلك، فلو أن نساء النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن يخضعن في القول مع الرجال بدعوى التواضع لطمع المنافق والفاسق، والذي يخاطب بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعلم بما في القلوب.
فإذا كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تربت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يحذرها الله من الخضوع في القول، فنساء المؤمنين أولى بهذا الحذر.
فلو أن إنساناً شريفاً كبيراً في قومه وله مهابة، تخاف أن تدخل بيته، وتستحيي أن تكلم نساءه أو تكلم أهله، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أجل الخلق قدراً؟ إذاً: قليل أن يحدث مثل هذا الشيء، ومع ذلك فإن الله يحذر نساء النبي صلى الله عليه وسلم من الخضوع في القول للرجال.
فعلى ذلك فإن غير نساء النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فكل امرأة للرجال فيها مطمع، فنحن في زمان فسد أهله، وكثر فيه الخيانة والغش، وكثر فيه الخديعة، فعلى كل إنسان أن يحافظ على نفسه، ويحافظ على أهل بيته.
إذاً: حذر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضعن بالقول، فالمرأة تكون جادة في كلامها وتكون حازمة، لا تخنع بكلامها ولا تلين ولا ترخم صوتها لا بقراءة قرآن ولا بغيره، فإذا كانت المرأة تريد أن تقرأ القرآن وعلمت أن حول البيت رجال فلا يجوز لها أن ترفع صوتها بالقرآن، وخاصة إذا كانت تتغنّى بالقرآن، فلا يجوز لها أن تتغنى بالقرآن إلا مع نساء؛ لأن قراءة المرأة لكتاب الله أمام شيخ مدعاة للفتنة التي نهى الله عز وجل عنها.
إذاً: ليكن قولك قولاً فصلاً جاداً فيه الحزم وفيه القطع، وليس فيه الميل ولا التكسر أو التغنج، فلا يجوز للمرأة أن تصنع ذلك، حتى ولو كانت من نساء النبي صلوات الله وسلامه عليه اللاتي شرفهن الله سبحانه وطهرهن بموضعهن من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فقوله تعالى: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] أي: احذرن من الخضوع بالقول مع الرجال.
وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وهل يصل المنافق إلى مطمعه؟ حاشا لله عز وجل، ومستحيل أن يكون ذلك.
لكن في زماننا قد يصل إلى مطعمه، والمصائب كثيرة، فعلى ذلك فإن المرأة تلزم بيتها، وتلزم الأدب الشرعي، وتلزم حجابها، ولا تخضع بالقول للرجال، ولا تختلط بهم، ولا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.
ومعنى الخضوع بالقول: اللين والتكسر في القول بترخيم الصوت وتليينه إظهاراً للتواضع.
فعلى المرأة أن تلتزم وقارها وتلتزم الصمت، وإذا احتاجت لشيء تكلمت على قدر ما تحتاج، أما الأخذ والعطاء والإكثار من الكلام مع الرجل فهذا لا يجوز، والأصل في المرأة أن تلزم بيتها، فإذا خرجت لضرورة أو حاجة فليكن باللباس الشرعي، وليكن بالأدب الشرعي الذي أمر الله عز وجل به.
قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32] يعني: في كلامكن مع الناس.
أمرهن الله سبحانه وتعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمرأة يجب عليها إذا خاطبت الأجانب حتى وإن كانوا من المحارم بالمصاهرة مثلاً أن تكون في كلامها غير رافعة للصوت، ولا تعتاد ذلك، ولتكن حازمة في كلامها، لا لين فيه ولا تكسر، إلا أن يكون كلاماً ليناً مع زوجها أو مع محارمها مثلاً، فهي مأمورة بخفض صوتها، وليكن خفض الصوت لها عادة.(272/3)