تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:141 - 159].
يذكر الله عز وجل هنا في سورة الشعراء قصة ثمود التي كذبت رسولها، وأعرضت عنه وعاندته، وطلبت منه آية من الآيات، فلما حقق الله عز وجل لهم ما طلبوا كفروا وجحدوا، فانقلبت النعمة عليهم نقمة، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثم ختم سبحانه القصة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:158 - 159].
وثمود هم أصحاب الحجْر، وكانت مساكنهم بين الحجاز والشام، وقد كان العرب يعرفون هذا المكان جيداً، وكانوا كثيراً ما يمرون عليه في تجارتهم مع أهل الشام في رحلتهم.
فهنا يقول تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141].
وقد ذكر قبلهم عاداً بقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123].
وعاد هم قوم هود، وثمود هم قوم صالح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وقوم عاد كانوا في جنوب الجزيرة، وهؤلاء في شمال الجزيرة.
فقال هنا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، ومن قبل ذكرنا أن من كذب رسولاً واحداً فكأنما كذب كل رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه؛ لأنهم جميعاً يدعون الخلق إلى التوحيد، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، فالذي يكذب هذا الرسول فقد كذب كل من دعا إلى عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى.
ولذلك استحقوا هنا أن يوصفوا بأنهم المكذبون للمرسلين جميعهم.
إي: أنه لو أرسل الله عز وجل إليهم جميع الرسل لكذبوهم؛ لأنهم يكذبون بتوحيد الله سبحانه، ويعرضون عن ذكر الله.
وهذه القصة هي القصة الخامسة في هذه السورة، فقد ذكر لنا سبحانه قبل ذلك قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكر إبراهيم، ونوحاً، وذكر قصة عاد مع نبيهم هود، ثم ذكر بعدهم قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه السلام.(138/2)
معنى كلمة لا إله إلا الله
وهذه الكلمة هي نفس كلمة لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات إثبات أن الله هو المستحق للألوهية؛ فهو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، ونفي لاستحقاق هذه العبادة عن كل الآلهة سوى الله، فالمستحق للعبادة هو الإله الواحد، وأما غيره فليسوا آلهة ولا يستحقون العبادة.
فيقول هنا: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73]، وذلك بقول: لا إله إلا الله التي هي نفي للألوهية الحقه عن غير الله سبحانه، وإثباتها لله عز وجل وحده لا شريك له، فقول: المؤمن: لا إله، أي: لا أعترف بأي إله إلا إله واحد، هو الله الرب سبحانه وتعالى، المستحق للعبادة.
وقال سبحانه في الأعراف: {وَإِلَى ثَمُودَ} [الأعراف:73] يعني: أرسلنا إلى ثمود.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف:73].(138/3)
بيان أن التقوى سبب فلاح الإنسان
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:141 - 142]، أي: هلا اتقيتم الله سبحانه وتعالى؟ فهو يعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى ربهم بأن يتقوا غضب الله سبحانه، والتعبير بقوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:142]، وبقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] كرر في هذه السورة مراراً، والمقصود من ذلك البيان لجميع الخلق أن من لم يتق الله فسيأتيه العذاب كما جاء هؤلاء المكذبين، وأن من يتق الله فإن الله سبحانه سينجيه كما نجا المرسلين، فقد نجا سبحانه موسى وبني إسرائيل معه، ونجا سبحانه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ونجا سبحانه نوحاً ومن كان معه من المؤمنين، ونجا هوداً من قومه المكذبين، وهنا يرينا كيف نجا صالحاً من هؤلاء المجرمين.
فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142]، وهو أخ لهم في النسب، {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:142] أي: الله سبحانه، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:143] أي: جئتكم برسالة من عند رب العالمين، وأنا مؤتمن على هذه الرسالة، وأنا أمين أمامكم تعرفون صفاتي، وتعرفون أنني لم أكذب قبل ذلك، ولم أخن شيئاً، فكيف أخون الآن في هذه الرسالة، وأكذب على الله سبحانه وتعالى؟! {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:144] أي: اتقوا الله فيما تأتون من شرك وكفر ومعاصٍ لله سبحانه وتعالى.(138/4)
تنزه الأنبياء عن سؤال الأجر على تبليغ الرسالة
قال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء:145] وهذا هو نفس كلام المرسلين عليهم الصلاة والسلام فكلهم يقولون ذلك، ولا يطلب أحد منهم أجراً، ولو أن رسولاً من رسل الله عز وجل طلب من الناس أجراً لكان هذا أدعى لتكذيبه؛ لأن من فعل شيئاً يتعبد الله به فلا يصح له أن يطلب أجرة من الخلق عليه، لأن من طلب الأجرة من الناس تحكم فيه الناس، فقالوا له: نقبل هذا ولا نقبل ذاك، ولذلك كرم الله عز وجل المرسلين وشرفهم وجعل أجرهم عليه وحده لا شريك له، وعلمهم الصناعة والحرفة، ليكفوا أنفسهم، فكان منهم من يصنع الحديد، ومنهم من كان نجاراً، ومنهم من كان يرعى الغنم، وما من رسول بعثه الله عز وجل إلا ورعى الغنم؛ ليصبر على الناس، كما رعاها نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا يقول صالح لقومه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:144 - 145]، وقوله: {إِنْ أَجْرِيَ} [الشعراء:145] فيها قراءتان: (إن أجرِيْ)، و (إن أجريَ إلا على رب العالمين)، فأجره على الرب سبحانه، ومن صفات ربوبيته سبحانه أنه الذي يعطي، وأنه الذي يمنع سبحانه، وأنه الرازق الذي يرزق سبحانه، فهنا يقول صالح: أجري ورزقي على الرب سبحانه الذي يملك ذلك: {إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:145].(138/5)
تناسب آيات وقصص القرآن مع السور المذكورة فيها
وسياق هذه الآيات في هذه القصة مناسب ومتوافق مع السورة جميعها، فإن آيات السورة كلها مئتان وسبع وعشرون آية، وهي آيات قصيرة، وهذه الآيات تختم بهذه الفاصلة الياء والنون، أو الواو والنون في الغالب فيها.
وقد كرر القرآن هذه القصة في مواضع، وفي كل موضع يذكر شيئاً تستفيد منه حكماً من الأحكام وعلماً من العلوم، وتجد في كل موضع المجانسة بين القصة وبين السياق القرآني واضحاً، فتجد هنا آيات قصيرة مناسبة لسياق القرآن في هذه السورة، وتجد في سورة الأعراف القصة نفسها يذكرها الله سبحانه وتعالى بآيات طويلة، وهي مناسبة لسورة الأعراف، وكذلك في سورة هود تجد نفس الشيء، فقد تكررت هذه القصة فيها بلون آخر مناسب لسياق الآيات، وفيها أشياء زائدة، وفي الإسراء أشار إليها إشارة.(138/6)
بيان الغاية من دعوة الرسل
وفي هذه السورة ذكر الله عز وجل أن نبيهم قال لهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:143 - 144]، وفي الأعراف ذكر الله عز وجل عنه أنه قال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
فهذه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، كل منهم يقول لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)).(138/7)
تفسير قوله تعالى: (أتتركون في ما هاهنا آمنين بيوتاً فارهين)
ثم قال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] أي: أأعطاكم الله عز وجل هذه النعم الكثيرة العظيمة ويترككم آمنين حتى تكفروا؟! فهل أعطاكم كل هذه النعم حتى تكفروا به، وحتى تعصوه سبحانه وتعالى؟ فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} [الشعراء:146] أي: تنتظرون الأمن والأمان وقد أعطاكم نعمه فإذا بكم تجحدون هذه النعم، وقد أرسل إليكم رسوله عليه الصلاة والسلام فإذا بكم تكذبون رسالته، وتكفرون بربكم وتشركون به؟ فهل يترككم آمنين وأنتم تصنعون ذلك؟(138/8)
معنى قوله (بيوتاً فارهين)
يقال: ناقة فارهة بمعنى: عظيمة طويلة، وإنسان فره بمعنى: حاذق نشط، فكأنه يقول لهم: أنتم تنشطون في صناعة النحت في الجبال، وتنحتون البيوت العظيمة، ولا تتوجهون للعبادة، وإنما تعبثون وتلعبون، وعن عبادة ربكم تغفلون وتتلهون.
فهو هنا يذكر بأنهم فارهون بذلك، أي: حاذقون لهذه المهنة في لعبهم وعبثهم، وأنهم فرهين بمعنى: بطرين أو عابثين متجبرين.
وقد جاء عن ابن عباس وغيره قال: فارهين أي: حاذقين للصناعة.
وقال: فرهين بمعنى: متجبرين جبارين أيضاً.
ويأتي الفره بمعنى: الشديد الشره، أو: الأشِر، أو: البطِر المغرور، يعني: أنهم مغرورون، فهم حاذقون لصناعتهم، مغترون بها.(138/9)
ذكر نحت ثمود للبيوت في الجبال
قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، وهذه من نعم الله عز وجل عليكم، فالمفترض أن تعبدوا ربكم سبحانه وتعالى.
فإذا بهم بدلاً من أن يعبدوا ربهم يتفرغوا للعب واللهو ولفعل ما لا يلزمهم أن يفعلوه، فكانوا يعبثون كما كانت عاد تعبث بالبنيان العظيم الذي لا يحتاجون إليه، كما قال تعالى عنهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128].
وكذلك هؤلاء كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين.
كما قال تعالى عنهم: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، فقد كانت أعمارهم طويلة، وفراغهم كثيراً، فكانوا ينحتون في الجبال بيوتاً للزينة والزخرفة، حتى تبقى ذكرى لمن بعدهم بأنهم كانوا صناعاً، وأما أن يتركوا ذكرى للآخرة فلم يكن في حسابهم شيء من هذا؛ ولذلك قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:149]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (فرهين).(138/10)
معنى الهضيم الوارد في الآية
قال تعالى: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: ما يطلع منها كأنه وعاء.
والطلع هو: الكم الذي يخرج من النخلة، ويخرج منه الطلع في جوار النخلة، ثم يخرج من هذا الطلع الشماريخ والعذوق والقنو، وهو الذي يكون البلح والتمر والرطب وغيرها معلقاً فيه.
فيقول: إن هذا الطلع في النخل هضيم، وهضيم فعيل بمعنى: مفعول، أي: أنه غاية في الجمال واللطافة، حتى كأنه يهضم لوحده ولا يحتاج لمن يهضمه، أي: أنه لطيف في أكله، فطعمه جميل ولا يتعب المعدة، فهو يهضم بسهولة عند أكله.
قالوا: ومن معاني الهضيم: أنه الرطب، أو أنه نوع من أنواع الرطب، أو المتهشم المتفتت.
أي: أنه سهل في مضغه، وسهل في نزوله على المعدة، فهو ينزل بلطافه وبسهولة.
وأيضاً من معانيه أنه: الذي ضم بركوب بعضه بعضاً، فهو كثير، أي: متراكب بعضه على بعض.
أي: أن النخلة ممتلئة بالبلح وبالرطب وبنعم الله سبحانه وتعالى.
وقالوا من معانيه: اليانع النظيف.
وقالوا: إنه الرخص اللطيف، أو الرخو.
وكل هذه المعاني التي ذكرناها عبر الله عز وجل عنها بكلمة واحدة، وهي كلمة (هضيم)، وقد فسرها العلماء بأكثر من اثني عشر تفسيراً، وهذا من بلاغة القرآن الكريم، حيث إنه يعبر باللفظ الوجيز الذي يعطي المعاني الكثيرة.(138/11)
نعم الله عز وجل على ثمود
وهنا في هذه السورة يذكر الله سبحانه وتعالى أن صالحاً عليه الصلاة والسلام ذكر قومه بالنعم كما ذكر هود عاداً بنعم الله سبحانه عندما قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128 - 135]، فذكرهم بالنعم.
وهنا أيضاً يذكر الله عز وجل ما قاله صالح لقومه من تذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، وهذا التذكير لم يذكره سبحانه إلا في هذه السورة فقط، وقد ذكرت قصة ثمود في حوالي عشرة مواضع من كتاب الله سبحانه وتعالى، فذكرها الله عز وجل في الأعراف كما قدمنا، وفي سورة هود أيضاً، وفي سورة الإسراء إشارة، وذكرها ههنا في سورة الشعراء، وذكرها في سورة النمل، وفي سورة الذاريات، وفي سورة القمر، وفي سورة الشمس وضحاها، وقد ذكر سبحانه في كل سورة من هذه السور بعض الأشياء التي ليست في غيرها.
وقد ذكر هنا تذكير صالح لقومه بنعم الله عز وجل، فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:146 - 147]، فقد أعطاهم الله جنات وبساتين عظيمة وعيون كما أعطى لقوم هود من قبلهم.
وقوله: ((فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) فيها قراءتان: فيقرؤها ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي: (وعِيون)، وباقي القراء يقرءون ((وَعُيُونٍ)) بالضم فيها.
وقوله تعالى: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: أعطاكم الحقول التي فيها الزروع والحبوب، وأعطاكم النخيل، كما قال: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:148] أي: أكثر أموالكم من هذه النخيل، فتأكلون من ثمارها، وتبيعون وتتاجرون فيها، والطلع الذي فيها ليس كمثله شيء من الطلوع التي عند الناس، فعندكم أعظم الأشياء.(138/12)
تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون ولا يصلحون)
ثم قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:150].
فهو هنا يذكرهم بالله عز وجل، ويكرر عليهم قوله: اتقوا الله سبحانه وتعالى، وأطيعوني فيما جئتكم به من عند رب العالمين.(138/13)
طاعة الكبراء تؤدي إلى الضلال والزيغ
ثم قال: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151]؛ لأن العادة أن من الناس من يقبل دعوة رب العالمين سبحانه وتعالى، ولكن يغلب عليهم طاعة السادة والكبراء الذين يوجهونهم إلى ترك عبادة الله سبحانه، فهؤلاء القوم لما تأتيهم آية من عند رب العالمين المفروض عليهم أن يؤمنوا بها، وقد كادوا يؤمنون بما جاء به رسولهم عليه الصلاة والسلام، ولكن الكبراء منهم منعوهم وصدوهم، وقالوا لهم: لقد سحركم هذا الرسول، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهنا لما قال {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء:151] بين أنهم: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152]، فالمفسرون: يفسدون في الأرض، ولا يؤدون الصلاة، ولكن يعبثون ويلعبون ويفسدون، فلا يصلحون حالهم ولا حال غيرهم.(138/14)
تفسير قوله تعالى: (قالوا إنما أنت من المسحرين إن كنت من الصادقين)
فلما قال ذلك قالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] يعني: لك سحر، وسحر الإنسان هي الرئة.
يعني: أنك مخلوق مثلنا، فتلبس كما نلبس، ولك معدة وتأكل وتشرب مثلنا، بل نحن أحسن منك، فلا نسمع كلامك.
{إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:153 - 154] يعني: إنما أنت من المسحرين، ولست إلا بشر مثلنا، {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154]، فهنا طلبوا الآية الحسية، ولم يكفهم أنه رسول من عند رب العالمين جاء برسالة من الله يدعوهم إليه، وإنما طلبوا آية يرونها بأعينهم.(138/15)
وقوف الكبراء في وجه الدعوة
قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، والمستكبرون هم الكبار من القوم، وأما من آمن مع صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكانوا ضعفاء، ولم يكن كل الضعفاء مؤمنين فقال المستكبرون لهؤلاء الضعفاء المؤمنين: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75] يعني: أحق هو مرسل من ربه؟! {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]، أي: إنا بالذي أرسل به هذا الرسول عليه الصلاة والسلام والذي آمنتم أنتم به كافرون.(138/16)
مجادلة قوم صالح لنبيهم عليه الصلاة والسلام
وقد ذكر الله عز وجل هذه الآيات في سورة هود، وذكر فيها نعمه سبحانه بسياق آخر مناسب لهذه السورة، فقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].
فهذه دعوة هادئة جميلة من هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فقد قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ} [هود:61] أي: هو خلقكم سبحانه من هذه الأرض، فقد كنتم تراباً فأنشأكم منها وفوقها، {وَاسْتَعْمَرَكُمْ} [هود:61] أي: جعلكم تعمرون هذه الديار، {فَاسْتَغْفِرُوهُ} [هود:61] أي: عاملوا ربكم بما أنعم عليكم بأن تحسنوا عبادته، وأن تستغفروه سبحانه، كما قال: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] أي: إن ربنا العظيم سبحانه قريب منا، فإذا استغفرناه غفر لنا، وهو مجيب يستجيب الدعاء، فادعوا ربكم يستجب لكم.
فكان جوابهم كما قال الله عز وجل في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]، فكان جوابهم جواباً لائقاً بهم وبسفاهتهم.
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62] يعني: لقد كنا نظنك عاقلاً، فإذا بك تقول هذا الكلام، {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] أي: أنهم كانوا قبل ذلك يصدقونه، وكان عندهم صادقاً، حتى إذا جاء بالرسالة قالوا له: ((إِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)).
قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63].(138/17)
تمكين الله عز وجل لثمود واستخلافهم من بعد عاد
وقد جاء في سورة الأعراف أنه لما ذكرهم بنعم الله سبحانه قال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف:74] يعني: أن عاداً أعطاهم الله عز وجل النعم فجحدوا وكفروا، فجاءهم العذاب، وأنتم جئتم من بعدهم، فتفكروا فيهم، فإنكم إذا كفرتم كان مالهم كمالهم، وجزاءكم كجزاءهم، فلذلك قال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف:74]، بوأكم يعني: جعل لكم مبوءاً، أي: منزلاً تنزلون فيه، فقد فسح لكم في دياركم، وبوأ لكم في الأرض فتنزلون في أي مكان فيها، وهذه من نعم الله سبحانه عليكم.
قال تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:74] يعني: أعطاهم الله السهل والجبل، فلهم في السهول بيوت وقصور عظيمة، وأما الجبال فكانوا ينحتون فيها البيوت العظيمة.
ولذلك قال لهم نبيهم: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74] أي: لا تفسدوا هذا الفساد الشديد الذي تفعلونه.(138/18)
تفسير قوله تعالى: (قال هذه ناقة لها شرب وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
ثم طلبوا منه الآية، فقالوا {فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154]، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155].
وكانوا قد تعنتوا في طلب الآية كنوع من التشديد عليه، فقالوا له: إن أردت أن نؤمن بك فافلق لنا هذا الجبل أمام أعيننا، واخرج لنا منه ناقة ومعها ابنها بجوارها، فإذا فعلت ذلك آمنا بك.
فلما قالوا ذلك حذرهم عليه الصلاة والسلام من عقوبة رب العالمين سبحانه، وسألهم: أإذا جاءتكم هذه الآية أتؤمنون؟ فقالوا: نؤمن.
فأخذ عليهم الميثاق على أن يؤمنوا، وحذرهم بأنهم لو كفروا بالله فسيأتهم من عند الله عذاب يوم عظيم.
فانتظروا الآية، ففلق الله الجبل أمام أعينهم، وخرجت منه ناقة ومعها فصيلها، فكانت آية عظيمة، فكادوا يؤمنون به، ويدخلون في دينه جميعاً، فخاف الكبراء أن يؤمن الضعفاء؛ لأنهم لن يجدوا من يتبعهم ويخدمهم ويكون معهم، فمنعوهم وصدوهم عن الإيمان برب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى على لسان صالح عليه الصلاة والسلام مخبراً بخروج الناقة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155].
وقد كان عندهم بئر من الآبار يشربون منها، فقال لهم: ومن آيات الله أن يريكم آية في هذه الناقة، وهي: أنها ستشرب من هذا البئر يوماً جميع الماء ولا تقدروا أن تشربوا منه شيئاً، وتتركه لكم اليوم الثاني، فيوم لكم ويوم لها، فلها شرب، أي: لها حظ ووِرْد في البئر يوماً كاملاً، ولكم يوم آخر فلا أحد منكم يشرب معها في هذا اليوم، فكانت تشرب الماء الذي في البئر كله في يومها، وهم يأخذون من لبنها في هذا اليوم.
فاستقاموا على ذلك وإن لم يؤمنوا معه، ولم يؤمن معه إلا القلة من هؤلاء، قال تعالى مخبراً عن هذه القسمة: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:155 - 156] أي: احذروا أن تؤذوا هذه الناقة؛ لأنها آية من آيات الله سبحانه، فإذا كنتم لم تؤمنوا فاحذروا من تعجيل العقوبة بسبب منكم، فلا تؤذوا هذه الناقة فيأخذكم عذاب يوم عظيم.
لكنهم اعتقدوا أنه ما دامت هذه الناقة موجودة فهي دليل على أنها آية من عند رب العالمين، ودليل على صدق هذا الرسول، فبدأ يحرض بعضهم بعضاً على عقر هذه الناقة؛ بدعوى أنها تحرمهم من الماء يوماً، فاتفقوا على قتلها، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48].
وهنا هذه القصة مذكورة في سورة النمل، وقد فصل فيها سبحانه وتعالى ما الذي حدث، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:45 - 46] أي: هلا استغفرتم الله سبحانه لعله يرحمكم، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47] أي: تشاءمنا منك فأنت شؤم علينا، فكانوا ينظرون إلى أهل الدين على أنهم شؤم عليهم، ويقولون كلاماً كذباً، وهم أول من يعرف أنه كذب، ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون، فقال لهم صالح: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47] أي: كتاب أعمالكم عند الله يحصيه عليكم، وتشاؤكم هذا من عملكم، يبتليكم الله عز وجل به يوماً من الأيام، بل أنتم قوم تفتنون.
وقوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل:48] أي: تسعة من الناس يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فكان عملهم الفساد في الأرض، وذكروا أن سبب فسادهم حنقهم على صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال بعضهم لبعض: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، فهم إضافة على كفرهم بالله سبحانه وفعلهم المعاصي الشنيعة عقروا الناقة، وأرادوا قتل نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فاتفقوا فيما بينهم على عقر الناقة، فعقرها منهم أحيمر ثمود الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشقى القوم.
قال الله عز وجل: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]، فكان أشقى القوم هذا الرجل: أحيمر ثمود، فقال للقوم: إني عاقر هذه الناقة، فصوبوه على ما يقول، ومنوه بأن يزوجوه امرأة من جميلاتهم، ومنته أم الفتاة بأن تزوجه بنتها إذا عقر الناقة، فرماها بسهم فعقرها، فصرخت الناقة، وهرب طفلها، ثم رجع القاتل إلى قومه بعد أن عقر الناقة.(138/19)
نزول العذاب على قوم صالح
فلما أرادوا أن يصنعوا ذلك حذر الله عز وجل نبيه، وأمره أن يحذر القوم فإن العقاب سينزل بهم، قال تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ} [الشعراء:157]، وذلك أن نبيهم عليه الصلاة والسلام قال لهم: انتظروا ثلاثة أيام، وترقبوا عذاب الله سبحانه وتعالى في دياركم ثلاثة أيام، وهذه آية من الله عز وجل أخرى لهؤلاء القوم، قال تعالى في سورة هود: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] أي: آية من آيات الله أن يمهلكم ثلاثة أيام، وبعد اليوم الثالث يأتيكم العذاب من عند رب العالمين.
وقد ذكر البعض من المفسرين أنه قال لهم: الآية فيكم أن تجدوا ألوانكم تتغير، فتصغر وجوهكم في اليوم الأول، وتحمر في اليوم الثاني، وفي اليوم الثالث تسود وجوهكم، ويأتيكم العذاب من عند رب العالمين، فقالوا له: إن لم يأت ذلك لنقتلنك، فأصبحوا على ما ذكر لهم من العلامة، فأصبحوا نادمين في وقت لا ينفع فيه الندم، وقد ذكر لنا الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن الندم توبة، وأن الإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل فإن الله يتوب عليه، وهؤلاء ندموا ولم ينفعهم ذلك؛ لأنهم رأوا آية من آيات الله سبحانه، وقد كانوا قبل ذلك يكذبون بها.
فأصابهم الرعب عندما تغيرت وجوههم، وجلسوا ينتظرون العذاب وهم في غاية الرعب من الله عز وجل، وفي اليوم الثالث جاءتهم الرجفة والصحية، وأهلك الله عز وجل الجميع، وجعلهم آية من الآيات، قال سبحانه في سورة هود: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:66]، فجاءت الرحمة من عند رب العالمين لصالح وللمؤمنين، كما قال تعالى: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود:66] أي: لم نخزهم ولكن نجيناهم، {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:67 - 68].
فجاءتهم صيحة من السماء، ورجفت بهم الأرض، فخروا كلهم ميتين، كما قال الله سبحانه: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]، وهو مأخوذ من قولهم: جثم الطائر على الأرض، أي: سقط على الأرض.
قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:68] من قولهم: غنى بالمكان، أي: أقام بالمكان.
فكأنهم لم يقيموا بها، فأين ذهبت أعماركم الطويلة؟ وأين ذهبت أفعالكم التي ظننتم أنها عظيمة وجليلة؟ وأين الحصون والقصور؟ وأين الجبال؟ أين ذهب ذلك كله؟ فكأنهم لم يغنوا فيها ولم يعيشوا أبداً، فقد جاءتهم الصيحة من عند رب العالمين فهلكوا كلهم، قال الله سبحانه: {أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ} [هود:68].
وهنا في سورة الشعراء يقول سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء:157 - 158] أي: بعد ثلاثة أيام من الرعب، فقد عاملهم بالتخويف الشديد الذي لا ينفع معه الندم، ثم جاءت الصيحة والرجفة فأخذهم سبحانه، قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:158] أي: آية عظيمة من آيات رب العالمين يعتبر بها كل إنسان مؤمن يخاف من الله سبحانه، ويعلم عقوبته، ويعلم كيف ينتقم ممن عصاه، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:158].
{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:159] أي: إن الله هو العزيز الغالب القاهر الذي لا يمانع أبداً سبحانه، ومهما استطال الإنسان وأملى له ربه فإنه آخذه أخذ عزيز مقتدر، ومع ذلك فهو الرحيم لمن تاب وأناب قبل أن يأتي العذاب.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(138/20)
تآمر ثمود على قتل صالح
ثم إن هؤلاء التسعة النفر تقاسموا فيما بينهم أن يقتلوا أيضاً صالحاً مثلما قتلوا الناقة، فتقاسموا بالله أن يبيتوه، أي: يقتلوه بالليل كما قال تعالى: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] أي: سنقتله بالليل، وإذا سئلنا عنه في الصباح قلنا: لم نره ولم نشاهده، فيصدقنا أهله.(138/21)
تفسير سورة الشعراء [160 - 175]
يذكر الله سبحانه في سورة الشعراء قصة قوم لوط عليه السلام، وكيف أن الله أهلكهم لارتكابهم أفحش الفواحش، والله سبحانه يبتلي الأقوام إذا استمروا على ارتكاب الذنوب والمعاصي بأمراض وأوبئة لم تكن في أسلافهم.(139/1)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:160 - 175].
هذه قصة أخرى من قصص سورة الشعراء يذكر الله عز وجل فيها قوماً ممن كذبوا وأعرضوا عن ربهم سبحانه، وبدلوا نعمة الله كفراً، وأتوا الفواحش، وأفسدوا في الأرض وخانوا، فابتلاهم الله سبحانه وتعالى، ثم جاءهم العذاب، وختم هذه القصة بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:174 - 175].
إنَّ قصة قوم لوط وما صنعوه عبرة من العبر، وما فعل بهم عبرة من العبر، وينبغي على كل إنسان مؤمن أن يتأمل في هذه القصص القرآنية، فإن الله عز وجل لم يسقها كنوع من التسلية يتسلى بها الإنسان مثلاً، وإنما ساقها الله عز وجل حتى يعتبر الإنسان، قال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء السابقين، فإذا فعلتم مثل فعالهم فانتظروا عقوبةً كعقوبتهم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:174 - 175].
ذكر الله عز وجل قبل ذلك قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقصة إبراهيم، وقصة هود مع قوم عاد، وقصة صالح مع ثمود، وهذه قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع قومه، قال سبحانه وتعالى هنا: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وهذه كبداية كل قصة، فقد كرر ذلك مرات، قال الله تعالى في قوم عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:123 - 127]، وبنفس الافتتاح افتتح به هذه القصة، كما كرر ذلك في قوم عاد وقوم ثمود وأصحاب الأيكة.
قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160 - 161].
فقوم لوط كذبوا لوطاً وهو رسول واحد، ولكن من كذب رسولاً فقد كذب كل الرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأن دعوة الرسل دعوة واحدة، ولوط رسول رأوه أمامهم، ونشأ بينهم، فقوم عاد أخوهم هود، وقوم ثمود أخوهم صالح، وأما لوطٌ فغريب عنهم، ولكنه جاء فعاش بينهم، فعلموا صدقه، وعرفوا حاله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فالغرض: إذا كان هذا الرسول بينهم وهم يرونه ويسمعونه، ويعرفون أنه أمين لا يخون، وأنه صادق لا يكذب، وقد دعاهم إلى الله فأعرضوا، فكيف بغيره من الرسل الذين لم يروهم، فلو أن الله عز وجل أخبرهم على ألسنة هؤلاء أن صدقوا وآمنوا فإنهم لا يؤمنون، ومن كذب رسولاً واحداً فهو حري أن يكذب الباقين، ومعلومٌ أن دعوة جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
ولذلك قال الله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:160 - 161] ومن المناسب أن يقول الله عز وجل: المرسلين، ولا يذكر الرسل مثلاً، أو يقول: كذبت قوم لوط رسولهم؛ لأن الفواصل مختومة بالياء والنون أو بالواو والنون، فختم كل آية مناسب لذلك، فتكون هذه الفاصلة كالتي قبلها والتي بعدها.
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161] أي: نبيهم لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يكن منهم، بل هاجر إليهم، وهو ابن أخي إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم الخليل أخوه اسمه هاران، وابن أخيه لوط بن هاران بن تارخ، وتارخ أبو إبراهيم ويدعى آزر، وكان إبراهيم ولوط في العراق، وهاجر لوط مع إبراهيم من العراق إلى الشام، فذهب إبراهيم إلى مكان، واستأذن لوط عمه وذهب إلى هؤلاء القوم في قرية اسمها سدوم يدعوهم إلى دين الله سبحانه وتعالى، وعاش معهم فترة؛ ولذلك قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161].
وإن كان ليس أخاً لهم في نسبهم، ولكن في الأخوة البشرية، أو يقال: فلان أخو القبيلة، يعني: من هذه القبيلة، فهو هاجر إليهم ومكث عندهم فكأنه أخ لهم.(139/2)
تفسير قوله تعالى: (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطعيون)
قال الله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:162] أي: مؤتمن، فقد ائتمنني الله عز وجل على هذه الرسالة، وأنا عندكم لست خائناً، بل تعرفون صدقي وتعرفون أمانتي.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:163] أي: احذروا من غضب الله، واحذروا من عقوبته، واجعلوا بينكم وبين نار الله عز وجل وقاية بعمل الخير، فاعملوا أعمال الخير التي تقيكم من عذاب الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:163] هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (فاتقوا الله وأطيعوني) وقفاً ووصلاً.(139/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)
قال الله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164] أي: لست أسألكم أجراً، فما أجري إلا على رب العالمين، وفيها قراءتان: (إن أجريَ) و (إن أجريْ)، فقوله تعالى: ((إِنْ أَجْرِيَ)) هذه قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وقراءة باقي القراء: (إن أجريْ إلا على رب العالمين) ومنهم من يمدها: (إن أجري إلا على رب العالمين) ومنهم من يقصر: (إن أجري إلا على رب العالمين).
فالأجر على الرب سبحانه، فهو الرزاق الكريم الذي يثيب، والذي يعطي الأرزاق لعباده، وهو الرب الخالق سبحانه المدبر لأمر الكون، والمربي لخلقه وهو رب العالمين، أي: العالم العلوي والعالم السفلي، فالله عز وجل رب كل شيء سبحانه وتعالى.(139/4)
تفسير قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين بل أنتم قوم عادون)
قال الله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:164 - 165]، فهو يبكتهم على مصائبهم وعلى ذنوبهم فيقول: ما الذي تصنعونه؟ ولم يفعل هذه الفاحشة قبل قوم لوط أحد، فأول من فعلها هم هؤلاء المعلونون، وسنوها لمن بعدهم، فكانت سنتهم القبيحة لعنة الله عليهم وعلى أشباههم، قال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166] فكانوا لا يتزوجون النساء، بل كانوا يسافحون الرجال، وينكحون الذكران من العالمين، فقوله تعالى: {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} [الشعراء:166] أي: خلق ذكوراً وخلق إناثاً، وجعل الذكر يتزوج الأنثى، فكيف قلبتم الوضع؟ وكيف بدلتم نعمة الله عز وجل عليكم بهذا الكفران المبين الذي تصنعونه؟ فهل يعقل هذا الذي تفعلونه؟ وهل أنتم قوم تعقلون؟ قال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: بل أنتم قوم تتعدون الحلال إلى الحرام، ومن تعدى الحلال إلى الحرام فلا ينتظر من الله عز وجل إلا العذاب الأليم، قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166] أي: متجاوزون للحد، واقعون فيما حرم الله، فانتظروا العقوبة من الله.(139/5)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين)
قال الله سبحانه: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] وهذا تهديد منهم، فهم كثرة وهو واحد وليس له أبناء من الذكور عليه الصلاة والسلام، فليس معه إلا امرأته وكانت كافرة، وليس معه إلا ابنتان فقط، فهنا يظهر منطق القوة، فإما أن تسكت وإلا سنخرجك من المدينة، وهذا دائماً منطق كلام أهل السفاهة، لا ينظرون إلى العقل، ولا ينظرون إلى الدين، ولا يخافون رب العالمين، إنما جوابهم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] أي: سنطردك خارج هذه البلدة.(139/6)
تفسير قوله تعالى: (قال إني لعملكم من القالين)
قال لوط عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:168]، قلى الشيء بمعنى: كره الشيء، فقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] يعني: ما كرهك وما أبغضك، فهنا: إني لعملكم من المبغضين، وإني أكره أعمالكم هذه التي تصنعونها.
فقوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:168] لم يجاملهم فيما هم فيه، ولكن تهددهم بعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، وأظهر لهم البغضاء للعمل الذي هم عليه.(139/7)
تفسير قوله تعالى: (رب نجني وأهلي مما يعلمون إلا عجوزاً في الغابرين)
ثم دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] فذكر الله عز وجل هنا اختصاراً: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:170] ولم يذكر كيف أنجاه الله عز وجل؟ وقد فصل الله ذلك في غيرها من السور، فقد تكررت قصة لوط بتفصيل في حوالي تسع سور من كتاب رب العالمين سبحانه، فيذكر فيها لوطاً ودعوته قومه إليه سبحانه وتعالى، وأنهم كذبوه، فذكر في الأعراف شيئاً، وذكر في سورة هود أيضاً شيئاً من ذلك، وفي الشعراء، وفي العنكبوت، وغيرها من السور.
فهنا لما دعا ربه سبحانه قال الله عز وجل: {فَنَجَّيْنَاهُ} الفاء: تفيد الترتيب والتعقيب، يعني: مباشرة نجيناه من ذلك، وجاءت عقوبة الله سريعة حتى وإن كانت في نظر أنها بطيئة؛ لأنها بمجرد ما نزلت وحدثت يقول الإنسان: أين هؤلاء؟ أين ذهبوا؟ فقد أخذهم الله سبحانه أخذاً سريعاً، وقد يكون هو المستبطئ للعقوبة قبل ذلك، فلوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام كأنه قد استبطأ العقوبة، فقال له الرسل عليهم السلام: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] فقد كان لوط في غاية الحزن والضيق، وكان يريد أن يقع عليهم العذاب بسرعة فإذا بالرسل يطمئنونه ويقولون: ((إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ)) أي: اصبر حتى الصبح وسيأتي العذاب من عند رب العالمين سبحانه.
وفي سورة هود يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77] فهنا ذكر التفصيل للإهلاك، وأما في الشعراء، فقال الله عز وجل: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ} [الشعراء:169 - 170] ولكن كيف نجاه الله عز وجل؟ اختصر ذلك في هذه السورة، والفواصل في هذه السورة قصيرة، والآيات كثيرة وعددها مائتان وسبع وعشرون آية على عد، أو مائتان وست وعشرون آية على عد آخر، فالسورة طويلة، لكن فواصلها قصيرة، فالمناسب هنا أن يختصر فيها، وخاصة مع تكرار ذكر الأنبياء على وجه الاختصار، وكيف أن الله عز وجل أهلك أممهم لما كذبوا وأعرضوا.
فهنا دعا ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الشعراء:169 - 171].
وفي سورة هود يقول الله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77].
وفي سورة الحجر يقول الله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر:61 - 64].
إذاً: ذكر الله عز وجل أن هناك رسلاً قد جاءوا إلى لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم ملائكة من عند رب العالمين سبحانه، وقبل أن يذهبوا إلى لوط عليه الصلاة والسلام ذهبوا إلى إبراهيم الخليل، فقد كان إبراهيم في الشام ولوط في مكان آخر، وكان الرسل ثلاثة ملائكة في هيئة البشر حسان الوجوه، فلما رآهم إبراهيم دعاهم فهو أبو الضيفان عليه الصلاة والسلام، وسبق إلى بيته وجاء بعجل حنيذ، أي: مشوي بالحجارة، فهذا لثلاثة من الضيفان، وقدم إليهم الطعام وقال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27].
قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] فكونك تدعو إنساناً إلى طعام وتحط الطعام أمامه وهو غريب ثم بعد ذلك لا يرضى أن يمد يده، فإنك تتوجس خوفاً منه؛ لأنه قد يكون عدواً أو ينوي شراً، وكان العرب إذا صادقوا أحداً أكلوا معه، وإذا عادوا إنساناً لا يأكلون معه؛ ليظهروا أنه ليس هناك بينهم وبينه مودة.
فالرسل أبوا أن يأكلوا، فإذا بإبراهيم يتوجس في نفسه خيفة، فطمأنوه، قال تعالى: {قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] أي: نحن ذاهبون إلى قوم لوط، فاستبان له الأمر أنهم رسل من عند رب العالمين في هيئة بشر.
قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] أي: امرأة إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام سارة قائمة، وقد جاوزت الثمانين من عمرها، وقد بشرها الرسل بإسحاق، وذلك حين علمت أن معهم البشارة من عند رب العالمين لها بأن الله سيرزقها الولد، قال تعالى: {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] أي: بعد إسحاق سيأتي يعقوب من إسحاق، وهذا دليل على كذب أهل الكتاب حين قالوا: إن الذبيح هو إسحاق حتى لا ينسبوا للعرب فضلاً.
وذكر الله في القرآن أن الملائكة بشرت سارة قبل أن تلد وكانت عقيماً، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] يعني: إسحاق سيكبر، وسيتزوج وسينجب ولداً اسمه يعقوب، فكيف تأتي البشارة من الله سبحانه بذلك ثم يأمر إبراهيم بذبحه قبل أن يتحقق الوعد، وقبل أن يأتي يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟! فذلك ينفي أن يكون الذبيح هو إسحاق، فالذبيح هو إسماعيل، والغرض: أنهم بشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فقالت: مندهشة: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72]، فهي عجوز وزوجها شيخ كبير، فهي قد جاوزت الثمانين من عمرها، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود:72].
قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى} [هود:74] أي: هدأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد خوفه من الضيوف الذين دخلوا بيته وأبوا أن يأكلوا، وبعد أن اطمأن إبراهيم جاءته البشارة من الله بأنه سيولد له مولوداً وكان قد ولد له قبل ذلك إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكنه كان يتمنى أن يكون له ولدٌ من سارة، حتى تفرح سارة كما فرح إبراهيم بإسماعيل، فالله عز وجل بشر سارة، فلما ذهب عن إبراهيم الورع جاءته البشرى، ثم سأل المرسلين عن وجهتهم فقالوا: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:32 - 34].
وقد كان إبراهيم حليماً رحيماً، فهو أب لأبنائه وأب لمن أرسل إليهم ليدعوهم إلى الله عز وجل، ولذلك أخذ يجادلهم في قوم لوط، فقالوا: قوم مسرفون، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإبراهيم حليم، ولذلك كان يطلب منهم أن يصبروا عليهم قليلاً.
فقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ} [هود:75] أي: رجاع إلى الله سبحانه وتعالى، إذاً: الرحمة التي في قلبه هي التي جعلته يقول لهم: اصبروا على هؤلاء القوم، فقال له ربه سبحانه: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود:76] أي: لا شأن لك بذلك، قال تعالى: {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود:76] أي: قد جاء أمر الله عز وجل، وقضاء الله وقدره نافذ لا رجعة فيه، فقد قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يجادلهم: أتهلكون قريةً فيها ثلاثمائة مؤمن؟ يعني: إذا كانت هذه القرية فيها ثلاثمائة يعبدون الله سبحانه وتعالى أتهلكونها فتهلكون هؤلاء المؤمنين معهم؟! قالوا: لا، فجادلهم أكثر وانتظر الخير من وراء ذلك، فقال: فمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، فما زال يجادلهم حتى قال: فيها ثلاثة من المؤمنين؟ قالوا: لا، قال: فإن فيها لوطاً، فكيف تهلكونها وفيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32] فقد كان للوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام امرأة كافرة وبنتان مؤمنتان، فسننجيه والبنتين فقط، وأما الآخرون فسنهلكهم، وكذلك امرأته سيأتيها العذاب من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وخرجت الرسل من عند إبراهيم، وتوجهوا إلى قرية سدوم، ولما جاءوا القرية أتوا بالليل؛ فتنة وابتلاء من الله عز وجل، فقوم لوط قوم شواذ يأتون الذكران من العالمين، فيبتليهم الله بشبان حسان يأتون إلى هذه القرية في غاية من الجمال، ولما رأت بنت لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام الشبان -وهي مؤمنة- خافت عليهم، فقد أرادوا دخول هذه القرية وطلبوا الضيافة في هذه القرية؟ فقالت لهم: اصبروا مكانكم ولا تدخلوا؛ فإن القوم قوم سوء، وهرعت إلى أبيها لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقالت: جاء إلى القرية شبان ما رأيت مثل وجوههم أدركهم لا يفضحهم قومك، فخرج لوط فلما رآهم (قال هذا يوم عصيب)، أي: يوم صعب شديد، إذ إنه لا يستطيع حمايتهم لوحده؛ ولذلك قال لوط عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وكأنه نظر أن إبراهيم كان له من يحميه ومن ي(139/8)
تفسير قوله تعالى: (ثم دمرنا الآخرين وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
قال تعالى: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:172] أي: جاء الدمار من عند رب العالمين، فالقرية قلبت رأساً على عقب، وأتبعهم الله عز وجل بحجارة من سجيل، وهي حجارة صلبة محماة في نار جهنم.
قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الشعراء:173] أي: نزلت الحجارة كالمطر من السماء، قال تعالى: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء:173] فإن أسوأ ما يكون من مطر أن ينزل على هذه الصورة لمن أنذروا، فلم يستجيبوا لمن حذروا، ولم يأخذوا حذرهم، فجاء العذاب من عند رب العالمين فساء مطر المنذرين.
وفي سورة العنكبوت يذكر الله سبحانه وتعالى قصة لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكيف حذر قومه، قال الله عز وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:28 - 29].
فهذه جملة من ذنوب هؤلاء الكفار، فهم قوم يكفرون برب العالمين سبحانه، فيدعوهم لوط إلى توحيد الله سبحانه، ولكنهم شواذ يأتون الذكران من العالمين، ويقطعون السبيل، فهم لصوص يقطعون الطريق على الناس، ليسلبوا أموالهم ويأخذوها.
قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:29] يعني: في المجالس التي يجلسون فيها لفعل الفاحشة، ولا ينكر بعضهم على بعض شيئاً، فهم يرفعون أصواتهم، ويتظارطون في مجالسهم، ويأتون هذه الفاحشة والعياذ بالله في مجالسهم ولا أحد ينكر على أحد شيئاً.
قال الله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29]، فأهل الجريمة وأهل الفساد هذا جوابهم.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30]، ثم ذكر الله عز وجل كيف أنجاه.
وفي سورة الصافات يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:133 - 138] أي: تمرون على هذه القرى قرى سدوم، فقد صارت أرضهم بحراً مراً في هذا المكان، من يمر عليه يعرف أن هنا كان قوم لوط يأتون الفاحشة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى هنا في هذه السورة الكريمة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، ويختم الله كل قصة بهذا الختام الجميل، فقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء:8] أي: الذي حدث من هؤلاء وحدث لهم وحدث فيهم آية وموعظة لمن يعتبر، وعبرة لمن يتذكر.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] أي: الذين سمعوا هذه المواعظ لم يتعظوا بها، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] عزيز منيع الجانب سبحانه وتعالى، قوي غالب قادر قاهر سبحانه، جبار قهار فعال لما يريد، وهو رحيم سبحانه، فإذا تاب إليه العبد تاب الله عز وجل عليه.
روى ابن ماجة عن ابن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) فالفاحشة فعلها قوم لوط وغيرهم، فجاءت العقوبة من السماء من عند رب العالمين، وغيرهم قد يقعون فيها، والله عز وجل قد يستر أقواماً، وقد يفضح أقواماً، وقد يهلك أقواماً سبحانه وتعالى، والهلاك يقيناً يأتي لمن يجاهر بالمعصية ولمن يجاهر بالفاحشة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها) أي: حتى يفعلوا الفاحشة ويستهينوا ويستهزئوا ويجهروا بها، فيقعون في الزنا، ويقعون في اللواط، ويأتون الفاحشة جهاراً، فيأتي العذاب من عند الله، قال: (إلا فشا فيهم الطاعون) أي: يرسل عليهم الوباء العظيم الذي لا قبل لهم به، يرسل عليهم الطاعون ويرسل عليهم الكوليرا والزهري والسيلان والإيدز، ويرسل عليهم الكبد الوبائي، ويرسل عليهم ما لا طاقة لهم به، وكلما قالوا: تغلبنا على شيء فتح لهم غيره ولا يقدرون عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن هذه الفاحشة إذا ظهرت في القوم ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا المنكر، جاءت العقوبة من عند الله، يقول سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فإذا جاء الوباء انتشر وعم المفسد وغيْر المفسد، وتجد المريض يقول: الإيدز انتشر في الناس عن طريق الدم، فهذا بلاء من الله عز وجل.
وكذلك الكبد الوبائي ينتقل عن طريق نقل الدم من إنسان لإنسان فيبتلى به، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، يبتلى بها الجميع، فهذا يبتلى لكونه مفسداً، وهذا يبتلى لكونه ساكتاً عن الفساد، فلم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر، فتأتي العقوبة على الجميع.
فالله يحذرنا من أن نقع في الفواحش، وأن نجاهر بها، وأن نستهين بعقوبة الله، وقال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(139/9)
تفسير سورة الشعراء [176 - 191]
في قصة شعيب مع قومه عبرة لمن يعتبر، فعلى المرء ألا يطمع في الدنيا، وليعلم أن الرزق الحلال وإن كان قليلاً خير من الحرام وإن كان كثيراً، وليحذر المرء من الحرام؛ فإنه يمحق الرزق كله، وتكون عاقبته الهلاك في الدنيا، والعذاب في الآخرة، وهذا ما حل بقوم شعيب، فقد كانوا يطففون في المكيال والميزان، وقبل ذلك كله كفروا بربهم وكذبوا رسولهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.(140/1)
تفسير قوله تعالى: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين إن أجري إلا على رب العالمين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:176 - 180].
قصة شعيب مع قومه هي القصة السابعة في هذه السورة الكريمة سورة الشعراء، فيذكر الله سبحانه وتعالى فيها قصة شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه، وقومه هم أهل مدين وذكر هنا أنهم أصحاب الأيكة، وقد كان أهل مدين وهم أصحاب الأيكة عرباً يسكنون قرية اسمها مدين من أطراف الشام، وكانت ذات غيضات وذات حدائق وبساتين، والأيكة هي الشجر الشجر العظيم الأغصان الملتفة بعضها على بعض من كثرة الري، وكانوا قريبين من قرى قوم لوط، وكانوا بعدهم بزمان ليس بالبعيد.
ومدين من أبناء إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قالوا هو: مدين مديان بن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل، إذاً: فالمدة الزمنية قريبة بين مدين وقوم لوط، ولذلك حذرهم نبيهم أنه قد يلحقهم ما أصاب الذين من قبلهم كقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط.
يقول الله سبحانه: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، قراءة الجمهور (الأيكةِ) بالكسر، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر:) كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ)، وكأنها هنا ممنوعة من الصرف فجرت بالفتحة على هذه القراءة، فقيل: إنها اسم للبلد، وكأن (ليكة) اسم لهذه البلد، و (الأيكة) بمعنى الأغصان الملتفة في هذه الأشجار العظيمة التي في حدائقهم، فهم أصحاب الأيكة وأصحاب ليكة.
قوله {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} أي: كذبوا رسولهم شعيباً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء لفصاحته، وكان شعيب من العرب عليه الصلاة والسلام، وكان فصيحاً، ونرى فصاحته وبلاغته في الكلام الذي يسوقه الله عز وجل لنا في هذه القصة، سواءٌ في سورة الشعراء أو في سورة الأعراف أو في سورة هود أو في سورة الحجر، فقد ذكر سبحانه القصة طويلة في هذه السور الأربع.
فذكر الله سبحانه وتعالى أنه قال لهم: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]، فأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:178] أي: هو كغيره من رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكلهم أمناء على تبليغ رسالة رب العالمين، وكلهم معهود منهم في أقوامهم الصدق والأمانة، وأنهم لم يكذبوا ولم يفسدوا أبداً قبل ذلك، فقال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:178 - 179]، وهذه المقدمة في جميع القصص التي قبلها في عاد وثمود وقوم لوط، وكذلك أصحاب الأيكة كرر الله عز وجل هذا الذي قاله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
(وأطيعون) فيها القراءتان كما تقدم في مثيلتها، قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:179 - 180].(140/2)
تفسير قوله تعالى: (أوفوا الكيل ولا تعثوا في الأرض مفسدين)
قال الله تعالى حاكياً قول شعيب لقومه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181 - 183]، فهذه هي جرائم هؤلاء الأقوام، وهذا هو الذي كانوا يصنعونه، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذا يدل على أن عندهم الثمار وعندهم الزروع، فهم يبيعون هذه الزروع والثمار إما عن طريق الكيل وإما عن طريق الوزن، وكانوا يخسرون ويطففون المكيال والميزان، فكأنهم أول من صنعوا ذلك، فحذرهم نبيهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من هذا الصنيع الفظيع الذي وقعوا فيه، فقال لهم: ((أَوْفُوا الْكَيْلَ)) أي: احذروا من عدم الوفاء بالكيل، ((وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ))، فهذه جريمة يستحق الناس عليها عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء:182] أي: زنوا بالعدل، و (القسطاس) فيه قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف (بالقِسطاس) بكسر القاف، وقراءة باقي القراء: (وَزِنُوا بِالْقُِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ) أي: بميزان العدل، والمعنى: وزنوا بالعدل حين تعطون وتبيعون للناس.
قال: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الشعراء:183] أي: لا تنقصوا الناس أشياءهم، بخس الإنسان قدره ونصيبه، أعطاه الحظ غير الوافي، وأعطاه الشيء الناقص، فهو بخسه واستنقص مما يعطيه ظلماً وعدواناً، فهؤلاء كانوا يظلمون الخلق، فإذا كالوا للناس بخسوا الناس أشياءهم، ويأخذون الشيء الجيد ويعطون الشيء الرديء، ويوهمون من يعطونهم أنهم أعطوا أفضل الأشياء، فقال: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس، والإنسان من طبيعته الطمع والشح، قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فمن طمع الإنسان أنه إذا اكتال لنفسه أخذ من الناس الشيء الكثير وأخذ وافياً، فإذا أعطى لغيره أعطى الأقل.
وقد حذرنا الله عز وجل في القرآن من ذلك فقال: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين:1 - 2] أي: إذا طلبوا من الناس الكيل واشتروا منهم فإنهم يستوفون حقهم ويأخذونه وافياً، لكن لو كانوا هم الذين يبيعون للناس بخسوهم حقهم، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:3].
فهنا قال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: ((وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)) أي: لا تظلموا الناس أشياءهم، ((وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) قوله: (ولا تعثوا) عثا يعثوا عثواً أي: اشتد فساده، وليس فساداً عادياً، بل أشد الفساد.(140/3)
تفسير قوله تعالى: (واتقوا الذي خلقكم وإن نظنك من الكاذبين)
قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:184] أي: الخلق السابقين، فيكون المعنى: اتقوا الذي خلقكم كما خلق الجبلة الأولين السابقين قبلكم، فكان جواب هؤلاء الأقوام كجواب الذين من قبلهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء:185 - 186]، فهذا هو نفس الكلام الذي قالته ثمود لنبيهم صالح على نبيهم وعليه الصلاة والسلام، {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153] يعني: قد سحرت فأنت تتكلم كلاماً ليس جيداً، أو أنه لك سَحَراً والسحر هو الرئة، وقالوا: الصالح: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:154].
وهنا قوم شعيب لما انبسط شعيب معهم زادوه في
الجواب
{ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:185 - 187].
وأما قوم ثمود فقالوا لنبيهم: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ} [الشعراء:153 - 154] يعني: أنت لك سحر، وأنت بشر مثلنا، فكأنه جواب واحد وأكد الأول بالثاني، وكأن هؤلاء يقولون: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [الشعراء:186] يعني: لن تكون أفصح منا، فكلما تقول لنا كلاماً كثيراً فسنرد عليك بجواب كثير، فهنا زادوه في الكلام على ما قال الذين من قبلهم، فقالوا: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء:186] أي: ويغلب على ظننا أنك تكذب علينا وأنك لا تصدقنا، وهو لم يكذب عليهم قبل ذلك، لكن الكاذب يرى الناس كذابين مثله، فهم أهل كفر وأهل كذب وأهل مكر وخديعة فيرمونه بدائهم هم.(140/4)
قصة شعيب وقومه في سورة الأعراف
في هذه السورة ذكر الله عز وجل ما دار بينه وبينهم مختصراً، وفي سورة الأعراف قال الله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهنا قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] وأهل مدين هم أصحاب الأيكة، وذكر بعض المفسرين أن مدين قوم وأصحاب الأيكة قوم آخرون، وقد أرسل شعيب إلى الفريقين، واستدلوا على ذلك بأنواع العذاب، فقالوا: هؤلاء أصابهم عذاب يوم الظلة، وأولئك أصابتهم الصيحة والرجفة من الله عز وجل، فيكون هؤلاء قوم وهؤلاء قوم.
ونقول: هذا ليس بصواب، وإنما الصواب أن شعيباً أرسل إلى مدين الذين هم أنفسهم أصحاب الأيكة كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى.
فهنا في هذه السورة قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:176 - 177]، مع أن العادة قبل أن يذكر ثموداً ويذكر عاداً يذكر الأنبياء فيقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} [الشعراء:124]، ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142] ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161]، وهنا لم يقل: أخوهم مع أنه أخ لهم في النسب، فهو من القبيلة نفسها، وعبر عن ذلك في قوله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهذه هي التي أحدثت إشكالاً عند بعض أهل العلم، فقالوا: هؤلاء قبيلة وهؤلاء قبيلة، فهو أخ لمدين وليس أخاً لأصحاب الأيكة، والصواب: أنهم هم هم، ولكن هنا لطيفة أشار إليها الحافظ ابن كثير رحمه الله في ذلك فقال: هؤلاء -يعني أصحاب الأيكة- هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا: أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها، فلهذا لما قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وإنما قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:177]، فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسباً، ومن الناس من لم يفظن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيباً بعثه الله إلى أمتين.
وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، فدعاهم إلى عبادة رب العالمين، وحذرهم من الشرك وعبادة الجمادات، قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85] يعني: هو جاءهم بآية من عند رب العالمين، ولم يذكر لنا ربنا سبحانه ما هي هذه الآية، كما لم يذكر لنا في قصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام ما الآية التي جاء بها إليهم، ولكن كل نبي قد جاء لقومه بآية من الآيات.
فهنا جاءهم نبيهم بآية من عند ربهم سبحانه، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85]، وكل هذا من أجل أن تصدقوا بربكم سبحانه، ومن أجل أن تستجيبوا لما أدعوكم إليه وتتركوا المعاصي والفواحش التي تقعون فيها، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85] أي: إن كنتم تؤمنون بالله سبحانه وتعالى فصدقوا ما أقوله لكم ولا تصنعوا هذه الأفعال القبيحة الشنيعة.
فكلام شعيب عليه الصلاة والسلام مع قومه كلام فصيح، وقد ذكره الله عز وجل وساقه في سورة الأعراف، وفي سورة هود، وهنا في الشعراء، ففي سورة الأعراف يقول الله سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:86 - 87]، فهذا كلام عظيم بليغ فصيح من نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولذلك لقب بخطيب الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان ضريراً عليه الصلاة والسلام، فيذكر هنا من ضمن الأشياء أو الجرائم التي يقعون فيها أنهم لا يوفون في الكيل ولا في الميزان، وأنهم يظلمون الناس ولا يدفعون لهم حقوقهم بل يبخسونهم، وكانوا يقعدون للناس في الطريق ويأخذون منهم الضرائب والعشور من أموالهم، فقال: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف:86] أي: تتهددون الناس على كل طريق لتأخذوا منهم المال {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86] يعني: تؤذون المؤمنين الذي اتبعوني ودخلوا في ديني، فتقعدون لهم في الطرق وتخيفونهم، ولم يكتفوا بإخافة المؤمنين بل أخافوا نبيهم عليه الصلاة والسلام بالتهديد والوعيد، حتى استفتح ربه عليهم، وسأل الله أن يفتح بينه وبينهم بالحق.
إن سياق الآيات غاية في الجمال والمناسبة التي تجدها فيها، فانظر هنا في سورة الأعراف لما ذكر الله سبحانه أن هؤلاء خوفوا نبيهم دعا ربه سبحانه، فجاءهم العذاب الذي يخيفهم من عند رب العالمين سبحانه، وستلاقي في سورة هود أنهم صاحوا بنبيهم وكأنهم ينكرون عليه ما يقول، فجاءهم العذاب بصيحة من السماء يبتليهم الله عز وجل بها ويأخذهم سبحانه، ففيها مناسبة بين تعذيبهم وبين صنيعهم، ففي كل سورة يقص شيئاً من صنيعهم يناسبه العذاب الذي حاق بهم، فالله عز وجل عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب: الأول: أرسل عليهم رجفة زلزلت بهم الأرض.
الثاني: أرسل عليهم صيحة من السماء.
الثالث: أرسل عليهم ظلة تكويهم وتحرقهم بنار؛ لأنهم طلبوا ذلك.
فكأنه أشار في كل سورة إلى المناسبة بين ما طلبوه وما فعلوه وما حاق بهم من العذاب من عند رب العالمين سبحانه.
ثم قال في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} [الأعراف:86] يعني: لا تنسوا أنفسكم، ولا تغتروا بعشيرتكم ولا بقوتكم ولا بأموالكم.
فقال هنا نبيهم عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86] أي: أن الذي كثركم قادر على أن يقللكم ويعيدكم إلى الذل مرة ثانية، {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86] كقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط.
ثم قال: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87].
فما كان جواب هؤلاء الأقوام؟ يقول الله عز وجل {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، فهم لم ينظروا إلى الحجج التي جاء بها، ولا إلى الآية البينة التي جاء بها، وإنما نظروا إلى أنهم أقوياء وهو ضعيف، فما دام الأمر كذلك فما نقوله هو الحق، فإما أن ترجع في ديننا أنت ومن معك وإما أن نفعل بكم ونفعل، وهذا التخويف لنبيهم ولمن معه.
فكان جوابه: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88] أي: هل تعيدوننا إلى الكفر غصباً عنا وتكرهوننا على ذلك؟ ثم قال لهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف:89] أي: كيف نرجع ونعود في ملتكم؟! مع أنه لم يعبد الشجرة، وما كان لنبي من أنبياء الله أن يعبد غير الله سبحانه؛ لأن الله يحفظهم قبل الرسالة التي تنزل عليهم وبعد الرسالة، ولكن كأنه يتكلم عن نفسه ومن معه، فالذين معه كانوا قبل ذلك كفاراً، ثم بعد ذلك دخلوا في دين نبيهم شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلذلك {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:88 - 89] أي: لن نرجع في دينكم أبداً، ولكن إن أراد الله تعالى أن يفتن بعضاً منا فالأمر ليس لنا؛ لأن قدر الله سبحانه غالب على كل شيء.
ثم قال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: اقض وافصل بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، هذه قصة شعيب مع قومه في سورة الأعراف.(140/5)
قصة شعيب وقومه في سورة هود
كذلك في سورة هود يذكر الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84]، فيذكر أن شعيباً أخوهم، وهنا في الشعراء ذكر أصحاب الأيكة، وفي سورة الحجر أيضاً ذكر أصحاب الأيكة فلم يقل: أخاهم لا في الحجر ولا في الشعراء، ولكن قال: شعيبٌ عليه الصلاة والسلام.
ثم قال في سورة هود: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84]، هذا كلام جديد لم يذكره الله عز وجل في سورة الأعراف، فكأنه تلطف معهم في الكلام في البداية، فقال لهم: ((إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ)) يعني: أنتم في نعم عظيمة، قد أعطاكم الله من الزروع والثمار، وأعطاكم من النعم الكثيرة، فاعبدوا هذا الإله العظيم الذي خلقكم ورزقكم، ((وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ))، ثم قال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:85 - 86] يعني: ما يبقى لكم من أموال حلال وإن كان قليلاً هذا خير لكم مما تأخذونه من أموال محرمة وإن كان كثيراً، فالمال الذي تأخذونه بالإنقاص في الكيل وفي الميزان وغير ذلك من الحرام.
وهذه النصيحة لهم ولغيرهم، فينبغي للإنسان ألا يطمع، ولينظر إلى هؤلاء الذين طمعوا ولم يرضوا بالحلال -وهو كثير عندهم- وإنما أرادوا الكثرة، وطبيعة الإنسان أن فيه نهماً وفيه شرها، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لتمنى أن له ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
فهؤلاء عندهم الخير الكثير من عند الله ومع ذلك يطففون في الكيل والميزان، فقال نبيهم عليه الصلاة والسلام: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود:86] يعني: إذا بعتم واشتريتم فما بقي لكم من ربح حلال يكفيكم، وهذا أخير لكم وأفضل من أن تزيدوا عليه من أموال محرمة، فيمحق الله الجميع بسبب طمعكم.
فكان جوابهم أن قالوا: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ} [هود:87] فكأنهم صاحوا عليه: ما الذي تقوله؟ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87] أي: هل صلاتك تأمرك بذلك؟ {أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعني: أنت تظن أنك حليم رشيد مع أنك لا تفهم شيئاً، وكأنهم يعرضون في الكلام، والحليم هو الإنسان الذي فيه تؤدة صبر وليس عنده اندفاع، فهم قالوا له ذلك على وجه الشتم، فكأنهم يقولون: أنت مندفع وأنت متهور وأنت لست كما تزعم وإنما تمثل علينا بهذا الشيء، {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، والرشيد هو إنسان راشد يجيد التدبير فيما أعطاه الله عز وجل من أموال، فكأنهم يقولون له: هل أنت الذي ستدبر لنا أموالنا وتجمع لنا أموالنا؟ وهم بقولهم: (الرشيد) يقصدون بأنه هو السفيه الذي لا يفهم شيئاً في إدارة الأموال، فكأنهم يشتمونه بذلك.
قوله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} [هود:87]، وهذه عادة السفهاء والجهلاء لما يقولون لأهل الدين: هي الصلاة التي تقول لكم: اعملوا كذا، وهو نفس الكلام الذي قاله الكفرة من قبل: (أصلاتك تأمرك)، وهذه فيها قراءتان: (أصلاتك) و (أصلواتك) تأمرك.
قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:88]، إن طريقته وأسلوبه في المخاطبة دليل على حلمه وعلى صبره على هؤلاء، فهؤلاء يستحقون أن يدعو عليهم، ومع ذلك يجادلهم ويناظرهم ويزيد الحجة وراء الحجة، فيقول: (يا قوم) وهذا فيه تحبب وتودد، يعني: أنا منكم ولست غريباً عنكم، فأنتم قومي وأنتم أولى الناس أن أدعوكم، (يا قوم أرأيتم) أي: أخبروني عن الأمر إن كنت على بينة من ربي وآتاني الله عز وجل هذا الدين وجئتكم بهذه البينة، ((وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا)) أي: رزقاً حلالاً، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، وهم يقولون له: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعنون: أنك من ورائنا تعمل مثلنا، فيقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] أي: كيف أصنع شيئاً غير ما آمركم به؟ ما أريد أن أخالف فأفعل هذا الحرام الذي تفعلونه، {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] أي: ما أريد إلا أن أصلح حالكم قدر المستطاع، وأصلح ما أنتم فيه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
ثم قال: محذراً لهم: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] قوله: (يا قوم لا يجرمنكم) أي: لا يستهوينكم ولا يدفعنكم في الشر شقاقي أو خصومة بيني وبينكم إلى أن تكذبوا فيصيبكم عذاب الله الذي أصاب الأقوام من قبلكم: (قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فهؤلاء جميعهم قد عرفتم ما نزل بهم من عذاب رب العالمين سبحانه، وقد كانوا سابقين عليكم بمدد، لكن قوم لوط كانوا قريبين منكم ليسوا ببعيد عنكم.
ثم قال لهم: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90] فلما قال لهم ذلك إذا بهم يأبون إلا أن يصرخوا ويصيحوا عليه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] أي: لسنا فاهمين منك شيئاً، وإنما أنت تخرف في الكلام، وهذه عادة هؤلاء فلا عقول لهم، ولا يفهمون إلا أن من كان ذا قوة فرأيه هو الرأي السديد، فقالوا لشعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود:91]، فانظر إلى سوء الأدب مع الأنبياء فهم يعيرونه بأنه ضعيف، ثم يقولون: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] يعني: كان له قوم وعشيرة، فهم لا يقصدون ضعف العشيرة لا، وإنما ضعيف لأنه كان ضريراً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالكلام هنا ليس فيه مجابهة حجة بحجة، ولا مناظرة وإنما هذه سفاهة وسوء أدب.
{وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] يعني: نحن نسكت عنك فقط مراعاة لأهلك، أما لو كنت وحدك لرجمناك بالحجارة وقتلناك، ولست العزيز عندنا الذي نهتم لأمرك ولشأنك.
قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود:92] أي: هل من العقلاء من يقول ذلك؟ أرهطي هؤلاء أعز عليكم من الله؟ أفلا تتوبون إلى الله سبحانه؟! أفلا تتفكرون ما الذي تهرفون به من كلام لا تفهمون معناه؟! أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتم الله سبحانه وتعالى وراء ظهوركم.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود:92 - 93] وهنا جاء التهديد، فهو بعدما تلطف معهم وبعدما نصحهم ووعظهم ورأى أنه لا فائدة فيهم، قال: اعملوا الذي أنتم تريدونه، {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} [هود:93] أي: تتهمونني بالكذب فستعلمون من هو كاذب {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود:93]، فجاء أمر الله سبحانه وتعالى فأخذهم وأهلكهم.(140/6)
تفسير قوله تعالى: (فأسقط علينا كسفاً وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
يذكر الله سبحانه أنهم قالوا له: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187] أي: ظللاً من السماء، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء:187] أي: ارمنا بقطع من حجارة السماء أو قطعة من السماء إذا كنت صادقاً.
قوله: (كسفاً) هذه قراءة حفص عن عاصم وحده فقط بفتح السين، وأما بقية القراء فيقرءونها بالتسكين فيها: ((فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسْفًا)).
قال تعالى: {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:188] أي: الله أعلم بأعمالكم، فهو يعلم ما الذي تستحقون على ذلك فانتظروا منه الجزاء، فأصروا على استكبارهم وتكذيبهم، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189]، ولاحظ المناسبة هنا، فقد طلبوا العذاب فقالوا: أسقط علينا كسفاً، أي: ائتنا بقطع من السماء، فأتاهم عذاب يوم الظلة، وما كانوا يحسبون أنه عذاب عليهم، فهم لما طلبوا الظلة من السماء وقالوا: أسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين، فكروا أنه عندما ينزل عليهم كسف من السماء سيهربون في الجبال ويفرون من العذاب، ولكن الله سبحانه وتعالى يملي لهم، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، فسلط عليهم الحر الشديد سبعة أيام، فصاروا يبحثون عن شيء يستظلون به، فأرسل عليهم سحابة من السماء، فذهبوا جميعهم تحت هذه السحابة يستظلون بظلها، ويسترطبون برطوبتها، فلما اجتمعوا تحتها أرسل عليهم سبحانه صيحة ورجفة وناراً فأحرقتهم جميعهم، فجاءهم العذاب، قال في هذه السورة سبحانه وتعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:189].
وأما في السور الأخرى فذكر الله عز وجل في الأعراف أنه أهلكهم برجفة، فقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90]، وأخافوا نبيهم وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، فلما أخافوهم جاءت الزلزلة من تحت أرجلهم تخيفهم وترعبهم، قال سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف:91].
وفي سورة هود يذكر الله أنهم صاحوا على نبيهم وشتموه: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، وقالوا لنبيهم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود:91]، فلما رفعوا أصواتهم على نبيهم جاءتهم صيحة تصمهم وتعميهم من الله عز وجل؛ جزاءً وفاقاً.
فذكر في كل سورة ما يناسب صنيعهم من عذاب من عند ربهم سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل في سورة الأعراف: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92]، فكأنهم قالوا لشعيب ومن آمن معه: إنكم في خسران مبين، فالله عز وجل بين أنهم هم في خسران عظيم، فقال الله عز وجل فيها: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف:92] أي: كأنهم لم يقيموا بهذا البلد، وكأنهم لم يكن لهم عَدد ولا عُدد ولا قوة ولا أفراد كأنهم لم يكن لهم شيء من ذلك، {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92].
فأنجى الله نبيه عليه الصلاة والسلام فتولى عنهم وتركهم وانصرف عنهم، قال: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] يعني: اذهبوا أينما ذهبتم فلن أحزن عليكم، وكيف أحزن على قوم كفروا برب العالمين سبحانه وقد قدمت النصيحة لهم؟! وفي سورة هود يختم الله عز وجل القصة بقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95] أي: سحقاً وعذاباً.
وفي سورة الحجر يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:78 - 79]، (وإنهما) أي: أصحاب الأيكة وأصحاب حجر ثمود، (لبإمام مبين) يعني: ترونهم في طريق واضح حين تذهبون إلى الشام.
وختم هذه القصة في سورة الشعراء بقوله سبحانه الذي تكرر مراراً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:190 - 191] أي: الغالب القاهر الذي لا يقدر أحد أن يمتنع من شيء أراده سبحانه وتعالى، فهو العزيز وهو الرحيم بالمؤمنين سبحانه وتعالى.
إن هذه القصة فيها عبراً لمن يعتبر، وعلى الإنسان ألا يطمع في هذه الدنيا، وليعلم أن الرزق الحلال وإن كان قليلاً خير من أن يستكثر من الحرام فيمحق الله عز وجل الجميع، فالإنسان مهما أخذ من المال فإن الله عز وجل سيسأله عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فليعد للسؤال جواباً، وليحذر من الحرام؛ فإن الحرام يدعو بعضه إلى بعض، فمن أخذ قليلاً من الحرام استكثر منه، فإذا كان يطفف الكيل في جرامات فسيطفف في كيلوات، ثم يطفف في أطنان، ثم يموت ويترك هذا كله ويأتيه عذاب الله كما أتى السابقين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(140/7)
تفسير سورة الشعراء [192 - 209]
من سنن الله عز وجل في خلقه أنه إذا أرسل إليهم رسولاً يدعوهم إلى توحيده فكذبوه أن يهلكلهم، ويجعلهم عبرة لمن يأتي خلفهم، ولما كذب مشركو قريش وأهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم حاجهم الله بأن جعل من علمائهم من يعترف بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على ذكره في الكتب السابقة، فلا عذر لهم إن نزل بهم العذاب وأتاهم ما يوعدون.(141/1)
سنة الله في إرسال الرسل وإهلاك من كذبهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:192 - 204].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة قصص السابقين ممن أرسل إليهم رسله، وهداهم بدعوته سبحانه إلى الحق، فأبى أكثرهم إلا الإعراض عن رسل الله، والتكذيب بدعوتهم، فإذا به سبحانه يرينا فيهم الآيات، ويختم كل قصة من هذه القصص بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8].(141/2)
موسى وقومه مع فرعون وملئه
لقد أرانا الله سبحانه وتعالى في هذا القرآن المنزل من عنده آياته، وعظيم صفاته وقدراته، فأنجا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ومن معه -وكانوا مستضعفين في الأرض -من فرعون وجنوده- وكانوا مستكبرين في الأرض- قال الله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6].
فأرانا الله سبحانه كيف أهلك المتكبرين، وكيف مكن للمستضعفين، فهذا موسى وبنو إسرائيل يتصدى لهم فرعون وملؤه وجنوده، وإذا بالله سبحانه ينصر الحق ويحقه ويخذل الباطل ويبطله، ويرينا فيهم آياته، ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].(141/3)
إبراهيم مع قومه
لقد أخبرنا الله سبحانه عن إبراهيم ومناظرته مع قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه وتعالى، فقد ناظرهم في هذه المعبودات الباطلة، ثم حطم أصنامهم، فأرادوا حرقه وقالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} [الصافات:97 - 98]، {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
وقد ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام باختصار، وفصل في غير هذه السورة ما اختصره هنا، وختم هنا بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].(141/4)
نوح مع قومه
إن قوم نوح كانوا قبل إبراهيم وكذلك قبل هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه في هذه السورة، وقد ذكر الله لنا أنهم استكبروا استكباراً، وتولوا وأعرضوا عن رسولهم، وأرادوا به الضر، وأوصى بعضهم بعضاً بعدم تصديقه وعدم الإيمان به، فاستمروا على ذلك وهو يدعوهم إلى الله سنين طويلة جاوزت التسعمائة: ألف إلا خمسين عاماً.
فلما أصروا على ما هم فيه، واستهانوا بعذاب الله، واستهزئوا برسول الله، جاءهم العذاب من حيث لا يشعرون.
فقد كانوا يسخرون من نبيهم كيف يصنع سفينة في الصحراء، ومن أين يأتيها الماء، فإذا بالله يفجر الأرض عيوناً، وينزل من السماء ماءً فيغرق جميع من على الأرض، وينجي المؤمنين مع نبيهم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويختم بالختام الجميل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].(141/5)
قوم عادٍ وثمود
يذكر لنا الله عز وجل قوم عاد وكيف أنه أعطاهم ومكن لهم وجعل لهم نعماً كثيرة من عنده، وقد ذكرهم بها نبيهم عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 131].
فأبوا وأصروا على ما هم فيه حتى جاءهم العذاب من عند رب العالمين.
ويختم ربنا بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
ثم ذكر من بعدهم ثمود الذين جاءوا وصنعوا صنيعهم، فعذبهم الله عز وجل بعذاب كعذابهم، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].(141/6)
إهلاك قوم لوط وقوم شعيب
لقد ذكر الله عز وجل قوم لوط الذين أتوا الفواحش العظيمة، واستهانوا برسولهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا طرده ورجمه، فابتلاهم الله سبحانه بأن عذبهم وأهلكهم، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55]، وختم هنا في هذه السورة بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
ثم ذكر قوم شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهم أهل مدين الذين طلبوا من نبيهم أن يرسل عليهم كسفاً من السماء، أي: قطعاً من السماء، فإذا بالله ينزل عليهم عذابه من حيث لا يحتسبون ولا يشعرون، فجاءتهم ظلة من فوقهم أظلتهم فظنوا أن فيها الرياح الطيبة والبرودة، وقد قاسوا من الحر سبعة أيام، فاستظلوا بهذا الظل جميعهم، فلما تتاموا تحته إذا بصيحة من السماء ورجفة من الأرض، وإذا بالظلة تمطر عليهم عذاباً وناراً وسموماً، فأهلكهم الله سبحانه، وختم في المرة الأخيرة بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
وقد كرر الله عز وجل وراء كل آية من آيات هذه السورة قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فكان مجموع تكرارها ثمان مرات، والمعنى: أن الله عزيز غالب، وعزته وجبروته سبحانه وتعالى على الكافرين، حيث دمرهم أجمعين، ورحمته ورأفته وحنانه على المؤمنين، فجمع سبحانه بين الصفتين: عزيز وبهذه العزة أهلك الكافرين، ورحيم وبهذه الرحمة أنجى المؤمنين، وقد جمع لنا هذا كله في هذا الكتاب العزيز المنزل من عنده.(141/7)
القرآن منزل من عند الله على رسوله بواسطة جبريل
حسن الختام لهذه السورة الكريمة العظيمة هو قول الله عز وجل لنا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192]، فبعد أن قص علينا هذه القصص العظيمة، وأرانا هذه الآيات، عرفنا أن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام رب العالمين سبحانه.
وقد عرف أهل الكتاب ذلك؛ لأن هذه القصص ما كان يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم من قبل، وقد كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون منه بعض هذه القصص فيتعجبون؛ بسبب إحاطته بتفاصيلها على الرغم من أنه لم يخرج خارج مكة صلى الله عليه وسلم ليتعلم علماً، ولم يجالس أحداً من أهل الكتاب، وقد يذكر تفصيلات دقيقة لا يعرفها الكثيرون من أهل الكتاب، فيقول الله عز وجل لهؤلاء ليسكتهم: لا تعجبوا: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192] أي: إن هذا القرآن جاء من عند رب العالمين سبحانه، فقد نزله تنزيلاً، ولم يأت من عند أحد غيره.
قال الله عز وجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أي: أن هذا القرآن نزله ربنا سبحانه على نبينا صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الروح الأمين، ووصفه الله عز وجل بهذه الصفة؛ لأنه روح خلقها الله سبحانه وتعالى، وهو أمين كما أن الرسل من أهل الأرض أمناء، فكل رسول منهم يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107]، فكذلك هذا الروح الأمين رسول من رب العالمين إلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهو أمين بشهادة رب العالمين سبحانه هذه.
وهذا القرآن نزله الله تنزيلاً، وتنزيلاً: مصدر من نزل، فهو تنزيل من عند رب العالمين، وهذا فيه إثبات لعلو الله تعالى.
وفي هذه الآية قراءات: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم وهم يقرءونها: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193]، وباقي القراء يقرءونها بالتضعيف: (نَزَّلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) أي: نزل الله عز وجل بهذا القرآن من السماء، أما {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] على القراءة الأولى فهو جبريل عليه السلام.
وقد أنزل الله القرآن كله إلى بيت العزة في السماء في ليلة القدر، ثم نزل من بيت العزة إلى الأرض بأمر الله سبحانه لجبريل أن ينزل بآية كذا في الوقت الفلاني، وسورة كذا في الوقت الفلاني، وبكلمة من سورة كذا في الوقت الفلاني، فينزل القرآن بحسب ما يحتاج إليه الناس، فهم يحتاجون إلى أحكام ومواعظ، فينزل الله سبحانه جبريل بما يحتاجونه.
قال الله تعالى: {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:194] أي: نزل هذا القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس على أحد سواه، فوعاه قلبه صلوات الله وسلامه عليه وحفظه، فلما كان صلى الله عليه وسلم يطلب من جبريل أن يزوره أكثر مما يزوره، وينزل عليه بالقرآن أكثر مما ينزل عليه من قبل أخبره الله سبحانه وتعالى في القرآن عن ضابط نزول جبريل عليه فقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64] أي: أن ربك لم ينسك، و {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3]، ولكن ينزل بقدر، وكل شيء عنده بمقدار، فيعلم سبحانه متى ينزل هذه السورة، ومتى ينزل هذا الحكم، ومتى ينزل هذه الآية، فكل شيء بقدر عند رب العالمين سبحانه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ مع جبريل عندما يأتيه بالقرآن؛ حتى لا ينسى، فإذا بالله يعلمه أدب السماع، وذلك بأن ينصت ولا يتكلم، قال سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16 - 17] أي: نحن الذين نحفِّظك، ونحن الذين ننسيك ما نريد من ذلك، قال الله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، فالله هو الذي يحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، فلا يحتاج إلى معالجة الحفظ، بل يستمع لما يقوله جبريل ولا يحرك به لسانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:15 - 18] أي: إذا قرأه جبريل عليه السلام عليك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي: نحن نبين لك هذا العلم العظيم، وما عليك إلا أن تصغي وتعطينا قلبك وأذنك، ونحن نملؤهما من علمنا.
قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:193 - 194] فهو منذر، وهو بشير أيضاً، كما قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فاطر:24]، والنذارة والبشارة إخبار، ولكن البشارة إخبار بما يسر، وقد يكون فيها ما يسوء، ولكن الغالب أنها إخبار بما يسر.
والنذارة: الإخبار بما يخيف، وهو التوعد والوعيد، فهنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالاثنين: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24]، فأرسلناك بهذا الحق الذي نزل من السماء بشيراً لمن آمن أن له الجنة، ونذيراً لمن كفر بالله أن عليه العذاب يوم القيامة.
قوله: {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [الشعراء:194] أي: تخوف وتتوعد هؤلاء المشركين الكفار الذين أبوا إلا العصيان تتوعدهم بالنار في الآخرة، وبالقتل في الدنيا، ولذلك لما كان أهل مكة يؤذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويسخروا منه كان يقف لهم عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه ويقول: (ألا تسمعون: والله لقد جئتكم بالذبح)، فيقومون من أماكنهم خوفاً من النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد أن استهانوا واستهزءوا به وهو يطوف بالبيت إذا بهم يلينون له، ومنه يخافون، ويقولون: (انصرف أبا القاسم فلست بالسفيه).
فجاء صلى الله عليه وسلم ليبشر المؤمنين، وينذر العصاة والمشركين بهذا القرآن العظيم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192] أي: هذا الكتاب من عند رب العالمين: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193] أي: جاء به جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم، فألقاه عليه فحفظه النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخله الله قلبه عليه الصلاة والسلام.(141/8)
القرآن نزل باللسان العربي
قال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] أي: أن هذا الإنذار بلسان عربي مبين؛ لأن لسان النبي صلى الله عليه وسلم لسان عربي، فالقرآن نزل بلسان العرب، فلو أن القرآن نزل بلسان أعجمي، أو جاء الرسول أعجمي والقرآن عربي لقالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فسوف يتحيرون في هذا الأمر، وينكرون كون الكلام عربياً ولسان رسولنا أعجمياً، أو العكس من ذلك، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن الرسول عربي، وأن القرآن عربي: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] والمنطوق به هنا هو أن هذا القرآن بلسان عربي مبين، وفيه إشارة إلى أن هناك كتباً أخرى لم تكن باللسان العربي، فالكتب التي كانت قبل ذلك كانت بألسنة قومها من سريانية وغيرها، لكن القرآن نزل باللسان العربي الذي ينطق به هؤلاء، ويعجزهم الله عز وجل به.(141/9)
ذكر النبي الكريم والقرآن العظيم في الكتب السابقة
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196]، فالضمير في (إنه) قد يعود إلى القرآن الذي ذكر قبل ذلك، أو إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذا حق وذاك حق.
والزبر: جمع زبور، وهي الكتب، والمزبور بمعنى المكتوب، والزبْر الكتابة والتنقيش، فزبر الأولين: هي كتب الأولين السابقة كالتوراة والإنجيل، وقد أخبر الله عز وجل فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الكتاب الذي يأتي به.
وقد عرف أهل الكتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عبد الله ورسوله، وأنه سماه المتوكل، وأنه ليس بفظ ولا غليظ، فقول الله عز وجل لرسوله في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46] قد ورد مثله عند أهل التوراة، كما قال ابن سلام وكعب الأحبار: نجد ذلك عندنا في التوراة: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق.
أرسلناك لنهدي بك قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً)، فهذا كله عند أهل التوراة، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم بعد ذلك كـ عبد الله بن سلام وكعب الأحبار رضي الله عنهما.
فهنا ربنا يخبرنا أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم موجود عند أهل التوراة وعند أهل الإنجيل: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196].
كما أخبر الله عز وجل أنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، ولكن أهل التوراة والإنجيل يأتون بالتوراة والإنجيل ويقولون: لا يوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التوراة والإنجيل لم تكن بلسان العرب، فقد نزلت باللغة القديمة التي كانت شائعة عندهم وهي اللغة السريانية، ثم ترجموها بعد ذلك وحرفوها فألغوا منها ما أرادوا، فألغوا ذكر محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك من يطلع على الكتب القديمة بلغتها يجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وقد أخبرني أحد إخواننا الدكاترة الذين كانوا يحضرون رسالة الدكتوراة في اللغات القديمة أنه ذهب إلى الفاتيكان لإتمام دراسة الدكتوراة، وهنالك اطلع على مخطوطة للتوراة، فوجد فيها ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه بلغتهم، ولكن المترجم منها إلى الإنجليزية أو العربية أو الإسبانية أو الفرنسية ليس فيها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن لا يعنينا أن نجد هذا في كتبهم أو لا نجده؛ لأننا نصدق كلام رب العالمين، فربنا يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، فأخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وأنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157].(141/10)
علماء بني إسرائيل يعرفون النبي الكريم
يقول الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: أولم يكن الأمر آية لهؤلاء أن يعلمه علماء بني إسرائيل؟ وهنا: (أن يعلمه) مصدر مؤول، وهم اسم (يكن)، فيقول: أولم يكن علم علماء بني إسرائيل آية لهؤلاء؟ ولذلك فالجمهور على القراءة بالنصب في (آية): {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197].
وقرأ ابن عامر: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةٌ أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي: هذه آية، وهي ما يعلمه علماء بني إسرائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن هذا القرآن العظيم، وقد عرفوا ذلك، فأرسل أهل مكة إلى اليهود في المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقال اليهود: هذا هو زمن النبي، وإنا لنجد في التوراة نعته وصفته.
فعرفت يهود أن زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد أظلهم، وكان اليهود مستذلين من الأوس والخزرج من أهل المدينة، وكانوا موالين للأوس أو للخزرج، وذلك حتى لا يكونوا وحدهم في المدينة، فإما أن يتولوا الأوس أو يتولوا الخزرج، بحيث إن هؤلاء يدافعون عنهم أو هؤلاء يدافعون عنهم، وكان إذا اشتد أهل الشرك بالمدينة من الأوس والخزرج أو غيرهم من كفار أهل المدينة، على اليهود فإنهم آنافهم ويذلونهم، فكان اليهود يقولون لهم: لقد أظلكم زمان يبعث فيه نبي، ونحن سنتبع هذا النبي ونقاتلكم معه، فمن كثرة ما قال ذلك اليهود في المدينة أصبح أهل المدينة ينتظرون ذلك النبي، وكلٌ منهم يريد السباق إليه صلوات الله وسلامه عليه، والعجب أن اليهود الذين كانوا يهددون الأوس والخزرج بهذا النبي لم يدخلوا في دينه صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمن به إلا القليل منهم كـ عبد الله بن سلام، ثم بعد ذلك كعب الأحبار.(141/11)
رهبان النصارى يدلون سلمان الفارسي على الدين الحق
وممن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف اليهود والنصارى وعاش معهم طويلاً: سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب نيرانهم، وكان ذا رتبة كبيرة فيهم، وكان يحب ابنه سلمان رضي الله عنه، ومن شدة خوفه عليه كان يحبسه في البيت، فشب رضي الله عنه وهو لا يعرف شيئاً عن الدنيا، وكل ما يعرفه هي النيران التي كان أبوه يصنعها ويوقدها لقومه، والمكان الذي هو فيه، وفي مرة من المرات أرسله أبوه لشيء، فخرج فمر على ناس يتعبدون، فسأل عن هؤلاء فقالوا: نصارى، فرجع إلى أبيه وأخبره عن هؤلاء، فقال له: إنهم على باطل، وأمره أن يدعهم ولا يأتيهم مرة أخرى، فذهب إليهم من وراء أبيه، فحبسه أبوه لما علم بذلك، ثم هرب من أبيه وذهب إلى راهب من رهبان النصارى وأعجبه توحيده، فقد كان على الحق قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان من النصارى الموحدين، فلما أتاه مكث معه فترة، ولما جاءته الوفاة دله أن يذهب إلى فلان فيعبد الله معه، فتوجه سلمان إلى ذلك الراهب من النصارى الذين كانوا على التوحيد، وتعبد لله عز وجل معه إلى أن قربت وفاته، فقال له سلمان: إلى من أذهب؟ قال: اذهب إلى فلان فاعبد الله معه، وهكذا حتى مر على ثمانية عشر من النصارى أو نحو ذلك، فيمر عليهم واحداً واحداً، وكل واحد إذا جاءته الوفاة قال له: اذهب إلى فلان واعبد الله معه، وهكذا ظل رضي الله عنه يبحث عن الدين الحق، وهؤلاء النصارى كانوا على التوحيد قبل النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف غيرهم ممن كانوا يثلثون، وفي النهاية عندما كان آخر راهب قال له: والله لا أعرف أحداً على وجه الأرض على ما نحن عليه من التوحيد، -وقد كانت الأرض مليئة بالنصارى، ولكنه يقصد من كانوا على التوحيد-، وقد أضلك زمن يبعث فيه نبي، ففرح سلمان رضي الله عنه، وقال: أين هذا النبي؟ قال: في المدينة.
فأحب سلمان الفارسي أن يتوجه إلى المدينة، فانتظر إلى أن جاءت سفينة وفيها بعض العرب، وكان العرب في جاهليتهم أشراراً ليس عندهم وفاء ولا عهد إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، فأخذوا منه أجرة من أجل يوصلوه إلى المدينة، وبعد أن ركب معهم صيروه عبداً عندهم، وهذا من نذالتهم وخيانتهم للوعود، ولذلك مقتهم الله عز وجل، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم جميعهم إلا بقايا من أهل الكتاب).
أي: إن الله مقت العرب والعجم من أهل الأرض، وقعت كفار أهل الكتاب الذين ثلثوا وعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وزعموا أنهم يعرفون الله، قال الله سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
وقد كان العرب في جاهليتهم شر خلق على وجه الأرض، فكان يأكل بعضهم بعضاً، ويغتصب بعضهم بعضاً، ويخون بعضهم بعضاً، وليس فيهم أمن ولا أمان، وتغير القبيلة على القبيلة الأخرى والثانية عليها، فمقت الله أهل الأرض جميعهم قبل مجيء نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بقايا من أهل الكتاب، فذهب سلمان معهم إلى المدينة وباعوه لليهود وأخذوا ثمنه، وهو في كل ذلك صابر ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عرف من هؤلاء الرهبان صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فـ سلمان كان من المجوس ولم يكن من النصارى، ثم تنصر بعد ذلك مع هؤلاء الذين كانوا على التوحيد، وانتظر النبي صلى الله عليه وسلم فمكث في المدينة ولم يشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً؛ لأنه كان ما زال عبداً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بـ سلمان يتشوق إليه، فسمع اليهودي مع قريبه يقول: لقد جاء محمد، فسمع ذلك وهو فوق النخلة، فكاد يسقط منها لما سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ من شدة فرحه، وذهب يسأل اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا باليهودي يلطمه ويقول: مالك وله، اذهب إلى عملك.
فرجع إلى عمله رضي الله عنه، وذهب ذات مرة إليه عليه الصلاة والسلام وقد ادخر من طعامه شيئاً، فأعطاه إياه وقال مختبراً له: هذه صدقة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها لأصحابه، فأكلها أصحابه ولم يأكل منها، فتبين لـ سلمان أنه نبي؛ لأن النبي لا يأكل الصدقة، وقد عرف من أهل الكتاب أن النبي يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، فجاءه مرة أخرى بتمر وقال: هذه هدية، فقبله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله، ثم جاء سلمان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم للذي يريده سلمان، وأنه يريد أن يرى خاتم النبوة كالبيضة على كتف النبي صلى الله عليه وسلم، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم ما عليه من رداء، فنظر إلى خاتم النبوة، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم وصدق وآمن رضي الله تعالى عنه.
فهذا واحد ممن كان من أهل الكتاب، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم بعلامته.(141/12)
إسلام عبد الله بن سلام
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى أهل الكتاب وإلى مكان تلاوتهم للتوراة في مدراسهم، ويجلس معهم وهم يكرهون منه ذلك؛ لأنه لم يأت من أجل أن يجاملهم صلى الله عليه وسلم أو يصلي معهم، بل جاء من أجل أن يدعوهم إلى الله، لذلك كانوا يكرهون أن يأتي إليهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما جاء إلا ليأمرهم أن يدخلوا في هذا الدين العظيم، فيقول لهم: ألا تجدون صفتي عندكم في التوراة؟ فيقولون: لا نجدها، فيظل يستحلفهم صلى الله عليه وسلم حتى يخرج إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه ويقول: والله إنك لرسول رب العالمين، وإنهم ليعرفون ذلك، فيخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم، ويكون ممن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا رآها أحد الصحابة أو رآها هو أنه أمسك بعروة، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتمسك بالإسلام حتى يتوفاه الله سبحانه وتعالى.
وكأنه كان مع بعض اليهود لما قال ذلك، وكأن الكثيرين لم يكونوا يعرفون أنه أسلم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اكتم إسلامي عن هؤلاء حتى يأتوا وسلهم عني، فسألهم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فكان جوابهم: أنه سيدنا وابن سيدنا، وأنه حبرنا وابن حبرنا، ومدحوه وأباه مدحاً عظيماً.
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أسلم؟ قالوا: معاذ الله)، أي: حاشا لله لا يمكن أن يسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أسلم؟ فكرروا)، فخرج ابن سلام يأمرهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم يعرفون أنه على الحق، فقالوا: (شرنا وابن شرنا)، ورجعوا عن كلامهم الذي قالوا.(141/13)
حيل اليهود في إخفاء الحق الذي يعرفونه
إن الله عز وجل يخبرنا هنا بقوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: دعك من هؤلاء الجهلة الذين لا يقرءون ولا يكتبون، ولذلك لما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم مرة في مدراسهم وهم جالسون في كنيستهم سألهم عن الرجم -وقد أتوه برجل وامرأة قد زنيا-: (أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا)، فأما أهل العلم منهم فيعرفون، وأما الأغلبية منهم فجهلة لا يقرءون؛ لأن كتابهم بلغة غير لغتهم، وهم لا يقرءون لا بلغتهم ولا بلغة غيرهم، وإنما يعتمدون على من يقرأ في التوراة، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن حكم الرجم مما لم يحرفوه في التوراة، فإنهم قد حرفوا أشياء لكن حكم الرجم هذا لم يحرفوه، قال تعالى: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93] أي: هاتوا التوراة واتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة، وإذا بالقارئ يضع يده على الآية التي فيها الرجم ويقرأ ما قبلها وما بعدها؛ حتى لا يراها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل ممن معه يقول: ارفع يدك واقرأ الذي تحت يدك، فرفع يده فقرأها، فبهت القوم لما سمعوا ذلك.
وهذا من إفكهم وكذبهم على الله سبحانه، فقارئهم يضع يده على آية في كتاب الله وهو من كبرائهم، فإذا كان قارئ التوراة يفعل ذلك فكيف بباقي هؤلاء أولاد القردة والخنازير لعنة الله عليهم؟! فالله عز وجل يخبرنا أن علماءهم يعرفون ذلك تماماً فيقول: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197] أي: أن يعلموا أن هذا القرآن كلام رب العالمين، وأن هذا النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند الله.
قال سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} [الشعراء:198] أي: هذا الوحي وهذا القرآن العظيم، {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ} [الشعراء:198] كما يدعون، فقد كانوا يدعون أن غلاماً أعجمياً هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن رجلاً اسمه رحمن موجود في اليمامة هو الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنهم كذابون في ذلك، وأن ما ادعوه غير موجود، فيقول الله سبحانه -يخاطب عقولهم لو كانوا يفهمون-: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198 - 199] أي: إذا كان بالغة العربية فلا يريدون أن يؤمنوا، أو باللغة الأعجمية فسيقولون: نحن لا نفهم ماذا يقول، فلا يؤمنون به.(141/14)
طبع الله على قلوب المجرمين فلا يؤمنون حتى يروا العذاب
قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:200] أي: كأمثال هؤلاء المجرمين سلكنا في قلوبهم الكفر والتكذيب والجدل بالباطل، كما تقول: سلكت الخيط في الخرز، أي: أدخلته بداخلها، فأنت عندما تخرز السبحة والعقد فإنك تدخل الخيط في الثقوب الموجودة فيها، وكأن هذا الكفر انسلك بداخل قلوب هؤلاء، فلا يخرج من قلوبهم.
قال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201] أي: لا يؤمنون ولا يصدقون إلا أن يروا عذاباً كعذاب الأمم السابقة، وفي هذه الحالة يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم، فلا ينفعهم شيء إذا آمنوا حين يأتيهم العذاب.
قال سبحانه: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء:202] أي: فإذا جاءهم العذاب فإنه يأتيهم فجأة فينزل عليهم وهم لا يشعرون، فإذا جاء العذاب يقولون: {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء:203] أي: يطلبون النظرة، وطالما أنهم يطلبون الانتظار فلماذا لم يسلموا ويتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم؟!(141/15)
استعجال الكافرين للعذاب
يقول الله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204] أي: إنهم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم العذاب، وليس عذاب البشر إنما هو عذاب رب العالمين سبحانه، فقد كانوا جهلة، ومن جهلهم: أنهم يقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] أي: يا الله! نريد العذاب الآن قبل يوم القيامة، وهذا دليل على جهل هؤلاء، فالعاقل لا يطلب من ربه هذا الشيء، وقد أعمى الله أبصارهم بل بصائرهم فلم يفقهوا ولم يفهموا حتى ما يقولون، فالدعاء الذين يدعونه لم يفهموه، ولعلنا سمعنا أن دعاءهم في يوم بدر هو: اللهم أهلك أقطعنا للرحم، أي: الذي يقطع الرحم، يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: أنا أريد أن أصل الرحم الذي بيني وبينكم، وهم يقولون: هو أقطعنا للرحم، صلوات الله وسلامه عليه.
ومن دعائهم كذلك قولهم -كما حكى الله عنهم-: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فيدعون بدعاء لا يقوله إلا إنسان غافل غبي لا يفهم ما يقول، فبدلاً من أن يقولوا: أرشدنا إلى الحق واهدنا إليه، يقولون: إذا كان هذا حق فأنزل علينا عذاباً من عندك.
قال الله سبحانه عن هؤلاء: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:204 - 206] أي: لو تركناهم يتمتعون ويأكلون ويشربون ويلبسون ويتزوجون سنين طويلة، وفي النهاية جاءهم الموت: {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206]، فهل أغنى عنهم هذا المتاع الذي تمتعوه؟ وهل أغنى عنهم طعامهم وشرابهم وقصورهم وبيوتهم؟ فلو كانت تغني لأغنت عن السابقين، ولكن: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].(141/16)
الهلاك يكون بعد الإنذار
{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] أي: إننا أنذرنا السابقين فلما لم يستجيبوا جاءهم العذاب، وكذلك ننذر هؤلاء، وهذه ذكرى من الله رب العالمين: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209]، وقد أعذر من أنذر، وما قصر من بصر، فقد أنذرهم الله وأعطى لهم الإعذار، فأرسل إليهم رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
فإن يؤمنوا فهو خيرٌ لهم، وإن يكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(141/17)
تفسير سورة الشعراء [198 - 227]
ذكر الله تعالى في آخر سورة الشعراء أن الكفار لا يؤمنون بهذا القرآن العظيم، ولا بما فيه من الوعد والوعيد، وذكر الله تعالى أن هذا القرآن الكريم تنزيل من رب العالمين وليس من تنزيل الشياطين، فإن الله قد منعهم من استراق السمع عند نزول القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر أن الشياطين تتنزل على أوليائهم من الكهان والشعراء الذين هم في كل واحد يهيمون، وأمر الله تعالى في هذه الآيات نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين، وأن يخفض جناحه لأتباعه المؤمنين.(142/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:198 - 211].
في هذه الآيات من آخر هذه السورة يخبرنا ربنا سبحانه عن هذا القرآن العظيم أنه {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195]، ولو أن الله سبحانه نزل هذا القرآن على رجل أعجمي لكذب العرب، ولقالوا: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44] أي: أقرآن عربي على لسان إنسان أعجمي؟!! قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فهم معترضون على كلام رب العالمين في جعل قرآن أعجمياً ينزل على رجل عربي، فالله سبحانه جعل القرآن العظيم بلغة العرب، قال تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
وقال سبحانه هنا: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء:198 - 200].
يعني: كذلك التكذيب أو الكفر بالقرآن العظيم الذي وقع فيه هؤلاء المشركون سلكناه في قلوب المجرمين.(142/2)
معنى قوله تعالى: (لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم)
قال تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء:201] أي: لا يؤمنون إلا مجبرون حين يرون العذاب أمامهم، ولا ينفعهم إيمانهم في ذلك الحين.
قال تعالى: {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء:202]، فإذا جاءهم العذاب من عند رب العالمين فإنه يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
قال تعالى: {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} [الشعراء:203] أي: يطلبون الانتظار من الله قليلاً حتى يؤمنوا ويدخلوا في هذا الدين؟ وكذلك سلك الله عز وجل التكذيب في قلوب هؤلاء كما كان من قبل في قلوب سابقيهم فلم يؤمنوا، كقوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب الأيكة وقوم إبراهيم حتى رأوا أمامهم عذاب رب العالمين سبحانه، فإذا جاء العذاب بغتة فلا ينفعهم إيمانهم إن أرادوا أن يدخلوا في هذا الدين؛ لأن الإيمان ينفع من آمن بالغيب، وصدق به من غير أن يرى ملائكة الله وعذاب الله سبحانه.
قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} [الشعراء:204] أي: أفبعذاب رب العالمين يستعجلون؟! وهل عرفوا مدى عذاب رب العالمين؟! وهل عرفوا قوة الله سبحانه تبارك وتعالى وبطشه وأخذه للظالمين؟! قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلو عرفوا قدر الله سبحانه وقوته وجبروته وملكوته لاستجابوا، ولما استعجلوا العذاب، ولما قالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء:205]، يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن هذا الأمر، فلو أننا متعناهم سنين، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:206] وفي النهاية يأتيهم أجلهم وهو موتهم، {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207]، وهذه عبرة لهؤلاء وعبرة لكل إنسان، فالإنسان الذي يطلب المتعة في الدنيا ولا يفرق أهي من حلال أو من حرام، فربنا يقول لهذا الذي يطلب من نعيم الدنيا: لو متعناه سنين فسيأتيه موته في النهاية، فإذا لم يأت الموت هذه السنة، فسيأتي في السنة القادمة، وإذا لم يأت اليوم فسيأتي غداً، فإذا جاء الموت هل يغني عنك هذا الذي تمتعت به، وهذا الذي كسبته من حرام وأكلته؟! فالإنسان يتفكر ويعتبر بمصير هؤلاء السابقين، واحذر الحرام واحذر التسويف، فمهما سوفت ففي النهاية سيأتي الموت.
وقد يأتي الموت للإنسان وهو على غير توبة، فيرجع إلى ربه فيحاسبه حساباً شديداً، فليتب الإنسان من الآن إلى الله عز وجل، وليحذر الانكباب على الدنيا، وليحذر طلب الدنيا المحرمة؛ حيث إنها تغطي عليه، وتعمي عينيه، وفي النهاية يأتي الموت كما جاء للسابقين عليه.(142/3)
معنى قوله تعالى (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون)
ومعنى قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207] أي: لم يغن عنهم لا القصور ولا الحصون ولا الأتباع، ولا يغني عنهم شيء أمام عذاب رب العالمين سبحانه.
وقوله تعالى: (أفرأيت) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء.
ويقرأها ورش بالمد فيقول: (أفرآيت إن متعناهم سنين).
ويقرأها الكسائي: (أفريت إن متعناهم سنين) فهذه أربعة قراءات لهذه الكلمة.(142/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون)
يقول سبحانه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] يعني: ما من قرية أهلكناها إلا وقد أزلنا أعذارهم: بأن أرسلنا إليها رسلاً، وبأن أنذرناهم وحذرناهم، فأصروا على طغيانهم، وبعدهم عن ربهم، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.(142/5)
معنى القرية وأصل هذه الكلمة
والقرية: هي المدينة، وأصلها من القري: وهو الاجتماع؛ لأن الناس يجتمعون فيها جموعاً كثيرة، فسميت (قرية) لذلك، فالقرية تطلق على المدينة وهي البلدة العظيمة، ورسل الله دائماً يكونون من أهل القرى، ولا يكونون من الريف ولا من البدو، قال الله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109]، فالرسل دائماً من القرى، وليسوا من الأرياف ولا من البدو، والسبب في كونهم من القرى أن أهل القرى -يعني: المدن- أرق طباعاً، لأن كثرة الناس تؤدي إلى احتكاك إنسان بإنسان آخر فيتولد عندهم أخلاقيات وذوقيات معينة، وأما أهل البدو فقليل، وكل إنسان يكون في حاله، فالبداوة تعطيهم جفاء وغلظة.
فالأنبياء لم تكن طبيعتهم الجفاء ولا الغلظة، فهم من أهل القرى الذين يختلطون بالناس ويعيشون مع الناس، فيألفون ويُألفون؛ فالله عز وجل يمرنهم ثم بعد ذلك يرسلهم إلى قومهم حتى يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه.
وقوله تعالى: {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء:208] أرسلنا فيهم رسولاً ينذرهم ويخوفهم، فربنا قد أعذر للقوم وأزال عذرهم، وليس لهم عند الله عذر ولا حجة، قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].(142/6)
تفسير قوله تعالى: (ذكرى وما كنا ظالمين)
يقول سبحانه: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209].
يعني: إرسالنا وإخبارنا ذكرى للأقوام وتذكرة لكم، وذكرى هنا في موضع نصب، أي: ذكرناكم ذكرى.
وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء:209] كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] أي: فيستحيل أن يظلم الله سبحانه.(142/7)
تعريف الظلم
والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو: أخْذ حق الغير، وكيف يظلم الله سبحانه وكل شيء ملك له سبحانه؟ فالله الخالق وكل ما سواه مخلوق، فكل شيء عبد له سبحانه، ويملكه وما ملك.
إذاً: فالإنسان مخلوق لرب العالمين، والله عز وجل يصرف الأمور بحكمته وبقدرته وبعلمه سبحانه وربحمته، فعلى ذلك كيف يظلم؟ قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].(142/8)
تفسير قوله تعالى: (وما تنزلت به الشياطين)
قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210].
فهؤلاء الكفار الذين يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن له رئياً من الجن، أي: له صاحب، مثلما كان يقال للشعراء وأن كل شاعر له جني يلقنه ما يقوله من شعر، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم له جني يأتيه، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إذا كنت قد جئتنا بهذا الشيء تريد أن تكون ملكاً ملكناك علينا، يعني: اترك الذي أتيت به، وكن ملكاً ويكفي.
وإذا كان بك طب جمعنا لك الأطباء وجمعنا أموالنا وعالجناك، أي: إن كان ما بك رئي من الجن ذهبنا بك فطببناك.
وإذا كنت تحتاج مال جمعنا أموالنا وأعطيناك، فقال عليه الصلاة والسلام: كل هذا لا أريده؛ لأنه رسول رب العالمين سبحانه.
وقوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:210] كما يزعم هؤلاء البشر أن شيطانه يأتيه بهذا القرآن.(142/9)
تفسير قوله تعالى: (وما ينبغي لهم وما يستطيعون)
يقول سبحانه: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:211] أي: يستحيل أن الشيطان يتكلم بهذا القرآن العظيم؛ فالقرآن يحرق الشياطين، فكيف يتكلم الشيطان بهذا القرآن؟! ولو كان لهم أن يتكلمون به فإنهم لا يقدرون أبداً أن يتكلموا به.(142/10)
تفسير قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون)
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212]، لقد عزل الله الشياطين عن استراق السمع من السماء، وكانت الشياطين يرتقي بعضهم فوق بعض إلى السماء حتى يسترقوا السمع، وهذا ابتلاء من الله عز وجل، فإذا أراد الله شيئاً سبب أسبابه وقدر مقاديره، فشاء أن ينزل الخبر من السماء إلى أهل الأرض.
وكان الكهان في الجاهلية كثيرون، وهذه فتنة يفتن الله عز وجل بها خلقه، وكانوا يصادقون ويصاحبون الجان، فكل كاهن له من الجن من يأتيه بخبر من الأخبار، والجان والشياطين يرقى بعضهم بعضاً إلى السماء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالكفين واحدة فوق الأخرى، أي: بعضهم فوق بعض، فكل جان يركب على الآخر حتى يصعدوا إلى السماء، ثم يسترقوا السمع، والله عز وجل يشاء أن الملائكة تتكلم بخبر السماء، فملك من الملائكة يكلم ملكاً آخر بأنه سيحدث كذا، وأمرنا بكذا، فهذه الكلمة يسمعها هذا الشيطان أو الجني الذي في السماء، ويلقيها إلى من تحته، وهكذا إلى أن تصل إلى الكاهن.
فإذا شاء الله ألا تنزل هذه الكلمة إلى الأرض أرسل عليهم شهاباً يحرق جميعهم، أو يحرق من سمع ذلك، فلا ينزل هذا الخبر إلى الأرض، وإذا شاء أن يفتن عباده فينزل خبر السماء إلى الأرض تركهم، فينزل الخبر، وقد يحرق هذا الشيطان الذي سمعه وغيره لا يحرقه، وينزل الخبر إلى الأرض، فيأتي الجني إلى صاحبه الكاهن فيقر في أذنه هذا الشيء كما تقر الدجاجة، أي: مثلما تقرقر الدجاجة، ويزيد مع الخبر مائة كذبة، ويأتي هذا الكاهن يخبر الناس أنه سوف يحصل كذا، فيحصل هذا الشيء الذي أخبر به الكاهن ويفتتن الناس، فإذا بالناس يصدقون الكهان ويعتقدون فيهم.
ولو أن أخبار الكهان كلها كاذبة فسيقول الرسول صلى الله عليه وسلم أن أخبار الكهان كاذبة، فكانوا سيقولون له: نحن نعلم هذا، ولا نصدقهم لأنهم كاذبون، ولكن لا بد وأن يكون من أخبار الكهان ما فيه صدق، وبعد ذلك يأتي التشريع بعدم تصديق الكهان لا في صدق ولا في كذب، فيبتلي الله عز وجل العباد هل يصدقون الله سبحانه ويستجيبون لما يقول، أو يكذبون ويستجيبون للكهان وللشياطين؟ فهذه فتنة أراد الله سبحانه أن يختبر عباده بها، فالشياطين يقول الله سبحانه فيهم: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212]، فهم يكذبون عليكم، فإنهم قد يسمعون خبراً واحداً فيزيدون فيه كذبات كثيرة.
ومعنى قوله تعالى: {لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212] أي: عن أخبار السماء، فقد عزلهم الله ومنعهم من ذلك إلا بشيء يريد فتنة الخلق به.(142/11)
تفسير قوله تعالى: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين)
قال سبحانه: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يدعو غير الله سبحانه، وهذا من باب: إياكِ أعني واسمعي يا جارة، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو خليل رب العالمين، وأقرب الخلق إلى ربه سبحانه: إياك أن تعبد غير الله، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وإذا قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى، وكل إنسان يخاف على نفسه، وربنا يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب وهو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فيخاطبه ربه بأن يحذر من الشرك، فغيره أولى بهذا الخطاب فمن أشرك فهو من الخاسرين، فلذلك يتقي الإنسان ربه ويخاف من الوقوع في الشرك بهذا التحذير وأمثاله.
فمن دعا مع الله إلهاً آخر، فالنتيجة أن يكون من المعذبين.(142/12)
تفسير قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين)
قال الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالإنذار، وأول من ينذر هم أهله القريبون منه، وبعد ذلك يتوسع إلى غيرهم.(142/13)
إنذار النبي لقومه من عذاب الله
لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً على قومه يدعوهم وينذرهم، وفي الحديث الصحيح عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص) وقريش هي قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم، فناداهم ودعاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنذر الجميع وخصص البعض منهم، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار! يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار! يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) يعني: في الدنيا، فسأصل هذه الرحم، فتكون هناك نداوة بيني وبينكم، ولا يوجد بُعد ولا جفاء بيني وبينكم، وأما في الآخرة فلا أملك لكم من الله شيئاً.
فالداعية أولى من يعظهم هم الأقربون منه، فيعظ نفسه وأهله وهم: زوجه وأولاده وأبيه وأمه ثم جيرانه ثم أصدقائه، فالأقربون أولى بالمعروف، فيبدأ بهؤلاء كما أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين.(142/14)
تفسير قوله تعالى: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]، حتى يستجيب الناس لمن يدعوهم إلى الله عز وجل لا بد من أن يتواضع الداعي إلى الله سبحانه، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، فالدعوة بالحكمة أن تكون مع الناس في غاية الهدوء، فادعهم إلى الله ولا تنفرهم، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
والموعظة نوعان: موعظة شديدة وموعظة حسنة، فادع الناس الموعظة الحسنة؛ لعلهم يستجيبون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس).(142/15)
تفسير قوله تعالى: (فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون)
قال الله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216]، فإذا رفضوا أن يستجيبوا لك فتبرأ من أعمالهم كالشرك بالله سبحانه، أو ترك التوحيد وعصيان الله سبحانه.
ومعنى قوله تعالى: {بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216] أي: متبرئ من أعمالكم.(142/16)
تفسير قوله تعالى: (وتوكل على العزيز الرحيم)
قال الله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]، هذان الاسمان تكررا في هذه السورة كثيراً وهما: العزيز الرحيم، مع أن الغالب أن الرحيم يأتي مع الغفور، والعزيز يأتي مع الحكيم، قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:158]، وقال تعالى: {عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11]، وقال تعالى: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6]، وأما في هذه السورة فقال: {الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217]؛ لأن في هذه الآيات يخبر الله عز وجل عن الفريقين المؤمنين والكفار، فالكفار يأخذهم ويرينا فيهم عزته وقدرته سبحانه، فأرانا كيف صنع بقوم نوح ومن بعدهم، وأما المؤمنون فيرحمهم سبحانه.
أخذ بها الكفار وأدخلهم النار، ورحمته كانت في المؤمنين، فقد رحمهم وأدخلهم جنته ونصرهم في الدنيا، ويوم القيامة يجعلهم من أهل رحمته، فهو العزيز الرحيم.
فكما خذل الكفار من قبل وهزمهم فكذلك هؤلاء الكفار فإنه سيخذلهم ويهزمهم سبحانه، وكما رحم المؤمنين السابقين فكذلك سيرحم هؤلاء المؤمنين اللاحقين.
ويأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وخفض الجناح هو اللين، وهو نفس المعنى الذي يقوله الله عز وجل للإنسان تجاه أبيه وأمه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، والجناح هنا بمعنى الجانب، وكأن الإنسان فيه جانب شدة وجانب لين، فيقول: اخفض جانبك اللين للوالدين وللمؤمنين وتواضع لهم، فإذا عصوك فقد قال تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:216 - 217].(142/17)
القراءات في قوله تعالى (وتوكل)
وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ} [الشعراء:217] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217].
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر: (فتوكل على العزيز الرحيم).(142/18)
معنى حسبي الله ونعم الوكيل
والتوكل أن تكل أمرك إلى الله خالقك ومدبر أمرك، ثقة به سبحانه، وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ومعنى حسبي الله أي: الله كافيني، وهو نعم الوكيل، أي: نعم من أَكِل إليه عملي.
والإنسان في الدنيا قد يوكل إنساناً يقوم له بشيء لا يقدر عليه، فيقول له: يا فلان! اعمل لي كذا، فيقول: أنا لا أستطيع أن أعمله، وفلان يستطيع أن يعمل لك هذا الأمر، فهذا في الدنيا، فوكيل الإنسان ونائبه يقوم مقامه، ويكون أميناً على أعماله.
فالوكالة مبناها على النيابة والأمانة، أي: أمينك ونائبك في العمل، فتوكله أن يقوم بالعمل مكانك، فهو وكيلك ونائب عنك في بعض الأمور دون بعض، وأما الله عز وجل فهو وكيلك في جميع أمورك، فتتوكل عليه سبحانه، وتثق به، وترجع الأمر كله إليه؛ ثقة أنه يدبر الأمر كله، وأنت إذا عجزت عن الشيء ولم تقدر عليه فقل: حسبي الله ونعم الوكيل، أي: الله كافيني، ويدبر لي أمري كله، وينجيني وينصرني وهو معي، فالله يدبر أمرك وينصرك، ويقف معك، فهو وكيلك سبحانه، فتكل أمرك كله إلى الله، وهذا معنى قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا حيلة لا تحول ولا قوة لأحد على شيء إلا بمعونة ربه سبحانه، فهو مدبر الكون كله سبحانه.(142/19)
تفسير قوله تعالى: (الذي يراك حين تقوم)
قال الله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218]، فلا تغيب عنه، فهو يرعاك ويحرسك ويكلؤك سبحانه، ويراك في كل أحوالك: حين تقوم لله عز وجل مصلياً بالليل أو بالنهار، وحين تقوم داعياً إلى الله، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، ولما تدعو الإنس فيكيدون لك فإن ربك سبحانه يكيد بهم لك، فلا يقدرون على شيء، فالله وكيلك وهو يحرسك، وقد قال لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فقد عصمه سبحانه من الناس فما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً إلا أن يحرشوا أو يؤذوا، والله يرد كيدهم في نحورهم.(142/20)
بعض المواقف التي تبين عصمة الله تعالى لنبيه
عندما كان صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة كان المشركون جلوساً يستهزئون به، وكلما طاف ومر عليهم شتموه مرة بعد أخرى، وفي النهاية وقف لهم وقال: (ألا تسمعون؟! والله! لقد جئتكم بالذبح)، فلما سمعوا أرعبهم الله سبحانه وأخافهم، فقالوا: انصرف أبا القاسم! فوالله ما علمناك جهولاً.
ويأتي رجل من خارج قبيلة قريش إلى قبيلة قريش يستجير بهم على أبي جهل، فإنه قد أخذ ماله ولم يعطه إياه، وينادي في الناس: من ينصرني على أبي جهل؟! فرأوها فرصة ليضحكوا ويستهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أن يذهب إلى محمد ليأتيه بماله، وذهبوا وراء الرجل لكي يضحكوا ويقضوا ليلهم بالضحك على النبي صلى الله عليه وسلم، فطرق الرجل باب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ظلمني أبو جهل وأخذ مالي، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج معه وذهب إلى دار أبي جهل وطرق الباب، فخرج أبو جهل ونظر للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يكون منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقول: ادفع للرجل ماله، والناس وراءه منتظرين أن يضحكوا ويقهقهوا على النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيحصل؟! وإذا بالأمر ينعكس، وإذا بـ أبي جهل يرعب ويصفر وجهه ويتقهقر ويقول: نعم يا أبا القاسم! فيدخل إلى البيت ويأتي بالمال ويدفعه للرجل، فينقلب الأمر ويضحك الناس على أبي جهل، وبعد ذلك سألوه عن ذلك، فقال: والله! لقد رأيت وراءه فحلاً من الإبل، ولو لم أستجب له لقضمني.
وهذا مصداق لقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبلغ الناس ويتوكل على العزيز الرحيم، فالله هو الغالب القوي على هؤلاء الكفار، فلن يضيعك، فاعمل لله عز وجل والله معك، وهو يعصمك من الناس، فإنه يراك في كل أحوالك.(142/21)
تفسير قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين)
قال الله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] أي: فالله يراك قائماً وراكعاً وساجداً وفي كل أحوالك.(142/22)
تفسير قوله تعالى: (إنه هو السميع العليم)
قال الله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:220]، فالله هو العزيز الغالب سبحانه، والله هو الرحيم، فيرحمك ويرحم المؤمنين، والله سميع بما يقول هؤلاء لك، وما تقوله أنت لهم.
والله عليم يعلم أحوال الجميع، ويفعل بهم ما يشاء سبحانه.(142/23)
تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين)
قال سبحانه: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:221].
والنزول يكون من الأعلى إلى الأسفل، فكأن الشياطين تقدر على المشي وعلى الطيران أيضاً، وتنزل من أعلى إلى أسفل، فهي تطير وتصل إلى المكان الذي يشاء الله عز وجل، وتنزل على صاحبها.(142/24)
تفسير قوله تعالى: (تنزل على كل أفاك أثيم)
قال الله سبحانه: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222]، والرسول صلى الله عليه وسلم يتنزل عليه الوحي من السماء مع ملك كريم، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، وأما هؤلاء فتتنزل عليهم الشياطين وتوسوس لهم وتكلمهم بكلام باطل وبأكاذيب.
والإفك هو الحديث الكذب، ورجل أفاك: كثير الكذب شنيعه، فهو الذي يكذب أكاذيب مفضوحة وشنيعة وكبيرة، فالشياطين تنزل على كل إنسان كذاب، و (أَثِيمٍ): هو كثير الإثم.(142/25)
تفسير قوله تعالى: (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون)
قال سبحانه: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223].
قوله تعالى: {يُلْقُونَ السَّمْعَ} [الشعراء:223] صفة لهؤلاء الشياطين أنهم يسترقون السمع من السماء، فيلقونه إلى أصحابهم من الكهان من أهل الأرض.
وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] يعني: كلام الشياطين أكثره كذب، وقد يكون فيه شيء من الصدق، ولم يجعل الله كل كلامهم كذباً؛ لكي يبتلي العباد.
ولو أن الله عز وجل أمر العباد بألا يسرقوا وبغض في قلوبهم السرقة، ولا يوجد في قلب الإنسان حب للمال، فالإنسان لن يسرق.
ولو أنه قال: لا تزنوا، ولم يجعل عند الإنسان شهوة، فلن يزني؛ لأنه لا يوجد عنده شهوة أصلاً، ولكن يخلق بداخله الشهوة ثم يهذبها له، ثم يأمره بفعل الحلال ويحذره من الوقوع في الحرام، فهذا هو محل الاختبار: هل سيطيع الإنسان ربه أو سيعصيه سبحانه؟ وكذلك الشياطين أكثرهم كاذبون، ولكن بعض الأخبار قد تكون أخباراً صادقة على النحو الذي ذكرناه من أنهم يسمعون خبراً من الملائكة وينزلون به إلى الأرض، فيشاء الله أن يحرقهم قبل أن ينزلوا بهذا الخبر، وقد ينزل الخبر قبل إحراق هؤلاء الشياطين، فينزل الخبر الصدق، ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة، فأكثرهم كاذبون.(142/26)
تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)(142/27)
سبب تسمية سورة الشعراء بهذا الاسم
قال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، وسبب تسمية سورة الشعراء بهذه التسمية أن الله عز وجل ذكر فيها الشعراء.(142/28)
عدم معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بقول الشعر
وكان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون عنه: شاعر، وساحر، وكاهن، ومجنون، ويدعون أنه يكذب صلوات الله وسلامه عليه وحاشا له، والله عز وجل يخبر أن الشياطين تتنزل على أوليائهم الكهان وعلى الشعراء، وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاعراً مثلهم، وما كان يعرف الشعر ولا يجيده عليه الصلاة والسلام، ولعله يسمع بيت الشعر فإذا نطقه صلى الله عليه وسلم غيره فانعكس البيت ولم ينفع فيه الوزن، وفي هذا آية من آيات الله سبحانه، ولو أن إنساناً عربياً لا يتكلم شعراً فإنهم يعدون هذا عيباً فيه، لأنه عربي ولا يفهم الشعر، ولا يتكلم به، لكن هذا في النبي صلى الله عليه وسلم معجزة فيه صلوات الله وسلامه عليه، وأهل بيته يتكلمون بالشعر كبارهم وصغارهم، وما من أحد من قبيلته إلا ويتكلم بالشعر ويفهمه، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقول الشعر، ولو كان شاعراً لادعوا أن هذا القرآن شعر، لكنهم كانوا يفهمون الشعر جيداً، ويفهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً، فالقرآن هذا ليس من الشعر، وليس من كلام الشعراء.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب، وفي غيره صلوات الله وسلامه عليه قد يعد هذا عيباً من العيوب، لكن هذا معجزة له عليه الصلاة والسلام، ولو كان يقرأ ويكتب لادعوا عليه أنه ذهب وقرأ عند أهل الكتاب، ثم ترجمها إلى العربية وقالها لنا، ولكنه لم يكن يقرأ، ولا يكتب، ولا يفهم الشعر صلوات الله وسلامه عليه، ولا ينطق بالشعر عليه الصلاة والسلام.
ولما أتى رجل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع.
يعني: أتعطيني أنا وفرسي خمسين جملاً وأعطيت عيينة والأقرع كل واحد منهما مائة من الإبل، فلا يستقيم هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: أنت الذي تقول: (أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة) فهذا ليس شعراً؛ لأنه لا وزن فيه، فيقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول رب العالمين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق الشعر، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} [يس:69].
والله عز وجل يخبر عن الأغلب من الشعراء أن الشياطين تنزل عليهم وتوسوس لهم بالشتم والقدح والسب والمدح؛ لكي يعطوا مالاً، فأكثر أغراض الشعراء طلب الدنيا، فالشاعر يمدح الملوك لكي يعطوه مالاً، ويذم إنساناً لأنه مقهور منه، ولذلك لما جاء شاعر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا محمد! إن مدحي زين وإن قدحي شين، قال: ذاك الله) أي: الذي مدحه زين هو الله سبحانه، والذي ذمه شين هو الله سبحانه، وأما أنت فلا شيء، ومن تكون أنت؟! فهذه صفة الله عز وجل الذي إن مدح شيئاً سبحانه فقد زانه، وإن ذم شيئاً فقد شانه.
فالشياطين تنزل بالكذب على هؤلاء الشعراء بخلاف ملائكة رب العالمين، فإنهم ينزلون بالصدق على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالقرآن وحي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أنزله عليه ولم تتنزل به الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على أمثال هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] أي: يجري ورائهم أهل الغواية، والشياطين تتبع الشعراء فتوسوس لهم أن اعملوا كذا وكذا، فيسمعون كلامهم ويفعلون هذا الشيء إلا من رحم الله، ولذلك استثنى في آخر الآيات فقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227].(142/29)
القراءات في قوله تعالى (يتبعهم)
وقوله تعالى: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (يَتَّبِعُهُمُ).
وقراءة نافع: (يَتْبَعُهُمُ).
والغاوي: هو الإنسان الذي حاد عن الحق، قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] أي: لا تاه عن الحق ولا وقع في المعاصي، والغواية عكس الرشد.
فإنسان راشد: أي عقله ثابت وحاضر، فهو يفهم ويعي ويعقل.
وإنسان غاوي: أي: عقله ضائع، فهو يفعل المعاصي ويقع فيما يغضب الله سبحانه.
فهؤلاء الغاوون من الإنس والجن يتبعون الشعراء، ويعجبهم أنَّ الشاعر يمدحهم أو يذم خصومهم.(142/30)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: أن هؤلاء الشعراء يهيمون في كل واد، ولا يتركون شيئاً إلا وتكلموا فيه، فهم يتكلمون في الأرض وفي السماء، وفي المشرق وفي المغرب، وفي الرجال وفي النساء، وفي الصغار وفي الكبار، وفي كل شيء، ويصفون أي شيء، وأكثر الشعراء على ذلك، ولا يوجد شيء يمنعهم أو يردعهم فيقولون أي كلام، فيمدحون الخمر أو غيرها من المحرمات، ثم يعتذرون بعد ذلك.
فهنا معنى قوله تعالى: {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: في أي شيء: من إثم أو ذنب أو معصية أو طاعة.
والذي يهيم هو الذي يمشي تائهاً ولا يشعر أين هو، ولذلك لا تسم ابنتك هيام، فهذه التسمية غلط، والناس يسمون أبناءهم بأسماء لا يفهمون معناها، فالهائم هو الذي يهيم، يقال: فلان في الظلام يهيم، أو إني أراك في الظلال تهيم، يعني: تمشي ولا تعرف هل أنت مشرِّق أم مغرب؟ وتمشي في الضلال وفي التيه وعقلك ليس حاضراً.
فالهيام هو طيش العقل فترى الإنسان يمشي ولا يدري إلى أين يذهب؟ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، فالشعراء أهل الغواية هم الذين يمدحون بحق أو بباطل، وكذلك يذمون بحق أو بباطل، فهم في كل واد يهيمون.(142/31)
تفسير قوله تعالى: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون أي منقلب ينقلبون)
قال سبحانه: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:226]، فالأغلب منهم يقولون الشعر فيظهرون أنفسهم أنهم الأبطال الجسورون، وأنهم فعلوا كذا وكذا، وهم لم يفعلوا شيئاً مما قالوه، ولذلك استثنى الله عز وجل فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فالمؤمنون تربط ألسنتهم طاعة الله، والخوف من الله سبحانه، فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء مجيدين، مثل عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وغيرهم من الشعراء الذين كانوا يذمون الكفر وأهله، وينتصرون لدين رب العالمين سبحانه.
والنبي صلى الله عليه وسلم سمع الشعر لكنه لم يقل شعراً عليه الصلاة والسلام، إلا ما يكون محفوظاً عند الناس، كشعر الصحابة وهم يحفرون الخندق مثلاً: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة فيقوله النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ربه بذلك عليه الصلاة والسلام، فقد يكون كلاماً يخرج من اللسان وهو على أوزان الشعر المعروفة لكنه غير مقصود أن يكون شعراً، فمثلاً قول الأنصار: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً فيرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة.
أو فارحم الأنصار والمهاجرة.(142/32)
سماع النبي صلى الله عليه وسلم للشعر الحسن
وفي صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه أنه قال: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن الصلت؟ فقال: قلت: نعم، فقال: هيه) و (هيه) بمعنى: قل وأسمعني.
وأمية بن الصلت كان في الجاهلية، وكان كافراً وكاد شعره أن يسلم، وقد قال أشعاراً فيها توحيد لله عز وجل، وكاد أن يسلم الرجل ولكنه كان جاهلياً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن شعر أمية بن الصلت الذي فيه ذكر الله وفيه التوحيد، فالرجل قال: نعم.
(قال: هيه، فأنشده بيتاً، ثم قال: هيه، فأنشده آخر، قال: حتى أنشدته مائة بيت) فالنبي صلى الله عليه وسلم يسمع الشعر ويفهمه عليه الصلاة والسلام، وأما أنه يفهم أوزانه ويقوله فلم يعلمه الله سبحانه وتعالى ذلك.
وفي هذا دليل على أنه يجوز حفظ الأشعار المفيدة التي يستفيد منها الإنسان سواء في حفظ العلم، أو حفظ اللغة العربية، أو غير ذلك كما سنبين ذلك فيما بعد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(142/33)
تفسير سورة الشعراء [221 - 227]
كان كفار قريش يتهمون النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يأتيه شيطان بالوحي، فرد الله عليهم هذا الافتراء، وبين لهم من الذي تتنزل عليه الشياطين، وأنها تنزل على الأفاكين، وذم الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون، واستثنى من هذا الذم الشعراء المؤمنين الصالحين.(143/1)
تفسير قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين وأكثرهم كاذبون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة الشعراء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:1221 - 227].
في ختام هذه السورة الكريمة سورة الشعراء يخبر ربنا سبحانه وتعالى أن الشياطين تنزل على أهلها وأصحابها وأوليائها، وكان الكفار يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم أن شيطانه يأتيه بهذا الوحي من السماء، فقال ربنا مجيباً لهؤلاء الكذابين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ} [الشعراء:221]، و (تنزل) مدغمة وأصلها تتنزل الشياطين، أي: أن الشياطين تطير في الهواء وتنزل على أصحابها وأوليائها.
{تَنَزَّلُ} [الشعراء:222] أي: تتنزل: {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: على الكذابين، والأفاك هو الإنسان الكثير الكذب، فهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب، وقد شهد الله عز وجل عليهم بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: أنهم لا يدعون أنك تكذب، فهم كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فلا يجتمع أن يكون صادقاً وأميناً ثم تنزل عليه الشياطين، وهذا لا يكون حتى عندهم، ولكنهم يجحدون بآيات الله رب العالمين، فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنك لست كذاباً، وهم لا يعتقدون أنك كذاب، بل هم يجحدون -والجحد: إخفاء الحقيقة مع اليقين والعلم بها- آيات الله، مع أنهم يعرفون أنه الحق من ربهم سبحانه، ولكن ينكرون ذلك مع أن قلوبهم متيقنة أن هذا الحق من عند رب العالمين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، ومع ذلك يكذبون ويقولون: كذاب، ويقولون: مجنون، ويقولون: ساحر، فربنا يقول لهم: لا، الأولى أن تعرفوا من هم هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين، فليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن تنزل عليه الشياطين، وإنما تتنزل الشياطين على شعرائكم الكذابين، فكان كل شاعر منهم يزعم أن له شيطاناً يأتيه بالسحر، فالشياطين تنزل على كهنتهم وكذابيهم.
قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ} [الشعراء:222] أي: هذه الشياطين، {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: على كل كذاب، بل من كان فاحش الكذب، فهؤلاء هم الذين تواليهم الشياطين، {أَثِيمٍ} [الشعراء:222] أي: كثير الإثم، يفعل الآثام والذنوب.
{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء:223] يعني الشياطين تلقي السمع إلى أخبار السماء وتنزل بهذه الأخبار -إذا شاء الله- إلى الأرض، فتخبر بها الكهنة والعرافين ونحوهم، فيخبرون بما أخبروا به.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشيطانين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى السماء فيسترقوا السمع، ويشاء الله عز وجل فتنة عباده بأن تتحدث الملائكة بخبر من خبر السماء، فتخطفه الشياطين وتنزل به إلى الأرض، فيرمى الشيطان بالشهاب، فقد يدركه قبل أن ينزل بهذا الخبر، وقد يدركه بعد أن ينزل بهذا الخبر، فيصل الخبر إلى الكاهن في الأرض، والشيطان يقرقره في أذن الكاهن، والكاهن يخبر الناس بهذا الخبر ويكذب مائة كذبة مع ما أخبره الشيطان به، وعندما يتحقق هذا الخبر الصدق يصدق الناس الكهان، ويقولون: صدق في اليوم الفلاني، فيصدقون باقي كلامه الكذب.
وقد حذرنا ربنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم من تصديق الكهان وقال لنا: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، فلا يجوز لأحد أن يأتي كاهناً أو عرافاً ليسمع منه، أو ليسأله عن شيء.
والكاهن هو الذي يتكهن للناس، فيقول: سيحصل كذا، وفي آخر السنة هذه سيكون كذا، وفي أول السنة سيكون كذا، ويكذب على الناس بأكاذيب، كما ترى في الجرائد من يقول: العرافون يقولون: كذا وكذا، وصاحب علم النجوم يقول: هذه السنة سيحصل كوارث وكذا وكذا، فهذا من الكهانة التي حرمها ربنا سبحانه، ومن صدق ذلك فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
والعراف مثل الكاهن، ولكنه يستدل ببعض الأشياء على أشياء مغيبة، فيقول لهم: عند فلان كذا، وعند فلان كذا، فتخبره الشياطين عن ذلك، وغاية الشيطان الوقيعة بين الناس، فالشيطان يخبره أن فلاناً هو الذي سرق، فتتقاطع الأرحام بفعل ذلك الكاهن والعراف.(143/2)
تفسير قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون)
لما ذكر الله عز وجل هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين من الأفاكين والعرافين والسحرة والكهنة قال سبحانه: {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:223 - 224] (يتبعهم) يعني: يسير وراءهم، وقراءة الجمهور: {يَتَّبِعُهُمُ} [الشعراء:224] بتشديد التاء، وقرأها نافع: (يتَبْعهم) بغير تشديد، والمعنى أنه يمشي وراءهم كل غاوٍ، والغاوي هو الإنسان الذي يمشي في هواه، ولذلك قال ربنا سبحانه مقسماً بالنجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2]، فمن غوى كأنه حصل له شيء في هواه فاتبعه بعيداً عن الصواب.
فهؤلاء الغاوون الذين يتبعون الشاعر فكيف يكون حال الشاعر؟! فإذا قيل: إن فلاناً يتبعه كل آثم، فكيف بالمتبوع؟! فأشد الغواة الشعراء.
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]، لماذا؟ قال سبحان معجِّباً من حال أكثرهم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، ألم تر أن هؤلاء الشعراء يسيرون هائمين، فالشاعر يسير ولا يدري أين يسير، يقال: فلان هائم على وجهه في الأرض، أي: يمشي مثل الأعمى، فكذلك الشعراء يهيمون في كل واد، فأي فكرة تخطر في باله فإنه يتكلم فيها بأي شيء.
وهذا العموم مخصوص، ولذلك قال الله بعد هذا: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227]، فالله عز وجل خص من هؤلاء الغاوين أهل الإيمان، فهم ليسوا غاوين، بل هم أهل تقوى كما سيذكر صفاتهم بعد ذلك.(143/3)
الشعر بمنزلة الكلام
روى البخاري في الأدب والدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام).
فالشعر موهبة من الله عز وجل للإنسان، وهذا الشعر يكون حكمه بحسب الموضوع الذي قيل فيه هذا الشعر، فإن كان الموضوع موضوعاً جيداً ومن المواضيع النافعة فالشعر حسن فيها، وأن كان الموضوع موضوعاً تافهاً فالشعر فيه مثله، فالشعر بمنزلة الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد استمع للشعر، قال أحد الصحابة -وهو الشريد السلمي -: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟)، وأمية بن أبي الصلت شاعر جاهلي، وكان يقول شعراً في غاية الجودة والجمال، ويكاد شعره ينطق بالتوحيد، ومع ذلك لم يؤمن، فكفر قلبه وآمن شعره، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع هذا الشعر الذي فيه التوحيد، قال: (هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قال: قلت: نعم، قال: هيه) (هيه) يعني: قل وأسمعني، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت)، فهذا الصحابي كان يحفظ الشعر، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل استمع هذا الشعر منه.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) أي: كاد ولم يسلم، فشعره مليء بالتوحيد ولكنه لم يسلم.
وكثير من الصحابة كانوا يحفظون الشعر، وكان كثير منهم يقول الشعر، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، بل بعضهم قال الشعر بحضرته صلى الله عليه وسلم، وما من أحد من آل بيته صلى الله عليه وسلم إلا وقال الشعر كعمه العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وغيرهما من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومن نساء آل البيت من قالت الشعر، فالشعر ليس قبيحاً إلا أن يكون الموضوع الذي يتكلم فيه الشاعر موضوعاً قبيحاً.
وقد ورد أن العباس مدح النبي صلى الله عليه وسلم بأبيات شعر، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت فيك شعراً، ويريد أن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسراً وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفضض الله فاك).
وهذا الشعر قاله العباس في النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: (من قبلها) أي: من قبل ما تجيء في هذه الدنيا (طبت في الظلال) يعني: طبت في الجنة.
(وفي مستودع حيث يخصف الورق) يقصد قصة آدم وحواء لما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، والمعنى أنت كنت في صلب آدم وهو في الجنة.
قال: (ثم هبطت البلاد)، إلى آخر ما ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال شعراً، فمن قوله رضي الله عنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم: فقدنا الوحي إذ ولّيت عنا وودعنا من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهيناً توارثه القراطيس الكرام فقد أورثتنا ميراث صدق عليك به التحية والسلام وكان للنبي صلوات الله وسلامه عليه شعراء مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير وغيرهم ممن كانوا يقولون الشعر، ويمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، ويمدحون دين الله سبحانه، ويدافعون عن الدين، ويهجون الكفار المجرمين.
وكان حسان يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه أن يرد عليهم حذره أن يسب الأنساب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم له نسب فيهم، فإذا سب آباءهم فكأنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم، فحذره فقال: لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، وهذه من البراعة التي كان عليها حسان رضي الله عنه، حيث يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ويهجو المشركين، ويسل النبي صلى الله عليه وسلم منهم من غير أن يتعرض لنسبه بشيء صلى الله عليه وسلم.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه حسان وكعب بن مالك وابن رواحة لما سمعوا هذه الآيات المكية، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء، فقال: (اقرؤوا ما بعدها: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشعراء:227] حتى بلغ: {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227])، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (انتصروا ولا تقولوا إلا حقاً، ولا تذكروا الآباء والأمهات) يعني: انتصروا لهذا الدين واهجوا المشركين ولكن لا تسبوا الآباء والأمهات.
ومن شعر حسان رضي الله عنه أنه هجا أبا سفيان قبل إسلامه عندما هجا أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له حسان: هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء فـ حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه يهجو هؤلاء ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أفديك أنا وأبي وأمي، وكلنا نفدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.(143/4)
ذم الشعراء الغاوين
قوله سبحانه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، فالشاعر الذي يترك لنفسه الحبل على الغارب يقع في المزالق وفي الخطأ، ولذلك بعض الشعراء كانوا مؤمنين وعلى صلاح ولما تمادوا في الشعر وقعوا في أشياء خطيرة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:225 - 226].
وقد روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)، جوف الإنسان أي صدره، لأن يمتلئ صديداً أفضل له من أن يمتلئ شعراً، والمقصود الشعر الذي فيه أكاذيب.
وفي حديث آخر في الصحيح عن أبي سعيد قال: (بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً)، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه، ولعله من الشعراء الذين يمدحون الناس، فإن أعطوه مالاً مدحهم، وإن لم يعطوه مالاً هجاهم، فلذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم شيطاناً.
قال العلماء: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعله كان ممن اتخذ الشعر طريقاً للتكسب، ولذلك أحد هؤلاء الشعراء قال للنبي صلى الله عليه وسلم يخوفه: يا محمد! إن مدحي زين، وإن ذمي شين، فقال له: (ذاك الله سبحانه وتعالى) يعني: الذي يمدح فيرفع والذي يقدح فيضع هو الله سبحانه ولست أنت، فعرف الرجل قدر نفسه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه)، (حتى يريه) يعني: حتى يمزق جوفه، والمقصود الشعر القبيح.(143/5)
مدح الشعراء الصالحين
قال النبي صلى الله عليه وسلم في شعر حسان: (إنه لأسرع فيهم من رشق النبل)، وجاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء أو عمرة القضية، وكان عبد الله بن رواحة يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول للكفار: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله فأنكر عليه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: (خل عنه يا عمر، فلهو أشد عليهم من نضح النبل)، وكان ذلك في عمرة القضية سنة سبع من الهجرة قبل فتح مكة بعام، فكانوا داخلين مكة للعمرة، وكانوا ألفاً وخمسمائة، فـ عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يشجعه؛ لأن هذا الشعر الذي يقوله أشد على الكفار من رمي النبال.(143/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225] أي: في كل لغو يخوضون ولا يتبعون سنن الحق، وقد ذكر الإمام القرطبي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يعني: كان والياً على بلد من بلاد الشام، فقال شعراً، وهو من المؤمنين الصالحين، ولكن حصلت له هفوة فقال هذا الشعر: من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يُسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا في الجوسق المتهدم فبلغ هذا الشعر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأرسل إليه، فلما أقبل على عمر قال له: إي والله! إني ليسوءني ذلك، لأنه قال في شعره: لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم وهو يقول: (من مبلغ الحسناء) يعني: امرأته، من يبلغها؟ (أن حليلها) أي زوجها، (بميسان يسقى في زجاج وحنتم)، يعني: أنه يشرب الخمر، في بلدة ميسان، وهو لم يشرب، ولكن كما قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، فلما قال له عمر ذلك استشعر من عمر أنه سيقيم عليه الحد باعترافه أنه شرب الخمر، فقال: يا أمير المؤمنين! ما فعلت شيئاً مما قلت، وإنما كان فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].
فقال عمر رضي الله عنه: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً.
فالشعراء عادتهم الكذب، ويقولون: أجود الشعر أكذبه.
وشعراء أهل الجاهلية كان أحدهم يبتدئ القصيدة بالغزل، ويتكلم في الفخر، ثم يهجو الخصم ويتكلم في الشجاعة، ويأتي بأشياء عجيبة، كالمعلقات التي كانت تعلق في الكعبة، وقد قالها فحول الشعراء مثل عنترة وعمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد وامرؤ القيس، وقد كتبت بماء الذهب، وعلقت على الكعبة، ومن أجمل هذه المعلقات معلقة عمرو بن كلثوم وهو رجل تغلبي، وكان في عهده ملك اسمه عمرو بن هند، وكانوا يلقبونه بمضرط الحجارة، أي: أن الحجارة تضرط؛ خوفاً منه، فقد كان جباراً، ومن جبروته أنه سأل الناس: هل يوجد أحد ترفض أمه أن تخدم أمي؟ فقالوا له: نعم، عمرو بن كلثوم، وكان عُمْر عمرو خمس عشرة سنة، فبعث إليه أن يأتيه مع أمه، فذهب إليه هو وأمه مع عشرين رجلاً من القبيلة، فلما وصلوا إلى الملك دخلت المرأة عند أم الملك، فأم الملك أرادت منها أن تخدمها، فصرخت أم عمرو، فلما سمع عمرو ذلك أخذ السيف وضرب رقبة الملك، وهرب ومن معه، وقال قصيدته المشهورة: وقد علم القبائل من معد إذا قبب بأبطحها بنينا بأنا المنعمون إذا قدرنا وأنا المهلكون إذا أتينا وأنا الحاكمون بما أردنا وأنا النازلون بحيث شينا وأنا التاركون لما سخطنا وأنا الآخذون لما رضينا وأنا العاصمون إذا أطعنا وأنا الغارمون إذا عصينا ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً ألا أبلغ بني الطماح عنا ودعميّاً فكيف وجدتمونا إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الذل فينا ملأنا البر حتى ضاق عنا كذلك البحر نملؤه سفينا إذا بلغ الفطام لنا وليد تخر له الجبابر ساجدينا فاسمعوا إلى هذا الكذب، وكانت هذه القصيدة معلقة في الكعبة أيام الجاهلية، وهو شعر رائع جداً لكنه مليء بالكذب، فإنه قال: ملئنا البر حتى ضاق عنا! فهل قبيلة تغلب تملأ البر؟! وهل ملئوا البحر بالسفن؟! صدق الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225].
ومن هؤلاء الشعراء جرول الملقب بـ الحطيئة، فقد كان شاعراً كثير الهجاء، وكان يهجو أي إنسان، حتى كاد عمر رضي الله عنه أن يقطع لسانه، حتى إنه هجا أباه فقال: لحاك الله ثم لحاك حقاً أباً ولحاك من عم وخال فنعم الشيخ أنت على المخازي وبئس الشيخ أنت لدى المعالي وقال لأمه: جزاك الله شراً من عجوز ولقّاك العقوق من البنينا تنحي فاجلسي عني بعيداً أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا بل إنه هجا نفسه فقال: أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بشر فما أدري لمن أنا قائل أرى لي وجهاً قبح الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله فصدق الله إذ يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].(143/7)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]، فالمؤمن يقول الشعر النافع، فيذكر ويعظ به الناس، ويحثهم على العمل الصالح، وذكْر الله سبحانه وتعالى، والانتصار لدين رب العالمين سبحانه، كـ حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة وغيرهما رضي الله عنهم؛ فهؤلاء لا يذمون على شعرهم.
قال الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] أي: سيعلم الظلمة والكفرة والكذابين والأفاكين {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227] أي: أي مرجع سيرجعون إلى الله سبحانه، فسيعرفون شؤم ما صنعوا بجزائهم السيئة يوم القيامة، فنسأل الله سبحانه حسن النهاية، وحسن المنقلب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(143/8)
تفسير سورة النمل [1 - 14]
الحروف المقطعة في القرآن تشير إلى تحدي الله عباده بأن يأتوا بكلام مثل كلامه سبحانه، وقد ذكر سبحانه في مطلع سورة النمل هذا المعنى، ثم ذكر قصة الرسل مع أنبيائهم، وكيف كانت عاقبة المفسدين المكذبين للرسل المعرضين عن دعوتهم.(144/1)
تفسير قوله تعالى: (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ * وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:1 - 14].
هذه السورة السابعة والعشرون من كتاب الله رب العالمين المسماه بسورة النمل، وهي من السور المكية كسابقاتها، وآياتها ثلاث وتسعون آية، ونزلت بعد سورة الشعراء، وسميت بذلك لأن الله عز وجل ذكر فيها النمل، فكل سورة تسمى بما هو موجود بداخلها، مثل سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الشعراء، فالله عز وجل يذكر في ثنايا السورة ما يدل على ذلك.
ففي سورة النمل قال الله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، والنمل خلق من خلق الله سبحانه وتعالى يسبح ربه، وقد جعل الله فيها أفهاماً تفهم وتعي بها، وتدبر لنفسها بأمر ربها سبحانه أمر قوتها وأمر مساكنها وحماية نفسها كما سيأتي في هذه السورة.(144/2)
الخصائص المكية لسورة النمل
تتميز هذه السورة المكية بخصائص السور المكية، وذكرنا قبل ذلك أن من خصائص السور المكية: الاهتمام بأمر التربية، وأمر العقيدة، وأمر التوحيد، وإقرار هذا الأمر.
فتجد هذه السور المكية تعنى بأمر العقيدة، والإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، وذكر صفات الله سبحانه، وأسمائه الحسنى، وكذلك ذكر قصص الأنبياء، وما ابتلاهم الله عز وجل به، ثم نصر الله عز وجل لهؤلاء الأنبياء.
وفي هذه السورة العظيمة يبين الله سبحانه وتعالى لنا كيف أنه قد يعطي لبعض عباده الرسالة، وقد يعطي البعض الآخر الرسالة والملك، كما أعطى داود وأعطى سليمان، وسنرى في هذه السورة شأن الاثنين.
وفي هذه السورة: ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام بشيء من التفصيل، وقد تقدمت هذه القصة مراراً، فقد كان موسى عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أكد الله عز وجل ذكر أمره في هذا القرآن العظيم مرات ومرات؛ حتى يأتسي النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به.
ولذلك كان هو النبي الوحيد الذي نصح النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج أن يرجع إلى ربه، وقال: إني بليت بني إسرائيل قبلك، وإن أمتك ضعيفة لا تطيق، فهو صاحب تجربة عليه الصلاة والسلام، فأشار للنبي صلى الله عليه وسلم بمحصلة هذه التجربة، فكانت النتيجة أن وضعت الصلوات من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
وقد ابتدأ ربنا سبحانه سورة النمل بالحرفين المقطعين: الطاء والسين، وقد قلنا: إن هذه السورة ثلاث وتسعون آية على العد الكوفي، وأربع وتسعون آية على العد البصري، وخمس وتسعون آية على العد الحجازي، فالبعض عد هذه الآية في مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض أدخل وقفين على أن هذا وقف جائز وبعده رأس الآية.
إذاً: فالبعض عدهما فاصلة ورأس آية، والبعض لم يعدهما كذلك، فاختلف الترقيم.
قال الله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان مقطعان في أول هذه السورة، وقد تميزت السور الثلاث من سور الطواسين أو الطواسيم بهذه الحروف: الطاء والسين، وزادت الميم في سورتي الشعراء والقصص.
فالسور: الشعراء، والنمل، والقصص تسمى بسور: الطواسيم أو الطواسين، هذا جمع على غير قياس، وأيضاً يقال: هي ذوات الطاسن، يعني: في أولها طاء وسين، والقراءة فيها: {طس} [النمل:1]، قراءة الجمهور، وأما قراءة أبي جعفر فبالقطع لبيان أنها حروف وليست كلمة.
ولذلك كل الحروف التي في فواتح السور يقرؤها أبو جعفر يزيد بن القعقاع مفرقة، أي: يقطعها، فيقطع في قوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حتى يبين أن هذا حرف، وهذا حرف، مثل قوله تعالى: {طه} [طه:1] فهو يبين أن ليست كلمة، ولكن هذا حرف وهذا حرف، أي: حرفان.
وهنا بدأ الله عز وجل بهذين الحرفين، وقراءة الجمهور: مد الطاء حركتين، ومد السين مداً طويلاً، والطاء في قراءة شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف ممالة، يعني: أن غيرهم يقرأ الطاء مفتوحة، أما شعبة عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف فيميلونها، إذاً: القراءة إما بالفتح، وإما بالإمالة فيها، وأما السين فالكل يقرؤها ممدودة مداً طويلاً.
قال الله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وستجد دائماً في القرآن أ، الله عندما يبدأ السورة بحروف مقطعة فلا بد أن يشير إلى القرآن بعدها، كقوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، وقوله تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وقوله تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2].
فالله سبحانه وتعالى عندما يذكر الحروف المقطعة فإنه يذكر بعدها مباشرة الإشارة إلى هذا القرآن، وكأنه يقول لنا: إن هذا القرآن من هذه الحروف نفسها، أي: من الحروف التي تتكلمون بها، وتصنعون منها خطبكم ونثركم وشعركم، ويتحداكم الله عز وجل أن تأتوا بمثل هذا القرآن لو استطعتم إلى ذلك سبيلاً.
فالمقصود بها هنا: التحدي، والكثرة، أي: هاتوا مثل هذا القرآن الذي جاءكم من مثل هذه الحروف، والذي يعد حروف هذه السورة يجد أن أكثر الحروف التي تكررت في هذه السورة حرف الطاء وحرف السين، وكذلك كل سورة يبدؤها الله عز وجل بأحرف مقطعة، فإن المتأمل إذا عد الحروف التي في السورة يجد أكثر حروف السورة تكراراً هي هذه الحروف المقطعة في أوائل السور.
إذاً: فالله يبين أن هذا القرآن من لغتكم العربية، ومن حروفكم التي تتكلمون بها، فاتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، أو فأتوا بسورة من أقصر السور مثل هذا الذي جئناكم به ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فقوله تعالى: {طس} [النمل:1]، حرفان في أولها، والبعض يسمي هذه السورة: بطس، فهذان الحرفان دلالة على تسميتها، مثل أن تقول: صلينا يوم الجمعة بألم السجدة، يعني: السورة التي فيها ألم وفيها السجدة، فقيل: هذه الحروف دلالة على تسمية السورة، وقيل: إن هذه الحروف من الأقسام التي يقسم الله عز وجل بها، وقيل: بل هي حروف من أسماء الله سبحانه وتعالى افتتح بها هذه السور والله أعلم.
قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، واسم الإشارة القريب للمؤنث: هذه، وإذا كان للبعيد في المكان أو في الرتبة قال: تلك، ففيها إشارة للبعد في الرتبة، يعني: أنه عالٍ وعظيم، فالله يشير إلى القرآن العظيم، فلم يقل: هذه آيات القرآن، أو كان هذا القرآن قريباً منا، ولكن لما يشير بقوله: (تِلْكَ)، فإن الإشارة للبعيد معناها التعظيم؛ يعني: هذه الآيات العظيمة هي آيات كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، وقد تكرر هذا الجزء في سورة الحجر، لكن بخلاف بسيط، ففي سورة الحجر قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، وهنا قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].
إذاً: فهذه الآيات التي تتلى علينا هي آيات الذكر الحكيم، وآيات القرآن الكريم، قال تعالى: {وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1]، أي: من عند رب العالمين سبحانه، وكأنه يقول: القرآن هو الكتاب المبين، ومبين بمعنى: واضح لا خفاء فيه، ولا إشكال فيه، بل يفهمه كل من يقرؤه، ويعي ما يقصده ربنا سبحانه وتعالى في هذا القرآن، وقراءة الجمهور: {الْقُرْآنِ} [النمل:1]، وقراءة ابن كثير المكي: (الْقُرْانِ) فيحذف الهمزة ويقرؤها ألفاً، وهي قراءة حمزة إذا وقف عليها: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْانِ} [النمل:1]، فإذا وصل قال: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:1].(144/3)
تفسير قوله تعالى: (هدى وبشرى للمؤمنين)
قال الله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2]، أي: هذا القرآن هدى، وهذا القرآن بشارة للمؤمنين، وإن كان يحوي النذارة أيضاً، ولكن بين الله عز وجل هنا شيئاً من خصائص هذا القرآن، قال تعالى: {هُدًى} [النمل:2]، منصوبة على أنها حال، وآيات القرآن هداية يهدي بها الله عز وجل من يشاء من خلقه، وبشارة لمن شاء الله عز وجل أن يهديه.
وكذلك يجوز أن تكون مرفوعة، فيكون التقدير: هو هدى، وهو بشرى، أو: هي هدى، وهي بشرى للمؤمنين، فقوله تعالى: {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:2]، أي: يبشر الله عز وجل المؤمنين، والبشرى: الإعلام بالخبر السار، والبشارة قد تكون إعلاماً بخبر سار وهذا الغالب، وقد يكون إعلاماً بخبر غير سار وهذا قليل، بخلاف النذارة، فقولك: تنذر، يعني: تهدد بخبر فيه العقوبة من ورائه.(144/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون)
القرآن فيه الهداية وفيه النور، وفيه البشارة للمؤمنين، والمؤمنون هم الذين آمنوا وصدقوا، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأيقنوا بالآخرة، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، وأما صفات المؤمنين في سورة البقرة فقد ذكر الله أن من أهم صفاتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، يعني: يصدقون بما أخبر الله عز وجل به وهو لم ير هذا الشيء، ولم ير الله، ولم ير الجنة، ولم ير النار، ولكنه استيقن من ذلك وأيقن وصدق، فهم: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، فتلك آيات القرآن وكتاب مبين فيها الهداية وفيها البشارة للمؤمنين، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [النمل:3]، إذاً: فهم مؤمنون، وهم يقيمون الصلاة، والفرق بين من يصلون وبين من يقيمون الصلاة: أن الذي يقيم الصلاة يعدلها ويحسنها، ويؤديها بخشوع وركوع وسجود وخضوع وتواضع لله رب العالمين وإكثار من ذكر الله، فهو يقيم صلاته، قال تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النمل:3]، أي: يؤدون الزكاة كما أمر الله سبحانه وتعالى، ودائماً الزكاة تأتي بهذه اللفظة: (آتوا الزكاة)، فالإيتاء: إعطاء لا خصم فيه، ولذلك اتفق الفقهاء على عدم جواز الخصم في الزكاة، كأن يكون للرجل دينٌ على آخر فيعفو عنه ويخصم هذا الدين من الزكاة، أي: يعتبر ما خصمه زكاة، وهذا لا يجوز، وقد يصلح ذلك في الصدقة، أي: تتصدق على الإنسان بأنك تتنازل عن المال الذي تريده منه، أما الزكاة فلا يجوز ذلك؛ لأن الزكاة يقصد بها حصول الانتفاع للذي أعطيته، فيأخذها ويأكل بها، ويشرب بها، ويلبس بها.
إذاً: تعطي شيئاً ينتفع هذا الإنسان به، أما كونك تخصم من الذي عليك فهو لم ينتفع بشيء؛ لأن هذا الدين الذي على الإنسان إما أن يكون موجوداً وجب عليه أن يرده، وإما أن يكون معدوماً مفقوداً يسقط عنه في يوم من الأيام، فإذا كانت المحصلة أنه سيسقط فأنت لم تؤتِ زكاة في يوم من الأيام، إذاً: فالزكاة: إيتاؤها دون مقاصة أو خصم، قال الله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، انظر التوكيد هنا، وكان من الممكن أن يقول: وهم بالآخرة يوقنون، ولكن أكد أن من أهم صفات المؤمن أن يكون مصدقاً بالغيب، ومستيقناً بأمر هذا الغيب، وبأمر الآخرة غاية اليقين، فقوله تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، أي: مستيقنون بأنهم راجعون إلى الله رب العالمين سبحانه.(144/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، فالمؤمنون بالآخرة: هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3]، والكفرة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [النمل:4]، هذا حالهم، وسبب عدم كونهم كهؤلاء المؤمنين يؤمنون بالآخرة، ويصدقون، ويوقنون قوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، وهذا من مكر الله عز وجل، ومن استدراجه لهؤلاء الكفار، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير دائماً يذكره بالله سبحانه، ويبتليه بشيء حتى يرجع إلى الله سبحانه، والإنسان الذي يكون في غفلة وبعد عن رب العالمين، ولا يريد الله به الخير يجعله في عمى، بل في عمه، قال تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، والعمى والعمه متقاربان، ولكن العمى عمى البصر، وقد يكون عمى القلب، والعمه لا يكون إلا في قلب الإنسان، يعني: في بصيرة الإنسان، فقوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] يعني: في غاية العمى والضلالة، فهم بعيدون عن ربهم سبحانه، بعيدون عن طاعة الله رب العالمين سبحانه، فقوله تعالى: {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، أي: يتحيرون ويتشككون، لا يعرفون طريقاً يهتدون إليه، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7] وقال الله سبحانه في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] فهو إنسان ضال مستمر في ضلاله حتى يقع وهو يظن أنه على الطريق الصحيح.
فهؤلاء زين لهم ربهم أعمالهم، قال تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4].
وقد خلق الله عز وجل الأشياء فإذا بهؤلاء ينظرون إلى ما أمامهم فتزينت الدنيا لهم فأحبوها، وتكالبوا عليها، ونسوا ربهم سبحانه وتعالى، والإنسان الذي يريد الله عز وجل به الخير يذكره ولا يفتنه مهما تزينت له الدنيا، فيجعل الله له بصيرة ينتبه بها، فيرجع إلى الله يوماً من الأيام، والإنسان البعيد عن ربه إذا تزينت له الدنيا ظن أن الدنيا هي الآخرة، قال تعالى حاكياً عن الكفار: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية:24]، أي: أن الدنيا هي الحياة الأبدية، قال تعالى: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، أي: مرور الأعوام والدهور تهلكنا كما أهلكت الذين من قبلنا، فنحن نأخذ من الدنيا ما نقدر عليه، فتتزين لهم الدنيا {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4]، أي: يتحيرون، ويترددون، ويتشككون، ويتكالبون على الدنيا، وينسون ربهم سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، أي: أعمالهم القبيحة وكفرهم، ويظنون أنهم على الطريقة الصحيحة، فتتزين لهم الدنيا ويتزين لهم هذا العمل، فيفرحون بما هم فيه، فإذا ما عقلوا يوماً من الأيام وهداهم الله تبينت لهم الأشياء على حقيقتها، وعرفوا أنهم كانوا في ضلال، فقد كان أهل الجاهلية يعبدون غير الله، ويظنون أنهم على الصواب، ويتعجبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فقد زين لهم الشيطان هذا العمل الذي يعملونه.
فالله سبحانه خلق الدنيا على جمال معين، وخلق فيها الفتن، وخلق الشيطان والشهوات، وهذه المخلوقات تفتن من فيها إلا أن يعصم الله عز وجل من يشاء من خلقه.
فقوله تعالى: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، أي: خلقنا في قلوبهم ما يفرحون بهذه الأشياء التي يرونها أمامهم، فخلقنا الشيطان والكفار يفتنون هؤلاء؛ فتزينت لهم الدنيا، وخلقنا لهم أموالاً ففتنوا بهذه الأموال، فجمعوها وفرحوا بها فنسوا ربهم سبحانه وتعالى، وظنوا أنهم على الصواب.
كذلك تزينت لهم هذه الدنيا فتكالبوا عليها، وقيل: رأوا أعمالهم السيئة حسنة ككفرهم بالله، واستحسنوا هذا الشيء كظلمهم لغيرهم، وقيل: إنهم قالوا أيضاً: زين الله لهم أعمالهم الحسنة فلم يعملوها، يعني: بين لهم أن هذه الأعمال حسنة، ومع ذلك لم يعملوا بهذه الأعمال الحسنة.(144/6)
تفسير قوله تعالى: (أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون)
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ} [النمل:5]، يعني: جهنم والعياذ بالله، {وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [النمل:5]، وهم في الآخرة أخسر الخلق، فهناك إنسان خاسر، وإنسان أخسر، فالخاسر قد يدخل النار فترة ثم ينجيه الله بعد ذلك ويدخله الجنة، فهذا خاسر، ولكن قد يعذبه الله عز وجل ثم يخرجه من النار، وهذا من عصاة الموحدين، أما الأخسرون فلا نجاة لهم أبداً، ولن يخرجوا من النار، وهؤلاء هم الكفار نسأل الله العفو والعافية.(144/7)
تفسير قوله تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] أي: وإنك يا محمد صلوات الله وسلامه عليه تلقى هذا القرآن من الله، فقد آتاك الله عز وجل به عن طريق ملك كريم، فقوله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) يعني: ينزل عليك هذا القرآن فتتلقاه وتتعلمه وتأخذه، (مِنْ لَدُنْ)، أي: من عند، (حَكِيمٍ عَلِيمٍ)).
فقد جاءك القرآن من عند الله سبحانه، ووصف نفسه بهذين الوصفين وبهذين الاسمين: الحكيم العليم، والقرآن لم ينزل مرة واحدة، فهو قد جاء من عند الحكيم سبحانه، والله أعلم بالذي يصلح لك يا محمد! وما يصلح لهؤلاء، ولو جاء القرآن مرة واحدة ما أطاقوا ذلك، فلحكمة الله سبحانه جعله منجماً ومفرقاً على ثلاث وعشرين سنة، مع أنه نزل مرة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم نجم فنزل عليك في أيام وشهور وأعوام على حسب ما تجد من أحداث، وما ينزل الله سبحانه بخصوصها، فالله العليم الذي يعلم ما يصلح لك وما يصلح لهؤلاء، ويعلم من يصدقك ومن يكذبك.(144/8)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً)
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]، ختامٌ جميلٌ للمقدمة، وتمهيد لما يسوقه بعد ذلك فيدخل في قصة من القصص، يقول تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7]، وإذ: منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، أي: اذكر وقت قول موسى ذلك لأهله، فقد قتل موسى القبطي وفر إلى الشام خوفاً من فرعون، وهنالك دبر الله عز وجل له أمره، وأغناه من فقره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك أمره فخرج من الشام وجاء إلى طور سينين، أي: جاء إلى مصر ثانية.
قال تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [النمل:7]، أي: زوجته عليه الصلاة والسلام، إذاً: فموسى كان خارجاً من بلاد الشام فجاء إلى مصر، ولما وصل إلى جبل الطور وهو في المكان المبارك قال لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ} [النمل:7]، وآنس بمعنى: أبصر وأحس بشيء أمامه، وقوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل:7]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع، وأبي جعفر، وابن كثير، وأبي عمرو {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [النمل:7].
وقوله: {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، يعني: جزم بذلك ثقة في الله سبحانه وتعالى، فإن موسى تاه في الطريق عليه الصلاة والسلام، وهو قادم من الشام إلى مصر، ولما وصل إلى طور سينين تاه، وكانت ليلة باردة شديدة البرد، مظلمة شديدة الظلام.
فاحتار أين يذهب، وكان لم ينبأ بعد ولم يرسل عليه الصلاة والسلام، فأراه الله عز وجل ناراً من بعيد، فنظر وقال لأهله: (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) يعني: يطمئنهم (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ)، أي: سأذهب متوجهاً إليها وآتيكم منها بخبر يدلني على الطريق، أو إذا لم يكن هناك خبر فعلى الأقل: (آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ)، يعني: شعلة من النار، وقراءة الكوفيين عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل:7]، على التنوين في الاثنين، والشهاب: الخشبة التي في آخرها شعلة من النار، والشهاب القبس: المقتبس من هذه النار، فهي جزء من النار مقتبس، وباقي القراء يقرءونها: (بشهاب قبسٍ) على الإضافة، فقوله تعالى: (سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، يعني: بشعلة من النار مقتبسة من هذه النار التي أراها، ثم قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ)، الاصطلاء بمعنى: الاستدفاء أي: تستدفئون من شدة البرد.(144/9)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها)
{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8].
أي: لما وصل موسى إلى هذه النار التي ظنها وجد شجرة أمامه خضراء غاية في النضارة، ومع ذلك مشتعلة نارها، فلا ماء الشجرة يطفئ النار، ولا النار تحرق الشجرة، فوقف متعجباً عليه الصلاة والسلام، وهو في غاية العجب ناداه الله عز وجل: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، فالله عز وجل نادى موسى بصوت من داخل النار.
فالله تبارك وتعالى يتكلم بما شاء، ويسمع من شاء من خلقه سبحانه، فقد سمع موسى ربه من النار، فمنها تأتي البركة، قال تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، أي: من الملائكة، وأنت أيضاً تأتيك البركة من عند رب العالمين، والفعل بارك يتعدى بنفسه، ويتعدى بحرف الجر، وهذا من كلام العرب، يقول: باركك الله، وبارك الله فيك، وبارك الله عليك، وبارك الله لك، فهي تتعدى بذاتها وتقول: باركك الله، يعني: جعل فيك البركة.
فقوله تعالى: {بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل:8]، يعني: جاءت البركة من داخل هذه النار أو النور الذي تراه، والبركة لما حولها، ولذلك فإن طور سيناء معناه: الجبل المبارك، وكذلك طور سينين، طور بمعنى: الجبل، وسيناء وسينين بمعنى: المبارك.
فهو الوادي المبارك، أو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة التي بارك الله عز وجل فيها، قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، تنزيه لرب العالمين سبحانه حتى لا يظن أحدٌ أن الله يحل بذاته في مكان مثلاً، أو أن الله هو هذا النور الذي أمامه أو هذه النار التي أمامه، فسبح ربك يا موسى! فليس كمثله شيء سبحانه وتعالى.
فالله عز وجل أسمعك الصوت من ههنا، والله فوق سمواته بائن من خلقه، قال تعالى: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، تقدس الله تبارك وتعالى وجل وعز وعلا أن يشبهه شيء سبحانه؛ لذلك عقب هنا بالتسبيح لله سبحانه والتقديس، فالله لا يشبهه شيء سبحانه.
قوله تعالى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:8]، أي: الرب الخالق، الرب المربي، الرب المدبر للكون وللعالم كله، بل للعالمين كلها.(144/10)
تفسير قوله تعالى: (يا موسى إنه أنا الله إني لا يخاف لدي المرسلون)
قال الله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9].
هنا ذكر الله في سورة القصص: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]، وفي طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]، وفي هذه السورة قال: {يَا مُوسَى إِنَّهُ} [النمل:9]، والضمير ضمير الشأن يعني: إن الأمر أنا الله رب العالمين، والشأن أنني أخاطبك، وقال الله سبحانه في سورة طه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، حتى تنال من بركة هذا الوادي المقدس، وحتى تؤدي حق الاحترام في هذا المكان، فاخلع نعليك، وفي هذه السورة قال: {يَا مُوسَى إِنَّهُ} [النمل:9]، وكأنه يقول: {يَا مُوسَى} [النمل:9]، إن الأمر: {أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9]، سبحانه وتعالى، أي: أنا العزيز، أنا الغالب، أنا الذي إذا أردت شيئاً فلا بد أن يكون، فالله عز وجل أمره في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117]، فهو الحكيم، أي: له الحكمة العظيمة البالغة سبحانه وتعالى.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10]، فحتى يخبره بأنه نبي رسول فلا بد أن يريه آيةً من قدرة الله رب العالمين، فكانت أول آية: هي النار في هذه الشجرة.
والآية الثانية: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31]، فخاف موسى عليه الصلاة والسلام في هذا المكان، فهو لوحده في زعمه أو في ظنه، قال سبحانه في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل:10]، وفي سورة طه قال: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، وفي سورة الأعراف قال: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107] فخاف موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل:10]، والجان والجنان يعني: الحيات، أي: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا} [النمل:10]، حية من الحيات، قال تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10]، أي: خاف موسى وأخذ يجري خوفاً من الحية.
{وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] أي: لم ينظر وراءه من شدة الخوف والرعب.
ومقصود رب العالمين سبحانه وتعالى الامتحان بالتخويف، فإذا رأى في هذا المكان الموحش مثل هذه النار في هذه الشجرة، ورأى في هذا المكان ظلمة ثم حية، فجرى فاراً من الخوف الشديد، فإن الله سبحانه يعلمه الثبات ويمرنه على ذلك، فيرجع موسى إلى شجاعته ورباطة جأشه، حتى يعرف كيف يواجه فرعون بعد ذلك.
فكأن المقصود من الله عز وجل التخويف لنبيه عليه الصلاة والسلام حتى يعتاد الشجاعة بعد ذلك، فإن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10]، أي: هرب، {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10]، يعني: لم ير وراءه ولم يرجع، فناداه ربه سبحانه: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} [القصص:31]، وقال هنا في سورة النمل: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10]، وفي سورة القصص قال: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، أي: ارجع يا موسى! {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31]، وهذه بداية تفهيم لموسى أنه سيكون رسولاً، والرسل لا يخافون عند الله سبحانه، قال تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:10].(144/11)
تفسير قوله تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء إني غفور رحيم)
ثم يشير الله سبحانه إلى أنه لا يخاف إلا من عمل عملاً سيئاً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل:11]، واستثنى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل:11]، وقد يقع النبي من الأنبياء عليه الصلاة والسلام قبل البعثة وقبل الرسالة في خطأ من الأخطاء، وموسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر وقد وكز قبطياً فقتله، ثم قال تائباً إلى ربه: {إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16].
فموسى قتل قبطياً، وهنا ذكر الله عز وجل أنه من المرسلين، فلو أنهم أخطئوا قبل الرسالة وتابوا فالله يتوب عليهم، فقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} [النمل:11]، أي: فمن ظلم كما فعلت أنت، وقتل نفساً بغير جرم، وبغير إذن من الله سبحانه، {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا} [النمل:11]، وتاب إلى الله من بعد هذه الإساءة، قال سبحانه: {فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل:11].(144/12)
تفسير قوله تعالى: (وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء)
ثم أعطاه آية أخرى، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، فهذه آيات: النور أو النار في هذه الشجرة، ثم العصا التي انقلبت ثعباناً أو حية، ثم اليد، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل:12] وقال في سورة القصص: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص:32].
وجيب الإنسان: المكان الذي يدخل منه رأسه في القميص، أي: ضع يدك داخل جيب القميص وأخرجها مرة أخرى، {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [النمل:12]، في هذه الظلمة مثل نور الشمس، {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12] أي: لها شعاع لا يؤذي هذه اليد ولا يحرقها، وليس فيها أذى، فليس فيها برص ولا بهق ولا مرض من الأمراض، ولكن نور من الله عز وجل في يده، قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل:12]، ذكر هنا قومه، وفي سورة القصص قال: وملأه، الملأ من القوم: هم الأشراف والعلية من القوم، والقوم: كل الناس الذين حول الملك، فقال هنا: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل:12]، يعني: سنؤتيك هذه الآيات من ضمن آيات أخرى سنؤتيكها بعد ذلك.
فالله سبحانه وتعالى أعطاه اليد، وأعطاه العصا، فهاتان آيتان، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فهذه تسع آيات من رب العالمين سبحانه.
فكأنه قال: هذه آيات من ضمن تسع آيات سنؤتيكها: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النمل:12]، أي: خارجين عن طاعة رب العالمين سبحانه.(144/13)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا مبصرة)
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، وانظر إلى الاختصار لهذه القصة، فهو يذكرها في مكان آخر فيطيل فيها إطالة محببة جميلة، فنفهم منها ما يريد الله سبحانه، وهنا يختصر اختصاراً كإشارات ورموز معينة.
فقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، أي: بينة عظيمة مشاهدة أمام الأعين من شدة وضوحها، والإنسان هو الذي يبصر ويصدق، ولكن من شدة وضوح الآيات كأنها هي نفسها ترى هؤلاء القوم.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل:13]، أي: بينة واضحة، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل:13].
وعرفنا أن السحرة: هم الذين آمنوا بالآيات، وأن فرعون أصر على ما هو فيه، وجحد فرعون أي: كذب وعاند مع معرفته بالحق، قال تعالى: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، أي: فهم في أنفسهم مصدقون أن موسى صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن ملك فرعون يمنعه من أن يترك الدنيا، وذلك قول الله سبحانه: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:4]، فالملك وما هو فيه يمنعه من أن يؤمن مع موسى؛ لأنه يعتقد أنه إذا آمن فسيضيع عليه ملكه، قال تعالى: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، أي: ظلموا أنفسهم، وظلموا غيرهم، والعلو: هو التعالي والتجبر والاستكبار، قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]، أي: فانظر ماذا فعلنا بفرعون، وكيف أغرقناه، وأهلكناه، ودمرناه ومن معه، وكأنه يقول لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: وكذلك تكون عاقبة كل إنسان مفسد كعاقبة هؤلاء المفسدين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(144/14)
تفسير سورة النمل [15 - 19]
يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أنه أعطى أنبياءه ملكاً عظيماً فشكروه وعبدوه، ولم يجحدوه ويكفروه كما فعل غيرهم كفرعون والنمرود.(145/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:15 - 19].
هذه قصة ثانية في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله عز وجل فيها سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وما حدث له.
يقول سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15] وداود وسليمان من أنبياء بني إسرائيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، آتاهما الله عز وجل علماً، وداود هو الأب وسليمان الابن، قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، فبعد أن ذكر الله قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى الله عز وجل فأبى فرعون وغره ملكه الذي هو فيه، وبلغ به التطاول أن قال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فالملك قد يدفع الإنسان إلى الجحود، وإلى الكبر، وإلى عدم قبول الحق، حتى ولو رآه أمام عينيه.
ففرعون دفعه ملكه إلى الكفر بالله حتى قال لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، ولكن أنبياء لله عليهم الصلاة والسلام أعطاهم الله عز وجل الملك والنبوة والعلم، فما زادهم ذلك إلا تواضعاً لرب العالمين سبحانه.
ومن هؤلاء: داود وسليمان، ولكن ملك داود لم يكن عظيماً كبيراً كملك سليمان، فقد كان ملكه أعظم بكثير من ملك أبيه، وعبادة أبيه كانت أعظم بكثير من عبادة سليمان.
فقد أعطى الله لداود العبادة فقال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، وهذا ملك من الملوك، ومع ذلك كان لا يأكل إلا من صنعة يده: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:10 - 11].
فعلمه الله عز وجل مهنة صناعة السوابغ من الدروع، وأن يقدر في السرد بتعليم الله عز وجل له، فيعمل الحلقة على حجم المسمار بحيث لا تنفصم الحلقة ولا تنشق عن زميلتها، فلا يزال يصنع هكذا شيئاً فشيئاً حتى يصنع درعاً سابغاً.
وسليمان عليه الصلاة والسلام هو أحد الملوك الذين ملكوا الدنيا، وقد سخر الله عز وجل له الريح يصل بها إلى المكان الذي يريده، وجعل له من الجن والإنس والشياطين جنوداً، بل ومن الطير والدواب كما سيأتي.
وقد كان داود أيضاً يسبح بين الجبال، ومن جمال تسبيحه وصوته، ومن شدة خشوعه تسبح الجبال معه وتردد تسبيحه، وتقف الطير عن الطيران حتى تستمع تأويبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10].
والتأويب: مأخوذ من الأوبة وهي: الرجوع إلى الله، ومعناها هنا أي: رجعي الذي يقوله، وسبحي معه لله سبحانه تائبة إليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا} [النمل:15] أي: نحن، فالفضل من الله، وقد عبر هنا بنون العظمة لأن هذا الإيتاء عظيم جداً يليق بأن يؤتيه الله سبحانه وتعالى، ويليق بأن ينسب إليه، فنسبه إليه بنون العظمة.
ومع أن الله آتاهما الملك إلا أن العلم أعظم إذا ما قورن بالملك؛ ولأن العلم عظيم فلم يحتج هنا إلى ذكر الملك.
قال: {وَقَالا} [النمل:15] أي: الاثنين: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
فقد عرفا نعمة الله عز وجل وأنه صاحب الحق سبحانه، والمتفضل عليهم بالنعمة، فقال الأب والابن: الحمد لله، أي: نثني على الله الثناء الجميل الذي يليق به سبحانه وتعالى، فهو المحمود على النعم العظيمة، فالحمد كل الحمد لله الذي فضلنا على كثير، وهنا يبدو التواضع في الكلام: {الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15] ولم يكن يوجد في عصرهما من هو أفضل منهما، فقد فضلهم الله على كل من في عصرهما، ومع ذلك قالا لتواضعهما: على كثير، ولم يقولا: على كل عباده.
وموسى عليه الصلاة والسلام لما سئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، عتب عليه ربه سبحانه وتعالى، وقال: لا، بل عبدنا خضر أعلم منك؛ وداود وسليمان كانا من قوم موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ} [النمل:15]، يعني: فضلنا الله عز وجل على الكثير من خلقه، ولعل هناك من لا نعلم فمن فضله الله عز وجل علينا، فيسن للإنسان المؤمن أن يحمد الله سبحانه وتعالى، وأن يقول مثل ذلك، وخاصة إذا رأى مبتلى، فإذا رأى إنساناً مريضاً ابتلاه الله فليقل في نفسه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني عليك وعلى كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً.
والإنسان إذا ذكر نعمة الله كان جزاؤه من الله أنه يمنع عنه هذا المرض إن شاء سبحانه وتعالى.(145/2)
تفسير قوله تعالى: (وورث سليمان داود)
قال الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، والميراث هنا: ميراث العلم، أما ميراث الملك فقد جعل الله عز وجل لهذا ملكاً ولهذا ملكاً.
وقد كان لداود أولاد غير سليمان عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد قالوا: كان له تسعة عشر ولداً، ولكن الذي ورث العلم وورث النبوة وصار ملكاً بعد أبيه هو سليمان عليه الصلاة والسلام.
فقد ورثه الله عز وجل العلم والنبوة وهذا أعظم الميراث، وإلا لو كان المقصود الميراث المالي لكان الإرث في التسعة عشر، وليس لسليمان فقط، إذاً: الإرث هنا: هو إرث النبوة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة).
فالأنبياء لا يورثون معهم من الأموال؛ بل يكون بعد وفاتهم صدقة، وإنما الميراث الذي يورثه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو العلم؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
أي: من أخذ العلم أخذ بحظ وافر فهو أعظم الميراث، فأعظم النعم التي أعطاها الله عز وجل لسليمان ولأبيه هي العلم، وهذا هو الذي ورثه داود لابنه، العلم والنبوة، كما أنه صار ملكاً من بعده.
وقد قال الله سبحانه وتعالى لداود في سورة (ص): {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26]، مع أن داود نبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإنه يحتاج للنصيحة، فغيره من باب أولى، فهو ينصح داود ويقول: لا تتبع الهوى يا داود! وأنت ملك من الملوك، فإذا اتبعت الهوى وأنت نبي ملك أضلك عن سبيل الله، قال: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ} [ص:26] أي: يتيهون، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26].
وذكر داود وسليمان في سورة الأنبياء فقال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79].
فالله عز وجل منّ على داود بأن جعله ملكاً حاكماً، فآتاه حكماً وآتاه علماً من عنده سبحانه، وعلم سليمان أيضاً، والعلم من أعظم ما يؤتاه الإنسان، فآتى الله سليمان وآتى أباه داود علماً وحكمة ونبوة وملكاً.
فذكر في سورة الأنبياء أنه فهم أحدهما أكثر من الآخر، قال: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] والحرث: الزرع، {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]، قوم لهم أغنام يدعونها بجوار المزرعة، فإذا بالأغنام تدخل المزرعة، قال صلى الله عليه وسلم: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
قال تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78] أي: أكلت وخربت الزرع وقلعته، {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء:78]، والذي يحكم هو داود وسليمان، ومع ذلك لم يقل: لحكمهما، بل قال: (لحكمهم)؛ لأنهما يحكمان في الناس، فالخصوم هم أصحاب الأرض وأصحاب الغنم، والحاكم سليمان وداود، فهم أربعة، فكنا لحكم هؤلاء الأربعة شاهدين.
ثم قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وسليمان آتاه الله عز وجل فهماً، وآتى أباه عبادة عظيمة جداً، ولكنه ميز سليمان بفهم عظيم، وقال: {وَكُلًّا آتَيْنَا} [الأنبياء:79]، يعني: أعطينا للأب العلم والملك والحكمة والحكم، وآتينا سليمان حكمة أعظم مما آتينا أباه، فقال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79]، وقد كان صغيراً عليه الصلاة والسلام، وكان داود قد حكم أن قيمة ما أفسدته أغنامهم من الزرع يساوي قيمة الغنم، إذاً: تعطى الغنم لأصحاب المزرعة.
وهذا الحكم فيه صواب، لكن غيره أحسن منه، فقد حكم بالقيمة عليه السلام، لكن نظرة سليمان كانت بتفهيم الله عز وجل أعظم، فلو أنهم أخذوا الأغنام لافتقر أصحابها، ولو أخذ هؤلاء الأغنام لما اعتنوا بها؛ لأنهم أصحاب زرع وحرث وليسوا أصحاب غنم، فلذلك حكم بحكم آخر وهو: أن يأخذ أصحاب الزرع الأغنام فينتفعون بها حتى يصلح أصحاب الأغنام الزرع كما كان، ثم يعيد أصحاب الحرث الغنم لأصحابها، ويعيد أصحاب الغنم الحرث لأصحابه كما كان، ففهم الله عز وجل سليمان أعظم من داود، مع ذلك لم يخطئ الله عز وجل داود، وإنما قال: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، وكثيرة هي الحوادث التي فهمها الله عز وجل سليمان عليه السلام، وغيبها عن أبيه عليه السلام، ومن ذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت امرأتان معهما ابناهما، فجاء الذئب فذهب بابن إحداهما) فالمرأة التي أكل الذئب ولدها أخذت ابن الأخرى خوفاً من زوجها فاختصمتا في الولد، فقالت الكبرى للأخرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقضى به للكبرى للشواهد والأمارات التي أمامه، وظن أن الكبرى هي الصادقة.
فأخذت الكبرى الغلام، فخرجتا من عند داود إلى سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال: ائتوني بالسكين، حتى أشق الولد بينكما نصفين، فلما قال ذلك قالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها.
فعلم أنها هي الصادقة وأنها أمه، فالأم لا تريد قتل ابنها، وعلم أن الأخرى كاذبة، وإنما أرادت أن تتساويا في المصيبة، فيكون ابنها أكله الذئب، ويكون قد ذبح ابنها فتتساويا في المصيبة، فعلم صدق إحداهما وكذب الأخرى، فقضى به للصغرى، وهذا مما علمه الله عز وجل سليمان عليه السلام.
قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} [النمل:16]، وهل علموا منطق الطير فقط؟ لا، ولكن هذا الشيء من الغرائب.
فقد علم علم الشريعة، وعلم ألسن الناس والجن وغيرهم، لكن أعظم من ذلك مما لا يعرفه الناس علم منطق الطير، وكيف تتكلم الطيور، إذاً: الطير لها لغة تتكلم بها، وكذلك الحشرات وغيرها من مخلوقات الله، فقد جعلها الله أمماً، وكل أمة لها لسان وطريقة تتخاطب بها مع بعضها.
وهذا الذي يبحثه علم الحيوان، فإنه يبحث في لغات الطيور وكيفية كلامها، وكيف أن بعضها يرشد إلى الطريق؟ وكيف تسير النحل؟ وما هي الرقصات التي ترقصها في الهواء، والتي تدل على أنها ستذهب للخلية التي وجدت عندها العسل مثلاً.
فهنا الله عز وجل علم أنبياءه منطق الطير، وأثبت في القرآن أنه جعل لها لغة، قال سليمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ} [النمل:16]، أي: لغة الطير: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخصوص، فالله عز وجل هو وحده الذي له كل شيء، أما غيره من خلقه فقد يؤتيه من الأشياء الكثير، فحين يقول: {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:16]، فإنه يعني: مما ينبغي لأمثالنا، فهو مقيد بالحسن.
والعموم قد يقيد بالعقل، وقد يقيد بالخصوص وغير ذلك، فهذا من العموم الذي يراد به الخصوص، أو الذي قد خصص بالحس وبالعقل، فإن الله أعطى سليمان كل شيء يليق بمثله في ملكه.
وكذلك في قوله سبحانه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، فإن الحس يدل على أن هناك مساكن موجودة، فيكون قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] من العموم الذي يراد به الخصوص، فهي تدمر كل شيء أراد الله عز وجل تدميره.
ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] أي: أنه فضل واسع عظيم بين من فضله سبحانه وتعالى.(145/3)
تفسير قوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس)
قال سبحانه: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ} [النمل:17]، أي: الجيش والملك العظيم، {مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] فبدأ بأقوى الأشياء وهي الجن، فهي أقوى من الإنس.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17]، أي: فهم يكفون، والمعنى: وعليهم قادة لهم، والقائد يوزع الجنود ويكفهم فلا أحد يتقدم على سليمان، ولا أحد يتقدم على صفه.
فهم لا يتقدمون ولا يسيرون إلا بأمر سليمان عليه الصلاة والسلام، فكان جنداً عظيماً جداً لا يعلم قدره إلا سبحانه، وقد ذكر المفسرون: أن معسكر سليمان كان مائة فرسخ طولاً، والفرسخ: حوالي خمسة كيلو، يعني: خمسمائة كيلو مليئة بالجنود.
وهنا لم يذكر الله عز وجل أنهم مائة أو أقل أو أكثر، ولكن من الواضح أن أعدادهم جسيمة عظيمة، إذ لو كان عددهم قليلاً لما احتاجوا إلى من يوقفهم ويكفهم، ولكن الأعداد الكثيرة هي التي تتبعثر وتحتاج إلى من يكفها ويمنعها.(145/4)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على واد النمل)
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
لقد أعطاه الله عز وجل ملكاً عظيماً جداً فهو يسير إلى أي مكان يريد أن يصل إليه، يريد أن يصل للشام أو للعراق أو إلى أدنى الأماكن أو إلى أبعد الأماكن فكلها سواء، ففي مرة من المرات أتى على وادي النمل، ولم يذكر لنا الله سبحانه مكان وادي النمل؛ لأنها من العلم الذي لا يفيد، فلا يفيدنا أن نعرف مكان وادي النمل، أو حجم هذه النملة التي كلمت سليمان، بل المهم أنها نملة من النمل الذي نعرفه كبرت أم صغرت، ولو كانت شيئاً آخر لذكر الله لنا هذا الشيء، فكونه نكر وذكر أنهم أتوا على وادي النمل وتكلمت نملة، فيكون المقصود النمل المعهود المعروف.
والله عز وجل جعل للنمل لغة أيضاً تتكلم بها، ومما يثبت ذلك أن النملة تكلمت، والوادي: هو المكان المنبسط الواسع الفسيح، وقد كان فيه نمل كثير: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وسميت: النملة نملة من التنميل، وهو الحركة الكثيرة، والنملة لا تقعد أبداً فهي دائماً تعمل، فسمي النمل نملاً لكثرة حركته ولقلة قراره.
والنمل له مساكن يختبئ بداخلها، قال: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل:18]، يعني: لئلا يحطمنكم، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها رويس عن يعقوب {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
وتحذير النملة فيه دليل على أن النمل له عقل وفهم، فقد أعطاها الله عز وجل ما تفهم به، وفيه الحب للغير، فهي ما خافت على نفسها وهربت وحدها، ولكن أمرت باقي النمل أن تدخل المساكن حتى لا يحطمهم سليمان عليه السلام، وأيضاً فهي تفهم ما تقول، قالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18]، فقد عرفت أنه نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، وأن الأنبياء لا يظلمون؛ ولذلك التمست له العذر فقالت: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18].
وبينت الآية كذلك: أن النمل يفهم ويعيش في جماعات، وأن له مساكن، وأنه يحذر بعضه بعضاً من ضرر يقع عليه، وعلماء الحشرات يقولون: النمل له فهم عجيب جداً، ويقولون: إن النملة من النوع الذي يدخر طعامه من الصيف للشتاء.
فهو فطن وقوي وشمام جداً، ويتخذ القرى، ويشق الحب قطعتين، لأن الحبة لو ظلت على حالها لنزل عليها الماء ونبتت، فحبة الكزبرة لو شقت نصفين ونزل عليها الماء نبتت، فتقطعها النملة أربعة قطع، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
والحشرة هذه عاقلة، وتخاف على أخواتها فتقول: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] قالوا: النمل يأكل في عامه نصف ما يجمعه فقط، كأنه يدخر للزمن.
إذاً: فقد حافظت على من معها، وتبسم وسليمان عليه الصلاة والسلام ضاحكاً من ذلك.(145/5)
تفسير قوله تعالى: (فتبسم ضاحكاً من قولها)
قال الله عز وجل: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19]، وكأنه بدأ بالبسمة، ثم ضحك من عجبه.
والبسمة: فتح الشفة شيئاً يسيراً، فإذا فتح فمه فقد ضحك، فإذا أخرج صوتاً فقد قهقه، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يتبسمون؛ ولذلك عائشة رضي الله عنها تقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى أرى لهواته، وإنما كان يتبسم)، عليه الصلاة والسلام.
فنادراً ما كان يضحك صلى الله عليه وسلم حتى تبدو نواجذه، وكأن سليمان أيضاً في هذه المرة أعجبه هذا الذي قالته فضحك، وعادة الأنبياء التبسم عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] ودعاء الأنبياء دعاء عظيم.
وقد علم الله عز وجل المؤمنين دعاءً نحوه في سورة الأحقاف فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
فينبغي على المسلم أن يدعو بمثل هذا الدعاء الكريم الطيب الموجود في سورة النمل وسورة الأحقاف، فهنا قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل:19]، وهي جنس النعم، وإن كانت واحدة والمعنى: نعم، فتأتي النعمة في الإفراد والتثنية والجمع.
إذاً: فنعمة تطلق على الواحد، والاثنين، والجمع، وعلى المذكر، والمؤنث، فعلى ذلك هنا: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} [النمل:19] أي: جنس نعمك العظيمة التي أنعمت علي، فنسب الفضل لصاحبه، وكرر ذلك استلذاذاً بذكر النعمة، فقال: {نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ} [النمل:19]، ولم يقل: التي أعطيتنيها مثلاً، ولكن أنت المنعم صاحب النعم العظيمة قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل:19]، أي: ادفعني لأن أشكر النعم، وأصل الوزع: الكف، وكأنه يقصد هنا: كفني عن أي شيء إلا أنني أشكر نعمك العظيمة التي أنعمت علي.
وهذه قراءة الجمهور، أما قراءة ورش وقراءة البزي عن ابن كثير: (أوزعنيَ أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي)، فيذكر الإنسان النعمة عليه وعلى والديه أيضاً، ولولا أنه أنعم علينا بالوالدين لما كنا نحن.
فهذه من نعم الله عز وجل على الولدين وعلينا، ولذلك قال: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19]، أي: ادفعني للعمل الصالح {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل:19]، فقيده برضا الله سبحانه؛ فقد يرى الإنسان الشيء على خلاف حقيقته، فهو يريد العمل الصالح الذي يرضي الله سبحانه وتعالى قال: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، فطلب نفع الدنيا ونفع الآخرة، الصلاح في الدنيا، وإدخاله منهم في الآخرة، قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ} [النمل:19] أي: بفضل رحمتك، واجعلني مع عبادك الصالحين.
فطلب أن يكون من الصالحين في الدنيا وفي الآخرة.
وفي آية الأحقاف: ذكر الله عز وجل فيها الإنسان المؤمن الذي يبلغ أشد العمر فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف:15]، وهو وقت اكتمال كل شيء عند الإنسان، وهو سن الأربعين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]، فيستحب للمؤمن أن يقول ذلك.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قتل النمل، فعن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: الهدهد، والصرد، والنملة، والنحلة)، فلا تتعرض لها، طالما أنها ليست مؤذية، فإذا صارت مؤذية تقرص الإنسان وتؤذيه جاز له أن يدافع عن نفسه ولو بقتلها، وقد نهى عن قتل هذه الأشياء، لأنها أمم خلقها الله عز وجل تسبح ربها سبحانه، فلا معنى لقتلها من غير ذنب أذنبته، ولكن إذا آذت الإنسان جاز له أن يتخلص منها وأن يقتلها.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة: (أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء عليه الصلاة والسلام فأمر بقرية النمل فأحرقت)، وقد كان نزل تحت شجرة، فلما نام جاءت نملة وقرصته، فقام من تحت الشجرة وأخرج متاعه ثم أمر بحرق النمل، فأوحى الله عز وجل إليه: (أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة؟).
وكأن الله عز وجل يعاتب هذا النبي أن قتل الأمة كلها، فهي نزلت تحت شجرة وستذهب، فلا معنى أن تقتل كل هذا النمل وتحرقه، بل اقتل النملة التي قرصتك فقط، فالغرض: أن هذه أمم خلقها الله سبحانه، فإذا لم تؤذ الإنسان لم يجز التعرض لها، فإن كانت تؤذيه بالسقوط على بيته وأكل طعامه جاز له أن يقتلها، ولكن يجتنب في ذلك الحرق؛ لأن الذي يحرق هو الله سبحانه وتعالى، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن قتل النمل فهو محمول على غير المؤذي والله أعلم.
وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(145/6)
تفسير سورة النمل [20 - 31]
لقد كان سليمان يتفقد جنوده مع كثرتهم الكاثرة، حتى إنه كان يتفقد جنوده من الحيوانات كذلك، ومنهم الطير، وكان يعاقب من يغيب بغير علمه حتى يرتدع عن ذلك هو وغيره، وفي هذا دليل على أنه ينبغي على الملك أو الأمير أن يتفقد من تحت يده.(146/1)
وراثة سليمان للنبوة والملك من داود
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:20 - 31].
لقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة قصة داود وسليمان، وكيف أن الله سبحانه من عليهما، وآتهما علماً، قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} [النمل:15]، وحمدا الله سبحانه وتعالى أن فضلهما على كثير ممن خلق من عباده، قال تعالى: {وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل:15].
ثم قال: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، وداود هو الأب عليه الصلاة والسلام، فورث سليمان منه النبوة والملك دون باقي إخوته، فكان نبياً وملكاً، بل من أعظم ملوك الأرض ملكاً.
فملك الأرض جميعها، فكان يتوجه حيث يريد بأمر الله سبحانه وتعالى، فقد سخر له الريح، والطير، والإنس والجن، وأعطاه ملكاً عظيماً لم يعطه أحداً من العالمين.
وكان سليمان قد دعا ربه سبحانه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فاستجاب له ربه، وأعطاه ملكاً لم يكن لأحد من بعده.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في مرة من المرات وهو يصلي تفلت عليه شيطان، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يمسكه، ويخنقه حتى كاد أن يربطه في سارية من سواري المسجد ليلعب به الصبيان في الصباح، ثم تذكر دعوة سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فتركه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: دعوة سليمان هي أن الله عز وجل يسخر له أشياء لا تكون لأحد من بعده.
قال الله عز وجل: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ} [النمل:17]، فلقد ملك سليمان الدنيا عليه الصلاة والسلام، وآتاه الله عز وجل هؤلاء الجنود، من الجن والإنس والطير: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] يعني: لكثرتهم العظيمة جداً، يحتاجون لمن يقودهم، ومن يكفهم، ومن يرتبهم، ومن ينظمهم، ومن يسيرهم، ومن يوقفهم، فيحتاجون لمن يوزع هؤلاء، فقال سبحانه: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:17] يعني: يوجد لهم من قوادهم من يزعونهم.(146/2)
تفسير قوله تعالى: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد)
قال سبحانه: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} [النمل:20] أي: تفقد سليمان في يوم من الأيام الطير، {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، وكأنها سنة يعلمها الله عز وجل لولاة الأمور، فلابد أن يتدبروا وأن ينظروا في ملكهم، وفي أحوالهم، وفي شعبهم، ويتفقدوا الغائب من جندهم، فالهدهد من ضمن جند سليمان عليه الصلاة والسلام.
وتفقد الشيء أي: طلب ما غاب منه، وأصله: من الفقدان، وفقد الشيء أي: غاب عنه الشيء فلم يجده.
وتفقده: بحث عن هذا الشيء الغائب.
فنظر في الطير ليعلم أن كلهم موجودون، مع أن الطير من أصغر جنود سليمان، ومع ذلك كان يتفقد الطير، ومعناه: أنه لن يترك الإنس والجن، إذاً: فهو يتفقد جميع جنوده.
قال سبحانه: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20]، والأصل: أن يقول: ((ما له؟)) أين هو؟ فكأنه يعجب من نفسه، ويقول: كيف ضاع مني الهدهد؟ كيف أفلت هذا الهدهد؟ {مَا لِيَ} [النمل:20] أي: عجباً لأمري، {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل:20]، أي: هل هرب الهدهد أم لم أتنبه له؟ فإذا كان قد هرب من حراسة سليمان فسنأخذ عقوبته.
وقراءة ابن كثير وابن هشام وعاصم والكسائي: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20]، وباقي القراء يقرءونها: ((ما لِيْ لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين))، على اختلاف بينهم في (أرى) عند الوقف والوصل.
فـ ورش إذا وقف عليها يقول: ((أرى)) بالتقليل، وأما حمزة والكسائي وأبو عمرو فيقرءون (أرى) بالإمالة عند الوقف عليها.(146/3)
تفسير قوله تعالى: (لأعذبنه عذاباً شديداً)
قال الله سبحانه: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، هنا الحزم، فالملك لابد أن يكون حازماً، ولو أنه ترك الصغار وشأنهم لاستهانوا به، واستهان به الكبار.
ولذلك سليمان عليه الصلاة والسلام لم يفوت للهدهد غيابه عن مجلسه.
قال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} [النمل:21]، فبدأ بالعقوبة الشديدة، {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21]، أو يعتذر، {لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، يعني: بعذر بين، وحجة تنفعه فينجو بها من العذاب والعقوبة.
قال: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21]، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة ابن كثير: ((ليأتينني بسلطان مبين)) أي: بحجة بينة واضحة نعذره بها.(146/4)
تفسير قوله تعالى: (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به)
قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، قوله: ((فَمَكَثَ))، إما أن سليمان مكث فترة ثم بعد ذلك ظهر له الهدهد، أو أن الهدهد طالت غيبته فترة ثم ظهر بعد ذلك.
وقراءة عاصم والكسائي وخلف: ((مَكَثَ)).
وقراءة باقي القراء: ((فمَكُثَ غير بعيد)) قال الله تعالى: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، لقد ظهر الهدهد وجاء إلى سليمان وقال مفتخراً على سليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: إذا كنت تبحث عني فإني قد اطلعت على شيء لا تعلمه أنت، والعلم فخر لصاحبه، وهذا هو عذره الذي أفلت بسببه من الذبح ومن التعذيب.
{أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، يعني: دريت وعلمت علم إحاطة بأمر لا تعرف عنه شيئاً، مع أنك في الشام واليمن قريبة منك، وهو يحصل في اليمن، وهو أنهم يعبدون غير الله سبحانه.
{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، وسبأ: بلدة في اليمن، وهي إما أنها: اسم رجل فتكون على ذلك مصروفة، كما هي قراءة الجمهور: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22].
وإما أنها: اسم بلدة فتمنع من الصرف للعلمية والتأنيث الذي فيها؛ ولذلك يقرأها البزي وأبو عمرو: ((وجئتك من سبأَ بنبإٍ يقين)) على المنع من الصرف، ويقرأها قنبل عن ابن كثير: ((وجئتك من سبأْ بنبإٍ يقين))، ففيها ثلاث قراءات.(146/5)
تفسير قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم)
قال الله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وانظر هنا! فهو لم يأته بخبر ظن، ولم يسمع من أحد، وإنما رأى بنفسه هذا الشيء، فما الذي رآه الهدهد؟ قال: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23] أي: أنت رجل تحكم البلد، وهم تحكمهم امرأة، وتملكهم أي: هي ملكة عليهم.
قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: أن الله عز وجل أعطاها من كل شيء، وهذا من العام المخصوص بالحس، أو من العام الذي لا يراد عمومه، وإنما يراد الخصوص الذي فيه، يعني: أن الله آتى هذه المرأة من كل شيء يجوز لمثلها أن تمتلكه وأن تكون ملكة عليه، لكن ليس كل شيء أعطاها، فهو لم يعطها شيئاً من الجنة مثلاً، ولكن أعطاها من الدنيا ما يليق بمثلها، إذاً: فكل من ألفاظ العموم، يقول: {كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، ولكن هنا لا يراد بها العموم، وإنما يراد بها العموم المخصوص بالحس.
والحس: هو أن الإنسان يرى ببصره، ويسمع بأذنه عن أشياء لم تؤتها هذه المرأة، قال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وقد كانت هذه المرأة أمرت بصنع سرير لملكها، وسرير الملك يسمى بالعرش، وهو الكرسي الذي يجلس عليه الملك، ولكنها بالغت فيه مبالغة فخمة عظيمة، وقد ذكروا من الفخامة التي كان عليها هذا الكرسي: أن كثيراً منه مصنوع من الذهب والياقوت، والله عز وجل ذكر أنه: {عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، يعني: عرش كبير وفخم وغال جداً.(146/6)
تفسير قوله تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله)
قال الله تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، أي: مع أن الله عز وجل أعطاهم هذه النعم، وقد رأى ذلك بنفسه.
قال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، فقد عبدوا الشمس من دون الله سبحانه، والذي زين لهم عبادة غير الله سبحانه: هو الشيطان، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل:24]، أي: صدهم عن الهدى، وصدهم عن طريق الله سبحانه بأن زين لهم أن يعبدوا مخلوقاً خلقه الله سبحانه، فعبدوا الشمس من دون الله، {فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، يعني: لا يفهمون ولا يعقلون، ولا يهتدون إلى سبيل الحق حتى يتبعوه.(146/7)
تفسير قوله تعالى: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض)
قال الله تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل:25] أي: فبدلاً من أن يسجدوا للشمس من دون الله، يسجدوا لله سبحانه وتعالى.
قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، إما تعقيب من الرب سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: هلا سجدوا للرب الذي خلقهم سبحانه؟ فيكون اعتراضاً في ثنايا الكلام من الله سبحانه وتعالى على عبادة هؤلاء، أو أن هذا جواب من سليمان عليه الصلاة والسلام لما قال له الهدهد: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} [النمل:24] قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ} [النمل:25] أي: فبدلاً من أن يسجدوا للشمس من دون الله، يسجدوا لله، أو أنه من كلام الهدهد نفسه، فهو يقول: فهلا سجدوا لله بدلاً من هذه الشمس؟ قال: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة أبي جعفر وقراءة الكسائي وقراءة رويس عن يعقوب: ((ألا)) بالتخفيف، فهما قراءتان: قراءة بالتشديد: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل:25]، ومعناها: هلا سجدوا، فهو أسلوب تحضيض وحث، أي: اسجدوا لله سبحانه ولا تسجدوا لهذه الشمس ولا للقمر.
وعلى القراءة الأخرى التي هي قراءة أبي جعفر والكسائي ورويس عن يعقوب: ((ألا يسجدوا)) فيكون معناها: هلا سجدوا لله سبحانه؟ وكأنها للنداء، فيكون: ألا يا قوم! اسجدوا لله، فكأن هناك شيء محذوف تقديره: يا قوم! ألا يا قوم! اسجدوا لله، فحذفت فصارت: ((ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء))، والله سبحانه الذي يعلم السر والعلن، ويعلم ما هو أخفى من ذلك.
والله هو الذي يخرج الخبء، يعني: الشيء المخبوء المستتر في السموات وفي الأرض، فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، فبدلاً من أن يسجدوا للشمس التي لا تعلم شيئاً إلا ما يأمرها به ربها سبحانه، فهلا سجدوا لله الذي يعلم كل شيء، ويخرج ما اختبأ في السموات وداخل الأرض؟ قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ} [النمل:25] أي: فكما أنه علم بما اختبأ في السموات وفي الأرض، فإنه يعلم ما تخفيه أنت في نفسك، ويعلم السر والجهر، ويعلم ما هو أخفى من السر.
و ((تُخْفُونَ)) بالخطاب، قراءة حفص عن عاصم، وقراءة الكسائي.
وباقي القراء يقرءونها: ((ويعلم ما يخفون وما يعلنون)) للغائب، يعني: ما يخفي الخلق وما يعلنون.(146/8)
تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم)
قال الله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]، وهذا من كلام الهدهد يخبر عن ربه سبحانه، فكأنه يقول: هذه المرأة لها عرش عظيم، ولكن أي عرش هذا؟! الله هو صاحب أعظم عرش، الله هو رب العرش العظيم سبحانه الذي ليس مثله عروش البشر.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [النمل:26]، يعني: الله المعبود الذي يستحق وحده العبادة.
فلا معبود بحق سواه، لا شمس ولا قمر ولا غيرها.
قال: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26] أي: خالق العرش العظيم هو الرب سبحانه الذي يدبر أمر الكون.
وقد وصف عرشها بأنه عرش عظيم، عظمة تليق بحقارتها هي، وحقارة الإنسان، إذاً: الإنسان قد يرى الشيء من الذهب والفضة عظيماً! أما عند الله فلا يساوي شيئاً، فكل الدنيا مهما تعاظمت عند الخلق فلا تساوي عند الله جناح بعوضة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) فهذه هي الدنيا.
أما الآخرة فهي الأعظم، وعرش الله سبحانه هو الذي يستحق أن يقال عنه: إنه هو العرش العظيم، والله عز وجل خلق العرش، واستوى عليه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، استواء يليق به سبحانه وتعالى، وهو مستغن عن العرش وما تحته.
والسموات عظيمة عالية، وكرسي الله عز وجل فوق سمواته سبحانه، ولو جمعت السموات كلها والأرضون بجانب الكرسي لم تكن إلا كحلقة في فلاة، والكرسي العظيم لو قورن بعرش رب العالمين سبحانه كان كحلقة في فلاة، وهذه نسبة الكرسي إلى العرش، فكيف يكون هذا العرش الذي استغنى عنه ربنا سبحانه؟ والعرش يمسكه الرحمن سبحانه وتعالى أن يزول، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، فمن يمسك السموات والأرض من بعد الله سبحانه وتعالى؟ لا أحد، فالكل يحتاج إلى الله عز وجل، العرش فما دونه، والله مستغن عن الجميع، وهو فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته سبحانه.
إذاً: الهدهد قال لسليمان عليه الصلاة والسلام: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] أي: عندي الذي ليس عندك، أنا عرفت ما لا تعرفه، أنا صغير ولكن أعرف أشياء لا تعرفها أنت، قال الله عز وجل: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، إذاً: الإنسان لا يفتخر بعلمه، ولا يتعالى على الناس بأن علمه الله عز وجل شيئاً، فهو لا يدري لعله علم غيره ما لا يعلمه هو، ولم يقدره له.
فهنا لما قال الهدهد ذلك لسليمان عرفنا أن الصغير قد يعلم أشياء لا يعلمها الكبير، وقد جاء مثل ذلك عن أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد علم البعض منهم أشياء لم يعلمها البعض الآخر.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته وإمامته رضي الله تعالى عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: إنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وقال فيه: (لو كان من أمتي محدث لكان عمر) إلا أن هناك أشياء لم يعرفها عمر رضي الله عنه، وعرفها غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
من ذلك: الاستئذان الذي يعلمه الكثيرون من الصحابة، كان لا يعرفه عمر رضي الله تعالى عنه، فذهب إليه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأفاضل وهو: أبو موسى الأشعري فاستأذن على عمر الأولى والثانية والثالثة فلم يأذن له عمر رضي الله عنه، فانصرف أبو موسى فإذا بـ عمر يقول: إلي به، أحضروه، فيأتي أبو موسى فيقول: عمر ما الذي صرفك؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف) فانصرفت، فقال: إما أن تأتي ببينة على هذا أو أوجعك ضرباً؛ لأنك تكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
فذهب أبو موسى مذعوراً رضي الله تعالى عنه، فجاء إلى مجلس من الأنصار فيهم: أبي بن كعب وفيهم: أبو سعيد الخدري وهو مذعور، فقالوا: ما لك؟! فأخبرهم بالخبر، فضحك الجميع من أن عمر لا يعرف هذا! وقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا، أي: أن أصغر شخص فينا هو الذي سيعلم عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فكان أصغرهم أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، فقام لـ عمر رضي الله عنه وشهد بصدق كلام أبي موسى، ثم جاء خلفه مباشرة أبي بن كعب وهو سيد من سادات الأنصار، بل سيد القراء، كما لقبه بذلك عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له: يا عمر! لا تكن حرباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه علم ما لم تعمله أنت، فقال: إنما أردت أن أتثبت، يعني: هل هذا الخبر قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فهنا عمر مع جلالته لم يعرف هذا الأدب من آداب الاستئذان، وأن للإنسان أن يستأذن ثلاث مرات فقط فإن أذن له وإلا انصرف.
كذلك: التيمم، فقد خفي على عمر رضي الله عنه، مع أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، فكان عمار قد علم ذلك وحدث به، فأرسل إليه عمر يحذره من التحديث بأمر التيمم، فقال: إن شئت لم أحدث به، وتول ما تولاه، يعني: إذا أردت ألا أتكلم وألا أحدث به الناس فسأفعل، فقال عمر: لا، فـ عمار يذكره: أما تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت إلى مكان كذا، فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في التراب، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يكفيك هكذا) وعلمه التيمم، ضربة باليدين على الأرض ثم مسح الوجه والكفين، فلم يتذكر عمر رضي الله عنه الحادثة التي حصلت له هو رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
أيضاً: جاء في أمر المرأة الحائض: أنها إذا طافت طواف الإفاضة ثم حاضت قبل طواف الوداع فلتنفر طالما أنها طافت طواف الإفاضة، فهذا الحكم لم يعرفه البعض من كبار الصحابة منهم: عمر ومنهم: زيد بن ثابت رضي الله عنهما، وعرفه من صغار الصحابة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، والذي توفي عنه النبي صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاثة عشر عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
كذلك: غسل رأس المحرم، فالإنسان إذا كان محرماً جاز له أن يغسل رأسه، عرفه ابن عباس ولم يعرفه المسور بن مخرمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأحكام كثيرة من هذا الباب عرفها البعض من الصحابة ولم يعرفها البعض الآخر، وليس هذا عيباً، فالله عز وجل يخبرنا أن فوق كل ذي علم عليم، والعيب: هو أن يزعم الإنسان أنه يعرف كل شيء، والله عز وجل قد أخبر عن الإنسان أنه جهول، قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فالإنسان فيه جهل في نفسه، فهو يجهل قدر نفسه، ويجهل حقارة نفسه، ويجهل قدر خالقه العظيم سبحانه، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، أي: لو عرفوا الله عز وجل حق المعرفة وعرفوا قدره حق المعرفة، لعبدوه العبادة التي تليق به سبحانه وتعالى.
وهنا في هذه الآيات لما قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22]، لم يجب عليه سليمان في هذا الأمر؛ لأنه تعالى عليه بالعلم، فكان الجواب من سليمان اللائق بذلك هو ما ذكره الله في الآية التي تليها.(146/9)
تفسير قوله تعالى: (قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين)
قال الله تعالى: {سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:27 - 28]، فإما أن يكون عندك ما ليس عندنا، أو أنك تكذب، فسنفتش في حالك وننظر ونتحرى في الأمر، {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27].
ثم قال سبحانه: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، ولاحظ أن سليمان لما قال له الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل:23]، لم يقل شيئاً، ولما أخبره: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، لم يقل شيئاً، فلما قال له: {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:24]، كان لا بد أن يتكلم، ولا بد أن يدعو إلى الله سبحانه، لذلك قال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، يعني: اذهب بهذا الكتاب وهو عبارة عن رسالة يدعوهم فيها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينظر {مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، فكتب له كتاباً وأمره أن يذهب إلى هذه المرأة وإلى قومها.
وقوله: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ} [النمل:28]، فيها ثلاث قراءات: القراءة الأولى: قراءة أبي جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة عاصم وقراءة حمزة أيضاً: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} [النمل:28] بالسكون! ويقرؤها قالون وهشام بخلفه ويعقوب: ((فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ)) باختلاس الكسرة.
وباقي القراء يقرءونها بالإشباع وكأنها ياء: ((فألقهِ إليهم)).
إذاً: في هذه الآية دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبلغيهم دعوة رب العالمين سبحانه، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كتب الكتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى غيرهم من الملوك، يدعوهم إلى الله سبحانه، فيقول: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين رب العالمين.
وفي قصة سليمان مع الهدهد لما أمره أن يذهب بالكتاب تعليم للأدب في ذلك، فقد أمره أن يضع الكتاب عندهم، ثم يتولى عنهم، أي: أعطهم فرصة يقرءون فيها الكتاب، وراقبهم ماذا سيفعلون؟ وانظر ماذا يرجعون؟ أي: في ردهم فيما بينهم.
والملكة كانت تسمى: بلقيساً، فقد كانت ملكة سبأ وذكر الله عنها أن لها عرشاً عظيماً، فملكت قومها وساستهم، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فلا ينبغي في دين الإسلام أن تكون المرأة حاكمة، أو تكون خليفة، أو تكون أميرة على الناس، فهذا ليس من وظيفة النساء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا وصل الأمر إلى ذلك، وأصبحت المرأة رئيسة على الناس، وأميرة عليهم فإن هؤلاء قوم لا يستحقون الفلاح، (لن يفلح قوم) أي: لا في الدنيا ولا في الآخرة إذا ولوا أمرهم امرأة، وقد أخبرنا الله سبحانه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: أن النساء ناقصات عقل ودين، فإذا جاء الرجال وجعلوا الناقصات فوقهم فعلى ذلك لن يفلح الجميع، قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) إذاً: النساء ليس لهن من أمر ولاية المسلمين أو إمارة المسلمين شيء.
أما الكفار فكان عندهم ذلك، فهؤلاء ولوا عليهم هذه المرأة، وكذلك لما قتل كسرى ولوا بعده ابنته عليهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فدمر الله عز وجل ملكها، وتمزق ملكهم بعد ذلك.
قال سليمان هنا: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل:28]: وفيه حسن الأدب بالتنحي مع من تعطيه كتاباً، فإذا فتح إنسان رسالة أو كتاباً من أحد فلا تنظر معه ولا تقرأ الكتاب، ولا تظل واقفاً بجواره، ولكن الأدب أن تبتعد عنه قليلاً حتى يقرأ الكتاب ثم يعطي الرد بعد ذلك، قال: {فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28].
وذهب الهدهد إلى هنالك، ولم يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى كيف رجع إلى هذه الململكة، وانظر الفرق بين القصص القرآني وبين الحكايات التي يذكرها البشر، إذ لو كانت حكاية يذكرها البشر لقالوا: الهدهد أخذ الكتاب وطار به، ووصل إلى هنالك، وجلس ينتظر فرصة من أجل أن ينزل عليهم الكتاب، وألقى عليهم الكتاب، وهذه كلها أشياء لا تفيدنا في شيء، ولذلك يعرض عنها القرآن.(146/10)
تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري)
قال الله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]، إذاً: الكتاب وصل على الصورة التي أرادها سليمان، وقرأت الكتاب وهذا هو الذي يريده سليمان، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ} [النمل:29]، وفيها: احترام الملك للوزراء الذين عنده، والملأ: الأشراف، يعني: يا أكابر القوم! فهي تحترم من معها حتى يحترموها، ففيها كيف يتعامل الملك، وكيف يتعامل الكبير مع من حوله، فلا يتعامل معهم بالاحتقار، أو أن رأيي فوق رأي الجميع، وأنا أفهم وغيري لا يفهم شيئاً، وكلام هذه المرأة يدل على أنها كانت امرأة عاقلة.
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] وكسرى عندما وصل إليه خطاب النبي صلى الله عليه وسلم مزقه فوراً، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مزق الله ملكه)، فمزق الله سبحانه ملكه.
لكن المرأة تأدبت، وهي لا تعرف كيف هي قوة سليمان؟ والذي استطاع أن يوصل إلي هذه الرسالة، ماذا يستطيع أن يفعل معي؟ لذلك احتاطت في كلامها، وكبرت القوم بقولها: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ} [النمل:29]، أي: علية القوم وأشرافهم.
{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ} [النمل:29] أي: لم يأت بهذا الكتاب رسول وإنما إلقي إلي، ونزل إلي من السماء.
{كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]، فوصفت الكتاب بأنه كتاب كريم؛ لأدب سليمان عليه الصلاة والسلام، فأدبه في الخطاب الذي أرسله إليها، هو الذي دفعها إلى أن تقول بأنه: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29].
وقد قالوا: وصفته بذلك لما تضمن من لين القول، فإن سليمان عليه الصلاة والسلام أرسل إليها بقول لين، وليس بقول شديد، يعظها فيه، ويأمرهم بعبادة الله سبحانه وتعالى، قالوا: كان فيه الموعظة في الدعاء إلى عبادة الله سبحانه، وفيه حسن الاستلطاف من غير أن يتضمن سباً ولا لعناً، ولا شيئاً يغير النفوس، فكان الكتاب كتاباً كريماً من سليمان.
وهذه عادة الرسل، فإن الله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] مع أن فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف:51] {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] وقال: {فَأوْقِد لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، فكان كذاباً سفيهاً، متعالياً جباراً، ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام وأخاه أن يقولا له قولاً ليناً، وهكذا يجب أن يكون الخطاب مع من تدعوهم إلى الله عز وجل، خطاباً ليناً، فقالت المرأة لما وجدت الخطاب ليناً: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29].(146/11)
تفسير قوله تعالى: (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)
قال الله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، أي: هذا الكتاب مختوم من رجل اسمه سليمان، ولعلها سمعت عنه ولكنه لم يسمع عنها.
قال: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، وهذه البسملة الوحيدة في القرآن كله، والتي اتفق على أنها بعض آية من هذه السورة الكريمة واختلف في غيرها، وإن كان الجمهور على أنها آية كاملة في أول الفاتحة، وهذا هو الصحيح، والبعض على أنها آية منفصلة في كل سورة.
والصواب: أنها آية منفصلة في أول كل سورة، إلا الفاتحة فهي أول آية فيها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها).
فبدأ خطابه ببسم الله الرحمن الرحيم، ومن السنة: أنك عندما تبدأ الكتاب تبدأه ببسم الله الرحمن الرحيم.
فقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [النمل:30] أي: ابتدائي مستعيناً ببسم الله سبحانه وتعالى، فأستعين بالله سبحانه، ذاكراً اسمه مبتدأً به، باسم الله المعبود {الرَّحْمَنِ} [النمل:30]، العظيم الرحمة لجميع خلقه في الدنيا وفي الآخرة.
{الرَّحِيمِ} [النمل:30]، بالمؤمنين سبحانه وتعالى.(146/12)
تفسير قوله تعالى: (ألا تعلوا علي واتوني مسلمين)
قال تعالى: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31].
أي: احذروا من الكبر، واحذروا من ترك عبادة الله سبحانه.
{وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31] أي: تعالوا إلي مستسلمين لله رب العالمين، عابدين الله، تاركين هذه الشمس التي تعبدونها من دون الله، فالكتاب فيه الاختصار، وفيه الحزم.
فقد حذرهم فيه من الكبر، ومن عدم تأمل العواقب، وبدأ بذكر اسمه، فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] ثم بدأ بذكر الله المعبود الذي يستحق وحده العبادة، وذكر اسمين من أسمائه اللطيفة الكريمة، وهي أنه رحمن ورحيم.
فكأنه قال لها: إنك إذا عبدت الله فهو الذي سيرحمك سبحانه وتعالى.
قالوا: وفيه من السنن: أنك عندما تكتب لإنسان فتبدأ بذكر نفسك فتقول: من فلان إلى فلان.
وكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتب إلى الملوك وإلى غيرهم، فيقول: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلان بن فلان، ففيه: أنك تبدأ بالإخبار عن نفسك.
وبعض أهل اللغة فرقوا بين من يكتب إلى كبير من القوم، ومن يكتب إلى غيره.
فقالوا: إذا كتب إلى كبير كالذي يكتب إلى والده، أو إلى إنسان كبير في الرتبة وغيرها، فليبدأ به يقول: إلى فلان من فلان.
ولكن هنا في القرآن ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى: أنه بدأ باسمه هو فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31] فبدأت تتشاور مع قومها في الذي ستفعله في ذلك؟ أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(146/13)
تفسير سورة النمل [29 - 38]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات بعضاً من قصة بلقيس ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، فلما أن أرسل سليمان الهدهد بالرسالة إليها فقرأتها ثم مدحتها ووصفتها بالكرم، وأنه خطاب لا على عادة أهل التكبر والطيش، بل هو كلام محكم موزون، قليل المبنى، كثير المعنى، ابتدأ بذكر المرسل، ثم الاستعانة بالله، ثم الأمر لها بعدم العلو والتكبر على دين الله ونبيه، وأن تأتي إليه مع قومها مسلمين، وكانت عاقلة ذكية، فاستشارت قومها واستقر الرأي على إرسال هدية إلى سليمان؛ لتعرف بها حاله أهو نبي فيتبع أم ملك فيقاتل؟ وكان مآل هذه الملكة وقومها إلى الإسلام واتباع نبي الله سليمان عليه السلام.(147/1)
دعوة سليمان لبلقيس وقومها إلى التوحيد
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:29 - 31].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قصة بلقيس لما جاءها الهدهد برسالة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه أرسل الهدهد بهذه الرسالة إليها.
وقد ابتدأ هذه الرسالة بقوله: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30].
وهذا الخطاب الذي أرسله سليمان عليه السلام لـ بلقيس كان فيه دعوتها إلى توحيد رب العالمين سبحانه، وأن تأتي مذعنة خاضعة لرسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليها: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]، أي: مستسلمين للرب سبحانه وتعالى، وألا تعبدوا غيره من المعبودات الباطلة.
وقدمنا: أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان قد افتقد الهدهد مرة، فلما سأل عن الهدهد ولم يجده، توعده وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] قال تعالى: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:22]، يعني: وظهر الهدهد وجاء إلى سليمان عليه السلام وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] يعني: علمت علماً لا تعلمه أنت، وأحطت بخبر في بلاد قريبة منك وأنت لا تعلم عنها شيئاً، وكان سليمان بالشام وهؤلاء باليمن.
فقال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، أي: نبأ ليس كذباً، وليس عن طريق أحد غيري، بل أنا الذي رأيت بنفسي، وليس المخبر كالمعاين، فالذي يعاين الخبر ويراه يكون منه على يقين، أما الذي يخبر عنه فليس على مثل يقين المشاهد.
والنبأ معناه: الخبر الذي غاب عن الإنسان، ومنه النبي والنبيء، يعني: الذي ينبأ بأخبار من الغيب لم يكن يعرفها، ولا يعرفها أحد من البشر سواه، فيخبره الله عز وجل بالنبوءة بأخبار الغيب.
والخبر هو: أني وجدت امرأة ملكة على بلاد اليمن، وهي ملكة سبأ، وهذه المرأة لها عرش عظيم، غير أنها تعبد هي وقومها الشمس من دون الله.
وهذه المرأة كانت غنية جداً؛ ولذلك الهدهد يقول لسليمان عليه السلام: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، يعني: مما يؤتاه البشر، فقد أوتيت أشياء كثيرة مما يؤتاه البشر، وأوتيت غنى عظيماً، ولها عرش عظيم يدل على قدرة من معها على البناء وعلى الصنع وعلى التجميل، وهذا العرش قد انبهر منه الهدهد ووصفه بأنه عرش عظيم.
فلما قال ذلك لسليمان، وأنهم يعبدون غير الله سبحانه قال: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، قال الله عز وجل: أو قال سليمان تعقيباً على كلام الهدهد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النمل:25]، أو قالها الهدهد.
وفي هذه قراءتان: الأولى: (ألَا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء).
بتخفيف اللام في (ألا) والثانية: (ألَّا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء).
بالتشديد.
والمعنى: التحضيض والحسم، هلا سجدوا لله بدلاً من هذه الأشياء الباطلة التي يعبدونها من دون الله سبحانه؟ فلما سمع سليمان عليه الصلاة والسلام من الهدهد ذلك: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] يعني: هل هو يتعلل لأنه غاب وسليمان هدده بأن يذبحه أو يعذبه عذاباً عظيماً، أم هو صادق في كلامه؟ {قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل:27]، يعني: نتحرى، وكأن القرآن هنا يشير إلينا أن الإنسان لا يندفع، وليأتس بهؤلاء الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فسليمان عليه السلام تهدد وتوعد الهدهد وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21].
فإذاً: يجب على الإنسان إذا غضب من شيء أن ينتظر حتى يهدأ وحتى ينظر في الذي عند هذا الآخر من العذر، فإذا أخبره بعذره قبل هذا العذر.
ولذلك قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] يعني: بعذر بين أو بحجة قاطعة، فجاء الهدهد بهذا الخبر فقال سليمان: {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27].
ثم قال له: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل:28]، فأخذ الهدهد كتاب سليمان، وذهب إليهم، وألقاه إلى هذه الملكة.
فلما رأت الكتاب، وقد علمت أنه لم يأتها به أحد من البشر، أدركت أن هذا الخطاب أتى من فوق، ثم فتحت الخطاب، فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فهذا الخطاب الكريم من سليمان.
ثم قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كريم} [النمل:29]، وكتاب معناه: مكتوب، يعني: رسالة مكتوبة، ومكتوب فيه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، فكأنه قدم نفسه، بحيث لو كانت غبية أو متطاولة فشتمت أو سبت كان شتمها وسبها لأول من ذكر، ولا تسب الله تعالى، فلذلك بدأ باسمه هو فقال: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:30 - 31].
فذكر كلمات قليلة يسيره فيها البدء بالمرسل، ثم ذكر الله الخالق سبحانه ببعض صفاته العظيمة، وفيه التلطف مع هذه المرأة لعلها تستجيب وتدخل في هذا الدين.
ولذلك لما وجدت هذه الصيغة قالت: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] يعني: لم يبدأ بالشتم والتهديد، ولكن بدأ ببسم الله الرحمن الرحيم.
وقوله: {وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30]، دال على أن الله هو المعبود سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا أكتب كتابي هذا مستعيناً بالله وحده سبحانه الذي هو الإله المألوه الذي يستحق العبادة وحده، كذلك هو الرحمن الذي يرحم عباده في الدنيا وفي الآخرة، وهو الرحيم سبحانه.
فالرحمن صاحب الرحمة التي تعم الخلق جميعهم، والرحيم صاحب الرحمة العظيمة الخاصة بالمؤمنين.
قال سليمان: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل:31]، وهذا هو مضمون الخطاب: لا تعلوا علي، ولا تستكبروا، ثم قال: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]، أي: مستسلمين لله رب العالمين، طائعين عابدين له لا تعبدون غيره سبحانه.
فلما قرأت على قومها الكتاب، أو أخبرتهم بمضمونه، أظهرت هنا حكمتها، وأنها ليست مندفعة، فلم تندفع في التهديد والوعيد، مع أنه ذكر عنها أنها تملك جيشاً عظيماً جداً، ويكفي في قوتهم ما صرح الله عز وجل به هنا من كلام جنودها وقادتهم لما قالوا: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، فأثبت الله سبحانه وتعالى ذلك، ولم يكذب ما قالوه، فهم أصحاب قوة عظيمة في أبدانهم، وأصحاب قوة عند القتال.(147/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)
ثم قالت مستشيرة لهؤلاء الأقوام: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
قَالَتْ: (يَا أَيُّهَا المَلَأُ)، ولم تقل: يا أيها الناس! فهي لم تخاطب الجميع، بل خاطبت القواد والوزراء، إذاً: فقد كان لها مجلس شورى مكون من أكابر القوم، وفي استشارتهم دليل على حلمها وعلمها وحكمتها.
فالإنسان الذي لا يستشير إنسان أحمق، وفيه غباء واندفاع وطيش، وهذا يرى أنه وحده الذي يفهم الأمر وغيره لا يستحق أن يفكر، ولا يستحق أن يؤخذ برأيه، أما الإنسان الحكيم فهو الذي يستشير.
ثم قالت: {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} [النمل:32]، يعني: لم أكن منفذة أمراً، ولا سأقضي في هذه القضية بشيء، ولا أفصل برأي من الآراء حتى تشهدوا مجلسي وتسمعوا مني وأسمع منكم، ثم نخرج برأي يتفق عليه الجميع.
وفي قوله تعالى عنها: (حتى تشهدون) قراءتان: قراءة الجمهور: (حتى تشهدون)، فإذا وصلوا فسيكون النون مكسوراً.
أما قراءة يعقوب فبالياء في آخرها: (حتى تشهدوني)، سواء وصل أم وقف.(147/3)
تفسير قوله تعالى: (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد)
قال تعالى عن قومها: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ} [النمل:33]، يعني: في أبداننا، وعدة الحرب موجودة عندنا.
ونحن {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل:33]، أي: ومجربون في القتال، ولدينا صلابة وقوة عند القتال.
ثم أظهروا أيضاً التواضع معها فقالوا: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33]، يعني: اصنعي ما ترينه مناسباً.
فهي تواضعت وسألت، وهم تواضعوا وقالوا: {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ} [النمل:33]، فردوا الأمر إليها.
قالوا: {فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33]، يعني: نحن طوع أمرك.(147/4)
تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
وهنا أيضاً ظهرت حكمتها وحنكتها وسياستها، وأنها كانت عاقلة، فلم تقل: أنتم عددكم كبير وألوف، فنبعث له جيشاً لتدميره، ولكن قالت لهم حتى تريهم رأيها: افرضوا أننا انهزمنا؟ فسيدخل هذا الملك بمن معه بلادنا فيدمرها ويذل سادة القوم؛ ولذلك قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34].
وهذا حاصل في غير جند الإسلام، فإنهم يدخلون القرى ليعمروها، وهم ممنوعون من التخريب والإفساد، وإنما يدعونهم إلى توحيد رب العالمين سبحانه وتعالى.
فجهاد المسلمين ليس لتخريب الديار، بل لإعمار البلاد، ولإعمار قلوب العباد، ولإدخال العباد في عبادة الله بدلاً من عبادة العباد من دون الله رب العالمين.
فالإسلام يأمر المقاتلين أن إذا أتيتم قرية فلا تبدأوا بالقتال، ولكن ابدأوا بدعوة هؤلاء إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإن أطاعوا لذلك فكفوا عنهم، واجعلوا حاكمهم منهم، بشرط أن يحكمهم بشرع الله سبحانه وتعالى.
فهذا الدين جاء ليحكم العباد لا بشريعة العباد، أو شريعة الغاب، ولكن بشرع رب العالمين سبحانه.
وفي هذا الدين: أن الناس سواسية كأسنان المشط، فخيرهم عند الله أتقاهم، وأقربهم إلى الله المؤمن التقي، إذاً: فإذا فتح الإسلام أرضاً حكمها بالعدل.
وقد عرفت اليهود ذلك، فلما ذهب إليهم عبد الله بن رواحه رضي الله عنه يخرص أرض خيبر، أرادوا أن يدفعوا له رشوة من أجل أن يخرص بالظلم، فقال: والله إنكم لأبغض الخلق إلي، ولا يمنعني ذلك من أن أعدل بينكم فيما أرسلني فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال اليهود: بهذا قامت السموات والأرض، يعني: بالعدل الذي أنتم عليه قامت السموات والأرض.
فدين الإسلام دين العدالة، فإذا فتح البلاد عدل بين أهلها، لكن أي ملك من الملوك إذا فتح أرضاً خرب فيها، فسجن أهلها، وجعل أعزة الناس فيها أذل الناس وأحطهم.
والناظر في أحوال البلاد يرى كيف يصنع الكفار مع الناس إذا أخذوا بلادهم، وكيف يذلون أهلها، وكيف يخرجون أوضع الناس فيجعلونه الرفيع فيهم، والرئيس عليهم، ويأخذون أعلى الناس فيجعلونهم تحت التراب، ولا يهمهم ما الذي يصنعونه، فيبيحون البلاد، ويغتصبون النساء، ويدمرون البلاد، ويقولون: إن الوقت وقت حرب نفعل فيه ما نشاء لأننا الغالبون، فلا حساب علينا، ولا محاكمة لنا، فالقانون قانون الغاب، القوي الغالب يفعل ما يشاء بالضعفاء، ولا يقدر أحد أن ينكر، وهذه شريعة الغاب المعروفة منذ القدم.
ولذلك أرسل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، أي: يأمرك أن تعدل، وأن تحسن، وأن تؤتي ذوي القربى حقهم، ثم قال: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، أي: وينهى عن المنكر، والظلم، وأن يبغي بعضكم على بعض.
وقد سمع هذه الآية الوليد بن المغيرة، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر.
قالت الملكة هنا: وهذا إما أن يكون قولاً لها، وإما أنه تعقيب من رب العزة سبحانه، وفعلاً يحدث هذا الشيء، وكذلك يفعل الملوك، إلا من رحم الله وجعله على شريعة الإسلام يحكم بين الناس بالعدل.
وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم كيف دخل مكة حين فتحها، ومعه جيش جرار أرعب أهل مكة، فلما فتحها ولاذ الناس ببيوتهم أرسل منادياً ينادي: (من دخل الحرم فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن)، فأمن الناس صلوات الله وسلامه عليه، ولما قال بعض من معه في جيشه: اليوم يوم الملحمة -يعني: يوم القتال- فأرسل ينفي ذلك، ويقول: (بل اليوم يوم المرحمة) أي: يوم الرحمة.
ثم جمع أهل مكة وقال لهم: (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم)، وهم الذين قتلوا عمه حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومثلوا بجثته، وقتلوا مصعباً وغيره من المسلمين، وهم الذين شجوا وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وكسروا المغفر أو البيضة على رأسه، وأرادوا قتله، ومع ذلك يقول لهم صلى الله عليه وسلم: ما تظنون أني فاعل بكم؟)، قالوا: (أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
ولما قال بعض أصحابه: (اليوم يستباح الحرم، قال: لا، اليوم يعظم الحرم).
وبدأت بلقيس بهذا القول: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل:34]؛ من أجل ألا يشهد عليها الملأ بالقتال، فاستحثت عقولهم: أن فكروا قبل أن تفعلوا شيئاً، فلو دخل الملوك عليكم وهزموكم دمروا قراكم وبلدكم.
وفي هذه الآية مبدأ الشورى الذي أمرنا الله عز وجل به، حين قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فأمره سبحانه أن يشاور المؤمنين، ومن هذا الذي من المؤمنين رأيه أرجح من رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المؤيد بالوحي من السماء.
ولكن مهما كان الأمر فسنة رب العالمين في خلقه الشورى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
فالإنسان الذي يحكم هو واحد، ورأيه رأي واحد، ولكن إذا استمع إلى مجموعة أضاف عقولهم إلى عقله، ولذلك كان العاقل هو الذي يستشير، وقد قال الله عز وجل يمدح المؤمنين بما فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فهو يشاور المؤمنين ويعمل بما نتج عن الشورى من رأي، وقد يخطئون، ومع ذلك يأخذ برأيهم صلوات الله وسلامه عليه.
ففي يوم أحد كان رأي النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يخرج من المدينة، وقد رأى رؤيا تؤيد ما قاله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أن المدينة حصن عظيم، ولكن أكثر المؤمنين كان رأيهم أن يخرجوا لقتال المشركين، فنزل على رأيهم صلوات الله وسلامه عليه، واستجاب لهم، ولبس لأمة القتال، فلما وجدوا أنهم فرضوا عليه شيئاً خلاف رأيه تراجعوا، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ننزل عن رأيك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمة القتال أن ينزعها حتى يقاتل)، فلما خرجوا إلى ساحة الحرب نزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منازلهم، وأمر الرماة ألا يفارقوا موضعهم، ولكنهم لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم حاقت بهم الهزيمة بعد ذلك.
وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمشورة القوم في مواطن كثيرة، وكان يقول يوم بدر: (أشيروا علي أيها الناس!)، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! لعلك تعنينا - أي: الأنصار-؟ قال: نعم، قالوا: يا رسول الله! سر أينما شئت، ووال من شئت، وعاد من شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، فوالله لو خضت بنا برك الغماد لخضناه معك).
يعني: نخوض هذا البحر حتى نصل إلى المكان الذي تريده.
واستشارهم في يوم أحد، واستشارهم في غير ذلك.
بل استشارهم في أمر يخصه صلى الله عليه وسلم حين تكلم الملعون عبد الله بن أبي بن سلول بحديث الإفك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشيروا علي يا قوم!) أي: في هذا الأمر، فلما استشارهم صلوات الله وسلامه عليه حدث بين الناس كلام، وكاد أن يقوم بعضهم إلى بعض، فأسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى بيته.
والغرض مما ذكر: أن يعلم أن مبدأ الشورى مبدأ عظيم، فلا يخيب أبداً إنسان يستشير، بل الذي يتهور ويندفع هو الأحرى بالخسران والخيبة.
فالمرأة كانت عاقلة وذكية؛ ولذلك استشارت من معها؛ حتى يعرفوا منزلتهم عندها، ثم بعد ذلك ألقت بالنصيحة: أن الحرب سجال، فقد ننتصر، ولكن الهزيمة واردة، فلو حصلت الهزيمة فسيدخلون بلادنا، وهذا الذي أرسل هدهداً برسالة، معناه: أن معه جنوداً كثيرين، فاحتمال الهزيمة كبير.(147/5)
تفسير قوله تعالى: (وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون)
ثم قالت بعد ذلك: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35]، أي: سنختبر هذا الذي أرسل الرسالة، هل هو نبي من الأنبياء أم أنه ملك ملك من الملوك؟ فلو كان ملكاً فسيقبل الهدية، ونتعامل معه بناءً على ذلك، أما لو كان نبياً فلن يقبل هذه الهدية، وهذا الذي حدث.
ثم قالت: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35] أي: بالذي سيرجع به المرسلون الذين سنبعثهم.
فإذاً: ستبعث هدية ليس مع واحد؛ لأنها تقول: (بم يرجع المرسلون)، وهنا لم تقل: الرسل، ولكن قالت: {الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، فكأن العدد ضخم؛ ولذلك ذكرت جمع المذكر السالم هنا.
فإذاً: هي اختارت هدية عظيمة جداً، وأرسلتها لسليمان عليه السلام مع مجموعة كبيرة من الناس.
أما تفصيل ما في الهدية فلم يهتم القرآن بذلك، وما الذي أرسلته إليه، هل أرسلت إليه غلمان، أم أرسلت إليه وصائف، أم أرسلت إليه ذهباً وفضة؟ أياً كان ذلك فقد أغناه الله عز وجل وأعطاه فوق ذلك، ويكفي أنه نبي، فالنبي لا طمع له في الدنيا أصلاً.
فعلى ذلك لا يعنينا ما هي هذه الهدية التي أرسلتها إليه، ولكن من الواضح أنها هدية عظيمة.
ثم ذهبوا بهذه الهدية إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، وهي قالت: {فَنَاظِرَةٌ} [النمل:35] يعني: سأنظر ما الذي سيعمل بها، وبناء على ذلك سنتعامل معه، فإن كان طماعاً فليس برسول، فسنتعامل معه بمنطق القوة، ونرسل إليه جنودنا الأقوياء.
لكن لو رد الهدية، فهذا يعني أنه رجل عظيم قوي، وأنه يحتقر هذه الهدية، فالغالب سيكون نبياً من الأنبياء، ولا طاقة لنا به.(147/6)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال)
قال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36]، أي: لما أتوا إلى سليمان بهذه الهدية، أو جاءه رسول هذه الملكة، وقال: قد جئت ومعي هدية من هؤلاء.
فقال سليمان مباشرة يرد عليهم: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل:36]، يعني: تدفعون لي رشوة على أمر الله عز وجل، وما أرسلت إليكم إلا لتسلموا لله رب العالمين، فتدفعون لي مالاً حتى أترككم على كفركم وشرككم، قال: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36].(147/7)
القراءات في قوله تعالى: أتمدونن بمال
وفي قوله تعالى: (أتمدوننِ بمال) ثلاث قراءات: قراءة الجمهور: بكسر النون (أتمدوننِ).
وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: (أتمدونني بمال)، فإذا وصلوا نطقوا بالياء، وإذا وقفوا حذفوا الياء، فالوقف: (أتمدوننِ) كالجمهور، والوصل (أتمدونني بمال).
وقراءة ابن كثير بالياء في الحالين: (أتمدونني بمال)، سواء وقف أو واصل.(147/8)
القراءات في قوله تعالى: (فما آتاني الله)
وفي قوله تعالى: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} [النمل:36] ثلاث قراءات: قراءة يعقوب وحمزة: (أتمدو~نِّي بمال) بمد طويل فيها وإدغام.
وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وحفص أيضاً ورويس (فما آتانيَ الله خير مما آتاكم)، فإذا وقفوا فسيكون الوقف بالنون فقط.
ويقرأها أبو جعفر وورش في روايته عن نافع (فما آتان) في الوقف كما ذكرنا، والباقون يقرءون: (فما آتانِ الله خير مما آتاكم) وصلاً ووقفاً.
ثم قال تعالى: {خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ} [النمل:36]، أي: الذي أعطاني الله تعالى من النبوة ومن الملك خير من هذا المال الذي أتيتم به.
قال تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، يعني: أنتم تظنون أن هذه الهدية لها قيمة عظيمة، فمثلكم يفرح بها، أما أنا فلا أفرح بمثل هذه الهدية، فقد آتاني الله عز وجل النبوة، وآتاني الملك، والمال العظيم.
والعادة في بني البشر: أن الإنسان كلما كان غنياً كلما كانت له مطامع، وازداد نهماً وحرصاً على المال، وخاصة لماذا كانت هدية عظيمة من ذهب أو فضة ونحوهما، ولكن هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام قد عصمه الله من ذلك.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال أو وطالب دنيا) فطالب العلم لا يشبع من طلب العلم، وطالب الدنيا لا يشبع من طلب المال وطلب الدنيا.
فلما رد هذه الهدية علمت أنه نبي، فهي امرأة كافرة، وهو لا يقبل هدية الكفار.
وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، أنه لم يقبل هدايا المشركين، وجاء عنه أنه قبلها.
ففي الحديث الذي رواه أبو داود ورواه الترمذي عن عياض بن حمار: (أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، أو ناقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: أسلمت؟ فقال: لا، قال: فإني نهيت عن زبد المشركين)، والزبد: العطاء والرفد والمنحة والهدية، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهي عن ذلك.
وفي حديث آخر: (أن عامر بن مالك -الذي يوصف أو يلقب بملاعب الأسنة- قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك، فأهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أقبل هدية المشركين).
وفي حديث آخر: أن أم أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، واسمها: قتيلة بنت عبد العزى قدمت على ابنتها أسماء بهدايا، وهي عبارة عن ضباب وأقط وسمن، وكانت أسماء مسلمة وأمها كافرة، وأم أسماء التي هي قتيلة كانت كافرة وهي غير أم عائشة رضي الله عنها التي هي أم رومان فقد كانت مسلمة، فقدمت عليها في وقت الهدنة التي بين الحديبية وبين فتح مكة بذلك، فسألت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي قدمت وهي راغبة)، يعني: راغبة في الصلة، فتوصلني وأصلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلي أمك، وأمرها أن تقبل هدية أمها).
وبناء على ذلك اختلف العلماء في هدية المشرك: فبعض العلماء منعوا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن زبد المشركين)، ولرده صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين.
والبعض الآخر أجازوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء أن تقبل هدية أمها، وأيضاً قد طلب من سهيل بن عمرو أن يرسل إليه هدية من ماء زمزم.
فأرسل إليه سهيل هدية من ماء زمزم، وأرسل له هدايا معها، فقبلها منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء فصل فقال: إذا كانت هذه الهدايا كنوع من جعل الإنسان المسلم يوافقهم على ما هم فيه ويواطئهم، فتكون مداهنة، فلا تقبل هذه الهدية.
أما إذا كان قبول الهدية فيه تأليف لصاحبها، رجاء أن يسلم بعد ذلك، فيجوز عندها قبول هدية المشرك.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تجلب المحبة؛ لذلك أمر المؤمنين أن يتهادوا فيما بينهم، ورفض هدية المشركين للعلة نفسها.
إذاً: إذا أهدى المشرك هدية للمسلم ووجد نوع من أنواع المودة، بحيث تنقلب المودة إلى محبة بين المسلمين والمشركين، ثم تنقلب موالاة بعد ذلك، بحيث إذا فصل القتال بين المسلمين والمشركين لا يرضى المسلم أن يقاتله؛ لأنه أهدى له هدية قبل ذلك؛ فهذا لا يجوز بحال من الأحوال؛ وذلك ولذلك رفض النبي صلى الله عليه وسلم هدايا المشركين إلا أن يتألفهم بقبولها حتى يدخلوا في دين الله تبارك وتعالى.
ولذلك لما جاءت الهدية لسليمان، قال: {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36]، يعني: تفرحون من أجل أن تقولوا: نحن بعثنا لسليمان هدية قوامها كذا وكذا، فتفرحون بذلك، ثم تفتخرون.(147/9)
تفسير قوله تعالى: (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها)
قال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} [النمل:37] أي: من بلدهم، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
فإذاً: ما قالته الملكة صحيح وهو قولها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34]، فهي بنظرها أن هذا إفساد، ولكن في نظر سليمان ليس إفساداً؛ لكونهم كفاراً يعبدون الشمس من دون الله، فيستحقون أن يقاتلوا حتى يسلموا أو يقتلوا.
فقال: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، فالجواب كان حاسماً شديداً، ولذلك المرأة فهمت ذلك، وقالت: سأذهب إليه بنفسي، خوفاً منه صلوات الله وسلامه عليه.
فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها} [النمل:37]، أي: لا طاقة لهم بها، وجنود سيلمان من الجن ومن الإنس ومن الطير، فلا أحد يقدر على هؤلاء إلا رب العالمين سبحانه، فلذلك قال ببرود: {لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} [النمل:37]، وهذا أسلوب قسم، أي: أقسم أننا سنخرجكم من هذه الديار طالما أنتم على شرككم أذلة وأنتم صاغرون.
ولذلك كانت المرأة ذكية، فطالما أن سليمان عليه السلام قد حلف أنه سيخرجنا، فسنخرج نحن باختيارنا، ونذهب إليه بدلاً من أن يأتي إلينا فيدمر علينا هذه البلدة.
قال سليمان عليه الصلاة والسلام: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، أي: مهانون أذلة.(147/10)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين)
ثم قال لجنوده: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، فكأن سليمان عليه الصلاة والسلام جاءه من يخبره بمجيئهم، إما عن طريق الوحي أو عن طريق جنوده من الجن أو من الطير، فكأنه قال: ما داموا جاءوا إلينا فسنريهم ما نحن فيه من ملك حتى يحتقروا ملكهم الذي أطمعهم في الدنيا، ودفعهم أن يعبدوا غير الله سبحانه.
وكذلك ليحتقروا هذه الهدية التي أرسلوها، ثم يرجعوا إلى صوابهم، فيعبدوا الله سبحانه وتعالى، فدبر تدبيراً عظيماً حتى يريهم ملكاً لم يروا مثله قبل ذلك أبداً، ولن يروا مثله بعد ذلك أبداً، وهو ما ذكر الله عز وجل هنا من الصرح الممرد من قوارير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(147/11)
تفسير سورة النمل [36 - 44]
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسله وجعل معهم من الدلائل والمعجزات ما يفوق ما أعطاه الله لملوك الأرض وأهلها الذين يرسل إليهم هؤلاء الأنبياء، وقد آتى الله سيدنا سليمان ملكاً ومعجزات جعلت ملكة سبأ تعلم أن ذلك ليس من شأن الملوك، بل من شأن الأنبياء المؤيدين بالوحي، وقليل أولئك الملوك الذين يتغلبون على أهوائهم ويتبعون رسالات الله تعالى، ويؤمنون برسله.(148/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء سليمان فإن ربي غني كريم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنْ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:36 - 44].(148/2)
الحكمة التي اتصفت بها الملكة بلقيس
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة سليمان عليه الصلاة والسلام مع ملكة سبأ وهي بلقيس، لما أرادت أن تختبر سليمان وتعرف هل هو نبي من الأنبياء أم هو ملك من الملوك؟ وقد أرسل إليها خطاباً يأمرها بالإسلام، وأن تأتي إليه ولا تتكبر عليه.
فلما قرأت الرسالة وكانت امرأة حكيمة استشارت من معها، فلم تكن متهورة مندفعة بحيث ترد عليه جواباً على رسالته، فأبدو أنهم أقوياء: {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33].
ولكنها ذكرت من حولها أن أمر القوة وأمر الحرب يحتمل أن ننتصر أو أن ننهزم، فإذا انهزمنا أمامه دخلت جنوده إلى أرضنا، ودخل هذا الملك إلى أرضنا فأفسد فيها وقالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل:34].
ثم تروت ووجدت فكرة أخرى فقالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35]، يعني: إلى هؤلاء القوم وليس لسليمان وحده، ولكن لأهل هذه البلد أو لكبارها بما فيهم ملكهم، قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35].
وعندما يرجع إلينا هؤلاء الذين نرسلهم إليه بهذه الهدية نعرف أمره، فإذا كان ملكاً قبل هذه الهدية فنتعامل معه على أنه ملك من الملوك وأنه طماع، فإما أن نرضيه بمال، وإما أن نغزوه ونحاربه، وأما إذا كان غير ذلك فهذا نبي من الأنبياء ولا يسعنا إلا أن نأتي إليه.(148/3)
موقف سيدنا سليمان من هدية بلقيس
فلما ذهبت الهدية إلى سليمان رد عليهم رداً سريعاً ولم يستشر أحداً، بل قال: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36].
أي: أنتم الذين تفرحون بمثل هذه الهدايا، فأنتم تهدون إلى الإنسان لتفخروا عليه بهديتكم، ارجعوا بهذا الشيء فإننا لا نقبله منكم، ولنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون، فكأنه قال للرسول أو لكبير القوم الذي جاءه: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، فقوله: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ} [النمل:37]، فيه قسم من سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إذ قال: {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ} [النمل:37]، وهذا دليل على القسم؛ لوجود اللام في أول الفعل المضارع، والنون المثقلة في آخره، وكأنه يقول: والله لنخرجنهم منها أذلة، أو {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً} [النمل:37].
فإننا دعوناهم في الخطاب فلم يلبوا، أما الآن فسنخرجهم من هذه الأرض: {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
فلما بلغ الأمر إليها إذا بها تتجهز للذهاب إليه، فلم ترد أن يأتي سليمان إليهم فيطردهم من أرضهم، فقالت: نحن نذهب إليه في البداية مستسلمين فيعاملنا معاملة كريمة.(148/4)
عظيم تسخير الله لسليمان
فلما بلغ سليمان أنهم خارجون إليه، وعلم سليمان بذلك إما عن طريق الوحي وإما عن طريق جنوده من الجن وغيرهم أحب أن يريها آية من آيات قدرة الله سبحانه الذي أقدر سليمان عليها، فقال لمن معه: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:38]، وإلا فماذا يعمل بعرشها؟ لكنه يريد أن يريها آية من الآيات، ولا مطمع له في عرشها.
لكن هذا العرش هو الذي جعلها تتعالى وتستكبر على الخلق، وجعلها تعبد غير الله سبحانه، فينقل من اليمن إلى الشام وهي مسافة طويلة جداً في وقت يسير، وهي تخرج من بلدها تاركة عرشها هنالك فتأتي إلى الشام فتجد عرشها هناك، وهذا شيء عجيب جداً، فأراد سليمان أن يريها أنه رسول كريم مؤيد بالمعجزات.
وهذا يدفعها إلى أن تؤمن بالله سبحانه، وكأن الهدف من إتيانه بعرشها أن يريها معجزة من المعجزات الحسية لعلها تسلم وتدخل في دين رب العالمين، فلما سأل من حوله لم يقل: يا أيها الناس؛ لأن الناس لا يقدرون على هذا الشيء، ولكن قال: يا أيها الملأ! فهم أعلى الناس الذي يدخلون عند سليمان، ويكون أكرمهم عليه أتقاهم لربه سبحانه وتعالى، فربنا فضل بعض الناس عنده كما قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وكذلك هو التفضيل عند أنبياء الله سبحانه وتعالى، فهم يفضلون ويقربون ويدنون منهم الأتقى من الخلق.
فسأل هؤلاء الملأ الذين حوله وفيهم الإنس وفيهم الجن، فقال: {يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل:38]، وهو يعلم من قدرة الله سبحانه أنه سيأتيه بهذا العرش من هذا المكان إلى هذا المكان.
فكان الإتيان بالعرش مقدور لسليمان عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سخر الجان والشياطين والريح له، ولكن هو يريد شيئاً سريعاً قبل أن يأتوا.
فهذه المرأة في الطريق وستأخذ ثلاثة أيام أو يومين، وهو يريد أن يأتي العرش الآن قبل أن تدخل هذه المرأة، فلما قال ذلك إذا بجنوده يجيبون: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} [النمل:39]، والعفريت: هو المارد القوي، فالمردة من الجان مسخرون لسليمان عليه الصلاة والسلام، فقال هذا: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، أي: قبل أن تكمل هذه الجلسة الذي أنت فيها، وهذه قدرة عظيمة جداً، فلا تقدر أي طائرة ولا أي صاروخ أن يأتي له بهذا قبل أن ينفض المجلس.(148/5)
فضل أهل العلم على أهل القوة
ولكن سليمان علم أن لله قدرة أكبر من ذلك، فطلب الأسرع من ذلك: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، وكأن التفضيل هنا لأهل الكتاب، ولحملة دين رب العالمين سبحانه.
وهذا أحد جنود سليمان عليه الصلاة والسلام، فقد تعلم الكتاب من سليمان عليه الصلاة والسلام، وكأنه اختبار لقدرة هؤلاء الجنود الذين أعطاهم الله ما أعطاهم من قدرة، وهذا الذي عنده علم من الكتاب لو أراد الله سبحانه أن نعرفه لأخبرنا عنه سبحانه وتعالى، ولكن لم يرد ذلك فلم يخبرنا عنه، لكن المفسرون خاضوا في ذلك وذكروا أسماء فقالوا: هذا رجل اسمه آصف بن برخيا، ولكن لا يعنينا كثيراً اسم هذا الرجل، فهو أحد المؤمنين الذين مع سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فما علم الله عز وجل آصف هو جزء مما علم سليمان عليه الصلاة والسلام، فهو رجل من عباد الله سبحانه فضله الله عز وجل، وأراد أن يرينا فضل أهل العلم على أهل القوة، فالعفريت من الجن هو من أهل القوة، وقد قال: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مجلسك، فسيكون في مدة ساعتين أو ثلاث ساعات، ولكن الذي عنده علم من الكتاب لن ينتقل من مكانه، ولكن سيدعو الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، فكأنه عرف كيف يدعو الله سبحانه وتعالى فيستجيب له ربه سبحانه وتعالى.
وقد قالوا: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، واسم الله الأعظم ليس شيئاً مخفياً أو مستحيلاً أن يعرف، بل قد جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى.(148/6)
الثقة بالله سبب لإجابة الدعاء
واسم الله الأعظم ليس كل إنسان سيدعو به يصل إلى مراده الذي يطلبه، وإنما الأمر أمر قلبي، فالإنسان إذا وصل قلبه بالله سبحانه وتعالى، وكان على ثقة بالله سبحانه حصل على ما يريد.
فكلكم تعرفون كيف تدعون الله سبحانه، وكيف تلحون على الله في الدعاء، ولكن من الذي سيكون كهذا الرجل الذي يدعو فيستجيب الله سبحانه وتعالى له؟ فنحن ندعو كثيراً: يا رب! أنزل علينا المطر، فأحياناً ينزل وأحياناً لا ينزل، أو يتأخر المطر.
ولكن لما قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وسأل ربه سبحانه وتعالى أن ينزل المطر غيثاً مغيثاً عاجلاً، وذلك عندما جاء إلى النبي رجل وقال: (يا رسول الله! هلكت الأموال، وهلكت العيال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا).
وكان واقفاً يخطب على المنبر صلى الله عليه وسلم فقطع الخطبة وسأل الله سبحانه وتعالى، وكان لا يوجد في السماء سحاب، فإذا بسحابة تنشأ من وراء الجبل فتتوسط السماء فتمطر على الجميع أسبوعاً كاملاً بدعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد قام كفار قريش قبل هجرته فقالوا له: (لن نؤمن لك حتى تفلق لنا هذا القمر فلقتين ونراه، فقال: إذا فعلت آمنتم؟ قالوا: نعم، فقام صلى الله عليه وسلم وسأل ربه وأشار بيده إلى القمر فانفلق فلقتين، فلقة وراء الجبل، والأخرى أمام الجبل فلم يؤمنوا، بل قالوا: سحرتنا).
وهذه آية من الآيات الحسية التي رأوها أمامهم، والتي يؤيد الله عز وجل أنبياءه بها حتى يؤمن بهم الخلق، فهنا سليمان عليه الصلاة والسلام أيده الله عز وجل بمعجزات وبآيات، ومن ذلك هذه المعجزة: أن رجلاً من أتباعه يدعو ربه أن يأتي بالعرش إلى سليمان عليه الصلاة والسلام، فيستجيب الله دعاءه.
وهذا الرجل ليس عنده كل علم الكتاب، بل عنده علم من الكتاب، فقد عرف ربه سبحانه وتعالى، واستيقن به، وسأله فأعطاه.(148/7)
اسم الله الأعظم
ما هو اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب؟ لقد جاءت ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيها الجواب، وقد علم الله رجلاً من خلقه المؤمنين أن يدعو بدعاء، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب).
وهذا الرجل دعا فقال: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحداً)، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب).
ورجل آخر أيضاً دعا ربه سبحانه، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان، بديع السماوات والأرض، يا حي! يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!)، فقال رسول الله: (لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب).
وأيضاً يقول عليه الصلاة والسلام: (اسم الله الأعظم في هاتين السورتين، في سورة آل عمران، وفي سورة طه، وهو الحي القيوم، والرحمن الرحيم).
وإذا سألت الله عز وجل أعطاك مع إخلاصك، مع معرفة الله أنك تستحق ذلك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام!)، ومما ينبغي الدعاء به: اسم الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وتدعوا بيا ذا الجلال والإكرام، أو يا حي يا قيوم، أو يا رحمن يا رحيم، أو تدعو باسم الله الحنان المنان، بديع السماوات والأرض ذي الجلال والإكرام، فإذا سألته بهذا أعطاك واستجاب لك.
وكلنا نسأل ربنا سبحانه، ولكن هل يحقق لكل منا ما يريده عاجلاً كما حقق لهذا الرجل؟ هذا يرجع إلى أمرين: الأمر الأول: راجع إلى الله سبحانه الذي قضاه، ومن قضائه أنه ينفذ ذلك الشيء ويعطي هذا الشيء لهذا الإنسان، وهذا مبني على علمه وحكمته وقدرته سبحانه.
الأمر الآخر: راجع إلى قلب العبد، هل هو مخلص واثق في الله سبحانه وتعالى أم لا؟(148/8)
ما عند سليمان من الأعوان هو من فضل الله
إن العفريت الذي قال: إنه سيأتي بالعرش قبل قيام سليمان من مجلسه قال: إنه قوي على هذا الشيء، وأنا أمين لست بخائن فآتيك بهذا الشيء ليس بغيره، وأما الآخر فقال: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} [النمل:40]، أي: علم بكتاب الله الذي أنزله على موسى عليه الصلاة والسلام، وبالصحف التي أوتيها داود قال: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، يعني: أغمض عينيك وافتحها وستجده أمامك.
وهذه السرعة ليست في قدرة إنس ولا جن أن يفعلوا ذلك، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى، فهذا العبد سأل ربه فاستجاب له وأتى بهذا العرش إليه.
وكان سليمان عليه الصلاة والسلام واثقاً من ذلك، فهذا عنده علم من الكتاب.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ} [النمل:40]، أي: رأى العرش حالاً أمامه: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40].
أي: فليس بقوتك ولا بقوته، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى أن علمنا الكتاب، وسخر لنا الإنس والجن والدواب، وسخر لنا هذا من فضله سبحانه، فهذا تفضل الله علي وما عطاءه ذلك لي إلا ابتلاءً وامتحاناً منه سبحانه، وما قال بفضلي وقدرتي لأنني ملك أو نبي، بل قال: هذا اختبار من الله عز وجل هل سأشكر أم سأكفر؟ ليعلم الناس أنه مهما أعطاكم الله من نعم فاشكروا الله سبحانه وتعالى، ومهما أعطاكم الله من نعم فاعلموا أن الذي يعطي قادر على أن يسلب ويأخذ.
فإذا أعطاك الله فإنما يبتليك هل تشكر أم تكفر؟ فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، وهذه قراءة الجمهور، ومنهم من يمد ومنهم من يقصر، وقراءة نافع وأبي جعفر: {لِيَبْلُوَنِيَ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40].
وعاقبة الشكر منفعة، فإنما أشكر الله عز وجل لأنتفع أنا، فلن ينتفع الله عز وجل بشكري شيئاً، ولن يزداد بحمدي ولا بشكري ولا بعبادتي شيئاً، فأنا أحمد الله لنفسي لأنتفع أنا.
وانتفاعي هو كما قال الله سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] أي: إن تشكر الله عز وجل يزدك من هذه النعمة ومن هذا الفضل، ولذلك سليمان عليه الصلاة والسلام يقول: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل:40]، ومن كفر وجحد نعمة الله ونسب الفضل لنفسه كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
وأصل الكَفر: الستر، وكفر الشيء بمعنى: ستره وغطاه، فالذي يكفر بالله كأنه يغطي النعم ويحجبها ويقول: ليست من عند الله، بل هي مني أنا، فأنا الذي أتيت بها، وأنا أستحق ذلك، وينسى ربه ويكفر، قال سبحانه: {وَمَنْ كَفَرَ} [النمل:40]، قال سليمان: {فَإِنَّ رَبِّي} [النمل:40] أي: الله الذي أعبده والذي خلقني: {غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
أي: غني عن العباد وعن عبادتهم، كريم سبحانه يعطي من شكر ومن كفر سبحانه وتعالى، ولذلك لما دعا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة:126]، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام، فلم يقل: ارزق المؤمنين الذين يعبدونك، وارزق الكفار الذي يجحدونك ويسبونك، بل كان الأدب من إبراهيم أن قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ} [البقرة:126]، ثم توقف عند مقام الأدب عليه الصلاة والسلام، فأجاب الله بكرمه سبحانه قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة:126]، فالمؤمن يتأدب في دعائه لربه سبحانه وتعالى، والله يفعل ما يشاء، قال سليمان: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، فهو سبحانه تبارك وتعالى يكرم خلقه بما يشاء، فيكرم بالإيمان فيهدي من يشاء من خلقه سبحانه.(148/9)
تفسير قوله تعالى: (قال نكروا لها عرشها وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)(148/10)
مراد نبي الله سليمان من تنكير عرش بلقيس
عندما جاء العرش إلى سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41]، أي: غيروا من هذا العرش لونه، وغيروا الذهب فانقلوه من مكان لمكان، والنكر: هو عكس المعروف، وهذا شيء نكر أي: منكر، فأمرهم أن يغيروه لكي يعرف هل هي ذكية فطنة حكيمة تفهم أم لا؟ فلعلها إذا فهمت ذلك عرفت قدرة الله سبحانه، فرجعت إلى ربها سبحانه.
فإذا فهمت أن الله يؤيد المؤمنين بهذه المعجزة، وهي: إتيانهم بهذا العرش من هذا المكان إلى هذا المكان فستؤمن، وإذا كانت مكابرة فستنظر إلى العرش وهي تعلم أنه عرشها ثم تقول: ليس لي؛ لتنكر هذه الآية وهذه المعجزة، وإذا كان فيها خير فستصدق وستؤمن أنه نبي مؤيد بالمعجزات، وستدخل في دين رب العالمين سبحانه.
فأراد أن ينظر إلى عقلها وإلى حكمة هذه المرأة وذكائها، فقال: {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:41] وكأنه يريد أن يقيس شيئاً على شيء، فإذا اهتدت لهذا العرش فسنأمل أن تهتدي إلى ربها، وأن تسلم، وأن تدخل في دين رب العالمين سبحانه، فاختبرها بشيء ليدله على شيء آخر وراء ذلك.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْ} [النمل:42]، عرض عليها هذا العرش وقال أحد الجنود: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل:42]، فنظرت إليه وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، أي: كأنه عرشي جاء إلى هذا المكان، وكانت عاقلة، فإنها لو قالت: هذا عرشي فمن المؤكد أنها لم تنتبه للتغير الظاهر فيه، ولو قالت: ليس هو لكانت لم تسمع عن عرش آخر كعرشها بهذه الفخامة والزخرف الذي فيه، فلما تغير ما عليه والمنظر منظر عرشها، توسطت في الجواب بذكاء وقالت: {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42].(148/11)
سبق الأنبياء للعلم بالوحي
قال تعالى: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل:42]، ويحتمل أنه من قول سليمان عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أنه من قولها هي، فالهاء في (قبلها) عائد على معجزة الإتيان بالعرش من هذا المكان إلى هذا المكان في لمح البصر وطرف العين، فكأن سليمان يقول: من قبل هذه المعجزة قد أوتينا العلم برب العالمين سبحانه وبقدرته العظيمة سبحانه، فقد آتانا الكتاب وعلمنا الصواب وأرشدنا، وسخر هذه الجنود تحت أيدينا.
فالعلم بالله عز وجل سابق عندنا، وهذه المعجزة شيء من فضل الله سبحانه وتعالى، فمن قبل هذه المعجزة نحن نعلم ربنا سبحانه وتعالى، هذا إذا كان من قول سليمان.
وأما إذا كان من قول المرأة، فكأنها لما رأت هذه المعجزة قالت: هذه آية فعلاً، ونحن قد أوتينا العلم من قبل ذلك بأنك نبي، فمن ساعة أن قرأنا رسالتك وأسلوبك في الكلام عرفنا أنك نبي قبل هذه الآية التي رأيناها أمامك.
فعلى هذا قال لها: ما هو الذي يمنعك أن تسلمي من ساعتها، فقال سبحانه: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل:43]، يعني: إن الذي صدها قبل ذلك عن أن تؤمن مع سليمان عليه الصلاة والسلام هواها، وما كانت فيه من ملك، وما كان عليه قومها من عبادة غير الله سبحانه، والإنسان عندما يجد في قومه شيئاً معيناً يخاف أن يخالفهم فيضيع منه ملكه، فلا يعمل ذلك الملوك إلا ما كان من النجاشي رضي الله عنه.(148/12)
إسلام النجاشي
وهذا النجاشي هو أصحمة ملك الحبشة، وهو من الملوك الذي عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حق، فأسلم هو وقومه، وأظهر إسلامه للنصارى من قومه، وإن كرهوا ذلك منه، وأخبر أن جعفراً رضي الله عنه ومن معه قالوا في المسيح عليه الصلاة والسلام القول الحق، وقد أراد كفار قريش الوقيعة بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب ومن معه من المهاجرين من المؤمنين في الحبشة ففشلوا.
فقالوا للنجاشي: إنه يقول قولاً سيئاً في المسيح عليه الصلاة والسلام، فأرسل إليهم: ماذا تقولون في المسيح؟ فجاء جعفر بن أبي طالب ومن معه من المؤمنين إلى النجاشي وقال: نقول في المسيح عليه الصلاة والسلام -وكان هو وجمع معه من الرهبان والأحبار والكبار في مملكته، وقد اجتمعوا ليسمعوا ما يقول هؤلاء- فقالوا: المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهو عبد الله ورسوله.
فلما قال ذلك نخرت الرهبان، فقام النجاشي وقال: والله ما زاد المسيح على ما قلتم، وأخذ حصاة أو شعرة من الأرض وقال: ما زاد المسيح على ما قلتم، ثم قال: وإن استكبرتم وإن أنفتم يا مشركون! وإن أنفتم يا نصارى! فالمسيح كما قالوا، فلا أعبد إلا الله، ولا أحمد إلا الله الذي رد علي ملكي، وقد كان بعض النصارى خرجوا عليه بملك آخر فأخذ منه ملكه وتركه الناس، وكاد أن يضيع منه ملكه، ثم رده الله سبحانه وتعالى عليه.
فقال: لا أحمد أحداً إلا الله، ولا أقول في المسيح أكثر مما قاله هؤلاء، ولو كنت أقدر أن أذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأغسل عن قدميه لفعلت ذلك، ولو كنت أقدر أن أسافر إليه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكن الأمر صعب ويكفيه ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد آوى هذا الحبشي المسلمين، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم وكيله في أن تزويجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت مهاجرة عنده في الحبشة، فهو الذي دفع مهر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
أما غيره من الملوك فلا يوجد فيهم أحد أتاه خطاب من النبي صلى الله عليه وسلم إلا ورده رداً جميلاً دون أن يسلم، وبعضهم مزق الرسالة التي جاءته من النبي صلى الله عليه وسلم.(148/13)
حوار هرقل لأبي سفيان
من أذكى هؤلاء الملوك الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم هرقل عظيم الروم، فقد كان رجلاً ذكياً جداً، وكان منجماً ذا عقل عجيب جداً.
فسأل من عنده عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان عنده أبو سفيان، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم حوالي عشرة أسئلة يعرف بها صدق ادعائه للنبوة من عدلها، فسأل أسئلة تدل على فطنته وعلى عقله، فقال: هل كذب هذا الرجل عليكم قبل ذلك؟ قال: لا ما كذب قبل ذلك.
قال: لو كان كذب قبل ذلك لقلنا يكذب، فكيف يدع الكذب على الناس ويكذب على الله سبحانه وتعالى؟ ثم قال: هل كان من آبائه ملك؟ قال: لا، ما كان في آبائه ملك، قال: لو كان من آبائه ملك لقلنا: يطلب ملك أبيه.
ثم قال: هل قال هذه المقالة أحد من قبله؟ قال: لا، لم يقلها أحد من قبله، قال: لو قالها أحد من قبله لقلنا: يستن بهذا الذي من قبله.
وظل يسأله حتى قال: هو رسول رب العالمين، وهذا الرجل كاد أن يسلم، فقد جمع كبار القوم بداخل القصر، وأمر أن يغلقوا عليهم أبواب القصر لكي لا يخرج أو يهرب أحد، وقال لهم: إني أدلكم على أمر رشد فهل لكم في طاعتي؟ قالوا: فبماذا تأمر؟ قال: أطيعوا هذا الرجل، إنه رسول رب العالمين.
فصاحوا ونخروا وجروا إلى الأبواب، وقد كان أقفل عليهم الأبواب فناداهم وقال: تعالوا تعالوا إنما كنت أمتحنكم فقط، ولما وصل الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ظن بملكه) يعني: عرف الحق، ولكن ظن بملكه عن أن يسلم، أي: أنه إذا أسلم ضاع عليه ملكه.
وهذا مع عقله ولكنه طمع في الدنيا، فالإنسان قد يدفعه ملكه وماله ومنصبه إلى البعد عن الله سبحانه وتعالى؛ خوفاً من أن يضيع منه ذلك، فكأن بلقيس كانت كذلك، فعبدت الشمس من دون الله مع قومها، وكأنها عرفت الحق، لكن صدها الذي كانت تعبده من دون الله وقومها أيضاً، فخافت وظلت على ما هي فيه، فصدها هذا عن عبادة رب العالمين.
قال تعالى: {إِنَّهَا كَانَتْ} [النمل:43]، وكأن (إنها) هنا تعليلية؛ أي: لأنها كانت من قوم كافرين.
فقومها كانوا كافرين، فكان الصد لها أكبر، ولعلها إن تركت هؤلاء القوم يخرجونها ويأخذون منها ملكها، فقال لها سليمان عليه الصلاة والسلام، أو قيل لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، وهذا الصرح صنعه الجن لسليمان عليه الصلاة والسلام بأمره، وكان يبدو وكأنه قصر على الماء فيه صحن واسع يدخل منه من يدخل على هذا المكان فوق الماء، والصرح الممرد يعني: المصنوع من شيء رقيق، بحيث يظهر ما بداخله، وكأنه قوارير.
فهذا صرح ممرد من قوارير يعني: مصنوع من زجاج في غاية الصفاء، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل:44]، ولما قيل لها ذلك نظرت وتحيرت أهل تدخل في الماء؟ فنظرت إلى الماء وكشفت عن ساقيها لتدخل، فمن شدة صفائه ظنت أنه يأمرها أن تغوص في الماء، فكشفت عن ساقيها، فقال لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44]، وسليمان عمل ذلك لترى آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى، فقد رأت كيف أتي بالعرش من مكان إلى مكان، وآية أخرى وهي أنه بنى صرحاً فوق الماء بحيث أنها ترى الماء تحته، فهي الآن أمام معجزة أكبر، فكشفت عن ساقيها ولم تصدق أن هذا شيء غير الماء.
فلما قال لها ذلك قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:44]، أي: أعلنت أنها مؤمنة واعترفت بأنها ظلمت نفسها، فعرفت الحق ووحدت الله سبحانه، وعرفت الآن أنه الرب الذي لا إله إلا هو، وأنها ستعبده مع سليمان ومع قومه المؤمنين.
وعندما قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل:44]، فكأنها اعترفت بكفرها وبظلمها لنفسها بعبادة غير الله سبحانه، ثم قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل:44]، أي: أسلمت لله مع سليمان، ولم تقل: أسلمت لسليمان، فالطاعة إنما هي لرب العالمين سبحانه، وأعلنت أنها أسلمت للإله المعبود الذي يستحق العبادة، الخالق لكل شيء.
وقد ذكر المفسرون عدة أسباب لكشفها ساقيها، وقد ذكر الله سبحانه أنها رأت لجة من الماء فكشفت عن ساقيها، فنحن نقف مع نص القرآن ولا نزيد على ذلك، فلسنا بحاجة لأكثر من ذلك من خرافات يذكرها البعض، أو إسرائيليات نحن في غنىً عنها.
فالذي جاء في القرآن: أنه صرح ممرد في غاية النقاء والصفاء، فكأنها لم تر أمامها إلا الماء، فلما وضعت قدمها عرفت أنه زجاج وليس من ماء، وتلك قدرة ربانية وآية من الآيات، وليس السبب من كشفها لساقيها: أن يرى هل في ساقها شيء أم لا؟ فإن هذا نبي معصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وعظمة ذلك الصرح تظهر في أنه خفي عليها ذلك، ولم يخف عليها العرش.
فقيل لها: {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل:44]، فدخلت الصرح واعترفت بأن الرب الخالق سبحانه هو الذي يستحق العبادة، وأما هل تزوجها سليمان أو زوجها لأحد جنوده، أو أرجعها إلى قومها؟ ف
الجواب
أن القرآن لم يهتم بهذا الشيء، وكونه لم يذكره فإنه دليل أنه لا أهمية له، فلا حاجة لنا إلى أن نتتبع ما ذكره المفسرون في ذلك، ولا نذكر إلا ما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ونكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(148/14)
تفسير سورة النمل [45 - 49]
ما أرسل الله من نبي إلا وأمره بإرشاد قومه إلى عبادة الله وحده ونبذ ما سواه، وما قام نبي من أنبيائه جل وعلا بهذه المهمة إلا وكان الناس معه على طائفتين: طائفة آمنت وصدقت وناصرت نبيها، فنالت من ربها الخير والرضوان، وطائفة عتت وتجبرت، وكفرت وحاربت، فجوزيت بالنيران جزاء وفاقاً، وما كان ربك بظلام للعبيد.(149/1)
فوائد تكرار القصة في أكثر من موضع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:45 - 49].
هذه قصة يذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة النمل بعد أن ذكر قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في أول هذه السورة، ثم قصة سليمان مع ملكة اليمن بلقيس، ثم ذكر قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذه القصة تكررت في القرآن في مواطن مع غيرها من القصص، وإن كانت هنا أفردت بالذكر عن غيرها مما يذكر معها عادة، كقصة لو مع قومه مثلاً، وقصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام، فذكر هنا قصة ثمود فقط، ثم ذكر بعدها قصة قوم لوط.
وقصة ثمود تكررت إما مطولة كما يذكر الله عز وجل في سورتي الأعراف وهود وغيرهما، أو أنها كهذه السورة وسط، وفيها شيء لم يذكر في غيرها من السور، أو يختصرها كما يشير إليها في سورة القمر مثلاً أو في سورة الحاقة.
فهنا في هذه السورة يذكر جزءاً زائداً على ما في غيرها من قصص القرآن وهو قوله سبحانه: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، حيث يريد أن يرينا سبحانه وتعالى عاقبة المفسدين، وكيف أن الإنسان المفسد يحيق به مكره، كما قال تعالى: {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، والإنسان الذي يتعزز ويتقوى بنفسه ورهطه، وبمكره وكيده وقوته، يأتيه الله عز وجل من حيث لا يحتسب، فإذا ظن أنه قد أمن أتاه مكر الله وعذابه سبحانه، وحيث يظن أنه قوي أتاه من قوة الله ما لا طاقة له بها، فعلى الإنسان أن يحترز من أن يستضعف إنساناً مؤمناً، أو يفعل بقوته ومكره شيئاً يغضب الله سبحانه، أو أن يكله إلى نفسه سبحانه وتعالى.
وقوم ثمود كانوا بين الحجاز والشام، في منطقة تسمى حجر ثمود، يمر بهم الذاهبون إلى بلاد الشام حال كونهم خارجين من الحجاز، ولقد أرسل الله إليهم نبيهم صالحاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حيث قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، فدعاهم إلى الله سبحانه، وتقدم في سورة الشعراء كيف أنه قال لهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:146 - 152].
فكان الجواب من هؤلاء الكفار لنبيهم أن قالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:153]، يعني: فإما إنك بشر مثلنا، لك صدر ورئة مثلنا، أو أنك رجل مسحور لا تدري ما تقول، فالله عز وجل ذكر هناك شيئاً، وذكر هنا شيئاً آخر، والقصة واحدة، ولكن أسلوب القرآن البديع أنه إذا كرر القصة في مواطن أتى بشيء جديد في كل موضع من المواضع؛ لأجل أن يشدك إلى سماع هذه القصة التي يسوقها ربنا سبحانه.(149/2)
دعوة نبي الله صالح لقومه وشفقته عليهم
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النمل:45]، النون نون العظمة هنا، والرسول ما جاء إلا من عند الله الواحد سبحانه، لكنه عبر بنون الجمع؛ ليدل على عظمة رب العالمين سبحانه، وفيه إشارة إلى أن الرسول ليس وحده، بل معه قوة رب العالمين سبحانه، يؤيده بملائكة وجند من عنده، والناس استضعفوه عليه الصلاة والسلام، وظنوا أنه ضعيف فأرادوا أن يكيدوا له، فانظروا كيف صنع بهم ربنا.
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل:45]، أي: يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، و (أن) هنا: تفسيرية للفعل أرسلناه، وكأن المعنى: أرسلناه بأن {اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل:45].
و (أن) أكثر من قراءة، حيث يقرؤها أبو عمرو ويعقوب وحمزة وعاصم بالكسر، وباقي القراء يقرءونها بالضم (أنُ اعبدوا الله).
فالنتيجة: إذا هم فريقان يختصمون، فريق المؤمنين وهم الأقل حيث كانوا أربعة آلاف، أما الكفار فكانوا كثيرين جداً، ولذلك قال الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، فإذاً الناس فريقان: فريق المستكبرين وهم الكفار، وفريق المستضعفين وهم من الكفار ومن المؤمنين، فالذين آمنوا هم الضعفاء وليسوا الأقوياء، فهؤلاء القلة المؤمنة قال لهم الكفار: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75]، قال هؤلاء المؤمنون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:75 - 76]، يعني: أنتم آمنتم بهذا الرسول وآمنتم بربه، أما نحن فنكفر بما قلتموه.
وهنا يقول الله سبحانه: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، أي: فريق المؤمنين وهم الأقل، وفريق الكفار الذين يجادلون بالباطل، والذين يملكون أسباب القوة في الظاهر، وقوله: {يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، أي: يتجادلون، فالكفار يقولون: أنتم تؤمنون بهذا؟ والمؤمنون يقولون: آمنا به إنه الحق من ربنا.
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ} [النمل:46]، والقائل هنا: هو النبي صالح عليه الصلاة والسلام، وفي قوله: ((يَا قَوْمِ)) شيء من تليين القلوب، يعني: أنا منكم وأدعوكم للخير، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، ولم: للاستفهام، وليست موضع وقف، لكن إذا وقف عليها جمهور القراء يقولون: لم، وإذا وقف عليها البزي، وابن كثير ويعقوب قالوا: لمه، استفهامية بهاء، وقوله: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، كأنه يقول لهم: لم تستعجلون عذاب ربكم قبل رحمته سبحانه؟ بل آمنوا بالله سبحانه وتعالى تدرككم رحمة الله سبحانه وتعالى.
فقال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:46]، أي: بجلب عذاب رب العالمين أي: بكفركم، دون أن تتفكروا في هذا الدين العظيم الذي جئتكم به، قال: {لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، أي: باستعجال ما يسوؤكم قبل أن تأتيكم رحمة رب العالمين، ولم تذنبون وتكفرون ثم تنتظرون منه الرحمة؟ وقوله تعالى: {لَوْلا} [النمل:46]، بمعنى: هلا، وهي للتحضيض والحث، والمعنى: هلا استغفرتم الله بدلاً من ذلك؟(149/3)
أحوال الكفار مع أنبيائهم
قال تعالى: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، أي: لعل الله يرحمكم ويغفر لكم هذا الذي أنتم فيه، فكان الجواب منهم كعادة الكفار حيث قالوا: تطيرنا بك وبمن معك، بمعنى: تشاءمنا منك، وأنت شؤم علينا، وهذه عادة الكفار؛ إذ التشاؤم ليس من طبيعة المسلم.
وأصل التطير: التطيير، حيث كان الشخص منهم إذا أراد أن يعمل عملاً أخذ طائراً فأطلقه في الهواء، فإن طار شمالاً تشاءم منه، وإن طار يميناً تفاءل، واعتقد أن هذا يوم يمن وبركة، فحرم ربنا علينا ذلك، وما يصنع طير الطائر بأمر قضاه الله وقدره سبحانه؟ وما أدرى الطائر أن هذا الأمر خير أو شر؟ ومن الناس من يتشاءم بأمور أخرى، فبعضهم إذا سمع نهيق الحمار تشاءم، والبعض يتشاءم بصوت البوم، وآخرون بنقيق الضفادع، مع أن هذه الأشياء لا تملك لنفسها شيئاً فضلاً عن أن تملك لغيرها، ولا تعلم غيباً عن نفسها فضلاً عن أن تعلم لغيرها غيباً، فلا يحل لإنسان مؤمن أن يتشاءم من ذلك إذا سمعه.
وكثير من الناس عندهم عادة سيئة، فالشخص منهم إذا سمع صوت عصفور بالليل على بيته أو غراب يصيح تشاءم، والبعض منهم يقول: هذا خير؛ من أجل أن يمنع التشاؤم عن نفسه، فهذا غير جائز؛ إذ لا يملك هذا خيراً ولا شراً، وما يصيح هذا إلا لأمر من أمر الله عز وجل، أما أنه يملك خيراً أو شراً فلا يملك ذلك، إلا ما جاء في نهيق الحمار بالليل، أو نباح الكلاب (إنها ترى ما لا ترون)، حيث أنها ترى شيطاناً، أما أنها تملك لكم شيئاً في القدر، وأن من وراء ذلك خيراً أو شراً فلا.
فهؤلاء القوم {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} [النمل:47]، بمعنى: تشاءمنا، فهم مع جهلهم وغبائهم يستدلون على بطلان دينه عليه الصلاة والسلام بزعمهم باتباع الضعفاء له، إذ لو كان دينه حقاً لاتبعه الأقوياء، قال تعالى: {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [النمل:47]، أي: إذا كنتم تقولون بالشؤم في الدنيا فشؤمكم الحقيقي نار جهنم عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
فقد قال لهم: {طَائِرُكُمْ} [النمل:47]، أي: ينتظركم عند الله.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، أي: قد أهلككم الله سبحانه وأصابتكم فتنة فلا تفهمون، وفتنة الإنسان قد تكون في دينه، وقد تكون في اعتقاده صواب رأيه، فهم يفتنون حيث مالوا عن الحق إلى الباطل في آرائهم، وطمست قلوبهم فهم لا يعقلون ولا يفهمون، قال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، وسوف يأتيكم الامتحان من رب العالمين سبحانه فيعذبكم بذنوبكم.(149/4)
ذكر قصة رهط قوم ثمود مع نبيهم
قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، وهذه هي الزيادة المذكورة في هذه السورة الكريمة، حيث كان في هذه البلدة تسعة رهط، والرهط يطلق على ما دون العشرة من الرجال، فكانوا تسعة من كبار القوم وأشرافهم، وقيل: بل أدنى، وكبار القوم أناس متعززون بآبائهم، والدين عندهم هو المال، فكانوا مفسدين كعادة أبناء أكابر القوم، فكان هؤلاء يفسدون في الأرض ولا يصلحون، بل لم يكن عندهم شيء من الصلاح، بل فيهم تهور واندفاع، والناس يتبعونهم على ذلك.
قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49]، يعني: كأنهم يحلفون وقد عرفوا الله سبحانه وتعالى، وعرفوا أنه الرب سبحانه وتعالى، فحلفوا به وأشركوا به سبحانه، وأهل الجاهلية كانوا يحلفون باللات محرفة عن الله، ويحلفون بالعزى محرفة عن العزيز، فعرفوا أنه سبحانه هو الذي يخلق، ولكن عبدوا معه غيره، فهؤلاء كذلك، عرفوا الله سبحانه، ولكنهم أشركوا به وعبدوا غيره سبحانه وتعالى، فلما حلفوا بالله تقاسموا فيما بينهم على صنع عمل ما، ثم ينكرون أنه من صنيعهم، قال تعالى: {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل:49]، وهذه قراءة الجمهور.
أما قراءة حمزة والكسائي وخلف فهي: (لتبيتنه وأهله ثم لتقولن لوليه ما شهدنا) والتبييت: القتل بالليل.
والمعنى: أنهم اتفقوا على قتل نبي الله صالح وأهل بيته بالليل؛ حتى لا يفشو سرهم، والذي جعلهم يقولون هذا الشيء هو أن نبيهم عليه الصلاة والسلام توعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا بعد إخراج الناقة من الجبل، وكانوا قد طلبوا منه هذه المعجزة تعنتاً، ووعدوه بالإيمان به إن حصلت هذه المعجزة، فلما حصلت المعجزة كاد القوم أن يؤمنوا، إلا أن كبراءهم كانوا يمرون عليهم ويقولون: تتركون دينكم وتتبعون هذا الرجل! فما آمن معه إلا قليل من ضعفاء القوم، أما بقيتهم فظلوا على كفرهم، إذ منعهم طغيانهم ومنعهم هؤلاء المفسدون، فلما جاءت هذه الناقة قال لهم نبيهم: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، يعني: البئر الذي عندكم تشرب منه يوماً وتعطيكم لبناً يكفيكم، واليوم الثاني تشربون أنتم، فظلوا على ذلك خائفين أن يعملوا بالناقة شيئاً ينزل عليهم العذاب من السماء، فلما طال عليهم الزمن إذا بهم يرجعون عن ذلك الخوف، ثم يتشاور بعضهم على قتل الناقة، فقام أشقى القوم واسمه قدار بن سالف، وذهب إلى الناقة فرماها بسهمه فقتلها، وأراد قتل ابنها فلم يقدر على ذلك، ففرحوا بهذا الشيء فكأنهم اشتركوا جميعاً في قتلها، وقد قال لهم نبيهم: {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:156]، فعقروا الناقة فإذا به يقول: انتظروا العذاب بعد ثلاثة أيام، فاجتمع هؤلاء النفر التسعة وقالوا: سيأتينا العذاب بعد ثلاثة أيام، فلم لا نقتله قبل هذا الوقت فنكون قد أخذنا بنصيبنا منه؟ فتقاسموا على أن يصنعوا ذلك، وذهبوا إليه في بيته ليقتلوه، فكان ما أخبر الله عز وجل عنهم في الآيات التي تليها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(149/5)
تفسير سورة النمل [48 - 53]
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فافترقوا إلى قريقين: فريق المؤمنين وهم القلة، وفريق الكافرين وهم الأكثر، وأخبر عن طغاة ثمود ورءوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الكفر والضلال، والذين آل بهم الأمر إلى أن عقروا الناقة، وهموا بقتل صالح أيضاً، بأن يبينوه في أهله ليلاً فيقتلوه غيلة، فعاجلهم الله عز وجل بالعقوبة فأهلكهم، ثم أهلك قومهم بعدهم أجمعين.(150/1)
قصة صالح عليه السلام مع قومه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:48 - 53].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة صالح النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه ثمود، وكيف أن الله سبحانه وتعالى أرسل صالحاً إلى ثمود ليدعوهم إلى عبادة الله سبحانه، وكانوا قوماً كفاراً يفعلون المعاصي ويخربون ويفسدون، فلما أرسل الله سبحانه وتعالى صالحاً إليهم ليدعوهم لعبادة الله سبحانه وطاعته قال لهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، يعني: فريق المؤمنين الذين مع صالح وكانوا الأقلية والضعفاء من القوم، وفريق الأكثرية والأغلبية وهم الكفار: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)، كما عبر الله عز وجل في موضع آخر: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [الأعراف:75]، أي: الذين كفروا هم المستكبرون، والذين آمنوا هم المستضعفون، فقال الكفار الذين استكبروا للمؤمنين المستضعفين: {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف:75] أي: أتستيقنون من ذلك أم أتظنون ذلك؟ فقال المؤمنون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف:75]، فقال الكافرون: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف:76]، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف:77]، وكانوا قد طلبوا من صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يأتيهم بآية يشاهدونها، وبمعجزة يستيقنون منها أنه نبي، فلما أتاهم بهذه الآية من عند الله سبحانه كادوا أن يؤمنوا بصالح النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يزل المستكبرون وكبار القوم يصدونهم عن الإيمان حتى كان الأقل هم المؤمنين، والأكثرية هم الكافرين.
فيقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45]، يعني: يتجادلون في أمر صالح، الفريق الضعيف وهم المؤمنون والفريق القوي الغالب وهم الكافرون، فقال صالح لقومه يحذرهم من كفرهم وطغيانهم وعصيانهم، وقد أعطاهم الله عز وجل جنات، وأعطاهم عيوناً وزروعاً وثماراً، وأعطاهم نخيلاً طلعها هضيم، وأشياء عظيمة من الله عز وجل بها عليهم، فإذا بهم يصرون على كفرهم، فقال: {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [النمل:46]، أي: لِمَ تستعجلون بفعل المعاصي نقمة الله وعذاب الله، بدلاً من أن توحدوا الله فتستعجلون بالحسنة جنته والنعم التي تنزل عليكم؟ لم تستعجلون عذاب الله سبحانه ولا تستعجلون رحمته؟ ثم قال لهم: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ} [النمل:46]، فدعاهم للتوبة والاستغفار، لعل الله أن يرحمهم، فإذا بهم يتشاءمون منه، ويعلنون له ذلك: {(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} [النمل:47]، قال: شؤمكم عند ربكم، يعني: ما تظنونه شؤماً في الدنيا وهو توحيد الله والدعوة إلى الله عز وجل، فشؤمكم الحقيقي ما يكون بعذابكم يوم القيامة من أعمالكم السيئة؛ لأنكم تستحقون أن توصفوا بذلك فأنتم أهل شؤم وأهل فساد، فتستحقون العقوبة من الله سبحانه وتعالى، فطائركم نتيجة كلامكم ومعصيتكم وإفسادكم العذاب عند الله، هذا هو الطائر وهذا هو الشؤم الحقيقي لكم، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل:47]، أي: أن الله يمتحنكم بأن أعطاكم القوة والغنى، وجعل المؤمنين هم الضعفاء.(150/2)
تفسير قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون)
قال الله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، يذكر الله سبحانه قصص الأنبياء في مواطن من كتابه، في كل موضع يذكر ما يليق بقصة النبي في هذا الموضع، فهنا في قصة ثمود مع نبيهم صالح ذكر هذه الزيادة التي لم تذكر في هذا الموضع من مواضع القرآن، وهي: أنه كان في هؤلاء القوم تسعة رهط يمشون في الأرض بالفساد، واستكبروا غاية الاستكبار، وتبعهم الناس على ذلك فكانوا مفسدين.
فقوله: ((يفسدون في الأرض)) أي: يأمرون بالفساد، (ولا يصلحون) أي: ليس عندهم إصلاح، ولكن يفعلون الفساد ويأمرون به أيضاً، فأخبر الله سبحانه وتعالى عن هؤلاء أنهم عملوا خطة مع بعضهم، فقال بعضهم لبعض: اكتموا وأسروا ذلك حتى لا يعلم أحد بالذي اتفقنا عليه، واحلفوا على ذلك، واقسموا بالله ألا يقوم أحد منكم فيخبر القوم بما اتفقنا عليه، قال تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49]، يعني: لنقتله بالليل في الظلماء هو ومن معه في الدار، بحيث لا يدري أحد أننا فعلنا هذا الشيء: ((لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ)) يعني: نذهب نحن التسعة فنقتله، مثل ما قام قدار وعقر الناقة قبل ذلك، فنبيكم هذا قال: إننا سنعذب بعد ثلاثة أيام فقبل أن يأتينا العذاب نقتله هو وأهله ثم نقول: ما رأينا ولا عرفنا شيئاً، وإذا كان صادقاً وجاء العذاب فيكون قد استرحنا منه في البداية وتشفينا منه، وإذا لم يأتنا العذاب يكون قد انتهينا من أمر هذا النبي، ((ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ)) أي: لولي دمه ولأقربائه الذين سيطالبون بدمه: ((مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)).
وقوله: ((لَنُبَيِّتَنَّهُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (لَتُبَيِّتُنَّهُ) يعني: قال بعضهم للبعض الآخر: (لَتُبَيِّتُنَّهُ)، كأنهم يقسمون على ذلك: والله لتفعلن ذلك: (لَتُبَيِّتُنَّهُ وأهله ثم لتقولُّن لوليه ما شهدنا مهلك أهله).
وقوله: ((مَهْلِكَ)) هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ويقرأ شعبة عن عاصم: ((ما شهدنا مَهلَكَ أهله)) وباقي القراء يقرءونها: ((ما شهدنا مُهلك أهله))، وكأن قراءة عاصم من الفعل الثلاثي من هلك، وقراءة الجمهور من الفعل الرباعي: أهلك، يأتي منها: ((مُهلك أهله)).
وعلى قراءة حفص عن عاصم: ((مَهْلِكَ أَهْلِهِ)) يكون بمعنى المكان الذي هلك فيه الأهل، وعلى القراءة الأخرى: كأنه موضع، يعني: لا نظرنا مكاناً، ولا حضرنا طريقة هلاكهم.
قوله: ((وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)) يعني: سيحلفون لهم أنهم صادقون في دعواهم عدم رؤية شيء، مع أنهم هم القتلة لو فعلوا.(150/3)
تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكراً أنا دمرناهم وقومهم أجمعين)
قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا} [النمل:50] أي: الذين دبروا الكيد هم تسعة وهو واحد عليه الصلاة والسلام، قالوا: نذهب إليه في بيته فنقتله هو وأهله من نساء وأولاد، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50]، المكر: هو الكيد الذي دبر في الخفاء، وهذا الإنسان الذي خطط في الخفاء يأتي بمن ينفذ له هذا الشيء، فهؤلاء دبروا في الخفاء وخططوا فذهبوا إلى بيت صالح عليه الصلاة والسلام فأرادوا قتله، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل:50]، فعبر بنون العظمة، فالله عز وجل العظيم سبحانه، فإذا كاد إنسان لأولياء الله سبحانه فالله يكيد له، والله عز وجل يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فكيف يصنع الله عز وجل بمن يؤذي الأنبياء؟! فذهب هؤلاء إلى بيت صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما وصلوا كانت الملائكة أسبق إلى بيت صالح عليه الصلاة والسلام، فقتلوا التسعة النفر، وقد ظنوا أنهم مجموعة وهو وحده، فذهبوا إليه فإذا بالملائكة تقتلهم جميعهم، قال تعالى: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [النمل:51]، أي: انظر وتأمل وتدبر في هذه الآية العظيمة من آيات رب العالمين سبحانه، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51]، فعبر بنون العظمة عن نفسه سبحانه وتعالى، أي: دمرنا هؤلاء ((وَقَوْمَهُمْ)) فجاء الدمار على هؤلاء، وبعد نهاية الثلاثة الأيام جاء الدمار على القوم جميعهم بصيحة أرسلها الله عز وجل عليهم، فقال هنا سبحانه: ((فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ))، والعاقبة: هي النتيجة، فالإنسان قد يخطط ويظن نفسه قادراً وينسى قدرة الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه بذلك، فقد ورد في قصة أبي مسعود البدري رضي الله عنه: (أنه كان يضرب عبداً له، والنبي صلى الله عليه وسلم من ورائه، ويقول: اعلم أبا مسعود، وأبو مسعود لم يسمع الصوت وما زال يضرب الغلام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: اعلم أبا مسعود - أي: انتبه أبا مسعود - فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كف عن الضرب، فقال: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه)، يعني: إذا كنت قادراً عليه؛ لأنه ضعيف، فالله أقدر عليك منك عليه.
إذاً: فالإنسان يتذكر وهو في وقت غضبه وفي وقت تهوره، أنه إذا فعل شيئاً فإنه سيفعل به يوماً من الأيام، إن لم يكن في الدنيا فعذاب الآخرة أشد وأبقى.
فقوله: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} [النمل:51]: هذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وكذلك يعقوب، وقراءة باقي القراء: نافع وأبي جعفر وقراءة أبي عمرو وقراءة ابن عامر وابن كثير: ((إنا دمرناهم وقومهم أجمعين)).(150/4)
تفسير قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)
قال الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل:52]، أي: فانظروا إلى بيوت هؤلاء الأقوام كيف حاق بها الدمار، ونزل بهم عذاب ربهم سبحانه، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} [النمل:52]، وكما ذكرنا في هذه الكلمة وتكررت في مواطن كثيرة من القرآن أن فيها قراءتين: قراءة: (بُيوتُهم) وقراءة (بيِوتهم)، فقراءة (بُيُوتهم) يقرؤها ورش عن نافع ويقرؤها أبو جعفر ويقرؤها أبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم: ((فتلك بُيُوتهم)).
وباقي القراء يقرءونها بكسر الباء (بِيوتِهم)، وهذا يتكرر فيها وفي غيرها من أمثالها، كبيوت، وشيوخ، وعيون، وجيوب، وأشياء من هذا القبيل ففيها الوجهان: الضم والكسر، وإن كان لفظ جيوب ليس في القرآن.
يقول: ((فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا))، (خاوية) منصوبة على الحال، أي: حالها أن تلك البيوت صارت خاوية؛ بسبب ظلمهم.
ثم قال: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))، أي: كل من عنده فهم يفهم، وكل من يمر على الديار فيرى آثار ثمود، فقد كانوا موجودين بين الشام وبين الحجاز، فعلوا كذا وكذا فجاءهم العذاب وأهلك الأقوام وبقيت البيوت شاهدة على من كان فيها في زمن من الأزمان، فكل من يعلم ذلك ليس عليه أن يؤمن فقط، بل لابد أن يعقل ويتفكر، ويعلم وعنده عقل يتفكر، يعلم أن هنا كانت ديار ثمود فأهلكهم الله بكفرهم.
قال الله تعالى: {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [النمل:53] أي: أهلك الله الكافرين وأنجى المؤمنين الأتقياء، وهذه سنة الله عز وجل في خلقه، فمهما تمكن الكفار أياماً وشهوراً ودهوراً فإنه في النهاية يمكن الله عز وجل للمؤمنين، حتى ولو كانوا مستضعفين، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
نسأل الله عز وجل أن يمكن للإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(150/5)
تفسير سورة النمل [54 - 59]
قص الله عز وجل في كتابه الكريم قصص الأنبياء مع أقوامهم، ودعوتهم لهم، وكيف أنهم أوذوا وطوردوا صلوات الله وسلامه عليهم، فلم يهنوا ولم يتراجعوا، بل صبروا وثبتوا حتى أتاهم نصر الله.
ولقد أكثر الله عز وجل من هذه القصص ليتدبرها المؤمن، ويستلهم منها الأسوة والقدوة والنموذج الذي يحتذي به في الدعوة، وقد حث الله عز وجل على ذكر القصص لما لها من قوة في شحذ الهمم، وتوجيه الإرادة، وهنا يقص الله عز وجل قصة لوط عليه السلام، وكيف دعا قومه، وصبر على أذاهم، وكيف آذوه حتى نصره الله عز وجل عليهم، وأهلك قومه.(151/1)
قصة لوط عليه السلام مع قومه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [النمل:54 - 58].
هذه هي القصة الرابعة في هذه السورة الكريمة سورة النمل، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها باختصار قصة لوط على نبينا الصلاة والسلام مع قومه إشارة، فقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، فلوط أرسله الله عز وجل إلى قومه يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى: أنه أتى قومه ودعاهم إلى عبادة الله، وذكرهم به، وذكرهم أنهم يقعون في الفاحشة التي لم يسبقوا بها قبل ذلك قط، ولم تكن تعرف هذه الفاحشة قبل هؤلاء الملاعين، لعنة الله عليهم، فقال لهم هنا: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، وذكر الله عز وجل في سورة الشعراء أنه جاءهم يدعوهم إلى الله سبحانه، وأن يعبدوا الله ويتقوه سبحانه، وقال لقومه عن هذه الفاحشة {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف:81]، أي: يأتون الرجال ويتركون النساء، فذكر أنهم قوم يجهلون، وأنهم قوم يفتنون، وأنهم يفعلون ذلك وهم يبصرون، فقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ} [النمل:54]، الهمزة للاستفهام والإنكار على هؤلاء، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [النمل:54]، الفعلة القبيحة والشنيعة والعظيمة {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، وكان لوط عليه الصلاة والسلام، وهو ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد هاجر من العراق إلى الشام، فسكن إبراهيم في الشام، وتوجه لوط إلى قرية من قراها وهي سدوم في فلسطين؛ ليدعو الناس إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، فوجدهم يأتون الفاحشة مع كفرهم بالله سبحانه وتعالى، فقال لهم: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، يعني: طريق الحق، أي: وأنتم تعرفون الحق من الباطل، وتعرفون أن هذا ليس محل النسل وليس محل الولد، وإنما تفعلون ذلك مكابرين مجاهرين بمعصيتكم لربكم، وأنتم تعلمون ذلك يقيناً؛ لأن الإنسان الذي يعلم قد يعلم مشاهدة، وقد يعلم غيباً، وهو لما قال لهم: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، يعني: تعلمون يقيناً كما أنكم ترون بأعينكم، فتعرفون أن هذا حرام، وتعرفون أن هذه فعلة شنيعة قبيحة لا يحل لكم أن تأتوها، قال: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل:54]، أنها فاحشة، وأنها من أعظم ذنوبكم.(151/2)
جرائم قوم لوط عليه السلام
قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55]، الهمزة للاستنكار والاستفهام، يقول: أتفعلون ذلك الفعل القبيح الشنيع، فتأتون الرجال دون النساء؟! وقوله: {أَئِنَّكُمْ} [النمل:55]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر وأبو عمرو: (آئِنكم) بالمد فيها، وقرأها ورش وابن كثير ورويس عن يعقوب {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ} [النمل:55]، بهمز ثم تسهيل بعدها.
وقرأها هشام بالوجهين، (آئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء)، و {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [النمل:55]، وهذه الأخيرة قراءة الجمهور.
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً} [النمل:55]، أي: تضعون شهوتكم في رجال مثلكم دون النساء اللاتي خلقهن الله عز وجل من أجلكم، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فهو قد دعاهم إلى الله عز وجل وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ولم تكن هذه المعصية هي معصيتهم الوحيدة، ولكنها كانت أشنعها، فذكرهم بها، ومنعهم منها، ونهاهم عنها.
ولم يكونوا يكتفون بفعل هذه الفاحشة مع أهل بلدهم، ولكن كانوا ينتظرون الغرباء أن يأتوا، فيستولون عليهم ويفعلون معهم هذه الفاحشة، لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، فقال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55].
أي: أهل جهل، كما يقال عن إنسان: فلان جاهل، يعني: أخلاقه سيئة، أي: فحشت أخلاقه، وكذلك هؤلاء، فعندما قال لهم: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، فإن الجهالة بمعنى: الفحش، وبمعنى: الوقوع في السيئات من الأعمال، وإلا فهم يعرفون أنها حرام؛ ولذلك ذكر الله عز وجل أن من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فالمؤمنون عباد الرحمن إذا مروا بجاهل ابتعدوا عنه، فإذا خاطبهم الجاهلون بلسان الأذى ردوا عليهم: سلاماً، أي: مسالمة ومتاركة بيننا وبينكم، فما لكم عندنا من شيء، فيتركونهم ولا يجيبونهم بمثل فحشهم وجهلهم وصخبهم واعتدائهم، وإنما يقولون: ((سَلامًا)).
إذاً: فهنا الجهل الذي هم فيه ليس هو عدم المعرفة، فهم يعرفون أنها حرام، ولكنها عدم معرفة من نوع آخر، وهو عدم معرفة الله سبحانه وتعالى، وعدم تقدير الله حق قدره كما قال الله سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، أي: أنهم عرفوا الله ولكن لم يعبدوه سبحانه حق العبادة، ولم يخافوا منه سبحانه وتعالى الخوف الحقيقي الذي يبعدهم عن معصيته سبحانه، وهذا من الجهل، وذلك مثل بني إسرائيل عندما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فـ ((تَجْهَلُونَ)) هنا ليس معناها: لم تعرفوا ربكم؛ فهم عرفوا ربهم، وهم يدعونه.
ولكن وصل الأمر بهم إلى أنهم لم يقدروا الله حق قدره، فأرادوا شيئاً مجسداً أمامهم حتى يعبدوه من دون الله سبحانه.
إذاً: فقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55]، من جنس هذه الجهالة، أي: أنهم لم يقدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى، ففعلوا هذه الفاحشة، وجهلوا ما وراء ذلك من عقوبة، أو تناسوا هذه العقوبة، فكأنهم كالجاهلين {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:55].(151/3)
تآمر قوم لوط على نبيهم لوط عليه السلام
ثم قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} [النمل:56]، أي: ما كان جواب هؤلاء الكفار الواقعين في هذه الفاحشة العظيمة إلا أن قالوا، وكأن هذا الذي قالوه هو جواب واحد فقط، وهو الجواب الذي ظل على لسانهم قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أي: أخرجوهم واطردوهم من البلد، فهذا هو الجواب الوحيد الذي ردوا به على لوط، وعلى من دعاهم إلى توحيد الله سبحانه، وإلى البعد عن هذه الفاحشة، وهو أن يطردوه خارج قريتهم، قال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، وكأنهم يظنون أنهم بطردهم للوط عليه الصلاة والسلام سيخلو لهم الجو، وسيبقى لهم الأمر يفعلون ما يشاءون ولا يعاقبون، وهنا تأتي العقوبة من حيث لا يحتسبون، ومن حيث يظنون أنهم في مأمن.(151/4)
انقلاب الموازين عند قوم لوط وأشباههم
قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ} [النمل:56]، وإن هنا: تعليلية، فكأن المعنى: بسبب أنهم ينهونكم عن المنكر، {إِنَّهُمْ} [النمل:56]، أي: لأنهم أناس يتطهرون، فإذاً: الجريمة التي فعلها لوط بزعمهم هي: أنه يتطهر عن هذه الفاحشة، وهنا كنظر الكثير من أهل الكفر والكثير من العصاة إلى الموحدين وإلى أهل الطاعة على أنهم على خطأ، فينظرون إلى الإنسان المتدين على أنه متزمت، ويقولون عن الإنسان الذي يعبد الله سبحانه ويتبع الكتاب والسنة: أصولي، مع أنها كلمة جيدة طيبة وليست سباً له؛ لأن كلمة أصول تعني: أنه يرجع إلى أصله من الكتاب ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هؤلاء بغبائهم وجهلهم يزعمون أن هذا الإنسان هو صاحب الأشياء القديمة من الزمان، ويتناسون ويتغافلون أن هذه الأشياء القديمة ما هي إلا الكتاب والسنة، كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ينفروا الناس عن هؤلاء ويقولون: هذا إنسان أصولي، وهذا إنسان رجعي، ويريد أن يرجعكم إلى القرون الوسطى.
والكتاب والسنة ليسا من القرون الوسطى، وإنما كان في القرون الوسطى محاكم التفتيش، التي كانت في أوروبا، والتي كانت تحاسب الناس على ما في ضمائرهم، ولو لم تبدو هذه الأشياء، فالعصاة يقلدون هؤلاء؛ لأنهم استوردوا منهم ذلك، فيقولون عن المسلمين المتمسكين بدينهم: إنهم يريدون أن يرجعوا إلى قرون الظلام، وقد أنزل الله إلينا نوراً من عنده سبحانه وتعالى.(151/5)
مجيء الملائكة إلى لوط عليه السلام
التشبه بالكفار عادة الكفار في كل زمان، فقوم لوط قالوا عن لوط ومن معه: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، ولم يكن مع لوط إلا ابنتاه، أما امرأته فكانت كافرة، وكانت تدل هؤلاء القوم على أضياف لوط عليه السلام، قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ} [النمل:56]، يعني: بسبب {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56]، أي: يتطهرون عما نحن فيه، وصاحب المعصية لا يحب أن ينظر إليه صاحب الطاعة في وقت معصيته، وإنما يريد إبعاده، كهؤلاء يريدون أن يطردوا لوطاً، مع أن وجود لوط في قريتهم كان رحمة من رب العالمين سبحانه بهم، فلم ينزل عليهم العذاب ولوط موجود بينهم، فأرادوا طرده، وفعل الله سبحانه وتعالى لهم ما أرادوا من إخراجه، فليسوا هم من أخرجه، وإنما أخرجه ربه سبحانه وتعالى؛ حتى يكون أصحاب هذه القرية كلهم عصاة، فتنزل العقوبة على الجميع من السماء.
ففتنهم الله عز وجل فتنة عجيبة، وذلك بأن أرسل ملائكة في صورة شباب حسان الوجوه؛ ليفتن بهم هؤلاء القوم، وكانوا ثلاثة فمروا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما علم أنهم ملائكة جادلهم قائلاً: أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن؟ قالوا: لا، فما زال ينزل معهم إلى أن قال: أتهلكون قرية فيها مؤمن واحد؟ قالوا: ل،.
{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32]، فلما أتوا إلى لوط نظر إليهم وقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، أي: ماذا سأعمل لهم وأنا وحدي، وليس معي جيش يدافع عني، وليس معي إلا بنتان؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد)، فكأنه نسي ذلك، أو كأنه يقصد جيشاً من البشر المؤمنين؛ ليجاهد بهم هؤلاء القوم.(151/6)
مدافعة لوط لقومه دفاعاً عن أضيافه
ثم إن لوطاً لما آوى عنده الملائكة رآهم شباباً ولم يعرف أنهم ملائكة، فخرجت امرأته إلى القوم وخانت، فذهبت إليهم وقالت: إن شباناً حساناً مع لوط في البيت، فجاءه قومه يهرعون ويتدافعون ويركضون نحو بيت لوط عليه الصلاة والسلام، فلما وصلوا إلى بيته أرادوا دفع الباب حتى يدخلوا عليه، وقالوا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، أي: أولسنا نهيناك أن تنزل عندك أحداً من غير أن تقول لنا؟ {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ} [الحجر:70]، قال: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [هود:78] يعني: بنات القوم؛ لأن كل نبي أب لقومه، فقال: ((هَؤُلاءِ بَنَاتِي))، يعني: النساء اللاتي عندكم.
{هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود:78]، أي: مما تقعون فيه من هذه الفاحشة المنكرة.
فلما أبوا إلا الدخول عليه قال من غضبه ومن ضعفه في هذه الحالة: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، فلما ضاق به الأمر أظهر له الملائكة أنفسهم بأنهم رسل الله، فلا داعي للخوف من هؤلاء، فقالوا: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81]، أي: هم يطرقون عليك الباب من أجل أن يدخلوا، دعهم يدخلون، فلما فتح الباب ألقوا في وجوههم شيئاً، فعميت أبصارهم، فرجعوا متقهقرين وهم يتوعدون لوطاً.
ولو كان عندهم عقل، أو شيء من البصر لعلموا أن هذا مؤيد من ربه، ولآمنوا وانتهوا، ولكن أبوا إلا أن يتوعدوا لوطاً بأنهم سيرجعون له مرة ثانية، فلما خرجوا خاف لوط عليه الصلاة والسلام، فطلبت منه الملائكة أن يخرج، فكأنه تعجل الانتقام من هؤلاء، فقالوا: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، أي: نحن الآن بالليل، وفي الصبح سيأتي عذابهم، {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
وأمروه بالخروج هو وأهله، {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، والمعنى: أنها لا تخرج معك، أو ستخرج معك، ثم سترجع للعذاب مع قومها.(151/7)
عذاب قوم لوط عليه السلام
فلما خرج لوط عليه الصلاة والسلام ومن معه قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل:57]، والله سبحانه إذا قدر شيئاً فلا بد أن يكون هذا الشيء كما قدر، والتقدير عند الإنسان أو عند الناس بمعنى: القياس الدقيق للشيء، فعندما يريد أن يفصل قماشاً فإنه يقيسه بالسنتيمتر، ويرسم على المقاس، ويقص عليه، فإذاً: التقدير هنا: من قدر، أي: قاس وأتى على الوجه الذي قدره، والله سبحانه وتعالى قدر الشيء وقضى أن يكون هكذا، فإنه يقع ما شاءه وأراده سبحانه وتعالى، فقال سبحانه عن امرأة لوط: {قَدَّرْنَاهَا} [النمل:57]، أي: جعلنا قدرها أن تكون مع الغابرين، أي: مع الباقين في عذاب رب العالمين.
و ((قدَّرناها)) هذه قراءة الجمهور، وقرأها شعبة عن عاصم: ((قَدَرْنَاها من الغابرين))، فخرج لوط ومعه ابنتاه وامرأته، وخدرت الملائكة لوطاً: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود:81]، أي: أنها هي التي ستلتفت، فالتفتت فرأت العذاب ينزل من السماء، فصرخت على قومها، فأتاها عذابها من عند ربها، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82 - 83]، أي: حجارة من نار نزلت على هؤلاء فأهلكهم الله سبحانه، {مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] إلى قال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، يعني: لا أحد سينجو من عذاب الله سبحانه، فإن هؤلاء ظلموا فجاءهم العذاب، ومن يظلم بعد ذلك فليس عذاب الله سبحانه بعيداً منه، قال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف:84]، أي: نزلت عليهم حجارة من نار جهنم كالمطر من السماء، وكان كل إنسان تأتيه حجارته فيهلكه الله سبحانه، كما قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} [الشعراء:173]، أي: بئس مطر المنذرين، فكان المطر بئيساً سيئاً على هؤلاء الذين أنذروا فلم يعتبروا، وذكروا فلم يتذكروا، فأهلكهم الله، ثم عقب ذلك بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، أي: احمد ربك سبحانه على أن أهلك الظالمين، ومكن للمؤمنين.
نسأل الله عز وجل أن يهلك الظالمين، وأن يمكن للمؤمنين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(151/8)
تفسير سورة النمل [59 - 60]
لقد أنعم الله عز وجل على عباده بنعم كثيرة لا تعد ولا تحصى، تحار فيها العقول والألباب، ومن نعمه سبحانه وتعالى أن سخر لهم هذا الكون بما فيه من خلق السماوات والأرض وما فيهن من آيات بينات تدل على خالقها سبحانه، ومع ذلك فقد أبى المشركون إلا عبادة غيره سبحانه وتعالى، وهذه الآيات فيها مناقشة مفحمة وملجمة لهم، بما فيها من دلائل حياتية تقنع من له أدنى مسكة من عقل.(152/1)
نعم الله على عباده
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النمل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:59 - 64].
في هذه الآيات العظيمة الكريمة الجليلة من هذه السورة سورة النمل يذكر الله سبحانه وتعالى آيات من آيات قدرته سبحانه وتعالى، ويبين لنا عظيم ما فعله بعباده سبحانه، فهو القدير، وهو العليم، وهو الرءوف الرحيم سبحانه، فيرينا هذا الذي يصنعه من هذه الأفعال العظيمة، والتي تدل على كرمه وقدرته، وإكرامه لعباده، فهل الذي يصنع ذلك هو الله الذي يستحق العبادة، أم هو إله غيره يصنع ذلك فيستحق أن يعبد مع الله سبحانه وتعالى؟! والجواب عن كل سؤال من هذه الأسئلة: أن الذي يصنع ذلك هو الله وحده لا شريك له، وليس أحد غيره يقدر على ذلك.
فإذاً: لا يستحق أن يعبد إلا الإله الخالق وحده لا شريك له.(152/2)
المناسبة بين قوله تعالى (قل الحمد لله) والآيات السابقة
قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، وهنا مناسبة عظيمة جميلة بين هذه الآية وبين ما قبلها، فقد ذكر لنا سبحانه وتعالى أربع قصص في هذه السورة، فذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنجى الله موسى، وكيف أهلك فرعون.
ثم ذكر قصة ثانية، وهي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، وكيف أن الهدهد دله على أن هناك ملكة تعبد الشمس من دون الله سبحانه، وقد ولاها القوم، وقلدوها في عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
ومع أن سليمان النبي عليه الصلاة والسلام قد جعله الله ملكاً، فإنه مع ملكه العظيم لم يطلع على شيء، وهو قريب منهم، فقد كان في الشام وهي في اليمن، ومع ذلك لم يعرف شيئاً مع كثرة جنوده من الإنس والجن والطير، ومع ما عنده من تسخير للرياح وغيرها، إلا أنه لم يطلع على ذلك، ولم يعرف أن هؤلاء الأقوام يسجدون للشمس من دون الله.
فلما عرف ذلك بعد أن عرفه الهدهد إذا به يرسل إليهم من يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ويهددهم بما أعطاه الله عز وجل من قوة، فإما أن يأتوا إليه مسلمين، وإما أن يخرجهم من أرضهم أذلة وهم صاغرون، وإذا بالله سبحانه وتعالى ينصر سليمان عليه الصلاة والسلام، وتستجيب الملكة وتؤمن بالله في النهاية؛ فأخرجهم الله سبحانه من ظلمات ظلمهم، ومن ظلمات شركهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له.
ثم ذكر لنا قصة ثمود مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام، وكيف أنهم عتوا وتكبروا وتجبروا وأفسدوا في الأرض، فدعاهم نبيهم إلى عبادة الله وحده، فأبوا إلا التكذيب والإعراض؛ فأهلكهم الله سبحانه بما شاء من صيحة وريح أرسلها عليهم، فأهلكهم جميعهم وجعلهم خامدين، فكانت آية من آيات قدرة الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر لنا قصة أخيرة وهي قصة لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع قومه أهل سدوم الذين أشركوا بالله سبحانه، ووقعوا في الفاحشة، وهي إتيان الذكران من العالمين بدلاً من أن يتزوجوا النساء، فدعاهم نبيهم إلى توحيد الله سبحانه، وإلى ترك ما هم فيه والتوبة إلى الله، فأبوا إلا أن يطردوه ويخرجوه، فأخرجه الله سبحانه تبارك وتعالى من بين أظهرهم، وأهلكهم سبحانه بعذاب من نار جهنم، فأرسل عليهم حجارة من سجيل كالمطر؛ فأخذهم سبحانه وجعلهم آية.
ففي هذه القصص الأربع التي ساقها الله سبحانه يبين لنا كيف أنه ينجي المؤمنين، وكيف ينصرهم سبحانه، وكيف يهلك الظالمين، فلا يسعك وأنت تسمع ذلك إلا أن تقول: الحمد لله.
فقد ذكر الأنبياء والمرسلين وبين أنهم دعوا إلى الله سبحانه، وأنهم أهينوا، وأنهم أوذوا في الله سبحانه وتعالى، فإذا بالله ينصرهم، فلا يسعك إلا أن تقول: الحمد لله رب العالمين! فأمرك الله عز وجل بها: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل:59]، فقال هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقولها ولا شك، فمن باب: (إياك أعني واسمعي يا جارة)؛ ولأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمر لمن تبع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أمر عباده أن يحمدوا الله إذا قرءوا كتابه العظيم، حيث أنه أرشدهم إلى أن يطلعوا على ذلك، وهداهم إلى هذا الدين العظيم، وجعلهم مسلمين، وجعلهم يتعظون بمصير هؤلاء فلا يقلدونهم، ولا يكونون من الظالمين أمثالهم، وبأنه جعلهم يتأسون بالأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في صبرهم، وفي حكمتهم، وفي دعوتهم أقوامهم إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: الحمد لله، ويصلون ويسلمون على أنبياء الله ورسله، بأمر الله سبحانه.(152/3)
تفسير قوله تعالى: (قل الحمد لله وسلام على عباده الذي اصطفى)
قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، أي: احمدوا الله سبحانه، وصلوا وسلموا على أنبيائه ورسله الذين اصطفاهم واختارهم واجتباهم ورفعهم فوق غيرهم، وجعلهم يدعون إليه وحده لا شريك له.
فهي آية عظيمة، وختام جميل لهذه القصص التي ذكرها الله سبحانه وتعالى.
ولما ذكر لنا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد دعوا أقوامهم إلى التوحيد، فإنه يدلنا على أنه يستحق العبادة؛ لأنه وحده لا شريك له وكل إنسان مؤمن يعرف ذلك، ولكن الكافر يحتاج إلى أن يبين له حتى يرجع إلى عقله، ويعود إلى صوابه، ويبين له بما قاله الله سبحانه وتعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، فهذا الكافر الذي يشرك بالله يعترف بأنه الخالق ثم يعبد غيره سبحانه وتعالى، أو ينكر ألوهية الله سبحانه وتعالى، فيقول له سبحانه: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، أي: هل الله سبحانه خير أم هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله سبحانه وتعالى؟! فهناك خير وهناك شر، فإذا تبصر الإنسان علم أن الخير كله عند الله، فالله خير، وما يشركون به من دون الله لا ينفعون أنفسهم فضلاً عن غيرهم، ولا يملكون أن يدفعوا ضراً عن أنفسهم ولا عن غيرهم، فهم شر لأنفسهم ولغيرهم فكيف يعبدونهم من دون الله؟! وكل إنسان له عقل سليم يقول: الله سبحانه خير، وهؤلاء كلهم شر، لا ينفعون ولا ينتفعون.
وقوله تعالى: ((أَاللَّهُ خَيْرٌ))، عند جميع القراء يجوز أن تمد مداً طويلاً: آلله خير، ويجوز أن تسهل الهمزة الثانية فتقول: ((أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))، ولا يجوز فيها أن تقرأ بهمزة ثانية عند أي أحد من القراء، فلا يجوز أن تقول: أألله خير.
وقوله تعالى: ((أَمَّا يُشْرِكُونَ))، هذه قراءة أبي عمرو ويعقوب وعاصم، وقرأ السبعة الباقون: (أما تشركون)، بالخطاب.(152/4)
حسن الافتتاح في الخطب والمواعظ
وقد علمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حسن الافتتاح، أي: أن تفتتح كلامك بحمد الله سبحانه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح كلامه وخطبه بحمد الله سبحانه، سواء كانت خطبة للعيد أو للجمعة أو غيرها، حتى في خطبة النكاح كان يبدأ بحمد الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فيه تعليم حسن، وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما، بذكر الله سبحانه، والصلاة والسلام على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
يقول هنا: وفيه الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، يعني: أن الإنسان عندما يريد الكلام في موضوع ويدخل فيه من غير ذكر الله سبحانه وتعالى، فإن هذا يكون قبيحاً، فما ذكر الله في شيء إلا وكان فيه البركة، وما ذكر أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام فصلي وسلم عليهم إلا كان فيه الخير والبركة.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مجلس لا يذكر فيه الله ولا يصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان على أصحابه ترة يوم القيامة).
وذكر: (ما من قوم يجلسون مجلساً فلا يذكرون الله ولا يصلون على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قاموا إلا قاموا عن مثل جيفة حمار).
فمن الأدب: أنه إذا بدأ الإنسان في مجلسه أو درسه أو حديثه أو خطبته فليبدأ بذكر الله سبحانه، وبالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وفيه الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين، والإصغاء إلى من يتكلم، وإنزال ذلك في قلوبهم المنزلة التي يبتغيها المستمع إذا حدثهم، فبدأ بذكر الله سبحانه.
قال: ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله، وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون - يعني: الكُتَّاب - فجروا عليه في أوائل كتبهم.
فهذا هو الأدب: أن يبدأ الإنسان -سواء كتب كتاباً أو كتب صحيفة- بذكر الله عز وجل في الخطبة وغيرها، فليبدأ بذكر الله كما قال هنا: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59].(152/5)
عظمة الله وقربه من عباده
قال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] قرأ أبو عمرو ويعقوب وعاصم: أما يشركون، على الغيب.
وقرأ باقي القراء على الخطاب: ((أَمَّا تُشْرِكُونَ))، فكأنه يوجه الخطاب للمشركين أن يتفكروا: آلله صاحب النعم العظيمة أحق بالعبادة أم هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر والتي تعبدونها؟ وهل إله مع الله يفعل ذلك؟! وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن رجل من بلهجيم قال: قلت: يا رسول الله! إلام تدعو؟ فهذا رجل كان كعادة الأعراب فيه جفاء، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان لابساً ثوباً يجره، فقال: (إلام تدعو؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدعو إلى الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك، والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته رد عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت عليك).
فبين له من الذي يدعو إليه، أي: أدعو إلى الله صاحب النعم العظيمة الذي أنعم عليك، والذي تدعوه متوسلاً إليه سبحانه حين تقع أو تنزل بك مصيبة من المصائب.
وقوله: (إن مسك ضر فدعوته كشف عنك)، وهو سبحانه يفعل ذلك بالمسلمين والكافرين، فالذي يصاب بالضر من مسلم أو كافر ويجأر إلى الله قائلاً: يا رب! فإن الله عز وجل يعطيه ويفرج عنه بفضله وكرمه سبحانه.
قال: (والذي إن ضللت بأرض قفر دعوته فرد عليك)، أي: إذا ضاع منك جملك، أو ضاعت منك ماشيتك في صحراء فدعوت ربك رد عليك ذلك، فهذا الإله العظيم هو الذي أدعو إليه.
قال: (والذي إن أصابتك سنة)، والمعنى: إن أصابتك سنة شديدة فيها قحط ومجاعة وشدة، فيعبر عن شدة الزمان والوقت بالسنة.
قال: (دعوته أنبت عليك)، أي: إن كان هناك جدب ولا يوجد مطر فدعوت الله أنزل عليك المطر، فأنبت لك فأكلت، فهذا الإله هو الذي أدعو إليه، فسلم الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (قلت: أوصني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسبن أحداً، ولا تزهدن في المعروف ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك).
فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يشتم أو يسب أحداً، ولا يزهد في معروف، مهما كان هذا المعروف قليلاً؛ لأنه ينفعه يوم القيامة، وأقل المعروف: أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، يعني: تلقى أخاك وأنت غير مكشر.
قال: (ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي (.
يعني: أن من أقل المعروف: أنه إذا طلب أحد منك قليل ماءٍ فأفرغ له.
قال: (ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، واتزر إلى نصف الساق)؛ وذلك لما رأى أنه يجد إزار على الأرض، فقال له: ارفع إزارك إلى نصف الساق، يعني: ما بين الركبة والكعب وليس كل الناس يفعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أبيت فإلى الكعبين)، أي: إن لم تحب ذلك ولم ترده فأنزله إلى العظم الذي في آخر الساق، ولا تزد على ذلك.
ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة)، أي: إن الإنسان المعجب بنفسه هو الذي يفعل ذلك، حتى وإن قال: إنه لا يفعله خيلاء، يقول: فعلك ذلك دليل على أنك من أهل الخيلاء.
ثم قال: (وإن الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة).(152/6)
تذكير الله لعباده بخلق السماوات والأرض وما فيهما من نعم
يقول الله سبحانه وتعالى هنا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، يذكر الله سبحانه أنه خلق السماوات والأرض بما في السماوات من نجوم وأقمار ومجرات، فهي آيات عظيمة.
وأنزل من السماء ماء شربتم منه وادخرتموه، حتى وإن لم تدخروه فإن الله قد جعل له أماكن في الأرض يخزن فيها، فتنتفعون به وتشربونه.
ثم أنبت لكم به الحدائق العظيمة، فقال: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، والحديقة: البستان الذي يحدق به الحائط، يعني: البستان المسور؛ ولهذا يسمى بالحديقة، وأما إذا كان من غير سور ولا حائط فيسمى: بستاناً، أو يسمى: حائطاً إذا كان عليه حائط، وقد وصف الحديقة هنا بأنها: ذات بهجة، أي: تبهجك وتسرك إذا نظرت إليها، والبهجة: المنظر الحسن الذي يريح الناظر، فيتمتع ويتفكه بما فيها، فيفرح بها ويسر، ومن الذي صنع لكم ذلك وأنتم: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]؟! فإن الإنسان لا يقدر أن يأخذ نواة ويضعها في الأرض وينبتها، بل إنه ينتظر فضل الله سبحانه أن ينزل الماء من السماء، وأن يأمرها أن تنبت بفضل الله وبرحمته، فكم من نواة يلقيها الإنسان ولا تنبت شيئاً! وكم من نواه يلقيها الإنسان لا يلقي لها بالاً وينبتها الله عز وجل بغير إرادة من أحد! فإن الله على كل شيء قدير، فمن الذي صنع ذلك؟ {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]؟!
و
الجواب
إنه لا إله غير الله يستحق أن يعبد مع الله سبحانه، فالله هو الذي صنع ذلك، وهو الذي يستحق العبادة، ولكن هؤلاء قوم يعدلون، فكأنهم جعلوا الله معادلاً، وجعلوا له شريكاً، فهم قوم يشركون بالله.
نسأل الله عز وجل أن يحيينا على التوحيد، وأن يتوفانا عليه، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(152/7)
تفسير سورة النمل [59 - 61]
بين الله سبحانه وتعالى عظمته وقدرته في خلق السماوات والأرض وما فيهما من مخلوقات وأنهار ونبات، كل ذلك ليدلل على بديع صنعه، وأنه الرب الخالق المستحق للعبادة من خلقه، ويا للعجب! كيف يعرف كثير من المشركين مخلوقات الله وينسبون صنعها إلى الله وفي نفس الوقت يعبدون غيره، ويشكرون آلهة باطلة من دونه سبحانه!(153/1)
بيان عظمة الله عز وجل
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فيقول الله عز وجل: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59 - 63].(153/2)
اعتراف المشركين بربوبية الله في الآيات
ذكر الله سبحانه وتعالى بعض أنبيائه في هذه السورة الكريمة في الآيات السابقة، وذكر كيف أنه نصرهم على أعدائهم من الكفار، وأنهم بلغوا رسالة رب العالمين سبحانه -والسورة سورة مكية أي: أنها نزلت في زمن كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه- فكأن الله سبحانه يصبرهم بذلك، ويعلمهم بأن النهاية أن يكون النصر لأولياء الله سبحانه وتعالى، فختم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59].
فقوله سبحانه: ((آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ))، الاستفهام في الآية لهؤلاء: أن أجيبوا عن ذلك، ومعناه التقرير بأن حقيقة الأمر: أن الله سبحانه وتعالى خير من كل شيء، فالجواب معروف منه، وكذلك كان يجيب المشركون، وقد أثبت سبحانه عليهم ذلح، حيث يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فهم يجزمون بأن الله هو الخالق، وأن الله يقدر على كل شيء، وأن غيره لا يقدر على شيء، ولذلك إذا مسهم الضر في البحر {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، فقد اعتادوا إذا نزل بهم الضر أن يجأروا إلى الله فيقولون: يا رب! يا الله! فإذا كشف الله عز وجل عنهم ذلك رجعوا مرة أخرى إلى شركهم، فمع أنهم موقنون أن الذي ينفع ويكشف عنهم ضرهم وقت الضر هو الله سبحانه، فلذلك إذا سئلوا: آلله خير أم هؤلاء الذين تشركون؟ أجابوا: بل الله خير! فإن سئلوا لماذا تعبدون هؤلاء؟ قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وهم بهذا الجواب يخدعون أنفسهم، حيث يقولون ذلك وهم يعتقدون خلافه.
يقول الله مبيناً نعمه سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [النمل:60]، أي: هل تستطيع هذه الآلهة الباطلة من الإنس والجن ومخلوقات أخر لو اجتمعوا أن يخلقوا السموات والأرضين؟ قال سبحانه: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، ومن أنزل من السماء ماءً؟ جوابهم المعروف: الله الذي فعل ذلك، فكأن الله يذكرهم بالنعم التي يتقلبون فيها ليل نهار، فيقول: هذه السموات التي تظلكم، وهذه الأرضون التي تقلكم، وهذه الشمس والقمر اللذان ينيران لكم، من الذي خلق ذلك كله؟ ولما كان جوابهم: الله سبحانه وتعالى، لم يقل لهم: أرب مع الله، وهنا نلحظ الفرق بين أن يقول: أرب مع الله، وهو مقتضى الاستفهام، أو يقول: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، لأنه إن قال: أرب مع الله، فهم لم ينكروا الرب سبحانه وتعالى، فلا يحتاجون إلى مثل هذا السؤال، فقد أقروا أن الرب الذي يخلق ويدبر ذلك الكون هو الله، ولكن
السؤال
إذا كنتم تعترفون بأن الرب هو الذي فعل ذلك فهل من إله يعبد مع هذا الرب سبحانه وتعالى؟! هل يستحق من لا يخلق أن يعبد مع من يخلقه؟! لذلك كان الاستفهام إنكاراً لأفعالهم وبعدهم عن الله سبحانه وإفكهم وافترائهم على الله الكذب، فقال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، أي: هل هناك إله يستحق العبادة مع هذا الإله العظيم الذي خلق وفعل هذا كله؟ وإن كان المفترض أن يكون جوابهم: لا، ولكنهم يعبدون غير الله ويشركون معه سبحانه وحالهم يفيد ذلك؛ لذلك كرر عليهم في كل آية من الآيات بعد أن يذكر النعم هذا
السؤال
هل إله غير الله يستحق أن يعبد، مع أن الله الذي فعل لكم ذلك، وغيره لم يفعلوا ذلك؟! لو أن إنساناً يقول: إن غير الله ممن لا يصنع ولا يخلق يستحق العبادة، فهذا لا يستحق أن يعيش في هذه الدنيا؛ لأنه لا عقل له ليفهم، فهو كالبهائم بل هو أضل سبيلاً.(153/3)
حكمة الجمع والإفراد في الآيات
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [النمل:60]، (من السماء) أي: من السحاب الذي في السماء نزل الماء على الأرض، وقوله سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ} [النمل:60]، أفرد فكان المعنى: من الذي خلق؟ الله سبحانه، {وَأَنزَلَ لَكُمْ} [النمل:60]، وأفرد هنا أيضاً، فالضمير في الفعلين عائد على مفرد: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، قوله: (فأنبتنا) أما هنا فعبر بنون الجمع، إذ أنه في الأشياء التي لا يدعيها الإنسان لا يحتاج إلى أن يذكر له ضمير الجمع والعظمة، فالإنسان مقر ومعترف.
أما لو أن الإنسان يقول: أنا أفعل، فيقول الله سبحانه: نحن نفعل، فيعبر بنون العظمة حتى يعرف الإنسان حقارة نفسه، وأنه لا شيء، وقد يدعي الإنسان فيقول: أنا الذي آتي بالبذرة وأضعها في الأرض، وأصب عليها الماء، وأنا الذي أسمد الأرض وأرعى الحب، وأنا أراعي هذا إلى أن ينبت، فالله عز وجل يقول: {فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، نحن الذين نفعل ذلك، ولست أنت الذي تقدر على ذلك.
فنحن ألهمناك الصواب، وعلمناك كيف تصنع ذلك، وسواء بذرت أم لم تبذر فما شاءه الله عز وجل كان، أو فعلت أنت أو فعل غيرك، فالله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يخلق ويرزق، فعبر بنون الجمع هنا لبيان عظمته سبحانه وتعالى، وحقارة خلقه: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60] والحديقة: البستان المحدق بحائط، أي: الذي عليه سور، وقوله سبحانه: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، أي: ذات منظر حسن، إذ أن الإنسان حين ينظر إلى الحديقة تعجبه فيسر بمنظرها الجميل الذي جعله الله عز وجل للإنسان كما جعل فيها طعامه وشرابه، وجعله ينظر إليها فيبتهج بمنظرها، قال: {حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60].(153/4)
القراءات الواردة في قوله وذات بهجة
قوله سبحانه: {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل:60]، الجمهور إذا وقفوا على (ذات) ينطقون التاء، وهي مكتوبة: تاء مفتوحة، أما الكسائي فانفرد بأنه إذا وقف عليها يقول: (ذاه) بالهاء، فيقرؤها خلافاً للجمهور، أما في الوصل فينطقونها جميعهم بالتاء، إلا أن الكسائي إذا وقف على (بهجة) قرأها بالإمالة فيقول: (بَهجِه)، بالإمالة، أما الباقون فيقفون عليها.
وقوله سبحانه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، هنا يؤكد الله الخالق العظيم عليهم، فقوله: {فَأَنْبَتْنَا} [النمل:60]، حين عبر بنون العظمة ونفى عنهم الإثبات، والمعنى: لستم أنتم الذين تفعلون ذلك، فأنتم تأخذون بالأسباب فقط، والله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر ويخلق ويفعل ذلك.
ثم يردف قوله سبحانه: {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل:60]، بسؤال فيقول: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، أي: هل هناك إله يستحق أن يعبد مع الله سبحانه الذي فعل ذلك؟! وهل آلهتكم فعلت ذلك فتستحق العبادة؟
الجواب
لا.(153/5)
القراءات الواردة في قوله (أئله مع الله)
وفي قوله سبحانه: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] قراءات، الأولى: قراءة الجمهور بالقطع كما هو الرسم في المصحف، ويقرؤها البعض بالمد والتسهيل، ومنهم قالون، وأبو عمرو ويعقوب، (آيله مع الله)، ويقرؤها ورش وابن كثير: (أيله مع الله) بالتسهيل بغير مد.
ويقرؤها هشام بوجهين، فيقرأ: (آئله مع الله)، بالمد فيها، ويقرأ كغيره من القراء: (أئله مع الله)، فأصبح فيها أربعة أوجه: (آئله مع الله)، (أئله مع الله)، (أئله مع الله)، (آيله مع الله)، رد عليهم سبحانه وتعالى؛ لأن فعلهم يبين أنهم يعبدون غير الله، فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، ويعدلون: من عدل أي: جعل مع الله عديلاً له سبحانه، كما يضع الإنسان العدل على الجمل، في إحدى الجهتين عدل وفي الأخرى عدل، فهم يعدلون مع الله، أي: يجعلون معه آلهة أخرى سبحانه، يساوونها به سبحانه وتعالى، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، والمعنى: يشركون.(153/6)
عظمة الله في الأرض
ثم قال سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} [النمل:61]، أي: من الذي جعل الأرض قراراً تستقرون فوقها، مع أنها تدور حول نفسها بسرعة عظيمة جداً في هذا الكون الواسع، وجعلكم لا تشعرون بسرعة سيرها؟ معلوم أن الإنسان عندما يركب وسائل النقل من سيارات وغيرها، أو يركب شيئاً يتحرك عموماً إن لم يكن يمسك نفسه يقع منها، والأرض تتحرك بأسرع من ذلك بكثير، وهي تدور حول نفسها في الكون، ومع ذلك لا يقع الإنسان ولا يستشعر ذلك، فمن الذي جعلها قراراً لهذا الإنسان ليستقر فوقها؟! يقول سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً} [النمل:61]، أي: شق في جوفها أنهاراً تجري فأجراها، وجعل فيها الماء العذب، وجعل في محيطاتها الماء المالح، وكل ذلك بحكمة من الله سبحانه وتعالى، من الذي صنع ذلك؟ وجعل لهذه الأرض رواسي كما قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61]؛ يرى المتأمل فيها قدرة عظيمة لله الخالق سبحانه وتعالى، فالله جعل الأرض قراراً، وجعل خلالها، أي: شق في جوف هذه الأرض، فجعل خلالها أي: بين خللها وشقوقها أنهاراً، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:61]، ترسيها وتثبتها، ومعلوم أن للأرض قشرة سطحية رقيقة، وتوجد سوائل في داخل الأرض منصهرة من المعادن المذابة، فلو تركت بلا جبال لاهتزت قشرة الأرض كالمركب أو السفينة فوق هذه السوائل، ولكن الله سبحانه جعل الجبال فيها كالوتد يثبت القشرة الأرضية في باطن الأرض فلا تهتز ولا تتحرك إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل:61]، ترسيها فلا تميد بالناس: {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا} [النمل:61]، أي: البحر العذب والبحر المالح، فقد جعل الله بينهما حواجزاً من قدرته سبحانه وتعالى، {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53].
وسبق في سورة الفرقان أن الله سبحانه وتعالى جعل الأنهار تصب في البحار، فإذا صب النهر في البحر لم يختلط ماء البحر بالنهر، ولا ماء النهر بالبحر، لجعله برزخاً بين الاثنين في مصب النهر.
قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:53]، من قدرة الله سبحانه فلا يطغى ملح البحر فيدخل في النهر فيفسده، ولا ماء النهر يدخل في البحر فيحليه، ولكن جعل بين الاثنين برزخاً بقدرته سبحانه وتعالى.
قال: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، مانعاً ممنوعاً، فهذا لا يغير هذا، وهذا لا يغير هذا، حتى الكائنات الموجودة في البحر لا تختلط بكائنات النهر، فلا تذهب التي في النهر إلى البحر لتكون كائنات ملحية، والأخرى كذلك، بل من عجيب قدرة الله سبحانه: أن البرزخ بين الاثنين له كائنات مخصوصة، فقد وجد الباحثون أسماكاً في هذا البرزخ لو خرجت منه إلى غيره لماتت، قال سبحانه: (برزخاً)، فهذا البرزخ الواقع في المكان الوسط بين الاثنين حجر محجور أي: يحرم على هذا أن يغير هذا، وعلى هذا أن يغير هذا، ويحرم كذلك على الكائنات، فلا هذه تذهب إلى هذه ولا الأخرى تفعل ذلك، فهو حاجز من صنع الله سبحانه، ثم يستفهم: من الذي صنع ذلك؟ قال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:61]، فهل هناك إله يستحق أن يعبد مع هذا الخالق العظيم الذي فعل لكم ذلك؟! {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61]، كما قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، أي: ما عرفوا أنه الرب الخالق، ولم يستيقنوا، وفرق بين من يعرف ومن يستيقن في قلبه فيعمل من أجل ذلك، فمعرفتهم تلك معرفة كالجاهلية؛ لذلك وصفهم أنهم جاهلون، وأنهم لا يعلمون.
وسترى أن كل إنسان يدعي أنه يعرف الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه المعرفة هل تفيدك أو لا تفيدك؟ كإنسان يقول: أنا أعرف هذا المكان؛ لأنه قد سمع عن هذا المكان، ولكن لعله لو ذهب إليه لضاع فيه، وكأنه لم يعرف شيئاً.
وكذا الإنسان الذي يقول: إن الله خلقني وأنا أعرفه، فيقال له: أنت حين عرفته ما الذي صنعته؟ هل عبدته أم عبدت غيره؟ هل خفت منه سبحانه؟ هل جهزت نفسك ليوم تلقاه فيه سبحانه؟ فيسألك ويحاسبك، فستجد أن
الجواب
لا فهذه المعرفة لا تنفعه مطلقاً؛ فكأنه لم يعرف شيئاً، إذ لو عرف الله لقدره حق قدره، قال سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75]، يعني: بل أكثر هؤلاء الناس لا يعلمون شيئاً عن قدرته سبحانه، فالمعرفة التي تنفع صاحبها هي المعرفة التي ينبني عليها العمل، كمن يعرف الله فيصلي له سبحانه، ويخاف منه سبحانه فيتقرب إليه، ويطيع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وفيما نهى، فهنا يقال: إنه عرف الله وقدر الله حق قدره.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يقدرون الله حق قدره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(153/7)
تفسير سورة النمل الآية [62]
من دعا الله وهو مضطر فإن الله يجيبه ولو كان كافراً، فرحمة الله في الدنيا وسعت كل شيء، وهو الذي يكشف السوء عن العباد والبلاد في أمور دينهم ودنياهم، فله الحمد والمنة.(154/1)
تفسير قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إلى دعاه)(154/2)
فقر الإنسان إلى الله وشدة حاجته للدعاء
قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] يتذكر الإنسان قول: لا حول ولا قوة إلا بالله أي: لا تحول لأحد، ولا حيلة إلا بالله، ولا قوة لأحد إلا بأن يعينه الله سبحانه وتعالى، وقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة)، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فالله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت) والمعنى: اللهم رحمتك أنت وحدك، صاحب الرحمة العظيمة، إياها أرجو، (فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)؛ لأنه لو وكل الإنسان إلى نفسه، وظن أنه قادر على كل شيء، حينها يملي الله له ويرجيه، ثم يأخذه بسبب ما هو فيه من علو واستكبار.
ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم معلماً لنا: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وهنا أخر الفعل وقدم المفعول للاختصاص والتنبيه على أن الله وحده ذو الرحمة التي ترجى، كقولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالأصل (نعبدك) حيث يقدم الفعل ويليه المفعول، ولكن عندما يقدم المفعول فمعناه: الاختصاص بالله وحده سبحانه.
قال تعالى: {إِيَّاكَ} [الفاتحة:5] أي: وحدك لا شريك لك، لا أحد آخر، إذ لو قال الإنسان: أعبدك فقد يقال: يعبده ويعبد غيره، مثلما كان الكفار يعبدون الله ويشركون به سبحانه، أما عندما يقول: إياك أعبد فقد قدم المفعول للاختصاص، فأفصح أن العبادة تقتصر عليه وحده لا شريك له.
وفي الحديث: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم رحمتك أرجو) إذاً: لا أرجو رحمة من أحد غيرك، فلو قال الإنسان: أرجو رحمتك، فقد يرجو رحمته ورحمة غيره، ولكن عندما يقول: (اللهم رحمتك أرجو) أي: فإن الرحمة الوحيدة تكون من عندك يا رب العالمين! وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن يدعو بدعاء لو كان عليه دين عظيم أداه الله عز وجل وأعانه عليه، وهو أن يقرأ آيتين في آل عمران: ({قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:26 - 27]، فيا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما -رحمتك أرجو- تعطي من تشاء منهما وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك) فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب رحمة من الله يستغني بها عن رحمة أحد سوى الله، فمن توكل على الله كان الله له نعم المولى ونعم الوكيل، ومن توكل على الله كفاه سبحانه، ورزقه من حيث لا يحتسب.
وكم من إنسان وقع في ضيق وفي أزمة، فلما ضاقت عليه الدنيا لجأ إلى الله وحده وناداه: يا رب! فإذا بالله يكشف ما به، فيكون كأمس الدابر، وكأنه لم يحدث شيء، والقصص في هذا المعنى كثيرة جداً.(154/3)
قصص لبعض من استجاب الله دعاءهم وكشف كربهم
ذكر الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية قصصاً، وهي قصص عجيبة جداً، ولكنها ليست بغريبة على قدرة الله سبحانه وتعالى فهو {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284].
يقول رحمة الله عليه راوياً عن الإمام الحاكم في ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجلية: تقول: هزم الكفار يوماً المسلمين في غزاة، فوقف جواد بصاحبه، -وكان رجلاً صالحاً- أي أنه: حينما كان الكفار قادمين نحوه، إذا بالجواد يقف ولا يهرب به، فيتعجب الرجل ويكلم جواده قائلاً ألم أعدك لهذا اليوم؟! فإذا بالجواد يرد عليه ويقول: إنك لا تعلفني، بل تكل العلوفة إلى غيرك فيظلمونني، فيجيبه الرجل قائلاً: عهد علي إذا رجعنا لأعلفنك في حجري، فيطير به الجواد، ومن ثم يلتزم صاحبه العهد، وهذا أمر عجيب! والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الذين من قبلنا: أن بقرة تكلمت، وليس أولئك بأحسن من هذا، فإنه من التابعين لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، وليس عجيباً على أمر الله أن يحدث ذلك.
وفي الصحيح: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ركب رجل ممن كانوا قبلنا بقرة، فاستدارت إليه وقالت: ليس لهذا خلقت -أي: لم أخلق للركوب- إنما خلقت للحرث).
وتتمة القصة الأولى التي رواها ابن كثير عن الإمام الحاكم: فلما علم ملك الروم أن في المسلمين رجلاً كلمته دابة قال: لا يصلح إلا أن يكون عندنا، فالمكان الذي يكون فيه سيكون مباركاً، فأرسل إليه من يخطفه ويأتي به إليهم ممن كان من المرتدين، فذهب المرتد إليه وأظهر للرجل الصالح أنه أسلم وحسن إسلامه، فانخدع به، فكأنه خرج معه يوماً، وقد واعد المرتد غيره من الناس عند أطراف البلد ممن هم على شاكلته، فلما وصل هذا المسلم إلى هذا المكان، أخذوه وأرادوا الذهاب به إلى ملك الروم لعله يقتله، ولما يشكل وجوده في المسلمين من قوة حيث أنه مستجاب الدعوة، فإذا بالرجل يدعو ربه سبحانه وتعالى، ويقول: اللهم بك خدعوني -أي: إنما ذهبت مع هذا رجاء أن يسلم، وأن يحسن إسلامه، فقال لله عز وجل: فاكفنيهم بما شئت.
قال الراوي: فخرج سبعان في المكان الذي هو فيه فخططا الرجل الكافر ومن معه، وتركا الرجل الصالح.
والأسد عادة لا يفرق بين مسلم وكافر إلا أنه هنا فرق بينهما في هذا الموطن، ولا شك أن الله عز وجل هو الذي قدر ذلك.
ثم ذكر رحمه الله قصة هي أغرب من هذه القصة يقول: ذكر ابن عساكر بإسناده عن رجل قال: كنت أكاري على بغل لي في دمشق إلى بلد، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق غير المسلوكة، أي: غير المأهولة، فقال: ادخل في هذا الطريق، فقلت: لا أعرفه، قال: أنا أعرفه ادخل فيه، فلما دخلوا فيه وأصبحوا بعيدين عن الناس، نزل الرجل وأحضر سكيناً ثم أراد قتل هذا الرجل، فتوسل إليه الرجل بكل شيء، وقال له: خذ الدواب التي معي، والمال واتركني، قال: لا، إنما أريد قتلك أنت، يقول الرجل: فقلت له: فاتركني أصلي ركعتين، طالما أنك ستقتلني، فقال: عجل، قال: فقمت فارتج علي القرآن فلم أستطع أن أقرأ، وقد دخلت في الصلاة، والقتل ينتظرني، ولم يحضرني منه حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً، قال: فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربة، فرمى بها هذا الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً.
قال: فتعلقت بهذا الفارس، وقلت: بالله من أنت؟ قال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وهذه القصة ليست بعجيبة على قدرة الله سبحانه وتعالى أن يرسل من يغيث هذا.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أن رجلاً خرج من قرية ليزور أخاً له في بلدة أخرى، فلما وصل منتصف الطريق، أرسل الله عز وجل إليه ملكاً، فقال: أين تريد؟ قال: أريد فلاناً في البلدة الفلانية، قال: لم؟ قال: أحبه في الله، قال: ألك حاجة عنده؟ قال: لا، قال: ألك نعمة تردها عليه؟ قال: لا، ولكنني أحبه في الله، قال: فأنا رسول الله إليك بأن الله يحبك كما أحببته).
فليس بعيداً على الله سبحانه وتعالى في تدبير كونه أن يرينا من ذلك ما يتعجب الإنسان منه، كأن يبعث إلى هذا من يقتل خصمه، والله يفعل ما يشاء، والذي يقرأ في السير والتأريخ يجد العجائب من إكرام الله عز وجل لعباده ما هو فوق ذلك بكثير؛ لكن الغرض بيان: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
فكلما اشتدت بالمسلم كربة من الكرب، تذكر أن الله يجيب المضطر إذا دعاه، وكلما اضطر الإنسان، واستشعر الضيق، وعدم القدرة، ولم يجد أحداً حوله قال: يا رب! ويكفيه ذلك.
فهذا لوط عليه الصلاة والسلام، لما ضاقت به الدنيا، ووقف يدافع قومه وحده، وكل قومه يدفعون عليه بابه، ويريدون أخذ أضيافه، وهو لا يعلم أن هؤلاء ملائكة الله سبحانه، إذا به يقول: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:80 - 81] فكان النصر حليفه، ومن يخاف عليهم هم الذين يدفعون عنه، وهذا عجيب من أمر رب العالمين سبحانه وتعالى، ولا غرو فهو يجيب المضطر إذا دعاه، ويستجيب دعاء من ناداه.(154/4)
من يستجيب الله دعاءهم
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن)، أي: ثلاث دعوات للإنسان كلما ضاق به الأمر فقال: يا رب! مضطراً، فالله عز وجل يستجيب له، يقول: (دعوة المظلوم)، فالمظلوم إذا ضاق به الأمر ولم يجد من ينصره، فدعا الله عز وجل نصره، قال: (ودعوة المسافر) والمسافر غريب في بلد غير بلده، لا يجد من يعينه، وقد تعود الناس أن يعين الإنسان من يعرفه، من جار أو قريب أو نحوه، أما الغريب فلا يجد أحداً، فقد قطن مكاناً موحشاً فأحب أن يرجع إلى بلده، فيفزع إلى الله عز وجل فيستجيب له.
قال: (ودعوة الوالد على ولده) وبالرغم من أن العادة أن الوالد يدعو لولده والله يستجيب، ولكن دعوة الوالد على ولده لا تأتي إلا إذا ضاق به ذرعاً، كأن يكون عاقاً لأبيه لا يطيعه، فإن دعا عليه استجاب الله لهذه الدعوة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام- على السحاب- فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فنصر المظلوم آت من عند الله سبحانه، ولو تأخرت الاستجابة شيئاً ما في نظر الإنسان؛ ولكنها آتية ولو بعد حين.
يقول الله سبحانه وتعالى في هذا المعنى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس:22]، أي: السفينة {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22]: بحيث أن الإنسان ينسى نفسه، وينسى ربه سبحانه وتعالى، قال: {وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس:22]، فيفجأهم هذا الهول، ولذلك لابد أن يكون الإنسان في ذكر لله دائماً، يذكر الله في الرخاء، فيذكره الله ويكون معه عند الضراء.
ثم يقول سبحانه: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس:22]، فعندما اشتدت الأمواج والرياح ظنوا أنهم أحيط بهم، قال: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، ففي الأوقات العصيبة يذكر الإنسان ربه.
ثم يقول سبحانه: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:23]، فبعد أن يكشف الله عنه الضر الذي هو فيه ينسى ويتناسى، ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23]، أي: إذا بغيتم أو ظلمتم، رجع عليكم مكركم، وسوء صنيعكم.
لذلك على المؤمن إذا أحب أن يستجيب الله له في وقت البلاء: أن يكثر من الدعاء في وقت الرخاء، وأن يتواضع لله ولخلقه، فالله يحب المتواضعين.(154/5)
تفسير سورة النمل [62 - 63]
من رحمة الله عز وجل أن جعل بابه مفتوحاً لكل محتاج، فمن دعاه أجابه، ومن سأله من فضله أعطاه، ومن رحمته سبحانه أن هدى الإنسان في ظلمات البر والبحر حتى لا يتيه في هذه الأرض الواسعة، وأنزل له من السماء ماءً جعل فيه رزقه، ومع ذلك فإن الإنسان قد يعبد مع ربه غيره، فتعالى الله عما يشركون.(155/1)
مجيب دعوة المضطر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:62 - 63].
في هذه الآيات -كما ذكرنا قبل- يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن آياته، وعما خلق سبحانه وتعالى من خلقه، مما يراه كل ذي عينين، وكل من له عقل يفهم ويعرف أن هذه الأشياء لم تخلق سدى، وإنما خلقها الله عز وجل ليتفكر الخلق فيها، ففي خلق السماوات والأرض وما يأكله الإنسان آيات من آيات الله سبحانه.
فهنا يذكر الله عز وجل عباده بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، أي: من الذي يجيبكم إذا اضطررتم، أو أصابكم الضر ولم تجدوا أحداً يجيركم أو يغيثكم؟ حينئذ تلجئون إلى الله، فتقولون: يا رب! وتجأرون إليه بالدعاء، فيستجيب لكم، يقول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: المضطر: هو ذو الضرورة المجهود، أي: الإنسان الذي حاقت به مصيبة من المصائب، ووجد نفسه مضطراً يكاد يهلك ويضيع، فيجأر بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى وهو مجهود مكدود متعب لا يجد ملجأً له إلا عند الله سبحانه فيسأله حاجته، ويقول السدي: هو الذي لا حول له ولا قوة، أي: لا حيلة له ولا قدرة، بل وقف عاجزاً لا يقدر أن يدفع عن نفسه، فيقول: يا رب! ويلجأ إلى الله فيعطيه.
ويقول أبو جعفر وأبو عثمان النيسابوري: هو المفلس، وكله داخل تحت هذا المعنى، فإذا صار الإنسان معدماً لا شيء معه، محتاجاً إلى طعام وشراب ونفقه، والكل يطالبونه بما عليه لهم، وهو لا يجده، فيقول: يا رب! ويطلب من الله سبحانه، ويحسن اللجوء إليه، فالله يعطيه، يقول ذو النون: هو الذي قطع العلائق عما دون الله، أي: وجد أنه لا يوجد أي رابطة بينه وبين أحد، فلا أحد ينفعه، فصار وحيداً لا وسيلة ولا علائق بينه وبين أحد، فإذا به يلجأ إلى الله، فيعطيه الله سبحانه وتعالى.
ويقول سهل بن عبد الله: هو الذي إذا رفع يديه إلى الله داعياً لم تكن له وسيلة من طاعة قدمها، أي: وجد نفسه مضطراً لم يكن له قبل ذلك ما ينفعه، فقد كان عاصياً لله سبحانه، وفجأة اضطر ووجد نفسه محتاجاً إلى من يغيثه، وانقطع عنه الخلق، واستحيا من نفسه أنه لم يكن له طاعة قبل ذلك، فرفع يديه إلى الله خجلاً من نفسه، وقال: يا رب! فإذا بالله يعطي هذا المضطر الذي لجأ إليه سبحانه.
جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله -يقسم عليه- أن تدعو لي لأني مضطر، وكان مالك بن دينار أحد الصالحين رضي الله عنه -فقال له: طالما أنت مضطر فاسأل الله سبحانه- فإنه الذي يجيب المضطر إذا دعاه.
فالإنسان يدعو ربه ويكثر من الدعاء، والله سبحانه يستحيي أن يرفع العبد يديه إليه سبحانه مستغيثاً به ثم يردهما صفراً بدون شيء، فإن الله أكرم من ذلك سبحانه.(155/2)
تفسير قوله تعالى: (ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) وبيان حكمة الله من خلق الموت
قوله تعالى: {يَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، السوء: هو كل ما يسوء الإنسان، كالضرر الذي ينزل به، فإذا به لا يقدر على كشفه، فيساء منه أو يسوؤه ذلك، فالذي يكشف عنه ما نزل به هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، معناه: أن الذي يجعلكم خلفاء هو الله، أي: يستخلفكم في الأرض، بأن يجعل بعضكم وراء الآخر خليفة له، بحيث يذهب إنسان ويخلف الله غيره، ويذهب هؤلاء ويأتي بخلفاء غيرهم، ومعنى الخليفة كما يقول الله عز وجل للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، أي: خلفاء يخلف بعضهم بعضاً، ومن نعم الله سبحانه وتعالى التي من بها على العباد: الموت، ولذا يقول الله تعالى: {((قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26]، فلو ترك الله عز وجل عبده حياً وعاش مائة سنة ومائتين وألف سنة، كما عمر نوح، فلن تكون له قوة ولا قدرة، ولن يعير عقله كاملاً مكتملاً يرى ويفهم ويعي ما حوله؛ فكلما تقدمت به السنون رد إلى أرذل العمر ونسي وجهل وساء خلقه وقلل من طاعة ربه وصار ضعيفاً، فبعد أن كان يصلي قائماً صلى قاعداً، وبعد أن كان يكثر من الصلاة قلت صلاته، وأصابته الأمراض فإذا به لا يقدر على شيء، قال الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70]، وهو العمر الرذيل الذي لا يعلم فيه الإنسان بعد علم شيئاً، فبعد أن كان عالماً يعرف، إذا به لا يعرف شيئاً، وكم رأينا ممن ردوا إلى أرذل العمر لا يجدون شيئاً ولا يقدرون حتى على الصلاة، وإذا جلس أحدهم ليصلي سرح في صلاته واحتاج إلى من يذكره: أنت في الركعة الأولى أو في الثانية وهكذا، وقد يدخل في صلاته ثم ينام وهو فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله عز وجل من أن يرد إلى أرذل العمر، فكان يقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)، وعندما يصير الإنسان إلى أرذل العمر يكون عند الناس مكروهاً بغيضاً لا يحبونه، وقد ينفر منه الأقربون، فكيف يكون حال إنسان كانت الدنيا في يوم من الأيام تتكلم عنه، واليوم لا يطيق أحد مجالسته أو التكلم معه! الأمريكي السابق أصيب الآن بمرض أنساه كل من حوله، وأنساه نفسه بعد أن كان الحرس حوله يحرسونه في كل مكان، وبعد أن كان يتعالى على الناس ويترفع عليهم، أصبحوا الآن يحرسونه ليمنعوا عن الناس شره؛ لأنه لا يعرف من حوله، وقد كان في يوم من الأيام رئيساً لأمريكا التي تعد أقوى دولة في العالم، وكان الناس ينظرون إليه أنه شيء كبير، لكنه الآن في مصحة في قصر عظيم، داخل غرفة مغلقة، لا يختلط بأحد وعندما يعود إليه عقله يجلس وينظر قليلاً من النافذة وهكذا، فالله عز وجل جعل بني الإنسان خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، وأراح بعضهم من بعض بالموت، بعد أن يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
والموت خير للإنسان المؤمن؛ لأنه إذا مات ابتعد عن الفتن، وصار إلى رحمة رب العالمين سبحانه {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]، فإذا قارنا بين الدنيا والآخرة كان الأفضل للإنسان ما عند الله، ولذلك ما قبض الله نبياً إلا وخيره، فلما جاءت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة، فاختار ما عند الله سبحانه، وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أي: أنه طلب الرفيق الأعلى ولم يطلب الدنيا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60].
وكما أن الموت خير للمؤمن من أن يرد إلى أرذل العمر، فهو خير للكافر أيضاً، قال الله سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، فكلما عمر الكافر ازداد إثماً، حتى يتوفى على ذلك، ولذلك كان الموت خيراً له من أن يعيش ويزداد إثماً.
وليس معنى أن الله عز وجل جعل العباد خلفاء في الأرض: أنهم ملوك، إذ ليس كل الناس ملوكاً في الأرض، إنما يكون الملك منهم واحداً، والباقون كلهم رعية، فمعنى جعل الله الناس خلفاء أي: يخلف بعضهم بعضاً، ولو أن الله عز وجل ترك للناس العمر الطويل، وترك لهم عقولهم، وترك فيهم قوتهم أعماراً طويلة، فسيصبح الملك طول عمره ملكاً، ويظل على ذلك مائة سنة ومائتين، وسوف يكرهه الناس، وهو مع ذلك والناس يكرهوه يظل ملكاً عليهم، إذاً: أليس من رحمة رب العالمين سبحانه أنه لم يطل في عمر هذا الإنسان، بل جعل عمره قصيراً، ثم أخذه برحمته؟ فمن رحمته سبحانه وتعالى أنه لا يديم للظالم ملكه، ولا يبقيه في مكانه، ولكن يأخذه سبحانه ويأتي بغيره.
وهكذا فكل إنسان كان رئيساً على قومه ووالٍ عليهم، لو أن الله أطال في عمره وأبقاه في مكانه، فلن يرتقي إلى ذلك المكان الذي هو فيه أحد، وكلما ولد مولود فهو من الرعية الذين لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ولكن من الله عز وجل على العباد بنعمة الموت، فيقبض هؤلاء، وكل غيرهم محلهم؛ لعلهم يصلحون ويعتبرون فيكونون أحسن ممن كانوا قبلهم.
إذاً: فالله سبحانه يمن على العباد في هذه الآيات ويقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، فهو يسألهم سؤالاً فيه إنكار على من يعبدون غير الله سبحانه، وفيه تقرير لوحدانيته سبحانه، وأنه مستحق وحده للعبادة دون غيره.
والجواب على هذه الأسئلة: أن الله سبحانه هو الذي يفعل ذلك دون غيره.
قال الله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، يستحق العبادة وقد أعطاكم هذه النعم سبحانه وتعالى فهو {يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]،
و
الجواب
لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة إلا الله، وحده الذي أعطانا هذه النعم العظيمة.(155/3)
معنى قوله تعالى: (قليلاً ما تذكرون)
قال الله عز وجل: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، أي: أن الإنسان كثير النسيان، فهو مشتق من اسمه، فقد سمي إنساناً لكثرة نسيانه، وكثير من الناس ينسون ربهم سبحانه، وفضله، ويجحدون نعمه، قال الله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6].
وفي قوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، ثلاث قراءات: (قليلاً ما تذَّكِّرون)، (قليلاً ما يَذَّكرون)، والمعنى في الجميع: أن الإنسان كثير النسيان يغفل عن عبادة الله سبحانه، ويتغافل عن النعم ولا يشكر ربه سبحانه عليها، ففي كل يوم يدعو ربه، وبعد أن يستجيب له ينسى الله سبحانه وتعالى.
فبعض الناس يكون رئيسه في عمله ظالماً، فيدعو عليه بالهلاك، فلما أزاح الله عز وجل عنه الظلم، وصار في مكان رئيسه، إذا به يظلم الناس، ونسي كم دعا الله عز وجل على هذا الذي ظلمه، وإذا به يقول: هذه هي طبيعة العمل، وكما كان يقول الذي قبله يقول الذي بعده، فالإنسان فيه ظلم ونسيان.
إذاً: فقوله تعالى: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة حمزة، والكسائي، وخلف، ويقرؤها أبو عمرو، وهشام، وروح عن يعقوب: (قليلاً ما يذِّكرون)، ويقرؤها باقي القراء: (قليلاً ما تذَّكَّرون)، هذه ثلاث قراءات، والمعنى واحد.(155/4)
الهادي في ظلمات البر والبحر
قال الله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63] أي: من الذي يهديكم؟ ولا يعرف هذه النعمة العظيمة إلا من تاه وضل الطريق، فقد يدخل بسيارته الصحراء، ثم يتوه ولا يعرف طريق العودة، فينظر يميناً وشمالاً، ويقول: يا رب يا رب، فيدله الله عز وجل بمطلع الشمس على المشرق، وبغروبها على المغرب، وبالنظر في النجوم يعرف الشمال من الجنوب، وهكذا يستدل بأشياء خلقها الله عز وجل فيعرف طريقه، وقد يرسل الله إليه من يدله، كأن يجد إنساناً أمامه، فيسأله فيدله على طريق النجاة، بعد أن ضل يوماً أو يومين في هذا المكان، فمن الذي هداه ودله على هذا الذي دله على الطريق؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63]، في الظلام الدامس، فقد يكون الإنسان في البحر يقود سفينة وفجأة لا يعرف أين يذهب، والله سبحانه وتعالى ينير بالقمر مكاناً؛ حتى يعرف هذا الإنسان طريقه، أو ربما تتعطل السفينة في البحر، وتتوقف أجهزتها عن العمل، والنور ينطفئ ولا يستطيع من في السفينة أن يرو شيئاً، وإذا بالله يلهمهم كيف يصلحون العيب الذي فيها، ويضيء لهم ربهم سبحانه وتعالى بعد ظلمة شديدة، وإذا بهم يتناسون ربهم الذي دعوه قبل ذلك.
فقوله: يهديكم، أي: بالدلالات على المشرق والمغرب، والشمال والجنوب، {فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63].(155/5)
بشرى الرياح بالمطر
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63]، أي: أن الإنسان إذا كان في غاية الحر فإن الله يرسل رياحاً ترطب ما هو فيه، وإذا به في الشتاء ينتظر المطر ولا مطر، وفجأة تهب الرياح فينتظر البشارة من الله؛ لأن الرياح ما دامت شديدة فستسوق السحاب، وتنزل ماء على الناس، إذاً: فالله عز وجل يرسل الرياح بشارة للخلق بهطول المطر.
و (يرسل الريح)، هذه قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف، وفي القرآن كلمة: (الرياح) و (الريح)، ومن فرق بين الكلمتين فقال: إن الرياح للخير، والريح للشر فقد أخطأ فيها؛ لأنه لم يطلع على القراءات التي في كل القرآن، والتي فيها: (الرياح) و (الريح)، فقوله: إن الريح تأتي في الشر، والرياح تأتي في الخير بناء على أنه اطلع على قراءة واحدة فقط، وهي قراءة حفص عن عاصم، ولم يطلع على قراءة أبي جعفر الذي يقرأ: (الرياح) بالجمع في كل القرآن، فإذا جاءت الريح قرأها: الرياح، وهي قراءة متواترة، فالصواب: أن الريح والرياح يأتيان بالخير ويأتيان بغير ذلك.
وكلمة: (بشراً) يقرؤها بالباء عاصم فقط، ويقرؤها نافع وأبو جعفر المدنيان وابن كثير المكي، والبصريان أبو عمرو ويعقوب: (نُشُرَاً بين يدي رحمته)، بضمتين، ويقرؤها ابن عامر (نُشْراً بين يدي رحمته).
ويقرأها حمزة والكسائي وخلف الكوفيون: (نَشْرَاً بين يدي رحمته)، والنشر: من النشور، وكأنه هنا نشر الشيء بمعنى: أحياه، فيرسل الله سبحانه وتعالى الرياح لتنشر رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى، وتنزل الأمطار فيحيي بها الأرض بعد موتها، أي: ينبت الأرض، فنشرها بمعنى: رفعها وأحياها بعدما أماتها، وأغاث عباده بهذا الماء الذي نزل من السماء، و {بُشْرًا} [النمل:63]، من البشارة أي: أنه يفرح عباده بذلك، فالآية عندما تقرأ بقراءتين كأن لها معنيين، وكل قراءة لها حكم من الأحكام، فهنا أرسل الله عز وجل الرياح للبشارة، وأيضاً للنشور؛ لتنشر وترفع وتحيي بفضل الله عز وجل ما أمات من نبات بإنزال المطر من السماء.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(155/6)
تفسير سورة النمل [59 - 66]
يذكر سبحانه في هذه الآيات أن من نعمه على خلقه أنه يهديهم في ظلمات البر والبحر بالنجوم والعلامات التي خلقها، وأنه ينزل لهم المطر، ثم يسألهم: من الذي بدأ الخلق ثم هو قادر على إعادته؟ ومن الذي يعلم غيب السماوات والأرض؟
و
الجواب
إنه الله الذي لا إله إلا هو.(156/1)
استحقاق الله للعبادة دون ما سواه
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:63 - 66].
يخبر الله سبحانه وتعالى الناس عن نعمه ويعددها عليهم في هذه السورة بهذه الصور، فيذكر في أولها قوله سبحانه: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، ثم يسأل الناس سؤالاً فيه استفهام، وفيه التقرير بالجواب، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، والجواب عند الجميع: الله خير وأبقى سبحانه وتعالى.
ثم يعدد النعم التي أنعمها على عباده بهذه الصورة الجميلة في تقريره لنعمه سبحانه، واستفهامه استفهام إنكار على من يعبد غير الله سبحانه وتعالى: من خلق السماوات والأرض؟ قال سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، والجواب، أنه لا إله إلا الله، أي: لا يستحق أن يعبد إلا الله الذي يفعل ذلك، والذي يخلق ويرزق سبحانه وتعالى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، فيعقب وراء الاستفهام الذي مضمون الجواب فيه أنه: لا إله إلا الله، وهم يعرفون ذلك، فيقول سبحانه وتعالى مثبتاً عليهم كفرهم وشركهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:60]، يعدلون بالله غيره، ويعبدون غير الله مع الله، فهم قوم مشركون.
سؤال آخر: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:61]، والجواب أنه: لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة سوى الله وحده لا شريك له، يقول الله سبحانه معقباً: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:61]، أي: الأكثرون منهم لا يعرفون ربهم حق المعرفة، وما قدروا الله حق قدره، وإن عرفوا ربوبيته فقد جهلوا أو تجاهلوا أمر ألوهيته سبحانه وتعالى، فهم لا يعرفون الله حق معرفته سبحانه وتعالى.
وقال في الآية الأخرى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، أي: الأكثرون لا يؤمنون، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فالأكثرية من الناس على غير طريق الله سبحانه، والأكثرون يشركون بالله، ويقعون في الكفر بالله سبحانه.
ثم قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، من يفعل ذلك؟ الجواب هو الله، الفعال لما يريد، يقول الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
أي: أنه يقل تذكر الإنسان لربه سبحانه، فهو في غفلة وسهو ونسيان، إلى أن تنزل به مصيبة فيتذكر ويقول: يا رب يا رب، وإذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعون من دونه سبحانه، فلما نجاهم ربهم إلى البر، إذا بهم يشركون، فهم في البحر وفي الضر يوحدون الله، فإذا أنجاهم من المصائب رجعوا إلى شركهم وإلى كفرهم، وإلى دعاء غير الله سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].(156/2)
تفسير قوله تعالى: (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر)
قال سبحانه: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل:63] أي: من الذي يدلكم وأنتم في ظلمة البحر، بأن يهديكم بالنجوم وبالعلامات التي ترونها، ويخرجكم من ظلمة البر والبحر، من الذي يفعل ذلك؟ ومن الذي يرسل هذه الرياح بشراً بين يدي رحمته ونشراً، فينشر لكم به الأرض بعد موتها، ويحيي به الأرض، ويخرج بهذا المطر النبات؟ ومن الذي يسير هذه السحاب إلا الله سبحانه وتعالى، فتستبشرون بالرياح، وتستبشرون برؤية السحاب؟ {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:63]، والجواب أنه: لا إله إلا الله، تعالى الله عما يشركون.
قال الله: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النمل:64]، أي: من الذي بدأ الخلق؟ الكل يقولون: الله هو الذي بدأ الخلق، ومن يعيد هذا الخلق كما بدأه؟ وهل إعادة الخلق أصعب من بدء الخلق؟ بل كله هين على الله سبحانه وتعالى، ولذلك يخبرنا أنه سيخلق الخلق مرة ثانية، قال: (وهو أهون عليه)، أي: أنه هين على الله سبحانه أن يعيد الخلق مرة ثانية، قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27]، فإعادة الخلق مرة ثانية أهون من بدء الخلق، فإذا كان بدء الخلق هيناً على الله سبحانه، فكيف تكون الإعادة؟! ولكنهم ينكرون، فهم يثبتون أنه سبحانه بدأ، لكنهم ينكرون المبعث، يقول الله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد:5]، أي: سنرجع مرة ثانية.
وقال: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} [الإسراء:49]، أي: سيرجعنا مرة ثانية، هذا صعب لن يكون، هذا مستحيل، فينكرون شيئاً أثبتوا أصله، فهم يقولون: الذي خلقهم في البداية هو الله سبحانه وتعالى، فهذا الإله العظيم الذي خلق، أليس قادراً على الإعادة مرة ثانية؟ وأنتم تفكروا في أحوالكم، إذا صنع أحدكم آلة من الآلات وبعدما صنعها فككها، أليست إعادتها على هذا الذي صنعها أهون عليه من ابتداء صنعها واختراعها؟! تفكروا في أنفسكم حتى تعرفوا قدرة ربكم سبحانه وتعالى.
قال: {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [النمل:64]، أي: من الذي تطلبون منه: يا رب ارزقنا، يا رب توكلنا عليك! من الذي يفعل بكم ذلك؟ الكل يقول: الله.
ولو أنكر الكافر بلسانه فهو يعرف بقلبه، والذي يدل على ذلك: أن الله شهد عليهم أنهم مقرون بأنه الخالق، قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9]، سبحانه وتعالى.
فكأن هؤلاء الكفار وإن نطقوا بألسنتهم بأشياء يكذبون بها، فإنهم في داخلهم يعرفون الله سبحانه وتعالى، حتى لو أنكروا وقالوا: الذي خلقتنا الصدفة أو الطبيعة، مثلما يقول الملحدون الدهريون، فيقال لهؤلاء: هذه الطبيعة التي أوجدتكم، أو هذه الصدفة التي تزعمون، هل هي قادرة عليمة حكيمة تعلم ماذا تعمل، وتقدر عليه؟ سيضعون صفات الله عز وجل لهذه الطبيعة، وفي النهاية يوجد خالق خلقهم، ولكن يفرون من أن يقولوا: الله، حتى لا يكلفوا، وحتى لا يعبدوا الله سبحانه وتعالى.
فالكافر ينكر ربه مكابرة وجحوداً، حتى لا يقال له: اعبد الله سبحانه وتعالى، وحتى لا يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فينكرون إلهه سبحانه حتى لا يتابعوه في دينه، عليه الصلاة والسلام.
فالذي يبدأ الخلق والذي يعيد الخلق وهو أهون عليه هو الله سبحانه، والذي يرزق العباد من السماء فينزل المطر، ويستجيب الدعاء، ويخرج لهم ما تنبته الأرض من نبات ومن ثمار هو الله، يقول الله: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:64]، هل إله مع الله يستحق أن يعبد؟ فكأنه أثبت الربوبية، ثم أنكر عليهم أن يشركوا في إلوهيته غيره سبحانه، فقال: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، فكل آية يختمها بما يناسبها، فلما ذكر مجموعة من الأدلة على ما أنعم به على عباده، ختم بهذا الختام الجميل، قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64] أي: هاتوا الدليل على ما تقولون، من أن غير الله يستحق أن يعبد، فإذا قالوا: نعبد اللات والعزى، فما الدليل على أنها تستحق العبادة؟ هاتوا الدليل النقلي، والدليل العقلي الذي يدل على ذلك؟ والدليل النقلي: أن يكون معك كتاب من عند الله، أو آثار من علم لتقول: اعبدوا هذا من دون الله، وهيهات أن يأتوا بمثل ذلك.
والدليل العقلي: لماذا تعبد هذا الحجر الذي خلقته أنت، وصنعته أنت، وهو لا ينفع نفسه فضلاً عن أن ينفعك، ولا يضر نفسه ولا يضر أحداً؟ فالعقل لا يجيز ذلك، ولا معك برهان على ما تقول، قال سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64]، يعني: في دعواكم هذه.(156/3)
تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله)
قال الله: {قُلْ} [النمل:65] أي: لهؤلاء القوم: {لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]، وحده لا شريك له، فهو الذي يعلم غيب السموات وغيب الأرض، وهذه الآلهة التي تبعدونها لا تعرف شيئاً من هذه الغيوب، فالله وحده سبحانه هو علام الغيوب، ولا يطلع على غيبه إلا من شاء من رسله عليهم الصلاة والسلام، ولذلك تقول عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم ما في غدٍ فقد أعظم على الله الفرية.
يعني كذب على الله من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف ماذا سيكون في غد، فهو لا يعرف صلى الله عليه وسلم ولا غيره من خلق الله ماذا سيكون في غد، قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34].
أيضاً جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه حضر عرساً لأناس من الأنصار، فسمع جارية تغني وتقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم: وفينا نبي يعلم ما في غد، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وقال: لا يعلم الغيب إلا الله، قولوا ببعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان أن تقولوا ذلك).
فلا أحد في السموات ولا في الأرض يعلم الغيب إلا الله سبحانه: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، أيان أي: متى، والمعنى: أنه لا يدري أحد متى يموت، ومتى يبعث.(156/4)
تفسير قوله تعالى: (بل ادارك علمهم في الآخرة)
يقول سبحانه: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].
قوله: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل:66]، فيها قراءتان، قراءة الجمهور: (بل ادارك علمهم في الآخرة)، وقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: (بل أدرك علمه في الآخرة)، من الإدراك، فإما أن يكون فيه إنكار على هؤلاء على وجه الاستهزاء بهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل:66]، مستهيناً ومستهزئاً بهم؛ فهم يدعون أنهم يعلمون وهم أجهل الجاهلين، لا يفهمون شيئاً، ولا يعرفون شيئاً، فيستهزئ بهم ربهم سبحانه.
وإما أن يكون معنى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ} [النمل:66]، أنه في الآخرة يدارك علمهم، ويتكامل يوم القيامة، فيعرفون حقيقة ما كانوا ينكرون، وكل إنسان معه شيء من العلم في الدنيا، لكنه يوم القيامة يكون أمامه عين اليقين وحق اليقين، فيرى بعينه الجنة والنار، ويرى بعينه الآخرة، فيكتمل علم الخلق يوم القيامة، حين يجدون ما كان غائباً أمامهم مشاهداً، فسيكتمل العلم لكل الخلق من كافر ومؤمن يوم القيامة، وكذلك أدرك علمهم في الآخرة، أي: فسيكون الإدراك يوم القيامة، فيعرفون ويستيقنون حين لا ينفعهم العلم، ولا ينفعهم هذا اليقين، ويكونون في النار.
فيكون المعنى: بل تكامل علمهم في الآخرة؛ لأنهم رأوا كل ما وعدوا به.
قال سبحانه: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا} [النمل:66]، يعني: أنهم في شك منها الآن، ويوم القيامة يصلون إلى اليقين فيعرفون، لكن لا تنفعهم معرفتهم.
{بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66]، أي في عمى عن الآخرة، ولذلك لا يعملون لها، أما المؤمن فهو يرى الآخرة كلما قرأ كتاب الله سبحانه، وكلما مرت به عظة من العظات، وكلما مر به ميت محمول إلى قبره، فهو متذكر للآخرة ليل نهار، يعلم أنه راجع إلى الله، وأنه سائله ومحاسبه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونسأله ألا يجعلنا من الغافلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(156/5)
تفسير سورة النمل [67 - 75]
لقد أنكر كفار قريش والعرب البعث بعد الموت، وادعوا أن هذا مما وعد به آباؤهم الأولون، وأنه من الأساطير المكذوبة، وقد أمرهم الله أن يسيروا في الأرض حتى ينظروا كيف كان عاقبة أمثالهم من المجرمين الذين كذبوا رسل الله، وخوفهم بأنه قد يكون اقترب منهم عذاب الله الذي يستعجلونه، ولكن من فضل الله على الناس أنه لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، عسى أن يتوب ويرجع إلى مولاه.(157/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ * وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:67 - 75].
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكبر الكفار وإنكارهم أن الله يعيد الخلق كما بدأه أول مرة، فقالوا مستنكرين للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67]، أي: أئنا لمبعوثون، فكانوا يستنكرون ذلك وقد أعماهم الله عز وجل عن التفكر في أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، وقد أقروا على ذلك بأنفسهم، وشهدوا أنهم مخلوقون، وأن الله هو الذي خِلقهم، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فالله عز وجل قد خلقهم، وأرسل رسولاً إليهم ينبئهم أنهم مبعوثون ومسئولون ومحاسبون، وأن مصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، فأنكروا حتى لا يكلفهم ربهم سبحانه، وحتى لا يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال لا يريدون فعلها، فلذلك استنكروا وقالوا: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2 - 3]، أي: بعد أن نكون تراباً أنرجع مرة أخرى؟ هذا مستحيل.
وما وجه الاستحالة فيها إذا كان الله هو الذي خلقكم من عدم، وجعلكم تراباً وأوجدكم بهذا الخلق الذي تقرون به؟ وكيف تنكرونه وتتعجبون من أن يعيدكم الله مرة أخرى، وهو على كل شيء قدير؟ هنا يقول سبحانه: ((أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ))، هل نخرج ونبعث ونحاسب مرة أخرى؟ هذا بعيد.
إن السبب في إنكارهم البعث هو: الأماني، فالإنسان عندما يحب أن يعمل المعصية، يتعامى ويتغافل عن الدار الآخرة، ولا يريد أن يذكره أحد بالبعث، أو الجنة والنار.
والكافر يريد أن يأكل ويشرب، ويأتي ما يشتهي من شهوات باطلة، ثم لا يسأله ولا يحاسبه أحد، فإذا ذكر بالآخرة، لا يريد أن يذكرها، فإذا قلت له: لا تفعل هذا وهو يريد أن يفعله، تغافل عن الدار الآخرة.
فاستنكروا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:7]، وأي ملة هذه التي لم يسمعوا بها، وقد كان قبلهم النبي عيسى وموسى وإبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام؟ فكلهم أخبروا العباد بأنهم ميتون، ومبعوثون إلى ربهم، وحذروهم من بطش ربهم سبحانه وتعالى.
أي ملة هذه التي يقولها هؤلاء الكفار، ويتكلمون عنها؟ وما الذي بأيديهم من آثار ومن علم حتى يزعموا ذلك؟ إنهم كذابون، وكما يقال: رمتني بدائها وانسلت، ومع ذلك يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: ساحر كذاب، فيختلفون الكذب ثم يرمون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
فقال الله تعالى هنا: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا} [النمل:67]، فقد نظروا إلى أنفسهم وقالوا: نحن الآن على قيد الحياة، وآباؤنا أموات، فيذهب أحدهم إلى قبر، ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم برأس محطم لإنسان ميت، من زمن بعيد ويفتته بيده، ويقول له: أتزعم أن ربك يبعث هذه مرة ثانية؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يبعثها ويدخلك النار)، جزاء تكذيبك أيها الإنسان! فالله يحيي العظام بعد أن تكون رميماً.
قوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل:67]، إذا جاء الاستفهام بهذه الصورة: (أَئِذَا)، و (أَئِنَّا) ففيه قراءات، فيقرأ هذه الآية نافع وأبو جعفر بالإخبار في الأولى، والاستفهام في الثانية، فتكون القراءة: (إذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون)، وعلى الوجوه التي يقرءون بها بالتسهيل وبالمد فيها، فـ قالون عن نافع يقرأها: (إذا متنا وكنا تراباً آئنا لمخرجون)، فيمدها، وكذلك أبو جعفر يمد في الثانية (آئنا) ويسهل فيها (أئنا).
يقرأها ورش كما يقرأها نافع وأبو جعفر، ولكن بدون مد فيقول: (إذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون).
ويقرأها ابن عامر والكسائي بالعكس في ذلك، فيستفهم في الأولى ويخبر في الثانية، فيقول: (أَئِذَا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وعلى أصول ابن عامر سيقرأها ابن ذكوان: (أئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وهشام يقرأ بالمد فيها: (آئذا متنا وكنا تراباً إننا لمخرجون)، وباقي القراء يقرءونها بالاستفهام في الاثنين: (أئذا) و (أئنا)، وهو على أصولهم، فـ أبو عمرو وابن كثير يقرؤها: (أئذا متنا وكنا تراباً أئنا لمخرجون).
إذاً: باقي القراء يقرؤنها بالتحقيق في الهمزتين: (أئذا) (أئنا).
فهنا استفهام استنكاري من الكفار، يستنكرون كيف يموتون ويكونون تراباً، وعظاماً، ثم يرجعون مرة ثانية، إن هذا لرجع بعيد.
وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل:68].
وذكر في سورة المؤمنون أيضاً: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون:83]، والقرآن يتفنن في السياق، فهنا يذكر بصيغة وهناك يذكر بصيغة، أخرى، فيقدم ويؤخر سبحانه وتعالى بما يتناسب مع السياق القرآني.
فقدم (هذا) هنا، وقال: ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا)) أي أنهم قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم جاء يعدنا بأنا سنبعث مرة أخرى، فإن آباءنا من قبل قيل لهم ذلك، ولم نر أحداً منهم بعث، فكأنهم ينظرون إلى الدنيا ويقولون: أين أجدادنا؟! لم لم يبعثوا؟! فهم يريدون من الله أن يميتهم ويبعثهم أمامهم حتى يؤمنوا بذلك.
قوله: (إِنْ هَذَا) أي: الوعد والكلام، ((إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الكلام الخرافي المكتوب، أي: هذه خرافات قديمة كان يقولها السابقون، فهذا كله من أساطيرهم وخرافاتهم.(157/2)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين)
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل:69] أي: كما أجرمتم أنتم انظروا إلى السابقين كيف أجرموا، وماذا كانت عقوبتهم، وكيف كانت عاقبتهم، فينظرون ويسيرون شمالاً وجنوباً، ففي الشمال يسيرون إلى أرض كان فيها ثمود قبل ذلك في حجر ثمود، وهم يعرفونه تماماً، ويسيرون إلى فلسطين، فيأتون إلى قرى قوم لوط وينظرون كيف صنع بهم؟! وكيف أهلكهم الله؟! وهم كانوا يعرفون ذلك، فالله عز وجل يقول: ((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ))، أي: انظروا الذين كذبوا من قبلكم كيف صنعنا بهم، لقد توعدتهم رسلهم بعقوبة من عند الله وجاءتهم العقوبة والعذاب، وسيروا جنوباً وانظروا أين ذهب قوم عاد، لقد أهلكهم الله وأزالهم، فما ترى لهم من باقية.
يقول سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: امشوا، وسيروا في الأرض فانظروا واعتبروا، ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ))، والعاقبة: هي النتيجة، وهي ما يعقب الشيء، فهؤلاء أجرموا، فسيروا وانظروا كيف أهلكهم الله سبحانه وتعالى وجعلهم آية، وكيف كانت نتيجة إجرامهم.
وقوله: ((الْمُجْرِمِينَ)) أي: المكذبين لرسلهم.(157/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)
يقول الله تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النمل:70].
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ))؛ لأنه كان يحزن من إجرامهم، وكفرهم، وكان يود لو أنهم أسلموا، فكان حزنه شديداً صلوات الله وسلامه عليه، فالله سبحانه يصبره ويطمأنه، ويقول له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، أي: لا تهلك نفسك عليهم، إنما عليك أن تبلغ، ولكن لا تحزن حتى تميت نفسك على هؤلاء، فهم لا يستحقون ذلك.
قوله: ((وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)) فيها قراءات: قراءة الجمهور ((عَلَيْهِمْ)) بكسر الهاء، ويقرأها حمزة ويعقوب: (عليهُم) بضم الهاء.
وقوله تعالى: ((وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)) أي: لا يكن صدرك ضيقاً بسبب مكر هؤلاء.
وفيها قراءات: قراءة الجمهور: (ضَيْقٍ)، بفتح الضاد، وقراءة ابن كثير: (ضِيق) بكسرها، فإذا قرأها كلها يقول: (ولا تحزن عليهمُ ولا تكن في ضِيق مما يمكرون).
فالله عز وجل يصبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تحزن ولا يضق صدرك بما يمكر هؤلاء، فمهما مكر المستهزءون فنهايتهم إلى الله عز وجل ليجازيهم، وذلك في الآخرة أو أنه في الدنيا سيعاقبهم بعذاب من عنده، فيهلكهم كما أهلكهم في يوم بدر وغيرها، فلا تكن في ضيق من مكرهم واستهزائهم.(157/4)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون)
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:71]، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كلما قال لهم -يخوفهم بيوم القيامة-: اتقوا الله، وخافوا يوم الحساب، يقولون: متى يوم الحساب؟ إنك تتوعدنا به وبأنه قريب، ولكنا لا نرى مما تتوعدنا به شيئاً، وكيف تقول إن الله يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، ولم يأت أمر الله هذا؟ إذاً: فالله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنهم يقولون لك: ((مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ))، وهم ينتظرون جواباً منه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل يقول جواباً على سؤالهم: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:72]، أي: لماذا تستعجلون؟ فعسى أن يكون بعض ما تستعجلونه، وربما أتاكم ما توعدون قريباً وقد كان ذلك، فـ أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم يوم بدر كانوا كلهم صرعى، فألقاهم المسلمون في قليب بدر، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على هذا القليب ينادي على هؤلاء الكفار: أن جاءكم ما توعدون.
وقوله: ((قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ))، أي: قد اقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب، و (رَدِفَ) بمعنى: تبع أو أتبع، فكما يقولون: فلان رديف لفلان، أي: آت بعده، فالمعنى: أن الموت آت بعدكم مباشرة، فلا تستعجلوه.(157/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون)
قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [النمل:73]، أي: أن نعم الله عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم لعله ضاق صدره من هؤلاء الكفار، ومن أذاهم له، فقال له الله عز وجل: ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ))، فلا تستعجل، لعل الله عز وجل يتفضل على بعض هؤلاء، فيؤمنوا ويدخلوا في دينك، وبالفعل فقد أسلم كثير من هؤلاء الكفار، سواء قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو بعد هجرته ثم هاجروا إليه، أو بعد ما فتحت مكة، وحسن إسلامهم، كـ أبي سفيان الذي كان شيخ قريش في الجاهلية، وكان من أشد الناس أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين، ثم أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه رضي الله تعالى عنه.
فربنا يقول: ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ))، فمن فضل الله عز وجل على الناس أن جعل درجات عالية في الجنة، لا ينالها الإنسان بعمله فقط، ومهما عمل فلن يصل إليه، ولكن الله يرفعه إليها بالابتلاء والصبر، فالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يصبرون، -والصبر لا يكون إلا على البلاء، أو الجهاد في سبيل الله سبحانه- فيرفعهم الله بهذا الصبر درجات.
إن الله خلق العباد فمنهم كافر ومنهم مؤمن، وأفعال الله عز وجل كلها خير، خلق الكافر وهو شر، ولكن وجوده خير للمؤمن، ليدعوه إلى دين الإسلام، فإما أن يستجيب فيحصل على الأجر العظيم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس) أو أنه لا يستجيب، فيحارب ويقاتل المسلم فيقتل المسلم فيكون شهيداً، أو يغلب المسلم فيكون له الأجر عند الله والغنيمة، فكل أفعال الله عز وجل خير لو تفكر الإنسان.
يقول الله سبحانه: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ))، أي: يتناسون نعم الله، وقد ذكرنا بهذه النعم في الآيات السابقة.
قوله تعالى: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ)) أي: أكثر الناس، ((لا يَشْكُرُونَ))، نعم الله عز وجل عليهم.(157/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون)
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل:74]، أي: أن الله يعلم ما تكن صدور الناس، من إيمان، أو كفر، أو نفاق، أو مكر، أو استهزاءٍ، أو استهانة، أو تدبير يدبرونه، أو حب لله، أو بغض للمؤمنين.
وقوله تعالى: ((وَمَا يُعْلِنُونَ)) أي: من أقوال وأفعال، فيجهرون بها.(157/7)
تفسير قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين)
ثم يقول الله سبحانه: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]، هذا أسلوب حصر وقصر، والمعنى: لا يمكن أن يفوت الله سبحانه وتعالى شيء في السموات ولا في الأرض، فكل شيء غاب عن الخلق في السموات والأرض فإن الله عز وجل يعلمه، سواء كان صغيراً أو كبيراً، أو دقيقاً أو حقيراً أو عظيماً، فكله يعلمه الله سبحانه.
وقوله تعالى: ((وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ)) أي: ما من شيء يغيب في السموات ولا في الأرض، وعبر عنها بكلمة: (غائبة) وكأنها صفة لمحذوف تقديره: (خصلة)، أو أي شيء غائب، فعبر عنه بذلك، والتقدير: ما من خصلة في السموات والأرض تغيب عن الخلق إلا والله عز وجل قد علمها، وأثبتها في كتاب مبين عنده.
وقوله: (مُبِينٍ)، بمعنى: بين ظاهر، وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ عند الله عز وجل، مكتوب فيه كل شيء، ويظهر يوم القيامة كل ما فيه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(157/8)
تفسير سورة النمل [76 - 81]
يبين القرآن لأهل الكتاب أكثر ما يختلفون فيه، ففيه الهدى والرحمة لمن آمن به، ولكنهم لم ينتهوا عما هم عليه من الضلال، بل أعرضوا عن هذا الهدى وصدوا عنه، فمن كان أعمى فمن أين يرى؟ ومن كان أصم فكيف يسمع؟ فهم صم بكم عمي لا يعقلون.(158/1)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:76 - 81].
في هذه الآيات من سورة النمل يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن هذا القرآن العظيم، كيف أنه يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، فهم يزعمون أنهم أهل التوراة، وأن عندهم علم عظيم من عند الله سبحانه، فالله يخبرهم أنهم مختلفون في هذا الذي جاءهم من عنده، فقد حرفوه وبدلوه وغيروه وكتموه وأخفوا بعضه، فجاء القرآن ليبين لهم ما هم فيه مختلفون، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].
فكان الواجب عليهم -وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وأنه نبي حق، وسمعوا ما جاء في القرآن مما هو عندهم، ولا يطلع عليه الكثيرون منهم- أن يتبعوا هذا القرآن، لكنهم اختلفوا فيما عندهم من العلم، فإذا بالله عز وجل يذكر حقيقة الشيء الذي حرفوه، وكيف كذبوا على الله وعلى رسله عليهم الصلاة والسلام.
ومن المعلوم أن بعض اليهود ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: نسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فعندما يجيبهم يقولون له: صدقت -ويقبلون يده ورجله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يدخلون في دينه- فيقول: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ فيقولون: نخاف من بني إسرائيل -أي: من يهود- أن يقتلوننا، وإن داود دعا ربه أنه لا يزال من ذريته نبي، فنحن ننتظر نبياً من ذريته، فهم في حقيقة أمرهم يخاف بعضهم من بعض، ويخافون أن يقتل بعضهم بعضاً، فطمعوا في الدنيا، وتركوا الآخرة، وأعرضوا عنها، فالله عز وجل فضحهم وأخبرهم في كتابه عما كانوا فيه يختلفون، وأنهم ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات، وأن اختلافهم سببه البغي فيما بينهم.
إذاً: جاءهم العلم من رب العالمين، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، وكأن العلم الذي نزل من عند الله عليهم كالمطر، إذا نزل على أرض صالحة أخرج ما فيها من نبات طيب، وإذا نزل على أرض خبيثة لم تنتفع به، وإذا نزل على نبات مر أخرج ثماراً مرة، فهؤلاء جاءهم كتاب رب العالمين وعرفوا ما فيه، ولكن قلوبهم ملئت بالبغي والغل والحسد، فاختلفوا وقتل بعضهم بعضاً بغياً بينهم، فالله أخبر بما كانوا فيه يختلفون، وقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، وقد أطلع الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يكيدون له، وما كانوا يقولونه فيه، كما أطلعه على بعض الأشياء التي حرفوها، ففضحهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاءوا إليه برجل وامرأة قد زنيا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون عندكم في التوراة؟ -وكانوا يخفون هذا الحكم- قالوا: نجد في كتابنا أن نسخم وجوههما، ونطوف بهما منكسين على حمار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أما تجدون الرجم عندكم؟ قالوا: لا -فكذبوا ومعهم التوراة وفيها الرجم- فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]، فأتوا بالتوراة، وإذا بالقارئ يقرؤها ويضع يده على آية الرجم ليخفيها، فقرأ الذي أمامها والذي خلفها، ولم يقرأ ما تحت يده، ثم قال: لا أجدها، فقال له أحد اليهود: ارفع يدك واقرأ ما تحتها، فرفع يده، وما استحيا من الله عز وجل، ومن الناس، فقرأ الآية التي كان يخفيها بيده).
وهكذا كانوا يتعاملون مع توراتهم التي يقولون عنها: إن فيها علماً عظيماً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر برجم اليهوديين ويقول: (اللهم اشهد أني أول من أقام دينك بعد أن بدلوه)، ففضحهم ربهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وفي كتابه العزيز بأنهم اختلفوا {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]، فقص عليهم القرآن {أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].(158/2)
تفسير قوله تعالى: (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين)
قال الله عز وجل عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:77]، فقوله: ((وَإِنَّهُ لَهُدًى)) أي: يهدي به الله عز وجل من يشاء من خلقه، وقوله: ((وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ))، أي: أن القرآن يقرؤه المؤمن ويقرؤه المنافق، والذي ينتفع به هو المؤمن، أما المنافق فلا ينتفع به، فرحمة الله قريب من المحسنين، فمن أحسن في تلاوته وفي عمله أحسن الله إليه، ومن أساء وأعرض واتخذ القرآن لعباً ولهواً، أو اتخذه حرفة يتكسب بها، ولم ينظر إلى الدار الآخرة، فالله عز وجل يعرض عنه، ولا يجعل القرآن له هداية ولا رحمة؛ لأن هذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين، يهديهم إلى الصراط المستقيم، وإلى سبيل رب العالمين، ويرحمهم الله عز وجل به.(158/3)
تفسير قوله تعالى: (إن ربك يقضي بينهم بحكمه)
قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78]، أي: بين بني إسرائيل وبين خلقه جميعاً، يقضي بينهم بحكمه يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [النمل:78]، فالله يحكم يوم القيامة، ولا معقب لحكمه، والإنسان في الدنيا إذا اختصم مع غيره فلعله يخيفه ويأخذ حقه منه، ولعله أمام الحاكم يأتي بشهود زور يشهدون له، أما يوم القيامة فالحساب عند رب العالمين سبحانه، والحكم بينهم للملك الحق العدل المبين.
((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) أي: وهو العزيز الغالب الذي لا يمانع، القادر القاهر، سبحانه وتعالى، فإذا جاءوا يوم القيامة فلا يتكلم أحد أمام رب العالمين، ويختم الله على أفواههم كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
فالله سبحانه ذكر أنه يقضي بحكمه، وكم من إنسان في الدنيا يصلح أن يحكم بين الناس، ولكن لا يقدر على ذلك لضعفه، فقد يعرف المسألة ويعرف الحق فيها، ولكنه يخاف أن يقوله؛ لكي لا يؤذيه أحد الخصمين، وكم من إنسان يحكم بين اثنين، فيحيف وينصر أحدهما على الآخر، وكأنه قريب منه؛ لأنه أدلى بحجة صحيحة في زعمه، وليست بحجة صحيحة، وهذا إن مضى وجاز على الناس، فلا يجوز على رب العالمين سبحانه وتعالى.
فالإنسان يدلي بحجته يوم القيامة، ويأتي الضعيف فيقول: يا ربي سل هذا: فيم قتلي؟ أو فيم أكل مالي؟ أو فيم لطمني؟ أو فيم ظلمني؟ والله عز وجل يسأله: لم فعلت كذا؟ فلا يقدر أن يكذب، فتنطق جوارحه بالحق ويدين نفسه في يوم الجزاء ويوم الدين، قال الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} [النمل:78]، أما في الدنيا فيظهر الله الحق الذي أخفاه أهل الكتاب، ويأتي بالحق في كتابه ليحكم به بين الناس، وأما يوم القيامة فيؤاخذ الظالم ويعاقبه، فإما أن يدخله النار، وإما أن يأخذ من حسناته ويعطيها المظلوم، حتى يكتفي ويشعر أنه أخذ حقه وانتصر عليه، فقوله: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ)) أي: الغالب، و ((الْعَلِيمُ))، الذي يقضي بعلمه وحكمه، والذي يعلم كل شيء، ما ظهر وما خفي، ويعلم السر وأخفى، فيقضي بينهم يوم القيامة بحكمه ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)).(158/4)
تفسير قوله تعالى: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين)
ثم يأمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، والفاء هنا: عاطفة على ما قبل، والتقدير: إذا كان الأمر على ذلك {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النمل:79]، أو بسبب ذلك توكل على الله سبحانه.
ومعنى (توكل على الله): اعتمد عليه وفوض أمرك إليه، وهو ناصرك ومؤيدك سبحانه.
{إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، وكأنه يقول له: لأنك ((عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))، أو فإنك ((عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))، فلذلك ينبغي عليك أن تفوض أمرك إلى الله فهو وكيلك وناصرك، ومعنى ((إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ)) أي: على شريعة من عند ربك، والمبين أي: الواضح الظاهر الذي لا خفاء فيه، والذي عرف الجميع أنه الحق من عند رب العالمين.(158/5)
تفسير قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى)
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80]، قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، هذا هو الأصل، فالميت انحجب عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً من أمورها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعه إياه، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه دفنوا ميتاً ثم تولوا عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليسمع قرع نعالهم)، فالميت حين يوضع في قبره، وينصرف عنه الناس، فإن الله عز وجل يسمعه أصوات انصرافهم، وبعد انصرافهم يصير وحيداً في قبره، وينقطع أمره عن الدنيا، فلا يسمع شيئاً، ولا يعرف شيئاً مما يدور فيها.
إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون، إلا أن يجعل الله عز وجل صوته يصل إليهم، كما حدث في يوم بدر، فقد جاء في حديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، -أي: من عتات قريش وكفارهم، كـ أبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من كبار الكفار- كانوا قتلوا في يوم بدر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث -أي: في بئر من الآبار التي كانت موجودة في ذلك المكان، فلم يحفروا لهم قبوراً ولا غيره، ولكن رموهم في داخل بئر من الآبار- وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، -أي: إذا غلب قوماً وانتصر عليهم أقام بمكان القتال ثلاثة أيام صلوات الله وسلامه عليه- فلما كان ببدر في اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه -وهم لا يعرفون أين سيذهب صلى الله عليه وسلم- فقالوا: ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي- أي: جاء على حرف البئر- وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ -أي: أيسركم الآن لو كنتم أطعتم الله ورسوله- فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فتعجب عمر وقال: يا رسول الله! أتكلم أجساداً لا أرواح لها؟! -أي: جثثاً مرمية لا تسمعك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، بمعنى: أنهم يسمعونني الآن، وإن كانت العادة أنهم لا يسمعون، ولكن الله أسمعهم الآن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الله عز وجل هنا في هذه الآية: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80].
إذاً: الأصل أن الموتى لا يسمعون شيئاً من كلام أهل الدنيا، ولا مما فيها، إلا ما يشاء الله عز وجل أن يسمعهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كما أسمعهم انصراف الناس عنهم.
يقول الله عز وجل: ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ))، الصم: جمع أصم، وهو الذي لا يسمع، فإذا ناديته ولى مدبراً عنك، فكأن هؤلاء المشركين كما قال الله عز وجل فيهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، وقال: {فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
فالأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم، والأعمى الذي لا يرى، من المستحيل أن يحس أو يشعر بمن يناديه، فإذا ذهب فلا يمكن أن يعيده هذا النداء، وقلبه بيد الله عز وجل يقلبه كيف يشاء.
فلذلك أخبر عن هؤلاء الكفار أنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، إذا نودوا ليرجعوا لا يرجعون، وهم لا يعقلون، وكيف يعقلون وقد انقطعت عنهم حواسهم، وغاب عنهم شعورهم، يقول الله سبحانه: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، والكافر أشد من هذا الأصم الأبكم الأعمى، وإذا جاء الأصم الأبكم الأعمى يوم القيامة قال لربه: يا رب! لم أسمع ولم أعلم، وما جاءنا من عندك من نذير، فيرحمه الله سبحانه وتعالى، أما الكافر فلا يرحمه؛ لأنه كان ينظر ويسمع ويعي ويعقل، ومع ذلك أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كالأعمى والأصم، فالله عز وجل يقول: ((إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى))، هؤلاء، ((وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ))، أي: لا تسمعهم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (ولا يسمع الصم الدعاء) أي: أن الإنسان الأصم لا يسمع دعاءك إذا ناديته، وهذا الكافر كهذا الأصم الذي لا يسمع، فلا تسمعه دعاءك إلا أن يشاء الله، وقوله تعالى: ((إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ))، أي: أعرضوا عنك، ولم يريدوا أن يسمعوا لك، وكانوا إذا أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم استغشوا ثيابهم؛ كي لا يرونه، فكان الواحد منهم يضع أصبعه في أذنه ويغطي عينيه حتى لا يسمع كلامه صلى الله عليه وسلم ولا يراه، وهذا الذي فعله الكفار مع نوح، فقد شكا نوح لربه سبحانه أنه كلما دعاهم إلى الله عز وجل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وهذا حال الكفار والمنافقين أيضاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر وهو راكب على حمار بـ عبد الله بن أبي بن سلول فإذا بالرجل يستغشي بثوبه على وجهه ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم -وقد جاء مسلماً يدعوهم إلى الله- يا أيها الرجل! ما أحسن ما تقول إن كان ما تقول حقاً، ارجع إلى بيتك فمن أتاك منا فأخبره، أي: لا تكلمنا، واذهب إلى بيتك، والذي يأتي إليك يريد أن يسمع فكلمه.
فهذا رده على النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أصم أعمى القلب، لا يفهم ولا يعقل، وظل على هذا العمى حتى أخذه الله عز وجل وهو على ذلك، وقد أساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم إساءات عظيمة، فكفر في قلبه وإن خالف بعد ذلك وأظهر الإسلام بلسانه، لكن قلبه ممتلئ بالغل والحقد على الإسلام دين رب العالمين.
فالمقصود أن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تقدر أن تسمع من أصمه الله سبحانه، وأذهب عقله، فلا يفهم ولا يعي.(158/6)
تفسير قوله تعالى: (وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم)
يقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل:81]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم، بمعنى: يدل، أما أن يأخذ الإنسان ويحوله من دين إلى دين فلا يقدر.
ومعنى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، أي: أنت -يا محمد- تدل وتبين، و {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، أي: لا تقدر أن تحوله إلى الإسلام، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدر على ذلك لحول عمه أبا طالب الذي دافع عنه وعن الإسلام دفاعاً عظيماً، ومع ذلك أبى إلا أن يموت كافراً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدعوه ويدخله في الدين، والله يقول له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، كذلك الآية هنا: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:81]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة: (وما أنت تهدي العميَ عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) أي: الذي يسمع فينتفع، وإلا فالكل يسمع، ولكن الذي يسمع فينتفع هو الذي يؤمن بكتاب رب العالمين، ويسلم نفسه ويوجه وجهه إليه سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(158/7)
تفسير سورة النمل الآية [82]
يخبر الله تعالى عن الدابة التي ستخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق، وهذه الدابة عندما تخرج تكلم الناس وتخاطبهم بأن الناس كانوا بآيات الله لا يوقنون، ثم تسم الناس على جباههم وعلى أنوفهم، فمن كان مؤمناً كتبت على جبهته أنه مؤمن، ومن كان كافراً كتبت على جبهته أنه كافر، حينها لا ينفع نفساً إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل، فكل يعرف نفسه هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار.(159/1)
تفسير قوله تعالى: وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية من سورة النمل أنه إذا جاء أمر الله سبحانه ووقع القول على الخلق، والقول هو حكم الله وقضاء الله وقدره سبحانه، وغضب الله سبحانه وتعالى، فإذا كان أكثر أهل الأرض من المجرمين الكافرين نزل عليهم غضب الله سبحانه واستحقوا العذاب واستحقوا العقوبة.
وقالوا أيضاً في قوله تعالى: (إذا وقع القول عليهم) أي: حق عليهم القول من الله سبحانه أنهم لا يؤمنون، ولا يأتي بعد ذلك إلا الكفار والفجار، فيستحقون غضب الله سبحانه وتعالى عليهم، كما أخبر عن قوم نوح أن نوحاً قال لربه سبحانه وتعالى مستغيثاً ومستجيراً به: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7]، فأخبر عن قومه أنهم كفار مجرمون مستكبرون، فأوحى إليه ربه فقال: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فإذا كان الأمر أن الإيمان وقف على ذلك، أن هؤلاء مؤمنون والباقي كلهم كفار، ولن يأتي مؤمنون بعد ذلك، فعلى ذلك يستحق هؤلاء الكفار عقوبة رب العالمين سبحانه.
ثم قال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36]، أي: لا تحزن على هؤلاء، فستأتيهم المصائب وسيأتيهم العقاب من الله سبحانه.(159/2)
أقوال الصحابة في معنى قوله (وإذا وقع القول عليهم)
كذلك هنا قوله: (وإذا وقع القول عليهم)، يقول أبو سعيد الخدري وابن عمر رضي الله عنهما: (إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وجب السخط عليهم) أي: يستحقون سخط الله إذا كانوا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)) قال: يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن، فهذا يكون يوماً من الأيام أن الله عز وجل بعدما ينتشر الدين ويعم الأرض كلها يقبضه الله سبحانه وتعالى بعد ذلك، ويقول ابن مسعود: (أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال رضي الله عنه: يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة)، نسأل الله العفو والعافية، يعني: إذا صار من يحفظ القرآن يحفظه للدنيا ليس للدين استحقوا ذلك، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر قراء أمتي منافقوها).
فإذا كان حفاظ القرآن من المنافقين استحقوا ذلك، وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبضه بقبض العلماء)، أي: الصالحون من أهل العلم الذين يعملون بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله لا ينزع العلم من قلوبهم، ولكن يقبضهم هم، أما أهل الفسق وأهل النفاق، فالله يأخذ من صدورهم كتابه سبحانه وتعالى كما أخبر هنا.
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (يسرى عليه ليلة فيصبحون منه قفرة، وينسون لا إله إلا الله)، فسيصل الأمر إلى أن الناس ينسون لا إله إلا الله، وهذا الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، يعني: يصبح الناس يتهارجون كتهارج الحمر، ويستباح الزنا في الطرقات، فالله عز وجل يقبض الصالحين وتقوم الساعة على شرار الخلق وهم على ذلك.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ينسون لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم؛ وذلك حين يقع القول عليهم) يعني: إذا وقع القول عليهم إذا بالله سبحانه وتعالى يأخذ منهم كتابه فيصيرون بغير كتاب فينسون.
ويقول أيضاً ابن مسعود رضي الله عنه: (أكثروا من زيارة هذا البيت، من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه) يعني: حتى الكعبة، وجاء في حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تهدم، يهدمها ذو السويقتين من الحبشة)، رجل من الحبشة يأتي للكعبة محارباً فيهدم الكعبة، فإذا هُدمت لا تقام مرة ثانية، فينسى الناس مكانها لتقادم الزمان بهم، ويرفع منهم القرآن، وينسون العلم.
في هذا الحين يحق عليهم قول الله عز وجل، فتأتي العلامات الكبرى للساعة، ومن العلامات الكبرى: خروج الدابة التي ذكرها الله عز وجل في الآية.(159/3)
معنى حديث: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب)
جاء في حديث رواه ابن ماجة عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب).
قوله: (يدرس) من درس الشيء بمعنى: قدم وبلي وخلق وانمحى وزال، وهنا: يدرس القرآن بمعنى: ينمحي، مثل الثوب، فالثوب يكون جديداً ويكون لونه ظاهراً جيداً، فتأتي عليه الشمس تحيله إلى شيء آخر ويصير خلقاً بالياً قديماً، ثم يتمزق فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الإسلام سيأتي عليه زمان يكون هذا حاله، يدرس كما يدرس وشي الثوب، حينها تقوم الساعة على هؤلاء الذين يدرس عليهم الإسلام، ولا يكون ذلك إلا في نهاية الزمان، بعد أن ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ويعم العدل في الأرض ويحكم بالإسلام، ولا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله عز وجل به الإسلام، وذلاً يذل الله عز وجل به الكفر وأهله.
بعد ذلك يرجع الناس مرة ثانية إلى أخلاقهم السيئة، ثم يكونون شرار الخلق، ثم تقوم الساعة على هؤلاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها)، يعني: يصل الأمر أنهم لا يعرفون أي شيء عن الإسلام، إلا أن العجائز والشيوخ الكبار يذكرون كلمة لا إله إلا الله فقط، لا ما يعرفون شيئاً آخر غير هذه الكلمة.
قال أحد الرواة واسمه صلة، قال: (ما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟) -يعني: إذا كان وصل الأمر أنهم لا يعرفوا شيئاً عن الدين، فماذا تغني عنهم لا إله إلا الله؟! (فأعرض عنه حذيفة - وكأن سؤاله ليس له وجه- فكرر عليه السؤال ثانياً وثالثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة! تنجيهم من النار، يا صلة! تنجيهم من النار، تنجيهم من النار).
فأخبر أنهم معذورون في هذا الحين، لأنه رفع منهم القرآن، وأخذ منهم العلم، ولم يبق معهم علماء، فتمسكوا بآخر شيء عندهم كلمة لا إله إلا الله، فهم لا يعرفون غيرها، فتنفعهم هذه الكلمة، وتنجيهم من النار.
يقول الله سبحانه: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)) يعني: استحقوا غضب الله واستحقوا عذاب الله سبحانه وتعالى، الذي قال فيه: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، فإذا وجب عليهم هذا القول بكونهم شراراً، إذا بالله يخرج لهم آية من الآيات الكبرى للساعة، والساعة قبلها علامات وآيات، وقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات تكون قبل قيام الساعة، من هذه الآيات طلوع الشمس من مغربها، ومن هذه الآيات خروج المسيح الدجال، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ليحكم بين الناس بالإسلام، وقيل: المسيح الدجال.
ومن هذه الآيات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم: نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى محشرهم.
ومنها أيضاً: ثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب وهكذا.(159/4)
ذكر خروج الدابة وحقيقتها وعملها
ومن الآيات: خروج الدابة وكلامها للناس، فيا ترى ما هي هذه الدابة؟ لم يوضح لنا في هذه الآية، إلا أنها دابة تخرج وتكلم الناس، فتكون آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وهي آية عظيمة، ستكلم الناس بماذا؟ {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
فإذا كذب الناس بآيات الله سبحانه وتعالى كذبوا بالقرآن، وكذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بالأحكام الشرعية، فتخرج عليهم هذه الآية وتكلمهم كأنها تأتي لعقاب من يشاء الله سبحانه؛ بسبب أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات الله سبحانه.
هذه الدابة تأتي فتختم الناس على وجوههم، المؤمن تختم عليه بأنه مؤمن، والكافر تختم عليه بأنه كافر، ولا يستطيع إنسان أن يهرب منها ولا يقدر أن يهرب منها.
هذه الدابة تخرج على الناس وتكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون.
وقد جاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها)، أي: ثلاث من أكبر وأعظم الآيات، إذا خرجت هذه الآيات لا ينفع بعدها الإيمان، فهذه الآيات الثلاث يقول فيها صلى الله عليه وسلم: (لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)، وكأن الدابة من آخر ما يكون، وأما الدجال: فإنه يخرج على الناس كما جاء في حديث طويل للنبي صلى الله عليه وسلم ويزعم أنه إله، ويتبعه اليهود والمنافقون، ويتبعه من شاء الله سبحانه، وينزل المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، ويعم العدل بعد ذلك في الأرض، فإذا عم العدل بعد ذلك أخذ القرآن من الناس على ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ثم تخرج هذه الدابة تكلم الناس، وتطبع على هذا بأنه كافر وعلى هذا بأنه مؤمن، حتى إن الناس ليصبحون يتكلمون بذلك، المؤمن يقول للكافر: يا كافر! بعني كذا وكذا، والكافر يقول للمؤمن: يا مؤمن! بعني كذا وكذا، عندها يعرف كل شخص، الكافر يعرف أنه كافر فلا ينفعه إيمانه، والآخر يعرف أنه مؤمن، والله عز وجل يحفظه بإيمانه.
وفي حديث يرويه الإمام أحمد وغيره من حديث أبي أمامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم)، قوله: (فتسم): من الوسم، وهو: العلامة، وخراطيم الناس هي الأنوف، بمعنى: الأنف، يعني: فتسم على الجبهة وتسم على أنف الإنسان وتضع علامة عليه، قال: (ثم يعمرون فيكم) يعني: يظلوا على هذه الحال، هذا مكتوب على جبينه أنه مؤمن، وذاك مكتوب عليه أنه كافر، ويبقون فترة، قال: (ثم يعمرون فيكم، حتى يشتري الرجل البعير، فيقال: ممن اشتريته؟ فيقول: من أحد المخطمين)، يعني: المكتوب على خطمه أنه كافر أو أنه مؤمن.(159/5)
حديث الجساسة وعلاقته بالدابة
جاء في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فيه هذه الدابة، قال بعض العلماء: هي الجساسة التي جاءت في صحيح مسلم في حديث طويل عن فاطمة بنت قيس قالت: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس، فخرج المنادي يقول: الصلاة جامعة، الصلاة جامعة، فاجتمع الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأقيمت الصلاة فصلى بالناس صلى الله عليه وسلم، فلما قضى صلاته جلس على المنبر وهو يضحك عليه الصلاة والسلام، فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لِمَ جمعتكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة -يعني: ما جمعتكم حتى آتي لكم بموعظة أرهبكم بها أو أرغبكم في شيء- ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع وأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال).
يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يحدث الصحابة عن الدجال وأخبر عن صفات الدجال وأخبرهم عما يكون من علامات قبل الساعة، فجاء تميم وحدث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الشيء الذي حدث به أصحابه، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمعوا ما قاله تميم ليزدادوا يقيناً فوق يقينهم رضوان الله تعالى عنهم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حدثني: أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة، - يعني: القوارب التي تكون في جوف السفينة- فركبوا هذه الأقرب ودخلوا إلى الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلب) قال العلماء: هذه هي الدابة التي تخرج يوماً من الأيام على الناس، إذاً: فهي مخلوقة موجودة كما أن المسيح الدجال مخلوق وموجود الآن، ويخرج على الناس يوماً.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فلقيتهم دابة أهلب - يعني: كثيرة الشعر- لا يدرون ما قبله من دبره) يعني: لا يعرفون الوجه من الظهر لكثرة الشعر الذي عليه، ففزعوا من منظرها يقول: (قالوا: ويلك؟ ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق -يعني: اتركوني واذهبوا إلى هذا الذي ينتظركم في هذا الدير- قالوا: فلما سمت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط، خلقاً، وأشده وثاقاً -يعني: رأوا منظر إنسان ما رأوا مثله قبل هذا، منظره عظيم جداً، وكان طويلاً عريضاً مكتفاً تكتيفاً شديداً جداً- مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني من أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً، ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقربها، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا: ويلك ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة -هذه هي الدابة التي جاء ذكرها في القرآن، والله أعلم- قال: قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفزعنا منها ولم نأمن أن تكون شيطانة، فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ -يسألهم عن مواضع في بلاد العرب والشام هل ما زالت موجودة، أو أنها انمحت؟ وكأن علامة خروج هذا الإنسان وفك قيده ما يسأل عنه في هذا الحديث- فقال: أخبروني عن نخل بيسان؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قال: قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك ألا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية؟ -بحيرة طبرية في فلسطين- قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قال: قلنا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر -بحيرة هنالك-؟ قالوا: عن أي شيء تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قال: قلنا: نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين -صلوات الله وسلامه عليه، وهؤلاء كانوا نصارى، فيسألهم الآن عن النبي صلى الله عليه وسلم- ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ قال: فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم، قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، فكان هذا سبب إسلام تميم الداري رضي الله عنه- قال الرجل: وإني مخبركم عني، قال: أنا المسيح)، وما قال: المسيح الدجال، ولكن قال: أنا المسيح، فهو المسيح الدجال ولكن ما ذكر عن نفسه أنه الكذاب الدجال؛ ولذلك لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك ضحك وأخبر أنه الدجال، قال: (وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة -يعني: مدة مكثه على الأرض أربعين ليلة) ولكن منها اليوم كيوم، واليوم كشهر، واليوم كسنة- (غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده سيف صلت يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها).
ففيه: أن المسيح الدجال لا يقدر على دخول مكة والمدينة، قال الذي روى الحديث: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعن بمخصرته في المنبر وقال: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة، ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم أخبرتنا، فازدادوا يقيناً بما قال صلى الله عليه وسلم، قال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه، وعن المدينة ومكة أن المسيح الدجال لا يقدر أن يدخلها، ألا إنه في بحر الشام أو في بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو، من قبل المشرق ما هو) يعني: أن المسيح الدجال سيخرج من ناحية المشرق، والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ويخبر عن شرق المدينة الذي يخرج منه المسيح الدجال، قالت فاطمة بنت قيس: (فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالغرض: أنهم ذكروا الجساسة التي رأوها مع الدجال وهي هذه الدابة التي تخرج يوماً من الأيام تكلم الناس بأن الناس كانوا بآيات الله عز وجل لا يوقنون.
نسأل الله العفو والعافية والتثبيت في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(159/6)
تفسير سورة النمل [82 - 87]
من علامات الساعة الكبرى: خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله الكونية والشرعية، وتختم على جباههم بوصف كل واحد منهم، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر، ولا تنفع التوبة بعد خروجها، ثم بعدها تقوم الساعة فينفخ في الصور نفخة الصعق، ثم نفخة البعث.(160/1)
تابع تفسير قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:82 - 86].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من آخر سورة النمل أنه إذا وقع القول على العباد أي: وجب عليهم غضب الله سبحانه وحق عليهم العذاب وأنهم لا يؤمنون: {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، يخرج الله عز وجل لعباده دابة من الأرض، قالوا: تخرج من جبل الصفا، وهذه الدابة تخرج ثلاث خرجات: خرجة يراها الناس ولا يدركونها ثم تختفي، وتخرج مرة أخرى ثم تختفي، وتخرج مرة ثالثة فتختم الناس على جباههم، هذا مؤمن وهذا كافر، وستكلم الناس هذه الدابة، وتطبع على جباههم، وقد كانوا قبل ذلك يتمكنون من العمل الصالح ومن الإيمان، وبعد خروجها يقف الأمر على ذلك، فالله عز وجل أخبر أنهم حق عليهم القول أنهم لا يؤمنون، فلا يؤمن أحد بعد هذه الآية.
وقوله: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]، هذه قراءة الكوفيين ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها: (إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون)، فعلى هذه القراءة يكون المعنى: حقت على الناس كلمة العذاب، وحقت عليهم العقوبة، وأخرج الله عز وجل لهم هذه الآية العظيمة تكلمهم، وتطبع عليهم هذا كافر وهذا مؤمن؛ بسبب إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وهذه قراءة الجمهور: نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر، وكأن الدابة تقول لهم: إن الناس كانوا بآيات الله عز وجل لا يستيقنون، وكانوا يكذبون ولا يوقنون.(160/2)
تفسير قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجاً)
قال الله سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، هنا ذكر الله يوم القيامة، فبعد أن ذكر علامة من العلامات الكبرى للساعة التي لا ينفع الناس الإيمان بعد ظهورها يقول: اذكر يوم القيامة يوم الحشر، والحشر: الجمع والضم، فيخرج الناس من القبور ويساقون إلى موضع حسابهم إلى عرصات القيامة.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، أي: يضمون ويوقف أولهم حتى يلحق بهم آخرهم، ويضم بعضهم إلى بعض، ويحشرهم الله سبحانه فوجاً وراء فوج، وكأنها أفواج بعضها وراء بعض، يحشرهم الله سبحانه جماعات زمراً.
{مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا} [النمل:83] يعني: الذي كذبوا بآيات الله سبحانه وبالعلامات التي جعلها لهم آيات على أن الله يستحق العبادة وحده، وكذبوا بآيات القرآن العظيم وما جاء على لسان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وبالدلالات الدالة على الحق.
{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل:83]، أي: يدفعون ويساقون إلى المحشر إلى موضع الحساب، فهم يوزعون فيرد آخرهم على أولهم وأولهم على آخرهم.(160/3)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي)
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، أي: إذا وصلوا لمكان حسابهم، حيث يجمعون للحساب ويتركون في موقف عظيم خمسين ألف سنة، وتدنو الشمس من رءوسهم، وهم لا يدرون ما يصنعون ولا ما يصنع بهم، فيقول بعضهم لبعض: من يشفع لنا ليقضي الله عز وجل بيننا؟ فيذهبون إلى آدم فيقول: اذهبوا إلى نوح، وهكذا حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها أنا لها)، فهنا يخبرنا الله سبحانه وتعالى أنه في هذا الموقف يقول للكافرين: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي} [النمل:84]، يعني: التي أنزلت على رسلي والآيات التي أقمتها دالة على توحيدي؟ {وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، يعني: كيف تكذبون بها ولم تحيطوا بها علماً؟! والإنسان يعلم بعض الأشياء، ولا يحيط علماً بالشيء، قال الله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255].
فأي شيء من مخلوقات الله عز وجل قد يعرف الإنسان اسمه، وقد يعرف وصفه، وقد يعرف الفرق بينه وبين غيره، لكن لا يحيط علماً به ويقول: أنا عندي علم إحاطة بهذا الشيء، فمن المستحيل أن يصل الإنسان إلى ذلك، وكلما كثر علمه عرف جهله بأشياء كثيرة، وكلما قال: وصلت إلى شيء، وجد نفسه يجهل أشياء كثيرة في الشيء نفسه الذي وصل إليه.
فالله عز وجل يقول للخلق يوم القيامة: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النمل:84]، يعني: لم تعرفوها حق المعرفة ولم تدركوها على يقين حقيقتها، ولم تحيطوا بالأشياء علماً، ولم تحيطوا بالآيات علماً، فكيف كذبتم هذه الآيات التي أنزلتها على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84] ماذا كنتم تعملون في الدنيا؟ تقريع وتوبيخ، أي: ماذا كنتم تعملون في هذه الدنيا حين لم تبحثوا عن هذه الآيات ولم تتفكروا فيها؟ وكأنه يوبخهم أن أمضوا أعمارهم في تضييع في عبث في لهو في تكذيب، ولم يحاولوا أن يفهموا ما جاء عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله أعطاهم في كل شيء آية، فإذا بهم ينصرفون عن هذه الآيات، وبدلاً من أن يعبدوا الله سبحانه إذا بهم يكذبون ويضيعون الأعمار في التكذيب والرد على الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لذلك يقول لهم: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84].
ماذا كنتم تعملون في الدنيا؟ فقد تركنا لكم أعماراً في هذه الدنيا طويلة، فما الذي صنعتموه في أعماركم الطويلة غير التكذيب والإعراض عن الله عز وجل والهزل واللعب واللهو والعبث في الدنيا؟(160/4)
تفسير قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا)
قال الله: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85]، أي: حق عليهم العذاب، حق عليهم قول الله عز وجل: {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فوقع عليهم العذاب يوم القيامة {بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:85] أي: بسبب ظلمهم، فهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فوجب عليهم العذاب بشركهم.
قال: {فَهُمْ لا يَنطِقُونَ} [النمل:85]، الله يسألهم ويوبخهم وهم لا يجيبون ولا يعرفون كيف يردون على ربهم سبحانه، فلا عذر لهم ولا حجة معهم، فهم لا ينطقون، ثم يختم الله على أفواههم وتنطق جوارحهم بما كانوا يعملون.(160/5)
تفسير قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه)
يقول الله عز وجل مذكراً بآية من آياته سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86]، هذه آية من آيات الله، وقد ذكر آيات كثيرات من آياته سبحانه حين قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، ثم عدد نعمه وآياته على عباده سبحانه وتعالى، ثم هنا لما قال لعباده: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، أي: ماذا كنتم تعملون في الدنيا غير التكذيب؟ فلم تتفكروا في آيات الله عز وجل التي ترونها كل يوم وكل ليلة، قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل:86]، أي: جعلنا لكم الليل تنامون فيه، ولو جعلنا عليكم النهار سرمداً ما أطقتم ذلك ولتعبتم ولهلكتم، ولكن جعلنا لكم ليلاً للنوم والراحة تسكنون فيه، ونهاراً مبصراً لمعاشكم، فالله يقلب الليل والنهار، ويجعل هذا مظلماً وهذا مضيئاً، ويجعل هذا بارداً وهذا حاراً، ويقلبكم بين الليل والنهار، فلم لا تتفكرون في عمركم كله في الذي جعل لكم الليل وسخر لكم الشمس والقمر دائبين؟! لم تتفكروا في ذلك فماذا كنتم تعملون؟ كل عمرك تلعب وتلهو، وفي هذا الامتحان الأعظم بين يدي الله سبحانه وتعالى يسألك: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:84]، عشت خمسين أو ستين سنة، فما فعلت في هذه الدنيا غير التكذيب؟! قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} [النمل:86]، جعلناه سكناً يستقرون وينامون فيه، ويهدءون ويستريحون فيه، وجعلنا النهار مبصراً أي: يبصر الإنسان فيه، ويسعى لطلب رزقه في النهار.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86]، دلالات دالة على قدرة الله سبحانه وعلى رحمته بعباده، ولكن لا يفهم هذه الآيات إلا المؤمنين {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعالم المؤمن يخاف من الله، ويتقي الله سبحانه، ويعلم أنه إليه راجع، فيؤمنون بالله مصدقين بآياته.(160/6)
تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)
ثم يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة فيقول: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] أي: اذكر ذلك، وفي الزمر قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وهما النفختان: نفخة الموت، ونفخة النشور.
قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] (ويوم) منصوبة مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر أو اذكروا يوم ينفخ في الصور.
والصور: القرن أو البوق مثل الزمارة، وهو بوق عظيم جداً خلقه الله عز وجل، وخلق له ملكاً موكلاً به، وهو إسرافيل ينفخ في الصور حين يأمره الله سبحانه وتعالى.
روى الإمام الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ فقال: قرن ينفخ فيه).
وروى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو محسن لا يسيء، والذي عصمه الله سبحانه وتعالى فلا يقع في كبيرة ولا في صغيرة عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الذي قال له ربه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، ومع هذا يقول: (كيف أنعم) أي: كيف أتلذذ وأتنعم بهذه الدنيا، وأنا أعلم أن الملك قد أخذ الصور ينتظر أمر الله سبحانه وتعالى؟! فالأمر عظيم جداً، والساعة قريبة، فمنذ خلق الله عز وجل الملك إسرافيل وخلق الله عز وجل له هذا البوق لينفخ فيه؛ وهو مستعد لينفخ فيه حين يأمره الله عز وجل.
وجاءت في حديث لفظه: (إنه لا يطرف)، أي: يطرف جفناه خوفاً من أنه إذا أغمض عينيه يأتي أمر الله عز وجل، فهو مستعد للنفخ في الصور بإذن الله رب العالمين، وقد ثقل ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا).
فليكثر المسلم من قول ذلك، وليتذكر ذلك، وأنه وإن غفل فليس الله غافلاً عنه، وأنه إن عاش في الدنيا ما بدا له فهو إلى موت وإلى قيامة وإلى حساب بين يدي الله عز وجل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور).
وقد جاءت الأحاديث بأن هذه النفخة تكون يوم جمعة، وأن بين النفختين أربعين، ففي سنن أبي داود والنسائي من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة؛ فأكثروا علي من الصلاة).
فيوم الجمعة فضل بأن خلق الله فيه آدم، وفيه مات عليه الصلاة والسلام، وفيه الصعقة حين يموت الخلق.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون)، ولم يحدد هل هي أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، فالرواة سألوا أبا هريرة فقالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت، يعني: إني لا أتكلم إلا بما أعلم، فلم يخبرني النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي أربعون يوماً أو غيرها، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، ثم قال: (ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، منه يركب الخلق).
فالإنسان إذا مات يتحول كله إلى تراب إلا عجب الذنب، وهو آخر العمود الفقري، والمكان الذي يكون منه ذيل الحيوان، هذا المكان الذي في الإنسان لا يبلى، ويخفيها الله عز وجل بما يشاء، ولا تأكلها الأرض.
والذين يحرقون الجثث في بعض بلاد الكفار حين يموت الميت، يتعجبون من أن الجثة كلها تحترق إلا هذه العظمة التي في آخر الإنسان فإنها لا تحترق فيدفنونها أو يلقونها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا الحديث، وأن الإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب، والمعنى: أن الإنسان يكون مثل النبات، فالنبات ينبت من حبة صغيرة حتى يكون شجرة كبيرة، وكذلك الإنسان ينبت يوم القيامة من عجب الذنب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(160/7)
تفسير سورة النمل الآية [87]
ذكر الله تعالى في كتابه وفي سنة نبيه كيف يكون بعث الناس، فبين أنه إذا حان قيام الساعة أمر إسرافيل بالنفخ في الصور -وهو القرن- نفختين: الأولى يموت بها من كان على ظهر الأرض من شرار الخلق، ثم يكون بينها وبين النفخة الثانية أربعين، ثم يؤمر بالنفخة الثانية بعد أن ينزل مطر كالطل تنبت به أجساد الموتى، فإذا نفخت هذه النفخة رجعت الأرواح في الأجساد، وقام الناس لرب العالمين.(161/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87].
يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، وما يكون فيه من أهوال، وما يكون فيه من فزع الخلق، يوم أن ينفخ في الصور نفخة الصعق فيصعق الناس جميعاً.
ثم تكون النفخة الأخرى بعد أربعين كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة، فبين النفختين أربعون.
نفخة القيام للقاء رب العالمين، وللجزاء وللحساب.
فالنفخة الأولى: يصعق فيها الخلق جميعهم، فيموتون.
والنفخة الثانية: يبعثون.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصور وقال عنه: (إنه قرن ينفخ فيه) أي: بوق ينفخ فيه الملك الموكل بالصور، وهو إسرافيل عليه السلام.
فمنذ خلقه الله سبحانه أعطاه هذا البوق؛ لينفخ فيه حين يأمر الله سبحانه بموت الخلائق جميعهم، ثم بإحيائهم بعد ذلك.
وفي حديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن -يعني: إسرافيل- قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ).
وذكر في حديث آخر: (أن بين النفختين أربعين) وراوي الحديث أبو هريرة لما سئل ما الأربعون؟ أهي أربعون يوماً؟ أم شهراً أم سنة؟ قال: أبيت، يعني: أبيت أن أتكلم فيما ليس لي به علم، وإنما هكذا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.
فبالنفخة الأولى يصعق الخلق بعد ما يرون علامات القيامة الكبرى التي جاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يأمر الله عز وجل فينفخ في الصور، فيبعث الخلق مرةً ثانية.
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث في أمتي، أو فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة).
ذكر هنا من علامات الساعة: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام.
وقد ذكرنا قصة تميم الداري، وكيف أنهم رأوا المسيح الدجال في جزيرة من الجزر موثقةً يداه إلى عنقه بالحديد، وكذلك من ركبتيه إلى عقبيه موثق بالحديد.
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم نزول عيسى بن مريم من السماء إلى الأرض كما رفعه الله سبحانه وتعالى قبل ذلك.
وشبهه برجل من أصحابه اسمه: عروة بن مسعود، فيطلب الدجال فيقتله.
ثم قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة).
فهذه سنين العدل الذي ينتشر فيها الإسلام، ولا يقبل غير الإسلام، فتوضع الجزية؛ لأنه لا يوجد من يدفع الجزية، فكل الناس مسلمون، ويكسر الصليب الذي عبده النصارى وقدسوه، فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
ويهدي الله عز وجل الخلق وينزع من قلوبهم الغل والحقد هذه الفترة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته).
فبعد السبع السنين التي يكون فيها المسيح عليه الصلاة والسلام على الأرض، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون، ثم بعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين الذين على وجه الأرض بريح طيبة وهؤلاء قامت عليهم ساعتهم، وليست هذه القيامة الكبرى؛ لأن القيامة الكبرى لا تقوم إلا على شرار الخلق.
فتأتيهم هذه الربح الطيبة من ناحية الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير، أو إيمان إلا قبضته (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه) قال عبد الله بن عمرو: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع) يعني: غاية في التفاهة، وغاية في التهور والاندفاع، لا عقل عندهم، بل فيهم خفة كخفة الطير، والطائر لا يثبت في مكان، وهؤلاء لا يثبتون على دين متقلبون متهورون، وفيهم أحلام السباع، وأحلام السباع أن تنهش وتأكل وتنام، كذلك هؤلاء في خفة الطير وأحلام السباع.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً).
إذاً: فهنا رفع منهم العلم والإيمان، وبقي هؤلاء الأشرار لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً.
فيتمثل لهم الشيطان في صورة أحدهم فيقول: (ألا تستجيبون؟) -يدعوهم إلى عبادته- فيقولون: (فما تأمرنا)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأمرهم بعبادة الأوثان).
إذاً: يرجعون مرةً أخرى إلى الجاهلية، وإلى الكفر بالله سبحانه، وإلى عبادة الأصنام من دون الله، وهم في ذلك كثير رزقهم، حسن عيشهم، وهذه فتنة من الله سبحانه، يعبدون غيره والله يعطيهم الرزق الوفير، ويحسن لهم معيشتهم تحسيناً عظيماً فتنةً وابتلاءً، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] فالله عز وجل يملي، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ في الصور) فهؤلاء قبضهم الله على شر ما يكون الخلق، في خفة الطير، وأحلام السباع، وفي غاية الرزق الحسن وفي غفلة عن الله، وفجأة يأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا) يعني: أنهم سمعوا صوتاً كأنها زمارة آتية من بعيد، فكل ما سمعه إنسان أمال عنقه وحول أذنه تجاه الصوت فيسمعه كل إنسان على هذه الهيئة.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: أول واحد يسمع النفخ في الصور رجل يصلح البئر الذي يشرب منه الإبل بالطين فيصعق.
ثم قال: (ويصعق الناس ثم يرسل الله عز وجل، أو قال: ينزل الله مطراً) فهذه نفخة الصور كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، إذاً: جاءتهم الصاعقة مما سمعوه، فاخترق هذا الذي سمعوه آذانهم فقضى عليهم وهم مقيمون على كفرهم، وشرهم، وفيما هم فيه، ولا يستطيع أحدهم عمل شيء حين ذاك، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجلين يتبايعان على الثوب فيمدانه ولا يتمكنان من طيه ولا نشره) بمعنى: أن كل واحد يمد من جانبه، فتأتي عليهم هذه النفخة فيصعق الجميع فلا يتمكنون من توبة إلى الله، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حين يحدثنا بذلك يقول: توبوا إلى الله عز وجل قبل أن ينفخ في الصور، وقبل أن تأتي الساعة وإن لم تكن الساعة الكبرى فساعة أحدنا موته، والموت أقرب لأحدنا من جبينه، وأقرب من حبل وريده.
فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا بما يسوقه لنا من أحاديث من التسويف بالتوبة وطول الأمل، فهذا الرجل الذي يلوط حوض إبله يفعل ذلك من أجل أن الإبل تشرب، وفي ذهنه أنه سيعمر ويسقي الإبل ويعيش ويتكسب بإبله.
والآخر يبسط في السوق متاعه من أجل أن يبيعه، والثاني يأخذ المتاع ويدفع، وكلاهما يمد يده إلى صاحبه، فجاءت الساعة فمات الاثنان.
فهل كان على بال أحدهما أنه يموت قبل أن يشتري الثوب أو يبيعه، ويفرح بالمكسب؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو ينزل الله مطراً كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر كالطل من السماء فينبت الله عز وجل الناس ويحييهم مرة أخرى كما أماتهم، ثم يمضي وقت ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية: وهو أربعون، ولا يعلم أهي أربعون سنة أم شهراً أم يوماً؟ وهل هذه الأيام من أيام الدنيا أم من أيام الآخرة؟ فالله أعلم بذلك، ولكن يمكثون على الأرض أربعين ثم ينزل الله عز وجل على هذه الأرض مطراً، فتنبت هذه الأجسام مرةً ثانية ثم تكون نفخة الصور الثانية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى) إذاً: هذه النفخة الثانية تكون لإحياء هذه الأجساد التي جمعت ونبتت بسبب المطر؛ إذ أنها كانت أجساداً لا حياة فيها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون) فتأمل هذا الموقف: لما نزل المطر على الأرض اجتمعت الأجساد، ولما كانت النفخة في الصور قامت هذه الأجساد الميتة من قبورها، فلما قامت سمعت النداء: هلموا إلى لقاء ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، فسيكونون في غاية الفزع، والخوف، والرهبة من هذا اليوم، ومن لقاء الله سبحانه وتعالى.
قال: (ثم يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ قال بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذاك يوم يجعل الولدان شيباً).
أي: هذا اليوم الذي يشيب شعر رأس الوليد من الهول والفزع والرعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: في يوم القيامة يكشف عن ساق، وهذه العلامة التي بين الله عز وجل وبين المؤمنين من خلقه.
وقد جاء في أحاديث أخر ما يكون في هذا اليوم بالتفصيل، فبعد أن يقف الخلق في عرصات القيامة موقفاً طويلاً في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء بين العباد، يقول الله سبحانه لخلقه: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه فيقولون: بلى) ويفرحون بذلك، فيمثل لمن كان يعبد الشمس الشمس، فيتبعها إلى النار، و(161/2)
تفسير سورة النمل [87 - 90]
يذكرنا الله تعالى بيوم ينفخ في الصور حين يفزع من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وذكر تعالى أن الجبال في ذلك اليوم تنسف وكل يرى عمله، فالمحسن يأمن من فزع ذلك اليوم، والكافر يكب على وجهه في نار جهنم بما كسبت يداه في هذه الدنيا.(162/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:87 - 90].
يخبر الله عز وجل في هذه الآيات عن يوم القيامة، يوم ينفخ في الصور، وذكر سبحانه وتعالى في القرآن نفختين، قال الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فالنفخة الأولى وهي نفخة الصعق التي يميت الله عز وجل بها الخلائق، والنفخة الثانية يبعثهم، وبينهما أربعون، فلعلها أربعون يوماً، ولعلها أربعون سنة أو شهراً، فلم يذكر راوي الحديث - أبو هريرة - ما الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، بل هو نفسه لم يعرف هل هي أربعون يوماً أو سنة أو شهراً؟ ففي الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون).
وليس من الضروري أن يعرف المسلم ماهية هذه الأربعين، بل المهم أن هناك موت وبعد ذلك إحياء، ولكن الله عز وجل ذكر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعين.
قوله: ((وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ))، (يوم) منصوبة بفعل محذوف تقديره: اذكر، والتقدير: اذكر هذا اليوم، وقوله: ((فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ))، هذا هو الفزع الأكبر الذي يكون يوم القيامة، وينجي الله عز وجل من هذا الفزع الأكبر من يشاء من عباده، فينجي المؤمنين الصالحين: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103]، وهم في الجنة خالدين، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم.
وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله عز وجل من الفزع الأكبر، يوم يقوم الناس بين يدي رب العالمين سبحانه، فكان من دعائه عليه الصلاة والسلام، ما رواه أحمد في مسنده عنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك مما أعطيتنا وشر ما صنعت).
فكان يسأل الله عز وجل النعيم يوم القيامة في الجنة، والذي لا يحول ولا يزول، أي: لا يتحول، أما النعيم في الدنيا فهو بين الإحالة وبين الزوال، والإنسان يتحول من حال إلى حال، ومن غنى إلى فقر، ومن فقر إلى غنى، وهكذا فحال الإنسان متحول ومتقلب في الدنيا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة) ويوم العيلة: يوم الفقر، وهو يوم القيامة، فكل إنسان في ذلك اليوم فقير لا مال له، إلا أن يكون له عمل صالح ينفعه.
و (والأمن يوم الخوف)، وهو يوم القيامة: يوم الفزع الأكبر، وفيه ينجي الله عز وجل من يشاء من عباده، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الناجين.
يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، هذه هي النفخة الثانية، وفيها يقوم الخلق فزعين خائفين بين يدي رب العالمين، إلا من شاء الله أن ينجيه ويؤمنه من هذا الفزع، ويحشره في غاية الأمن، ويظله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، التنوين في لفظة (كل) تنوين عوض عن كلمة: الخلق، والتقدير: كل الخلق، و (أتوه): أي: يأتون الله سبحانه، وأتوا: فعل ماض من يأتي.
((وَكُلٌّ أَتَوْهُ))، وهذه قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة وقراءة خلف.
وقراءة باقي القراء وهم الجمهور: (وكل آتوه داخرين)، من اسم الفاعل: أتى فهو آت، أي: وكل إنسان آتٍ إلى الله عز وجل.
وقوله: ((وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ))، أي: أتوا إلى الله سبحانه وتعالى يوم ينفخ في الصور وهم في غاية الذل والصغار، وفي غاية الخوف.(162/2)
تفسير قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب)
ذكر الله الجبال وما يحل بها يوم القيامة فقال: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، كما قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107].
فهذه الجبال الراسيات العظيمات ينسفها الله ويدمرها ويجعلها هباءً منثوراً، وذرات متناثرة، فإذا بها مسواة بالأرض، فالجبل الذي كان على الأرض راسخاً، يطير كالسحاب، ثم تذروه الرياح، أو يصيره على هيئة الرمال والتراب فوق الأرض، فإذا الأرض بلا مرتفعات ولا منخفضات.
قال الله سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً}، قال ابن عباس: أي قائمة وهي تسير سيراً حثيثاً.
وقد ذكر الله في القرآن أن الجبال يوم القيامة تكون على حالات: الحالة الأولى: دك الأرض والجبال، قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]، فتزلزل الأرض وتندك الجبال، وتتواضع لربها سبحانه وتعالى، وهذه حالة من أحوالها.
الحالة الثانية: أخبر سبحانه وتعالى عن الجبال أنها تكون كالعهن المنفوش، والعهن هو الصوف، والمنفوش: المنتفش، كانت ثقيلة يوماً من الأيام، وفي يوم القيامة صارت خفيفة كالعهن المنفوش.
الحالة الثالثة: أخبر الله سبحانه وتعالى أن الجبال يوم القيامة تنسف، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} [طه:105 - 106]، والقاع: الأرض المنبسطة.
الحالة الرابعة: قال الله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ:20]، أي: كان موضعها كالسراب، والسراب ما يراه الإنسان أمامه في اليوم الشديد الحر في الأرض المنبسطة يحسبه ماءً، فإذا وصل إليه لم يجده ماء، ووجده أرضاً كغيره من الأرض، كذلك الجبال سيرت يوم القيامة، وحركت من مكانها فصار مكانها كالسراب، فالناظر إليها يظنها واقفة جامدة، والله يسيرها ويدمرها حتى تتطاير ثم تنزل على الأرض هباءً ورمالاً، فتستوي بها الأرض، قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88].
وقوله: ((تَحْسَبُهَا جَامِدَةً))، فيها قراءتان: الأولى: بفتح السين في (تحسبها)، وهي قراءة عاصم، وابن عامر وأبي جعفر، وباقي القراء نافع وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب والكسائي وخلف يقرءون: (تحسِبُهَا جامدة) بكسر السين.
وقوله: (صنع الله) أي: هذا الصنع البديع، المتمثل في الجبال الراسيات التي يجعلها يوم القيامة تسير، ثم يصيرها كالعهن المنفوش، ويدمرها فيجعلها قاعاً صفصفاً، هذا الصنع صنع الله وحده لا شريك له، لا يقدر عليه أحد سواه.
وكأن الله يقول: انظروا إلى صنع الله سبحانه، فصنع: منصوب على الإغراء، والمقصود: الزموا التفكر في هذا الصنع العظيم، أو أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والتقدير: صنعه صنعاً.
قوله: ((الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ))، أي: خلق كل شيء في غاية الإتقان والدقة وعلى أفضل ما يكون، وكلمة (الإتقان) أصلها: من أتقن، وقالوا: إن أصل هذه الكلمة عربية قديمة من أيام عاد، تنسب إلى رجل اسمه: ابن تقن، كان غاية في تسديد الرماح والسهام، لا يخطئ أبداً، فإذا رمى السهم لا بد وأن يصيب الهدف، فكان يضرب به المثل في ذلك، فكانوا يضربون به المثل في الإتقان، ويقولون للرامي العظيم: أرمى من ابن تقن، أي: فلان أرمى منه.
فالمحسن في عمله يسمى: متقن، نسبة إلى ابن تقن، فصارت الكلمة بعد ذلك دليلاً على الإصابة والسداد والإحسان في العمل، فمن أتقن عمله صار كهذا الذي كان يرمي فيصيب في رميه.
فالإتقان: إحسان العمل، ولذلك قال الله: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ}، وأمر الله عز وجل عباده أيضاً أن يحسنوا، فقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإتقان الأعمال كذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، فيحب الله من الإنسان أن يتقن عمله، سواء كان عملاً دينياً أو دنيوياً ينبني عليه تحصيل رزق أو غيره.
وقول الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، فيه أنه أتقن خلق الإنسان، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7].
قال تعالى: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88]، الخبير من الخبرة وهي دقة العلم، أو العلم الدقيق، فهو عالم خبير لطيف بعباده سبحانه وتعالى.(162/3)
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)
قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، أي: الذي يفعل حسنة له خير منها، وإن كان كثير من العلماء على أن هذه الحسنة المقصود بها: كلمة: لا إله إلا الله، أو أن كل المفسرين تقريباً على هذا المعنى وهو أن الحسنة بالتعريف: المقصود منها: لا إله إلا الله، فلا شيء أفضل وأخير من لا إله إلا الله، وهي أعظم ما يقولها الإنسان، فالذي يأتي بها تكون له حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، فله خير من فعله عند الله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها} [النمل:89]، والخير: هي جنة الخلود عند رب العالمين.
قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، هذه الآية فيها ثلاث قراءات: فقراءة الكوفيين: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل:89]، بتنوين العين، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين: (وهم من فزعِ يومئذ آمنون) بالكسر بلا تنوين، وقراءة باقي القراء: (وهم من فزعِ يومِئِذٍ آمنون) بإضافة (يومئذ) إلى (فزع).
فمعنى قراءة الكوفيون: ((وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ))، أي: فزع عظيم، فنكره للتعظيم، وهذا الفزع يكون يوم القيامة، فالله عز وجل يؤمن المؤمنين وينجيهم منه، وينجيهم مما هو دونه كذلك، فهو الكريم الرءوف بعباده سبحانه.
وقراءة المدنيين، نافع وأبي جعفر: (وهم من فزعِ يومئذ آمنون)، فإضافة يومئذ إلى ما قبلها، وكأن المضاف إليه هو: يوم: مجرور بالفتحة، فمنع من الصرف لأضافته إلى إذ، ويجوز منعه وصرفه، ولذلك قراءة باقي القراء: (من فزعِ يومِئِذٍ) على الإضافة وعلى الصرف فيها.
إن الفزع يكون يوم القيامة؛ لأنه يوم يحاسب الله عز وجل به العباد، بعد أن يخرجون من قبورهم، والمؤمنون ينجيهم الله بكلمة: لا إله إلا الله، وقد جاء في الحديث أن العصاة ممن قال: لا إله إلا الله يدخلون النار، فإن قيل: لماذا لم يأمنهم الله من الفزع وهم قد قالوا: لا إله إلا الله؟ ف
الجواب
أن هذا من المطلق الذي قيد بغيره، فالحسنة المذكورة في الآية وهي قول: لا إله إلا الله، إنما تنفع بشروط، وهي أن يأتي صاحبها بالأفعال التي تصلح بها هذه الكلمة، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، بلسانه، وصدق ذلك يقيناً بقلبه، وعمل بمقتضى ذلك بجوارحه كانت من أعظم الحسنات التي تجعل صاحبها ممن يؤمنهم الله سبحانه.
أما إذا قالها كلمة لا يعلمها ولا يفهم معناها، ولا يعمل بمقتضاها، فقد جاء في الحديث أن هذا يعذب في قبره، ويقال له: ما كنت تقول في الدنيا؟ وماذا كنت تعبد؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ومن ربك وما دينك؟ فلا يستطيع أن يقول شيئاً، فإذا أخبر عن كلمة لا إله إلا الله، يقول: سمعت الناس يقولونها فقلت.
أي: أنه قال كما قال الناس، بدون أن يفهم معناها، أو يعمل بمقتضاها، فيعذب في قبره، ويعذب كذلك في يوم القيامة، ولا يأمن من الفزع الأكبر.
إذاً: كلمة: لا إله إلا الله تنفع من أتى بشروطها، وشروطها: العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فمن أتى بهذه الشروط نفعته لا إله إلا الله يوم القيامة، وأمنته من الفزع، ودخل بها الجنة.(162/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار)
قال الله تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، فالأول جاء بـ (لا إله إلا الله) بشروطها، وهذا أتى بالسيئة، وأقبح السيئات: الشرك بالله سبحانه وتعالى، والتي لا ينفع معها حسنة، فمن جاء بهذه السيئة كب وجهه في النار، قال سبحانه: {يوم يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، فيضربون في أقفائهم، فيكبون على مناخرهم ووجوههم في نار جهنم، ثم يقال لهم -وهم في النار والعياذ بالله-: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، أي: هذا الجزء بما اقترفت أيديكم، وبما عملتم في الدنيا، فلا تجزون إلا على ما قدمتم من عمل، ولذلك ينبغي على الإنسان المؤمن أن يحرص على أن يراقب نفسه، ويراقب عمله، وهل هذا العمل يرضي الله أم لا يرضيه؟ فإذا عمل العمل الذي يرضي به ربه فله الجزاء الحسن، وإن أساء فلا يلومن إلا نفسه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(162/5)
تفسير سورة النمل [91 - 93]
على الداعية في كل زمان ومكان الاهتمام بجانب الدعوة دون النظر إلى استجابة المدعو من عدمها، مستدلاً على ذلك بما يصلح الاستدلال به في مقابل عقل المخاطب وما يفهمه مازجاً بين الترغيب تارة والترهيب تارة أخرى، وهذه هي طريقة القرآن والأنبياء والدعاة المجيدين في القديم والحديث.(163/1)
تفسير قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة وما ربك بغافل عما تعملون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة النمل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ * وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:91 - 93].(163/2)
مناسبة الآيات لما قبلها
في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة -وبعد أن ذكر الله سبحانه من جاء بالحسنة ومن جاء بالسيئة- أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للقوم: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] فتناسبت هذه الآية في سياقها مع ما قبلها من الآيات.
فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآية قوله تعالى: {ويَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام:73]، والنفخ في الصور كائن يوم القيامة، فالله يقول: اذكروا هذا اليوم العظيم الذي يفزع فيه {مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل:87]، وهذا تخويف من الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، والسورة كما ذكرنا قبل ذلك سورة مكية، أي أنها نزلت في وقت كان يؤذى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤذى فيه المؤمنون، ويطردون من ديارهم، ويشردون، ويقتلون، ويعذبون، فجاء القرآن ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويخبرهم أن هؤلاء الذين يفزعونكم الآن سيفزعون يوم القيامة، ويخيفهم الله، ويعذبهم في ذلك اليوم.
والإنسان مهما كان فيه من قوة فلن يبلغ أن يضرب الأرض بقدمه فيخرقها، ولا أن يبلغ الجبال طولاً، أو يضاهيها قوة، فهي أقوى من الإنسان بكل حال، ولذا فمهما عتا فلن يكونوا أقوى من الجبال التي تصير هباء يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه:105].
وبما أنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة فلا داعي لأن يتكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين، فإنهم مهما بلغوا من القوة فلن يكونوا كهذه الجبال التي تنسف يوم القيامة، وإذا كان هذا هو صنعنا بالجبال الراسيات، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]، فكيف سيكون صنعنا بهم!؟ وإذا كانت الجبال لم تكذب ربها سبحانه وتعالى حين عرضت عليها الأمانة، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب:72]، وكان حالها يوم القيامة أن ينسفها الله نسفاً، فكيف بمن قبل هذه الأمانة ولم يقم بها؟ وكيف بحال هؤلاء الكفار الذين استكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف سيصنع بهم يوم القيامة؟ قال سبحانه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88]، ومرورها قبل يوم القيامة، وقيل في الدنيا، على أنها يوم القيامة ستنسف وتطير من مكانها كالسحاب، ثم يذرها سبحانه وتعالى قاعاً صفصفاً: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:107]، أي: لا يرى فيها مرتفعات ولا منخفضات.
ومن بديع صنع الله عز وجل: أن هذه الجبال العظيمة القوية التي تنظر إليها وتراها راسية في مكانها، ليست ثابتة، بل حتى الأرض التي يقوم الإنسان فوقها ليست ثابتة، وإنما تتحرك في مسار معدود محدود بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.
فالناظر يظن أن هذه الجبال الراسيات ثابتة، والحقيقة أنها متحركة بتحرك الأرض التي هي فوقها، ففي الدنيا تتحرك الجبال بتحرك الأرض، إذ أن الأرض تدور حول نفسها وتجري في مستقر لها حول الشمس، وبتحركها تحدث الأيام والشهور والسنون.
فكل شيء في الكون يتحرك كما تتحرك السحاب، وإن كنا ننظر إليها على أنها تتحرك ببطء، لكنها في الحقيقة تسير سريعاً في هذا الفضاء، وأنت لا تدري بذلك ولا تنشغل به، وهذا من بديع صنع الله سبحانه في الدنيا أن أرسى الجبال وهي متحركة كالسحاب، ويوم القيامة ينسفها ربنا سبحانه وتعالى نسفاً.
وإذا كان الله يصنع ذلك أليس قادراً على أن يعذب هؤلاء المشركين؟ وهم الذين أرادوا إخراج النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عنهم فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
فمن جاء بالحسنة أي: بقول لا إله إلا الله وعمل صالحاً كان في أمان من الله عز وجل يوم القيامة، وكان له الخير والجنة، ولهم الأمن يوم الفزع الأكبر، ومن أشرك بالله وعتا وأفسد في الأرض وعلا على أمر ربه سبحانه، فكبت وجوههم في النار، ويقال لهم: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].(163/3)
تعظيم الله لمكة
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لقومه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، والكلام مناسب للحال الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولسياق الآيات العظيمة في آخر هذه السورة.
وفي الآية خطاب من الله لنبيه أن يقول للكفار: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]، أي: أن هذه البلدة التي تريدون أن تثبتوني أو تقتلوني أو تخرجوني منها ليست ببلدكم، ولستم تملكونها، ولكن الأرض أرض الله سبحانه وتعالى.
فهو الذي حرمها وجعلها حرماً آمناً تتنعمون فيها، وفي ذلك إشارة إلى ظلم هؤلاء، إذ أن مكة بلدة جعلها الله سبحانه في وسط الأرض، وحرمها سبحانه وتعالى وجعل المعصية فيها حراماً، فحرم فيها القتل والقتال، وأنعم عليكم بهذه النعمة وجعلكم في أمان ممن حولكم من العرب وغيرهم.
ثم إذا منَّ الله عليكم بها وأمنكم فيها تريدون أن تطردوني منها، وتريدون أن تخرجوني، أو تقتلوني، وتعملون على أن تفزعوا المؤمنين؟! فاذكروا يوم العرض على الله عز وجل -يوم الفزع الأكبر-، واذكروا أن الله أمركم بعبادته، وأمركم أن تشكروه على نعمته عليكم سبحانه.
قال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91]، فالله هو رب كل شيء سبحانه، وذكر الله البلدة تعظيماً لها وتخصيصاً لها، ثم ذكر أن له كل شيء، فالله ليس رب هذه البلدة وحدها، بل هو رب كل شيء سبحانه، وهو المالك المدبر للأمر.
وعبر سبحانه بقوله: {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]، وفيه: التنويه بعظيم شأن مكة التي حرمها الله عز وجل، والله لا يحرم شيئاً إلا لتعظيمه، أو لتحقيره، فحرم هذه البلدة تعظيماً لها، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير تحقيراً له، وهنا البلدة التي عظمها الله سبحانه فحرمها، قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
وهذه نعمة من الله سبحانه على أهل مكة، إذ أن العرب في جاهليتهم كانوا لا يعرفون إلا السلب والنهب والخطف والقتل ويأكل بعضهم بعضاً، فيأكل القوي فيها الضعيف، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وكل ذلك يجري في القرى التي حولهم حتى إذا ما أتوا على مكة كفوا عن ذلك كله، إذ أن مكة حرمها الله سبحانه قدراً وشرعاً، فجعلها بلدة محرمة، وكلهم يدخلون إليها حجاجاً ومعتمرين، كما أنهم يعرفون فضل أهلها، حتى إن أهلها ليستكبرون على الغير ويمنعونهم من الطواف إلا في ثياب أهل مكة، ويعجب المرء حينما يرى أهل مكة وقد أنعم الله عليهم بتحريم هذه البلدة فإذا أهلها يستكبرون على غيرهم، بل وصل بهم الترفع على غيرهم أن يمنعوا غير المكي من الطواف بثيابه التي يقدم بها من بلده؛ لأنها بزعمهم ثياب عصي الله فيها، فإما أن يشتروا الثياب من مكة، وإما أن يطوفوا عرايا، وإما أن يستعيروا ثياباً للطواف من أهل مكة، ويستوي في ذلك الرجال والنساء.
وبرغم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بتعظيم هذه البلدة وتعظيم دين رب العالمين وأمرهم بعبادته، إلا أنهم تطاولوا عليه صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم أنه أمر أن يعبد الرب الذي خلقه، وخلق هذه البلدة، وخلق كل شيء، وهو المالك لكل شيء.(163/4)
فضل هذه الأمة ونبيها
ثم قال سبحانه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91] وفي الآية الأخرى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فكان النبي صلوات الله وسلامه عليه هو أول المسلمين في هذه الأمة، وهنا يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، ففيه: تنويه وإشارة لهذه الأمة على فضلها، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو {أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، كما ذكر في سورة الأنعام فإنه أيضاً من هذه الأمة، وهذا تشريف لهذه الأمة وتكريم لها.
والمسلمون في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل:91]، هم: المستسلمون لرب العالمين، فهم يسلمون وجوههم وقلوبهم وأبدانهم لله سبحانه، فهو يحكم فيهم بما يشاء فينفذون شرعه.(163/5)
بيان وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92]، أي: وأمرت أن أقرأ القرآن، والتلاوة هي: القراءة التي فيها التدبر، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لهذا القرآن العظيم وقراءته؛ ليتعلم الناس كيف يقرءونه وكيف يتدبرونه، قال تعالى: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92].
أي: أنني لست عليكم بحفيظ، ولست عليكم بوكيل، ولست عليكم بمسيطر، وإنما وظيفتي أن أتلو عليكم كلام رب العالمين، فمن هداه الله سبحانه فليحمد الله على نعمة الهدى، ومن اهتدى فهو الذي ينتفع بهداه، ولن ينتفع الله عز وجل به شيئاً، قال تعالى: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92].
وجزاء الهدى والسير فيه جنة رب العالمين، ثم قال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ} [النمل:92] أي: ومن كسب السيئة فإنما سيضل على نفسه، قال تعالى: {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل:92] أي: ومن ضل عن دين رب العالمين وعن الهدى: {فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} [النمل:92]، أي: لا أملك لكم من الله شيئاً، وقد أنذرتكم.
وفي الآية تفصيل لما سبق والمعنى: من جاء بالحسنة، أي: بلا إله إلا الله واهتدى، فله خير منها عند رب العالمين سبحانه وهذا الخير ينتفع هو به بسبب إيمانه.
{وَمَنْ ضَلَّ} [النمل:92]، أي: أتى بالسيئة، من الشرك وغيره من المعاصي والبلاء، فقل لهؤلاء: إنما أنا من المنذرين وقد أبلغتكم وأنذرتكم، وكما أن النبي منذر فهو مبشر؛ إلا أن المناسب للسياق هنا أن يذكر الإنذار فقط؛ لأن هؤلاء قد ضلوا، فناسب أن يقول: إني منذر لكم، ولذلك كان يقوم إليهم وينذرهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم من غضب الله، فإذا اشتدوا عليه يقول: (إنما جئتكم بالذبح)، أي: إنما جئتكم بالجهاد من الله سبحانه وتعالى، فسأجاهدكم وأقتلكم يوماً من الأيام.(163/6)
وعد الله بأن يرينا آياته
قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:93]، هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: أن احمد ربك سبحانه على كل حال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءته النعمة قال: الحمد لله رب العالمين، وإذا أصابته مصيبة قال: الحمد لله على كل حال، فكان يحمد ربه كما أمره الله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [النمل:93]، وفي الآية وعد من الله أن يري الناس الآيات، كما قال في السورة الأخرى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، فالله يري عباده الآيات، ويريهم نتائج ما صنعوا في هذه الدنيا، فمن كفر بعد أن رأى الآيات أذاقه العذاب في الدنيا وهزمه فيها، ثم مآله ومرده إلى عذاب يوم القيامة.
قوله: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل:93] أي: أن الله قد أراكم هذا القرآن وما فيه من الآيات العظيمة، وهذا من نعم الله عز وجل عليكم لتعرفون الآيات، وقد أراكم كيف صنع بالأقوام السابقين، وكيف سيصنع بكم يوم القيامة، وبين كيف سيكون فيه أمركم، وذلك حتى تتدبروا.
ثم تهددكم وتوعدكم فجاء الوعيد على ما قاله سبحانه وتعالى؛ ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر من الكفار وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44]، فكان ما حدث لهم في بدر آية من الآيات التي وعدهم الله سبحانه وتعالى أن يريهم إياها، وقد حذرهم الله سبحانه وتعالى من عذاب رب العالمين، وتوعدهم أنه سيبطش بهم في الدنيا، قال سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:21]، وبذلك عرفوا أنه سيأتيهم عذاب أدنى دون العذاب الأكبر، وبرغم هذا التوعد فقد كذبوا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم العذاب في يوم بدر، وقام النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر يقول: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف:44].
وقد حدث أن أبا سفيان ذهب إلى هرقل عظيم الروم فسأله هرقل عن أشياء، وكان أبو سفيان حينها كافراً، وكان هرقل رجلاً نصرانياً، وكان ينظر في النجوم، وبدأ هرقل يسأل الرجل أسئلة تدل على ذكائه.
فسأله عن هذا النبي وعن علاماته، وهل كان يدعي هذه النبوة قبله أحد؟ وهل كان أبوه ملكاً في يوم من الأيام؟ فسأله عشرة أسئلة أو نحوها، وبعد أن سمع بالإجابة من أبي سفيان جزم بأن هذا نبي رب العالمين سبحانه وتعالى، فصلوات الله وسلامه على رسوله الأمين.
فكانت تلك آية لـ أبي سفيان جعلته يتفكر وهو كافر، ثم رجع وهو يقول: لقد أَمِر أَمْر ابن أبي كبشة، وأبو كبشة قيل: جد من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اسمه، وقيل: كان أبو كبشة زوج مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم فنسب إليه، ومعنى قوله: لقد أمر أمره، يعني: زاد وانتشر وقوي، وما حدث مع أبي سفيان في مرحلة كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليس بالقوي ولا المؤمنون أقوياء.
لكنه بعد أن سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما أخبره علم أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام سيحكم مكة وغيرها ويمكنه الله سبحانه وتعالى.
فقال في نفسه يوماً من الأيام: لقد أمر أمره.
أي: زاد أمره وقوي أمره، حتى عرفه ملك الروم، ثم قال: فلم يزل أمر الإسلام منتشراً منتصراً بعد ذلك، ومع أن أبا سفيان رأى الآية وهو كافر إلا أنه لم يزل على كفره حتى أسلم في فتح مكة، وبعد أن أسلم أبو سفيان أراه الله عز وجل الآيات على لسان هذا الرجل الكافر، فكان خيراً له لو أنه أسلم حينئذ.
وإذا كان أبو سفيان لم ينتفع في هذا الحين، فقد انتفع غيره، فانتفع تميم الداري حين رأى آية من الآيات، فبينما كان هو ومجموعة معه من النصارى في البحر، ووصلوا إلى جزيرة من الجزر لعبت بهم الأمواج، فرسوا على هذه الجزيرة ونزلوا، فرأوا الجساسة، ثم دلتهم على المسيح الدجال، فحدثهم وأخبرهم عن نبي العرب صلوات الله وسلامه عليه، وأنه خير للناس أن يتبعوه، فإذا بـ تميم الداري رضي الله عنه ينتفع بالنصيحة ويذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤمن به ويحدثه بهذا الحديث الذي يعد آية من الآيات، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم جمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقال: (أما إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن تميماً حدثني حديثاً قد أعجبني ووافق ما حدثتكم به قبل ذلك)، ثم حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله تميم الداري، وصدق الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53]، فالله عز وجل يري الآيات فينتفع بها من يؤمن، ولا ينتفع بها من يصر على كفره: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93].
والله سبحانه وتعالى ليس غافلاً عما يعمل هؤلاء، ولكن الله حليم سبحانه، يصبر ويحلم عنهم لعلهم يؤمنون، فإذا لم يؤمنوا أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93]، قرئت بالتاء، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبي جعفر ويعقوب، والباقون يقرءونها بالياء: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [النمل:93].(163/7)
تفسير سورة القصص [1 - 4]
ذكر الله تعالى في أول سورة القصص جزءاً من طغيان فرعون وفساده في بني إسرائيل، وكيف أنه فرق الناس شيعاً وأحزاباً، واستضعف بني إسرائيل يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فكانت العاقبة لبني إسرائيل بالفرج والتمكين في الأرض جزاء صبرهم واستضعافهم.(164/1)
تفسير قوله تعالى: (طسم)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين.
أما بعد: قال تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:1 - 6].
السورة الثامنة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة القصص، وهي من السور المكية إلا آية فيها أو آيتين منها فهما مدنيتان، وفيها خصائص السور المكية من ذكر قصص القرآن، وتحدي المشركين، وذكر الأمم السابقة كيف صنعوا وكيف صنع بهم؟ وذكر العظة والاعتبار في هذه القصص العظيمة من قصص كتاب ربنا سبحانه.
ثم ذكر أمر الإيذاء الذي يكون لأولياء الله ولأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ثم تمكين الله عز وجل بعد ذلك للمؤمنين.
عدد آيات السورة ثمان وثمانون، باتفاق القراء على هذا العدد، وفي غيرها من السور قد تزيد الآيات في العد وإن كانت الآيات هي نفسها، ولكن هنا كل أهل العد اتفقوا على أن عدد آي هذه السورة ثمان وثمانون.
بدأها الله سبحانه وتعالى بالأحرف المقطعة الثلاثة فقال: {طسم} [القصص:1]، فهي حروف مقطعة فيها التحدي للمشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، والعادة أنه إذا ذكرة حروف مقطعة يذكر بعدها الإشارة إلى هذا القرآن العظيم، فقال: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:1 - 2]، وذكرنا قبل ذلك أن هذه الحروف من أسرار القرآن، يعني: مهما نذكر من حكم وموافقات بين هذه الحروف وبين السور فإننا لا نجزم بأنها جاءت من أجله، ولكن المفسرون يذكرون أشياء كلها لها وجهة من النظر، وبعضها أقوى من بعض.
فهنا كون العلة من بدء بعض السور بهذه الحروف التحدي واضح المعنى، أي: فإن هذا القرآن من الكلام العربي المركب من الأحرف التي تقرءونها فأتوا بسورة من مثله.
من العجيب في أمر القرآن العظيم أن الذين ينظرون في أسرار حروف السور يقولون: ما من سورة افتتحها الله عز وجل بأحرف مقطعة إلا كان أكثر الحروف عدداً هذه الأحرف المقطعة، إذاً: الطاء والسين والميم أكثر في هذه السورة من غيرها من الحروف.
قوله: {طسم} [القصص:1]، فيها قراءات ثلاث: قراءة أبي جعفر بالسكت عليها؛ لبيان أنها حروف وليست كلمة، فهي مكونة من حرف الطاء، وحرف السين، وحرف الميم، ولذلك إذا قرأها يقف عليها بالسكت، حتى يعلم السامع أنها أحرف وليست كلمة واحدة، وباقي القراء منهم من سيقرأ بالفتح، ومنهم من سيقرأ بالإمالة في حرف الطاء، وهم شعبة عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف كلهم بالإمالة، ويدغمون النون في الميم إلا حمزة فإنه يظهر النون، فيقرؤها (طسم)، بالنون مظهرة.(164/2)
تفسير قوله تعالى: (تلك آيات الكتاب المبين)
قوله: (تلك) إشارة واللام للبعد، فتكون الإشارة هنا للبعيد إما في رتبته وعظمته وإما في مكانه، فهنا إشارة لهذه الآيات التي بين أيدينا، وفيها تعظيم لهذه الآيات، فعندما تخبر عن إنسان أمامك تقول: هذا الرجل، فإذا أردت تعظيمه تقول: ذلك الرجل، يعني: تشير إليه كأنه بعيد في رتبته وعلوه.
فهنا يشير الله عز وجل إلى هذا القرآن فيقول: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [القصص:2]، وذكرها في موضع آخر: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، فالقرآن كتاب عظيم وكتاب كريم، وكتاب حكيم، وكتاب مبين.
(آيات) جمع آية.
(الكتاب) اللام للعهد وهو القرآن (الْمُبِينِ)، من بان الشيء بمعنى: وضح وظهر وتجلى، فليس به خفاء، فالقرآن ليس به خفاء، كل من يسمعه يفهمه سواء كان عالماً أو جاهلاً، وإن كان الله عز وجل فضل بعض الناس على بعض في الفهم، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولكن عجيب أمر هذا القرآن العظيم أنه يسمعه الإنسان الأمي فيعجب ويطرب لكلام رب العالمين سبحانه، ويفهم ما يقوله ولو فهماً عاماً لما فيه، يسمعه الإنسان العالم فيفهمه آية آية وكلمة كلمة، وينظر إلى عباراته وفصاحته وبلاغته، وإلى ما فيه من فقه وأحكام، أمر عجيب في هذا القرآن كما سنرى.(164/3)
تفسير قوله تعالى: (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق)
قوله: {نَتْلُوا} [القصص:3]، يوجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، {نَتْلُوا عَلَيْكَ} [القصص:3] حتى تعتبر وتتذكر وتتصبر أنت ومن معك من المؤمنين، فهي سورة مكية يصبر الله عز وجل فيها المؤمنين على ما كانوا فيه من الأذى، أي: إذا أوذيتم فانظروا الأذى الذي أصاب من قبلكم أكثر منكم، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوذي بشيء يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فيعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي بمن قبله، كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فاقتدى صلى الله عليه وسلم في الصبر بهؤلاء.
قوله: (من نبأ) النبأ الخبر المغيب، ما كان يعرف النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عن موسى ولا عن قومه حتى أخبره الله سبحانه تبارك وتعالى في القرآن، قال: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ} [القصص:3]، أي: من خبر غاب عنك، فنتلو عليك، أو نجعل جبريل يقرأ عليك ذلك فتستمع إلى هذه التلاوة، وتتعلم من نبأ موسى وفرعون.
وهنا ثلاث سور وهن: سورة الشعراء والنمل والقصص ذكر في كل منها قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والقصة هي هي، ولكن العجب من هذا القرآن العظيم الرائع، حيث إنه في كل موضع يذكر شيئاً من القصة تستفيد منه، ويناسب السياق فسورة الشعراء آياتها قصيرة وفيها هذه القصة، ذكرها الله عز وجل على نفس الفواصل التي في السورة مناسبة معها، وفي سورة النمل تجدها مناسبة، وفي سورة النمل ذكر قصة موسى فيها بنفس الفواصل التي فيها.
وهكذا في السور الأخرى كسورة الأعراف وهود، وهكذا في كل سورة يذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام بشيء إما مختصراً وإما مطولاً، وهنا أطال فيها وأطنب، حيث ذكر فيها قصة موسى منذ مولده، وكيف أن الله عز وجل نجى موسى ولا حول له ولا قوة، وأمه ضعيفة مستضعفة، فهي من بني إسرائيل الذين كانوا يهانون ويستضعفون في الأرض، فلا حول لها ولا قوة ولا حيلة على أمر فرعون، فإذا بالله عز وجل يصنع ما نرى في هذه القصة العجيبة الجميلة من آياته؛ ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئن المؤمنين أنه مهما اشتد الكرب فلا بد وأن يأتي الفرج من عند الله سبحانه، ومهما صبرتم أتاكم النصر من عند الله سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم: (اعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
قوله: ((لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) أي: نتلوه لينتفع به المؤمنون.(164/4)
تفسير قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض)
قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
يقول الله عز وجل: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ)) أي: ملك مصر وما حولها من بلاد، وعلا علواً شديداً وعتا في الأرض، فالله عز وجل يرفع من يشاء ويضع من يشاء، فرفعه الله ملكاً فإذا به يزعم أنه الملك على البلاد وأن هذا حقه، ولكن ما أعجبه أن يقف عند هذا الحد، وإنما ادعى ما هو أكثر من ذلك، ادعى أنه إله، وفي دعواه الكذب الواضح.
ثم ختم هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فبين أن فساده كان فساداً عظيماً جداً، وهذا واضح مما يذكره الله عز وجل في هذه الآية.
وفرعون علا في الأرض، فالله يعلي من يشاء، ويرفع درجات من يشاء، يرفع بالعلم من يشاء سبحانه وتعالى، يكون الناس بعضهم في علو وبعضهم في سفل، بحسب ما أعطاهم الله عز وجل من فضله، هذا غني وهذا فقير، هذا قوي وهذا ضعيف، هذا عالم وهذا جاهل، هذا ذكي وهذا غبي، فيرفع الله عز وجل ويفضل الناس بما يشاء، ولكن من أعطاه الله نعمة فتعالى بها على القوم حتى زعم ما ليس له فهذا العلو والإفساد، ففرعون آتاه الله الملك فإذا به يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويزعم لقومه أنه ابن الشمس، وليس مثل واحد منهم، كما كان يزعم الفراعنة، وقالوا: هذا كان رمسيس الثاني أو ابنه منفتاح والكثير يرجحون في زماننا أنه ابنه منفتاح بن رمسيس الثاني.
المهم أن هذا الفرعون أعطاه الله ملكاً عظيماً فعلا في الأرض أول شيء بكفره بالله سبحانه، وبدعواه أنه شيء آخر أعلى من البشر، وأن هؤلاء عبيد عنده يعبدونه من دون الله سبحانه، {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، الذي يجعل الناس شيعاً هذا لا يصلح أن يكون حاكماً عليهم، الحاكم على الناس هو الذي يجمع الناس جميعهم.
النبي صلى الله عليه وسلم من منة الله عز وجل عليه أن جعله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، يبقى الحاكم الرءوف الرحيم هو الذي يجمع الناس حوله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم للحاكم الرفيق بشعبه، فقال يدعو ربه سبحانه: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، إذاً: الحاكم الذي يتولى من أمر المسلمين شيئاً ويكون رفيقاً بالناس دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به في الدنيا والآخرة، ومن كان عنيفاً مع الناس شديداً غليظاً دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامله الله عز وجل بهذا العنف وبهذه الشدة.
فالغرض أن فرعون كان حاكماً قاسياً، يدبر أمر ملكه بالكيد والمكر، قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، فمن إفساده أن: ((جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، فلأجل أن يحكم البلد جعل الناس فرقاً، فقالوا: قسم البلاد إلى بضع وثلاثين فرقة، الفريق الذي في البلدة الفلانية، والفريق الذي في البلدة الفلانية، وجعل بينهم عداوة وبغضاء، الكل يوالونه هو، ولكن لا يحب بعضهم بعضاً، فجعل القوم شيعاً، فأقل شيعة وأضعف شيعة هم بنو إسرائيل الذين كانوا ساكنين في مصر من قبل أن يأتي هذا الفرعون بأربعمائة عام، يعني: ما كانوا من أهل مصر أصلاً، ولكنهم هم أبناء يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكانوا في فلسطين في بلاد الشام، وبعد ذلك لما كاد إخوة يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام له ألقوه في غيابة الجب، وتمر سيارة فيأخذونه طفلاً من غيابة الجب، ويأتون به إلى مصر، وينشأ ويشب كما ذكر الله سبحانه في سورة يوسف قصته، بعد ذلك أمر إخوته لما عرفوه أن يأتوا بأهلهم إلى مصر، فجاء إلى مصر يعقوب وأبناؤه وعاشوا في هذه البلدة، فمن هذا الوقت عاشوا وتكاثروا وظلوا فترة طويلة، وكان أهل مصر يعرفون لهم حقهم.
وأهل مصر كانوا يلقبون بالأقباط، وكلمة (قبط) ليس أصلها النصارى، فلم يكن يوجد في ذلك الوقت نصارى، ولكن أهل مصر الذين هم من أيام الفراعنة هم القبط، كل من سكن مصر يسمى قبطياً، والذي يحكم مصر يلقب بفرعون، والوزير يلقب هامان، فكان يميز بين القبط وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل جاءوا إلى مصر ودخلوا فيها، أما الأقباط فهم من أهل مصر.
الغرض أن بني إسرائيل عاشوا وكانوا على التوحيد، ثم بعد ذلك رجعوا إلى الإشراك بالله، فلما فعلوا ذلك سلط الله عليهم فرعون؛ لأنهم كانوا هم أهل الديانة الصحيحة والتوحيد، ولكن لما ابتعدوا عن دين ربهم سبحانه سلط عليهم ربهم فرعون، فعاشوا في هذه البلدة مستذلين، أذلهم فرعون ذلاً شديداً، فهذا كان من فساد فرعون، قال الله سبحانه: {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4]، جعل أهل مصر جميعهم شيعاً؛ لأن النظام يقول: فرق تسد، فرق الناس من أجل أن يبقى هو الرئيس عليهم.
ثم من فساده أنه يستضعف طائفة من بني إسرائيل، فماذا كان يعمل فيهم؟ {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4].
فرعون هذا الإنسان العنيف ليس في قلبه رحمة، فكان {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أْبْنَاءَهُمْ} [القصص:4]، وسبب ذبحه للصغار أن منجماً من منجميه الذين كانوا ينظرون في النجوم قال له: إنه سيولد طفل من بني إسرائيل يكون هلاكك على يديه، فإذا به يأمر بقتل أبناء بني إسرائيل، فذهب إليه الفلاحون وقالوا: لو قتلت أبناء بني إسرائيل لم نجد من يخدمنا، فإذا به يتراجع ويقول: نقتل الأولاد سنة ونتركهم سنة، وكأنه بناءً على كلام هذا الذي نظر في النجوم فإذا به يقتل أطفال بني إسرائيل في سنة، وفي سنة أخرى يترك أطفال بني إسرائيل، فكان ممن ولد في العام الذي لا يقتل فيه هارون أخو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي العام الذي يليه ولد موسى عليه الصلاة والسلام، فأرسل فرعون من يقتله.
فكانت هنا منة من الله عز وجل من ساعة ما ولد موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله يرينا كيف يحميه سبحانه، وكيف يدبر له أمره وهو صبي صغير، ففرعون يقتل الأبناء قسوة وعنفاً منه، وكفراً بالله سبحانه وتعالى، وكيداً ومكراً وتفريقاً بين الناس.
وكان يستحيي نساء بني إسرائيل، أي يترك البنات تكثر، والعادة أن الإسرائيلية تتزوج من أمثالها، لكن سيقل الصبيان، فماذا ستعمل المرأة عندما تكبر وتكون فيها شهوة؟ تقع في البغاء والزنا، وهذا الذي يريده فرعون، يستحيي النساء من بني إسرائيل بحيث تبقى خادمات في البيوت، وتكون عواهر وزانيات أيضاً، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
فالله عز وجل بدأ القصة بأن فصل لنا ما الذي يصنعه هذا الفرعون حتى تأتي إلى النهاية فتنظر كيف صنع الله به بكفره بالله سبحانه، وبإفساده في الأرض، فهذا فعل فرعون: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، كان عظيم الفساد في الأرض.
وهؤلاء المستضعفون ماذا سيعمل بهم ربنا؟ قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، الله عز وجل يطمئن المؤمنين، أنتم مستذلون وضعفاء، وعددكم قليل في مكة، سننصركم يوماً من الأيام، ولن نمكن لكم في مكة فقط، بل في الأرض كلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.(164/5)
تفسير سورة القصص [5 - 7]
تكررت قصة موسى وفرعون في سور كثيرة في القرآن، وفي كل موضع يذكر منها ما يناسب ذلك الموضع، وقد أجملت في بعض السور، لكنها فصلت في سورة القصص، وقد بين الله فيها كيف كان طغيان فرعون وكيف كانت نهايته، وكيف منَّ على الذين استضعفوا في الأرض من بني إسرائيل وجعلهم أئمة لما صبروا وكانوا بآيات الله يوقنون(165/1)
بيان ما اشتملت عليه سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز جل في سورة القصص: بسم الله الرحمن الرحيم {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:1 - 6].
هذه السورة مكية وفيها خصائص السور المكية، من تقرير توحيد الله سبحانه، وأمر العقيدة العظيمة الصافية التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، وليست لأمر جديد، وإنما كل أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام أمرهم الله عز وجل أن يدعو الخلق إلى توحيد الله وحده لا شريك له.
واشتملت السورة على التنويه بشأن هذا القرآن العظيم، والتعريض بأن بلغاء المشركين لا يقدرون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، كما ذكر الله عز وجل في النصف الأخير منها قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد تكررت كثيراً في كتاب الله سبحانه، وفي كل موضع من المواضع يذكر منها ما يليق بذلك الموضع كما ذكرنا من قبل.
وهذه الثلاث السور المتتالية سورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص كل من هذه السور فيها ذكر لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكأنه في موضع يذكر شيئاً فيجمله ثم يفصله في هذه السورة سورة القصص، وكأنه يقص علينا قصصاً عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ففيها قصته وهو صبي وما الذي حدث له، وقصته في مدين، وقصته في الطريق من مدين إلى مصر وما الذي حدث له، وقصة النار وإتيانه إليها وما الذي حدث له، وقصة محاجته لفرعون وما كان فيها.
ثم ذكر في آخر هذه السورة قصة قارون وكيف أهلكه الله سبحانه وتعالى، ليرينا الله عز وجل أن الإنسان الذي غره ملكه وماله فنهايته نهاية أليمة إن لم يتب إلى ربه سبحانه وتعالى، فالذي غره الملك فرعون، والذي غره المال قارون، فأرانا الله عز وجل كيف أهلك الاثنين، ففصل في هذه السورة ما أجمل في غيرها، ففي سورة النمل قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل:7]، وفصل هنا سبحانه وتعالى كيف صار بأهله حتى وصل إلى هذه النار، وكيف صنع حينما رأى هذه النار، ولما أتى إليها ما الذي قاله له الله سبحانه وتعالى، ففصل ما أجمل هنالك.
كذلك لما ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الشعراء قصة موسى مع فرعون وأن فرعون من عليه: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:19 - 20]، فأجمل كيف رباه فرعون حيث ذكر قول فرعون: ألم نربك؟ وهنا ذكر لنا أن هذه التربية كانت في قصر فرعون، وأن امرأة فرعون هي التي قامت بذلك وهي التي أحبته وأخذته وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9].
بدأ الله هذه السورة بقوله: {طسم} [القصص:1]، وهذه حروف مقطعة ليرينا أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، أو فأتوا بكتاب مثله؛ ولذلك قال الله في هذه السورة: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:49 - 50]، فالغرض أنه تحداهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من هذا الكتاب، ومن الكتاب الذي جاء على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].
قال الله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:3 - 4] أي: استكبر في الأرض بملكه فإذا به يطغى ويقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومن فساده: {َجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} [القصص:4]، فرق أهلها -وهم بنو إسرائيل- حتى يتمكن من حكمهم بهذا المكر، {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، أي يبقي النساء على قيد الحياة، {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4]، وكان يريد تقتيل جميع الأبناء، فلما فعل ذلك إذا بقومه يقولون: لو قتلتهم لن نجد من يخدمنا، فكان يقتلهم عاماً ويتركهم عاماً، فولد هارون على نبينا وعليه الصلاة والسلام في العام الذي كان يتركهم فيه على قيد الحياة، وولد موسى في العام الذي يليه، وكان بين موسى وهارون سنة واحدة، وهارون أكبر سناً من موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فولد موسى في العام الذي يذبح فيه الصبيان، ليرينا الله عز وجل من آياته العظيمة كيف ينجي من يشاء من خلقه سبحانه.(165/2)
تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)
قال الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، هذه تسلية للمؤمنين، يعدهم الله سبحانه أن يثبتهم ويمن على المستضعفين، وهذه السورة مكية، وآية منها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهاجر من مكة وهو في الجحفة، حيث أنزل الله عز وجل عليه يثبته ويطمئنه ويواسيه ويسليه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، أي: الذي فرض عليك القرآن فدعوت الكفار إليه فشددوا عليك وآذوك حتى أخرجوك من مكة التي هي أحب البلاد إليك، كما قال: (لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)؛ فيسليه الله عز وجل بأنه سيرجع مرة أخرى إلى هذه البلدة التي أخرجوه منها.
وذكر الله عز وجل استضعاف فرعون لبني إسرائيل، وقد نصرهم الله عز وجل بعد ذلك، فليس بعزيز على الله سبحانه أن ينصركم وأن يمكنكم، ومن سنة الله عز وجل أن يجعل الناس منهم الضعفاء ومنهم الأقوياء، منهم الأقلية ومنهم الأكثرية، ثم يقلب موازين الكون بعد ذلك فيمن على المستضعفين ويمكن لهم، حتى يرى كيف يعملون، فإذا استقاموا على سنة الله عز وجل أعطاهم الخيرات وثبتهم، فإذا انقلبوا أعاد الأمر عليهم مرة ثانية، فالله يقلب هذه الدول كما يشاء سبحانه، وأمرهم يدور بين قوة وضعف، بين عزة وصغار، بين قلة واستكثار.
قال سبحانه تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] يعني: قادة في الخير، يقتدى بهم في الخير بعدما كانوا مستضعفين مستذلين لا يعبأ بهم، يقول الأقوياء لأنبيائهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54]، أي: هؤلاء ضعفاء ليس عندهم رأي حتى نتبعهم.
فالله عز وجل يمن عليهم ويجعلهم قادة في الخير في يوم من الأيام، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، دعاة إلى الخير، قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] أي: نورثهم هذه الأرض بعد أن نهلك المستكبرين.
وهل بنو إسرائيل أورثهم الله عز وجل أرض مصر بعدما أهلك فرعون؟ هم ما ملكوا مصر، والله ما قال هنا: نورثهم ملك فرعون، ولكن قال: (ونمكن لهم في الأرض) أي: في أي أرض من الأراضي؛ ولذلك أذن لهم الله سبحانه وتعالى في الخروج من مصر فخرجوا، فلما عبروا البحر وأغرق الله فرعون لم يرجعوا إلى مصر وإنما ذهبوا إلى الشام مع نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فمكن الله لهم هناك.
وأرض الشام كانت أرض العمالقة الجبارين كما قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] فكان فيها أناس أشداء أقوياء، مثل الحثيين والكنعانيين والآراميين، فالله عز وجل أورث بني إسرائيل من هؤلاء الأرض التي كانوا فيها، ولم يورثهم ملك فرعون، بل ملك فرعون توارثه الفراعنة بعد ذلك، وكان لهم عبرة فيما حدث لفرعون ولكنهم لم يعتبروا بما حدث فيهم.
قال سبحانه تبارك وتعالى: {َنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5]، وقد فعل ذلك سبحانه وتعالى، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وقد فعل ذلك، ثم قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5]، فأورثهم أرضاً، وهو لم يقل: نجعلهم وارثين لأرض فرعون، ولكن قال: {وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6]، فمكن الله سبحانه تبارك وتعالى لهم في أرض الشام.
قال الإمام القرطبي: أي نجعلهم مقتدرين على الأرض وأهلها حتى يستولوا عليها، يعني: أرض الشام وأرض مصر، ولكن الظاهر من كلام المفسرين وأهل التواريخ أنهم لم يرجعوا إلى مصر، وإنما كانوا بعد ذلك في الشام، وحصل لهم التيه هنالك، ثم استولوا على الأرض التي هناك على ما ذكر الله سبحانه وذكر أهل التواريخ.(165/3)
تفسير قوله تعالى: (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون)
قال الله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] فرعون كان يحذر من شيء، قيل: إن بعض المنجمين قالوا لفرعون: إنه سيكون هلاكك على يد واحد من بني إسرائيل، فالله عز وجل قدر ذلك، ولا بد أن يكون ما قدره الله سبحانه، ومهما أخذ الإنسان في الحيطة وفي الحذر فقدر الله لا بد أن يصيبه، قال: {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ} [القصص:6] أي سنري فرعون {وَهَامَانَ} [القصص:6] وزيره، {وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} [القصص:6]، من هؤلاء المستضعفين {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:6] ويستعدون له ويأخذون بالأسباب، فلم تنفعهم أسبابهم.
وقراءة الجمهور: {وَنُرِيَ} [القصص:6]، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ويرِى) بالإمالة، يعني: سيرى فرعون ما كان يحذر من هؤلاء، ولابد أن يدركه هذا الشيء، فأفعال الله سبحانه وتعالى آيات وفيها عظمة رب العالمين سبحانه، فأجمعوا جموعكم، وقدروا لأنفسكم ما تشاءون، فلن يكون إلا ما قدره الله سبحانه وتعالى، فالإنسان قد يقدر ويدبر ويأخذ بالأسباب ويعمل الحيطة، ومن المأمن الذي هو فيه يأتيه عذاب الله سبحانه وتعالى! فهذا فرعون استعد لهؤلاء واستضعفهم واستصغرهم وقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54 - 56]، وكان قوم موسى نحو خمسمائة ألف أو أقل أو أكثر، شرذمة قليلون، وفرعون ومن معه كانوا ملايين من الناس، ورأى في نفسه القوة ورأى في هؤلاء الضعف، وتيقن أنه حصرهم، فالبحر أمامهم وفرعون وراءهم؛ فيأتي من هنا نصر الله سبحانه ليري الخلق أن القوة بيد الله سبحانه وتعالى، ينصر من يشاء.(165/4)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)
يقول الله سبحانه تبارك وتعالى بادئاً قصة موسى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
هذا إلهام من الله عز وجل، فهو حديث في نفسها من عند الله سبحانه وتكون مستيقنة بهذا الذي تفعله، ولا تملك أن ترده، وليس كل وحي من الله عز وجل للإنسان يكون دلالة على أنه نبي، فالله عز وجل أوحى إليها بالنفث في روعها أو أرسل إليها من يقول لها ذلك، وليس هذا دليلاً على أنها نبية.
وكذلك السيدة مريم عليها السلام أوحى الله عز وجل إليها ومع ذلك ليست نبية، وكذلك أوحى ربك إلى النحل، فالنبي ينزل عليه وحي من عند الله سبحانه ينبئه بأمر الغيب، ويأمره أن يأمر الناس بعبادة الله وبالتوحيد، ويعلمه الله من أمور الغيب ما لا يعلمها غيره، والرسول هو من كان نبياًَ وأعطاه الله عز وجل شريعة ورسالة من عنده، وأمره أن يبلغ هذه الرسالة.
قال الله: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] هذه الآية العظيمة العجيبة عندما نظر إليها العرب ما ملكوا إلا أن يذعنوا لفصاحة القرآن وبلاغة القرآن، ففي آية واحدة يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أمرين ونهيين وبشارتين، فهذا مما يجعلهم يخضعون ويقرون أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله وقال: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ} [القصص:49] أي: مثله، فلا يقدرون، وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، فلا يقدرون، وقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23]، فلا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك عرف الناس فضل هذا القرآن وفصاحة هذا القرآن بما ذكره الله عز وجل فيه، وهذا من إعجاز هذا الكتاب العظيم.
يقول الأصمعي وهو من أئمة اللغة: سمعت جارية أعرابية من الأعراب وهي تنشد وتقول: أستغفر الله لذنبي كله قتلت إنساناً بغير حله مثل الغزال ناعماً في دله فانتصف الليل ولم أصله فقال لها: قتلك الله ما أفصحك! فقالت له: أويعد هذا فصاحة مع قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين! فهذا إمام من أئمة اللغة يقول لها: أنت فصيحة، وهي تقول: كلامي لا شيء إذا قورن بهذا القرآن العظيم، فالذي يتكلم عن الفصاحة ليس آحاد الناس، ولكن يتكلم أهل الفصاحة وأهل اللغة، لذلك بعض الناس يقولون: ما المانع أن يؤلف مثل هذا القرآن، فنقول لهم: ألفوا، وهاتوا مثل هذا القرآن، فيقوم إنسان يخرف في الإنترنت ويأتي إلى سورة من السور ويزيل منها كلمات ويضع بدلها كلمات أخرى، ثم يقول: أنا ألفت مثل هذا القرآن! وبعض المغفلين يقول: لقد ألف مثل القرآن، وهؤلاء لا يفهمون اللغة العربية أصلاً، ولا يعرفون معنى الفصاحة ولا معنى البلاغة، والذي يحكم على ذلك هم أهل اللغة وأهل الفصاحة وأهل البلاغة الذين يتذوقون الكلام فيعرفون أن هذا كلام فارغ لا يقارن مع فصاحة القرآن التي أعيت العرب، ولو كان الأمر يسيراً، لكان أبو جهل وأبو سفيان والوليد بن المغيرة يقولون مثل هذا القرآن، لكنهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فالقرآن كلام رب العالمين، ووعد الله حق، فالله يتحدى الناس بهذا القرآن، ولا يقدر أحد أن يثبت أمام هذا التحدي، وإذا جرب أتى بكلام فارغ خال من فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(165/5)
تفسير سورة القصص [7 - 13]
من أبرز ما يشد الانتباه في قصة موسى: هو كيف أن الله سهل وهيأ سبل الحفظ والرعاية والكلاءة لموسى عليه السلام، وكيف أنه عز وجل لا يخلف الميعاد، فحين وعد أم موسى أنه سيرد عليها ابنها أوفى بذلك عز وجل.(166/1)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى وجاعلوه من المرسلين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:7 - 10].
في آية واحدة من هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا ربنا تبارك وتعالى بخبرين وبأمرين وبنهيين وبشارتين قالها الله تبارك وتعالى لـ أم موسى، فقال مخبراً: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فهذا الوحي من الله سبحانه تبارك وتعالى والإخبار منه هو: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمره لـ أم موسى بإرضاع الغلام وهو موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ} [القصص:7]، وهذا أمر آخر منه سبحانه وتعالى.
ثم قال لها: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7] نهاها سبحانه أن تخاف وأن تحزن، ثم بشرها سبحانه تبارك وتعالى ببشارتين، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فأخبر سبحانه وأمر ونهى وبشر في آية واحدة، وهذا من بلاغة القرآن العظيم، والإيجاز في الألفاظ مع إعطاء المعاني العظيمة الكثيرة.
وأوحى الله عز وجل إلى أم موسى وهي لم تكن نبية ولكن الوحي هنا هو: الإلهام، فألهمها وألقى ذلك في قلبها، بحيث تثبتت واستيقنت من ذلك، فنفذت ما قاله الله عز وجل لها.
قال: {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، فإذاً: لما ولد موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يمكث مع أمه إلا فترة قليلة قيل: مكث معها أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر ترضعه فيها وتخاف عليه من فرعون وجنوده، فأوحى الله عز وجل إليها {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} [القصص:7]، أي: إذا حدث شيء فألقيه في اليم، فأرضعته خلال الثلاثة الأشهر إلى أن تنبه إليه من تنبه وجاءوا إليه ليذبحوه فقال لها الله عز وجل موحياً إليها: {فإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7].
قالوا: إن فرعون كان يرسل القوابل لتوليد نساء بني إسرائيل في السنة التي يذبح فيها الغلمان، فإذا ولدت امرأة استقبل القوابل هذا الغلام ثم ذبحنه، ويأتي الرجال فيأخذونه ويلقونه أو يدفنونه، فكانت العادة جارية بذلك، فلما ولدت أم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فكأن القابلة التي تولده جاءت لتأخذه وتذبحه، ولكن ألقى الله عز وجل محبة موسى في قلبها، فإذا بها تحبه وتقول لأمه: أخفيه، وأنا لن أخبر به، فلما انتبهوا له عليه الصلاة والسلام جاءوا ليأخذوه فألقته في اليم.
قال الله عز وجل: {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فكأنها صنعت له تابوتاً، وكانت كلما خافت عليه وضعته في التابوت ووضعته في النهر وربطته حتى لا يذهب، فكل ليلة كأنه كان يحدث منها ذلك حين تخاف أن يأتي من يشك في أمرها، وفي مرة من المرات خافت خوفاً شديداً فوضعته في اليم وغطته وكأنها نست أن تربط هذا التابوت في مكانه، فانطلق التابوت بموسى كالسفينة يحمله من ضفة النهر التي هي فيها إلى مكان وجود فرعون.
وسبحان الله الذي يرينا آياته، فقد كان من الممكن أن الله يربي سبحانه وتعالى موسى في بيت أمه ويخفيه سنين طويلة، ولكنه يرينا قوته وقدرته وإعجازه، فينشأ موسى كما أراد الله في بيت فرعون الذي علا في الأرض، فينشأ في قصره وفرعون هو الذي يربيه، ثم يمن عليه في يوم من الأيام يقول: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18].
ذهب النهر بموسى إلى مكان فرعون، قال الله عز وجل لهذه المرأة: {وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي} [القصص:7]، فالخوف عادة ما يكون على المستقبل، إن إنساناً خائفاً لابد أن يحصل منه الحزن فقال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، فطمأنها وثبتها سبحانه أنه لن يقدر عليه فرعون فإننا معه، (ولا تحزني) أن فارقته وأن تركته في اليم فهذه مشيئة الله وتقديره سبحانه تبارك وتعالى، فإنه في يوم من الأيام سيرجع إليك، {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، وهذا تبشير من الله أن موسى عليه الصلاة والسلام سيكون رسولاً يوماً من الأيام.
قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} [القصص:7]، والتعبير هنا بنون العظمة، أي: إنا فاعلون ذلك؛ لأن الأمر عظيم ولا يفعله إلا العظيم سبحانه وتعالى، ولم يقل: أنا راده وإنما قال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
والرد إليها يكون بتسهيل الأسباب.(166/2)
تفسير قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون كانوا خاطئين)
قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].
لما وضعته في اليم سار به التابوت ولم ينقلب التابوت في النهر فالله عز وجل الذي حفظه برعايته سبحانه وبحفظه سبحانه، تابوت صغير فيه طفل صغير، ما المانع أن ينقلب التابوت الذي يطفو على الماء وهو شيء صغير؟! فالعادة الذي يثبت على الماء يكون كبيراً، أما لو وضعت قطعة من الخشب على الماء فإنك تجدها فجأة مقلوبة، فما هو الذي منع هذا التابوت من ذلك؟! إنه الله سبحانه وتعالى، ليريه أنه وحده الذي حفظه وحافظ عليه.
قال سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]، وليس فرعون نفسه، ولكن الجواري من آل فرعون وخادمات زوجة فرعون آسيا، فكن ينظرن إلى النهر فوجدن هذا التابوت فأخذنه، وكأن التابوت كان مغلقاً على موسى عليه الصلاة والسلام، فذهبن بالتابوت إلى زوجة فرعون.
قال الله سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، لاحظ أنه لن يكون قلقاً، فاللام ليست لام التعليل ولكنها لام العاقبة، أي: لتكون العاقبة في يوم من الأيام أنه يكون لفرعون ولجنوده عدواً وحزناً، وكلمة (حزناً) بمعنى الحزن، وفي الآية قراءتان: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ليكون لهم عدواً وحُزنا) أي: لتكون العاقبة في يوم من الأيام أن يُحزن موسى فرعون ويكون فرعون نادماً أن فعل به ذلك، فتكون العاقبة لهذا الجبار المتكبر أن يحزنه الله وأن يذله في يوم من الأيام.
قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ} [القصص:8]، وكأنه يقول هنا: لأن {فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، وهناك فرق بين الخاطئ والمخطئ، فهم ما كانوا مخطئين حين أخذوه، ولكن (خاطئ) مأخوذ من الخطيئة، فهم أهل خطيئة، وأهل كبائر، فقد كفر فرعون ونصب نفسه إلهاً بل رباً بزعمه، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فكان خاطئاً، ففرق بين أن نقول: فلان خاطئ، وفلان مخطئ، فلان مخطئ أي: جانب الصواب، ويريد أن يعمل عملاً صحيحاً فلم يوفق إليه، فهذا مخطئ.
ولكن فلان خاطئ أي: أتى بالخطيئة عمداً لأنه يريد أن يفعلها، ففرعون لم يكن مخطئاً وإنما كان صاحب خطيئة.
{وَهَامَانَ} [القصص:8]، وهو وزير فرعون، {وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، أي: أصحاب كبائر، وكانوا كفرة بالله سبحانه وتعالى، وكانوا يعبدون فرعون الذي كان يزعم لقومه أنه ابن الشمس وليس ابن البشر، ويزعم أنه إله فيعبدون الشمس من دون الله، ويعبدون فرعون من دون الله سبحانه، فكأن القوم قد ذهبت عقولهم، كما قال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54]، يعني: كانت عقولهم خفيفة لا تفقه ولا تفهم فعبدوه من دون الله وأطاعوه.(166/3)
تفسير قوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك وهم لا يشعرون)
كان موسى من رآه أحبه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلما حملت امرأة فرعون التابوت نظرت إليه فأحبته حباً شديداً، ولذلك قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]، فذهبت به إلى فرعون كأنها تتوسل إليه: إياك أن تقتله، لا تقتله، فهذا قرة عين لي ولك، (قرة عين) العين القريرة كأنها من القُر أيك السكون، وإنما تسكن العين حين يستريح الإنسان إلى خبر سار فتقر عينه وتسكن.
الإنسان الخائف من شيء لا تقر عينه فيظل ينظر شمالاً ويميناً.
و (قرة) مأخوذة من القر وهو البرد، وعين الإنسان الفرح قارة، أو يقال: هو قرير العين، أي: من شدة فرحه تدمع عينه، ودمع السرور يكون بارداً، بخلاف دمع الحزن فإنه ينزل حاراً، فتقر عين الإنسان المستبشر الفرحان.
فهنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} [القصص:9]، أي: أني في غاية الفرح بهذا الطفل وأنا أريده كي تقر عيني به؛ لأنها لم يكن لها ولد.
وقالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا} [القصص:9]، يوماً من الأيام {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:9]، ولكن لا أحد يقرأ الغيب ولا أحد ينظر في المستقبل.
وهذه القصة -كما يقول العلماء- فيها من الفوائد: أن يظهر الله سبحانه تبارك وتعالى علمه وقضاءه وقدره وما سيكون في يوم من الأيام والناس لا يدرون منه شيئاً، يقول سبحانه {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] فأرانا كيف منّ عليهم في يوم من الأيام؛ فمهما يستضعف الضعيف ولكن الله عز وجل إذا شاء أن يمكن له سبَّب الأسباب ومكن له يوماً من الأيام.
ويقول العلماء: في هذه الآيات إظهار أن العلو لله وحده لا شريك له، فمهما علا الإنسان واستكبر فإن الله يمكر به، فيتركه يعلو ويعلو، حتى إذا جاء انتقام الله عز وجل منه، وجد الجميع أن هذا هو الحكم العدل، وأن هذا الإنسان يستحق ذلك بكفره وبمعصيته ومثاله: فرعون.
وفي هذه الآيات بيان أنه مهما علا الإنسان الكافر فإن الله يزيله يوماً من الأيام.
وكذلك السورة مكية، والنبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية ذاق من الكفار ما ذاق، من تعنتهم ومن كفرهم ومن تعذيبهم لأصحابه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل عندما يقول له: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] فهذا فيه تخفيف من معاناة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه بشارة للمؤمنين.
وفي هذه القصة إشارة إلى قوله تعالى: {َعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216].
فالمؤمنون يبتليهم الله سبحانه كما ابتلى موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وابتلى بني إسرائيل، فكان الابتلاء شراً في نظرهم، وإذا به ينجيهم عز وجل ويعكس الأمر، فكانوا يكرهون شيئاً والخير فيه، ولذلك كان موسى يقول لقومه: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون, ففعل الله سبحانه ومكن للمؤمنين.(166/4)
تفسير قوله تعالى: (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً لتكون من المؤمنين)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10].
فلما أخذ آل فرعون موسى وأم موسى تأكدت أن التابوت سار به وذهب به في النهر، كادت تنسى ما قاله لها ربها سبحانه وتعالى، لولا أن ثبتها الله سبحانه.
{َأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10]، فالمصيبة عظيمة جداً، فأصبح القلب فارغاً من كل الدنيا إلا من موسى، وكذا الإنسان صاحب البلية والمصيبة ينسى كل شيء كأن قلبه لم يتفرغ إلا لهذه المصيبة فقط.
قال تعالى: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} [القصص:10]، أي: كادت تبدي بمصيبتها وأنه ابنها لما علمت أنه عند آل فرعون، فكادت تصرخ وتقول: إنه ابني، فالإنسان في المصيبة يتكلم وهو لا يشعر بما يقوله.
قال تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10]، فالإنسان لا يملك لنفسه شيئاً ويكاد أن يفضح نفسه لولا أن يثبته الله سبحانه تبارك وتعالى، قال: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:10] أي: بأمر الله سبحانه وبقضائه وبقدره وأنه بشرها أنه سيكون مرسلاً يوماً من الأيام.(166/5)
تفسير قوله تعالى: (وقالت لأخته قصيه وهم لا يشعرون)
قوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: أذهبي وابحثي ما الذي حصل له، يقال: قص الأثر أي: تتبع الأثر.
{فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11] أي: مشت وراء التابوت وعلمت أنه وصل إلى آل فرعون {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} [القصص:11]، عن جنب أي: عن بعد من مكان بعيد، كأنها تتظاهر أنها مجانبة له وكأنها ذهبت مراراً تنظر ماذا حصل فوجدتهم يبحثون عمن يرضعه، فموسى كان يبكي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهم لا يعرفون كيف يصنعون معه، فكلما جاءت مرضعة لا يلتقم ثديها ولا يريدها، وظلوا يبحثون عن مرضعات.
قال تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، إنه التحريم القدري وليس الشرعي، فقالت أخته بعد أن أظهرت نفسها كأنها عابرة سبيل: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، أي: أن من عادتهم النصح في كفالة الأطفال ويؤملون منكم أن تعطوهم مالاً مقابل هذا الشيء.
{قَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، وما قالت هل أدلكم على امرأة، وكأن تدبير ربنا سبحانه وتعالى أن يرجع موسى للبيت الذي كان فيه، لترضعه أمه ويكون في حضانتها.
قوله: {أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} [القصص:12]، أي: يقومون بأمره فيكفلونه لأجلكم {وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12]، أي: ينصحون ويربون، وهم ناصحون لفرعون، فعلى ذلك تأمنون شرهم.(166/6)
تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه)
قال سبحانه: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص:13]، لتتحول دموع الحزن إلى دموع الفرح، أي: أرجعه مرة ثانيه إلى أمه ليكون لأمه قرة عين فضلاً عن أنها تأخذ مالاً أيضاً، فترضعه وتأخذ أجرة من فرعون على أن ترضعه فيشب في حضن أمه عليه الصلاة والسلام، وتؤجر على ذلك، يعطيها فرعون وتأخذ الأجر من الله على صبرها على ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(166/7)
تفسير سورة القصص [14 - 20]
الأنبياء والمرسلون قدوة للناس، لا سيما في الرجوع إلى الله، والخوف منه، والتوبة إليه، والثقة به سبحانه، وفي نصرة المظلوم، فقد حفظ الله موسى من كيد فرعون وملئه قبل رسالته وبعد رسالته، وسورة القصص توضح لنا طرفاً من ذلك.(167/1)
تفسير قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:13 - 14].
في هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه حفظه، وكيف أنه منع فرعون من قتله، وكيف أنه أنشأه سبحانه وتعالى على وعده الذي وعد أمه {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] فنشأ في بيت فرعون على ما أراد الله عز وجل له، فكان عزيزاً نبياً من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، رباه الله سبحانه قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فالله سبحانه رباه تربية عظيمة في بيت عدو الله، ولم يكن موسى قد صار نبياً إلا في علم الله سبحانه، ولم تكن نبوته إلا بعد أن رجع من مدين إلى مصر، ثم رأى النار في الطريق، على ما ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء وفي سورة النمل، وهنا يذكر أيضاً في سورة القصص، فالله سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين بأنهم إذا صبروا أنجاهم الله عز وجل وإذا اتقوا ربهم سبحانه جعل لهم مخرجاً، ويضرب لنا الأمثلة في ذلك في القرآن العظيم، كيف نجى موسى وكيف نجى يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام من كيد من كادوا له ومكروا به، وكيف نجى أنبياءه ورسله وأهلك أعداءه سبحانه وتعالى، فلذلك فإن الإنسان المؤمن يقرأ كتاب الله سبحانه ويتدبر الآيات ليعي هذا الأمر، فإذا أردت الخروج من ضيق ما أنت فيه فعليك بتقوى الله سبحانه، فهذا موسى عليه الصلاة والسلام قد رده الله إلى أمه لترضعه، ولينشأ في خدرها، وما زال هو في بيت فرعون، ولكن أخذته أمه تحتضنه وترضعه.(167/2)
تفسير قوله تعالى: (ولما بلغ أشده واستوى)
كبر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكبر في سنه وفي جسده وصار قوياً، وعبر الله عز وجل عن ذلك بقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص:14] وهي نفس العبارة التي عبر بها سبحانه عن يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام، هذا كفله الله سبحانه وذاك رباه الله سبحانه وتعالى، فيوسف أيضاً لما بلغ أشده آتاه الله حكماً وعلماً، ففي سورة يوسف بلغ يوسف أشده، والأشد رشد الإنسان، أي: بلغ مبلغ الرجال ومبلغ الكمال، فهو لم يبلغ مبلغ الرشد لكنه صار رشيداً بالغاً عاقلاً فاهماً علمه الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لم يذكر: (واستوى)، فزاد لموسى (استوى) على ما ذكر في قصة يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] هنا ذكر ما يناسب السيرة.
قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص:14] في الآيتين ذكر أنه يجزي المحسنين، أي كذلك الجزاء الذي ترونه، وعبر باسم الإشارة للبعيد لبيان عظيم الجزاء، أنه من الله يناسب فضله ويناسب كرمه سبحانه.
فيوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الله أنه بعد ما بلغ أشده آتاه سبحانه الحكم وآتاه العلم، قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:23] وهنا ناسب السياق، ولم يذكر أشده واستوى، لكن هنا ذكر: ((وَاسْتَوَى)) والاستواء بمعنى: القوة، فالقوة هنا مناسبة لما سيذكر من وكز موسى لقبطي وقضائه عليه، فكان موسى قوياً جداً، إذاً: الاستواء: القوة البدنية.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أن استوى، أي: بلغ أربعين سنة، وهذا قد يكون صحيحاً، ولكن المعنى الذي يناسب أن الاستواء هو القوة، قال تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29] فالزرع يخلقه الله سبحانه وتعالى فيكبر ويشتد ويستوي في النهاية، كأن موسى بلغ مبلغ الكمال سواء في بدنه أو في سنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فآتاه الله الحكم والحكمة، وآتاه من لدنه حكمته، وآتاه علماً سبحانه وتعالى قبل النبوة وعلماً آخر بعد النبوة، فموسى عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل من أولاد يعقوب النبي فهو من أحفاده عليه الصلاة والسلام، فعلى ذلك فإن موسى عنده العلم الذي ورثه من آبائه، وهو علم يعقوب وعلم إسحاق وعلم يوسف عليهم الصلاة والسلام.
فالله عز وجل آتاه هذا العلم بإلهام منه سبحانه، وبالتعلم ممن معه، ثم بعد ذلك من عليه بالنبوة وآتاه علم النبوة وأنزل عليه التوراة، فكان موسى على علم من الله وعلى حكمة، فكان حكيماً عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) أي: بما جزينا به موسى وغيره عليهم الصلاة والسلام.(167/3)
تفسير قوله تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها)
قال سبحانه: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] مر وقت طويل غير مذكور في القرآن أن موسى تربى في بيت فرعون تربية ملوك، حتى إنه كان يدعى ابن فرعون، فصار له عزة وصار له تمكين، وأمه لا شك أنها أخبرته أنه من بني إسرائيل وأنها أمه الحقيقية؛ لذلك كان يحن على بني إسرائيل وكان ينصرهم، فموسى منع أذى آل فرعون لبني إسرائيل، وهذا من فضل الله عز وجل ومن حكمه الذي آتاه موسى.
وشب موسى عليه السلام على قوة في قصر فرعون، وهو مع بني إسرائيل رءوف رحيم بهم، ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها في يوم من الأيام، وهذا يدل على أنه كان خارج المدينة، فقد يكون بينه وبين فرعون شيء قبل ذلك جعله يخرج خارج المدينة؛ لذلك عبر الله سبحانه وتعالى بأنه {دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15].
إذاً: عرف موسى عليه الصلاة والسلام أن بني إسرائيل هم شيعته، وكان بنو إسرائيل يعرفون ذلك، لذلك استنصره هذا الإسرائيلي على القبطي من أهل مصر، قال تعالى: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] أي: استصرخه في الحال.
وذكر المفسرون أن الرجل القبطي كان خبازاً لفرعون، فأراد من الإسرائيلي أن يحمل له حزمة حطب كعادتهم في تشغيل الإسرائيليين فرفض الإسرائيلي وتعزز بموسى عليه الصلاة والسلام وكان القبطي أقوى منه فضربه، فجاء موسى ووجد الأمر على ذلك والإسرائيلي يستغيث بموسى عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن وكز القبطي بكوع اليد وكزة في صدره، فكانت الوكزة قوية فقضى عليه، ولم يقصد ذلك عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تاب إلى الله عز وجل من ذلك، وإنما قصد المعاقبة وتخليص الاثنين، فضرب هذا العدو فكانت الضربة شديدة تدل على قوة موسى.
ولما رأى الرجل مات قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص:15] أي: أنا لا أقصد أن أقتله، فهو لم يوح إليه بعد أنه رسول عليه الصلاة والسلام وكان هذا قبل الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، فهذا من موسى كان خطأً؛ ولذلك قال فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] أي: ربيناك فقتلت نفساً بغير حق قبل ذلك، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19] وفرعون هو الكافر.
فالمقصود هنا: أنت من الكافرين بنعمتي عليك فقد ربيتك وعلمتك، ثم بعد ذلك كفرت هذه النعمة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً أنه فعل ذلك: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] أي: ولكني فعلتها وأنا من الضالين، ضل أي: أخطأ في الطريق الصحيح، فليس معنى كلامه: إني كنت من الضالين عن عبادة الله سبحانه، لكنه يقصد: إني أخطأت في هذا الشيء الذي فعلته؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95] فلو قصدوا أنت في كفرك وبعدك عن الله لكفروا، ولكن لم يقصدوا ذلك، وإنما قصدوا أنه ما زال في الوهم من أجل يوسف، وهذا مقصود كلامهم بالضلال القديم، يعني: في توهمك وأنت مخطئ، وكانوا كاذبين في قولهم ذلك له.
فالغرض أن موسى عليه الصلاة والسلام لما وكز هذا القبطي قال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15] فالشيطان عدو، إذا دعا دعا إلى الضلال، فهو مضل وضلاله بين واضح، ولكن عذر موسى عليه الصلاة والسلام أنه لم يقصد القتل، وإنما كان يقصد نصرة الحق.(167/4)
تفسير قوله تعالى: (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي)
فالإنسان حين يقع في معصية يأتسي بهؤلاء الأنبياء الأفاضل عليهم الصلاة والسلام، ويتوب إلى الله عز وجل ويتذكر ذنبه ولا ينساه، فموسى عليه الصلاة والسلام معذور، وقد غفر الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك ظل يذكر هذا الذنب إلى يوم القيامة، فعندما يذهب الناس إليه يستشفعون به عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت موسى الذي كلمك الله وكتب لك التوراة بيده، يقول لهم: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى، فلم يزل ذاكراً لذنبه إلى يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى قد غفر له ذلك، وقد أنعم عليه سبحانه وجعله في منزلة عالية، ومع ذلك يتذكر هذا الذنب.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] فيه تعليم كيف تتوب إلى الله عز وجل إذا وقعت في الذنب، تقول: رب إني ظلمت نفسي، فتعترف بالذنب وترجع إلى الله سبحانه وتطلب منه المغفرة.
قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] الله هو الغفور الرحيم فإن لم يغفر هو فمن يغفر، قال تعالى: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) لذلك غفر سبحانه لموسى وتاب عليه سبحانه وتعالى وستر ذنبه الذي وقع فيه.
ومعنى: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ)) أي: الذي يمحو الذنوب، والرحيم بعباده المؤمنين سبحانه.(167/5)
تفسير قوله تعالى: (قال رب بما أنعمت علي)
قال موسى عليه الصلاة والسلام {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] أي: رب بما أنعمت علي من نعمة القوة، وأنعمت علي من نعمة العلم ونعمة الحكمة لا أكون ظهيراً للمجرمين، ولا أكون ظهيراً لفرعون ولا لمن معه، بل أنصر المظلوم وأنصر الضعيف ولا أنصر مجرماً أبداً.
ربِّ بما أنعمت علي من نعم وغفرت لي سأكون مع الحق دائماً أنصره ولا أكون ظهيراً، والمظاهر للشيء بمعنى: القوي، ومنه: ظاهر بين درعين، أي: يلبس درعاً وفوقه درع آخر حتى يتقي سيوف الأعداء، فقولك: لن أكون ظهيراً يعني: معيناً للمجرمين.(167/6)
تفسير قوله تعالى: (فأصبح في المدينة خائفاً يترقب)
فأصبح موسى في اليوم الثاني خائفاً قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:18] إذاً: هو دخل في اليوم الأول المدينة على حين غفلة وكان في شيء من الخوف، ومع ذلك لم يمنعه هذا الخوف من نصر المظلوم فنصر المظلوم وصار في خوف أشد في اليوم الثاني.
يقول سبحانه: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ} [القصص:18] يعني: يصرخ عليه ويناديه.
قال تعالى: ((قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)) غوى الإنسان بمعنى: ضلَّ، إنسان يغوي: يعني بعيد عن الهدى، ومنه قوله سبحانه: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] فغواية الإنسان أن يتبع هواه، ويمشي حسب مزاجه، والمعنى في هذه الآية: إنك كثير الغواية والتعارك مع الآخرين وأنت ضعيف لا تستطيع أن تدافع عن نفسك، ولما قال له ذلك: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص:18] لم يترك موسى عليه الصلاة والسلام نصر المظلوم، فهذا مجرم من آل فرعون أراد أن يظلم الرجل، فموسى عليه الصلاة والسلام سينتصر له.
قال المفسرون: ((قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ)) الغوي: الإنسان الخائن الذي يتبع هواه، وفسروها: إنك تشاد إنساناً لا أطيقه، مع ذلك توجه موسى لنصرة الإسرائيلي، ولكن لما شدد على هذا الإسرائيلي إذا به يظن أن موسى يريد ضربه هو الآخر، فإذا به يقول لموسى: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فطار القبطي بهذا الخبر إلى فرعون بأن قاتل القبطي بالأمس هو موسى عليه الصلاة والسلام.
يقول الله سبحانه وتعالى هنا: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ} [القصص:19] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: (أن يبطش بالذي هو عدو له قال يا موسى أتريد أن تقتلني).
قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ} [القصص:19] والجبار: الذي يخرج إلى الناس فيقتل ويظلم من غير أن ينظر فيهم، فهو شديد القوة لا يتحرى المخطئ من المصيب، فقال: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19] أي: أنت لا تريد أن تصلح، بل تريد أن تكون قتالاً في الأرض تقتل النفس بغير حق.(167/7)
تفسير قوله تعالى: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى)
قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] كأن الفرعوني هرب فترة زمنية ووصل إلى فرعون، ورجع من عند فرعون بجنود لقتل موسى عليه الصلاة والسلام، إذ جاء أمر فرعون بقتل موسى، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى، وهذا الرجل هو مؤمن آل فرعون أتى موسى محذراً، قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20] يعني: يتشاورون حتى وصلوا إلى الأمر بقتلك، {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أي: اخرج من هذا المكان ولا تمكث فيه فأنا لك ناصح.
ف وقالوا: إن هذا الرجل هو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم لفرعون وكان مؤمناً يكتم إيمانه، فنصح موسى، فخرج موسى من المدينة خائفاً يترقب كما ذكر الله سبحانه داعياً ربه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(167/8)
تفسير سورة القصص [20 - 25]
قصة موسى عليه السلام مليئة بالعظات يبحث فرعون عنه ليقتله، لكن الله ينجيه حتى يكون نصيراً للمستضعفين فيقتل القبطي لحكمة بالغة، ثم يخرج إلى أرض مدين ويعاني من التعب والعناء ليستخرج ربه من نفسه الفقر والحاجة واللجوء إليه، فيأتيه الفرج حالاً، فيجد المأوى والسكن.(168/1)
قصة قتل موسى عليه السلام للقبطي
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
يذكر الله سبحانه وتعالى كيف أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج من مصر هارباً إلى مدين من بلاد الشام، وكان السبب في ذلك كما ذكرنا أنه اعترض على فرعون في تأليهه نفسه، فخرج من عندهم ثم دخل المدينة في يوم من الأيام على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل شيعة موسى عليه السلام، والآخر من عدوه، وكأنه يوجد عداء قبل ذلك بين موسى وفرعون، فلذلك لم يكن في المدينة في هذا الوقت بسبب ذلك، وكان هذا الفرعوني يريد أن يسخر الإسرائيلي في عمله ويكرهه على العمل بغير أجر ويضربه، وهذا الآخر يمتنع ويدافع عن نفسه، فاستغاث بموسى عليه، فما كان من موسى عليه الصلاة والسلام إلا أن ضربه بجمع يده ولكمه؛ فقضى عليه، ثم ندم بعد ذلك وقال: هذا من عمل الشيطان، لأنه لم يقصد قتله والشيطان عدو للإنسان يدعوه إلى الشر وإلى البعد عن الله سبحانه وتعالى، إنه عدو مضل وضلاله بين واضح.
ثم استغفر موسى ربه سبحانه وتعالى ودعاه أن يغفر له فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16] ثم عاهد ربه سبحانه فقال: رب بما أنعمت علي وما أعطيتني من نعم عظيمة وقويتني ونشأتني على عبادتك، ولم تجعلني مثل هؤلاء الكفرة في عبادتهم لفرعون، فعلي عهد ألا أكون نصيراً للمجرمين وسأكون نصيراً للمؤمنين وللضعفاء.
ولم يعرف بقتل هذا القبطي من البشر سوى موسى عليه الصلاة والسلام وهذا الرجل الإسرائيلي الذي استغاث به.
فأصبح موسى في اليوم الثاني وهو خائف يترقب: ترى ما الذي سيحصل في هذا اليوم؟ هل سيخبر الإسرائيلي عن موسى أنه قتل القبطي أم يسكت عنه؟ فلم يذهب إلى قصر فرعون، ولكنه لبث في المدينة خائف يترقب، فإذا به يبتلى مرة ثانية عليه الصلاة والسلام فيجد الذي استنصره بالأمس يستصرخه اليوم وهو يتشاجر مع رجل من قوم فرعون.
{قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص:18]، أي: إنك داع إلى الهوى وداع إلى الغواية، ومعنى الغوي: كثير الشر.
ولكن لما كان بين موسى عليه السلام وبين الله عهد أن ينصر المظلوم ولا يكون ظهيراً للمجرمين، وهنا ضعيف يستنصره على مجرم يقاتله فلا بد من نصر المظلوم.
وكأن موسى عليه السلام اشتد على هذا الرجل الإسرائيلي في الكلام، واشتد أيضاً على الآخر الفرعوني، فإذا بهذا الإسرائيلي يصرح بقتل موسى للقبطي، وذلك إما في الشجار فقال له: يا موسى اقتله كما قتلت القبطي البارحة.
فعرف القبطي ذلك فقال لموسى عليه الصلاة والسلام: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ} [القصص:19]، يعني: لكونك قوياً تريد أن تقتلني، {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص:19] والجبار الإنسان الذي يقتل بغير تفكير وبغير نظر في العاقبة وبغير تحرٍ واستفهام عن السبب.
ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19] أي: أصلح بيننا بدلاً من أن تضربني، لكنك تريد أن تكون جباراً ولا تريد أن تكون مصلحاً.
وفر القبطي إلى فرعون ليخبره أن الذي قتل القبطي بالأمس هو موسى الذي ربيته في بيتك.
فاجتمع الناس عند فرعون واتفقوا على قتل موسى عليه الصلاة والسلام، فأسرع رجل منهم وهو مؤمن آل فرعون، وخرج من قصر فرعون يبحث عن موسى ليحذره.(168/2)
تفسير قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة)
قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى َ} [القصص:20] أي: يجري ويبحث عن موسى ليحذره، فلما وجده: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20].
والله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً قدر له أسبابه ويسرها له، فهو الذي ربى موسى في بيت فرعون، ونجاه من القتل، وهنا ينجيه من القتل مرة ثانية، فيأتيه هذا المؤمن ويحذره: إن الملأ يأتمرون بك.
والملأ: هم علية القوم الكبار والوزراء، فتشاوروا مع فرعون في ذلك وائتمروا يعني: أخذ بعضهم أمر بعض لينفذوه فيه بقتلك.
قال تعالى: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] أي: اهرب من هذا المكان إني لك من الناصحين.
فأخذ موسى هذا الخبر وخرج عليه الصلاة والسلام من مصر.(168/3)
تفسير قوله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب)
قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
يعني: أصبح موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب وينتظر، وخرج من المدينة أيضاً خائفاً يترقب عليه الصلاة والسلام، والإنسان الخائف ينتظر كل دقيقة ماذا يحصل له من المصائب.
فهو يترقب كأنه ينظر ويراقب هل يأتيه أحد من هذا المكان، ابتلي بخوف شديد جداً يذكره ربنا هنا ليطمئن النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام التي كان يؤذي فيها في مكة هو والمؤمنون، أي: مهما أخافكم هؤلاء فالأمر ليس كما حدث لموسى، بل كان ما حدث لموسى أصعب مما أنتم فيه، وقد نجاه الله عز وجل، فاطمئنوا فإن الله ينجيكم.
ثم قال موسى داعياً ربه سبحانه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21] فاستجاب له ربه سبحانه ونجاه ودله، وموسى لا يعرف الطريق، ولم يخرج من مصر قبل ذلك، وسيخرج الآن من مصر متوجهاً إلى الشام لا يدري أين الطريق.(168/4)
تفسير قوله تعالى: (ولما توجه تلقاء مدين)
قال سبحانه: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:22].
أي: ناحية مدين من بلاد الشام عند الأردن، فخرج موسى من مصر متوجهاً إلى بلاد الشام.
فقال حين توجه إلى مدين: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22].
فهو لا يعرف أين الطريق الصحيح، لأن فرعون مسيطر على البلاد كلها، فموسى لا يعرف أن هناك بلاداً أخرى ولا يتحكم فيها فرعون، فلذلك طلب من ربه أن يهديه سبحانه، وقد طمأنه بعد ذلك الرجل الصالح هناك وقال له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] وهنا اطمأن موسى لما أعلمه أبو الفتاتين بأنه قد نجا من فرعون، وأن فرعون ليس له سلطان في تلك الأرض، فموسى خارج وهو لا يدري إلى أين يمتد سلطان فرعون.
وفي قوله تعالى: {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:22] قراءتان: قراءة الجمهور {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي} [القصص:22] بالمد وبالقصر.
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] فلا يوجد فيها مد أصلاً.
والمعنى: عسى ربي أن يدلني ولا يضلني عن الطريق، ويهدني سواء الطريق الصحيحة المستقيمة التي أصل بها إلى النجاة.
خرج موسى عليه السلام من مصر ولم يكن مهيئاً نفسه للسفر، وليس معه زاد ولا مركوب، بل لم يكن معه شيء وكان بمفرده؛ لأنه جاء لهذا المكان وهو خائف يترقب وليس على باله الخروج، فإذا بالرجل يأتي إليه وينصحه بالخروج، فيهرب موسى على قدميه، قالوا: مشى حوالي ثمانمائة وخمسين ميلاً يعني: أكثر من ألف كيلو متر مشاها موسى عليه الصلاة والسلام من مصر حتى وصل إلى مدين.
{قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:22] فهو لا يعرف الطريق حتى يصل إلى هذا المكان الذي وصل إليه، فلما خرج من مصر متوجهاً بدا متردداً خشية أن يضل أو يته، ولكنه وصل بفضل الله سبحانه وتعالى إلى مدين، ولكن لم يكن معه طعام ولا شراب، قالوا: كان يشرب من المياه التي في طريقه ويأكل من ورق الأشجار.
ولقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: أنه خرج من مصر حتى وصل إلى مدين وقد حفيت قدماه وسقط نعله عليه الصلاة والسلام، وصار بطنه لاصقاً في ظهره.
يعني: من طول المسافة التي قطعها حتى وصل إلى هذا المكان، إذ لا يعقل أن إنساناً سيخرج من مصر متوجهاً إلى الشام ماشياً، ومع ذلك سيمشي الليل والنهار مثلاً، ولا يأكل فيها شيئاً إذ ليس معه مال ولا طعام.
وفي قصة موسى عليه الصلاة والسلام يرينا الله عز وجل حقارة الدنيا وأنها لا قيمة لها، وأنه مهما ابتلى الله عز وجل الإنسان فيها بأن سلب منه ماله أو أخذ منه صحته، أو ابتلاه بالمصائب، فعليه أن يتصبر اتعاظاً بما حدث لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
فهذا النبي عليه السلام يؤذى في مكة، وأحياناً يجوع حتى يربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، فالذي ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينظر إلى موسى كيف خرج من مصر إلى أن وصل إلى الشام، {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وينظر إلى أيوب عليه السلام كيف ابتلاه الله سبحانه وتعالى ومكث في البلاء ثماني عشرة سنة حتى هجره القريب العبيد إلا زوجه وصديقين من أصدقائه عليه الصلاة والسلام، وصديقاه في النهاية قالا عنه: لا بد أنه عمل معصية أخفاها لذلك ابتلاه الله بذلك؛ فالذي ينظر إلى أحوال هؤلاء الأنبياء يتعظ ويعتبر ويكون له بهم أسوة.
والمؤمن حين يبتليه الله عز وجل بشيء لا ينظر إلى الناس؛ لأنه إذا نظر إليهم تعب إذ إنهم لا بد أن يقولوا: هذا قد عمل مصيبة من المصائب حتى ابتلاه الله تعالى بهذا البلاء، كما قالوا عن أيوب عليه الصلاة والسلام حتى دعا ربه فنجاه مما كان فيه، فالنظر إلى الناس يتعب ولكن الإنسان ينظر إلى ربه، ويتذكر نعم الله عز وجل عليه.(168/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس)
وصل موسى النبي عليه الصلاة والسلام إلى مدين، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23] يعني: وصل إلى بلدة فيها ماء ووجد عليه جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23].
تبقى الصورة أنه وصل إلى بئر ماء وعليها زحام شديد من الناس كل واحد يريد أن يسقي أنعامه، وجاء موسى عليه الصلاة والسلام ونظر فإذا بامرأتين بعيدتين عن الناس معهما مواشيهما تذودانهما، أي: فكأنهما تدفعان الأغنام كيلا تزدحما مع الناس، خوفاً من أن تضيع الأغنام، فكان الناس يسقون والفتاتان تنتظران حتى ينتهوا ثم يذهبوا، وبعد ذلك تسقيان، وهذا لا شك انتظار طويل ممل.
فمعنى قوله تعالى: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:23]، أي: تدفعان أغنامهما أو مواشيهما بعيداً عن الماء وبعيداً عن الناس.
قال تعالى: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، والخطب بمعنى المصيبة والأمر الهام العظيم.
وكأنه وجد المرأتين في حسرة وشدة وضيق، ولذلك لم يقل: ما حالكما؟ إنما قال: ما خطبكما وأي بلية نزلت بكما؟ فموسى عليه الصلاة والسلام الذي خرج ماشياً من مصر حتى وصل إلى مدين بعد مشي طويل وتعب شديد ولم يأكل إلا أوراق الأشجار، هو الذي كان قد دعا قبل ذلك فقال: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17]، أي: سيكون نصيراً للضعفاء.
وهاتان المرأتان ضعيفتان، فسألهما ليساعدهما، ثم كان جوابهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] أي: لا نقدر أن نسقي الأغنام أو الأنعام حتى يذهب كل الرعاة.
وفي قوله: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23]، قراءتان: وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر {حَتَّى يَصدُرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] بجعل الفعل ثلاثياً من صدر بمعنى: مشى، ويكون المعنى: حتى يمشي الرعاء.
والقراءة الأولى من الفعل الرباعي (أصدرَ) فيكون المعنى: حتى يأخذوا الأنعام وينصرفوا بها، وهذه قراءة الجمهور.
فكأن الإنسان الوارد من أقبل على الماء، والصادر من انصرف عنه.
قالتا: {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] يعني: ليس عندنا رجال إلا أبانا، وأبونا شيخ كبير ضعيف لا يقدر أن يأتي بهذه الأغنام فيسقيها فاضطررنا لذلك، فسقى لهما عليه الصلاة والسلام كما سيأتي.(168/6)
تفسير قوله تعالى: (فسقى لهما ثم تولى إلى الظل)
قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] أعطى الله موسى قوة عظيمة حتى إنه ضرب رجلاً بيديه ضربه واحدة فقتله، ومن قوته أنه يأتي إلى بئر ماء عليها زحام من الناس، وهو المسافر المسافة الطويلة والمحتاج للنوم والراحة، ومع ذلك يزاحم الناس ويسقي.
وقيل: إنه ذهب إلى بئر كانت مغلقة بحجر لا يحمله إلا عدد من الرجال فرفع غطاء البئر وحده وسقى أنعام هاتين الفتاتين، والله أعلم بالحال.
لكن معناه: أن الله عز وجل أمده بقوة عظيمة من عنده حتى يصبر على هذا الذي هو فيه ويفعل هذه الأشياء العظيمة.
ولما سقى لهما انصرف ولم ينتظر منهما الأجرة ولم يقل: أنا جائع أعطوني غنمة أكلها أو شربة لبن، فلم ينتظر أجراً إلا من الله.
انصرفت الفتاتان وتولى من موسى إلى ظل شجرة قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] يدعو ربه سبحانه وتعالى: رب إني محتاج لما تنزله علي من خير، أو إنك قد أنزلت إلي خيراً كثيراً وأنا محتاج إلى خير أكثر.
وهذا الدعاء العظيم والطلب من الله فيه أدب الأنبياء مع الله سبحانه وتعالى، فلم يقل له: أنا فقير أو أنا هارب أو جائع، ولكن قال: يا رب أنت قد أنعمت علي بنعم عظيمة، فأعطيتني القوة ونجيتني من فرعون ومن معه، وأطعمتني وربيتني وفعلت بي خيراً عظيماً، وأنا الآن محتاج لمزيد من الخير.(168/7)
تفسير قوله تعالى: (فجاءته أحداهما تمشي على استحياء)
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، قوله تعالى: (فجاءته) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، فكأنه دعا فحصلت النتيجة حالاً من فضل الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] فيه أدب المشي للنساء، وأن المرأة تمشي في جانب الطريق لا في منتصفه ولا تمشي بحركات ملفتة للنظر كما تفعل نساء اليوم؛ لكنها تمشي على استحياء في طريقها، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي تستر وجهها وهي تأتي في الطريق لتنادي موسى عليه الصلاة والسلام.
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] أي: أبي يدعوك ليعطيك أجر سقيك لنا.
فذهب معها موسى عليه الصلاة والسلام لا طالباً للأجر، إذ ليس الأنبياء بالذين يأخذون أجراً على عمل يسدونه إلى الناس، ولكن لجيب إنساناً يدعوه، فليذهب لينظر ما المراد من دعوته له.
وذكروا أن المرأة كانت تمشي أمام موسى عليه الصلاة والسلام في الطريق لتدله عليها، فجاءت الرياح فصفقت ثوبها، فكأنه استحيا أن ينظر إليها فقال: كوني من ورائي ودليني بصوتك على الطريق.
ففعلت ذلك حتى وصل موسى إلى الرجل فلما جاءه وقص عليه القصص، {قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
وهنا لم يذكر من هو هذا الرجل، وإن كان أكثر المفسرين على أنه النبي شعيب عليه الصلاة والسلام.
وقالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي تربى في بيت فرعون فترة طويلة في عزة ومال ورفاهية، فلا بد أن يتأدب قليلاً ليتعلم كيف يصبر على شظف العيش، ويصبر على الفقر ويصبر على العمل ويربي الغنم، وما من نبي إلا عوده ربه على ذلك حتى يتعود على تربية الناس بعد ذلك.
فهنا موسى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى بيت هذا الرجل، والنبي لا يتعلم إلا من نبي، لذلك قالوا: إنه شعيب عليه الصلاة والسلام.
لكن بعض المفسرين يرى أنه ليس شعيباً، فقالوا: بين موسى وشعيب فترة طويلة، واحتجوا بالآية التي في سورة هود أن شعيباً قال لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89].
قالوا: ولوط ابن أخ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهلاك قوم لوط كان في حياة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبين إبراهيم وبين موسى حوالي أربعمائة سنة، ولا يمكن أن يعيش شعيب أربعمائة سنة، فقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود:89] يعني أنهم رأوا الذي حصل لقوم لوط، أو كانوا قريبي العهد بهم، فتكون سنوات قليلة بين شعيب وقومه، وبين قوم لوط، وتكون الفترة بين شعيب وبين موسى فترة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة.
ولكننا نقول: ما المانع أن يعمر الله سبحانه شعيباً هذه المدة كما عمر نوحاً ألف سنة.
قالوا: لكن أهل الكتاب في كتبهم لم يسموه شعيباً وإنما سموه (ثيرون)، قالوا: فهذا الاسم غير اسم سيدنا شعيب عليه الصلاة والسلام.
قالوا: فهذا يدل على أنه ليس شعيباً عليه السلام قبله.
وأجيب بأنه قد يكون قريباً لشعيب، فيبقى البيت بيت نبوة منه رجل صالح قريب لشعيب وإن لم يكن شعيباً.
قالوا: لو كان شعيباً لكان حرياً أن يذكره القرآن باسمه، ونحن نقف على ما قاله الله سبحانه إنه رجل، والله أعلم.
فالرجل قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25] ثم طلب منه أن يكون أجيراً عنده على ما يأتي بعد ذلك إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(168/8)
تفسير سورة القصص [22 - 27]
يتجلى حفظ الله لموسى عليه السلام في نجاته من فرعون وقومه، ووصوله إلى مدين في ضيافة رجل صالح، وقد رباه الله على حسن الخلق ومساعدة الناس والصبر على الشدائد، وحسن الوفاء بالمواثيق، وسورة القصص توضح لنا ذلك، وتبين أدب المرأة وحياءها لتكون مثالاً للعفاف والطهر.(169/1)
العبر المستفادة من قصة فرار موسى إلى مدين
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:23 - 28].
يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات من سورة القصص، كيف أن موسى عليه الصلاة والسلام، خرج من مصر هارباً من فرعون متوجهاً إلى الشام، وهو لا يعرف طريقه، لكن خرج متوكلاً على الله سبحانه تبارك وتعالى، داعياً ربه أن يهديه سواء السبيل، وكان سبب خروجه كما ذكرنا من قبل أن رجلاً من آل فرعون أتى مسرعاً محذراً له من فرعون وقومه أنهم يأتمرون ويتشاورون فيما بينهم على قتل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20]، أي: أنا ناصح لك، فاخرج من هذه البلدة إنهم يريدون قتلك، فأخذ موسى الخبر ونفذ الأمر وخرج صلوات الله وسلامه عليه خائفاً ممن هم وراءه من فرعون وقومه، متوجساً يراقب الطريق في خروجه، ويلتفت حوله من الخوف هل يدركونه أم أنهم لا يرونه.
فقال موسى داعياً ربه: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21]، وتوجه حيث وجهه الله سبحانه وتعالى، وحتى ذلك الحين لم يكن قد صار نبياً بعد إلا في علم الله سبحانه وتعالى، ولم يكن قد أعلمه الله سبحانه أنه يكون نبياً، ولم يكن قد أرسل إلى القوم بعد.(169/2)
ذكر ما حدث لموسى عند وروده ماء مدين والفوائد التي نستفيدها من هذا الحدث
قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:22]، أي: خرج ناحية الشام إلى بلدة مدين {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:22 - 23]، أي: وجد خلقاً غفيراً من الناس، يسقون من بئر فيها المياه، يردون بإبلهم ومواشيهم وأغنامهم، فيسقون من هذه البئر، ووجد امرأتين من دونهم متخلفتين متأخرتين عن الناس، تذودان أي: تمنعان ما معهما من الغنم عن الورود حتى لا تضيع الأغنام، وهما لا تقدران على مزاحمة الناس، فاستشعر فيهما الضعف، فسألهما عن حالهما فقال: {مَا خَطْبُكُمَا} [القصص:23]، بمعنى: أي خطب حل بكما، وما المصيبة التي أنتما فيها بحيث إنكما لا تقدران على السقي، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
هنا أخبرتا موسى عليه الصلاة والسلام، فقالتا: لا نقدر على السقي مع هذا الزحام الشديد، وهذا يدل على حياء الفتاتين، قالتا: وأبونا شيخ كبير.
إذاً: السبب في ذلك: أن الأب كان شيخاً طاعناً في السن، وكذلك كان ضعيفاً لا يقدر على ذلك، وقالوا أيضاً: إنه كان ضريراً، فهو لن يقدر على أن يسقي الغنم والإبل وهو على هذه الحالة، ولذلك خرجت الفتاتان وهما في غاية الحياء لا تقدران على مخالطة الناس مزاحمتهم، فكان منهما الانتظار حتى ينصرف الناس من هذا المكان، فتردان بما معهما من الأغنام للسقيا.
قال تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص:24]، أي: أن موسى عليه الصلاة والسلام، أخذ ما معهما من إبل وغنم، فورد بهما وزاحم الناس وسقى لهما.
وقيل: بل إنه وجد بئراً مغطاة، وكان عليها غطاء لا يرفعه إلا عشرة من الرجال أو أكثر من ذلك، فرفعه موسى عليه الصلاة والسلام وحده، وسقى من هذه البئر، فالله أعلم، ولكن قد حدث من موسى ما يدل على أنه قوي شديد القوة، حيث إن قوته كانت في أنه قطع أكثر من ألف كيلو متر ماشياً على قدميه صلوات الله وسلامه عليه، هارباً من فرعون، لا طعام معه ولا زاد إلا ما يجده في طريقه من أوراق الشجر ونحو ذلك، فهذا كان طعامه، ولذلك لما انتهى من السقي لهاتين الفتاتين دعا ربه سبحانه وتعالى أن ينزل عليه من خيره.
ولما سقى لهما تولى إلى الظل، ونستفيد من ذلك أنه: لا يمتنع صاحب المعروف أو الإنسان المحسن من عمل المعروف حتى ولو كان به شيء من الضرر، فموسى كان مضروراً من خوفه من فرعون، ومن فراره وهربه، ومن مشيه هذه المسافة العظيمة البعيدة، ومن جوعه وعدم وجود ما يأكل، ومع ذلك سقى لهما وفعل بهما هذا المعروف العظيم، فذهبت الفتاتان، وموسى تولى إلى الظل عليه الصلاة والسلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، أي: إني مفتقر إلى خيرك الذي تنزله علي، يعني: قد عودتني يا رب على الخير من عندك، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي عندك.
وهذا القول فيه أدب عظيم في الدعاء، وذلك أنه لم يقل: يا رب أنت حرمتني من الخير، يا رب أنت جعلتني جائعاً وأنت جعلتني عطشان، ولكن قال: أنت يا رب تنزل علي الخير دائماً، وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي تنزله علي.
قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ} [القصص:25]، والفاء تفيد الترتيب والتعقيب، أي: فأجاب الله دعاءه حالاً وجاءت إحدى الفتاتين تمشي على استحياء، فمدحها الله سبحانه وتعالى أنها في غاية الحياء، أي: ليست ماشية في وسط الطريق، ولا هي تقتحم الرجال وتأتي موسى، بل إنها حين جاءت إلى موسى أتت إليه وهي في غاية الحياء، مستترة متغطية، وهي تطلب من موسى ما أمرها أبوها.
قال تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، ولم تقل: تعال أريدك في كلمة، بل جاءت إليه وأخبرته أنها ليست هي التي طلبته، وإنما الذي يريده أبوها.
{قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، هذا كلام فيه الجد، ولا يعتريه الهزل، وليس فيه ميوعة وليس فيه استطالة واستفاضة، إذاً: لا بد للمرأة حين تكلم الرجل أن تتكلم باستحياء، وتتكلم على قدر ما تريده فقط؛ ولذلك علم الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتكلمن مع الغرباء فقال لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32]، أي: أنتن في غاية التقوى، ولكن لا يدفعكن هذا إلى الخضوع في القول: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].
والإنسان قد يلين في القول من ناحية التواضع، ولكن إذا كان هذا التواضع سيطمع فيه من أمامه فلا داعي لهذا اللين في القول حتى لا يطمع فيه السفيه، ولذلك كانت هذه هي عادة المؤمنين التي مدحهم الله عز وجل عليها، أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين.
إذاً: المؤمن لا يكون متواضعاً مع الكافر، ولا خانعاً له، ولكنه عزيز عليه، فلو أنه خنع خضع للكافر فهذا سيجعل الكافر يستكبر عليه، ويطلب منه ما لا يجوز للمؤمن أن يعطيه إياه، فلذلك كان المؤمنون أعزة في دين الله عز وجل على الكافرين، متواضعين فيما بينهم.
وأما التواضع في النساء فلا يوجد مانع من التواضع، ولكن إذا كان التواضع يدفع للخنوع واللين في القول بحيث يطمع فيها الذي أمامها، ويظن أنها تريد شيئاً، فيراودها عن نفسها، فهذا لا يجوز، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب:32].
فهذه الفتاة جاءت لموسى عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25]، فقد ظهر أدبها في مشيتها، وقالت له كلاماً فصلاً.
قوله تعالى: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، لماذا يدعوك؟ فلا بد أن توضح له، فمن الممكن أن موسى عليه الصلاة والسلام سوف يفكر لأي أمر من الأمور يريدني، ففصلت له هذا الشيء وأخبرته أنه يريد أن يعطيه أجرته على الذي عمل معهما، قال تعالى: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
إن موسى عليه الصلاة والسلام نبي، وقد علمه الله وأدبه ورباه، وإن كان حتى هذا الحين لا يعرف عن نفسه أنه سيكون نبياً إلا ما كان من وحي لأمه وهو ما زال طفلاً، وربما حدثته بذلك، وربما لم تحدثه، فقد أخبرها سبحانه وتعالى بذلك، قال تعالى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولكن موسى إلى هذه اللحظة لم يوح إليه أنه سيكون نبياً أو رسولاً عليه الصلاة والسلام.
إن هذه الفتاة وضحت لموسى سبب دعوة أبيها له، فقالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25]، ويظهر هنا أيضاً أدب موسى أنه لا كلام مع الفتاة؛ لأن الكلام مع الفتاة يفتح موضوعاً كبيراً قد يؤدي إلى الفتنة، فلم يقل: أنا لا آخذ أجرة، أنا عملت معروفاً ولا آخذ على المعروف شيئاً، فإن موسى إذا فعل ذلك سيفتح مجالاً للكلام، ولذلك لم يتكلم معها أكثر من أنه انصرف معها، وهي أمامه تدله على الطريق، فلما سارت أمامه هبت رياح كشفت جسدها؛ فقال لها: تنحي، وأمرها أن ترجع إلى الخلف، حتى يمشي هو أمامها، وهي تدله على الطريق.
فجاء موسى عليه الصلاة والسلام إلى هذا الرجل، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ} [القصص:25]، وفيه دلالة على تبادل الحديث فيما بينهما.
{قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، فقد كان موسى إلى هذه اللحظة خائفاً من فرعون أن يصل إليه في هذا المكان، فأخبره الرجل أن فرعون لا سلطان له في هذه البلدة، وبهذا نجوت يا موسى، فقد هربت منه ونجاك الله عز وجل من هؤلاء القوم الظالمين.(169/3)
تفسير قوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره)
وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} [القصص:26]، أي: لأبيها، {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، لماذا تستأجره؟ قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
ويتضح من ذلك أنها فتاة فصيحة وبليغة في كلامها، وعاقلة، فهي لما ذهبت لتدعو موسى مشت على استحياء وقالت له قولاً موجزاً: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25]، ومن أجل ألا يقول لها: لماذا؟ ويفتح مجالاً للكلام معها قالت: {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
فيذهب موسى عليه الصلاة والسلام وهو لا يأخذ أجراً من الناس على عمل المعروف، كان هذا عمل المعروف، ولا يجوز للمؤمنين أن يطلبوا أجراً على معروف أسدوه للناس، فكيف بموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن الجدال ليس معها إنما مع أبيها، فلا بد أن يتوجه إلى أبيها، فإذا وصل إليه تكلم معه.
إن الفتاة تقول لأبيها مشيرة عليه: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26] وبينت لأبيها السبب، فقالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
كأنها تقول: موسى قوي وأمين، ولكن من حياءها وأدبها في الكلام جعلت تقول ذلك، فعممت الكلام حتى لا يظن أبوها فيها أنها تريد موسى، فقالت: استأجر هذا؛ لأنه لا بد أن تكون صفة من نريد أن نستأجرهم، القوة والأمانة، وهذا الرجل فيه القوة والأمانة.
وقد عرفت هذه الفتاة أنه قوي لأنها رأت موسى وهو يزاحم الخلق بالأنعام والأغنام حتى استطاع أن يصل إلى الماء ويسقي لهما، أو أنه عليه الصلاة والسلام رفع حجراً ثقيلاً لا يقدر على رفعه إلا عشرة من الرجال، وسقى لهما الغنم والإبل.
وعرفت أنه أمين، وذلك لما سارت أمامه، فإذا به يأمرها أن تسير خلفه؛ حتى لا ينظر إليها، فكانت تسير خلفه، وتدله على الطريق وهي الطالبة له، وليس هو الطالب لها، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قالت: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر: (يا أبتَ)، بفتح التاء، وكان أبو جعفر يقرأ: (يا أبتَ استاجره) مثل قراءة نافع وقراءة أبي عمرو.
قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26].
أي: إن خير أجير تستأجره من كان قوياً ومن كان أميناً.
وكذلك يعلمنا الله عز وجل كيف نستأجر الأجير، فهو يعلمك حين تستأجر الأجير أن تسلم مالك لإنسان تأتمنه، ويملك قوة على إدارة عملك، فإذا قصرت واستأجرت إنساناً خائناً، فالتقصير من عندك أنت فلا تلومن إلا نفسك؛ لأن الله علمك كما في هذه الآية: أن الأجير الذي يستحق أن يعمل عندك، أو يعينك في عملك، لا بد أن يكون قوياً على هذا العمل، فإن كان عملاً بدنياً كان قوياً في بدنه، وإن كان عملاً ذهنياً كان قوياً في عقله وفي تفكيره، وإذا كان عملاً يحتاج إلى أخذ وعطاء، فالقوة في العقل والقوة في أخذه وفي عطائه وهكذا، إذاً: بحسب العمل الذي يعمل فيه يكون قوياً على هذا العمل، وأميناً لا يضيع العمل ولا يضيع المال، ولا يضيع صاحب العمل، فهو قوي أمين.(169/4)
تفسير قوله تعالى: (قال إني أريد أن أنكحك)
فقال الرجل لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
وهذا تفكير صائب من هذا الرجل الفاضل الصالح، إذ طلب من موسى أن يشتغل عنده في هذا المكان، فإنَّ موسى غريب، وهذا الرجل لا يوجد لديه أبناء، وهو ضرير، فموسى قد ينفرد مع بناته في مكان، صحيح أن موسى أمين، وأن موسى قوي، ولكن ما الذي يضمن كيف تكون الظروف عندما ينفرد مع بناته، لذلك طلب منه هذا الطلب.
فهو لما وجده قوياً وأميناً وصالحاً، فأفضل شيء أن يتزوج واحدة من بناته ويمكث معها في هذا المكان، ثمان سنوات أو عشر سنوات، أي: فإذا كنت هارباً من فرعون، فإن مأواك هنا.
فكان الرجل في غاية التفكير الجيد، وفي غاية التفكير الصائب حين يطلب منه تزوج إحدى ابنتيه، فقد قال هذا الشيخ لموسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أُرِيدُ} [القصص:27]، ولم يأمره بذلك، ولم يقل له: تزوج، بل قال: أنا أرغب في ذلك.
قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ} [القصص:27]، ولفظة النكاح هنا للتزويج، فإذا زوج إنسان إنساناً فلا بد من لفظة النكاح أو لفظة التزويج على خلاف بين العلماء في ذلك.
ولكن قد نص عليها الله سبحانه، فقال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27]، وليس في ذلك إيجاب للنكاح؛ لأن النكاح هنا على الإبهام، فالمعنى: اختر واحدة من الاثنتين وأنا أزوجك التي اخترتها.
وقرأ الجمهور: {إِنِّي أُرِيدُ} [القصص:27]، وقرأ نافع وأبي جعفر: (إِنِّيَ أريد أن أنكحك) أي: أزوجك فعلاً وهذا ظاهر في قوله: أنكح.
وقوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27] هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: (إحدى ابنتي هاتيّنِّ).
وقوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] فيه دلالة على الإجارة، فيكون مهر الفتاة الإجارة، بأن يكون أجيراً عند أبيها {ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] أي: ثمان سنوات، قال: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] أي: تفضلاً منك لو زدتهن إلى عشر سنوات.(169/5)
عدد سنوات الإجارة التي مكثها موسى عند شعيب
يا ترى كم من السنوات التي مكثها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام؟ جاء في حديث رواه الطبري، ورواه أيضاً أبو يعلى عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سألت جبريل: أي الأجلين قضى موسى؟ قال: أكملهما وأتمهما) أي: أن ثماني سنوات هي مدة الإجارة، وزاد موسى سنتين تفضلاً منه، فقد مكث موسى عشر سنوات.
قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] أي: أن ثماني سنوات كافية، ولا أريد أن أحرج عليك أو أشق عليك.
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27]، فيه أن الإنسان لا يمدح نفسه بصفة الصلاح إلا أن يذكر: إن شاء الله؛ لأنك لا تدري لعل الله يغير ذلك، فهذه آداب عظيمة في كتاب الله عز وجل، فلنتعلم منها.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(169/6)
تفسير سورة القصص [27 - 29]
أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء رحمة لهذه البشرية، وجعلهم أهلاً لحمل هذه الرسالة وتبليغها إلى جميع الناس، وكان من تربيته لهم سبحانه أن جعلهم يرعون الأغنام ليتعلموا سياسة أمور الناس، ويتعلموا الرقة والرحمة والعطف عليهم، ولنا في قصة موسى في مدين عظة وعبرة، فقد كتب الله له الزواج فيها، واصطفاه بالرسالة إلى فرعون وقومه في طريق رجوعه إلى مصر.(170/1)
ذكر ما يستفاد من قصة موسى مع الرجل الصالح الذي زوجه ابنته في مدين
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:27 - 30].
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة، كيف خرج موسى صلوات الله وسلامه عليه هارباً من مصر، متوجهاً إلى مدين في بلاد الشام، ومن الله سبحانه تبارك وتعالى عليه بالأمان، وسقى للفتاتين أغنامهما وأنعامهما، ثم جاءته إحداهما تمشي على استحياء، ودعته لأبيها فذهب، وقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] فذهب موسى إلى أبيها، فقص عليه قصته، مع فرعون، وكيف أنه فر هارباً منه، فقال مطمئناً له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
وذكرنا أن هذا الرجل على قول الكثيرين من المفسرين هو شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، واستبعد ذلك بعض المفسرين، والأرجح أنه ليس شعيباً وإنما هو رجل صالح، ولعله من أبناء شعيب، أو أبناء أخي شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذا الرجل الصالح قالت له ابنته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فوصفته بأنه قوي، ووصفته بالأمانة، فقال الرجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
فأراد الرجل الصالح أن يزوج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من إحدى ابنتيه؛ حتى يمكث عنده في بيته، وفي بلده، فيكون أجيراً عنده، ثمان سنوات، ولم يذكر ما هي الأجرة التي سيأخذها موسى مقابل خدمته ثمان سنوات أو عشر سنوات؟ ولكن ذكر المفسرون أنه قال له: إنه لك من هذه الأغنام جزءاً، وفي بعض الروايات: أن له ما ولدت الأغنام في سنة من السنين على خلاف ألوان أمهاتها، فإذا كانت الأمهات سوداً فولدت بيضاء فهي لك، وإذا كانت الأمهات بلقاء فولدت حمراء فلك هذه، يعني: ما كان من أغنام على خلاف لون الأصل، قالوا ذلك، ولكن الله عز وجل لم يذكر لنا هنا ما الأجرة التي يأخذها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
لكن جاء في حديث ذكره الإمام القرطبي وإسناده فيه نظر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن موسى آجر نفسه على عفة فرجه، وعلى إشباع بطنه.
لكن هذا كله لم يذكره الله عز وجل، لم يذكر إلا لفظ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ} [القصص:27] أي: على أن تكون أجيراً عندي خلال هذه الفترة.
وماذا سيكون مهر هذه الفتاة التي تزوجها موسى؟ أيضاً لم يذكر هنا إلا الإجارة، قالوا: إذاً سيكون أجيراً، والإجارة هي لنفع الرجل نفسه، فهل يأخذ من مهر ابنته ويشترط لنفسه؟ قد يكون هذا في شرعهم جائزاً، أما في شرعنا فلا يجوز، المهر في شرعنا للبنت، وليس لأبيها، فليس للأب أن يأخذ مهرها لنفسه، إلا ليزوجها به، وليحضر لها أثاثها وأمور بيتها مثلاً، أما أن يأخذ لنفسه المهر فليس له ذلك؛ لأنه ليس في شرعنا هذا الشيء، ولكن قد يكون هذا جائزاً في شرعهم.
أو قد يكون المعنى أعم، أنه يكون أجيراً عنده، وأيضاً لنفع بناته من هذه الإجارة، فيخدم ويرعى الأغنام والأنعام، فيكون الناتج من ذلك جزء منه للأب وجزء للبنت، ولم يوضح لنا ربنا سبحانه ذلك، إنما ذكر {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} [القصص:27] أي: إذا مكثت عشر سنين عندي فيكون هذا من عندك زيادة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى مكث الأجل الأتم والأفضل والأكمل.
قال له الرجل الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] يعني: لن تجد من أخلاقي الصعوبة والعسر، ولكن ستجد مني التيسير وتجد مني الصلاح إن شاء الله، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27].
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [القصص:27] هذه قراءة الجمهور.
وقرأ نافع وأبو جعفر: (ستجدنيَ إن شاء الله من الصالحين)، فهنا الإنسان لا يمدح نفسه أنه من أهل الصلاح إلا أن يستثني فيقول: إن شاء الله أكون على ذلك، فلا يدري هل يستمر على ذلك أم ينقلب عن الصلاح.(170/2)
تفسير قوله تعالى: (قال ذلك بيني وبينك)
قال تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} [القصص:28] يعني: هذا العقد، أو هذا العهد بيني وبينك.
قوله: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] يعني: أياً من الأجلين، سواء ثمان سنوات ثم أنا اكتفيت فيكون لي ذلك، أو عشر سنوات وفيها زيادة فلك ذلك.
{أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [القصص:28] يعني: لا حرج علي في ذلك، وإنك لا تلزمني بأن أمكث الأجل الأكثر بحسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] فجعل الله سبحانه وتعالى وكيلاً على ما يقولان، يعني: على ما يعقدان فيما بينهما.
ومكث موسى هنالك عشر سنوات يرعى الأنعام، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من نبي إلا ورعى الغنم).
والحكمة في ذلك: أن الأغنام كثيرة الشرود والنفور وتحتاج إلى من يرعاها ويحوطها ومن يقوم بأمرها، وفيها الضعيفة، فيحمل الضعيف منها، وفيها المريضة، فيطعم المريضة ويراعيها وينظر في شأنها، فراعي الغنم فيه رقة، وفيه رحمة، وفيه حنان، فما من نبي إلا ورعى الأغنام.
ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن التواضع والرقة في رعاة الأغنام، وأن الكبر والخيلاء في الفدادين الذين هم رعاة الإبل وأصحابها، فصاحب الإبل متعود على أن يركب فوق سنام الجمل، وينظر إلى الناس من عل، فيتعالى على الناس إلا من رحم الله عز وجل.
فلذلك لم يجعل ربنا سبحانه الأنبياء رعاة إبل، وقد تكون الإبل عند هذا الرجل الصالح تبعاً للغنم، عنده أغنام كثيرة والإبل قليل، أو كل ما كان عنده أغنام كما ذكر البعض من المفسرين، لكن الله عز وجل يعلم الأنبياء كيف يسوسون الناس بهذا الأمر، ولا يكون ذلك إلا برعيهم الغنم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم وأنت؟ قال: (وأنا)، فقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم الغنم لأهل مكة على قراريط.
فهذا من الله تأديب لأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وتعليم لهم وتخليق لهم على الحلم وعلى الصبر؛ لأن الأغنام تحتاج لصبر كثير من صاحبها في رعايتها، وأنه لو غفل عن أغنامه، جاء الذئب وأخذ منها، أو عاث فيها فساداً، والأغنام فيها شيء من الحمق، لو أن إنساناً ساق غنمة من أغنام كثيرة، فجرت الغنمة وقفزت من أعلى الجبل على الأرض لتبعها القطيع كله وقفز من فوق الجبل، ومات القطيع كله.
ولذلك يحتاج راعي الغنم إلى أن يكون بصيراً برعاية الغنم، وإلى أن يعرف كيف يطعم هذه الأغنام، وكيف يكون معها، فالغنم تنفر بسرعة، ولو أن راعي الغنم أمسك عصاً وهي ذاهبة تشرب الماء؛ ليجعلها على الماء، لتركت الماء وهربت من خوفها وجبنها.
فالأغنام تحتاج إلى من يسوسها، فالله عز وجل لحكمته جعل الأنبياء يعتادون على ذلك حتى يكون في أخلاقهم الحلم والصبر، وسياسة الأمر، كيف يسوسون أمر هذه الأغنام فيعتادون على سياسة أمور الناس إلى طريق رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال موسى {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] فجعل الله هو الشاهد على ما فعل هو والرجل الصالح.
وهنا لم يذكر الله لنا من شهد هذا الزواج، وقد تزوج موسى ولم يكن حتى هذا الحين من الأنبياء، إلا في علم الله سبحانه وتعالى، ولكن الله عز وجل ذكر أنه تزوج من إحدى الفتاتين، قال: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص:27]، يا ترى هل هذا زواج على الإبهام؟ هذا تخيير في البداية، فلما انتقى موسى إحداهما، قالوا: إنها الصغرى منهما، فصارت معينة فزوجه منها بهذا الشرط الذي اشترطه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
ولم يذكر هنا شهوداً، واختلف العلماء في هل يشترط في النكاح الشهود أو يكتفى فيه بالإعلان؟ وقد ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) إذاً: لا بد من الشهود، ولكن كما يقول الإمام مالك رحمه الله: إنه إذا انتشر الخبر بين الناس واستفاض فحضروا، كفى الإعلان عن الشهود، فإن لم يعلن فلا بد من الشهود، وإلا فلا يصح النكاح.(170/3)
تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أن موسى قضى الأجل، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قضى أكملهما وأتمهما، والأجل الأكمل والأتم عشر حجج، أي: عشر سنين.
ولما قضى موسى الأجل وانتهت الفترة سار بأهله؛ لأن الرجل أحق بأهله، ولذلك يقول العلماء: إن الرجل أحق بأهله أن يذهب بها حيث يشاء في أمر حياته ومعاشه، مع حاجته لذلك، إلا أن يكون شرطاً في النكاح عدم الذهاب بها، فجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج)، فإذا تزوج إنسان من فتاة وأبوها شيخ كبير، وأمها امرأة عجوز، ويحتاجان لخدمتها، فزوجاها من إنسان واشترطا عليه أنها لا تخرج من هذه البلدة التي فيها أبواها؛ فتزوج الرجل منها ثم أراد أن يأخذها إلى بلدة أخرى، فلها شرطها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج).
إذاً: طالما كانن الشرط مع النكاح أو قبل النكاح وفيه مصلحة للمرأة، فلا بد من الوفاء بهذا الشرط.
فموسى عليه الصلاة والسلام لم يشترط عليه الرجل أن البنت تمكث معه، ولكن عشر سنوات وينتهي الأمر، وانتهى الأجل، فسار موسى بأهله و {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] إذاً: هو خارج من الشام متوجه إلى مصر فتاه في الطريق عليه الصلاة والسلام، والله يريد ذلك حتى يربي موسى، وكان موسى قوياً شجاعاً عليه الصلاة والسلام، ولكن في النهاية خاف من فرعون ومن معه لما أرادوا قتله، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يملأ قلبه بالتوكل عليه سبحانه وتعالى، وعدم الخوف إلا منه وحده سبحانه وتعالى، فالله يخلق الأنبياء ويربيهم.
ولذلك رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يوم أن فر عنه الناس يوم حنين، قام وحده صلى الله عليه وسلم يقاتل ويدافع في سبيل الله سبحانه وتعالى، وفي يوم حنين كان جيش المشركين عشرة آلاف من هوازن، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم كان اثني عشر ألفاً، وجيش النبي صلى الله عليه وسلم حسب أمر الانتصار لصالحه، فخرجوا للقتال حسراً، أي: ليسوا لابسين دروعاً، وانتظرهم الكفار فوق الجبال، فلما وصل جيش المسلمين رشقوهم بالنبال، وفر الجيش كله، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا سبعون من اثني عشر ألفاً، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يترجل عن ناقته، ويتوجه إلى الكفار، ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه شجاعة منقطعة النظير، إذ إن المطلوب في هذا القتال هو النبي صلى الله عليه وسلم وليس غيره، ومع ذلك يقول ذلك، وهذا مما خلقه الله عز وجل عليه، ووهبه له سبحانه من الشجاعة العظيمة والقوة العظيمة، حتى كانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: إنه أوتي قوة أربعين رجلاًَ صلوات الله وسلامه عليه، يقولون: كنا إذا احمي البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عندما تشتد المعركة ويشتد القتال يحتمون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالله هو الذي يربي أنبياءه على الأخلاق العظيمة الفاضلة ويعصمهم سبحانه وتعالى، فأراد الله لموسى بهذه التربية أن يحسن التوكل على الله ولا يخاف إلا من الله سبحانه وتعالى، إذاً: لا بد أن يلاقي موقفاً من المواقف الصعبة التي يثبته الله عز وجل فيها، فمرنه ربه بهذا الليل، فهو في ليل بهيم مظلم وفي برد شديد قاس، وفي مكان تاه فيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا به لا يعرف أين يذهب هو ومن معه من أهله، فسار بأهله ولم يعرف الطريق فإذا بالله سبحانه وتعالى يريه ناراً في مكان، قال تعالى: {آنَسَ} [القصص:29] أي: بعد أن كان مستوحشاً استأنس بهذه النار التي رآها من بعيد، وذلك بعدما استوحش من الظلمة، وتاه في الأرض.
قال تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [القصص:29] أي: من جانب الجبل في سيناء عند جبل الطور، كأنه وجد ناراً هنالك، {قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
{إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:29] يأمر أهله أن ابقوا وامكثوا في هذا المكان، وأنا أذهب.
وهنا حكمة من الله أن يذهب وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فيترك أهله في مكان ويطمئنهم، ويذهب هو وحده إلى هذه النار، حتى يأتي بخبر أو جذوة منها، فهو يريد أن يعرف أين الطريق، أو يريد شخصاً يخبره عن الطريق.
فقوله تعالى: {آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص:29] أي: طالما أن النار موجودة فلا بد أن أحداً أوقدها، إذاً: سيكون هناك شخص يدلني عن الطريق، وإذا لم أجد أحداً، أجد على الأقل جذوة من النار نستدفئ بها في هذا البرد الشديد في ليل الصحراء القاسي.
وقوله تعالى: {أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص:29] أي: قبس من النار، يعني: قطعة من النار، أو خشبة أشعلها من النار فنستدفئ بها.
{لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29] لعلكم تستدفئون بهذه النار.
والقراءات في هذه الآية: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} [طه:10] قراءة الجمهور.
وقراءة حمزة: (قال لأهلهُ امكثوا) بضم الهاء فيها.
قوله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [القصص:29]، قراءة الجمهور، بسكون الياء في لفظ: ((إِنِّي)).
وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وابن كثير (إنِّيَ آنست ناراً).
ومثلها: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا} [طه:10] هذه قراءة الجمهور.
وفي قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر: (لعلِّيَ آتيكم) وقوله: (بخبر أو جذوة من النار) فيها ثلاث قراءات: قراءة عاصم وحده: (جَذوة) بالفتح فيها.
قراءة حمزة وقراءة خلف أيضاً: (جُذوة من النار).
قراءة باقي القراء: (جِذوة من النار لعلكم تصطلون).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(170/4)
تفسير سورة القصص [29 - 32]
في سورة القصص يذكر الله تعالى حفظه لأنبيائه وتوفيقه لهم، فموسى اصطفاه الله بالنبوة وهو لم يكن يعرف ذلك، وقد كلمه الله وأيده بمعجزات وآيات ساطعة لمواجهة فرعون وقومه.(171/1)
ذكر قصة موسى في وادي الطور
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:29 - 32].
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة مسير موسى عليه الصلاة والسلام من مدين بالشام إلى أن وصل إلى مصر، وكيف أن الله سبحانه أوحى إليه بالرسالة خلال هذه الرحلة قبل مجيئه إلى مصر، فصار نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام، وكذلك من الله على هارون فجعله نبياً.
قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] أي: أخذ زوجه وانطلق من مدين متوجهاً إلى مصر بعدما قضى أكمل الأجلين وأتمهما عشر سنوات.
وقوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] حيث إنه كان يسير بليل في شدة برد وشدة ظلام، وتاه موسى عن الطريق عليه الصلاة والسلام، وقد حصل له كل هذا؛ لأن الله أراد أن يربيه ويعوده على الشجاعة وعدم الخوف من أي شيء، فهذا من تعليم الله وتأديبه وتربيته لموسى عليه الصلاة والسلام.(171/2)
تربية الله لموسى
ربى الله سبحانه موسى في بيت فرعون فتعلم موسى عليه الصلاة والسلام كيف يكون الإنسان وهو في بيت غريب عن أهله، فقد صار كأنه منهم، وصنع موسى عليه السلام بعين الله سبحانه وتعالى في هذا المكان، ولم يغتر بذلك؛ وهذا بفضل الله عز وجل من تربيته لموسى، وقد علم موسى من هم أهله من بني إسرائيل فكان يقف بجوارهم، وكان يدافع عنهم، فكانوا لا يظلمون مع وجود موسى وعليه الصلاة والسلام، وهذا من فضل الله عز وجل على موسى وعلى بني إسرائيل، وقد رباه الله في بيت هذا الفرعون المتكبر الذي يزعم أنه الإله، بل ويزعم أنه الرب، ومع ذلك لم يمل موسى إلى ما هم فيه من بذخ ومن أمور ملك، ومن باطل ما هم فيه، حتى خرج من مصر، وقد ذكر الله عز وجل لنا من حكايته في مدين، ثم رباه عز وجل في بيت الرجل الصالح الذي هو في مدين عشر سنين وهو يرعى الغنم، وهذه تربية أخرى من الله عز وجل ليعود موسى كيف يربي الناس بعد ذلك، وكيف يصبر على أذاهم، فكان صبره عظيماً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب من صبره عليه الصلاة والسلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ابتلي وأوذي بشيء يقول: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر) فموسى صبر صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، وهذا من قوله سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: برعايتي، وبكلاءتي، وبحفظي لك، فقد حفظه الله ورباه أحسن تربية على ما رأينا.
وفي هذه الآية يبين الله عز وجل كيف أنه رباه على عدم الخوف إلا منه وحده لا شريك له، فموسى في ظلام الليل وفي شدة البرد، وفي مكان قد تاه فيه ولا يعرف الطريق، فآنس ناراً، أي: أنه استوحش فآنس هذه النار، فتوقع أن يجد بجوارها أحداً قد أوقدها، لعله يأتي منها بخبر، أين الطريق؟ وكيف يتوجه؟ أو يأتي بقبس من هذه النار، فيصطلي هو وامرأته في هذا المكان الشديد البرد.
قال تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
ووصل موسى وحده عليه الصلاة والسلام إلى مكان هذه النار، فلما أتاها وجد أمراً عجيباً، وجد شجرة خضراء متقدة ومشتعلة ناراً، ومن العجب أنه لا الماء الذي في الشجرة يطفئ هذه النار، ولا النار تتغير من خضرة هذه الشجرة، فتعجب لأمرها، فلما أتاها ناداه ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30]، فوصل إلى الشجرة التي هي في بقعة مباركة في واد في طور سينا في الجبل المبارك، أو في الأرض المباركة.
قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ} [القصص:30] شاطئ المكان أي: جانب المكان.
قوله تعالى: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30]، يفهم من هذا وهو متوجه إليها أن الشجرة كانت على يمين موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، من شاطئ الوادي الأيمن من هذه البقعة المباركة، من أرض تسمى سِيناء، وتسمى سَيناء، وتسمى سينين، وقد ورد ذكرهم في القرآن، (سِيناء) و (سَيناء) قراءتان في الآية، و (سينين) طور سينين، والطور بمعنى: الجبل وسِيناء وسَيناء وسنين بمعنى المباركة، فهي أرض باركها الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أمر الله سبحانه موسى فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، أي: في مكان اسمه طوى، أو الوادي الذي قدسناه مرتين، وطهرناه مرتين.
قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13]، فجاءت له الرسالة في هذا المكان عليه الصلاة والسلام، فهو مكان مبارك نزلت الرسالة على موسى فيه.
ويقول سبحانه: {نُودِيَ} [القصص:30] الذي ناداه هو الله عز وجل، يدل على ذلك ما ذكر في سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].
وقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30]، فيخ دلالة على أنه سمع الصوت من داخل الشجرة.
وقوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ} [القصص:30] أي: في الأرض.
وقوله تعالى: {الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30] أي: من الشجرة.
قال تعالى: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فموسى متوجه إلى مصر، ومصر فيها الفرعون الذي قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وهو نفسه الذي قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهنا يبين الله سبحانه وتعالى لموسى الذي يعلم أن الله هو الرب سبحانه، وأنه هو الأعلى وحده لا شريك له، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30].
وقد ناداه سبحانه {أَنْ يَا مُوسَى} [القصص:30]، أي: اسمع يا موسى.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] هذه قراءة الجمهور.
وأما قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو فهم يقرءون: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وهذه الآية نداء من الله سبحانه لموسى، وجمع الله في هذه الآية بين الربوبية له سبحانه: أنه الرب المدبر لكل شيء، وأنه الخالق لكل شيء، وبين الألوهية له سبحانه: أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فالرب الخالق هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً حقاً معبوداً.
وقوله تعالى: {الْعَالَمِينَ} [القصص:30] جمع عالم، أي: كل عالم، عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، وعالم الملائكة، وكل العوالم العلوية والسفلية، الله خالقها ورازقها ومدبر أمورها، وهو ربها سبحانه وتعالى.(171/3)
تأييد الله لموسى بالآيات
قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31].
قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] أي: ارم عصاك على الأرض.
وهنا كان أول العجب لموسى أنه يرى هذه النار في هذه الشجرة، ثم النداء من داخلها، والله عز وجل يناديه، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فأسمعه الله سبحانه كلامه واختص موسى وحده بذلك عليه الصلاة والسلام، حتى جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكلمه الله عز وجل على الأرض، فالنبي الوحيد الذي كلم على الأرض واختص بذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فكلمه الله فوق السموات عليه الصلاة والسلام، حين رفع إلى سدرة المنتهى، ورأى نوراً، وكلمه ربه سبحانه وفرض عليه الصلاة، أما على الأرض فالذي خاطبه الله عز وجل وكلمه هو موسى؛ ولذلك وصف بأنه (كليم الله) أي: الذي كلمه الله؛ لقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وهذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] هذه معجزة ثانية وآية ثانية؛ حتى يعلم أنه رسول، وأن الذي يخاطبه هو الله عز وجل حقاً، فلابد أن يريه الله معجزاته، فقد رأى هذه الشجرة التي تتقد ناراً وهي لا تحترق، وسمع النداء من جوف هذه الشجرة، ولا يرى شيئاً عليه الصلاة والسلام، سوى هذه الشجرة.
وقوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] آية أخرى، وهي العصا التي في يد موسى عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله ذلك في سورة طه، فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، بعدما أمره بقوله سبحانه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، فيستجيب موسى لأمر الله عز وجل، ويخلع نعليه لينال بركة هذا الوادي المبارك، أو ليتأدب مع ربه سبحانه وتعالى.
ثم يقول الله له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18].
ويسرد الله عز وجل ذلك: أن موسى يتكلم عن يقين، أن هذه العصا يعرفها جيداً، ويعرف ماذا يعمل بها، عندما يمشي ويتكئ عليها، وليست شيئاً آخر.
وقوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ} [طه:18] العصا لي ولم أطلبها من أحد، ولم آت بها من أي مكان، فهي معي دائماً.
قوله تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] أمشي عليها.
وقوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: عندما أرعى الأغنام أضرب أوراق الشجر، فينزل ورق الشجر فتأكل منه هذه الأغنام.
وقوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: منافع أخرى وحوائج أخرى.
قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19]، أي: ارم هذه العصا على الأرض التي أنت متأكد أنها عصاك.
فقال سبحانه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، أي: فألقى العصا التي يعرفها تماماً على الأرض، فهذه معجزة وآية أخرى لموسى عليه الصلاة والسلام، وأيضاً هي نوع من التشجيع والتربية لموسى على ألا يخاف من شيء، في وسط هذا الليل البهيم المظلم والبرد القارس والمكان الموحش الذي لا أحد به إلا الله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام، يمرن على الشجاعة وعلى ألا يخاف.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل:10] أي: أن العصا وقعت على الأرض، فإذا بها دبت فيها الحياة واهتزت تسعى وتتحرك.
قال تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل:10] والجان والجنان: الحية والحيات، فقد وجدها موسى كحية عظيمة تسعى وتتحرك في الأرض، وتفتح فمها، فخاف موسى عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] فالذي يولي مدبراً، أي: وجه ظهره إليه، والذي يعقب، أي: يرجع مرة أخرى وينظر، ولكنه لم يعقب، حيث جرى موسى عليه الصلاة والسلام من شدة الخوف، وقد أراد الله عز وجل أن يخيفه ثم يطمئنه حتى يتعود موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة في المواقف التي ستكون أقل من ذلك.
قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10] أي: أعطى ظهره وجرى.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] أي: لم ينظر إلى هذا المكان، ولم يرجع إليه.
وقال الله عز وجل لموسى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10] أي: ارجع إلى مكانك مرة أخرى.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] كأنه يقول: لأنك من الآمنين، أو نؤكد لك أنك من الآمنين، ارجع إلى مكانك.
فرجع موسى إلى مكانه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يأخذ هذه العصا مرة ثانية وهو في غاية الرعب، والحية تسعى أمامه، ولكن الله طمأنه، وقال: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21]، أي: سوف نرجعها مرة أخرى عصا كما كانت في يدك.
فأمسك موسى عليه الصلاة والسلام بالثعبان فإذا به يرجع عصا مرة أخرى.
فمن يمسك ثعباناً من رأسه، ولكن موسى عليه الصلاة والسلام شجعه ربه سبحانه بهذه التربية العظيمة، فأمسك بهذه الحية التي تسعى، فإذا بها ترجع مرة ثانية إلى هيئتها الحقيقة.
وحجم الحية ذكره الله لنا في سورة طه أنه لما حاج موسى فرعون وجاء السحرة فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بهذه الحبال والعصي يخيل إلى موسى من سحر هؤلاء أنها تسعى، فأمره الله عز وجل {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:117] فلما ألقاها، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، وهذا يدل على أنها حية ضخمة جداً التي كانت مع موسى عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] أي: تأكل كل العصي، وكل الأشياء التي أمامها، والتي ظن هو أنها حيات، فصارت شيئاً ضخماً، وعندما يؤمر موسى أن يأخذ هذه الحية الضخمة بيده مرة ثانية فهو شيء مرعب ومخيف، ولكن الله يطمئنه فيقول: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] فيمسكها موسى مرة ثانية، فهو أمسك حية تسعى فصارت عصا مرة ثانية.
فهنا يعلم الله عز وجل موسى حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام إذا حدث هذا أمام فرعون، فلو أنه كان للمرة الأولى أمام فرعون وهو خائف، ويمسك العصا ويرميها فتصبح حية، فمن الممكن أن يخاف موسى ويهرب أمام فرعون ويهرب من هم موجودون، ولكن الله يربي موسى على الشجاعة، فإن هذه الحية تمرين وتدريب على ذلك، فعندما تصير حية هناك لا يخاف موسى عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] فأمنه الله سبحانه وتعالى مما يحاذر الآن من أمر هذه الحية، وبعد ذلك مما هو قادم عليه مع فرعون وملئه.
قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32].
قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [القصص:32] آية ثالثة، فالشجرة التي فيها النار آية من آيات الله سبحانه، وكلام الله عز وجل لموسى آية من آياته سبحانه، والعصا التي صارت حية آية من آياته، وهذه آية أخرى وهي قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص:32] فالجيب: هو مكان دخول الرأس من القميص، فأمره الله عز وجل أن يدخل يده في جيبه، فأدخل موسى يده في جيبه.
قال تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32]، وقد كانت يده سمراء، حيث إن موسى عليه الصلاة والسلام كان أسمر، فلما أدخل يده في جيبه، خرجت يده من جيبه بيضاء شديدة البياض لها شعاع كالشمس.
قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: تحولت إلى البياض، وهذا البياض ليس برصاً ولا بهاقاً، ولكن آية من آيات الله وجمالاً منه سبحانه فوق جمال موسى، أن تخرج بيضاء من غير سوء، ثم ترجع اليد مرة أخرى إلى ما كانت عليه.
فهي آية من آيات الله عز وجل ليثبت موسى وليريه أن هذا حق من عند الله سبحانه.
قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32]، أي: إذا خفت ضع يدك على صدرك؛ يذهب الخوف؛ لذلك كان ابن عباس رضي الله عنه يذكر أنه ما من إنسان يخاف فيضع يده على صدره متوكلاً على الله منفذاً لذلك، إلا ويذهب الله عز وجل ذلك عنه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32] هذه قراءة حفص عن عاصم بفتح الراء وبسكون الهاء.
وأما قراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (مِنَ الرُّهْبِ) وهو نفس المعنى.
وقراءة بقية القراء: (مِنَ الرَّهَبِ) بالتحريك فيها، والمعنى: أنه إذا خشيت وأرهبت ضع يدك على صدرك؛ يذهب عنك الرعب، ويذهب عنك الرهب، فيطمئن موسى عليه الصلاة والسلام، فيقول له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32].
فهذه جملة آيات وجميعها لموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن منها ما هو لفرعون(171/4)
تفسير سورة القصص [32 - 35]
اصطفى الله سبحانه وتعالى موسى ليكون رسولاً إلى فرعون وقومه، وأيده بأخيه هارون وبمعجزتي العصا ويده التي تخرج بيضاء من غير سوء، وطلب موسى العون من ربه في تبليغه الرسالة دليل على افتقاره إلى ربه واتكاله عليه، وسورة القصص توضح لنا ذلك.(172/1)
اصطفاء الله سبحانه لموسى عليه وسلم بالرسالة إلى فرعون وملئه
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:33 - 37].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنه أوحى إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهو بالوادي المقدس طوى، وأن الله سبحانه وتعالى أراه آيات؛ ليربيه ويمرنه على الشجاعة وعدم الخوف من فرعون، وعلى أن يتشجع في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ففي هذا الوقت الذي أوحى إليه كان موسى عليه الصلاة والسلام تائهاً في صحراء شاسعة، في ليل مظلم، وبرد شديد، ومعه زوجه ليس وحده في الطريق، فإذا به يرى نوراً أمامه أو ناراً مشتعلة، فظن أنه إذا أتاها يحصل منها على قبس أو يعرف منها خبراً عن الطريق، فلما أتاها كان الوحي من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:11 - 13].
فجاءته الرسالة من رب العالمين سبحانه، وجاءه الاصطفاء والاتباع والاختيار من الله حيث قال له ربه: أنا اخترتك فاستمع لوحينا، {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، ثم قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14]، فبدأ بالتوحيد، فالله عز وجل هو الإله المعبود وحده لا شريك له، والإله: هو المستحق للعبادة سبحانه وتعالى، وإن كانوا زعموا بوجود آلهة غير الله سبحانه، وهي آلهة باطلة، ولذلك معنى كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أقر وأستيقن من قلبي وأؤمن كأني أرى أمامي هذا الذي أقوله، فأنا أشهد بالحق كأني أعاين هذا الحق الذي أشهد به، أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة حقاً إلا الله سبحانه وتعالى، ولا معبود حق إلا الله، فالمعبودات الباطلة كثيرة، فهذا فرعون نصب نفسه إلهاً على قومه، واستخف بهم، وقال لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فأطاعوه فيما هو فيه.
فزعم فرعون أنه إله، بل تعدى وزعم أنه رب، حاشا لله أن يكون له شريك سبحانه وتعالى، فلما قال لهم ذلك، فهو إله من الآلهة الباطلة، والله عز وجل يذر الآلهة، ويقول سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فالآلهة الباطلة كثيرة، ولكن الإله الحق المعبود واحد لا شريك له، فعندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، معناه: أنه لا يوجد إله حق إلا إله واحد سبحانه وتعالى؛ ولذلك أنت تعلم بوجود آلهة كثيرة كلها باطلة ولكن الإله الحق واحد؛ ولهذا لا يقال: أشهد أن لا إله إلا الله، بمعنى: أنه لا إله موجود إلا الله، هذا خطأ، فالآلهة الموجودة كثيرة، إنما التقدير الصحيح: لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى.
هذا معنى كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأما أشهد أن محمداً رسول الله، يعني: هو رسول هذا الإله الحق الذي أرسله إلينا برسالة، وبشريعة من عنده سبحانه وتعالى، إذاً: نحن نعبد الإله العظيم وحده لا شريك له، عن طريق المتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الله عز وجل وإلى ما يرضيه سبحانه، وإلى كيفية إقامة شرعه عن طريق معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه من كتابه وسنته.(172/2)
تأييد الله لموسى صلى الله عليه وسلم بالآيات وبأخيه هارون دليل على افتقار موسى إلى ربه
عرفنا أن الله سبحانه أوحى إلى موسى، قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، فإذا كان الله قد اختاره فلا بد أن يبين الله أن الذي يكلمه هو نفسه سبحانه، وأنه هو الذي يؤيده بمعجزات، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يلقي عصاه، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، وأمره الله أن يدخل يده في جيبه، قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، وهذه معجزة أخرى، قال تعالى: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه:23] أي: نريك الآيات العظيمة الكبيرة التي تقر بها عينك ويطمئن بها قلبك.
قال الله سبحانه وتعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32]، أي: فإذا خفت يا موسى فاضمم جناحك إليك، واضمم يدك إلى صدرك، يذهب الله عز وجل عنك ما تعانيه من خوف، {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} [القصص:32] أي: آيتان قويتان من عند الله سبحانه إلى فرعون وملئه؛ لكي يعرفوا بهما الحق الذي أنت عليه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] أي: خارجين عن طاعة الله.
وقال موسى متعللاً ويطلب من الله عز وجل التثبيت أكثر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:33 - 34].
هنا تعلل موسى بعلتين، لا ليترك الرسالة، ولكن ليعينه الله سبحانه، وليثبته، فهو يعترف بالضعف وبالعجز، وأنه محتاج إلى الرب سبحانه وتعالى ليعينه، فحري بالإنسان الذي يتوسل إلى الله ويتضرع إليه بعجزه أن يعينه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان الذي يقول: يا رب، فإن الله معه؛ لأن الله يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردهما صفراً، فموسى دعا ربه سبحانه وهو في مدين قال تعالى: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، فانظروا إلى أدب سيدنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو يتأدب في طلبه مع الله سبحانه، فمعنى قوله: يا رب، أنت أنزلت إلي خيراً كثيراً وأنا مفتقر إلى هذا الخير الذي أنزلت.(172/3)
الأنبياء لا يطمعون في الدنيا ولكن لا غنى لهم عن بركة الله
اختبر الله عز وجل أيوب عليه الصلاة والسلام، وامتحنه ثماني عشرة سنة، ثم من عليه سبحانه وتعالى، بأن رد إليه صحته، ورد إليه ماله، وأعطاه الأولاد، وملأ له الخزائن التي كانت تملأ بالقمح وبالذرة أو بالشعير ذهباً، ثم إذا به يبتليه سبحانه ويمتحنه وينزل له من السماء جراداً من ذهب، فيبسط أيوب عليه الصلاة والسلام ثوبه ليأخذ هذا الذهب، فقال الله عز وجل لأيوب: ألم أكن أغنيتك عن هذا، أي: ما مقدار الجراد الذي هو من ذهب أمام الخزائن المملوءة بالذهب عندك، فإذا بالجواب العظيم من أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أن الأمر ليس في الذهب، ونحن نعلم أن هؤلاء الأنبياء الذين عصمهم الله سبحانه لا مطامع لهم بالدنيا، فلما سأله الله: لماذا تبسط ثوبك؟ قال: لا غنى لي عن بركتك، فهناك أشياء تنزل من السماء قريبة العهد بنا من الله سبحانه وتعالى، فهو لا يستغني عن بركته أبداً حتى لو أعطاه ما أعطاه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حين ينزل المطر من السماء، فيحسر ثوبه عليه الصلاة والسلام لينال من بركة ما نزل من السماء، فهذا المطر طهور، حيث قال الله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48].
فكان يحسر ثوبه لينال من بركة هذا الماء المنزل من السماء.(172/4)
أسباب طلب موسى عون ربه على تبليغ رسالته
قال موسى عليه الصلاة والسلام معترفاً بعجزه: إني ضعيف، ولن أذهب لقوم لا يسمعون لي، فأنا قد قتلت منهم نفساً، فأخاف أن يستقبلوني بالقتل، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أنا هربت منهم عشر سنين وقد قتلت منهم نفساً {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، أي: أخاف أن يقتصوا مني وأن يقتلوني بهذه النفس.
وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، على قراءة الجمهور، وأما قراءة يعقوب: (فأخاف أن يقتلوني).
السبب الثاني: وهو أن في لسانه عقدة، وهو صغير كأن فرعون أراد قتله لأمر فعله موسى، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام لما حمله فرعون، قيل: إنه شده من لحيته، أو أنه عبث بها، فهم فرعون بقتله، فحاولت امرأة فرعون أن تصرف فرعون عن قتله، وتقول: إنه صبي لا يميز ولا يفهم، فأراد فرعون أن يعرف هل موسى يميز أو لا يميز، فقالت امرأة فرعون لفرعون: أره جوهرة وأره ناراً، فإن أخذ الجوهرة يقتل، فقيل: إنه مس جمرة بلسانه عليه الصلاة والسلام، ولم يمس الجوهرة، فالله عز وجل أرى فرعون أن هذا الصبي لا يفهم الذي يفعله، حتى ينجيه الله عز وجل منه، فكان موسى في لسانه عقدة، إذا نطق يصعب عليه النطق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذا سبب قول فرعون لقومه لما ذهب موسى يناظرهم كما قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فكلمة مهين أي: حقير، حيث إنه كان هارباً منا ثم رجع إلينا وهو لا يعرف أن يتكلم، ففرعون يعير موسى بأن فيه عقدة في لسانه، وأنه لا يجيد الكلام، قال تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52].
فموسى عليه الصلاة والسلام يعترف بعجزه لربه سبحانه، ويقول: إن لساني ضعيف، لا أستطيع أن أنطق ولا أستطيع أن أجادل هؤلاء، وإن أقصى ما يتمناه موسى أن يكون معه من يستطيع أن يتكلم عنه؛ ولذلك قال الله تعالى على لسان موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، وطلب موسى من ربه أن يزيل ما بلسانه من عقدة لا يقدر معها على الإبانة والإفصاح، فاستجاب الله له، فقال سبحانه في سورة طه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25]، أي: أفسح صدري، ولا تجعله ضيقاً حرجاً؛ لأن الإنسان الضيق الصدر لا يستطيع أن يصبر على كلام الخصوم، فإنه إذا استمع إلى كلامهم سرعان ما يثور، وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام فيه حدة، وفيه غضب لله، فكان سريع الغضب لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بنو إسرائيل يحبون هارون أكثر من موسى، وهارون كان أكبر من موسى بسنة، وكان أكثر ليناً مع بني إسرائيل من موسى، ولذلك لما مات هارون وهو مع موسى، ورجع موسى اتهموه بقتل هارون، قالوا: أنت قتلته؛ لأنه كان ألين منك وأرق منك قلباً، وهذا كذب وافتراء على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لما دعا موسى ربه كما قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25] دعاه دعوة أخرى فقال: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26]، فإن توفيق الإنسان يكون بالله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام لا يقدر على شيء بنفسه، إلا أن يقدره الله له، فطلب من الله أن يشرح له صدره، وأن ييسر له هذا الأمر الذي يتوجه إليه، ويدعو إليه ربه قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا} [طه:27 - 29]، فقال: وزيراً وهنا قال: {رِدْءًا} [القصص:34]، فالوزير: هو المؤازر، والمناصر والمدافع، أي: اجعل من يكون معي وزيراً يحمل معي الأوزار، والأثقال، ويحمل معي أعباء النبوة، وقوله تعالى: {رِدْءًا} [القصص:34] أي: ناصراً ومدافعاً، يدافع عني بشيء آخر.
قال تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34]، أي: يستطيع أن يتكلم ويجيد التعبير عما يقول، فهذا فصيح اللسان، وأما البليغ: فهو الإنسان الذي يتكلم بكلام موجز قليل يعبر به عن معان كثيرة، والله سبحانه جعل للأنبياء هذه الخصائص، جعلهم يجيدون التعبير عن الأشياء العظيمة بألفاظ قليلة، وأجود بلاغة بلاغة نبينا صلوات الله وسلامه عليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه قال: (أوتيت جوامع الكلم)، أي: مجامع الكلام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعبر بالكلمات الموجزة التي تشرح في مجلدات كثيرة، فلو أخذنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فقد بنى عليه العلماء قواعد فقهية ومسائل كثيرة جداً، وخرجوها من هاتين الكلمتين.(172/5)
اختلاف القراءات في قوله تعالى (فأرسله معي ردءاً يصدقني)
قوله تعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص:34]، فقراءة الجمهور: {فَأَرْسِلْهُ مَعِي} [القصص:34]، وقراءة حفص عن عاصم: (أرسله معيَ ردءاً يصدقني)، فقوله: (ردءاً)، هي قراءة البعض، وقراءة نافع: (ردا يصدقني)، وكذلك قراءة أبي جعفر، ولكنه يقرأ: (أرسله معي ردا يصدقْني)، وكأن (يصدقْ) جواب الأمر، حيث إن قوله: (أرسلهْ معي) طلب فكانت مجزومة على قراءة نافع، وكذلك قراءة أبي جعفر.
وبقية القراء يقرءون: (فأرسله مَعِي ردءاً يصدِّقُني).
فموسى عليه السلام طلب من الله عز وجل أن يعينه بهارون، فيكون معه وزيراًَ، ويكون معه معيناً ومدافعاً، ومقوياً له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه يخاف من تكذيب هؤلاء.
واستجاب له ربه سبحانه، فقال سبحانه في سورة طه: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، أي: كل ما سألت، فكل الذي طلبته: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:52 - 32]، كل هذا استجبنا لك فيه، قال تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36]، وليس الآن فقط، فقد مننا عليك قبل ذلك بنعم كثيرة، قال تعالى في سورة القصص: {سَنَشُدُّ} [القصص:35]، أي: سنقوي، {عَضُدَكَ} [القصص:35]، أي: أمرك، وأصل العضد: يد الإنسان، وذراع الإنسان عضده، فهو يمسك الأشياء بيده ويبطش بها ويأخذ ويعطي، ويعبر بذلك عن القوة، فقال: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص:35]، أي: سنقويك في أمرك، بأخيك هارون.
قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} [القصص:35]، والسلطان: هو الحجة والبيان من الله سبحانه وتعالى، أي: بيان قوي وحجة قاهرة باهرة، قال تعالى: {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، فالله عز وجل يعصمهما؛ لأنهما نبيان من أنبياء الله، وقد قيل: إنه كان أنفع أخ لأخيه على مر التاريخ موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فهو الوحيد الذي نفع أخاه بمثل هذه المنفعة العظيمة؛ لأن النبوة ليست كسباً يكتسبها الإنسان، فالوحيد الذي فعل به ذلك هو هارون؛ ببركة دعاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالله عز وجل جعل أخاه بدعائه نبياً.
قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، وهنا طمأن الله موسى أن فرعون لن يستطيع عليه، لذلك كان موسى في غاية الشجاعة، حين يكلم فرعون ويرد عليه الحجة التي كان يقولها فرعون، فحجة فرعون ضعيفة، ويرد عليه موسى بالحجة القوية، التي يبهت بها فرعون، فلا يقدر أن يرد عليه، قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35].
هنا أخبر الله سبحانه أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هو وهارون الغالبان، وليس هما فقط، بل قومهما معهما، فقال تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، وذلك حين نعطيكم الحجة والبرهان، قال تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} [القصص:35]، فبالسلطان الذي من الله، وبقوة المناصرة من الله، لا يصلون إليكما.
ثم قال تعالى: {بِآيَاتِنَا} [القصص:35]، أي: لا يصلون إليكما وأنتما معكما الآيات من عند الله، قال تعالى: {بِآيَاتِنَا} [القصص:35]، أي: بتأييدنا ستغلبون هؤلاء: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص:35]، فكان وعد الله حقاً، فقد نصر الله موسى وهارون وقومهما على القوم الظالمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(172/6)
تفسير سورة القصص [36 - 49]
يخبر الله تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه، وعرض ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة الدالة على صدقهما فيما أخبرا عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتيقنوا أنه من عند الله عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة، فكان عاقبتهم أن أهلكهم الله جميعاً، وذلك جزاء الظالمين.(173/1)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].
ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها كيف أنه أرسل إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل عليه الوحي لما جاء موسى إلى طور سيناء، فالله سبحانه وتعالى كلمه وأسمعه سبحانه كلامه، وأوحى إليه بأنه صار رسولاً له سبحانه، قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13]، أي: استمع لوحينا، فأوحى الله عز وجل إليه: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
ثم أمره سبحانه أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون إنه طغى، وذلك بعدما سأل موسى ربه سبحانه أن يجعل هارون معه نبياً، جاءت الرسالة لموسى عليه الصلاة والسلام، وتوجه موسى إلى فرعون فذهب إليهم بآيات الله سبحانه التي علمه ربه والتي دربه عليها.(173/2)
ذكر محاجة موسى لفرعون وقومه
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص:36] ومكث فيهم موسى فترة طويلة يدعوهم إلى الله سبحانه، وناظرهم وحاجهم، وقال له فرعون: من هذا الرب الذي تدعو إليه؟ أو لك رب غيري؟ فموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون بإجابات فصيحة وبليغة، وقد شفاه الله عز وجل مما كان بلسانه من عقدة، فأجاب فرعون وحاجه، ولم يقدر فرعون على الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما تقدم في الآيات في سورة طه، قال: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:49 - 54].
وفرعون كان يقول لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فبين موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الذي يخلق والذي يرزق، والذي ينزل من السماء ماء وينبت به أزواجاً من نبات شتى، والذي يطعمكم ويسقيكم ويعطيكم هو الله سبحانه وتعالى.
وفرعون يعلم في نفسه أنه حقير وأنه ليس إلهاً، وأنه كذاب يكذب على قومه، وفرعون لم يكن له أولاد، فكان يكذب على قومه ويخدعهم ويقول: أنا ابن الشمس؛ وذلك لأنه لم يكن له أبناء، فكان يوهمهم أنه ليس منهم وإنما هو ابن للشمس، فاتبعوه وعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وأوهمهم أنه يقدر على الخلق فقال: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51]، فاستخفهم فأطاعوه.
فيبن موسى للجميع أن الرب الله سبحانه وتعالى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، قال فرعون لقومه: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27] فقال موسى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28]، ففرعون رمى موسى بالجنون؛ لأنه لا يقدر على المواجهة بالقول وبالحجة، فإذا به يذكر قومه بما كان عليه موسى قبل ذلك، قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، أي: أنا خير من هذا الذي يزعم الخيرية، وليس عنده ما يدل على ذلك.
فلم يقدر فرعون في معرض المناقشة أن يأتي بجواب مقنع أو برد مفحم على ما يقوله موسى، وإنما غاية ما هنالك أنه يعجب القوم منه ويقول: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] وقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فلما لا يجد بداً من أنه يواجه بالقوة يقول له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] أي: فلجأ فرعون إلى التهديد وإلى الوعيد، فموسى يقول له: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30]، أي: أولو جئتك بآية بينة من عند رب العالمين: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:31 - 33].
هذه الآيات التي أراها الله عز وجل لموسى قبل ذلك ودربه عليها حتى لا يفزع موسى حين يراها للمرة الأولى، فلما ألقى العصا فإذا هي ثعبان مبين، فيفزع فرعون ومن معه، ولا يفزع موسى عليه الصلاة والسلام، ثم يأخذ هذه الحية من الأرض فترجع مرة ثانية عصا، ويريهم يده ويخرجها من جيبه فإذا بها كالشمس لها شعاع، فيتعجبون لذلك، ففرعون حين رأى ذلك سارع بأن يقول: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34] وقال في سورة طه: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} [طه:58] أي: لنأتينك بسحر أعظم من هذا السحر الذي أتيت به أو مثله، {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58] هذه حجة الإنسان المهزوم الذي يرى نفسه ضعيفة.
ففرعون حين رأى ما فعل موسى وذلك بفضل الله سبحانه، رأى نفسه مهينة حقيرة وأنه غير قادر على مجابهة موسى فقال: أعطنا وقتاً حتى نأتي لك بسحر مثل هذا الشيء، ولذلك قال: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه:58]، أي: نختار مكاناً وسطاً يجتمع فيه الناس كلهم.
ففرعون يرى نفسه ضعيفة، فيلجأ إلى السحرة، ويبعث إليهم من أقصى الأرض ومن أدناها، من شمال مصر ومن جنوبها، فيجتمع إليه السحرة الذين يرغبون في القرب من فرعون، ويرغبون في مال فرعون.
قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، أي: هل ستجعل لنا جائزة إن كنا نحن الغالبين؟ يقول لهم: {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42] أي: سأعطيكم أجراً إن غلبتم موسى، ليس هذا فحسب، بل سأقربكم إلي وستكونون جلسائي.
فلما اجتمع السحرة وألقوا حبالهم وعصيهم وهم كفار وقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] فهم يقسمون بعزة فرعون إنهم هم الغالبون، فهم عندما ألقوا كان منظرها منظراً مخيفاً، حتى إن موسى عليه وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام فزع، وإذا بالله يطمئنه ويثبته ويقول: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:68] أي: أنت أعلى من هؤلاء، وأنت ستغلبهم، {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:69]، فألقى عصاه فإذا بها تأتي إلى كل هذه الحبال والعصي التي أخافت موسى فتلتهمها ولا تترك منها شيئاً، {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
فالسحرة الآن عرفوا ما هو الحق، فخروا لله سجداً {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:47 - 48]، أما فرعون فإنه لم يؤمن؛ لأنه يظن أن ذلك يضيع منه الملك، وطمس الله على قلبه ولم يهده، ليكون إماماً إلى النار والعياذ بالله، فإذا بفرعون يستكبر على هؤلاء، ويقول: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] أي: ستنظرون من الذي هو أشد عذاباً، أهذا الإله الذي يتوعدكم موسى به، أو أنا؟ فالسحرة قد استيقنوا من أمر ربهم سبحانه، وقد دخل الإيمان في قلوبهم، فإذا بإيمانهم إيمان قوي، فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] لا نفضلك على هذه الآيات، وأقسموا بالذي فطرهم وهو الله أنهم لا يؤثرون فرعون على ما جاءهم من الآيات والبينات.
فإذا بفرعون يقتل هؤلاء السحرة، ويقطع يداً ورجلاً من كل إنسان، ويصلبهم على جذوع النخل، فكانوا في أول النهار كفاراً سحرة، وكانوا عن الله بعداء، وإذا بهم في آخر النهار يصيرون مؤمنين شهداء، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
فالسحرة جاءوا إلى فرعون حتى يقربهم، فإذا بهم يرون الآيات فيؤمنون بالله وحده لا شريك له ويقتلون شهداء، ويخاف قوم موسى من فرعون، فإذا بالله يؤيده بآيات وراءها آيات كما قال هنا: {فَلمَّاَ جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36].(173/3)
ذكر الآيات التي أرسلها الله على فرعون وقومه
ذكر سبحانه وتعالى أن الله أيد موسى بتسع آيات بينات من عنده سبحانه، منها: اليد والعصا، فهما آيتان من عند الله سبحانه.
وكذلك قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133]، فهذه خمس آيات من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء القوم.
ثم بعد ذلك قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] آيتان أخريان، فالجملة تسع آيات من عند الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه أخذهم بالقحط وعدم المطر وقلة المياه وعدم الثمرات، {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130].
فهرعوا إلى موسى وطلبوا منه أن يدعو الله سبحانه وتعالى لعله يكشف عنهم فيؤمنوا، فكشف عنهم فلم يؤمنوا، فأرسل عليهم الطوفان، فهم لما نقص الماء استجاروا، فإذا بالله يرسل عليهم الماء شديداً عليهم، فيجأرون ويلجئون إلى موسى أن يكشف عنهم، فيدعو ربه فيكشف عنهم، فيرجعون إلى الكفر ولا يؤمنون، فأرسل عليهم الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، فإذا بهم يرون هذه الآيات، آية وراء آية تملأ بيوتهم وأراضيهم فيفزعون إلى موسى، أكل الجراد ثمارهم، فإذا بهم يجأرون إلى موسى ويقولون: ادع ربك يكشف عنا هذا، ونؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فلما كشف عنهم الجراد الذي أكل زروعهم فإذا بهم لا يؤمنون، ويرجعون إلى تكذيبهم وإلى عادتهم الأولى، فإذا بالله سبحانه وتعالى يرسل عليهم الضفادع فملأت بيوتهم، فإذا بهم يستغيثون بموسى، فكشف الله عز وجل عنهم فكذبوه، فأرسل عليهم الدم في طعامهم وفي مياههم حتى كان الشيء أمامهم يجدونه مليئاً بالدم، فإذا بهم يستغيثون بموسى فيكشف عنهم، ومع ذلك لم يعتبر هؤلاء القوم، والله عز وجل له حكمة في أن يؤخر عذابهم حتى إذا أهلكهم، رأى الناس كيف يأخذ الله عز وجل الظالم المعاند أخذ عزيز مقتدر.
فهنا يخبر الله سبحانه عن قولهم في هذه الآيات لما جاءتهم: {قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى} [القصص:36] أي: مختلق، {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [القصص:36] أي: أول مرة نسمع مثل هذا الكلام، وهذا ليس جواباً بحجة، فهؤلاء قالوا: ما سمعنا بهذا الكلام قبل ذلك، هذا ليس رداً للحجة، ولكن الحجة ترد بمثلها، فلم يكن عند فرعون ولا قومه من الحجج ما يردون بها على موسى إلا أن يقولوا: لم نسمع بهذا.(173/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال موسى ربي أعلم وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)
قال الله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [القصص:37].
(ربي أعلم) هذه قراءة الجمهور.
وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: ((ربيَ أعلم)).
قوله: ((وَمَنْ تَكُونُ لَهُ)) هذه قراءة الجمهور.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((ومن يكونُ له)).
قوله: ((ومن يكون له عاقبة الدار)) يعني: من تكون له العاقبة الحسنة يوم القيامة.
قوله: ((إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) أي: مهما ظلمتم أيها القوم فإن عملكم لا ينجح، ولن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة.
وقال فرعون لقومه: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] يقول: ((ما علمت)) وهو كذاب في نفسه ويعرف ذلك، وقال: ((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)) يبجلهم ويعظمهم حتى يستجيبوا له، ولم يقل: (يا أيها الناس) ولكن قال: ((يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ)) أي: يا كبار القوم يا وزراء يا رؤساء، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
ثم قال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38] أي: سأذهب لأبحث عن الإله الذي يقول عنه موسى هذا، مع أنه لا يوجد في الأرض إله غيري، بزعمه وبكذبه لعنة الله عليه، فقال لـ هامان وزيره: ((فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ)) أي: اصنع لي طوباً أحمر من الآجر قوياً شديداً وابن لي صرحاً عظيماً وبرجاً عالياً هائلاً، حتى أطلع على هذا البرج وأنظر أين إله موسى هذا الذي يقول عنه، قال: {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [القصص:38].
وهنا قوله: ((لعلي)) فيها قراءتان: يقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (لعليَ) بفتح الياء، والباقون (لعليْ أطلع) بسكونها.
ثم قال: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] الكذاب هو الذي يعلم أنه إنسان ضعيف، وأنه يحتاج إلى برج، ولو كان إلهاً لما احتاج إلى برج ليصعد عليه، والناس لو كانوا عقلاء لفهموا ذلك، ولكن الله عز وجل وسمهم ووصفهم بأن عقولهم خفيفة وأنهم أغبياء لا يفهمون، قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54].
صعد فرعون فوق هذا الصرح العالي البناء المرتفع الهرم الذي بناه له لينظر في السماء، ثم نزل بعد ذلك وقال: ما رأيت إلهاً، فموسى يكذب عليكم فلا يوجد شيء فوق في السماء، وكأنه صعد إلى السماء أمام قومه، وقال قبل أن يصعد: ((وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)) فهو لما صعد رجع إليهم وزعم لهم أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يكذب.
قال الله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39]، أي: فرحوا بما أخبرهم به فرعون لما رجع إليهم، وقال: ما رأيت إلهاً، فاستكبروا في الأرض بغير الحق وظنوا في أنفسهم أن الله لا يحاسبهم ولا يجزيهم، وظنوا أنهم لو بعثوا لكانوا أفضل حالاً مما هم عليه الآن، ولذلك كانوا يحنطون جثثهم ويجعلونها في القبور حتى يرجعوا للملك مرة ثانية.
قراءة الجمهور ((لا يُرْجَعون)).
وقراءة حمزة والكسائي وخلف ونافع ويعقوب: ((لا يَرْجعون)).(173/5)
تفسير قوله تعالى: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم ويوم القيامة هم من المقبوحين)
قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40].
وبعد هذه الاستطالة خلال سنين طويلة إذا بالله عز وجل ينصر جنده، ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أنه مهما طال زمن الاضطهاد، ومهما طال زمن الأذى على المؤمنين، أنه لابد وأن يأتي يوم ينصر الله عز وجل عباده ويهزم هؤلاء الكفرة، ففعل بفرعون ما سمعنا، قال: ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ)).
وانظر إلى التعبير: ((فنبذناهم)) والنبذ هو الإلقاء بالشيء الحقير، كأنه شيء تقدر عليه وتملكه فتأخذه بيديك وترميه بيدك؛ لحقارته وضعفه ولقوتك وقدرتك.
فأخبر الله سبحانه أنه نبذ فرعون وألقاه في اليم كما تلقى المهملات، قال: ((فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)) أي: هذا الذي علا واستكبر يرمى كالزبالة بداخل اليم، فانظر وتعجب لأمر الله سبحانه.
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] أي: جعلنا فرعون وملأه وجنوده أئمة يدعون إلى النار بإغوائهم، فهم كانوا يغوون الناس ويدعونهم إلى الضلالة، فكانوا أئمة الضلالة هم ومن اتبعهم في النار.
قال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} [القصص:41] أي: لا يجدون ناصراً لهم، ففرعون وجنوده في نار جهنم لا ينصرهم أحد.
وقال تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42] أي: قفينا على آثارهم، فمن يسمع بذكر فرعون وجنوده، يقول: لعنة الله عليه وعليهم، لا أحد من المؤمنين يذكرهم بخير، إلا ما كان من أهل الاستخفاف ومن أهل الحماقة ومن أهل الجهل، الذين يقولون: آباؤنا الفراعنة فيفتخرون بهم، فهؤلاء أتباعهم وأشياعهم، ومن افتخر بهم كان سبيله النار وراء فرعون؛ كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلين في عهد موسى افتخرا وذكرا الآباء، فأحد الاثنين افتخر بالآباء عن الآخر، فقال له: أنا فلان بن فلان بن فلان، وعد تسعة آباء له، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان بن الإسلام، -أي: يكفيني شرف الإسلام، فافتخر بدين رب العالمين سبحانه- فأوحى الله إلى موسى: أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار، وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة).
فهذا الذي افتخر بالآباء الكفار كهؤلاء الذين يقولون: أجدادنا الفراعنة، يعني: يفتخرون بالكفار، فهذا مآلهم: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص:42] فكل من يقلد فرعون ويتبعه فهو ملعون في الدنيا، ففرعون وجنوده وملؤه من ذكرهم من المؤمنين، قال: لعنة الله على فرعون وعلى أشياعه وعلى أتباعه وعلى جنوده.
ثم قال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص:42] أي: من أهل القبح، يقبحهم الله، ويشوه وجوههم، ويحشرهم في نار جهنم زرق العيون سود الوجوه، على أقبح ما يكون من الكلاحة قبحهم الله، فمن يسمع بذكرهم يقول: لعنة الله عليهم وقبحهم الله، {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]، {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99]، بئس ما يردون عليه يوم القيامة وبئس ما يعطون من عطاء في نار جهنم والعياذ بالله، فاحذروا وحذروا من يفتخر بآل فرعون، فإنما هم جهلاء لا يدرون، يفتخرون بالكفار الذين يتبعونهم في الدنيا، فيتبعونهم في نار جنهم يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.(173/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:43].
لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى بقصة فرعون وكيف أنه سبحانه أهلكه وأتبعه في هذه الدنيا لعنة، وجعله هو وقومه يوم القيامة من المقبوحين، وجعلهم أئمة يدعون إلى النار، ذكر بعد ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قد آتى موسى الكتاب، يعني: التوراة من بعد هلاك قرون سابقة، يعني: لم يكن هذا الأمر جديداً، ولم يكن بدعاً من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن كما فعل الله بقوم فرعون فعل بقرون سابقة بأقوام قد كفروا بالله سبحانه وكذبوا المرسلين، فأهلكهم الله سبحانه، كقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم لوط وأصحاب مدين وغير ذلك من الأمم التي أهلكها الله عز وجل، فقد جعلهم الله عز وجل عبرة، وآتى موسى الكتاب يذكره بهؤلاء كيف صنع بهم.
قوله: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ)) أي: أعطيناه وأنزلنا عليه التوراة، ((مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى)) القرون: جمع قرن، والقرن الأمة من الناس الذين يدركهم زمان واحد، فنقول مثلاً: القرن الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأوه فهؤلاء قرن، حتى إذا انقرض هؤلاء، فقد انقضى قرن من القرون، ثم قرن يليهم الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء قرن حتى ينقضي آخر هؤلاء ممن رأى الصحابة، فيأتي قرن آخر وهم الذين لم يروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا الذين من بعدهم وهكذا، قرون في أزمنة متتالية، فأهلك الله عز وجل قروناً كثيرة، إما بالعذاب، وإما بالموت الذي يأتي على الجميع.
قوله: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: آتينا موسى التوراة بصائر للناس ليتبصروا وليتذكروا، وليعتبروا بهذه التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم قال: {وَهُدًى} [القصص:43] من الضلالة لمن عمل بها.
فإذاً: التوراة تبصرة للناس وكذلك هداية من الضلالة لمن عمل بها ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإنزال الكتب السماوية رحمة من الله عز وجل للعباد.
كان من الممكن أن يكتفي سبحانه بما جعل في قلوب العباد من فطر تعرف ربها سبحانه ويحاسبهم على ذلك، وقد أخبرنا في كتابه سبحانه وتعالى أنه جمع هؤلاء الخلق في يوم من الأيام وفي زمن الأزمنة قبل أن يوجدهم هكذا على هذه الأرض، فأخذهم من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، فقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] هذا ميثاق من مواثيق الله عز وجل على عباده، لا يذكر العباد هذا الموقف، ولكن الله يذكرنا به: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172].
كأن الناس وهم في الدنيا يغفلون عن ذلك، ولكن كل إنسان في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه، فالذي يقول: لا خالق لا رب لا إله، هذا كذاب شهد الله عز وجل أن في قلبه ما يدله على الخالق سبحانه، حتى وإن نطق بلسانه بخلاف ذلك.
ومن أفظع وأعظم هؤلاء الكذابين فرعون، هذا الذي قال للناس وأمرهم أن يعبدوه من دون الله، قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، أي: ما علمت من يستحق العبادة إلا أنا، فهذا الكذاب اللعين قال ذلك، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فلا استقر على هذا الذي قاله ولا استمر عليه حتى مات، بل لما أهلكه الله قال مستغيثاً بالله: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
هذا الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38]، فهذا أعظم الكذابين المفترين قال في وقت هلاكه وغرقه: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90].
صدق الله العظيم حيث أخبرنا في كتابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، فكل إنسان مهما تعالى ومهما استكبر ومهما زعم أنه مخلوق بالصدفة، فإن في قلبه ما يدل على خالقه سبحانه وتعالى، ولكنه جاحد، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، فهم يكذبون آيات الله مع معرفتهم أنها الحق، فربنا سبحانه وتعالى جعل في قلوب العباد فطراً تدلهم على خالقهم سبحانه وتعالى.
أيضاً أخذ عليهم الميثاق الذي غفلوا عنه، فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]، كذلك جعل في كل إنسان عقلاً يتفكر ويعرف أن كل أثر يدل على المؤثر في هذا الأثر، وكل شيء يدل على واجد هذا الشيء، فالإنسان بعقله لو فكر واستقام عقله وبعد عن الهوى وعن الشهوات وعن العصبيات لعرف أن الله هو خالقه، وأنه الحق الذي يستحق العبادة سبحانه وتعالى.
كان من الممكن أن يكتفي ربنا سبحانه وتعالى بذلك، ولكن نزل الكتب رحمة منه سبحانه، كما قال هنا: {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى} [القصص:43] تبصيراً للناس، فإن كنت متغافلاً فهذه الكتب تدلك على خالقك سبحانه وتعالى، وتدلك هذه الآية على معجزة من معجزات نبيك صلوات الله وسلامه عليه، وتهديك إلى صراط مستقيم.
قوله: ((وَرَحْمَةً)) أي: أن إنزال الكتب رحمة من رب العالمين، لو لم ينزل الكتب لاستحق الخلق عذاب رب العالمين.
قوله: ((لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) أي: لعلهم يتذكرون الآن ما نسوه قبل ذلك، فيهتدون، ولعلهم يذكرون النعم ويعبدون خالق هذه النعم سبحانه، ويقيمون على إيمانهم، ويثقون بثواب الآخرة.(173/7)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر)
قال الله تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ذاكراً نعمه عليه: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] يعني: هذه القصة ساقها الله عز وجل وكرر ذكرها في القرآن، فقد ذكر موسى في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة، وذكر ما أنزله عليه وما فعله بنو إسرائيل معه، وما فعله فرعون معه قبل ذلك، كل ذلك لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأه، ولم يجلس مع أهل الكتاب يحدثونه عن ذلك، ولكن معجزة من معجزاته، فقد جاءهم بالتفاصيل التي حدثت بين موسى وفرعون، فهذه رحمة من رب العالمين على النبي صلى الله عليه وسلم، وآية من آياته، ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أن أطلعه الله عز وجل على شيء ما كان يعرفه هو ولا يعرفه العرب الذين جلس معهم صلى الله عليه وسلم وهو منهم.
فلذلك يقول الله هنا مذكراً له ولهم بهذه النعمة: أنت لم ترَ ذلك فليتعظ هؤلاء وليتعظ أهل الكتاب، وليتذكروا أن هذا لا ينطق بكذب، قد جاءكم بما قاله موسى وما فعله مع فرعون، وما فعله الله عز وجل مع بني إسرائيل ومع فرعون، فكيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لا شك أنه وحي من رب العالمين.
فلذلك يقول: ((وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ)) أي: لم تكن بجانب الجبل الغربي، يعني: إذا جئت أنت إليه وجعلت وجهك جهة القبلة يكون هو تجاه الغرب.
قوله: ((إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ)) أي: أوحينا إليه بأمر الرسالة، ((وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) أي: لم تشهد ذلك حتى تحدث به، كم بينك وبين موسى؟ آلاف السنين.(173/8)
تفسير قوله تعالى: (ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر)
قال الله تعالى: {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:45].
قوله: ((ولكنا أنشأنا قروناً)) أي: أوجدنا وخلقنا قروناً يأتيهم رسول يذكرهم، وبعد ذلك يتباعد الزمن بينهم وبين رسولهم فيتطاول عليهم العمر، فإذا بهم يرجعون إلى الكفر وإلى الضلال، فقال: ((فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)) أي: طالت عليهم السنون فنسوا ربهم سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)) أي: لم تكن مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا، يعني: قصة موسى عليه السلام مع صاحب مدين، لم تكن أنت معهم حتى تعرف كيف تزوج موسى، وكيف حدثت له هذه القصة التي هي من خصوصيات موسى، عرفها أهل الكتاب وأنتم لم تعرفوها إلا من عند الله سبحانه، حين أخبركم بها.
فقوله: ((وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا)) أي: مقيماً ((فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)) أي: تذكرهم بالوعد والوعيد، {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: أرسلناك إلى هؤلاء كما أرسلنا موسى إلى قومه، وكما أرسلنا شعيباً إلى قومه وهكذا.(173/9)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الطور)
قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:46].
أي: لم تحضر جانب الجبل في المكان الغربي منه حيث نزلت الرسالة على موسى عليه الصلاة والسلام.
قوله: ((إِذْ نَادَيْنَا)) أي: كلمنا موسى وناديناه.
((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)) أي: رحمة بكم أنتم أيها المؤمنون، بأن أوحى إليكم بهذه الرسالة الخاتمة التي تعظ الناس وتعلم الناس، وهي الشريعة الأخيرة التي تنزل من السماء على الخلق، فرحمكم الله عز وجل بذلك.
وفي صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع إلى أهل الأرض فمقتهم جميعهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) أي: مقتهم الله قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على الكفر وكانوا على الشرك بالله، حتى أهل الكتاب كانوا على الكفر والشرك، إلا بقايا من أهل الكتاب ممن عرفوا الله عز وجل وعرفوا أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وانتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، فكان تنزيل هذا القرآن رحمة من الله بالخلق، وإلا لو ماتوا على ذلك لكانوا كلهم في النار.
((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ)) يعني: هؤلاء الذين كان فيهم صلى الله عليه وسلم لم يأتهم نذير إلا بقايا من ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ لأن موسى لم يرسل إليهم، لذلك لا يعرفون شيئاً عن شرع موسى، ولم يدعُ هؤلاء، والمسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يدعُ هؤلاء، وإنما بعث إلى خراف بني إسرائيل الضالة، فهؤلاء من قرون لم يأتهم نذير، فلذلك كانوا أهل فترة، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فبلغهم الرسالة، فاستحقوا الوعد واستحقوا الوعيد بعدما جاءهم النذير من رب العالمين، ((وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)).
إذاً: من نعمة الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلق أنه أرسله رحمة للخلق جميعهم، للإنس وللجن، وهذه من خصائصه، قال: (وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وأرسلت إلى الناس كافة).(173/10)
تفسير قوله تعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم)
قال الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص:47].
أي: لولا نزلت عليهم بلية وعذاب من السماء، ليس بظلم من الله، ولكن بما كسبت أيديهم، فهؤلاء لو أهلكهم الله بعذاب فإنما ذلك بسبب كفرهم وشركهم، فهم كانوا يعرفون الله سبحانه، حتى ذهب رجل منهم إلى بلاد الشام، فوجدهم يعبدون أصناماً، وهذا الرجل هو عمرو بن لحي الخزاعي فأتى بصنم فوضعه في مكة، فأعجب أهل مكة هذا الصنم، فصنعوا أصناماً مثله حول الكعبة، فكفروا وأشركوا بالله سبحانه وتعالى.
قوله: ((ولولا أن تصيبهم مصيبة)) أي: بسبب هذا الذي صنعوه وبكفرهم وبعدهم عن الله، ثم تشريعهم لأنفسهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهم يفترون ويقولون: هذه محرمة؛ لأنها وصيلة، وهذه محرمة؛ لأنها حام، وهذه محرمة؛ لأنها كذا، فيجعلون من الأنعام سوائب يسيبونها، فلا يأكلها أحد ولا ينحرونها بدعوى أنها سائبة متروكة هكذا، ويحرمون أشياء ويقولون: هذه لذكورنا خاصة دون نسائنا، فإذا كانت ميتة فهي للذكور وللإناث جميعاً، وإذا كانت مذكاة فهي للذكور خاصة، نقول: من الذي أحلها هنا وحرمها هنا؟ هم بعقولهم الفارغة يكذبون على الله ويشرعون تشريعات باطلة، فيقول الله سبحانه: ((وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ)) أي: تصيب قريشاً، وتصيب العرب، ((مصيبة)) أي: عذاب من عند الله، ((بما قدمت أيديهم)) أي: من كفر وشرك بالله، فإذا حدث شيء: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} [القصص:47]، هذا كلامهم وهذه حجتهم، لم نكن نعرف شيئاً، لو أرسلت إلينا رسولاً لاتبعنا آياتك: ((فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))، والإنسان في تمنيه يقول ما يشاء، ولكن المحك والاعتبار بما يحدث في الواقع، فالآن نقول لكم: هذا الرسول قد جاء إليكم فماذا أنتم فاعلون؟ هل ستتبعونه أم لا؟ وقبل إتيان الرسول يخبر الله عز وجل أنه لو تركهم من غير رسول وعذبهم فإنهم يستحقون العذاب، ويوم القيامة سيقولون: لو أرسلت إلينا رسولاً، والله أعلم من الذي سيصدق ومن الذي سيكذب؟ ها نحن أرسلنا إليكم رسولاً، ومع ذلك كذبتموه، فهؤلاء عندما يبعثون يوم القيامة سيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، أي: أخرجنا من النار ولو رجعنا إلى الكفر والشرك فإنا ظالمون، فالله أعلم بما في قلوب عباده، وما الذي يستحقونه، لو عذبهم فهو غير ظالم لهم سبحانه، ولو رحمهم فبفضله وبكرمه سبحانه.(173/11)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاءهم الحق من عندنا أتبعه إن كنتم صادقين)
قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48].
يعني: الخلق لا يعجبهم شيء، الله يهديهم وينزل عليهم الرسالة ويرسل إليهم الرسول ولا يعجبهم ذلك، فيطلبون من الله تعنتاًَ ويقولون: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48] يعني: هو جاء لنا بقرآن، فنحن نريد أن نرى معجزات، وذلك بأن يأتي لنا بعصا تنقلب ثعباناً، نريد أن نرى يداً تبقى بيضاء مثل الشمس، نريد أن نرى كذا ((لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى)).
كذلك اليهود قالوا هذا الشيء لما أمروا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في دينه، والعجب أنهم كانوا يعرفونه قبل أن يبعث صلوات الله وسلامه عليه، يعرفون صفاته بما قرءوه واطلعوا عليه في كتبهم، بل كانوا يتوعدون المشركين بأنه سيبعث رسول، وأنهم سيقاتلون مع هذا الرسول في هذا الزمان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أكثر خلق الله عداوة وبغضاً للنبي صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين، فقال الله سبحانه في هؤلاء المشركين واليهود الذين قالوا: ((لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى))، قال الله سبحانه: ((أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ)) يعني: هؤلاء لم يصدقوا موسى من قبل.
فاليهود ينجيهم الله سبحانه فيكذبون موسى، ولما ذهب موسى لميقات ربه قالوا: ضل موسى عن ربه، وهذا رب موسى عندنا، وذلك لما صنع لهم السامري العجل، {فأخرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} [طه:88]، يعني: موسى نسي إلهه وذهب يبحث عنه فوجدناه أمامنا.
فهؤلاء عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من دون الله، أليس هؤلاء هم الذين رأوا الآيات التي نزلت على موسى، ومع ذلك كفروا فعبدوا العجل من دون الله سبحانه؟ فاستحقوا عقاب الله، فأمرهم بأن يقتل بعضهم بعضاً بما كفروا وكذبوا على الله سبحانه، فقال الله في الجميع: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48]، قوله: ((قالوا سحران)) يعني: التوراة والقرآن سحران اجتمعا مع بعضهما، فلا نصدق هذا ولا ذا، هذا قول المشركين.
قوله: ((قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)) هذه فيها قراءتان: قراءة الكوفيين عاصم وحمزة والكسائي وخلف: ((سحران تظاهرا)) يعني: التوراة والقرآن.
وقراءة باقي القراء: ((ساحران)) وهم يقصدون محمداً صلى الله عليه وسلم وموسى عليه الصلاة والسلام، أو محمداً وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
((قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا)) اجتمع بعضهما إلى بعض، ((وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ))، فقال مشركو العرب عن موسى وعن محمد عليهما الصلاة والسلام: سحران أو ساحران تظاهرا، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، أما اليهود فقالوا ذلك عن موسى وعن هارون: ((قالوا ساحران تظاهرا)) ثم صدقوا بهما بعد ذلك.
أو أن المشركين وكذلك اليهود يقولون ذلك عن المسيح وعن محمد صلوات الله وسلامه عليهما، فيقول اليهود عن المسيح: ليس هو المسيح الذي يبعثه الله، وكذلك قالوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، فجمع الله أقوال الجميع، ((قالوا سحران)) يعني: عن كتب الله سبحانه التوراة والقرآن، أو عن رسولين من رسل الله: محمد صلوات الله وسلامه عليه والمسيح، أو محمد وموسى.
فإذاً: اليهود كذبوا بالمسيح وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأهل مكة الكفار كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل ولم يتبعوا أحداً منهم، ((وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)).
فقال الله سبحانه للجميع: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، أي: أنتم تقولون: إن الرب الذي في السماء خلق كل شيء، وتعبدون الأصنام حتى تقربكم إلى الله، فأين دليلكم على ذلك، هاتوا كتاباً من الله يدلنا على أنكم صادقون فيما تقولون؟.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(173/12)
تفسير سورة القصص [48 - 53]
لقد عرف أهل الكتاب من اليهود ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، واستقر في قلوبهم أنه الحق، ولكنهم عاندوا واستكبروا عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وعن الإيمان به، وقليل من رهبانهم وأحبارهم الذين عرفوا علامات النبي الكريم وآمنوا به واتبعوا الحق الذي أنزل عليه، فاستحقوا بذلك أن يمدحهم الله سبحانه ويثني عليهم.(174/1)
ما صد به اليهود المشركين عن اتباع دعوة الحق
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة القصص: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:49 - 53].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة القصص عن الكفار من المشركين وأهل الكتاب الذين جاءهم الحق من عند الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48] أي: أن اليهود قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقنوا المشركين أن يقولوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص:48].
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48] أي: هؤلاء اليهود الذين يلقنون المشركين أن يقولوا ذلك.
فقد كان المشركون يذهبون إلى اليهود يسألونهم: ماذا نفعل مع هذا الرجل؟ وهل هذا الرجل على حق أم لا؟ وهل نحن أهدى سبيلاً أم هو؟ فكان اليهود كعادتهم في الكذب يقولون لكفار العرب: أنتم أهدى منه سبيلاً، مع أن المفترض أن اليهود يعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين عباد أوثان، وأن عبادتهم باطلة، ومع ذلك يقولون: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، فيكذبون في أمر العقيدة الذي يعرفونه، ويلقنون المشركين أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية مثلما جاء موسى بآية، فقد جاءنا باليد، وبالعصا التي صارت حية، وجاء بتسع آيات بينات، فاطلبوا مثل هذه الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم يأتيكم بها إن كان نبياً حقاً، فطلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الله عز وجل عن هؤلاء اليهود الذين طلبوا من المشركين هذا الطلب: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [القصص:48]، أي: أن اليهود قد كانوا صدقوا بهذه الآيات ورأوها أمامهم، لكنهم كفروا وعبدوا العجل من دون الله سبحانه، قال الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، فلم تنفعهم هذه الآيات التي جاءت من عند الله سبحانه ليستمروا على التوحيد، ويستقروا على أمر عبادة رب العالمين سبحانه.
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] أي: أن أول ما جاء موسى اعتقدت اليهود أن ما جاء به موسى سحر، أو قالوا ذلك، أو أنهم كفروا بعد ذلك بموسى، حتى أمرهم الله سبحانه تبارك وتعالى أن يقتل بعضهم بعضاً.
فاليهود قالوا: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48]، وكذلك المشركون قالوا: سحران تظاهرا أو ساحران تظاهرا، فالمشركون يقصدون بذلك موسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليه، واليهود كأنما يقصدون ما نزل قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو ما جاء به المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فالمعنى أنه ساحر: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص:48] أو أن محمداً والمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ساحران، فقال الله سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا} [القصص:48] أي: المشركون واليهود وأهل الكتاب، فإنهم قد كفروا بما جاء من عند الله عز وجل قبل ذلك.
قال الله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص:48]، أي: المشركون قالوا: إنهم كافرون بما جاء به موسى وبما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه.
قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49]، وهذا تحد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء، المعنى: إن كنتم صادقين فهاتوا كتاباً من عند رب العالمين يخبر بصدق ما تقولون، ولن يقدروا على ذلك.
قال سبحانه: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} [القصص:49] أي: أهدى من القرآن ومن التوراة: {أَتَّبِعْهُ} [القصص:49] أي: هاتوا كتاباً من عند الله يصدق ما تقولون وأنا أتبعه: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص:49].(174/2)
تفسير قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم)
قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50].
أي: إن لم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يأتوا بكتاب يدل على شركهم ويعينهم على باطلهم: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، كما قال الله عز وجل في سورة هود: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:14].
فالله عز وجل يخاطب المؤمنين ويقول: اعلموا أيها المؤمنون أن هؤلاء يتبعون أهواءهم، وأن هذا الكتاب العظيم قد جاء من عند رب العالمين: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود:14] أي: مستسلمون لرب العالمين، مصدقون ربكم سبحانه وتعالى فيما جاء من عنده.
فقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين تبعاً له، والمعنى: فإن لم يستجيبوا ويأتوا بدليل وبرهان من عند الله: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] أي: استيقن من ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم يعلم يقيناً أنهم سيتبعون أهواءهم، فأخبره الله سبحانه وأخبر المؤمنين أن يعلموا ويستيقنوا أن هؤلاء أهل باطل، وإن جادلوكم بما يظهر منهم أنهم يبحثون عن الحق فهم كذابون؛ لأنهم يعرفون الحق الذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يتبعون الهوى.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] أي: من أضل من هذا؟
و
الجواب
لا أحد أضل ممن يتبع هواه بغير هداية من الله، ويمشي وراء الهوى، فلن يصل هذا إلى طريق الخير وهو على هوى وعلى ضلال.
قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] بما كسبت أيديهم وبظلمهم استحقوا أن يضلهم الله سبحانه وتعالى.(174/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول)
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51].
أي: أتبعنا هذا القرآن ينزل بعضه وراء بعض حتى يتبين لهم ويعلموا، وهذا كقولك: وصلت لك المعلومة بكل طريقة، فوصلتها لك على هيئة الحكاية والقصة، وعلى هيئة الأمر والنهي، وعلى هيئة الموعظة.
فهذا القرآن العظيم والى الله عز وجل إنزاله يتبع بعضه بعضاً وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ، وأوامر ونواهي؛ حتى يتذكروا فيفلحوا، فكأن الله عز وجل قد أقام عليهم بذلك حجته لما وصل لهم هذا القول بهذا النحو.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص:51] أي: أتممنا لهم، والمعنى: لم نزل ننزله شيئاً فشيئاً، حتى أقمنا عليهم الحجة وأتممنا نورنا.
ومن معاني قوله تعالى: {وَصَّلْنَا} [القصص:51] أي: فصلنا لهم القول.
ومن معانيها كذلك: وصلنا خبر الدنيا بخبر الآخرة، وذكرناهم بأمر دنياهم، وأن يعملوا صالحاً حتى يصلوا إلى الآخرة فينجوا من النار ويدخلوا الجنة.
قال: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص:51] فيذكرون الله سبحانه ولا ينسون شرعه، ولعلهم يتعظون بهذا الذي جاءهم فينتهون عن عبادة الأوثان.(174/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله)
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52].
في هذه الآية مدح الله عز وجل المؤمنين من أهل الكتاب، وذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن ربه سبحانه كيف أنه نظر إلى أهل الأرض جميعهم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فمقتهم عربهم وعجمهم؛ لأنهم كانوا على الشرك وعلى الضلال والظلم، وكانوا بعيدين عن ربهم سبحانه وتعالى، وكانوا أهل خبث ومنكرات، فمقتهم الله سبحانه، إلا بقايا من أهل الكتاب.
قال هنا سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: من قبل القرآن، ومن قبل محمد صلوات الله وسلامه عليه: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52]، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أعداد قليلة من اليهود لا يصلون إلى العشرة، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه.
أما النصارى فكثيرون منهم آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فمدح الله عز وجل هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعضهم سبب هداية سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، فقد كان أبوه من المجوس، وكان صاحب بيت النيران التي يعبدونها من دون الله سبحانه، وكان يحب ابنه سلمان حباً شديداً جداً، حتى إنه من شدة حبه له منعه من الناس، وجعله في مكان حبسه فيه لا يخرج إلى الناس.
وفي يوم من الأيام خرج سلمان رضي الله تعالى عنه، فإذا به يصل إلى راهب في صومعة يعبد الله سبحانه، وكان هذا الراهب من بقايا أهل الكتاب الذين عرفوا التوحيد والحق، فلما رآه سلمان أعجبه ما هو فيه من عبادة لله سبحانه وتعالى، وأنزل الله الهدى على قلبه، واتبع هذا الراهب الذي يعبد الله سبحانه، وهرب من أبيه، فلما عرف أبوه أنه وصل إلى الراهب حبسه في البيت وقيده بالأغلال، حتى لا يخرج من البيت، وإذا بالله عز وجل يشاء لـ سلمان أن يهرب من أبيه، ودله هذا الراهب على راهب آخر في مكان بعيد؛ ليذهب ويعبد الله عز وجل معه.
وانطلق سلمان يبحث عن الدين الحق، ووصل إلى هذا الراهب، وعبد الله عز وجل معه، وقد كان هذا الراهب شيخاً كبيراً في آخر حياته، وقبل وفاته سأله سلمان: من تعهد إليه بي من بعدك؟ لأنه يريد أن يعبد الله سبحانه، فدله على راهب آخر، فلما جاءت هذا الراهب الوفاة دله على آخر، ولم يزل هكذا إلى أن انتقل إلى ما يقرب من ثمانية عشر راهباً، كلما أتت الوفاة أحدهم يوصي به إلى راهب آخر، إلى أن وصل إلى آخر راهب فسأله سلمان رضي الله عنه أن يوصيه براهب آخر، فقال له: لا أعلم أحداً على هذه الأرض على ما كنا عليه -أي: من التوحيد- إلا أنه سيخرج نبي في هذا الزمان الذي نحن فيه، وأخبر سلمان عن صفات هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فسأله سلمان: أين هذا النبي؟ فقال له: في بلاد العرب، فظل سلمان يبحث عن طريقة توصله إلى بلاد العرب، وهو في بلاد فارس، وما كان قد خرج من بيته قبل ذلك، فإذا ببعض العرب يقدمون على المكان الذي هو فيه، فيعطيهم ما معه من مال رضي الله تعالى عنه؛ حتى يوصلوه إلى بلاد العرب وإلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه هؤلاء العرب، وكانوا كعادتهم في أخذ أموال الناس واستعبادهم، وعدم رعايتهم للعهود والمواثيق، فأخذوا سلمان وهو رجل حر، فإذا بهم يستعبدونه ويبيعونه لبعض اليهود، وسلمان ينتظر النبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وإذا بـ سلمان -وهو فوق شجرة يجني لليهود شيئاً من ثمارها- يسمع يهودياً يخاطب اليهودي الآخر ويقول: إن محمداً قد جاء صلوات الله وسلامه عليه، فكاد أن يسقط من فوق الشجرة رضي الله عنه حين سمع ذلك؛ من شدة فرحه بمقدم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنزل وسأل هذا اليهودي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يلطمه على وجهه، ويقول: اذهب إلى عملك، فذهب سلمان إلى عمله، وهو عبد رقيق رضي الله عنه، وانتظر حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وذهب لينظر إليه، هل هو فعلاً النبي الذي حدثه الراهب عنه وذكر له صفاته أم هو غيره؟ فلما أراد أن يتبين أنه رسول، ويعلم أنه لا يأكل الصدقة، أخذ شيئاً من تمر وذهب إليه، وقال: هذه صدقة، فلم يأكل منها النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها لأصحابه، فعرف علامة من العلامات، وأتاه مرة أخرى بتمر، وقال: هذا هدية، فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه رسول عليه الصلاة والسلام.
وكان يدور حول النبي صلى الله عليه وسلم، ويبحث عن علامة من العلامات التي حدثه عنها الرهبان، وانتبه النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، فأسقط رداءه صلى الله عليه وسلم فكشف عن كتفه عليه الصلاة والسلام، فنظر سلمان إلى تلك العلامة وهي خاتم النبوة: وهي قطعة من اللحم على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كبيضة الحمامة، علامة على أنه نبي، وهذه هي علامات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإذا بـ سلمان يقبل النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤمن به، ومرت الأيام وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يعينوا سلمان على أن يعتق، فأعانه المسلمون، فأعتقه الله سبحانه وتعالى وصار حراً.
هذا ممن آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن يراه؛ وذلك بسبب أخبار هؤلاء الرهبان من أهل الكتاب الذين أخبروا سلمان أن هناك نبياً يخرج في هذا الزمان.
كذلك عبد الله بن سلام رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه عرف صفات النبي صلى الله عليه وسلم من التوراة، فذهب وآمن بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك مجموعات من النصارى الذين كانوا في الحبشة، لما قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من الحبشة إلى المدينة أسلموا وآمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
وغيرهم من أهل الكتاب ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عروة بن الزبير: نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52] نزلت في النجاشي وأصحابه -وكأن الآية مدح للجميع: من أسلم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أسلم بعد ذلك- وذلك أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هاجر إلى الحبشة، فلما عرف النجاشي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وصدق به، ووجه مجموعة من النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر رجلاً، فجاءوا إليه وهو في مكة، وأقاموا عنده، وسمعوا منه، وعرفوا أنه نبي حق عليه الصلاة والسلام، وكان أبو جهل لعنه الله يراقبهم، فلما قاموا من عنده اتبعهم أبو جهل وقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد، لم تلبثوا أن صدقتموه، ما رأينا ركباً أحمق ولا أجهل منكم.
فهذا أبو جهل لعنه الله، يقول لهؤلاء الذين أتوا من الحبشة وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وهو الذي بجوار النبي صلى الله عليه وسلم قد ذهب عقله، فكان غاية في الغباء لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتف بأنه لم يؤمن، بل صد عن سبيل الله سبحانه من جاءوا ليؤمنوا.
فقالوا لـ أبي جهل بعد أن سمعوا منه ذلك: سلام عليكم، وليس معنى (سلام عليكم) الدعاء له، بل المقصود بها المتاركة، أي: أنت في حالك ونحن في حالنا، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، وقد اجتهدنا لأنفسنا في الرشد، فابحث أنت عن نفسك في جهلك وما أنت فيه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية بمثل ما قال هؤلاء، قال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: من قبل القرآن، أو من قبل النبي صلى الله عليه وسلم: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص:52].
قال الله تعالى: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53]، فآمنوا بكتابهم وبالقرآن، وبالنبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة أن هؤلاء: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]، فقد كانوا نصارى، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا ما قاله من هذا القرآن العظيم ومن كلام رب العالمين، فإذا بهم يبكون متأثرين، ويدخلون في دين رب العالمين سبحانه.
فمدح الله هؤلاء بفعالهم هذه، وقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82]، فمن هؤلاء من صدقوا النبي صلوات الله وسلامه عليه لما سمعوا هذا القرآن، فقال الله عز وجل في وصفهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة:82 - 83]، أي: يبكون ويقولون لربهم سبحانه: {رَبَّنَا آمَنَّا} [المائدة:83] فاجعلنا مع هؤلاء المؤمنين.
فالله سبحانه مدحهم هناك في سورة المائدة، ومدحهم هنا فقال سبحانه: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53]، أي: كنا على الإسلام من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أن ينزل القرآن، ف(174/5)
تفسير سورة القصص [51 - 56]
يخبر الله سبحانه أنه أوصل القرآن إلى الكفار تارة بالقصص وتارة بالمواعظ وأخرى بالأوامر والنواهي لعلهم يتذكرون ويعتبرون، ثم بين أن من أهل الكتب السابقة من آمن بمحمد وأنهم إذا سمعوا القرآن يتلى عليهم يقولون: صدقنا به إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبل أن نسمعه مستسلمين لله رب العالمين، نطيعه ونوحده ولا نشرك به، فكان جزاؤهم عند ربهم أن جعل أجرهم مرتين بسبب صبرهم على أذى قومهم قبل أن يؤمنوا بالنبي، وبسبب صبرهم على أذى الكفار بعد أن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.(175/1)
توصيل القول إلى الناس لعلهم يتذكرون
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ * إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:51 - 56].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية: أنه وصل القول، يعني: القرآن العظيم الذي فيه أوامر رب العالمين، وفيه المواعظ فوصل هذا القول إلى هؤلاء الكفار ليتذكروا وليعتبروا.
وقد جاء بهذا القرآن على مراحل، وفيه الأوامر والنواهي، وفيه القصص، والتذكرة، وفيه غير ذلك من تفاصيل أحكام هذه الشريعة العظيمة، وفيه اعتبار وتذكير بما كان في الأمم السابقة من إعراض عن رسل الله، وما فعل الله عز وجل بهم، فأنزل القرآن ووصله إليهم.
والقرآن متصل آية وراء آية وحكماً وراء حكم، فقالوا: معنى وصلنا: أي والينا وتابعنا، وأنزلنا القرآن يتبع بعضه بعضاً، فيه الوعد وفيه الوعيد، وفيه القصص وفيه العبر، وفيه النصائح وفيه المواعظ، وفيه الأوامر وفيه النواهي، فوصل الله عز وجل بعض هذا ببعض في القرآن العظيم.
ووصلنا: من وصل الحبال، وهو أن يوصل الحبل بحبل آخر ليصل إلى المكان الذي يريده، فوصل الله عز وجل القرآن إلى أفهامهم، وإلى أسماعهم وقلوبهم عن طريق إتيانهم بأمر أو بنهي أو بقصة أو بموعظة، فوصل لهم القول لعلهم يتذكرون، فيرجعون إلى ربهم سبحانه.
قال سبحانه في مدح الذين آمنوا من أهل الكتاب: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} [القصص:52] أي: التوراة والإنجيل، فعرفوا أن هذا الزمان يخرج فيه نبي يبعث إلى الناس، فانتظروا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به.
قال سبحانه: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [القصص:53] يعني: القرآن العظيم، {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص:53] أي: كنا متبعين لأنبيائنا على ملة الإسلام والاستسلام لرب العالمين، والطاعة والانقياد للرب سبحانه وتعالى.(175/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا)
قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54].
فقد مدحهم الله سبحانه بأنهم صبروا على أوامر كتبهم، وصبروا على ما جاء في القرآن العظيم فتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وصبروا على ما ابتلاهم الله عز وجل به في الدنيا من أذى الكفار، وصبروا على الطاعة وصبروا عن المعصية، فلهم أجرهم مرتين عند الله سبحانه وتعالى.
وقد عرفنا من القرآن أن الحسنة بعشر أمثالها، وهؤلاء حسناتهم مضاعفة، فلهم أجران وكل من الأجرين مضاعف إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
فإن كان غيرهم يضاعف له إلى عشرة أمثاله فهؤلاء إلى عشرين، وإن كان غيرهم إلى سبعمائة ضعف فهؤلاء إلى ألف وأربعمائة ضعف، وإذا كان غيرهم إلى أكثر من ذلك فهؤلاء يضاعف لهم مرتين.
قيل: بسبب أنهم صبروا في دينهم وتابعوا الحق، ووحدوا الله، ولم يشركوا بالله، فكانوا قد أوذوا في دينهم؛ لأن النصارى اختلفوا إلى فرق، فالفرقة التي وحدت الله سبحانه وتعالى صارت منبوذة بينهم، والذين أشركوا وقالوا المسيح ابن الله، وقالوا اتخذ الله الصاحبة والولد، هم الذي غلبوا فآذو الموحدين، فصبروا على ذلك في دينهم فلما جاء الإسلام دخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فابتلوا وصبروا على ذلك فكان لهم الأجر المضاعف.(175/3)
الأصناف الذين لهم أجران
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى قال: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران) هذا أحد الثلاثة الذين يؤتون أجرهم مرتين فقد آمن مرتين: آمن بنبيه ثم آمن بنبينا صلوات الله وسلامه عليه، فاستحق أن يؤتى الأجر مرتين على إيمانه بنبيه وعلى اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد مملوك أدى حق الله عز وجل وحق سيده فله أجران) الإنسان يحب أن يكون حراً، بل يفتخر بأنه حر، ولكن أخبر هنا أن العبد المملوك يؤتى أجره مرتين، أي: أكثر من أجر الإنسان الحر، لأنه صبر في الدنيا على ذل الرق فأطاع سيده كما أمره الله عز وجل، وأطاع ربه سبحانه وتعالى فيما أمر، فكان له الأجر مرتين، ولذلك يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك).
لأنه لو كان مملوكاً لم يقدر أن يجاهد فالجهاد ليس فرضاً على المملوك، وإنما فرضيته على الحر، كذلك الحج هو فريضة على الحر، وليس على العبد، قال (وبر أمي) ولو كان عبداً لانشغل بسادته الذين يملكونه فلم يقدر على الجمع بين بر الوالدين وبين حق السيد.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: (نعماً للملوك أن يتوفى يحسن عبادة الله وصحابة سيده نعماً له) يعني: له عند الله عز وجل الأجر العظيم على ذلك.
وهنا في الآية ذكر الله سبحانه وتعالى واحداً من الثلاثة، وهو رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم بنبينا صلى الله عليه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثم أدبها فأحسن أدبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) الحديث في صحيح مسلم ولفظ البخاري قال: (فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها) أي: رجل كان عنده أمة يملكها، وهذا أقوى من الزواج، ومع ذلك فهذا الرجل الذي عنده هذه الأمة أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وغذاها فأحسن غذائها، حتى صارت كبيرة جميلة مرغوباً فيها لأدبها وعلمها وجمالها، ولو أنه باعها لباعها بمال كثير جداً ولكنه من عليها فأعتقها، ومن عليها مرةً أخرى فتزوجها فصارت امرأة مع زوجها وليس أمة مع سيدها، فالذي يفعل ذلك يشكر الله عز وجل له صنيعه، ويعطيه الأجر مرتين.
قال الله عز وجل في هذا الذي آمن من أهل الكتاب قال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54] أي: بسبب صبرهم.
{وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] وهذه من صفاتهم الجميلة أنهم يدفعون الإساءة بالإحسان، أي: يدفعون بإحسانهم سيئات غيرهم، أو: سيئات أنفسهم، فما أساءوا فيه درءوه بالإحسان بعد ذلك فيتوبون إلى الله عز وجل ويعملون الصالحات، وإذا أساء لهم غيرهم فلا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون السيئة بالحسنة، أي: بالصبر وبحسن الخلق يدفعون ما ينالهم من أذى من غيرهم، والله عز وجل مدح هذه الصفات، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96].
فالله أمر المؤمنين أن يدفعوا بالحسنى، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه لعل الله عز وجل أن يقلب حاله ويغيره فيصير ولياً حميماً.
وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [القصص:54] فيها معنيان كما ذكرنا أنهم يدرءون بإحسانهم سيئات غيرهم إذا أساءوا إليهم، وهذا من حسن الخلق.
والأمر الثاني: أنهم رجاعون تائبون إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا أساء أحدهم سرعان ما يتوب ويفيء، ويستغفر ربه سبحانه.
قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص:54] أي: هم أهل كرم ينفقون ويحسنون إلى الفقراء وإلى المساكين وإلى أقربائهم، وإلى الغرباء عنهم، فينفقون مما رزقهم الله سبحانه.
وفيه التنبيه على أن الإنسان مهما أحسن فأنت لا تحسن من فضلك، وإنما من فضل الله ومن كرمه، فبين أنه رزقه هو سبحانه ((َمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ)) أي: أعطيناهم، فهم أنفقوا من رزق الله سبحانه وتعالى ومدحهم على فضله وعلى كرمه سبحانه.(175/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه)
قال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} [القصص:55].
هذه من الأخلاق الحسنة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان المؤمن، واللغو: هو الكلام الفارغ الرديء الذي ينبغي أن يلغى ويطرح.
فهم إذا سمعوه لم يجيبوا صاحبه إلا بالكلام الحسن، فإذا استمر صاحبه على ذلك أعرضوا: {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
ويقولون: سلام عليكم، والسلام هنا بمعنى المتاركة يعني: أنتم على حالكم ونحن على حالنا فابعدوا عنا فليس لنا بكم شأن.
{لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] أي: يقولون لهؤلاء: أنتم أهل جهالة وأهل باطل، ونحن لا نريد أن نكون مع أهل الباطل فنحشر معهم، هذا الذي ذكره الله عز وجل من الأخلاق الحسنة هي في تعاملهم مع المسلمين، وفي تعاملهم أيضاً مع الكفار، فهم يدعونهم إلى دين رب العالمين سبحانه وتعالى فإذا لم يجدوا منهم استجابة أعرضوا وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وهذا معنى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: أنتم على الضلالة ونحن أبعد الناس عن ضلالاتكم، فدينكم يختص بكم، وأنتم تسألون عنه عند الله سبحانه، ولنا ديننا دين الإسلام.
أما أن يجهل الكفار على المسلمين ثم يقولون: سلام عليكم، فهذه السورة مكية، وقد نزلت حين كان يتعرض المسلمون للأذى ولا يقدرون على دفعه، فلما هاجروا وفرض عليهم الجهاد أمرهم الله عز وجل بالرد على الكفار، فيكون (سلام عليكم) في معرض الجدل، إذا كان هناك جدل بين المسلمين وبينهم ولم يصلوا إلى شيء فنقول: لكم دينكم ولي دين.
أي: انتهى الأمر.
أما إذا اعتدى الكافر على المسلم بالإساءة وبالبذاءة باليد وباللسان، وبالحيل والمكر، فإن الله أمر المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم وأن يدافعوا عن دينهم، وأن يجاهدوا هؤلاء، قال الله سبحانه: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وهذه الآية تسمى آية السيف، نسخت كل ما في القرآن من أمر بموادعة ومتاركة ومسالمة الكفار.
إذاً: نسالمهم إذا كانوا يسالموننا، أما أن يبدأ الكافر بأن يؤذي المسلم أو يقاتل المسلمين ثم يقولون سلام عليكم فهذا لا يكون أبداً، فإن جميع ما جاء في المسالمة والمتاركة كان في العهد المكي، أما في العهد المدني فقد أمر الله عز وجل المؤمنين بالجهاد في سبيل الله سبحانه، وبذلك يقول العلماء: إن هذه الآية مع الكفار نسختها آية السيف، يعني: أن الآية ليست منسوخة كلها، ولكن إذا سمعوا اللغو والبذاءة والإساءة من الناس، هؤلاء الناس إما أن يكونوا مسلمين، وإما أن يكونوا كفاراً، فإذا كانوا مسلمين فادفع بالتي هي أحسن لعله يستحيي من نفسه فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41].
فللمسلم أن ينتصر ممن آذاه من المسلمين فكيف بالمشركين؟ كيف بالكفار الذين يؤذون المسلمين في دينهم وفي ديارهم؟ فقوله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] بمعنى: متاركة بيننا وبينكم هذا إذا لم يصل الكفار للأذى في دين المسلمين ولم يقاتلوهم؛ لكن إذا كانوا يدفعون المسلم ليقع في الخطيئة وليقع في الكفر ويترك دين الله عز وجل، فعليه حينئذٍ أن يجاهدهم كما أمر الله سبحانه وتعالى.(175/5)
تفسير قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
قال الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
هذه الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلوات الله وسلامه عليه بإجماع المفسرين، كان النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الحزن عليه لأنه لم يدخل في دين الإسلام، فقد كان يود لو أنه قال كلمة لا إله إلا الله ثم مات على ذلك، ولكن أبى الله عز وجل إلا أن يموت على ما هو فيه، فالرجل أبى أن يقول لا إله إلا الله، وآخر كلمة نطق بها قال هو على ملة عبد المطلب، فهنا الله سبحانه وتعالى يواسي نبيه صلى الله عليه وسلم ويقول له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
أي: الأمر ليس بيدك أنت، ولكن الهدى هدى الله سبحانه وتعالى، فهذا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم هداه الله عز وجل، وهذا حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم هداه الله عز وجل، وهذا أبو طالب لم يهده الله عز وجل وأضله، وهذا ابنه عقيل بن أبي طالب وابنه جعفر بن أبي طالب هداهم الله عز وجل للإسلام، وعقيل بن أبي طالب استمر على الكفر وما دخل في الإسلام إلا متأخراً، فصار بعد ذلك مسلماً.
فالله يهدي من يشاء، والهدى هدى الله سبحانه وتعالى، فأعمام النبي صلى الله عليه وسلم كان منهم من يؤذيه، ومنهم من يدافع عنه، ومنهم من دخل في دينه، وكان أبو لهب يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يمر النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق يدعو الناس، فيسير وراءه يقول: هذا كذاب، لا تصدقوه أنا عمه أنا أعلم به، فيكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حضر النبي صلى الله عليه وسلم الموسم في الحج، ودعا الناس إلى دين الله عز وجل كان يكون وراءه يكذبه، صلوات الله وسلامه عليه.
وابنه عتبة بن أبي لهب كان زوجاً لبنت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبيه: لأوذين محمداً صلى الله عليه وسلم فذهب وفرح أبوه بذلك وكانا ذاهبين إلى الشام أبو لهب وابنه عتبة بن أبي لهب فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وكذبه وقال له عن نفسه إنه كافر بالنجم إذا هوى، وكافر بما جاء في القرآن العظيم، ثم طلق ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أفعالاً شنيعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه وقال: (سلط الله عليك كلباً من الكلاب) وخرج الرجل وذهب إلى أبيه مسروراً أنه آذى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه طلق بنت النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما وصل إلى أبيه قال له ذلك: ففرح أبوه ثم سأله: ماذا قال لك؟ قال: ((سلط الله عليك كلباً من كلابه)) فأبوه خاف من هذه الكلمة، وخرج إلى الشام ومعهم مجموعة من الناس، ولما وصلوا إلى بعض الطريق نظر إليهم راهب من صومعته، وقال: ما أتى بكم إلى هذه الأرض فإنها أرض مسبعة يعني: فيها أسود كثيرة، فخاف أبو لهب وتذكر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه فجمع من معه في الرحلة، وقال: ألست كبيركم؟ أليس لي حق في السن والكبر عليكم؟ قالوا: بلى قال: فاحموا ابني فإن محمداً دعا عليه.
ولا يغني حذر من قدر، فلما قال ذلك جمعوا أمتعتهم بأمره ووضعوا بعضها فوق بعض ونام فوق الأمتعة عتبة بن أبي لهب لعنة الله عليه وعلى أبيه، فلما نام ناموا حوله يحرسونه، وجاء الأسد بالليل فجعل يشمهم واحداً واحداً حتى انتهى منهم، ثم وثب فوق المتاع فعصر رأسه بأنيابه فأخذه فقتله لعنة الله عليه.
وكم تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن هذا الإنسان فلم يؤمن هو ولا امرأته ولا ابنه لعنة الله عليهم وعلى أمثالهم، وما آمن أبو طالب ولكنه دافع عن الإسلام، ولذلك حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ودافع أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان موجوداً حين جاء عتبة بن أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشتم النبي صلى الله عليه وسلم وطلق ابنته وعابه وعاب القرآن فلما دعا عليه صلى الله عليه وسلم قال أبو طالب: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة.
لقد قالها لأنه يعرف أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لا بد وأن تستجاب فاستجاب الله عز وجل دعوته وقتل عتبة الكافر، وسلط عليه كلباً من كلابه أكله، لقد علم أبو طالب بذلك ومع ذلك لم يسلم.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا صراطه المستقيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.(175/6)
تفسير سورة القصص [56 - 58]
إن الهداية مطلب عظيم، ولكن لا ينالها كل الناس، بل ذلك يرجع إلى علم الله وتقديره هداية هذا وإضلال ذاك، وكل ذلك بحكمة منه تعالى، فهو يفعل ما يريد، فعلى المرء أن يطلب طرق الهداية ليسلكها، ولا يخاف من قول الحق، فإن الوقوف مع الحق آخره إما فوز في الدنيا والآخرة أو شهادة في الدنيا لنيل الآخرة كذلك، وكم أهلك الله من الظلمة والمتكبرين فكانوا عبرة لغيرهم.(176/1)
الهداية والضلال بيد الله(176/2)
يهدي الله من يشاء ويضل من يشاء
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:56 - 58].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات بقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، فيخبرنا أن الهدى بيد الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالله سبحانه تبارك وتعالى الحكم العدل، لا يجري شيء في الكون إلا بعلمه وبقضائه وبقدره، فإذا هدى إنساناً فهذا محض فضل منه سبحانه، وإذا أضل إنساناً فهذا محض عدل منه سبحانه تبارك وتعالى.
فيهدي من يشاء، ويضل ويخذل ويبتلي من يشاء بعدله، والناس يتقلبون بين فضله وعدله سبحانه وتعالى، ولو حاسب الناس بعدله لأدخلهم النار؛ لأنه لا يقدرون أن يجازوا ربهم سبحانه على نعمه التي أعطاها لهم، ولا يشكرونه ولا يقدرونه حق قدره سبحانه وتعالى، ولا يقدرون على شكر نعمة واحدة من نعمه عليهم.
ولذلك عندما يدخل المؤمنين الجنة إنما يدخلهم بفضله.
ويؤكد لنا هذا المعنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله) فالعمل لا يصلح أن يكون ثمناً للجنة، فالجنة أغلى من عمل الإنسان.
والإنسان يقدر ذلك بما في الدنيا، فلو أنه رأى بستاناً عظيماً، وقصراً مشيداً وأرضاً واسعة، ثم أراد أن يشتريها وليس معه شيء، فقيل له: اعمل واشتغل لنعطيك هذا البستان، فماذا سيعمل هذا الإنسان؟ وكم سيتعب في عمله من أجل أن يشتري هذا البستان؟ فإذا كان هذا في الدنيا فكيف بجنة عرضها السموات والأرض! وأقل ما يكون للإنسان فيها مثل ملك من ملوك الدنيا عشر مرات، فلو تخيلنا ملكاً من ملوك الدنيا يملك بلداً من البلاد فهل يستطيع أحد أن يشتري هذه البلاد، مهما عمل بماله ومهما كسب من شيء؟
الجواب
لا إذاً فهذا هو الفضل من الله عز وجل، يؤتي الإنسان من فضله سبحانه وتعالى.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ويقول: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى الله} [آل عمران:73].
فقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهتدي عمه أبو طالب ولم يقدر الله عز وجل ذلك فمات على الكفر، فقال الله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فهدى الله عز وجل من شاء من خلقه فدخل في دين رب العالمين سبحانه، كما هدى حمزة بن عبد المطلب والعباس، فهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عمه، ولكنه أضل أبا طالب، وأضل أبا لهب، فهدى الله عز وجل من شاء وأضل من شاء.
قال: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]، فقد يقول الإنسان: لماذا ربنا هدى فلاناً وفلاناً أضله؟ وهذا الذي أضله الله قد يراه البعض إنساناً طيباً ومهذباً، وإنساناً رقيقاً ولكنه لا يصلي، وقد نرى إنساناً آخر قد تكون فيه شراسة ونفور ولكنه يصلي؟ فنتأمل هذا الإنسان الذي على خلق، لماذا لا يصلي؟ فالصلاة نعمة عظيمة من نعم الله عز وجل، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وعلى الأقل هذا الإنسان إن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر وهو مصل فإنها تنفعه يوم القيامة، فهذا في قلبه كبر وإن أظهر للناس تواضعاً وأدباً، فإنه يستكبر على ربه سبحانه فلا يصلي ويقول: المهم القلب والمعاملة مع الناس!(176/3)
الهداية والإضلال راجعان إلى علم الله
قد ترجع إلى نفسك وتقول: الله أعلم بما في القلوب، فقد يكون الإنسان في المعاصي وفي الفجور، وفجأة يأتي عليه الهدى من الله عز وجل، ألم يهد الله عمر بن الخطاب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان على ما كان من أمر الجاهلية؟ وقد كان أراد أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام.
وقتل ابنته ووأدها يوماً من الأيام، فإذا بالله عز وجل يعلم من قلبه أنه يصلح للإيمان فهدى قلبه، فكان من أرق الناس على المؤمنين، ومن أخوف الناس لرب العالمين، وصار إيمان عمر يوزن بإيمان الأمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ف
الجواب
أن الهدى راجع لعلم الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قطع عليك التفكر في ذلك، ستقول لربنا: لماذا؟ يقول لك الله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، لا تتدخل في شيء ليس من حقك، ولا من إرادتك، ولذلك قال الله لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] إذاً غيره يسكت من باب أولى {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم لرقة قلبه أن يذهب ويزور قبر أمه عليه الصلاة والسلام فاستأذن ربه فأذن له، ولما وصل إلى قبر أمه حن لأمه عليه الصلاة والسلام فهي ماتت وله ست سنوات عليه الصلاة والسلام، وكانت رقيقة مشفقة عليه صلى الله عليه وسلم، ورأت رؤيا عظيمة أنه يخرج منها نور أضاء ملك كسرى وغيره، فهذه المرأة ماتت قبل الإسلام، فأحب أن يستغفر لها صلى الله عليه وسلم، فمنع من ذلك عليه الصلاة والسلام، فبكى بكاء شديداً صلى الله عليه وسلم، وبكى حوله الصحابة، وسألوه عما يبكيه عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنه استأذن ربه أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فمنع من ذلك.
إذاً: هنا الأمر ليس بيد الإنسان، إنما الأمر بيد الله وحده لا شريك له، ولذلك يقول الله عز وجل عن نبيه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:43 - 46] أي: لأخذناه أخذاً قوياً وعاقبناه عقوبة شديدة، وقطعنا نياط قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وحاشا له أن يتقول على الله رب العالمين تبارك وتعالى.
فإذا قيل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فمن من الناس يكون له درجة تقرب من درجته صلى الله عليه وسلم حتى يتألى على الله وحتى يتكلم على الله بما لم يقله الله رب العالمين، وحتى يعترض على قضاء الله عز وجل وقدره؟ قال تعالى: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أي: وهو أعلم بمن يستحق الهدى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يؤيد الإسلام بأحد العمرين عمر بن الخطاب أو أبي الحكم الذي هو عمرو بن هشام أبو جهل، ولكن الله يعلم أن عمر هو الذي يستحق ذلك، فهدى عمر، وأما عمرو فمات على كفره، وقتل في يوم بدر، وألقي ملعوناً في القليب.(176/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا)
قال تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57].
فالكفار لما رأوا الآيات وعرفوا الحق الذي جاء من عند رب العالمين، أرادوا أن يتعللوا من عدم دخولهم في هذا الدين، فتعللوا بأنهم خائفون، وقالوا: إن نتبع الهدى معك فإن العرب كلها ستأتي علينا في أرضنا وتقاتلنا، ونحن لا نقدر على قتالهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قائل ذلك من قريش هو الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف القرشي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لنعلم أن قولك حق، ولكن يمنعنا أن نتبع الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا.
يعني: لاجتماع العرب على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولا طاقة لنا بهم ولا نقدر عليهم.
فلما قالوا هذا الكلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عز وجل ما يبين لهم أين ذهبت عقولهم؟! وأي عرب ستأتي إليكم في أرضكم؟! قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57] أي: أنتم في الجاهلية كنتم أضعف الناس ولم يستطع أي أحد أن يأتي إليكم في مكة ويأخذ هذه الأرض، حتى أبرهة الذي جاء من اليمن بجنود لا حصر لها، وجاء بفيل يريد أن يهدم الكعبة ولم تقدروا له على شيء فخرجتم وتركتم مكة بما فيكم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وقام عبد المطلب يخاطب أبرهة عن إبل أخذها منه، وكان أبرهة كبره جداً، ونظر إليه أنه كبير مكة، وأنه جاء يفاوضه في أمر هدم الكعبة، فإذا بـ عبد المطلب يفاوضه في أمر إبله، فكأنه استقله فقال له عبد المطلب: إن الإبل أنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه.
وخرج أهل مكة ينتظرون ماذا سيكون، وجاء أبرهة بجنوده، وإذا بالفيل يتردد ويتراجع، فإذا بهم ينخسونه وهو يرجع مرة أو مرتين أو ثلاث مرات، ونزل العذاب من عند رب العالمين، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5] فإذا بهم يصيرون كطعام أكل وخرج من دبر الدابة، هكذا كان أمر هؤلاء الذين أرادوا أن يهدموا البيت وأن يذلوا أهل مكة.
فإذا كانوا في الجاهلية وهم يعبدون غير الله ويشركون بالله، قد دفع الله عز وجل عنهم الأذى، أيتركهم في الإسلام وهم الموحدون لله رب العالمين؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] أي: أليس نحن من فعلنا بهم هذا الشيء، فأين شكر هذه النعمة؟! وكيف لا يثقون في الله سبحانه وتعالى وهو الذي آمنهم من خوف وأطعمهم من جوع.
قوله: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] أي: ينقل إليه ويحضر إليه ويؤتى بهذه الثمرات إلى مكة، ومكة ليست بمكان زرع، ولكن الله عز وجل منّ على أهلها أن يجبى إليها الثمرات من كل مكان: من اليمن ومن الشام وغيرها، وتجد فيها فاكهة الصيف وفاكهة الشتاء.
{يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:57] أي: تأتي إلى هذا الحرم من كل أرض ومن كل بلد تأتي إليه هذه الثمرات، فإذا كان الله قد منّ عليكم بالأمان في الجاهلية وبالطعام الذي يؤتى إليكم من كل مكان، أفلا تشكرونه وتثقون فيه سبحانه وتعالى.
قال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ} [القصص:57] هذه قراءة الجمهور بالياء.
وقراءة نافع وأبي جعفر ورويس عن يعقوب: ((تجبى إليه ثمرات كل شيء)) بالتاء.
قوله تعالى: {رِزْقًا} [القصص:57] حال أي: حال كونها رزقاً من الله عز وجل، أو أنها تمييز فهذه الثمرات رزق من الله سبحانه وتعالى.
قوله: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] إذا نسب الرزق إليه سبحانه فمعناه أنه رزق عظيم جداً يتحير الإنسان فيه، فعندما يذهب الذاهب إلى هناك في أي وقت من الأوقات يجد الفواكه من كل مكان، وهذا من كرم الله على أهل هذه البلدة ببركة دعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ودعاء نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] أي: من عندنا.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] أي: لا يعلمون نعم الله عز وجل أنه الذي يعطي هذه النعم ويسوقها إليكم، وهو الذي يمنع عنكم النقم ويدفعها عنكم، فهو القادر سبحانه على كل شيء، ولكنهم نسوا كل ذلك.(176/5)
تفسير قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)
قال الله سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58].
أي: إذا كان الأمر على ذلك وأنتم تتكبرون عن دين رب العالمين، فلا تنسوا كم أهلكنا من قرى عظيمة.
والقرية معناها: المدينة، وصار عندنا العرف أن القرية بمعنى الريف، أما في لغة العرب ولغة القرآن فالقرية بمعنى البلد.
ولذلك فإن الله سبحانه تبارك وتعالى قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] يعني: من أهل البلدان.
قالوا: لأن أهل البلدان يتميزون عن أهل الريف وعن أهل البادية برقة الطباع؛ لأن البلد تجمع أناساً كثيرين، والإنسان مع احتكاكه بالكثير من الناس يكون أليفاً رقيقاً، ويعرف التخاطب مع هذا ومع هذا، وأما مع قلة العدد فيتعلم الإنسان النفور والجفاء ويتعلم الغلظة، ومع قلة العدد قد يترأس عليهم.
فلذلك كان في أهل البادية الغلظة وكانوا أجلافاً، ولكن أهل المدن فيهم رقة الطباع، فجعل الله عز وجل منهم المرسلين، ومنّ على أهل القرى أن جعل الأنبياء منهم.
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] والبطر هو: أن الإنسان يتكبر على نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيطغى بهذه النعمة، ويعطيه الله مالاً فيتكبر على الخلق، وينظر إلى نعمته أنه مستحقها، وأنه لا أحد مثله في هذا الشيء، فيطغى على الخلق ويستكبر عليهم.
فهذه القرى {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] أي: أغناهم الله وأعطاهم الرفاهية والغنى، فكان الواجب عليهم أن يعبدوا الله وأن يشكروه، ولكن بطروا، فلما بطروا أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58] أي: ديار الأقوام البائدة في كل بلد من البلدان صارت آثاراً لا يسكنها أحد، فتذهب إلى أسوان فترى آثار الفراعنة، ولا أحد يسكن في هذه الأماكن، والله عز وجل قال: {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} [القصص:58] أي: صارت الديار دياراً خربة، ليس فيها أحد.
وكذلك قرى عاد، وقرى ثمود، وقرى الفراعنة، وغيرهم ممن أهلكهم الله سبحانه، وترك مساكنهم لتنظروا وتعتبروا.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6 - 7] فالذي يذهب يجد قصوراً عالية، وأعمدة فخمة، وسقوفاً منقوشة، وأهلها كانوا في هذه الأماكن عمروها وعاشوا فيها ما شاء الله عز وجل، فلما استكبروا إذا بالعذاب يأتيهم من عند الله سبحانه، وكم من قرى قد غطتها الرمال، والآن ينقبون عنها فيخرجون قصوراً كاملة موجودة بداخلها، فضرب لنا الأمثلة بذلك حتى نعتبر.
قال تعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] أي: كنا نحن الذين ورثنا هذا كله ورجع إلينا ما أعطيناهم، وكذلك يرث الأرض ومن عليها، فليعمل الإنسان المؤمن بحق وبإخلاص؛ لعل الله عز وجل أن يجعله من أهل الجنة، وأن يمن عليه بنعمه سبحانه.(176/6)
تفسير سورة القصص [57 - 61]
أخبر الله تعالى عن عدله وأنه لا يهلك أحداً ظلماً، وإنما يهلك من يهلك بعد قيام الحجة عليهم، ثم أخبر تعالى عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة من النعيم المقيم، فعلى المؤمن ألا يحزن على هذه الدنيا الفانية، فلو كانت هذه الدنيا لها منزلة عند الله لأعطاها خير خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم.(177/1)
تأمين الحرم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:57 - 61].
ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كلام المشركين وعذرهم الكاذب في عدم دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جل شأنه: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57].
يعني: لن نؤمن لك لأننا معذورون، فلو آمنا بك لعادانا كل العرب، فلا نقدر على معاداتهم، فيتخطفوننا من ديارنا، وسينقلب علينا جميع العرب ويقتلوننا.
فقال الله سبحانه تبارك وتعالى مكذباً لهؤلاء: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص:57] أي: فمتى حصل لهم هذا الشيء؟! والعرب عادتهم في الجاهلية أن يغير بعضهم على بعض، ويأكل بعضهم مال بعض، ويغتصب بعضهم نساء بعض، وأهل الحرم قد عصمهم الله سبحانه وتعالى من هؤلاء وأجارهم منهم بأن جعل لهم حرماً آمناً بقضاء الله وقدره، وكذلك بشرعه سبحانه تبارك وتعالى.
فلم يحدث فيهم هذا الشيء الذي يزعمونه وهم على جاهلية وشرك، فهل يحدث ذلك وهم على التوحيد، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57].
فهاتان نعمتان من الله سبحانه تبارك وتعالى وهما من أعظم النعم عليهم، قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] أي: أمنهم من غيرهم من العرب فلا يقدر أحد أن يغزو ديارهم، وإن أراد إنسان أن يفعل ذلك قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم أطعمهم من جوع وأتت إلى بلادهم ثمرات الأرض من كل مكان، فهذه النعم تستحق منهم شكر الله عز وجل، لأنها من الله، قال تعالى: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57] أي: ليس بأيديهم، فليس هم الذين زرعوا، ولا يوجد مكان للزرع في مكة، ولكن رزقهم الله بأن ساق إليهم الثمرات من الشام واليمن ومن غيرهما ليأكلوا ويشكروا نعم الله سبحانه وتعالى.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
فهؤلاء الكفار ليس عندهم يقين في ذلك ولا لديهم عقول تهديهم إلى أن يتفكروا ويشكروا خالقهم سبحانه، فإذا كانوا كذلك فهم يستحقون عقوبة رب العالمين بأن يهلكهم، وليس هذا بغريب على أمر الله سبحانه، فإن من عصاه وعادى أولياءه قصمه الله سبحانه.(177/2)
البطر سبب لزوال النعم
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [القصص:58] ولن تكون هذه أول من يهلكها الله، فقد أهلك قبلها الكثيرين ولا شيء عزيز على ربنا سبحانه وتعالى، وإنما لكل شيء قدر.
لكن الله عز وجل يتركها يترك المؤمنين؛ لأنهم عرفوا نعمة الله وعرفوا لماذا خلقوا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فهم مخلوقون للعبادة فقط، فإذا نفذوا أمر الله سبحانه فالله يعصمهم ويمنعهم من أعدائهم ويجيرهم من عذابه سبحانه.
أما من عصى الله سبحانه وكفر به فإنه يستحق الهلاك، كما أهلك من كانوا قبله، قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58] أي: طغوا واستكبروا، فكان الله يعطيهم من النعم فإذا بهم يعلون على الخلق ويستكبرون بنعم الله سبحانه.
والإنسان إذا أعطاه الله نعمة فالله يأمره بشكرها، فإذا شكر فشكره لنفسه، فهو المستفيد وليس الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] فالعبد كلما شكر الله أعطاه الله مزيداً، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
وإذا كفر المخلوق نعم الله عز وجل أهلكه الله، قال تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] وقال سبحانه تبارك وتعالى: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58] والسبب في الإهلاك أنهم بطروا.
والبطر: الطغيان والاستكبار على الخلق، وهو: أن الإنسان لا يعترف بالحق، فكأنه يرفض الحق ويستكبر على الخلق ويستصغر الناس، فالله عز وجل يحقر هذا الإنسان ويهلكه، قال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا} [القصص:58].
أي: صارت مساكنهم آثاراً ينظر إليها الناس ويتعجبون من أحوال هؤلاء الذين كفروا فدمرهم الله سبحانه الذي يرجع إليه الأمر، قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210].
وقوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40].(177/3)
تفسير قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً)
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص:59].
فالله أهلك الظالمين، ولا يظلم ربك أحداً.
ولا يهلك الله قرية كافرة حتى يبعث فيها رسولاً يدعوهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [القصص:59].
أمها أي: أم القرى وأعظم القرى وهي مكة، والقرية معناها: البلد العظيم، مأخوذة من القري بمعنى: الجمع، يعني: البلد الذي يجتمع فيه ناس كثيرون.
فأم القرى وأعظم البلدان هي مكة، فهي وسط العالم كله وسرة الأرض؛ ولذلك بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البلدة العظيمة، والأنبياء كلهم كانوا في الشام.
فإبراهيم هاجر من العراق إلى الشام، وبنى الكعبة في مكة ولم يعش فيها، والذي عاش في مكة هو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكذلك محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهو الرسول الوحيد من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي عاش في أم القرى مكة.
وكل الأنبياء حجوا إلى بيت الله الحرام، لكنهم لم يكونوا مقيمين في مكة، إنما نبينا فقط صلى الله عليه وسلم الذي بعث إلى الخلق جميعهم من أصل أم القرى ومن أعظم بلدان الدنيا وهي مكة.
وقوله تعالى: ((فِي أُمِّهَا)) قرأ الجمهور بهمزة القطع، وقرأها حمزة والكسائي وصلاً.
فلا يهلك الله سبحانه تبارك وتعالى بلداً من البلدان ولا يعذب أهلها إلا بسبب من أنفسهم، أي: بما كسبت واقترفت أيديهم وبسبب ظلمهم، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].(177/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا)
قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص:60].
(وما) هذه للعموم، يعني: مهما أوتي الإنسان في الدنيا من مال أو بنين أو صحة أو عافية أو غير ذلك من نعم الله عز وجل، فإنها متاع قليل للدنيا، ثم في النهاية يتركها الإنسان ويصير إلى التراب، ثم يرجع إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى.
وقوله سبحانه وتعالى: {فَمَتَاعُ} [القصص:60] أي: تستمتعون به مدة قليلة، والإنسان لا يدري كم يعيش في هذه الدنيا؟ فإذا عاش وعمر فيها وظن أنه أخذ من متاع الدنيا وأنه طال عمره، أتاه الموت، فيتفكر في السابق من عمره وكأنه شريط أحلام يمر برأسه إذا نام ثم استيقظ فيه على الدار الآخرة.
فسواء طالت الدنيا بالإنسان أم قصرت فلابد أن تنتهي، فهي متاع قليل.
وقوله تعالى: {وَزِينَتُهَا} [القصص:60] أي: زينة لهذه الحياة الدنيا، تستمتعون بها وتزول بعد ذلك، لكن الذي عند الله هو خير وأفضل من كل ما في هذه الحياة الدنيا، قال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60].
وهنا إشارة إلى أن ما في الدنيا فإنه يزول، فالدنيا لا تبقى أبداً، أما الدار الآخرة فهي الباقية؛ ولذلك عبر الله عنها بقوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] والحيوان بمعنى: دار الإقامة الدائمة والحياة الحقيقية، أما الدنيا فهي إلى زوال لا تدوم.
ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] أي: لا يفنى ولا يزول، وقوله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60] أي: أفلا تتفكرون فيما خلقكم الله عز وجل من أجله فتعبدون الله حتى تنالوا هذا النعيم المقيم.
وقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) هذه قراءة الجمهور.
وقراءة الدوري عن أبي عمرو وقراءة السوسي: أفلا يعقلون بضمير الغائب.(177/5)
تفسير قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لا قيه)
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61].
يعني: لا تبتئس أيها المؤمن بما ضاع منك من الدنيا ولا تحزن على فواتها، فإنه لا يستوي المؤمن مع الكافر، فمهما آتاه الله في الدنيا من مال وبنين ونعم فهذا كله إلى زوال، أما المؤمن فإن له النعيم المقيم عند رب العالمين، ولو كانت الدنيا لها منزلة عند الله لأعطاها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما نام على حصير يؤثر في جنبه صلى الله عليه وسلم، ولما ربط الحجر على بطنه من شدة الجوع صلوات الله وسلامه عليه.
ولو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئاً ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مجاهداً بيده وبلسانه صلوات الله وسلامه عليه حتى جرح ووقع في حفرة فخرت ثناياه صلوات الله وسلامه عليه وتأثر في ساقه عليه الصلاة والسلام ولم يستطع المشي إلا أن يحمله من معه عليه الصلاة والسلام.
وهكذا فإن الدنيا لا تساوي عند الله شيئاً؛ ولذلك مهما كان فيها من كد وهم وغم وتعب فإن هذا يزول، ومتاع الدنيا قليل، فلا يحزن المؤمن عليها.
كان عمر يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل مرة فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في غرفة فارغة ليس فيها شيء إلا سرير عليه حبال، والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على هذه الحبال التي على السرير فأثرت فيه صلى الله عليه وسلم؛ لعدم وجود فراش على السرير، ورأى جلد شاة مدبوغ معلقاً في هذه الغرفة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما نظر عمر في الغرفة ولم يجد شيئاً يرد البصر، تأثر رضي الله عنه وقال: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لديك شيء، وكسرى وقيصر في القصور ولديهم الذهب والفضة.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ليطمئنه: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم)، أي: لا تغضب على هذا الشيء، فهو على ما هو فيه صلى الله عليه وسلم راض بهذا الشيء، ومنشرح بهذا الأمر، فإنه في نعمة من الله سبحانه وتعالى وهي نعمة الإيمان.
فالإنسان المؤمن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمهما رأى غيره من أهل الكفر قد نالوا من الدنيا فلا يحزن ولا يبتئس، فإن ما له عند الله عز وجل أعظم بكثير من الدنيا.
قال تعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا} [القصص:61] أي: الجنة وعدناها المؤمنين، وقوله تعالى: {فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص:61] فالمؤمن ملاق هذا الوعد من الله يقيناً، فهل يستوي هذا مع من متعناه متاع الحياة الدنيا؟! فكلاهما يعيشان في الدنيا ويأكلان، فالكافر يأكل أحلى الأطعمة، والمؤمن يأكل دون ذلك، وفي النهاية يصير الاثنان تراباً، ثم يبعثان إلى الله، فهل يستويان في الآخرة؟! فالمؤمن له جنة النعيم، والكافر له عذاب الجحيم، فلا يستويان، يقول سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] فكلمة متاع فيها تحقير للحياة الدنيا، ثم يؤتى به للعذاب وللسؤال ويكون من أهل النار، قال تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61] وهذه أيضاً فيها قراءتان: قراءة الجمهور بضم الهاء في كلمة هو: (ثم هُو يوم القيامة من المحضرين).
وقراءة قالون وأبي جعفر والكسائي بتسكين الهاء فيها.(177/6)
تفسير سورة القصص [62 - 68]
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حال الكفار يوم القيامة حين لا تنفعهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله تعالى، وحين يتبرأ بعضهم من بعض، وذكر تعالى أنه يسأل الكافرين عن طاعتهم لرسل الله في الدنيا فلا يستطيعون أن يجيبوا ربهم عن هذا السؤال، وذكر أنه تعالى هو الذي يختار رسلاً من خلقه ويصطفيهم، فهو صاحب الخلق والأمر سبحانه وتعالى.(178/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ * وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:62 - 68].
يخبرنا ربنا تبارك وتعالى في هذه الآيات عن يوم القيامة وسؤال الله عز وجل خلقه عما عملوا في هذه الدنيا، فيسأل المؤمنين فيحاسبهم حساباً يسيراً، ويسأل الكافرين المشركين ويحاسبهم حساباً عسيراً، فيسأل الله عز وجل المشركين ويناجيهم: {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62].
كانوا في الدنيا يعبدون مع الله آلهة أخرى ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] فإذا جاءوا يوم القيامة فسئلوا وسئلت الآلهة وتبرأ بعضهم من بعض فهنا يسألهم الله عز وجل قائلاً: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] أي: الذين كنتم تفترون وتقولون بأفواهكم الكذب على الله سبحانه، فأين زعمكم وكلامكم عن هذه الآلهة؟ فيتكلم هؤلاء الكفار يوم القيامة فيتبرأ بعضهم من بعض، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص:63] أي: حقت عليهم كلمة العذاب، وحق عليهم قول ربنا أنهم في النار، وهم رؤساء المشركين، فقالوا: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] فعرفوا ربهم في يوم القيامة فقالوا له: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63] وأصلها: هؤلاء الذين أغويناهم، فيشيرون إلى أتباعهم الضعفاء، فكبار المشركين يتكلمون عن صغارهم فيقولون: ربنا هؤلاء الذين أضللناهم وأبعدناهم عن طريق الهدى، أغويناهم كما غوينا نحن وضللنا عن الطريق.
وفي الدنيا الإنسان المؤمن يتذكر ذلك، ويعلم أنه مستحيل أن يكون الإنسان غاوياً ثم يهدي إنساناً آخر، فالضال لا يهدي إنساناً أبداً، كذلك الكافر لا يدل المؤمن على الخير أبداً، ولا يثق المؤمن في الكافر، وربنا يخبر باعترافات هؤلاء الكفار يوم القيامة.
فالكافر لا يتمنى خيراً لغيره، والضال العاصي لا يحب لغيره هداية؛ لأنه لا يريد أن يكون أحد أفضل منه، فلذلك يدعو صاحبه إلى الضلال، والكافر يدعو الإنسان إلى كفره، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فأهل الكفر والشرك لن يرضوا أبداً عن أهل الإيمان حتى يضلوهم ويجعلوهم يزيغون عن طريق الله سبحانه، فقالوا يوم القيامة معترفين: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} [القصص:63]، أي: أضللنا {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] أي: طلبنا لهم الغواية، والبعد عن الرشد، وطلبنا لهم الضلال وأخذناهم معنا في طريق الضلال، والآن يا ربنا تبنا وتبرأنا إليك فإنهم ما كانوا يعبدوننا، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166] فيوم القيامة كبار الكفار وصغارهم يتبرأ بعضهم من بعض.
وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا أنتم أضللتمونا عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ألم تغوونا وتبعدونا عن طريق ربنا؟! فالصغار يرمون بالتهمة على الكبار، والكبار تبرءوا وقالوا: نحن أضللناكم، لكن أما كان لكم عقول تفكرون؟ فانظر إلى حديث الكفار يوم القيامة واعتبر من الآن في الدنيا بما يفعله الناس بعضهم مع بعض يوم القيامة مهما كانت بينهم روابط في الدنيا وأسباب، فإنه يتبرأ بعضهم من بعض.
يقول الله عز وجل: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} [القصص:63] يعني: مما كان يفعل هؤلاء معنا، ما كانوا إيانا يعبدون.(178/2)
تفسير قوله تعالى: (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم)
قال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ} [القصص:64].
أي: ادعوا آلهتكم وادعوا الذين كنتم تستعينون بهم في الدنيا، فدعوهم، فهل أجاب أحد أحداً؟ فيبرأ يوم القيامة بعضهم من بعض، فدعوهم يطلبون منهم أن يدافعوا عنهم، فلم يستجيبوا لهم ولم يردوا عليهم، ورأوا العذاب ماثلاً أمام أعينهم فيقولون: يا ليتنا كنا اهتدينا وعرفنا طريق الله سبحانه تبارك وتعالى فاتبعناه.
وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} [القصص:64] أي: لو اهتدوا ما وصلوا إلى هذا الذي وصلوا إليه، فيتحسرون يوم القيامة فيقولون: يا ليتنا اهتدينا وما ضللنا عن سبيل الله سبحانه، فهذا كأنه من كلامهم، أو أنه من كلام ربنا سبحانه وتعالى أن هؤلاء لو كانوا اهتدوا ما وصلوا إلى ما هم فيه الآن.(178/3)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين)
قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].
يوم: منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكر يوم يناديهم ربهم سبحانه.
{فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] أي: كيف أجبتم هؤلاء المرسلين؟ هل اتبعتم الحق أم ضللتم عن سبيل الله؟ وبأي شيء أجبتموهم؟ قال تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66].
الكفار في الدنيا لديهم ألسنة يجيدون بها الكلام، ويجيدون المدافعة بالباطل والزور، أما عند الله فلا ينفع هذا الكلام كله، فلما وقفوا أمام ربهم عميت عليهم الأنباء وخفيت عليهم الحجج وضاع عنهم ما كانوا يقولونه، فلم يقدروا أن يجيبوا على كلام ربنا سبحانه وتعالى، فقالوا لله سبحانه وتعالى: تبرأنا من عبادة هؤلاء فينا.
فيقول سبحانه: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ} [القصص:65 - 66] أي: خفيت عليهم الحجج، وضاع عنهم الزور الذي كانوا يقولونه في الدنيا.
قال تعالى: {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص:66] أي: لا يسأل بعضهم البعض عن شيء، قد أخرسوا في هذا الوقت فلا يقدرون على الكلام.
وفي الآية الأخرى {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] فكأنهم لا يعرفون أن ينطقوا بحجة، أو أنها مواقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، ففي حين يُختم على أفواههم فلا يقدرون على الكلام، فإذا تكلموا حاولوا الهرب فقالوا لربهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].(178/4)
تفسير قوله تعالى: (فأما من تاب وآمن)
قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].
التوبة شرطها أن يرجع الإنسان إلى ربه سبحانه، ويبدل ما كان في عمله من سيئات إلى أعمال صالحة حسنة.
والتائب هو الذي تاب عن كفره، ودخل في الإيمان وعمل صالحاً، وتاب عن ظلمه وآمن وازداد يقيناً وعمل العمل الصالح، قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67].
أي: عساه عند الله عز وجل أن يجعله من المفلحين، فمناه الله سبحانه بذلك، ووعد الله حق وكلامه صدق.
فمن أتى بهذه الشروط أي: تاب وآمن وعمل صالحاً، يكون من المفلحين، ولماذا قال الله: (عسى) وما قال (يقيناً) ولاقال: (هؤلاء هم المفلحون)؟
و
الجواب
كم من إنسان يظن أنه تائب إلى الله عز وجل ويقول ذلك في نفسه، وقد يخدع الإنسان نفسه، وعلى باله أنه لو عرض له هذا الذنب في يوم من الأيام فإنه سيعمله مرة ثانية، فالتوبة لا تكون صحيحة في قلب الإنسان إذا عجز عن الوقوع في المعصية ثم قال: تبت إليك يا رب، وكذلك إذا لم يقدر على مواجهة أهل الإيمان فيقول: أنا تبت وأسلمت ودخلت في الدين، لكن في قلبه الشك والنفاق ولعله يقع في الكفر بعد ذلك.
فالله عز وجل يتكلم عن الجميع وفيهم المؤمنون الصادقون والمنافقون الذين يظهرون الطاعة ويبطنون المعصية، فيقول: عسى أن يكون هؤلاء من المفلحين.
فأما من آمن حقاً ظاهراً وباطناً فهذا مفلح يقيناً، وأما من آمن في الظاهر أمام الناس ولم يصدق ذلك بقلبه فإنه يوم القيامة يكون مع المنافقين.
إذاً: المفلحون هم الفائزون، والفلاح: الفوز الأبدي والنجاح الذي لا خسران بعده أبداً.(178/5)
تفسير قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار)
قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
يرد الله على هؤلاء المشركين وفيهم الكبار والصغار، فصغار المشركين ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه على أنهم ليسوا أفضل من الذين معهم، وكبار المشركين ينظرون إليه حسداً لماذا جاءت إليه هذه الرسالة، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فكانوا يتمنون لو نزل هذا القرآن عليهم، وهذا منهم حسد للنبي صلى الله عليه وسلم.
وعظيم مكة عند المشركين هو الوليد بن المغيرة، وكان من أعلمهم في الكلام والفصاحة واللغة العربية المتينة والشعر والخطابة، وكان من أغناهم، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى ذكر هذا الرجل فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16].
فقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] فيها معنيان: المعنى الأول متفرداً في الناس بهذا الذي عنده من غنى مال ومن أولاد وقوة، ومن رئاسة في قومه، وكان المفترض عليه أن يعرف الحق فيتبعه، وخاصة أنه هو الذي قال عن هذا القرآن العظيم: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، والذي منعه من الإيمان بالله ورسوله هو كبره وحسده وقول بعض الكفار له: قل في هذا القرآن شيئاً لعل الناس يتبعونك، ولما أصروا عليه بدأ يفكر، قال تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ} [المدثر:18 - 19] أي: لعنة الله عليه، {كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:18 - 23] وفي النهاية قال لهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] فالله عز وجل ذكر ما قاله هذا الرجل عن هذا القرآن بأنه سحر، وهو يعلم في نفسه أن هذا مستحيل أن يكون سحراً.
والمعنى الثاني: ذرني وإياه وحده، فسيأتي إلينا يوم القيامة لوحده وليس معه لا مال ولا بنون ولا شيء.
فالمراد بالرجل العظيم في القريتين هو عظيم قريش الوليد بن المغيرة، أو عظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي، فكان يقول الكفار: لماذا لم ينزل القرآن على أحدهما وأنزل على النبي صلى الله عليه وسلم؟! فالصغار نظروا إلى هؤلاء الكبار أنهم الأحق في نزول القرآن عليهم، والكبار نظروا بحسد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك يذكر عنهم الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] أي: يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله سبحانه وتعالى من فضله.
وصغار المشركين يخاصمون كبراءهم فإذا كان يوم القيامة: {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:31 - 32] أي: أنتم الذين كنتم مجرمين في الدنيا.
ففي الدنيا قد كان يدافع بعضهم عن بعض ويفدي بعضهم بعضاً بنفسه وروحه.
ويوم القيامة يبرأ بعضهم من بعض، فالكبار يخاصمون الصغار، والصغار يتهمون الكبار أنهم السبب في ذلك، ويرد عليهم الكبار أنهم كانوا مجرمين وكانوا في بعد عن الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ:33] أي: نظروا العذاب أمامهم فأسروا في أنفسهم الندامة، وأظهروا الحسرة والبكاء حين لا ينفعهم بكاء ولا حسرة، فكان الشقاء الأبدي على هؤلاء.
قال الله عز وجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ويختار} [القصص:68] تفرد الله بالخلق سبحانه، وهو يأمر بما يشاء، فهو المتفرد بالأمر وبالشرع قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] وهو وحده الذي يخلق ويأمر.
إذاً: الشرع لا يكون إلا من عنده سبحانه وتعالى وهو الذي خلق العباد، وهو الذي يعرف ما الذي ينفعهم وما الذي يضرهم، لذلك شرع لهم الشريعة العظيمة التي نزلها في كتابه وفي سنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: ربك يخلق ما يشاء من خلقه، ويختار من هؤلاء الخلق من يصطفيه، فاختار محمداً على هؤلاء جميعهم، ففضله صلوات الله وسلامه عليه، والكفار كانوا يريدون أن ينزل القرآن على رجل من القريتين، ولكن الله اختار النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون رسولاً، وهذا وهب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ولا حاجة لأن يظل الإنسان يتعبد إلى أن ينزل عليه الوحي فيكتسب ذلك بعبادة الله، فهذا اختيار من الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوفيق من الله لمن يريده، فيقطع عن الناس التمني فلا يتمنى الإنسان أن يكون رسولاً أو نبياً، إنما هذا وهب من الله لمن يشاء، فالله يخلق ما يشاء ويختار من يريد سبحانه.
وقوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] أي: ليس الاختيار للخلق، ولا لهؤلاء الذين يريدون أن ينزل القرآن على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود.
فـ (ما) هنا نافية على قول جمهور المفسرين، ومعنى الآية: ليس لهم من الأمر شيء كما قال الله سبحانه تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] وكما قال الله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
إنما الاختيار إلى الله عز وجل، لذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الاستخارة حين نقدم على عمل من الأعمال، فهو الذي يختار لنا الخير سبحانه وتعالى.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(178/6)
تفسير سورة القصص [68 - 73]
الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم، فهو الذي يعلم من يكون أهلاً للرسالة والنبوة، فليس الاختيار في ذلك للبشر، فإن ألوهيته تستلزم أن يكون له الحكم والأمر.
ومن دلائل ألوهيته التأمل في عظمة حكمته في خلق الليل والنهار، وما ينتج عنهما من ضياء أو سكون.(179/1)
يخلق الله ما يشاء ويختار
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:68 - 71].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أنه هو وحده الذي يخلق سبحانه تبارك وتعالى، وأن هو الذي يختار وأنه له الخلق وله الأمر كما قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فهو الذي يخلق، وهو الذي يأمر، وهو الذي يشرع لعباده؛ لأنه أعلم بما في نفوسهم.
قال: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) أي: من خلقه سبحانه (ويختار) من يشاء من هؤلاء الخلق ليكونوا رسلاً وأنبياء، فأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام أولياء الله اختارهم واجتباهم واصطفاهم، وجعلهم الخيرة من خلقه، فقال: (رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ).
وكان المشركون قد اعترضوا على كون النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً من رب العالمين، وقالوا: هلا جعل الله هذه الرسالة لرجل من القريتين عظيم، قال تعالى: {وَقَالوُا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فقال الله عز وجل رداً عليهم: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ) أي: ليس لهم الاختيار في ذلك، إنما هو من الله عز وجل يختار من يشاء، ويجتبي ويصطفي من يريد.
{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أي: تنزيهاً له سبحانه عن شرك هؤلاء المشركين، وعن إراداتهم الباطلة، فهم يريدون أن يفطئوا نور الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريدون أن يكون الدين بالتشهي والهوى، فسبحان الله وتعالى الله عما يقول هؤلاء الكافرون.(179/2)
تفسير قوله تعالى: (وربك يعلم ما تكن صدورهم)
{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]، وأنه قد تكن صدورهم أشياء وقد يعلنون بها، وقد يعلنون بغيرها، فربك أعلم هل يتوافق ما تكن صدورهم مع ما يقولون بألسنتهم أم أنهم يضمرون شيئاً ويظهرون غيره؟ وكم فضح الله سبحانه وتعالى الكفار والمنافقين في كتابه بأنهم يسرون أشياء ويظهرون غيرها، ويظهر الله عز وجل أن هذه الأشياء التي يظهرونها ليست هي حقيقة الأمر، فيكرهون البنات ويظهرون أمام الناس أنهم يحبون البنات؛ لكون البنت تجلب العار على أبيها، هذا كلامهم وهذا باطلهم، والله عز وجل يفضحهم سبحانه أنهم يفضلون البنين على البنات؛ لكونهم يخافون من ضيق الرزق، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31]، ويقول {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151].
كانوا يئدون البنات، والسبب في ذلك خوف الفقر، وأن البنت لا تقاتل ولا تجلب الرزق في ظنهم، فكان أحدهم يقتلها ليتخلص منها، ويظهر أمام الناس أنه ليس خائفاً من الفقر، ولكنه يخاف أن تكبر البنت وتقع في الفحش وغيره، ففضحهم الله عز وجل فيما أضمروا في قلوبهم، وأظهر سبحانه وتعالى هذا الذي يضمرونه.
وكذلك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: كذاب، ويقولون: ساحر، ويقولون: مجنون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن، فإذا بالله يظهر ما يبطنون، ويقول: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33]، أي: في حقيقة الأمر وفي قلوبهم هم يعلمون أنك صادق ولست كاذباً: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
والجاحد: هو الذي يعرف الشيء ثم يكذبه، ويكذب الشيء وهو في نفسه يعلم أن هذا هو الحق، فالله عز وجل يفضح ما في قلوبهم يقول له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام:33] وإن كانوا بألسنتهم يقولون ذلك، لكن الحقيقة أنهم يضمرون في قلوبهم أنك صادق، ولكن الغيرة والحسد للنبي صلى الله عليه وسلم تدفعهم إلى أن يقولوا عنه: كذاب ويقولون: مجنون، ويقولون غير ذلك، فالله عز وجل يقول: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69].
أيضاً كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: سل ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فإن فعل ذلك آمنا به.
والله يعلم أنهم لن يستجيبوا، ولم يفعل ولم يحول لهم الصفا ذهباً، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره ربه سبحانه أنهم لن يؤمنوا {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:97]، فيخبر الله عز وجل أن فرعون ومن معه طلبوا الآيات ولم يؤمنوا بها، وجاءتهم الآيات مبصرة من عند رب العالمين فكذبوا بها، وهؤلاء القوم قد أظهر الله حقيقتهم وقد فضحهم وقد كذبهم فيما يقولون، فربك أعلم بما تكن صدورهم وما يعلنون.
وكذلك كل إنسان كافر يقول: إنه لا يعرف إلهاً، أو إن الصدفة هي التي أوجدته مثلاً، فإن الله يكذبه ويقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، سواء أظهروا ذلك بألسنتهم أم أخفوا ذلك، فهم في قلوبهم يعلمون أن الخالق الواحد هو الله تبارك وتعالى، وأنه هو الذي يخلق وهو الذي يرزق، لذلك على المؤمن أن لا يهتم بقول الكافر بأنه لا يوجد إله، فالمؤمن يعرف أنه كذاب؛ لأن الله شهد عليهم أنهم يعرفون ذلك.(179/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد)
يقول الله سبحانه: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70].
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) قد عبر الله بلفظ الرب وبلفظ الإله، فله الربوبية وله الإلهية، هو الرب الخالق، وهو الإله المعبود تبارك وتعالى، وهو الله المستحق للعبادة، فلا يستحق العبادة إلا من كان يخلق، والخالق سبحانه هو الرب، والرب هو من يختار ويريد ويشرع تبارك وتعالى، ولا يستحق العبادة إلا من كان يعلم السر وما هو أخفى من السر، وهو الله المعبود المستحق للعبادة.
(لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي: فلا يستحق العبادة غيره تبارك وتعالى، ولا معبود بحق إلا هو.
(لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ)، فإن الله يُحمد في الدنيا وفي الآخرة، أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله تبارك وتعالى بمحامد عظيمة يقولها كما جاء في الحديث: (ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، فالله سبحانه هو المستحق للمحامد جميعها، وقد حمد نفسه تبارك وتعالى في كتابه.
والحمد معناه: الثناء بالصفات الجميلة التي له سبحانه وتعالى، فله الحمد قبل أن يخلق، وله الحمد بعدما خلق، وله الحمد قبل أن ينزل الكتاب، وله الحمد بعدما أنزله، وقبل كل شيء وبعده؛ له الحمد سبحانه لأنه يستحقه، فله الحمد أولاً وآخراً.
(وَلَهُ الْحُكْمُ) بعد أن ذكر لنا في هذه الآيات ربوبيته التي مقتضاها أنه يخلق، وأنه يرزق، وأنه يصطفي ويجتبي ويختار، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وذكر لنا من صفاته أنه يعلم الغيوب سبحانه، ويعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وذكر لنا أن له الحكم وحده تبارك وتعالى، فهو يختص به كما اختص بالخلق ولا أحد يجادل في ذلك ويقول إن الخالق غير الله سبحانه وتعالى؛ فكذلك له الحكم وليس من حق أحد أن يشرع مع الله، ولا أن يلغي حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يقول إن من حقه أن يحكم مع الله سبحانه، فإن الله تعالى له وحده الحكم وإليه المرجع والمصير.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فالمرجع إلى الله تبارك وتعالى، وهنا يخبرنا عن صفاته لنعرف الله سبحانه، ولم يترك المعرفة لنا في أن نفكر ونؤلف ونقول: من صفاته كذا وكذا، ولكنه أخبرنا عن نفسه، وأخبرنا عن صفاته، وأخبرنا كيف نعبده سبحانه وتعالى، ولم يترك ذلك لأهوائنا.(179/4)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً)
قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71].
قوله: (أَرَأَيْتُمْ) أي: أخبروني عن هذا الأمر.
قوله: (إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
أي: لو كان ربنا جعل عليكم الليل سرمداً دائماً على وجه الأرض، فمعنى ذلك أن الأرض لن تدور، وستظل ثابتة في مكانها، فالأرض تدور حول نفسها خلال 24 ساعة، فيأتي عليها الليل والنهار، فالوجه المقابل للشمس يكون نهاراً، والوجه الآخر يكون ليلاً، فدوران هذه الأرض يجعلها تتعرض لشروق الشمس ولغروبها، فلذلك تقوم الحياة على الأرض، وتأتي طاقة من حرارة الشمس للأرض، فيعيش الناس.
فتأملوا لو جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة، ماذا سيحصل إذا لم تأت الشمس إلى هذه الأرض؟ ستكون الأرض فيها الثلوج وتنخفض الحرارة، فيموت الخلق، فالله عز وجل لطيف ورءوف ورحيم بعباده سبحانه.
يقول: تفكروا لو جعلنا عليكم الليل سرمداً، وانظروا إلى الكواكب حول هذه الشمس القريبة منها والبعيدة منها، فهي لا تصلح للحياة، ولكن جعل الله هذه الأرض صالحة للحياة، فجعلها في هذا المكان، وجعلها تدور، فليتأمل الإنسان في بديع قدرة الله سبحانه وتعالى، فإن الأرض في مدار تجري حول الشمس، وتدور حول نفسها، ولو قرب المدار قليلاً حول الشمس لاحترقت الأرض ومن عليها، وبعض الكواكب التي في المدارات القريبة من الشمس قليلاً تصل الحرارة فيها إلى خمسمائة درجة مئوية، أو أربعمائة وستين درجة مئوية، فمن يطيق ذلك؟! وكذلك لو بعدت الأرض عن الشمس لأصبحت الأرض كوكباً جليدياً لا توجد عليها حياة.
(سَرْمَدًا ً): دائماً إلى يوم القيامة.
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ)، أي: لو جعلها مظلمة على العباد، من إله غير الله يأتيكم بضياء، فعلى الإنسان أن يعلم أن النفس الذي يتنفسه من الأشياء الضارة، مثل ثاني أكسيد الكربون، فيجعله الله نفعاً لغيره، فيأخذه النبات بالنهار، ويخرج الأوكسجين لكي تتنفسه أنت، والذي يتسبب في ذلك هي الطاقة الشمسية وضوء الشمس مع الأوراق الخضراء التي في النبات، فلو أنه كان مظلماً، فسيتنفس النبات ما تتنفسه أنت، وكل ما على الأرض سيتنفس كما يتنفس الإنسان فتتلوث الأرض من نفس الإنسان، فمن إله غير الله يأتيكم بهذا الضياء الذي بسببه تتنفسون؟ وبسببه ينظر بعضكم إلى بعض، وتستفيدون من ضوء الشمس في كل شيء من فضل الله ومن رحمته.
(أَفَلا تَسْمَعُونَ)، فلو كان الأمر دنيا مظلمة فليس معك إلا السمع، فلن ترى شيئاً، فاسمع لما نقول لك وافهم هذا الذي نقوله، فناسب ما ذكر من ظلمة ذكر السمع، ولم يقل: (أفلا تبصرون) وإنما قال: (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي: لهذا الذي نقوله.(179/5)
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً)
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:72].
أي: إذا صار النهار سرمداً على الأرض جميعها، فسترتفع درجة الحرارة، وتذوب الثلوج الموجودة، فتغرق الأرض كلها.
(مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ).
أي: من يجعل الليل سكناً تنامون فيه، ومعلوم أن الإنسان لا يستريح إلا بالنوم في الليل، فالليل جعله الله عز وجل سكناً للإنسان، ولذلك لو أنه ينام في النهار ويستيقظ بالليل تتعب أعصابه ويمرض في النهاية، ولكن جعل الله عز وجل هدوء الليل وظلمة الليل للإنسان راحة يستريح بها، فيقول الله سبحانه: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ).
والسكون: عكس الحركة، فلو نام الشخص في وقت الظلمة أربع ساعات لكفت أن يستريح ويقدر على العمل بعد ذلك، ثم ينام بعد ذلك بالنهار ثلاث ساعات أو ساعتين، ولكن لو أنه نام ست ساعات في النهار لا تكفيه؛ لأنه يحتاج إلى النوم في الظلمة، ويحتاج إلى النوم في الليل، فجعل الله الليل للعباد سكناً، وجعل طبيعتهم تتوافق مع ذلك، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
(أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي: أفلا تبصرون في ضوء النهار ما يجعله الله عز وجل من آيات ترونها.
قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، أي: جعل الله لكم الليل تسكنون فيه، والنهار تبتغون من فضله وتنتشرون.
(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وكأن هنا شيئاً مضمراً أي: تشكرونه على نعمة الليل والنهار، وجعل لكم ذلك لتطلبوا رزق الله عز وجل، وتسعوا في الأرض، وتأخذوا حظوظكم ونصيبكم، وتشكروا ربكم سبحانه على ما أنعم عليكم من نعم، والمؤمن يشكر ربه سبحانه ويحمده حمداً يليق به سبحانه، وشكراً يليق بإنعامه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(179/6)
تفسير سورة القصص [73 - 77]
يجمع الله الناس يوم القيامة، فيسأل المشركين عن شركائهم، ثم يستشهد عليهم بأنبيائهم الذين أرسلوا إليهم، فيسكت الكفار وتقوم عليهم الحجة.(180/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون)
قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:74 - 77].
في هذه الآيات من سورة القصص يخبرنا الله عز وجل عن رحمته بعباده كما يذكرنا بيوم القيامة، ويضرب لنا مثالاً لنعتبر ونتعظ به، فهذا إنسان قد آتاه الله عز وجل من الدنيا متعاً ومتعه، فجحد ولم يشكر نعم الله، وظن أن هذا لفضله وأنه بذكائه أوتيه وعلمه.
فقال الله سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، فبعد أن ذكر بنعمه العظيمة من جعل الليل محلاً للسكون والنهار محلاً لطلب المعاش وجعلهما متعاقبين {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الحج:66]، فينام الإنسان ويتذكر نعمة الله عز وجل عليه بالنوم، إذ لو استمرت يقظته أياماً لتعب ولم يقدر على العمل، وقد يموت من عدم النوم.
لكن من رحمة رب العالمين أن جعل الإنسان ينام فيستريح، فكان النوم له سباتاً أي: راحة وانقطاعاً عن الدنيا، وهو مأخوذ من السبت، والسبت: القطع، والنوم هو الموتة الصغرى، ويري الله عز وجل الإنسان آياته بهذا النوم الذي يحتاجه المرء ويفتقر إليه، وهو الغني عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربنا سبحانه: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط، يرفع ويخفض) فهو الحي الذي لا يموت، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الآية ما يفيد أن الإنسان قد يسكن بالنهار وإن كان سكونه في الليل أكثر، إذ فيه السكون وفيه الدعة والراحة والطمأنينة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، أي: حصل على الدنيا جميعها، فمهما كان عند الإنسان من شيء يجد نفسه لا يحتاج إلى شيء طالما عنده هذه الأشياء.
قوله: (بات) أي: جاء عليه الليل وهو في بيته.
قوله: (آمناً في سربه) أي: لا يزعجه أحد في شيء، ولا يطلب أحد منه شيئاً، ولا يقتحم أحد عليه بابه ويخيفه ويزعجه.
(معافى في بدنه) قد أعطاه الله نعمة العافية فقدر على النوم.
أما المريض ففي سهاد لا يقدر على النوم يظل يتأوه، طوال ليله، متعب يشكو عدم قدرته على النوم، فإذا أعطاك الله عز وجل السكن، وأعطاك الأمن، وأعطاك العافية، ومن عليك بقوت هذا اليوم، فلا تنظر إلى الغد لعلك لا تعيش فيه الغد.
فلو أن الإنسان دخل بيته في الليل فوجد الطعام عنده، وقد هيئ له السرير فنام مستريحاً فأي شيء يريده من الدنيا، فكان من رحمة الله بالعباد أن جعل لهم الليل ليسكنوا والنهار ليبتغوا من فضله، وكان من بلاغة الآية أن فيها لفاً ونشراً: فالليل لتسكنوا فيه والنهار لتبتغوا من فضل الله عز وجل، ورزقه ورحمته فتتنعموا بذلك في الدنيا، وتحمدوا الله سبحانه، ولعلكم تشكرونه على ما أولاكم وما أعطاكم.
وعليكم أن تدركوا أنه إذا أعطاكم في الدنيا فإنه يسألكم يوم القيامة، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]؛ ولذا قال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [القصص:62]، أي: يوم ينادي المشركين فيقول: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62]، أين هؤلاء الشركاء، الذين عبدتموهم من دون الله، واتخذتموهم أنداداً لله سبحانه، من الأصنام والأوثان والملائكة والجان.(180/2)
تفسير قوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيداً)
قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} [القصص:75].
أي: جئنا من كل أمة بشهيد وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيؤتى من كل أمة بشهيد ينادي عليه تعالى: اشهد على قومك، أبلغت هؤلاء؟ فيقول الرسول: نعم.
أي رب.
فيسأل الأقوام المكذبين: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا.
فيقال لهذا الرسول عليه الصلاة والسلام: من يشهد لك؟ فيقول: أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه! فتشهد أمتنا على الأمم، وعلى أن رسلهم قد بلغوا، وكانت شهادتنا عليهم بما في هذا القرآن، فقد أخبرنا الله عز وجل عن دعوة الأنبياء لقومهم وتكذيبهم لأنبيائهم ومن ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65]، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:73].
ثم يؤتى بنبينا صلوات الله وسلامه عليه فيشهد علينا وعلى الجميع.
قال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا} [القصص:75] لهؤلاء المشركين: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [القصص:75] أي: هاتوا ما تحتجون به من أثر، أو من يشهد لكم أنكم كنتم على صواب.
قال: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75] فلما انعدمت حجتهم استيقنوا أن ما كانوا يقولونه باطل، وإن كانوا يزعمون في الدنيا أنه حق، وينصرونه لا بقوة حجتهم ولكن بقوة أبدانهم وأسلحتهم، فيلزمون غيرهم بما يقولونه من باطل، ويستخفون بهم، قال الله سبحانه: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75]، ومعلوم أن يوم القيامة لا باطل فيه، وهم يوم القيامة يستيقنون أن الحق لله وحده ويصدقون به، ولكن حين لا ينفع التصديق، ويندمون حين لا ينفع الندم.
قال سبحانه: {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} [القصص:75]، والعلم بمعنى: اليقين، أي استيقنوا الآن أن الكلام الحق كلام رب العالمين، وقد كانوا في الدنيا يعرفون ذلك ولكن يتكلمون بالباطل ويزعمون أن معهم حججاً وبراهين.
يقول الله سبحانه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75]، ((وَضَلَّ))، بمعنى: تاه، وذهب عنهم، يقف الواحد منهم في الدنيا يتكلم ويتهم المؤمنين بأنهم هم المتزمتون والمتشددون وأنهم هم أهل الباطل، وأنهم رجعوا للعصور الوسطى والكتب الصفراء.
وقد يجد من يقبل منه مثل هذا الكلام الباطل، رغم أنه محض كذب، ومن يستمع إليه إنما يفعل ذلك اليوم، أما يوم القيامة فلا قوة إلا لله سبحانه، ولا حيلة لأحد يوم القيامة مع الله سبحانه وتعالى، فظهر الحق جلياً، وضاع منهم وتاه عنهم ما كانوا يختلقونه ويفترونه في الدنيا، وما كانوا يكذبونه، فبهتوا يوم القيامة وندموا على ما قدموا، {وضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:75].(180/3)
تفسير قوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم)
يذكر لنا الله قصة عجيبة، وهي قصة قارون، ذلك الإنسان الذي كان ملكاً بما أوتي من المال.
وقد أرانا الله عز وجل فرعون في ملكه، وأرانا قارون في ماله، وأرانا هامان في رئاسته ووزارته، لنرى ما يصنع الجاه والمال والملك بالإنسان، إن لم يتق الله سبحانه وتعالى.
كان قارون من بني إسرائيل، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، ولم يكن من أهل فرعون، ولكن غره أن فرعون قربه منه، فإن فرعون كان له الملك على مصر ومعه هامان الوزير المستعلي على الخلق، وتبعهم قارون مع أنه ليس من قومه، بل هو من قوم موسى.
وقيل: كان ابن عم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وبالرغم من أنه كان قريباً لموسى إلا أنه لم يستفد من دعوته، بعكس هارون أخي موسى فقد انتفع بدعوة موسى عليه الصلاة والسلام وصار نبياً بعده، أما قارون فقد ملأ قلبه حسداً لموسى وأخيه عليهما الصلاة والسلام على ما آتاهما الله من الرسالة وهما من الفقراء ولم يعطها وهو الغني.
فبغى على قومه، وهم بنو إسرائيل، وكذا الإنسان حين يترك نفسه لهواه يستعلي على من معه، فرعون لم يعجبه الناس فأراد أن يكون فوق الناس، فزعم أنه الإله على الناس، وأنه الرب، واختلق لهم البراهين، وأخذ يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، ومع أن حججه باطلة إلا أن الناس صدقوها فعبدوه من دون الله سبحانه، وكان فرعون لا ولد له فكان يقول: أنا ابن الشمس، والشمس إله وهو ابن لها! فيزعم الباطل، وهذا الكلام الذي راج على الناس صدقوه وإن كانوا في قلوبهم غير متيقنين، ولكن صدقوه بألسنتهم واتبعوه فيما يقول؛ خوفاً من سطوته وإعجاباً بقوته الزائلة في الدنيا ويوم القيامة قال تعالى: {َضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:24].
وممن تبعه قارون وكان من قوم موسى فبغى عليهم، إذ لما أحس بقربه من سلطة فرعون بدأ يتقرب من فرعون ويبتعد عن موسى ومن معه، ويستكبر عليهم.
قال عنه الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، فالله قد أعطاه مالاً عظيماً، وكنوزاً كثيرة من الذهب والفضة، وامتلك الخزائن العظيمة التي لا يستطاع وزنها، بل إن مفاتيح هذه الخزائن كانت تجمع، حتى لو قام عصبة من أولي القوة، أي: عشرة من الرجال الأشداء فإنها تنوء بهم؛ أي: تثقلهم وقد لا يستطيعون حملها! فقوله: {لَتَنُوءُ} [القصص:76]، من ناء بالشيء إذا أراد أن يحمله فثقل عليه، فمال به، وكاد يسقطه على الأرض من شدة ثقله، فكيف بتلك الخزائن! وقد نتساءل: هل هو محتاج لهذا المال؟! مهما عمر الإنسان فلن ينفق هذا المال الكثير.
ومع أن الله قد أعطاه ذلك كله إلا أنه جحده ولم يشكره! قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].
وقد يفهم من الآية مقت الفرح عموماً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح بنصر الله سبحانه وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل عن المؤمنين أنهم يفرحون بنعمة الله سبحانه، ويستبشرون بها، ومثل هذا الفرح مشروع، وإنما المذموم الفرح الذي يجعل الإنسان يطغى ويغرق فيستعلي على الخلق، ويرى نفسه أعلى منهم، بطراً وأشراً.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر، فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة فهل هذا من الكبر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، فبطر الحق أي: عدم قبوله، فقد يعلم أن معك الحق لكنه لا ينظر للحق الذي معك، بل ينظر إليك أنت، وإلى فقرك البادي على ثوبك ونعلك، وسوء هيئتك، فيلغي ذلك الحق ولا يقبله منك.
قوله: (وغمط الناس)، بمعنى أنه يحتقر الناس، ويراهم دونه، فلا يستحقون أن يستمع إليهم، وكذلك كان قارون، فقال له قومه: لا تفرح، أي: لا تستكبر، وكأنهم تأدبوا معه في الموعظة، فبدلاً من أن يقولوا له: لا تستكبر، قالوا له: لا تفرح، والمعنى: لا تبالغ في فرحك بما أوتيت فقد يطغيك هذا الفرح الذي أنت فيه، وكم من إنسان يفرح فتأخذه سكرة الفرح، فيطغى على الناس، ويفعل ما لا ينبغي له أن يفعل، كمن يتزوج فيعلن فرحته بزواجه بأن يحضر الراقصات والمعازف والخمور والحشيش ويفعل ما نهى الله عز وجل عنه، غروراً واستكباراً على الحق الذي أمر الله عز وجل به، فيدخل تحت وعيد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].(180/4)
تفسير قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة)
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: إذا كان الله قد أعطاك هذه الكنوز العظيمة فلم لا تنفق من هذه الكنوز ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، بدلاً من الاستكبار في الدنيا؟ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، وهنا يظهر التحلي بأدب الموعظة، إذ إنك لو وعظت غنياً فلا تأمره أن ينفق كل ماله! فالله برحمته سبحانه لم يأمر العباد أن ينفقوا جميع أموالهم، بل النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبره سعد بأنه عازم على أن يوصي بماله كله -وذلك في مرض موته- نهاه عن ذلك وقال له: (الثلث والثلث كثير).
ولذا لو أن الإنسان شارف على الموت لا ينبغي أن يوصي بكل ماله، بل ثلث المال فقط، والثلث كثير، كما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما حدث مع كعب بن مالك حين تاب إلى الله عز وجل، وهو من الثلاثة الذين خلفوا وذكر الله قصتهم في سورة براءة، قال: (يا رسول الله! إن من توبتي أن أخرج مالي كله صدقة لله)، أي: أترك المال كله فلا آخذ لنفسي منه شيئاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعضه فهو خير لك).
فليس كل إنسان كـ أبي بكر الصديق، إذ إن له خصوصيات، حيث أنفق ماله كله على دين الإسلام وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يليه عمر رضي الله عنه، حيث أنفق نصف ماله، وليس كل الناس كـ عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل لم يأمر العبد أن ينفق ماله كله، لكن تصدق من هذا المال وأد شكر النعمة.
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: اطلب الجنة بهذا المال ولا تنس نصيبك من الدنيا، بل استمتع بمالك في الحلال الذي هو طيب لك.
فالمعنى: لا تنس نصيبك من الحلال، فكل واشرب ولا تسرف، وأنفق في الحلال ما تحب من إنفاق، بعد أن تعطي لله عز وجل حقه.
{وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، فلا بد على الإنسان أن يتذكر دائماً نعمة الله عز وجل عليه، وهنا أمروه أن يحسن ويتذكر إحسان الله عز وجل عليه، ويحذر من الفساد، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77]، وهنا كأنهم يعرضون به: أنت مفسد، وأنت مستكبر، ولكن صاغوها بتلك الصياغة الجميلة لعله يتعظ ويتذكر، ولكنه لم يتعظ ولم يتذكر، كما سيأتي بعد ذلك إن شاء الله.(180/5)
تفسير سورة القصص [76 - 82]
كان قارون من بني إسرائيل، وكان رجلاً غنياً فبغى على قومه واستكبر، ولم يشكر الله تعالى، فعاقبه الله وخسف به وبداره الأرض.(181/1)
سبب طغيان قارون ونصح قومه له
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:76 - 78].
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات قصة من قصص القرآن وفيها عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
والمؤمن يعتبر من القصص التي في كتاب الله عز وجل، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا فيها مواطن العبر والعظات.
كان الرجل من قوم موسى، وكان اسمه قارون قالوا: كان ابن عم موسى أو كان قريباً لموسى عليه الصلاة والسلام، فهو من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل كانوا مستذلين في مصر من فرعون وملئه وجنوده، وهذا الرجل منهم ثم بغى عليهم واستكبر ورأى أنه أفضل منهم وأنه أحسن منهم؛ لأن الله أعطاه مالاً كثيراً.
فسبب بغيه وطغيانه أن الله عز وجل آتاه كنوزاً عظيمة قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، إذا كانت هذه المفاتيح فكيف بالكنوز نفسها، فقد كان العشرة من الرجال لا يقدرون على حمل مفاتيح الخزائن، فاغتر هذا الرجل بماله واغتر بما آتاه الله سبحانه وتعالى من كنوز.
قال الله سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} [القصص:76].
أي: لا تغتر، ولا تستكبر، ولا تكن من المفسدين؛ لأن الفرح المطغي للإنسان يجعله يفسد فيكون فاسداً في نفسه بعيداً عن الصلاح، ويكون مغوياً لغيره، فهو باستكباره وهو من بني إسرائيل يدفعهم إلى أن يحسدوه وإلى أن يتمنى كل منهم الدنيا ويتناسى الدار الآخرة، وهذا الذي حصل من كثيرين منهم.
وهنا يذكر الله عن بعض قومه قولهم له إن الله عز وجل لا يحب الإنسان الذي يبطر ويستكبر على الخلق ويرى نفسه أفضل منهم، فالله لا يحب من يفرح هذا الفرح الغامر الذي يجعله يتعالى على غيره، وإلا فإنه يجوز للإنسان أن يفرح بما آتاه الله من مال وعلم وحكمة، ويفرح المؤمنون بنصر الله كما قال الله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5].
فالفرح الذي يحبه الله عز وجل لعباده هو أن يسر المؤمن برحمة الله سبحانه، وأن ينسب الخير إلى ربه سبحانه، فيفرح لأنه مؤمن؛ ولأن الله أعطاه من نعمه فيشكر الله عز وجل ويحمده عليها، أما الفرح الذي لا يحبه الله عز وجل ويبغض صاحبه فهو الذي يدفع صاحبه للغرور، وللإفساد في الأرض، وللشعور بأنه أعلى من غيره.
قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
فكانت نصيحة له ذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة، فيعمل الصالحات ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك.
فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك.
{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات، فمهما أخذت فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، واشرب بقدر معلوم، ولا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك.
فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
والكافر يسأل الله عز وجل الدنيا، يريد المال والبنين والمنصب، ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
تذكر هذه الآية، وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر، قالوا له: تذكر أن الله قد أحسن إليك، لا؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه.
{وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، لما سمع ذلك ازداد كبراً، وازداد غروراً ولم ينتصح بهذه النصيحة الجميلة بل رد عليهم رداً لا يدل على عقل وإنما يدل على جهل.
قال الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، فكانت نصيحة له وذكرها الله عز وجل في القرآن لتكون نصيحة لكل منا، والإنسان حين يعطيه الله عز وجل المال الكثير يعلم أن المال مال الله عز وجل، ويعلم أن الدنيا زائلة، وأنه سيترك هذا المال يوماً من الأيام، فإذا كان الأمر كذلك فليتصرف في هذا المال بما يرضي ربه سبحانه وتعالى، وبما يجعله له ذخراً في الآخرة فيعمل الصالحات، ولا يقال للإنسان: تصدق بجميع مالك، ولكن تصدق بشيء وأبق شيئاً لأهلك فهو خير لك، فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77]، أي: في هذا الذي أعطاك الله عز وجل ابتغ الدار الآخرة، فخذ من مالك وأنفق في سبيل الله سبحانه، وأنفق على قومك، وأنفق على من يجب عليك أن تنفق عليه، وابتغ بهذا المال إصلاح دنياك وإصلاح أخراك.
{وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، الإنسان يحب أن يكون له أشياء يختص بها في الدنيا، يكون له بيت، يكون له قصر، يكون له طعام، يكون له شراب، يكون له زوجة أو زوجات يحب أن يختص بشيء، فمهما أخذت من أشياء مباحة فلا حرج عليك طالما أنها مباحة لك شرعاً، ولكن قد قال الله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31]، فلا يجوز للإنسان أن يسرف، وأن يضيع ماله فيما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة، كل بقدر معلوم، اشرب بقدر معلوم، لا تتجاوز الحد فتتعب نفسك وتحرم غيرك، فقال له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} [القصص:77]، أي: تذكر أن هذا من عند الله عز وجل فابتغ الدار الآخرة بهذا: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، أي: خذ من هذه وهذه، فالمؤمنون يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
والكافرون يسألون الله عز وجل الدنيا يريد المال والبنين، والمنصب ويريد كل شيء فيها وينسى الدار الآخرة، فحذره قومه من ذلك، وذكروه وقالوا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77]، سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، أي: أحسن الله عز وجل إليك فأعطاك، فأحسن أنت إلى غيرك، فجزاء الإحسان إحسان من الله سبحانه، إذا أحسنت وأعطيت للناس فإن الله سيعطيك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، تذكر هذه الآية وقس ما في هذه الآية على ما صنعه هذا الرجل، الله سبحانه وتعالى ذكره على ألسنة قومه فلم يتذكر ولم يعتبر قالوا له: أحسن وتذكر أن الله قد أحسن إليك ليس؛ لأنك تستحق ولكن لفضله سبحانه ولكرمه، وإياك أن تفسد في الأرض، {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77]، أي: لا تطلب الإفساد في الأرض: {(181/2)
تفسير قوله تعالى: (قال إنما أوتيته على علم عندي)
قال الله سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
قالوا: كان هذا الرجل يقرأ التوراة ويجيد قراءتها، فيقول: لأني أحسن منكم في القراءة أنا أستحق هذا الشيء.
أو قال: على علم من عندي يعني أنا ذكي وأنا أستحق ذلك بتعبي وبكدي.
وكثير من الناس يعطيه الله عز وجل من فضله فيقال له: احمد ربك على ما أعطاك فيقول: أنا ذكي وأعرف أشتغل، وأنا أجيد عملي وأعتمد على نفسي، وينسى الله سبحانه وتعالى، كم من إنسان يفعل كما فعل قارون مع الفارق بين الاثنين، قارون أوتي كنوزاً عظيمة وهذا قد يؤتى شيئاً حقيراً يسيراً، هذا يقول: أوتيته على علم مني، وذاك يقول: بذكائي وبقوتي وبتفكيري وسأخطط وسأعمل، وينسى تدبير الله سبحانه وتعالى.
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يعني: على علم بوجوه التجارة ووجوه الكسب، والأماكن التي يمكن أن أكسب فيها.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78].
يعني: هذا الإنسان الذي أعطاه الله عز وجل مالاً، وأعطاه رجالاً، قد مر قبله قرون كثيرة كان فيهم ملوك وعظماء عندهم الأموال وعندهم الجيوش، وهذا لا يساوي شيئاً بجوار هؤلاء الملوك، وإن كان يضرب به المثل في الغنى، ولكن الله عز وجل قد أهلك قبله من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً للدنيا.
{وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78].
فكأنه سبحانه وتعالى يحذر الإنسان إذا آتاه الله عز وجل من المال وآتاه من الكنوز أن يغتر بذلك، بل عليه أن يحذر من الغرور وأن يتذكر السابقين، فإنهم اغتروا فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، ولو كان المال يدل على فضل صاحبه لما أهلك الله عز وجل هؤلاء بذنوبهم، فقد أعطاهم أموالاً كثيرة ثم أهلكهم بذنوبهم فليعتبر قارون وليعتبر من يقلده.
لكن قارون لم يعتبر مع أن الله عز وجل قد نصحه على ألسنة قومه وعلى لسان موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن لم يتفكر ولم يتذكر أن السابقين كان عندهم أموال كثيرة وما وصلت إليك هذه الأموال إلا حين تداولها السابقون، فلم يكن المال مالك، ولم تولد ومعك هذا المال ولكن أخذته ممن جمعه قبلك، وتذكر أن من كان معه هذا المال قبلك قد أهلكه الله سبحانه، وأنه لم يعطه المال لفضله.
واعتبر بفرعون الذي هو ملك وأنت لست ملكاً وإنما أنت رجل تملك مالاً وهذا الملك أهلكه الله سبحانه وتعالى، فقد كان عدواً لموسى وأنت تعلم ذلك، وكم أهلك الله من قبله من القرون من هو أشد قوة وأكثر جمعاً للمال.
{وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، أي: لا يحتاج الله سبحانه أن يسألهم سؤال استفهام، فهو قد أحصى عليهم كل شيء فعلوه، فلا يسألهم سؤال من لا يعرف، وإنما يسألهم سؤال توبيخ وتقرير وتبكيت وفرق بين سؤال وسؤال.
فأن تسأل الإنسان عن الطريق الذي يوصلك إلى مكان كذا؛ لأنك لا تعرف، وحين تسأل إنساناً بقولك أنت عملت هذا الشيء وسأحاسبك عليه، فأنت تسأله لتبكته، فهم لا يسألون سؤال من يجهل حالهم، أو سؤال من يكرمهم بذلك، وإنما سؤال إهانة، وتبكيت وتقريع، وتوبيخ يوم القيامة، فالله عز وجل يذكر أنه سيسألهم قال: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93]، ويقول هنا: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78]، ولا تعارض؛ فإن الله عز وجل سيسألهم سؤال العالم بهم، فهو علام الغيوب سبحانه وتعالى، ولن يسألهم سؤال من لا يعرف عنهم شيئاً، بل يسألهم سؤال القادر العالم الذي يبكت على الشيء، ثم يدخلهم النار بعد ذلك، فلا يسأل عن ذنوبهم المجرمون.(181/3)
تفسير قوله تعالى: (فخرج على قومه في زينته)
وذكر سبحانه وتعالى أنه خرج على قومه في زينته وذكرنا قبل ذلك قصة لـ قارون مع موسى عليه الصلاة والسلام تدل على كفر هذا الرجل، وإن كان من قوم موسى عليه الصلاة والسلام، وإن كان من أحسن قراء التوراة في عصره، ولكنه أراد أن يكيد لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ومن كيده أنه ذهب إلى امرأة بغي وأعطاها مالاً، قيل: أعطاها ألفي درهم ثم سألها أن تقول أمام الناس إن موسى عليه الصلاة والسلام زنى بها.
وجاء بالناس وقال لهم: موسى يفعل كذا وكذا، وذهب إلى موسى أمام الناس وقال: ما جزاء من يزني في شرعك؟ فقال له موسى عليه الصلاة والسلام إنه يرجم، قال: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، فإذا به ينادي على المرأة فتقول: إن موسى زنا بها! فلما قالت ذلك دعا موسى ربه سبحانه وتعالى، ثم قرر المرأة ما الذي تقولينه؟ فقالت: لقد أعطاني مالاً حتى أقول عليك كذا، فرجعت عن كلامها، فدعا موسى على قارون فاستجاب الله سبحانه وتعالى له استجابة عجيبة جداً، فقد جعل هذا الرجل يعلو فجأة أمام الناس حتى يأخذه وهو في علوه وغروره فيجعله عبرة للناس حوله.
فإذا ب قارون يزداد عتواً وغروراً فيخرج على الناس في يوم عيد ليريهم أنه أعلاهم، وأنه أفضلهم، فتزين زينة عظيمة، وقد ذكر الله عز وجل في هذه الآية أنه خرج على قومه في زينته، وترك لك أن تتخيل ما هذه الزينة، ولم يفصل لنا ما هي، ولكن واضح أنه خرج على الناس، ولن يخرج لوحده، ولكن تخيل أنه خرج في غلمانه، مع أولاده، ومع الجواري، معه مال يتزين به غير الذي تركه في دياره وفي خزائنه، لقد خرج على الناس في زينته ليريهم أنه أفضل منهم، وحتى يتحسروا على ما هم فيه من فقر، فكان الرجل فتنة لهم.
فلما خرج {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} [القصص:79]، والأمة التي مع موسى هم بنو إسرائيل فيهم المؤمن القوي، وفيهم المؤمن الضعيف الإيمان، فيهم الصالحون وفيهم الفاسدون، فقال كثير منهم وهم الذين يريدون الحياة الدنيا واغتروا بما رأوه من قارون {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
أي: يا ليت عندنا مثل ما عند هذا الإنسان، والإنسان أحياناً ينسى النعم التي أعطاه الله سبحانه وتعالى في بدنه وفي قلبه وفي عقله وفي لسانه، {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
والله عز وجل نعمه عظيمة على الإنسان لكنه ينساها إذا نظر إلى ملك من الملوك يتبختر أمامه، فتراه يقول: ياليت عندي مثل ما عند فلان، كذلك هؤلاء قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، فإن الله قد فتح له باباً واسعاً جداً، فعنده المال الكثير، وعنده الحظ العظيم: {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ} [القصص:79].
وأهل الإيمان وأهل الطاعة يعرفون أن هذا كله زائل ولن يبقى منه شيء.(181/4)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير)
قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80].
والذين أوتوا العلم قريبون من فضل ربهم ومن رحمة ربهم ومن حكمة ربهم سبحانه وتعالى، قالوا لهؤلاء: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80].
أي: هذا كله لا يساوي شيئاً بجوار ثواب الله وفضل الله، وجنة الله سبحانه وتعالى، وكلامهم فيه توجع لما في هؤلاء من طمع وطلب للدنيا، فقالوا: {وَيْلَكُمْ} [القصص:80]، أي: أفيقوا من هذا الذي أنتم فيه، فلكم الويل على ما تقولون! وليس المعنى أنهم يدعون عليهم بالويل، ولكنهم يتعجبون مما هم فيه من حال، ومن نسيانهم لربهم سبحانه وتعالى.
{ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80]، أي: كل هذه الدنيا لا تساوي شيئاً عند الله سبحانه، فما عند الله خير وأبقى للذين يعملون الصالحات.
قال: {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، أي: جنة الله رب العالمين لا يلقاها إلا الصابرون، والأعمال الصالحة (لا يلقاها) أي: لا يؤتاها إلا من صلح واستحق ثواب رب العالمين سبحانه.
إذاً: العمل الصالح والجنة يلقاهما الصابرون الصالحون.(181/5)
تفسير قوله تعالى: (فخسفنا به وبداره الأرض)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ} [القصص:81].
أي: لما كان الأمر على ذلك وكان المؤمنون ينظرون إليه أنه مغرور وأن ما عنده لا يساوي شيئاً مما عند الله، وكان الذين لهم طمع في الدنيا يتحسرون على حالهم وينظرون إليه نظرة حسرة وحسد، إذا بالله عز وجل يخسف به الأرض أمام الجميع.
فتزلزلت الأرض من تحته، وغاص في الأرض بزينته وماله ودياره وخزائنه، وكل شيء كان يملكه لم يجعلها الله إرثاً لبني إسرائيل، فإنه لو ترك هذا المال لكان ميراثاً لبني إسرائيل ولكن الله عز وجل لم يجعله لهم وإنما خسف بـ قارون وبداره الأرض.
{فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص:81]، يعني: لم يكن معه قليل ولا كثير {يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، وحتى لو كانت له فئة فمستحيل أن ينتصر وقد كتب الله عز وجل عليه الهزيمة.
قال سبحانه: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} [القصص:82]، أي: حين وقعت المفاجأة بهت الجميع ثم ردت إليهم عقولهم فأصبحوا بعد ذلك يتكلمون عما حدث في هذه القصة.
لقد كانت مفاجأة للجميع، ثم جاءت التذكرة بعد ذلك، وحين تنزل مصيبة بالإنسان لا يعتبر ويتفكر في وقت المصيبة، ولكن يمر عليه الليل وحين يصبح بالنهار يتفكر فيما حدث.
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82].
(وي) كأن أصلها: ويل، وهي كلمة تقال عند المفاجأة وعند التوجع، وعند التعجب، فكأنه يقول: عجباً كأن الأمر كذا وكذا، فقال سبحانه: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82].
وقيل معناها: ألم تر أن الله فعل كذا وكذا.
{وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص:82].
(يبسط) يعطي كثيراً، (يقدر)، يقبض ويضيق سبحانه وتعالى، فيعطي ويمنع.
{لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص:82].
أي: كانت مصيبتنا مصيبة عظيمة لو كان الله أعطانا مثلما أعطى هذا الإنسان، {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، يعني: نحن طمعنا وتمنينا ما مع هذا الإنسان، ولو أن الله أعطانا لخسف بنا كهذا الإنسان.
{وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، أي: الشأن والأمر أنه لا يفلح الإنسان الكافر مهما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من مال ومن بنين.
نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(181/6)
تفسير سورة القصص [83 - 88]
يحث الله عباده المؤمنين على المسارعة إلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة، فهو سبحانه يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ويجازي بالسيئة مثلها، ثم يمتن الله على نبيه بالنبوة، حيث إنه لم يخطر بباله أنه سينال النبوة ويعطى الرسالة، فهذا شيء عظيم، ومرتبة كبيرة ذات شرف، ونهاه عن أن يصدق الكافرين، أو يستسلم لصدهم عن سبيل الله، ولا يدعو مع الله إلهاً آخر ما دام أنه علم الدين الحق، وأوتي القرآن، وبعث بالنبوة.(182/1)
تفسير قوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل في وسورة القصص: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:83 - 88].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن الدار الآخرة، وكيف أنه يجعلها لمن لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً، وأن العاقبة الحسنة والجنة العظيمة لمن اتقى الله سبحانه وتعالى.
والمناسبة من هذه الآيات أن قبلها قصة فرعون، فذكر الله عز وجل أنه علا في الأرض، واستكبر على من معه فقال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا} [القصص:4]، كذلك تشبه به قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم، فعلا فرعون وهامان وقارون، فالله عز وجل يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا} [القصص:83] أي: لا يطلبون العلو ولا الاستكبار، فأرانا عاقبة الظالمين.
فما الذي صنعه فرعون وهامان وجنودهما؟ قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، كانوا أصحاب خطيئة، كفروا بالله تبارك وتعالى، وتظاهروا في كفرهم على نبيهم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأرانا الله عز وجل كيف أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فأهلكهم وأغرقهم، وجعلهم عبرة وآية للناس، فهؤلاء استكبروا بملكهم ووزاراتهم وجنودهم، وهذا قارون كان من قوم مستضعفين في الأرض، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6].
ولكن قارون كان من قوم موسى فتعجل البغي والعلو، ولم ينتظر وعد الله وهو الذي كان يقرأ التوراة ويجيد تلاوتها، ولكن الكبر كان في القلب، فمهما نزل من مطر على أرض كانت غير صالحة، أو كانت الأرض صالحة والبذور التي فيها غير طيبة، فإنها تنبت نباتاً غير حسن، والأرض الطيبة يخرج نباتها بإذن ربها، {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف:58].
فهذا الإنسان كان خبيثاً في نفسه، فيه علو وكبر في قلبه، فضحه الله وكشف ما فيه وأظهره، فابتلاه بالمال كما ابتلى فرعون بالملك، وابتلى هامان بالوزارة، ففتح عليه من نعمة المال الكثير، فإذا به لا يراعي حق الله سبحانه وتعالى في ماله، وتشبه بفرعون في علوه وفساده، وكاد للنبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإذا بالله عز وجل يجعله آية للناس حتى يعتبروا، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81].
فالله عز وجل أخبر عن الأمم السابقة فقال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، فهذان الاثنان هما المذكوران في هذه السورة، ذكرهما الله عز وجل بالتفصيل.
عقب الله عز وجل هذه الآيات في نهاية قصة قارون كيف أن المستضعفين الذين تمنوا مكان قارون وماله رأوا آية بأعينهم: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
فتعجبوا من أمر أنفسهم لتهورهم في أمانيهم، حيث تمنوا أن يكون لهم مثل قارون، فالإنسان يربع على نفسه، ولا يترك لنفسه هواها وعنانها فيتفكر فيما يشاء، ويتمنى ما يشاء، فإذا نظر إلى أهل الفساد لا يتمنى ما مع أهل الفساد؛ لأن العاقبة السيئة على هؤلاء تكون في الدنيا بالخزي، وفي الآخرة بالعذاب العظيم.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، روى الإمام البخاري في صحيحه: (أن امرأة كانت تحمل رضيعها على يدها، فمر بها إنسان ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فإذا بالله ينطق الغلام ويقول: اللهم لا تجعلني مثله، فتتعجب المرأة، ثم يمر أناس بامرأة يضربونها ويقولون: سرقت، وهي تقسم أنها لم تفعل، فتقول: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فيقول: اللهم اجعلني مثلها).
مر هذا الإنسان العظيم صاحب المنصب فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، وهو يمص ثديها، فتركه وقال: اللهم لا تجعلني مثله، لأن هذا الرجل العظيم من المتكبرين ونهايته إلى النار، وهذه المرأة مظلومة، يقولون لها: سرقت ولم تسرق، زنيت ولم تزن، فهي مظلومة فقيرة، فلها عند الله الجنة، فقال: اللهم اجعلني مثلها.
فهذا صبي أنطقه الله عز وجل ليري العباد كيف يكون الأمر، فليس كل شيء تراه تفرح به، فإنه قد يضرك في الدنيا العاجلة، ويضرك في الآخرة أكثر، فالمؤمن يرضى ولا يصرف بصره إلى ما متع الله عز وجل به الناس، فيحسد الغير ويكمد نفسه، فهو يرى نفسه مظلوماً، فهذه آخرة الظالمين، فاعتبر هؤلاء وقالوا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82].
لولا أن من الله عز وجل على هؤلاء المؤمنين لخسف بهم، وهذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة باقي القراء: (لخُسِف بنا)، أي: لفُعل بنا كما فعل بهذا الإنسان: {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، الشأن أنه لا يفلح الكافرون، أو أنهم يتندمون على ذلك ويتوجعون لأنفسهم فيما تمنوه.
فيختم الله عز وجل بهذه الآية العبرة، ويجمع هذا كله في القصة كلها، والآن خذوا هذه الموعظة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، هذه الدار العظيمة في الآخرة وهي الجنة نجعلها للذين لا يريدون علواً -استكباراً- في الأرض، ولا فساداً، لا يريدون أن يكونوا ملوكاً أو وزراء أو رؤساء، لا يريدون أن يكونوا أصحاب غنى فاحش، ولكن يرضون في الدنيا بالقليل كما رضي النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكنياً، واحشرني في زمرة المساكين)، صلوات الله وسلامه عليه.
قال: {لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، ليسوا من المفسدين بترفهم، وليسوا من المفسدين بخطيئاتهم وأفعالهم القبيحة، {وَالْعَاقِبَةُ} [القصص:83] يعني: الحسنة بالجنة، {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].(182/2)
تفسير قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها)
قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [القصص:84]، يقول الله عز وجل مبيناً لنا: إذا أتيت بحسنة فالله يعطيك ما هو أفضل منها، فمن جاء بالحسنة فله خير منها، وعرفنا أن الحسنة تضاعف إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
وأعظم الحسنات مطلقاً قول: لا إله إلا الله.
إذا قلنا: لا إله إلا الله، فلا يوجد خير منها، ويكون التفسير على ذلك: من جاء بلا إله إلا الله فيعقبه الخير بسببها، فله الخير العظيم من هذه الكلمة عند رب العالمين سبحانه، فالله ما خلق الخلق إلا لعبادته سبحانه وتعالى، فكلمة التوحيد من أعظم ما يكون.
وإذا كانت الحسنات غير كلمة التوحيد فله الحسنة مضاعفة بعشر أمثالها إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
قوله: (ومن جاء بالسيئة) وهذا محمول على عكس معنى الحسنة، فإذا كانت الحسنات هي الأعمال الصالحات، فيكون معنى السيئات: الأعمال الغير الصالحة، وإذا كانت الحسنة لا إله إلا الله فالسيئة التي هي أكبر الكبائر: الكفر بالله والشرك به سبحانه.
{فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84].
لا يظلمهم الله عز وجل، ولكن الذي عملوه في الدنيا ينالون الجزاء عليه في الآخرة.(182/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد)
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85].
هذه الآية هي الخامسة والثمانون من هذه السورة، وليست الآية مكية ولا مدنية، يعني: لا نزلت في مكة ولا في المدينة، وإن كان الغالب أن يقال: إن السور المكية هي التي نزلت في العهد المكي، فتكون هذه في العهد المكي؛ لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم في أثناء هجرته إلى المدينة.
وذلك أنه لما هاجر خرج إلى أماكن لا يعرفها، فاحتاج إلى دليل يدله على الطريق، فكان معه أبو بكر الصديق، ومعهما رجل من بني الديل هادياً خريتاً، فسلك بهم طرقاً لا يعرفونها، حتى وصل بهم إلى المدينة، فلما أفلتوا من الكفار مر على طريق يعرفونها بالجحفة، وكأنه صلى الله عليه وسلم تحسر على مكة؛ لأنه يحبها، فالتفت وهو يقول: (إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)، صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله عز وجل عليه هذه الآية يبشره ويطمئنه أنه سيرجع إليها يوماً من الأيام.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص:85]، أنزل عليك هذا القرآن وفرض عليك تلاوته وتحصيله.
{لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، سيرجعك مرة ثانية إلى هذه البلدة التي خرجت منها، وهذا وعد الله، ولا يخلف الله الميعاد.
فالله عز وجل أرجعه إليها بعد خروجه منها بثمان سنوات صلوات الله وسلامه عليه.
{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85]، قل لهؤلاء الكفار الذين ذهبوا يسألون ويتحرون، وألغوا عقولهم وصدقوا اليهود وغيرهم، فسألوهم: أنحن على الهدى أم هو على الهدى؟! فإذا باليهود وقد أضلهم الله يقولون: أنتم {أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، قالوا لهم ذلك كذباً، فالله عز وجل يقول: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [القصص:85]، من معه الهداية من الله سبحانه، ومن الذي هو في ضلال بين واضح وفي تيه، وفي بعد عن الحق.(182/4)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب)
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:86].
فهو ما كان يرجو ذلك، ولا خطر على باله عليه الصلاة والسلام أنه سيكون رسولاً، ولكن غيره تمنوا هذا الشيء، فعرفوا أنه سيبعث في هذا الزمان رسول -ويعرف ذلك اليهود- فإذا بهم يتمنون لقاءه وينتظرون بعثته، وبعضهم يلقب نفسه بالراهب، ويذهب ليتعبد من أجل أن تنزل عليه الرسالة، ولكن الرسالة ليست كسباً من الإنسان، وإنما هي وهب من الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال له: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا} [القصص:86]، أنت لم تكن في يوم من الأيام يخطر على بالك أن تكون رسولاً، إنما الذي كان على باله صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، فكان يتوجه إلى غار حراء في الليالي ذوات العدد يتحنث، ويتعبد لله عز وجل في هذا الغار، حتى جاءه الوحي فجأة وبغتة من غير أن يكون على باله.
قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ} [القصص:86] كأنه يأتي من بعيد، أي: من السماء من عند رب العالمين، فتتلقاه أنت، فقال: {يُلْقَى إِلَيْكَ} [القصص:86]، ولم يقل: عليك، وإنما قال إليك، وفرق بين أن (يلقى عليك)، وأن (يلقى إليك)، فيلقى عليك فيكون صعباً عليك تلقيه، ولكن (يلقى إليك) كأنه يعطى إليك بهدوء، فتأخذه وتتلقاه مرحباً وحافظاً له، ومقيماً له، ومحباً له، ولست مع هذا الإلقاء معرضاً، أو لا يكون إلقاءً عنيفاً، وإنما يكون لطيفاً عليك.
قال سبحانه: {إِلَّا رَحْمَةً} [القصص:86] فهذا يناسب قوله سبحانه: {يُلْقَى إِلَيْكَ} [القصص:86]، فلو قال: (عليك) فإنه لا يناسب الرحمة، وإنما يقول هنا: {يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً} [القصص:86] يعني: ولكن كان رحمة من ربك أن نزله عليك فألقاه إليك.
{فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا} [القصص:86] أي: معيناً {لِلْكَافِرِينَ} [القصص:86]، فنهاه، وحاشا له أن يكون معيناً للكافرين، ولكن هذا خطاب له ولأمته بالتبع: لا تعاونوا الكافرين في كفرهم.(182/5)
تفسير قوله تعالى: (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك)
{وَلا يَصُدُّنَّكَ} [القصص:87] هؤلاء الكافرون {عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87]، أي: وادع إلى التوحيد.
قوله: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} [القصص:87]، يحذره ربه سبحانه وتعالى، وكانوا يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله في سورة الإسراء: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:73 - 74].
فإذاً: هنا المشركون جروا وراء النبي صلى الله عليه وسلم في كيدهم يريدون أن يميلوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العصمة موجودة: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] فبدأ بذكر العصمة، فإن الله ثبته على الحق فلا يزيغ أبداً، قال له سبحانه: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [القصص:87]، ادع إلى التوحيد، (ولا تكونن من المشركين) خطاب له ولأمته.(182/6)
تفسير قوله تعالى: (ولا تدع مع الله إلهاً آخر)
قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88].
أي: احذر أن تتخذ إلهاً غير الله، وحاشا له -وهو المعصوم- أن يعبد غير الله، ولكن إذا كان هذا الوعيد يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم فغيره من باب أولى أن يخاف من وعيد الله سبحانه.
قال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ} [القصص:88]، ولا بد من الوقوف هنا، فهذا يسمى وقفاً لازماً؛ لأنك لو وصلت أفسدت المعنى، إذاً: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]، وتقف ثم تقول: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88] فهذا تقرير منه أنه الإله الواحد، وفيها يجوز المد الطويل -لمن يمد مداً طويلاً- ويجوز القصر، وإن كان أصحاب القصر كـ قالون وحفص وأبي عمرو وغيرهم يجوزون في ذلك المد، ويسمونه مد التعظيم، وذلك في كلمة (لا إله إلا الله)، فيمد فيها مداً متوسطاً، حتى ولو كان يقصر في غيرها، ويسمي هذا المد: بمد التعظيم لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال في سورة الرحمن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، فعبر بالوجه، وليس معناه أن الوجه يبقى وحده، ولكن الوجه أعظم ما يكون فعبر به، فهو عبر بالبعض عن الكل.
فالله سبحانه تبارك وتعالى عندما يقول: {إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] معناه التعظيم، ونؤمن بالوجه لله عز وجل، فذكره هنا تعظيماً له، ولذلك يقول الثوري: سألت أبا عبيدة عن قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] فقال: إلا جاهه، كما تقول: لفلان وجه في الناس، أي: جاه في الناس، وهذا ليس معناه النفي لوجه الله عز وجل، بل هذا فيه إثبات لوجه الله، ولكن المعنى أنه يعبر بهذا الشيء عن العظمة.
فالمعنى: وجهه العظيم وذاته باقية وأما غيره كلهم فسيفنون.
قال: {لَهُ الْحُكْمُ} [القصص:88] وحده لا شريك له، يحكم بما يشاء ويفعل ما يريد: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: (وإليه تَرجعون).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وألا يجعلنا من المفسدين في الأرض، وأن يجعلنا من أهل الآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(182/7)
تفسير سورة العنكبوت [1 - 3]
سورة العنكبوت سورة مكية، ذكر الله عز وجل فيها الابتلاء، وأنه سنة من سنن الله عز وجل، حتى يتميز الصادق من الكاذب، وقد ذكر الله عز وجل في هذه السورة العظيمة عدداً من الدروس والمفاهيم العظيمة، التي كان حرياً بالمسلم أن يقف عندها متدبراً متفهماً لها، حتى يستفيد منها في سيره إلى الله عز وجل.(183/1)
بين يدي سورة العنكبوت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: بسم الله الرحمن الرحيم: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].(183/2)
سورة العنكبوت مكية وأقوال العلماء في ذلك
سورة العنكبوت هي السورة التاسعة والعشرون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة مكية أو أغلبها مكية، وقيل: مدنية، وقيل: بعضها مكي وبعضها مدني، هذه السورة من أواخر السور التي نزلت في مكة وبعضها نزل بالمدينة، ولذلك اعتبرها البعض مدنية أو مكية بناء على ذلك، ونزلت قبلها سورة الروم، وسورة الروم مكية، ونزلت بعدها سورة المطففين، وسورة المطففين مكية، فكأن سورة العنكبوت نزل بعضها بمكة، ثم نزلت سورة المطففين كاملة، ثم أُكملت هذه السورة بعد ذلك في مكة والمدينة، فإذا قيل: سورة المطففين آخر ما نزل بمكة، فمراده: آخر سورة كاملة نزلت في مكة، وكانت هذه السورة قد نزل بعضها قبلها وبعضها بعدها.
وسورة العنكبوت آياتها تسع وستون آية على عد أكثر أهل العد من القراء، وحسب المصحف الحمصي عددها سبعون آية، والخلاف في الفاصلة، فبعضهم يعتبر (الم) آية مستقلة، وبعضهم يعدها والتي تليها آية واحدة، والآيات هي الآيات، وإنما بحسب العد، وحسب ما وقف عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الخلاف في العد في كل القرآن إذا اختلف أهل العد.
والسورة فيها خصائص السور المكية، من ذكر التحدي بهذا القرآن، ومن ذكر الأقوام السابقين، والأنبياء الذين ابتلاهم الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن ذكر القصص وعاقبة هؤلاء المكذبين، وما الذي صنعه الله عز وجل بهم.(183/3)
معنى الحروف المقطعة في أوائل السور
بدأ الله سبحانه هذه السورة بـ: {الم} [العنكبوت:1]، وهذه الحروف هي التي تسمى بفواتح السور، وهي من الإعجاز في القرآن الكريم، وكأن الله يقول للعرب: إن هذا القرآن من جنس الحروف التي تنطقونها وتتكلمون بها، وقد جئناكم بهذا القرآن بلغتكم ومن حروفكم، فائتوا بسورة من مثل هذا القرآن.
وقد ذكرنا قبل ذلك فقلنا: إن بعض أهل العد الذين يعدون حروف القرآن أو حروف السور يقولون: إنه إذا ابتدأت سورة بحروف مقطعة فغالباً ما تكون هذه الحروف أكثر الحروف المكررة في هذه السور، وغالباً ما يكون ترتيبها في التكرار أو في العدد: الحرف الأول أكثر ما يكون، ثم الثاني، ثم الثالث، وهكذا، وقد توجد حروف أخرى أكثر منها، ولكن الغالب ذلك، وستجد أن أكثر ما يعد في هذه السورة: حرف الألف، سواء ألفاً بهمزة، مفتوحة أو مكسورة، أو ألفاً من غير همزة، أو بهمزة مد، أو بهمزة على نبرة تكون ياء أو واواً، فيكون عدد الألف في هذه السورة تقريباً ثمانمائة وثمانية وخمسين مرة، ثم يليه اللام، فقد تكرر في هذه السورة تقريباً خمسمائة وخمسين مرة، ثم يليه حرف الميم، فقد تكرر في هذه السورة حوالي ثلاثمائة وواحداً وأربعين مرة، وكأن الترتيب في هذه السورة ترتيب تنازلي، الألف ثم اللام ثم الميم، وكأن الإشارة إلى أن هذه الحروف من جنس ما تتكلمون بها على هذا الترتيب، فائتوا بمثل ما جئناكم به.
والحروف هذه كما ذكرنا قبل ذلك أنها سر من أسرار القرآن، أي: مهما قال المفسرون فيها باجتهاداتهم فإن حقيقة علمها عند الله تبارك وتعالى، فهم يطلعون على بعض الأشياء منها، فلماذا هذه السورة بدأت بـ {الم} [العنكبوت:1]؟ ولماذا هذه بـ {كهيعص} [مريم:1]؟ ولماذا هذه بـ (حم) {عسق} [الشورى:2]؟ ولماذا هذه بـ (طسم)؟ الله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك، ولكن كل ما يقوله المفسرون في ذلك ما هو إلا شيء من عند أنفسهم، ليس توقيفاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو فهم يؤتيه الله عز وجل من يشاء، ولذلك ستجد من يقول: إن هذه الحروف فيها تعجيز للناس، وسيقول: ما ذكرت أبداً هذه الحروف إلا ويليها الإشارة إلى هذا القرآن العظيم، ومن ذلك قوله عز وجل: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2].
{الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3].
فهنا يذكر الحروف ويذكر بعدها الإشارة إلى القرآن، إلا في ثلاث سور من القرآن لم يذكر بعدها الكتاب مباشرة، وإنما ذكر ذلك في ثنايا السورة، منها هذه السورة التي معنا، فذكر الإشارة إلى القرآن بعد آيات من أول السورة، وليس في أول السورة عقب: ((الم)).
وكذلك نفس الأمر في سورة الروم ومريم.
ففي هذه السورة الكريمة ذكر العلماء أن الله سبحانه تبارك وتعالى افتتحها بـ {الم} [العنكبوت:1] تعجيزاً للكفار كما ذكرنا، وقيل: إن {الم} [العنكبوت:1] اسم للسورة أو اسم للقرآن، أو أنها حروف من أسماء الله عز وجل بدأ بها هذه السور، والله أعلم بذلك.(183/4)
مواضيع سورة العنكبوت
في هذه السورة تثبيت للمؤمنين، وأنه مهما أصابتهم الفتن، ومهما أصابهم البلاء، فإن لهم الجنة جزاء صبرهم، لذا فإن كل سورة من سور القرآن لها أغراض يذكرها ربنا تبارك وتعالى في ثنايا هذه السور، فالإنسان الناظر نظرة عامة لهذه السورة يجد فيها أن الله عز وجل يثبت المؤمنين المستضعفين الذين يبتلون، فيقول لهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ثم يسوق لهم كيف ابتلى الأنبياء، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام حينما ألقي في النار: {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24].
وفيها أيضاً: الأمر بمنافاة المشركين والبعد عنهم، والتبرؤ من هؤلاء المشركين حتى ولو كانوا أولي قربى، ولذلك وصى الله عز وجل بالوالدين إحساناً وقال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فالإنسان يصاحب الوالدين بالمعروف، ويحسن إليهما، ويطيع الوالدين في المعروف، أما في الكفر بالله عز وجل، وفي معصية الله فلا طاعة لأحد في ذلك.
وفي هذه السورة أيضاً وجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين، وأن لهم سعة في الأرض فيذهبون ويتوجهون حيث شاءوا، قال الله عز وجل فيها: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، فذكر أن أرض الله عز وجل واسعة، وذكر في السورة الأخرى فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97]، وهنا ذكر الله عز وجل فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، أي: ما الذي جعلكم تقيمون في مكة حتى هذا الحين، وقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة؟ ولماذا تقولون: نحن مستضعفون وأنتم لا زلتم في مكة؟ وإنما اخرجوا وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحاول ذلك المستضعفون في مكة فخرج منهم من استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورد منهم من غلب على أمره وأرجعوه إلى مكة.
أيضاً في هذه السورة الأمر بترك الجدل إلا بالحسنى، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46].
كذلك فيها الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ هذا القرآن العظيم، وشرائع هذا الإسلام العظيم، والتأسي بالأنبياء السابقين وبأحوالهم.
كذلك فيها الإخبار عن أمية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي أمي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، فذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً، وذكر أيضاً الحكمة من ذلك، وهي: أنك يا محمد! إن كنت تتلو كتاباً من قبل القرآن، أو كنت تخط كتاباً بيمينك {إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]، أي: لارتاب أهل الباطل في القرآن، ولقالوا: إن هذا الكلام الذي يقوله قد قرأه من كتب السابقين، وترجمه لنا بالعربية حين يزعم أنه من كلام الله عز وجل، لذلك أغلق الله عز وجل عنهم هذا الباب فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:48 - 49]، أي: أن القرآن محفوظ في الصدور والسطور، بخلاف الكتب السابقة، فقد كان أهل الكتاب يكتبونها فإذا مات من حفظوا ذلك يقوم الذين كتبوا فيحرفون هذا الكتاب، وما يجدون أحداً يراجع عليهم ويقولون: ما حفظنا غير هذا الذي كتبتموه، فيحرفون ولا يعرفه غيرهم.
أما القرآن فالأصل أنه محفوظ في الصدور: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
كذلك في هذه السورة الإلزام بإثبات وحدانية الله سبحانه تبارك وتعالى، فقد ألزم المشركين بأن يعبدوا الله وحده، فهم يقرون بأنه الخالق وحده سبحانه، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] أي: فكيف يصرفون عن توحيده؟ وكيف ينصرفون عن عبادته سبحانه وقد أقروا أنه الخالق سبحانه، خلق السموات والأرض بغير عمد ترونها؟ كذلك فيها إثبات جزاء الأعمال، فقد توعد الله المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم منهمكون في باطلهم، وغير ذلك من أغراض هذه السورة العظيمة.(183/5)
سنة الابتلاء
سورة العنكبوت بدأها ربنا سبحانه بقوله: {الم} [العنكبوت:1] ثم قال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
قوله: {أَحَسِبَ} [العنكبوت:2]، أي: أفيظن الناس عندما يقولون: آمنا.
أنه لا يتعرض أحدهم للبلاء؟ ليست هذه سنة الله سبحانه في خلقه، إنما سنة الله في الخلق أن يبتلي المؤمن، فكلما ازداد الإيمان واليقين كلما ازداد البلاء من الله تبارك وتعالى عليه، ولذلك كان (أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل) كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول لنا ربنا سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] قال ابن عباس وغيره: أراد بـ (الناس) قوماً من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كـ سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر وياسر أبوه وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم، وغيرهم ممن كان يعذب في مكة، وكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكروا كيف أن الله عز وجل يمكن الكفار منهم، والإنسان في وقت الضيق يمكن أن يحصل في صدره شيء من ذلك، فيأتيه الشيطان فيوسوس في نفسه، ويقول: هل هذا جزاء إيماني؟ هل هذا جزاء أنني أصلي؟ هل هذا لأنني ملتزم بالدين؟ وهكذا، فيوسوس له الشيطان في الابتعاد عن الالتزام، وعن دين رب العالمين، لكن ربنا يطمئن المؤمنين ويثبتهم، وكأنه يقول لهم: أنتم تريدون أن تقولوا: نحن مؤمنون، وتأخذون الجنة العظيمة من غير بلاء؟ لا، لابد من الابتلاء والتمحيص.
وقالوا في سبب نزولها: إنها نزلت في يوم بدر لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان عبداً عند عمر، فأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أو كان أبوه عبداً وأعتقه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان له الولاء عليه، وكان الرجل أول قتيل من المسلمين في يوم بدر، رماه رجل من الكفار اسمه: عامر بن الحضرمي فقتله، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الشهداء، ولكن أبوه وامرأته جزعا عليه جزعاً شديداً، فنزلت الآية تطمئنهم وتقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
كذلك ذكروا في سبب نزولها: أن ناساً من المؤمنين كانوا في مكة، وعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في السنة السادسة راسل هؤلاء المؤمنين، وأمرهم أن يخرجوا، فخرج بعضهم فإذا بالمشركين يردونهم ويقتلون بعضهم، فنزلت الآية تثبتهم وتطمئنهم، وأنه لا بد من البلاء، فيبتلي الله الإنسان المؤمن حتى يثبت إيمانه، يقول الله سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] إذاً: سنة الله أن المؤمن مبتلى، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، أي: لقد ابتلينا الذين من قبلهم، والفتنة بالتشديد بمعنى: الابتلاء والاختبار، وأصلها: من فتن الحديد، وفتن الذهب، وفتن الفضة، بمعنى: أدخلها النار حتى ينقيها من الشوائب، فقال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3]، فالذين من قبلهم فتنوا وحرقوا وأوذوا في سبيل الله عز وجل، ومنهم إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كان من قبلكم يؤخذ بالرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين) فانظروا إلى هذا البلاء الشديد الذي كان في السابقين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك للمؤمنين ليثبتهم وليطمئنهم، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ وأنت ترى ما نحن فيه من النكال والعذاب من الكفار، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم: أنكم لستم بأول من ابتلي، بل إن بلاءكم أخف ممن كان قبلكم فقد كان يؤتى بالرجل من الذين من قبلكم فينشر بالمناشير، ويمشط بأمشاط الحديد، بمعنى: يؤتى بمشط من حديد قد وضع على النار، وينزعوا به لحمه من جسده (ما دون عظمه ولحمه) يقول صلى الله عليه وسلم: (فما يصرفه ذلك عن دينه، ثم يقسم فيقول: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، أي: أنتم تستعجلون، ولكن إن صبرتم فإن الدين سينشر، والإيمان سيستقر، والأمان سينتشر بين الناس، حتى يخرج المسافر من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف أحداً، لا قطاع طريق ولا غيره، فلا يخاف أحداً في الطريق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، وإن خاف من شيء ما فسيخاف من الذئب، لأنه يأكل غنمه مثلاً، ولكن لا يخاف من البشر (ولكنكم قوم تستعجلون).
أيضاً مما جاء من الأحاديث في هذا المعنى ما رواه ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك)، أي: مريض مرضاً شديداً، (قال: فوضعت يدي عليه -عليه الصلاة والسلام- فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف) يعني: أنه حط يده فوق اللحاف الذي على النبي صلى الله عليه وسلم فشعر بحرارة شديدة جداً، قال: (فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك) أي: أن هذه حرارة شديدة جداً، فهو لم ير مثلها قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر.
قال أبو سعيد: قلت: يا رسول الله! من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء).
إذاً: مهما ابتلي إنسان فلن يبتلى بمثل ما ابتلي به الأنبياء، (قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحوبها أو يجوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء).
قوله: (إن كان أحدكم ليفرح بالبلاء) أي: أن الصالحين يبتليهم الله عز وجل فيصبرون على البلاء، بل ويفرحون بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء، وهذا حديث صحيح.
حديث آخر صحيح رواه الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت: (يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً) أي: قوة في الإيمان (اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة).
لذلك إذا ابتلي العبد فليتذكر أن الله يكفر عنه سيئاته بهذا البلاء، ويرفع له درجاته بهذا البلاء، ويجعله كالأنبياء، فليتأس بالأنبياء والصالحين، وليصبر على ذلك وينتظر الفرج من الله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(183/6)
تفسير سورة العنكبوت [2 - 7]
يكشف الله سبحانه في هذه الآيات الكريمات سنة من سننه في هذا الكون، وهي: أن من ادعى الإيمان من الناس فلا بد أن يبتلى ويفتن ليظهر صدقه من كذبه، وقد فتن الله تعالى السابقين ليظهر مكنون سرائرهم، ثم لما كان من الناس من يعمل السيئات ذكر الله أن من هذا حاله فلن يفوت ربه؛ بل إن ظن ذلك فهو حكم سيئ على مولاه القادر عليه، ثم بين أن من كان يخاف أو يطمع في لقاء ربه فاللقاء آت لا محالة، ومن عمل صالحاً فإنما يعود نفعه عليه.(184/1)
سبب تسمية هذه السورة بسورة العنكبوت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
هذه سورة العنكبوت كما ذكرنا في الحديث السابق، واشتهرت بهذا الاسم من عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكونها اشتملت على ذكر العنكبوت في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
وكان المشركون كما يقول عكرمة رحمه الله إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بالتسمية وبالقرآن ويستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95]، يعني: المستهزئين بهذا ومثله.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].
فالله عز وجل لا يستحيي أن يضرب المثل للشيء الصغير الذي هو في نظر الناس حقير.
والإنسان عدو ما جهل، بل ويستهزئ بما يجهله، فإذا تبين له بعد ذلك حقيقتة رجع إلى الأمر وتاب إلى ربه سبحانه وتعالى.
لكن المشركين نظروا إلى قوله سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41].
فالله عز وجل ذكر مثلهم في اتخاذهم أولياء وناصرين ينصرونهم من دون الله، وتعززوا بالشياطين وبأصنامهم وأوثانهم، فمثلهم في استنصارهم بذلك كمثل الذي يحتمي ببيت وواهن ضعيف.
فهم يحتمون بشركائهم ويستنصرون بهذه الطواغيت التي لا تملك لنفسها فضلاً عن غيرها شيئاً، فمثلهم كإنسان هجم عليه أعداؤه، فدخل يختبئ من الأعداء ويحتمي من ضرباتهم ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت.
وأي إنسان هذا الذي يحتمي ببيت العنكبوت فيحميه؟! فهذا مثل هؤلاء الكفار.
لذلك لما وجدوا أن القرآن يذكرهم بذلك، وأنهم كالذي يحتمي ببيت العنكبوت، إذا بهم يستهزئون، ولم ينظروا إلى حقيقة الأمر أن أولياءهم لا تنفع ولا تشفع ولا تضر ولا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً، ولكنهم تجاهلوا ذلك، وتغافلوا عنه، وزعموا أن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله زلفى.
فلما سمعوا كلمة العنكبوت ضحكوا واستهزءوا من النبي صلى الله عليه وسلم ومما ذكر الله عز وجل، وعندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] سنجد أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى العظيمة، ومعجزة من المعجزات التي لم يفهموها، ولم يعرفوا حقيقتها إلا بعد أن تقدم العلم، فظهر لهم هذا الشيء, وإن كان هذا المثال واضحاً: إنكم تحتمون بآلهتكم، وما الذي تصنعه لكم آلهتكم؟! ولو جاء إنسان من الكفار على آخر منهم وضربه بالسيف أمام هذه الآلهة ما أغنت عنه شيئاً، فكيف تعبدونها من دون الله سبحانه، وهي لا تملك لنفسها ولا لكم شيئاً؟! وكذلك ذكر الله عز وجل البعوضة والنمل، وهذه أشياء لا يذكرها الله تعالى إلا لحكمة، وأهل الجاهلية مع كفرهم وشركهم فعقولهم في عمى وضلالة، لا يفهمون ولا يحاولون الفهم لما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى.
إن هذه السورة بدأها الله عز وجل بالحروف (ألف، لام، ميم) فيتحدى هؤلاء الكفار: إن كلامكم مكون من هذه الحروف، فائتوا بمثل هذه القرآن، أو بعشر سورٍ من مثله، أو سورة واحدة من مثله.
فهم سخروا من القرآن لأنه ذكر الله عز وجل فيه العنكبوت والنمل والبعوض، ولكنه لما تحداهم لم يقبلوا هذا التحدي، والأكثرون لم يفعلوا ذلك، وعادة الإنسان العربي أن فيه عصبية، وفيه عناد، فإذا تحداه أحد قبل التحدي، ولكن من إعجاز القرآن أن الغالبية العظمى من هؤلاء لم يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي، ومن رءوس هؤلاء الكفار الوليد بن المغيرة الذي كان يعد من أفصحهم وأبلغهم، وأكثرهم مالاً وبنين، ومع ذلك كان كلامه عن هذا القرآن: إنه قرآن عجيب وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق, وما هو بقول البشر.
وبعضهم حاول أن يؤلف مثل هذا القرآن، فبدأ يتكلم بكلام فيه تخاريف، فيذكر أشياء فيضحك عليه من حوله منه، كما فعل مسيلمة الكذاب، لما سمع سورة العصر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد ذلك: وأنا أنزل علي، ثم تكلم عن الضب بكلام فارغ يصفه به، فجعل أصحابه يضحكون من الكلام الذي قاله، وقال له قائلهم: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب.
ومع ذلك تبعوه لكونه منهم، لا لكونه صادقاً.
فالغرض من ذلك بيان أن العرب الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله عز وجل عنهم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
أي: أنهم لا يقولون عنك كذاب، بل هم يجحدون آيات الله، وفي قرارة أنفسهم يعرفون أنك على الحق تماماً، ولكنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.(184/2)
تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)
قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
(الناس) المقصود بهم هنا المسلمون، أو بعض المسلمين، فهو من العموم الذي يراد به الخصوص، أي: أحسب المؤمنون الذين دخلوا في هذا الدين أن يتركهم الله عز وجل على ذلك من غير أن يبتليهم ومن غير أن يمتحن قوة إيمانهم، فيرفع درجاتهم بهذا الذي يبتلون به في الدنيا؟! فليس الأمر سهلاً بمجرد أن الإنسان يقول: لا إله إلا الله، أو يا الله، فينزل عليه الرزق من السماء، ويفتح له أبواب الرزق من الأرض، ويفتح له الحب من الناس، والخير الذي يراه أمامه كل يوم من غير أي بلاء ولا عناء، فيكون في جنة في الدنيا، وهذا لا يكون للمؤمن أبداً، أنه في الدنيا منعم مرفه، وفي الآخرة كذلك؛ بل لا بد أن يبتلى في الدينا حتى ينال النصيب الأوفى والحظ العظيم من النعيم يوم القيامة، لذلك لا بد في الدنيا من البلاء.(184/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد فتنا الذين من قبلهم)
قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3].
أي: ابتليناهم واختبرناهم وامتحناهم بالآيات في الدنيا، وبالتعذيب فيها، حتى نجحوا ونجاهم الله عز وجل، وأدخلهم الجنة.
قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
في قوله: (فليعملن) (وليعلمن) اللام للتوكيد، والنون للتوكيد، فدخلت اللام على أول المضارع والنون المثقلة على آخره وهذا دليل على القسم، كأنه يقول: والله ليعلمن الله عز وجل ذلك، والله يعلم علم غيب، ويعلم علم الشهادة، و (ليعلمن) تفيد الاستقبال، فكأنه علم مخصوص، وقبل ذلك كان الله عز وجل يعلم كل شيء قبل أن يخلق البشر، فخلق الله عز وجل القلم وأمره أن يكتب ما يكون إلى يوم القيامة، فكتب هذا كله.
فالله عز وجل علم ما في اللوح المحفوظ؛ من أنه سيكون كذا وكذا، فلان مؤمن وفلان كافر وهكذا، لكن هنا علم آخر معناه: علم المشاهد، يعني: أن يحدث ذلك، فالله عز وجل في علمه أن فلاناً لو عاش يكون مؤمناً، أو لو عاش يكون كافراً، ولكنه قبضه قبل أن يكون كافراً، فعلم الله علم غيب، والعلم في الشهادة أن يحدث ذلك، وهذا الذي تكلم عنه سبحانه تبارك وتعالى (فليعلمن) أي: ليكونن ذلك، فقد علمه غيباً فقدره وسيعلمه حين يفعله هذا الإنسان، ويكتب كذلك بأنه فعل ذلك ليجازيه عليه.
فعلم الله عز وجل علمان لا يختلفان: علم غيب، وعلم شهادة.
علم غيب: قبل أن يخلق الإنسان قد علم الله ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأن هذا مؤمن وأن هذا كافر، وأن هذا يعيش كذا فقدر أجله وعلمه، وشقي أو سعيد، ورزقه كله مقدر عند الله سبحانه، فعندما يحدث هذا الشيء يكون علم الشهادة وعلم بالحدوث لهذا الأمر.
قال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:3] أي: فليظهرن ذلك مشاهدة، {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، أي: فليعلمن الله الذين صدقوا في قولهم: لا إله إلا الله، وصدقوا في إيمانهم وزعمهم أنهم يحبون الله سبحانه وتعالى، وليعلمن الكاذبين الذين قالوا: آمنا وهم لم يؤمنوا، والذين كذبوا وادعوا أنهم يجاهدون في سيبل الله، فلما جاء الجهاد لم يفعلوا ذلك.(184/4)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا)
قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت:4].
يعني: أفظن الذين يعملون السيئات ويكسبون الشرك والمعاصي، وأفظع السيئات الكفر بالله سبحانه وتعالى.
فيقول لهؤلاء المشركين: هل تظنون أنكم تهربون من الله سبحانه، وتعجزون ربكم؟! وكأنه المثال الذي بين الناس: شخص يجري وراء آخر فقد يفلت من هذا الذي يجري وراءه، ولكن أتظن وأنت تتعامل مع الله عز وجل أنك سوف تهرب منه سبحانه، فتصعد إلى السماء أو تنزل إلى الأرض، أو تمشي شمالاً أو يميناً، وتفلت من الله سبحانه، فهذا لا يكون أبداً.
قال تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: ساء ما يحكمون به على ربهم أن شبهوه بالخلق، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فهم في عبادتهم يشبهون خالقهم بالمخلوق؛ لذلك صنعوا الأوثان والأصنام حتى يروها أمامهم، فيعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى، وهذا تفكيرهم الغبي، فقال سبحانه: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: على خالقهم بأنه لا يقدر عليهم، أو بأنهم يعجزونه، ولذلك لما اجتمع ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي، فتكلموا يسرون إلى بعضهم، وأسروا حديثهم، فسأل بعضهم بعضاً: أترون الله يسمعنا؟ فقال أحد الحمقى منهم: أرى أنه يسمعنا لو جهرنا ولا يسمعنا إذا أسررنا.
وقال الأخر: لو كان يسمعنا إذا جهرنا فهو يسمعنا في الحالين.
فأنزل الله عز وجل يذكر في هذه الآيات أنهم كانوا يقيسون الخالق على المخلوق، إذ لو وقف أحد بعيداً عن المخلوق وأسر لآخر فإنه لن يسمعه، كذلك ربنا تعالى الله عما قالوا.
فنتكلم في السر من أجل ألا يسمعنا.
قال تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، أي: يحكمون على خالقهم حكمهم على البشر، ويحكمون عليه أنه لا يقدر عليهم، وأنهم يعجزونه ويفلتون ويهربون منه.(184/5)
تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت)
ثم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5].
(يرجو) أي: يؤمل، وإن كان أكثر المفسرين على أن معناها: يخاف، وهو من معاني الرجاء، قال الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها فمعنى قوله: (لم يرج لسعها): لم يخف لسعها.
فقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت:5]، أي: من كان يخاف من لقاء الله يوم القيامة، ويخاف من ذنوبه: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، فإن الموت آت آت.
ويرجو أيضاً بمعنى: يؤمل، فالإنسان المؤمن الذي يؤمل لقاء الله سبحانه وتعالى، فليعمل عملاً حسناً فإنه ملاقيه عند الله.
ومن كان يخاف من لقاء الله سبحانه فليحذر من النار يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى يعذب من عصاه، قال تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5]، أي: فالموت آت والبعث والنشور والقيامة آتية.
فأكده الله عز وجل باللام هنا، فهو آت لا محالة، وهو السميع لما يقولون العليم بأحوالهم.(184/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه)
قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
فكل إنسان يجاهد فإنما الجزاء لنفسه، ولن ينفع بجهاده ربه سبحانه وتعالى شيئاً، والإنسان الذي يذبح مضحياً أو يذبح هدياً يتقرب به لله سبحانه، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37].
أي: لن يأخذ منكم فيأكل ولا ينتفع بهذا الذي تفعلوه، ولكن أنتم الذين تنتفعون بذلك، والذي يجعل ربكم سبحانه يعطيكم الثواب هو تقواكم، فأنتم المنتفعون أولاً وآخراً.
فإياك أن تمن عليه سبحانه بعملك وبعبادتك له، فإن الله لغني عنك وعن عبادتك، قال: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6].
لكن العبد يصلي ويصوم ويرجو رحمة الله، ويصبر على الأذى، ويصبر على أقدار الله سبحانه وتعالى، وليتذكر قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ولذلك لما قتل مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في يوم بدر وجزع عليه أبوه، وجزعت عليه زوجته جزعاً شديداً إذا بالله عز وجل ينزل هذه الآية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
أي: لا بد أن يفتنوا بالعذاب في الدنيا بالقتل والاستشهاد فيها، ولا بد أن يفتنوا ويبتلوا بالبلاء في الدنيا حتى يرفع الله عز وجل درجاتهم يوم القيامة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] يعني: عن أعمال الناس.
وقال لهم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].(184/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم)
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [العنكبوت:7].
وهذا قسم من الله عز وجل للمؤمنين، فكأنه يقول: والله لنكفرن عنكم أيها المؤمنون العاملون الصالحات سيئاتكم.
وقوله: ((والذين أمنوا وعلموا الصالحات)) هذا قيد، فلا يأتي إنسان ويقول: أنا أقول: لا إله إلا الله، وهذا يدخلني الجنة، فلا بد من العمل، وهذا من واجبات الإيمان، فلا بد أن تعمل عملاً صالحاً.
والتكفير: المحو، أي: نمحو عنهم سيئاتهم بالمغفرة.
قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
والمعنى: نجزيهم أعمالهم بأحسن مما يتمنونه، فالإنسان يعمل العمل ويرجو الثواب من الله، هو يرى العمل قليلاً، فإذا جاء يوم القيامة وجد ثواباً عظيماً جداً لم يكن على باله.
كالذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا بالناس يستجيبون ويفعلون هذا المعروف الذي أمرهم به، وهو لا يتخيل أن هذه الكلمة التي قالها توصله لهذا الثواب العظيم، فإذا به يوم القيامة يجد أعمالاً عظيمة له لم يعملها، ولكنه جوزي بعمل أصحابها.
ولذلك الكلمة الطيبة صدقة للإنسان، وأن تبتسم في وجه أخيك فتصير لك عادة فتضحك لأخيك فتكتب لك حسنة عند الله سبحانه، فإذا جئت يوم القيامة وجدت حسنات كثيرة ليست على بالك: حسنة لأنك أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وحسنة لأنك تبسمت في وجه أخيك، وحسنة لأنك أعنت إنساناً على حاجته، وحسنة لأنك دفعت لإنسان دابته وأعنته فيها: وهكذا، ولهذا قال: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، أي: بأحسن أعمالهم وهي الطاعة، وكذلك نكفر عنهم كل معصية.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(184/8)
تفسير سورة العنكبوت [2 - 10]
بين المولى سبحانه وتعالى أنه لا يكفي ادعاء الإيمان فقط، بل لا بد لكل مؤمن أن يبتلى بما يظهر أن إيمانه حقيقي وقوي أم ضعيف، ثم إن ذلك الابتلاء سنة الله تعالى الماضية منذ بدأ الخليقة إلى أن تقوم الساعة، وهذا الابتلاء فيه رفع لدرجات المؤمنين وتمحيص لهم وغفران لذنوبهم، أما أصحاب السيئات فليسوا بمعجزين ربهم، فلا بد أن يرجعوا إليه ليجازيهم على سوء ظنهم به تعالى.
وقد أوصى الله تعالى بالوالدين، وأن يطاعا فيما يأمران به ما لم يكن معصية أو إثماً؛ لأنهما السبب في وجودك بعد الله تعالى، ولهما من سابق التعب والنصب والجهد ما يجعل طاعتهم عليك فرضاً.(185/1)
تفسير قوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
في هذه الآية التي ذكرها الله عز وجل من سورة العنكبوت وما قبلها يخبرنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى أن الإنسان إذا قال: لا إله إلا الله ودخل في هذا الدين العظيم، فإنه لا يظن أنه سيعيش سعيداً في الدنيا بغير بلاء فيها، بل لا بد وأن يصيبه شيء من بلاء الدنيا.
وكلما كان الإنسان قريباً من الله عز وجل، قريباً من دين الله سبحانه وتعالى، ممتثلاً أوامر الله، منزجراً عن نواهي الله سبحانه كلما أصابه البلاء أكثر من غيره.
قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] أي: لا بد وأن يفتنوا وأن يبتلوا حتى يكفر الله عز وجل عنهم من سيئاتهم، ويرفع درجاتهم.
وقد أخبرنا سبحانه أنه فتن الذين من قبلنا، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3]، وقد كانت الفتنة في السابقين فتنة عظيمة وكانت الأصار عليهم والأغلال شديدة، لكن من رحمته سبحانه أن وضع عنا ذلك قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، ومن الأغلال التي كانت على بني إسرائيل: أنهم إذا أذنبوا ذنباً أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً كما حدث لهم عندما عبدوا العجل، فقام بعضهم لبعض، وظللت عليهم غمامة وأظلم النهار، فقتل في موقف واحد فوق السبعين ألفاً من اليهود؛ حتى قبل الله توبتهم، وهذا كان من الآصار.
أما في ديننا من تاب تاب الله عز وجل عليه، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تمحو الذنوب بفضل الله سبحانه وتعالى.
وقد كان على الذين من قبلنا آصار في عباداتهم، فلا تصح منهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، أما نحن فأيما رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة في مكان من الأماكن فعنده مسجده وطهوره، فيتطهر إن لم يجد ماء بالتراب، وإن وجد مسجداً صلى فيه، فإن لم يجد فالأرض مسجد وطهور، وهذا من فضل الله ورحمته.
ومن الأغلال التي كانت على الذين من قبلنا أنه أن إذا أصاب البول ثوب أحدهم لم يجزئه إلا أن يقصه بالمقص، أما في ديننا فيكفي أن يغسله بالماء.
فهذه الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلنا رفعها الله عز وجل عنا، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أحدهم كان ينشر بالمنشار، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فلا يصده ذلك عن دينه، أما هذه الأمة فالإنسان المكره منها ولو على كلمة الكفر معذور في ذلك.
أما السابقون فلم يكن لهم عذر في ذلك، فكان أحدهم إذا ابتلي ليفتن عن دينه لا بد وأن يصبر وإلا مات على ذلك، ولذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، مر رجل على قوم من الكفار لهم وثن يعبدونه من دون الله فقالوا: قرب -أي: لإلههم الذي يعبدونه- قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب شيئاً ولو ذباباً قال: ما كنت لأقرب لغير الله شيئاً، فقدموه فضربوا عنقه، فدخل الجنة بذلك، ومر بهم رجل آخر فقالوا: قرب، قال: ما أقرب؟ قالوا: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فكان من أهل النار)، أما نحن في ديننا فقد أذن الله عز وجل في التلفظ بكلمة الكفر لمن قلبه مطمئن بالإيمان حال الإكراه فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106].
فالذين من قبلنا فتنوا فتناً شديدة، وصبروا، والله عز وجل أعطاهم الأجر على ذلك، وجعل في أمتنا التيسير والتخفيف، ولكن لا بد من البلاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].(185/2)
تفسير قوله تعالى: (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا)
وقد ذكرنا في الحديث السابق معناها، وأن معنى العلم أنه يعلم علم شهادة بعدما كان علماً غيبياً.
قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، يعني: هل يظن الذين يشركون بالله سبحانه ويقعون في معاصي الله أن يفلتوا من عذاب الله؟ إن ظنوا ذلك فهو ظن السوء منهم، فكأن من ظن ذلك فقد شبه ربه بالمخلوق، فلما كان يقدر أن يهرب من المخلوق ظن أنه يهرب من خالقه سبحانه وتعالى، وكان بعض الحمقى والمغفلين من أهل الجاهلية يتعاظم بجسمه وبقوته فيقول لغيره من هؤلاء الكفار: إن محمداً يخيفنا بالنار، فإننا إذا جئنا يوم القيامة وقفت أنا فمنعتكم!! يظن أنه في الدنيا مثلما يقف ليصد الناس فيوم القيامة سوف يقف على باب النار ويمنع الباقين، وذلك من جهله وحماقته وغبائه.
ويفرح هؤلاء بما يقول هذا المغفل ويصدقونه، وإن كان التصديق ظاهراً لكن يستحيل أن يكون الإنسان في قلبه يصدق مثل هذا الشيء.
فقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4].
بل كان بعضهم يقول للآخرين: إن محمداً يزعم أن على جهنم تسعة عشر، ونحن عددنا كثير، فكل رجل منا برجل منهم.
كأنه يظن أن ملائكة الله كالناس المغفلين الذين يراهم أمامه من هؤلاء.
ويذهب أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بجمجمة إنسان ميت ويقول: تزعم أن ربك قادر أن يبعث هذه ويفتها بيده، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، يبعثها ويدخلك النا).(185/3)
تفسير قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله لغني عن العالمين)
قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت:5] أي: من كان يخاف من عذاب الله ويؤمل رحمة الله؛ فإن الموعد سيأتيه، فكل ما هو آت قريب وإن طال في نظرنا؛ لأننا نقيس ذلك بأعمارنا وبسنين الدنيا، أما عند الله عز وجل فيوم واحد كألف سنة مما تعدون، فإذا قال: هذا قريب، فهو قريب.
قال تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت:6].
فكل إنسان يعمل الصالحات، وكل مؤمن يجاهد في الله سبحانه فجهاده لنفسه، أي: ثواب هذا الجهاد لنفسه، ونفعه لها، فهو المنتفع في النهاية، ولن ينفع ربه شيئاً، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، أكد الله غناه عن كل العوالم، سواء كان العالم العلوي أو العالم السفلي.(185/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات يقسم الله سبحانه وتعالى أنه سيكفر عنهم سيئاتهم، قال تعالى: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ} [العنكبوت:7]، وهذا الفعل المضارع المسبوق بلام التوكيد والمنتهي بنون التوكيد الثقيلة دليل على وجود القسم، كأنه يقول: والله لنفعلن بهم ذلك ولنكفرن ذنوبهم، ولنمحون عنهم ما وقعوا فيه من خطايا، فتابوا إلى الله عز وجل، فنفعهم إيمانهم ونفعتهم توبتهم.
قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:7] هذا الفعل أيضاً جواب القسم، والتقدير: والله لنفعلن ذلك ونجزيهم الأجر العظيم.
قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، أي: أحسن ما كانوا يتوقعون، فقد توقعوا من الله عز وجل أن يعطيهم ثواباً فأعطاهم ثواباً مضاعفاً.
توقعوا من الله عز وجل أن يدخلهم جنة على نحو معين؛ فإذا به يدخلهم جنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(185/5)
تفسير قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
وفي سورة الأحقاف قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف:15]، وفي سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]، وفي سورة البقرة قال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، أي: أحسنوا إليهم إحساناً.
وفي سورة النساء قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
فأمر الله عز وجل بالوصية بالوالدين.
وكذلك في سورة الإسراء ذكر الله عز وجل الوصية بالوالدين والإحسان إليهما فقال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، فالإنسان ينظر إلى الذي أنعم عليه وأوجده وخلقه وهو الله سبحانه وتعالى فيعبده، وينظر إلى السبب في وجوده في الدنيا وهما والداه، فلهما فضل عليك أن أوجدك الله عز وجل بسببهما، ولهما فضل التربية لك، والرعاية، والعناية بك، والرحمة عليك، ولذلك قال الله سبحانه: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، أي: رحماني وأنا صغير، وربياني وحملاني.
وقال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، فأمر العبد بالتواضع لوالديه وألا يؤذيهما ولو بكلمة أف التي هي أقل الكلمات التي تؤذي، فما بالك بما هو أعظم من ذلك؟! قال سبحانه هنا: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8]، أي: وصيناه أن يحسن إليهما بكل عمل فيه حسن، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، أي: أطع والديك في أمر بمعروف أو في نهي عن منكر، وأطع والديك إذا أمراك بشيء مباح، أما إذا أمراك بمعصية فلا تفعل هذه المعصية ولا تطعهما، وصاحبهما بالمعروف حتى لو كانا كافرين يهوديين، أو نصرانيين، أو مشركين وثنيين، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [لقمان:15]، وهنا قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [العنكبوت:8]، كيف يكون العمل عند ذلك؟ {فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]، قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ} [العنكبوت:8].
يعني: إذا اجتهدا وبذلا الجهد العظيم في دفعك عن طاعة الله سبحانه، وفي إيقاعك في الكفر بالله سبحانه فإياك أن تطيعهم في ذلك، ومع ذلك صاحبهما معروفاً، فلهما فضل عليك وهما أبواك.
قال تعالى هنا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] وقال سبحانه: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:15] ففي الآيتين لم يمنع الابن المؤمن من مصاحبة الأب والأم الكافرين، ولا من برهما والإحسان إليهما، وكذلك الإنفاق عليه أن ينفق عليهما.
بل قيل له: كن معهما في الخير، ولكن احذر من الطاعة في الشر، وفي المعصية والكفر.
ثم قال تعالى: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:8]، {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} [لقمان:15].
فقد يستسهل الإنسان المعصية، ولكن لما يتذكر أنه راجع إلى الله فيحاسبه، فالخوف من الحساب يمنعه من المعصية، ويدفعه إلى الطاعة، وفي سورة لقمان قال تعالى: {فَأُنَبِّئُكُمْ} [لقمان:15]، فإذا كان ينبئك بما كنت تعمل فمعناه: أنه سيحاسبك، فإن عملت الخير فلك الجزاء الحسن، وإن عملت الشر فعليك الوزر والحساب.
وذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إذ قال رضي الله عنه: أنزلت في أربع آيات: فذكر قصة وفيها قال: قالت أم سعد وكانت كافرة: أليس قد أمر الله بالبر؟ قال: بلى.
قالت: والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت فتعير بي أو تكفر.
وفي رواية قال سعد: وكنت باراً بأمي فأسلمت، يعني: أنه كان عظيم البر بأمه رضي الله تعالى عنه، قال: وبقيت أياماً على ذلك، وكانوا إذا أرادوا أن يطعموها يشجروا فاها بالخشب ويحطوا بداخله الطعام لكي لا تموت.
فلما استمر الأمر على ذلك ذهب لأمه وقال رضي الله عنه: يا أماه! -يقول ذلك على وجه التعطف والتحنن عليها- لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي.
فلما رأت الأمر على ذلك، وأنه متمسك بدينه أكلت.
فهذه من الفتن التي قد يبتلى بها الإنسان المتمسك بدينه، وقد تجد من يصلي فيقول أبواه: لا تصل، ولا تذهب إلى المسجد، فإذا تنازل عن أمور دينه شيئاً فشيئاً ضيع كل شيء، وإذا تمسك بذلك لعل الله عز وجل يهدي هؤلاء فيتركانه على ما هو عليه من طاعة ربه سبحانه.
فالإنسان عندما يبتلى بشيء من ذلك فليتذكر ما صنع سعد رضي الله تعالى عنه، وكيف أنه صبر لأمر الله سبحانه، وطاعة الله تبارك وتعالى فيها الخير والبركة.
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، أي: أنه فعلت أمه نفس هذا الشيء، وعيروه بذلك، فثبت فإذا بالله عز وجل يثبته في ذلك.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في جميع الأمة.
وهذا معناه: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(185/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9]، هذا جزاء الذل للمؤمنين، كما قال تعالى: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7].
فالله عز وجل يجعل المؤمنين مع الصالحين، والصالحون هم من قاموا بأمر الله عز وجل على الصلاح؛ فأصلحوا أنفسهم، فأصلح الله عز وجل لهم سيرتهم، وأصلح حالهم وبالهم، وجعلهم في جنته سبحانه وتعالى.
والمعنى: الذين هم في غاية الصلاح، وقد بلغوا أقصى درجات الصلاح في كل أمورهم، فسنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات معهم.(185/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله)
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت:10].
هنا ذكر فريقاً آخر من الناس الذين في إيمانهم ذبذبة: إما أنهم المنافقون، أو أن إيمانهم ضعيف بأقل فتنة يرتد ويرجع على عقبيه.
وقد كان من أهل مكة من آمن ودخل في دين الله تعالى: فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مكثوا في مكة مستضعفين حتى كان عام الفتح.
قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، فتنة الناس هنا عذاب الناس، فالمشركون كانوا يعذبون بعض المؤمنين، فإذا كان هذا المؤمن إيمانه ضعيف فيرى العذاب الذي ينزل به فيتزعزع إيمانه ويقول: ليس جهنم أكثر مما أنا فيه، فيرتد عن هذا الدين، وكأنه جعل عذاب الله عز وجل يماثل عذاب البشر.
أو أنهم المنافقون الذين يظهرون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وقد ذكرنا أن هذه السورة منها ما نزل بمكة، ومنها ما نزل بالمدينة، فإن كانت هذه الآية نزلت بمكة فالمقصود المؤمنون إيماناً ضعيفاً، وإن كانت نزلت بالمدينة فالمقصود المنافقون.
وقال مجاهد رحمه الله تعالى: نزلت هذه الآية في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وهنا التذكير للمؤمن أن يثبت على دينه، وأن يلازم أمر الله سبحانه، فإذا نزل به البلاء انتظر الفرج من الله ولا يتذبذب ولا يرتد على عقبيه؛ فإن في ردته شماتة للكفار به، وضياعاً له في دنياه وأخراه.
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(185/8)
تفسير سورة العنكبوت [12 - 15]
من رحمة الله عز وجل بالناس أن أرسل إليهم أنبياءً ورسلاً يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويدلونهم على طريق السعادة في الدنيا والآخرة، ولقد كانت سنة الله عز وجل في خلقه أن يهلك من لم يتبع دعوة الرسل أو صد عن اتباع دعوتهم، وكان نوح عليه السلام مثالاً لهذه السنة، حيث أهلك الله من خالفه واستكبر عن اتباع الحق الذي جاء به.(186/1)
دعوة الكافرين للمؤمنين أن يتبعوا سبيلهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:14 - 18].
يذكر الله سبحانه وتعالى هنا إشارات لقصص بعض الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى دين الله عز وجل، فاتبعه البعض، وكفر به الكثيرون، فقال الكفار المتعنتون لمن آمن من الضعفاء المستضعفين منهم: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت:12] أي: كونوا معنا في هذا الذي نحن فيه، ولا تتبعوا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وإذا كان عليكم ذنب فسوف نحمله عنكم يوم القيامة.
فبعد أن ذكر الله تعالى مقالتهم هذه أخبر سبحانه وتعالى عن كذبهم فقال: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت:12] أي: لن يحملوا شيئاً من خطايا هؤلاء بحيث يخففون عنهم يوم القيامة، ولكن سيحملون أثقالهم مضاعفة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] أي: يكذبون.(186/2)
قصة نوح عليه السلام
إن هؤلاء الكفار ليسوا بالأمر الجديد، وليسوا أول من كفر بالله عز وجل، بل قد كفر قبلهم الكثير؛ ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أنه وإن يكذبوك فقد كذبت أمم من قبلهم، من هذه الأمم من أرسل الله عز وجل إليهم نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فبدأ به لأنه أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وثنى بإبراهيم لأنه أب بعد أب، فكان أبو الخلق آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام نبياً، وكان يدعو أبناءه وهم على التوحيد وليسوا كفاراً، ولكن كان فيهم بعض المعاصي.(186/3)
سبب شرك قوم نوح
تقادمت السنون والدهور، وجاء بعد آدم عشرة قرون كانوا على التوحيد، حتى تحول الناس من توحيدهم لله عز وجل إلى عبادة الأصنام، وعبدوها من دون الله سبحانه، فأرسل الله إليهم نوحاً عليه السلام، وكان سبب شركهم ذلك: التصاوير والتماثيل والأصنام، فقال بعضهم لبعض: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فكان سبب ضلال هؤلاء: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه، وسبب وجود هذه الآلهة: أن الناس كان فيهم أناس صالحون يعبدون الله سبحانه، فأحبهم الناس، فلما مات هؤلاء الصالحون أتاهم إبليس ووجدهم في حزن على الذين ماتوا، وهم: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقال لهم: اصنعوا لهم الصور حتى تذكروهم، فصوروا لهم الصور حتى تكون تذكاراً يتذكرون بها هؤلاء الأقوام الصالحين.
فلم يزالوا على ذلك حتى أتاهم الشيطان وقال لهم: اصنعوا لهم التماثيل حتى تذكروهم بها، فصنعوا التماثيل على قبورهم، وكانوا يذهبون وينظرون إليهم ليتعظوا، وليتذكروا هؤلاء الصالحين فيتأسوا بهم في صلاحهم، فلما مات من عرف ذلك من الآباء إذا بأولادهم وأحفادهم من بعدهم يقولون: كان آباؤنا يذهبون ويتبركون بهؤلاء ويعبدونهم، فبدل من أن الآباء كانوا يتعظون بهم ويتذكرون أعمالهم الصالحة ليعبدوا الله كما كانوا يعبدونه، انقلب الأمر عند الأبناء والأحفاد فعبدوهم من دون الله، وتواصى بعضهم مع بعض بعبادة هذه الآلهة.
فكان ذلك أول شرك على الأرض، وأول ما حدث الكفر والشرك بالله كان بعبادة هذه التماثيل، فأرسل الله عز وجل نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى هؤلاء القوم يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:59].(186/4)
ما واجه به قوم نوح نبيهم
لما دعا نوح قومه إلى الله عز وجل، وكانوا غلاظاً ذا شدة وقسوة في قلوبهم، رفضوا دعوة نوح عليه السلام، قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فشكا نوح إلى ربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:5 - 12].
ودعاهم بالترغيب وبالترهيب، ثم أنكر عليهم مستغرباً متعجباً من صدودهم وإعراضهم: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: أين ذهبت عقولكم فتعبدون تماثيل لا تنفع ولا تضر، وتنسون ربكم سبحانه وتعالى ولا توقرونه؟! {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:13 - 15]، إلى آخر ما ذكره نوح لقومه وهو يدعوهم إلى الله عز وجل، فرفضوا أن يطيعوه، وكان جوابهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] أي: انتبهوا أن تتركوا الآلهة وتذهبوا إلى نوح.
فأوصى الآباء والأجداد الأبناء والأحفاد بذلك، وحذروهم من ترك الآلهة: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24] أي: أنهم ضلوا وأضلوا، وعبدوا غير الله سبحانه تبارك وتعالى.(186/5)
عاقبة المكذبين للرسل
لقد فصل الله عز وجل في القرآن قصة نوح في مواطن، من أطولها ما جاء في سورة هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذكر كيف أنه دعاهم فلم يستجيبوا له، فأغرقهم الله وأهلكهم.
وجاء كذلك تفصيل دعوة نوح لقومه في سورة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعاهم بالذي سبق من الآيات.
وفي سورة العنكبوت ذكر الله تعالى فيها إشارات الغرض منها: بيان أن قريشاً ليسوا أول من كذب، بل إن هناك أقواماً كذبوا من قبلهم، فأشار الله عز وجل إلى هؤلاء الأقوام المكذبين وأنه أهلكهم، ثم ذكر أقواماً آخرين كذبوا فأهلكهم الله، وهكذا.
كأنه يفصل شيئاً ثم يرجع في النهاية يفند هذا الشيء بعد أن يجمله.
قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] فذكر في هذه الآية إشارات للأقوام المكذبين وجمعها على طريقة اللف والنشر، فذكر في النهاية كيفية إهلاكهم بقوله: منهم من أهلكناه بكذا ومنهم من أهلكناه بكذا، وفي هذا تخويف لقريش، وكأنه يقول لهم: احذروا أن يصيبكم مثلما أصاب هؤلاء الأقوام، فيرسل عليكم حاصباً، أو تأخذكم صيحة من السماء، أو يخسف بكم الأرض أو يغرقكم، أو يفعل بكم ما يشاء، والله على كل شيء قدير.(186/6)
المدة التي مكثها نوح يدعو قومه
قال سبحانه وتعالى هنا في أمر نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، ففي كل موضع يذكر فيه نبياً يذكر شيئاً يختص بهذا الموضع.
والذي اختصت به هذه السورة: أنه ذكر فيها المدة التي لبثها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام في قومه، وهي مدة طويلة، جداً أشار إليها بقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] أي: تسعمائة وخمسون عاماً، ولم يعبر بتسعمائة وخمسين، بدلاً من ألف؛ لأن الألف لها وقع في السمع، فسماعك للألف غير سماعك للتسعمائة، لذلك إذا كتب في الأوكازيون: تسعمائة وتسعة وتسعون، ولم يكتب ألف، فإن الإنسان يحس أنها قليلة، فإذا ذكر ألف دخل في العقل أن الألف كثير، والمقصود أن نوحاً لبث كثيراً في قومه، فقال الله عز وجل: إنه لبث في هؤلاء القوم الذين أهلكهم الله ألف سنة إلا خمسين عاماً.
ثم أغرقهم الله سبحانه وتعالى، ثم بعثه الله إلى قوم غيرهم بعد ذلك، وهم أبناؤه وأحفاده ومن كانوا معه، فجاوز الألف السنة على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكأن الفترة التي مكثها نوح عليه الصلاة والسلام في هؤلاء القوم المهلكين ألف سنة إلا خمسين عاماً.(186/7)
دعوة نوح على قومه
لقد عاش نوح يدعو قومه حتى جاوز الألف التي ذكرها الله عز وجل هنا في كتابه، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] فكذبوه ولم يؤمنوا به كما قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، أي: لم يؤمن معه إلا العدد القليل، فكان يوصي بعضهم بعضاً، ويحذر بعضهم بعضاً من نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ ولذلك دعا عليهم، وقال كما قال تعالى: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، فقوله: (دياراً) وديور بمعنى واحد، والمعنى: لا تجعل عليها أحداً أبداً، والعرب تقول: لا تجعل على الأرض دياراً، ولا تجعل على الأرض ديوراً، أي: لا تجعل على الأرض أحداً، بمعنى: خذهم جميعاً واستأصل شأفتهم.
قال الله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: لا تذر أحداً يدور فوق الأرض من هؤلاء الكفار وأهلكهم جميعاً؛ لأنك إن تركتهم يضلوا عبادك، ولا يتركوا بعدهم إلا فاجراً كفاراً.
قال سبحانه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ} [العنكبوت:14] وهذا ترتيب وتعقيب: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14] فكانت فترة زمنية طويلة، ولكنها عند الله عز وجل لا تساوي شيئاً: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]؛ لأن اليوم من أيام القيامة بالألف السنة التي عاشها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14]، {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15] وهذا يفيد الترتيب والتعقيب، كأنها أشياء متوالية بعضها وراء بعض.
فبين أن يدعوهم إلى الله، ثم يدعو عليهم، ثم يأخذهم الطوفان بالنسبة لنا مدة طويلة، ثم إنه ما دعا عليهم إلا بعد أن يئس منهم، ولم ييأس منهم إلا عندما أخبره الله سبحانه بقوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فلم يدع عليهم طوال هذه المدة حتى أخبره الله أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36] أي: لا تحزن عليهم.(186/8)
هلاك قوم نوح بالطوفان
قال الله عز وجل: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14]، الطوفان: هو الماء الذي أغرقهم، فإذا به يطوف بهم، فبعد أن كانوا فوق الماء صاروا تحته، فأغرقهم الله عز وجل بأن أمر السماء أن تفتح أبوابها، وأمر الأرض أن تفتح أبوابها، فإذا بالماء ينبع من الأرض وينزل من السماء، وينطبق الماءان عليهم، فيهلكهم الله سبحانه بالغرق العظيم.
وممن أهلك الله في ذلك الطوفان: ابن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] فرفض الابن الكافر أن يركب مع أبيه النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43] أي: سأطلع فوق الجبل ولن يصل إلي الماء، فاغتر بذلك وصعد إلى الجبل، فصعد الماء وراءه حتى أغرقه الله فكان من المغرقين.
ومعنى قوله سبحانه: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} [العنكبوت:14] أي: أغرقهم الطوفان، وكأنه مارد جبار أمسكهم فلم يفلتهم، ولم يترك لهم مكاناً يلجئون فيه ويهربون إليه، فكأنه أمسك بهم وأغرقهم بقدرة الله عز وجل فيه، وهذا دليل على الإهلاك الشديد، وعدم الإفلات من عذاب الله سبحانه وتعالى إذا نزل؛ ولذلك يقول الله بعد ذلك: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت:22] فلو نزلتم داخل الأرض أو طلعتم إلى السماء فلن تهربوا منا.
قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت:14]، أي: بسبب ظلمهم.
قال عز وجل: {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15] أي: أنجينا نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله أمره أن يصنع السفينة، فظل يصنعها سنين، وخلال هذه السنين كان يمر به قومه ويستهزئون به، قال سبحانه: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] وذلك أنهم قالوا: كيف تصنع سفينة في الصحراء، وكيف تركبها، إذاً: أنت مجنون بفعلك هذا، فرد عليهم: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] انتظروا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:39].
وجعل الله عز وجل له علامة من العلامات تأتي وقت عذابهم، وهي أن الفرن الذي يتقد ناراً سيخرج منه الماء.
فلما رأى نوح تلك العلامة ركب السفينة وركب معه المؤمنون من قومه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ثم أغرق الله الجميع، قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15]، وأصحاب السفينة هم الذين أمره الله عز وجل بحملهم من الإنس والدواب: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
قال سبحانه: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] أي: جعلنا هذه القصة آية للعالمين، وجعلنا هذه السفينة آية عجباً؛ لأنه من العجب أن يصنع رجل واحد سفينة تحمل خلقاً عظيماً من الإنس ومن الدواب وممن شاء الله عز وجل له أن يحمله، فهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر من بعد نوح إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(186/9)
تفسير سورة العنكبوت [16 - 20]
مما يجب على الداعية تجاه المدعوين وبالأخص الكفار: أن يقيم لهم الدلائل العقلية والنقلية على صحة ما يعتقده، وهذا هو دأب القرآن والأنبياء في دعوة أقوامهم إلى الله تعالى، ومن هؤلاء إبراهيم عليه السلام، وقد ذكر الله جانباً من قصته في سورة العنكبوت المفسرة هاهنا.(187/1)
قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:16 - 21].
لما أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنه أرسل نوحاً إلى قومه ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يصدقوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:14 - 15] أنجينا نوحاً، {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت:15] المؤمنين الذين كانوا معه في السفينة، {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت:15] جعلنا هذه السفينة أو جعلنا هذه آية للعالمين.
قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] نصب إبراهيم على أنه مفعول لقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} [العنكبوت:15]، والمعنى: أنجينا نوحاً وإبراهيم أيضاً أنجيناه، فكأنها معطوفة على المفعول والفعل الذي هو أنجى، أو أنه نصب بفعل مقدر هنا وتقديره: واذكر {إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:16] أي: وقت أن قال لقومه ودعاهم إلى الله عز وجل، {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، ذكر نوحاً وهو الأب بعد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه كان قد أرسل إلى بنيه وكانوا مؤمنين موحدين، وفيهم من يعصي الله سبحانه، فالله عز وجل أمره أن يدعوهم إلى طاعة الله، ويعلمهم ويرشدهم كما علمه الله سبحانه، لكن نوحاً عليه الصلاة والسلام هو أول الأنبياء الذين أرسلوا إلى قوم كفار قد أشركوا بالله عز وجل.
ولذلك جاء في الحديث: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد)، وقوم نوح هم أول قوم بدءوا الكفر والشرك بالله سبحانه وعبادة الأصنام والأوثان، فأرسل الله عز وجل إليهم نوحاً فدعاهم فكذبوه فأهلكهم الله عز وجل وأغرقهم.
وفي هذه السورة الله عز وجل يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأذى الذي أوذيتم به ليس شيئاً جديداً، أو ليس شيئاً محدثاً لم يحدث للذين من قبلكم، بل هذا شيء قد حدث للسابقين من قبلكم، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فلست رسولاً بشيء جديد، بل كل الرسل أرسلوا بالتوحيد، وكل الرسل أوذوا في الله سبحانه، فهذا نوح أوذي ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعو قومه إلى دين الله سبحانه، وكذلك أوذي إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكل الأنبياء من بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذريته من أبناء إسحاق، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه فهو الوحيد من أبناء إسماعيل الذي صار نبياً ورسولاً، بل أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ) يذكره بما حدث لإبراهيم وهو الذي عاش في هذا المكان فترة، وقد كان عليه السلام في العراق ثم هاجر إلى الشام، ومن ثم أمره الله عز وجل أن يبني البيت فأتى بـ هاجر إلى الجزيرة، وأمره الله سبحانه بعدما شب ابنه إسماعيل أن يبني البيت هنالك وتركه ورجع إلى الشام، وكان يزروه في هذا المكان، فالعرب يعرفون إبراهيم جيداً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ولذا يقول هنا: اذكر إبراهيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، فأمرهم بعبادة الله، وقد أوذي أذى شديداً عليه الصلاة والسلام، دعا قومه في العراق إلى عبادة الله وكانوا عباد أصنام وأوثان، ولما لم يستجيبوا له هاجر إلى الشام هو وابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام، فوجدهم عباداً للشمس والقمر وكانوا يعبدون الكواكب من دون الله، وكان عليه السلام ناظر أهل العراق وناظر أهل الشام، ولم يستجب له لا هؤلاء ولا هؤلاء.
ولهذا قال إبراهيم لأهل العراق: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، فما كان منه إلا أن هجرهم وهاجر إلى الله سبحانه تبارك وتعالى وتوجه إلى الشام الأرض المقدسة، ودعا القوم هنالك، وأقام هناك بالشام عليه الصلاة والسلام، على أنه قد ابتلي في نفسه وفي أهله، فابتلي في أبيه وابتلي في ابنه عليه الصلاة والسلام بلاءً عظيماً، وقد ساق لنا الله جل وعلا القصص مختصرة في هذه السورة التي ليست من الطوال، بل من السور الوسط في كتاب الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يذكر فيها إشارات إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما ابتلوا به، وكأن الغرض من ذلك ذكر العذاب الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الأنبياء، {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، فهم استحقوا ذلك بظلمهم أنفسهم {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].(187/2)
دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه
إبراهيم بالسريانية معناها: أب رحيم، وهو اسم على مسمى، فهو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو من أرحم الناس بخلق الله سبحانه، وقد رأينا كيف جادل الملائكة في قوم لوط لما أرادوا إهلاك قوم لوط فقال الملائكة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32].
دعا قومه وهم عباد الأصنام والأوثان فقال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16]، توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى بالعبادة الخالصة ولا تشركوا بالله سبحانه، (وَاتَّقُوهُ)، أي: اتقوا غضب الله سبحانه فاجعلوا بينكم وبين عقوبته وقاية من الطاعة، فإن طاعة الله تقيكم وتنجيكم من عذاب الله وتدفع عنكم نار جهنم، فاجعلوا هذه وقاية لكم من عذابه سبحانه.
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [العنكبوت:16]، أي: أن تلك العبادة العظيمة وهذا التوحيد العظيم يقيكم من عذاب الله، وهو خير لكم بل وهو الأفضل لكم {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16]، إن كنتم تعلمون ذلك عبدتم الله سبحانه وأطعتموني.
ثم أخبرهم عن عبادتهم الباطلة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:17] إن عبادتكم هذه التي تعبدونها مقصورة على هذه الأوثان الباطلة، فهي عبادة باطلة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ} [العنكبوت:17]، أي: كل ما تعبدون من دون الله هو باطل وكل عبادة لما هو دون الله سبحانه فهي عبادة باطلة.
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} [العنكبوت:17]، أي: أصناماً تعبدونها من دون الله سبحانه، قالوا: الأوثان هي الأصنام، وفرق البعض بين الأصنام والأوثان، فالأوثان ما يعبد من دون الله سبحانه من حجر منحوت أما الأصنام فتكون مصنوعة من ذهب أو فضة أو نحاس ونحوها من معادن، وقيل: الأصنام ما كان مصوراً على هيئة والأوثان ما كان مصوراً أو غير مصور.
قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، والخلق: الصنعة، أي: الذي تصنعونه بأيديكم كذباً على الله سبحانه وتعالى هو إفك وباطل وكذب تكذبونه فتدعون أنها آلهة وأنتم إنما نحتموها بأيديكم.
{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ} [العنكبوت:17] أي: تصنعون {إِفْكًا} [العنكبوت:17]، كذباً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، ومن الملاحظ هنا أنه تحدث بشيء من التفصيل في قصة إبراهيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى هؤلاء العرب الذين شابهوا قوم إبراهيم في عبادة الأصنام ففصل لذلك، والسورة منها ما هو مكي ومنها ما هو مدني، فكأنه يشير لهؤلاء الكفار أنكم فعلتم فعل قوم إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان الأجدر بكم أن تصنعوا كما صنع إبراهيم أبو الأنبياء وهو أبوكم عليه الصلاة والسلام.(187/3)
محاجة إبراهيم لقومه
قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم أنه قال: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، هذه الأصنام هل سترزقكم؟ أو هل ستأتيكم بالطعام والشراب؟ كلا! فهي لا تملك لكم شيئاً، وإبراهيم قال بقوله وفعل بفعله ما يدل على الإنكار على قومه، ولذلك لما خرج القوم -قوم إبراهيم- في يوم من الأيام إلى عيد لهم جهزوا طعامهم ووضعوه أمام أصنامهم كأنهم ينتظرون من الأصنام أن تبرك هذا الطعام فتجعل فيه البركة، آملين أن يرجعوا فيأكلوا هذا الطعام، فذهب إبراهيم إلى هذه الأصنام فإذا به يجد هذا الطعام عندهم فقال: ما لكم؟ ألا تأكلون؟ كلوا من هذا الطعام الذي أمامكم، ويستفهم متعجباً لجهل قومه وما هم فيه من باطل وذهاب عقولهم، وهل هذه الأصنام تأكل أو تشرب حتى تضعوا الطعام أمامها؟! وهل هذه الأصنام تملك لنفسها شيئاً من أجل أن تبرك لكم هذا الطعام الذي أمامها؟ فإذا به يقول للأصنام {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، لماذا لا تردون {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93]، فكسر جميع الأصنام الموجودة إلا كبيراً لهم تركه حتى يرجعوا فيتساءلوا: لماذا هؤلاء كسروا وهذا لم يكسر؟ وإذا كان لم يكسر فلماذا لم يدافع عن غيره؟ فلما رجعوا ووجدوا ذلك قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، من صنع هذا بآلهتنا؟ والعجب أن تلك الآلهة من قبل البشر، وكأن الناس لا يفهمون ما الذي يقولونه! {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، من هذا الذي يقدر أن يظلم الإله؟ بل هم لا يعقلون ما يقولون! {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:60 - 61].
ائتوا بإبراهيم واسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]، كل ذلك من أجل أن يتساءلوا، ولكن هيهات فقد ذهبت هذه العقول، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، والمعنى كأنه يقول: مستحيل أن يصنع أحد منهم ذلك، فلا كبيرهم ولا صغيرهم يستطيع فعل شيء من ذلك، وإنما يذكر إبراهيم هذا الشيء حتى يعقلوا ويفهموا، كأنه يقول معرضاً في الكلام: إن كان هؤلاء ينطقون فقد فعله الكبير، ولكن الحقيقة أنهم لا ينطقون فكيف يصنع هذا الكبير؟! فعرض في الكلام، وهذه إحدى كذبات إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنه لم يكذب في حياته إلا ثلاث كذبات فقط، ومن منا يعيش طول عمره لا يكذب إلا ثلاث مرات فقط؟! وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما كذب كذباً صريحاً وإنما كان تعريضاً.
فهنا لما قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فكأنه علق فقال: هو الكبير هذا لو كانوا ينطقون، فإذا عقلتم أنهم لا ينطقون فستدركون أن الكبير لم يصنع، بل إن أحداً آخر صنع هذا الشيء، فليس كذباً صريحاً وإنما هو تعريض في الكلام من إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، رجعوا إلى أنفسهم في المعاتبة فكانوا يعاتب بعضهم بعضاً، أما أنهم رجعوا إلى عقولهم فلا، ولكنهم رجعوا إلى أنفسهم بالعتب فقالوا: أنتم ظالمون، أين الحراس الذين يحرسون الآلهة؟! كلام الجهلاء الأغبياء الذين لا يفكرون، أي آلهة هذه التي تحتاج إلى من يحرسها؟ قال تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، ثم تواصوا فيما بينهم وتشاوروا ماذا يصنعون فيه؟ وقد ذكر لنا هنا سبحانه أنهم {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24]، فهذان خياران أمامكم: إما القتل بالسيف، وإما الإحراق بالنار، ولنرجع إلى الآيات في مجادلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لهؤلاء.
قال عليه السلام: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} [العنكبوت:17]، لا يملكون أن يطعموكم ولا أن يسقوكم {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]، ارجعوا إلى ربكم، فأنتم عندما تنزل بكم المصيبة ترفعون أيديكم وتنادون: يا رب! وهذا دأب الكفار دائماً في كل زمان، عندما تنزل بهم المصيبة يستغيثون بالله وحده لا بالآلهة، فقال لهم إبراهيم: هذا الإله العظيم الذي تدعونه عند المصائب هو الذي يملك لكم الرزق {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، أنتم راجعون ليجازيكم وليحاسبكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب (إليه ترجِعون) والمعنى: أنتم ترجِعون إلى الله سبحانه وتعالى فهو وحده إليه المرجع والمآب.
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت:18]، فتستمروا في تكذيبكم {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت:18]، يعني: لستم أول من كذب، ولكن هذه عادة الكفار مع أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، كل رسول عليه البلاغ وليست عليه النتيجة، ولذلك يأتون يوم القيامة فيأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي ومعه القوم الكثيرون، ويأتي النبي وليس معه أحد قد دعا قومه ولم يستجب له أحد عليه الصلاة والسلام، فليس مسئولاً عن النتيجة، بل النتيجة على الله سبحانه وتعالى.
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، وهنا بيان أن وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام هي التبيين والتوضيح، وأنهم لا يتركون شبهة من الشبهات، وهذا هو الذي عليهم فحسب {الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18]، أي: الواضح الذي لا غموض فيه ولا إشكال.(187/4)
تذكير إبراهيم لقومه بقدرة الله تعالى
قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]، (أولم يروا) إما أنه كلام من الله عز وجل يقول لهؤلاء الموجودين: أولم ير هؤلاء الكفار كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده؟ أو أنه من كلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذه رواية شعبة عن عاصم، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (أولم تروا) بالخطاب كأنه من إبراهيم يقول لقومه: (أولم تروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)، والإنسان يرى كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده في كل يوم وفي كل فصل من الفصول، فالناس ينظرون إلى النبات كيف يبدؤه الله سبحانه، فيكون حبة في الأرض ثم تنمو سنبلة، ثم تصير فيها الحبوب، ثم يأكلها الإنسان وتموت ثم يزرعها مرة ثانية، وفي كل ذلك يرى الناس كيف يبدأ الله عز وجل الخلق ثم يعيده مرة ثانية.
وكما يرى في الحيوان كيف يتوالد أمامه، كيف يبدئ الله عز وجل خلقه فيكون صغيراً ثم يكبر، ثم يتزاوج، ثم يأتي منه النسل ويموت الأب، بل يرى كل إنسان في نفسه كيف يكون منه الذرية وكيف يموت الكبار ويعيش الصغار، يرى في كل يوم آيات الله سبحانه {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19] سبحانه وتعالى {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19]، والمعنى: إذا كنتم في الدنيا ترون هذا فكيف لا يقدر على ذلك يوم القيامة سبحانه؟! بل هو على الله سبحانه يسير.
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:20]، وكأن الله عز وجل هنا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار: سيروا في الأرض واذهبوا جنوباً وانظروا قوم عاد وما صنع الله عز وجل بهم وسيروا شمالاً وانظروا كيف صنع بقوم ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، ما الذي صنعه الله عز وجل بهؤلاء.
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْق} [العنكبوت:20].
أي: كيف بدأ الله عز وجل خلقه فأوجد القرون السابقة، فسيروا وتبينوا وانظروا وتدبروا، {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20] أي: يعيد الخلق مرة ثانية.
فالذي بدأه من عدم قادر على أن يوجده من عدم أو من تراب مرة أخرى سبحانه وتعالى، ولهذا قال: {ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ} [العنكبوت:20]، أي: يعيده ويخلقه، والنشأة الآخرة: الخلق الآخر، أي: مرة أخرى، وقراءة الجمهور (النشأة الآخرة)، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو (النشاءة الآخرة).
{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، فإنه يقدر على الخلق، ويقدر على الرزق ويقدر على الجزاء لعباده والحساب لهم، ويقدر أن يدخلهم جنته برحمته أو أن يدخلهم ناره بعدله سبحانه، والله على كل شيء قدير {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21].(187/5)
تفسير سورة العنكبوت [16 - 25]
يخبر الله تعالى عن الخليل إبراهيم عليه السلام أنه دعا قومه إلى التوحيد، وأرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم من العدم، فالذي بدأ الخلق قادر على إعادته، ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآيات المشاهدة: السماوات وما فيها من الكواكب والنجوم الثابتة والسيارة، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال وأودية وبرارٍ وقفار وبحار وأنهار وأشجار، فكل ذلك دال على وجود صانعها وهو الله سبحانه وتعالى.(188/1)
لمحة مختصرة عن دعوة إبراهيم قومه إلى التوحيد وترك الشرك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكر الله قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في سورة العنكبوت باختصار، مشيراً فيها إلى أن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام دعا قومه إلى عبادة الله سبحانه، وترك الأوثان والأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، قال عز وجل: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} [العنكبوت:16] أي: توجهوا إلى الله وحده بالعبادة واحذروا عقوبته سبحانه، {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [العنكبوت:16] أي: لو كنتم تعلمون وتفهمون، ولو اطلعتم على هذا الأمر وحقيقة ما يكون يوم القيامة لعلمتم أن الخير لكم في الدنيا والآخرة هو بتوحيد الله تعالى وعبادته.
ثم قال تعالى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17] أي: هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله أنتم الذين صنعتموها ونحتموها، فعبدتم كذباً اختلقتموه واخترعتموه.
{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وقد علم كل إنسان كافر أن الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله لا تملك له نفعاً ولا ضراً، ولا تملك له رزقاً ولا تمنعه عنه، إنما الذي يرزق وينفع ويضر هو الله سبحانه وتعالى، فأمرهم إبراهيم أن يبتغوا عند الله الرزق، وأن يدعوا الله سبحانه ويطلبوا من الله ويتوكلوا عليه ويعبدوه ويشكروا له، قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].
وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كلام جميل فصيح بليغ، فهو يدعوهم إلى الله سبحانه، وبين لهم في هذه الجملة الواحدة أن هذه الآلهة لا تملك شيئاً لنفسها ولا لهم، لا تملك رزقاً؛ لأن الذي يملك الرزق هو الله سبحانه وتعالى، فإذا كان كذلك فاطلبوا الرزق ممن يملكه، فهنا يعلمهم ويعلم غيرهم ألا يتوكل المرء على غير الله سبحانه، فأنت لا تطلب الرزق ممن لا يملك لنفسه شيئاً، بل اطلب الرزق من الله عز وجل، وارفع يدك إليه وادعه مخلصاً له سبحانه، فهو الذي يعطيك، فإذا كان هو الذي يعطي فاعبده سبحانه، وتوجه بالعبادة إليه، ومن العبادة الدعاء والتوكل على الله والاستغاثة به واللجوء إليه سبحانه، وكذلك الصدق مع الله ومحبته والإخلاص له وتوحيده بجميع أنواع العبادات.
قال تعالى: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17] أي: اشكروا الله أن ترككم وأمهلكم حتى الآن وأنتم تعبدون غيره لعلكم تتوبون إليه سبحانه، اشكروه أن رزقكم وأنتم تكفرون به وتشركون به، واشكروه أن جعل فيكم من يدعوكم إليه سبحانه وتعالى، فاشكروا نعمة الله عز وجل عليكم بإعطائه ومنه عليكم، وتذكروا أنكم إليه ترجعون.
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت:18] هذا من خطاب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقومه، أو أن الله عز وجل يقول لهؤلاء المشركين: لستم أول من كذب، كما أن قوم إبراهيم ليسوا أول من كذب، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت:18] أي: ليس أمراً جديداً أن يكذب قوم إبراهيم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد كذبت الأمم من قبل ذلك، وليس جديداً أن تكذب الرسل، فقد ذكر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر:4] فالرسل قد كذبهم أقوامهم أول ما دعوهم إلى الله عز وجل، ثم من الله عز وجل بعد ذلك بالهدى على من يشاء، قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [العنكبوت:18] أي: يأخذ بالأسباب والنتيجة على الله سبحانه تبارك وتعالى.(188/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق إن الله على كل شيء قدير)
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19] يأمر الله عز وجل عباده أن يتأملوا في الكون ويتأملوا في المخلوقات كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده، والناس يرون ذلك أمامهم من توالد الحيوانات، ومن الزروع والثمار كيف يخلقها الله سبحانه وتعالى، وكيف تنمو البذور وتصير أشجاراً وتصير ثماراً، وتصير للناس حبوباً وطعاماً، ثم بعد ذلك تصير إلى التراب مرة ثانية، ثم يعيدها الله عز وجل مرة أخرى فتنبت من هذا التراب نبتاً آخر بفضل الله سبحانه، ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) وكلما تقدم علم الإنسان نظر أكثر في ذلك، فهاهم الآن يقولون: تولد كواكب جديدة وتفنى كواكب قديمة، فهذه أشياء خلقها الله عز وجل وأبدعها ويراها الإنسان، قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر:28]، فكلما تقدم علم الإنسان ازداد معرفة بربه سبحانه ويقيناً بأنه القادر على كل شيء، فهو يخلق ويرزق وينفع ويضر ويحيي ويميت ويفعل ما يشاء، قال لعباده: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19] أي: إعادة الخلق مرة ثانية يسير على الله.(188/3)
تفسير قوله تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)
قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] أي: تأملوا في المخلوقات حتى تعرفوا كيف خلقهم الله سبحانه على كثرتهم وتفاوت هيئاتهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم وطبائعهم، كيف بدأ الخلق من آدم عليه الصلاة والسلام وانتشر منه هذا العدد الجم المهول والجمع الغفير من الخلق، ويتكلمون بألسنة شتى ولسان آدم خلقه الله عز وجل واحد، فكيف اختلفت هذه الألسنة؟! فهذا يتكلم بالعربي وهذا بالعجمي وهذا بالهندي وهذا بالصيني وهذا، والله عز وجل يسمع هذا كله، ويعرف من عباده ما يقولون، ويستجيب لعباده سبحانه.
اختلفت طبائعهم بحسب ما خلقهم الله من الأرض، فهذا مخلوق من هذه الأرض، وهذا من هذه الأرض، فكان من الأرض السهل والجبل والصعب والوعر، وكذلك أخلاق الناس كهذه الأرض التي خلقوا منها، والله عز وجل على كل شيء قدير.
انظروا إلى مساكن القرون الماضية كيف سكنوا وكيف عمروا في هذه الأرض، وكيف أهلكهم الله، {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] فتأملوا في الخلق، وتدبروا كيف يصنع الله عز وجل مع عباده ما لم يكن على بالهم وما لم يخطر بحسابهم، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت:20] كما بدأ الخلق أول مرة وأفناه فإنه يعيده نشأة أخرى، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، لم يقل: على الإعادة قدير، ولكن على الإعادة وعلى الإفناء وعلى كل شيء هو قدير سبحانه وتعالى.(188/4)
تفسير قوله تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)
قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] فمن قدرة الله سبحانه كما يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعيد النشأة مرة ثانية بعد الإفناء، كذلك يحاسب ويعذب ويرحم سبحانه، يعذب من يشاء من خلقه ويرحم من يشاء من خلقه {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] أي: ترجعون إليه سبحانه.
قال تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:22] أين تهربون من الله سبحانه وتعالى؟ هل تظنون أنكم سوف تفلتون من الله وتهربون منه؟! لن تعجزوا ربكم سبحانه.
فقوله ((وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) هذا من الإعجاز القرآني العظيم؛ لأن فيه إشارة إلى أن الناس سيحاولون الصعود إلى السماء، سيحاولون ذلك، وكان الماضون من المفسرين يتعجبون لهذه الكلمة، فيقولون: وما أنتم بمعجزين في الأرض وأنتم فيها، ولا في السماء فرضاً جدلياً؛ لأنهم لم يروا أحداً، يعني: لن تعجزوا الله لا في الأرض ولا في السماء.
ولم ينزل القرآن للسابقين فقط، بل القرآن للجميع حتى تقوم الساعة، فهو يخاطب الجميع، والله يعلم أنكم في يوم من الأيام ستصنعون الصواريخ والطائرات، وتصعدون إلى السماء، وتظنون أنكم أقوياء وتعجزون غيركم، لكن ولو ذهبتم إلى السماء فلن تقدروا أن تفلتوا من الله سبحانه وتعالى، ولا تتحركون من مكان إلى مكان إلا بإذن الله وبقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت:22] أي: من يتولى أمركم من دون الله؟ لا أحد، من ينصركم من دون الله؟ لا أحد.
إذاً: لا ولاية لأحد يتولى أمركم إذا أراد الله عز وجل بكم شيئاً، ولا ينصركم أحد من دون الله إن أراد بكم شراً.(188/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآيات الله ولقائه)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23] أي: أن الكفار يئسوا من رحمة الله سبحانه، وعبدوا الأصنام والأوثان، فهم الذين ذهبوا بأنفسهم إلى ذلك، وهنا بيان أن الذي يموت على الكفر مستحيل أن يدخل جنة الله سبحانه وتعالى، فليس من حق إنسان أن يدعو لكافر قد مات على الكفر بالرحمة؛ لأن الله أيئسه من رحمته، فقال ((أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي)) إذاً: الكافر الذي أعرض عن الله سبحانه ويستحق أن يعيش في الدنيا معيشة ضنكاً، وعندما يموت الكافر على كفره لم يستحق رحمة الله، (أولئك يئسوا): أي: أيئستهم من رحمتي وكتبت عليهم أنه لا رحمة لهم، وأنهم لا يخرجون من النار، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
{وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [العنكبوت:23] ذكر الله عز وجل أن الكافر يستحق النار خالداً فيها، ويستحق العذاب الأليم المؤلم الموجع.(188/6)
تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه)
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24] كأن إبراهيم ذكرهم بعبادة الله سبحانه ودعاهم دعوة طويلة، وفي النهاية ما كان جوابهم إلا الإعراض، {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
فقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} [العنكبوت:24] هذا حصر لجوابهم، فهم لم يفكروا في دعوة إبراهيم عليه السلام ولم يناقشوه، بل تشاور بعضهم مع بعض، فقال بعضهم: اقتلوه، وقال بعضهم: حرقوه؛ وأشنع وسيلة لقتل الإنسان أن يحرق بالنار.
ولذلك نهانا الله عز وجل عن ذلك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه لا يحرق بالنار إلا ربها سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت:24] وهنا اختصر ربنا سبحانه وتعالى القصة ولم يفصلها كما فصلها في غير هذه السورة، ففي سورة الأنبياء جاء الأمر من الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70].
فقوله: ((فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)) فيه بيان قدرة الله سبحانه، الأمر لا يحتاج إلى عناء ولا إلى تعب، حاشا لله سبحانه وتعالى! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فهم تشاوروا مع بعضهم واتفقوا على أن يشعلوا ناراً عظيمة، وأججوها حتى كانوا يبتعدون عنها حتى لا تلفحهم هذه النار، ووضعوا إبراهيم في منجنيق، ومن بعيد ألقوا بإبراهيم في النار، فإذا بالله عز وجل يأتي أمره إلى النار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فصارت النار جنة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فرأوا أمامهم آية عظيمة، ويا ليتهم آمنوا بالله سبحانه وصدقوا بإبراهيم عليه الصلاة والسلام! ولكن أصروا على ما هم فيه من كفر وعناد، قال الله سبحانه: {فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} [العنكبوت:24] لكن هذه الآيات لم تنفع هؤلاء الكفار {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:24] أي: من كان يؤمن ومن كان في قلبه الهدى والتقى تنفعه هذه الآيات.(188/7)
تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم)
قال إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مجادلاً لقومه، وكأن الله سبحانه أسرع بالإخبار عما حدث لإبراهيم وكيف نجاه الله سبحانه ثم رجع إلى إتمام هذه القصة في مناقشة إبراهيم لقومه، قال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] أي: أنكم ما عبدتم غير الله إلا لهذا الغرض ولهذا الهدف وهو المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، ومن أجل أن يشجع بعضكم بعضاً ويعين بعضكم بعضاً، ويجامل بعضكم بعضاً، ويحب بعضكم بعضاً، فإذا حدث هذا في الدنيا فلن تنفعكم هذه المودة يوم القيامة، ((وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا)) تماثيل تعبدونها من دون الله، {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (مودة) كأنه مفعول لأجله، أي: من أجل المودة التي بينكم في الحياة الدنيا، وهذه فيها ثلاث قراءات للقراء: فـ حفص عن عاصم وحمزة وروح وخلف يقرءون: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25].
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وقرأها رويس عن يعقوب: ((مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)).
وقرأها باقي القراء: (مودةً بينكم في الحياة الدنيا).
(إنما اتخذتم من دون الله) كأنه على الابتداء، والخبر الذي اتخذتموه مودة بينكم في الحياة الدنيا، وباقي القراء يقرءونها: ((مَوَدَّةً بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا))، أي: اتخذتم ذلك مودةً بينكم؛ لأن حاله أن يكون كذلك، أو لأجل المودة التي تكون بينكم في الحياة الدنيا.
((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ)) لأنه ليس كل مودة تنفع صاحبها يوم القيامة؛ لأن آية الإيمان الحب في الله والبغض في الله، فيحب المؤمن أخاه في الله، فينتفع بهذه المودة في الدنيا، ويوم القيامة أن يشفع أحدهم لصاحبه، وأن يظلهما الله عز وجل بظله يوم لا ظل إلا ظله.
أما مودة الكفار فيما بينهم فهي فقط في الدنيا، ولكن يوم القيامة قال: {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25] وقال تعالى في سورة غافر: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:47] فيرد عليهم الكبار ويقولون: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:32] أي: نحن لم نمنعكم من الهدى وإنما كنتم مجرمين، فيحدث بينهم يوم القيامة وهم في النار شجار، فيتشاجر بعضهم مع بعض، ويشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً.
يقول سبحانه: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} [العنكبوت:25]: ملاذكم نار جهنم، ولن تخرجوا من نار جهنم ((وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)).
يعني: هذه النار التي تكون يوم القيامة هي نار جهنم، وهي سوداء مظلمة على أصحابها، تضطرم عليهم، وهم في هذه النار يشتم بعضهم بعضاً كل يقول للآخر: أنت السبب الذي أدخلتني فيها، ثم يقولون: لو قلنا لخزنة النار أن يشفعوا لنا، فخزنة النار لا تجيبهم ولا ترد عليهم، فيصبرون صبراً طويلاً، فطال صبرهم ثم جزعوا، فقالوا: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] فقالوا لبعضهم: نادوا ربكم، فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أي: لن نعود إلى تكذيب الرسل، وظنوا أنه سيرحمهم، فأجابهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
فهذه نار جهنم التي يدوم مكثهم فيها لا حياة كريمة لهم فيها ولا راحة فيها ولا موت يستريحون به، لذلك المؤمن يتخيل ما يكون في النار، ويتذكر قول الله سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(188/8)
تفسير سورة العنكبوت [25 - 27]
يبين الله سبحانه ما قاله إبراهيم عليه السلام حين حاور قومه عبدة الأصنام فقال: إن هذه الأوثان التي اتخذتموها وعقدتم عليها المودة والمحبة الظاهرة بينكم في الحياة الدنيا، فإذا جاء يوم القيامة كفر بعضكم ببعض ولعن بعضكم بعضاً، وانقلبت الصداقة عداوة، ثم فارقهم بعد ذلك فهاجر هو وزوجه وابن أخيه إلى الشام ليدعو أقواماً غيرهم علهم يستجيبون له عليه السلام.(189/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] لقد قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى فيما سبق من الآيات كيف دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه إلى عبادة الله، وإلى ترك ما يعبدون من أصنام وأوثان من دون الله سبحانه، وبين لهم أن هذه المعبودات لا تنفعهم، وأنها لا تملك لهم رزقاً.
وأمرهم أن يطلبوا الرزق عند الله الذي هو خالقهم سبحانه وتعالى، والذي هو رازقهم ويملك نفعهم وضرهم سبحانه، وأمرهم أن يعبدوه وأن يشكروا له، وأخبرهم أنهم راجعون إليه.
وأنهم إن كذبوا فليس هذا شيئاً جديداً على الرسل ولا من الأمم، فقد كذب قبلهم أقوام رسلهم فجاءهم العذاب من عند الله، وليس على الرسول إلا البلاغ المبين.
ثم أخبرهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن الله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق وهو القادر على إعادته، وأنه يعذب من يشاء، وأنه يرحم من يشاء، وأنه إليه يقلبون ويرجعون وأنهم لن يعجزوا الله هرباً في الأرض ولا في السماء، وليس لهم من دونه ولي يتولى أمرهم، وليس لهم من دونه نصير قوي ينصرهم.
ولما أخبر بذلك كان جواب هؤلاء الأقوام عليه يدل على سفاهتهم فلم ينظروا فيما قال من حجج، وفيما هم فيه من باطل، وإنما تشاوروا كيف يقضون عليه وعلى دعوته، هل نقتله أم نحرقه؟ وأرادوا أشنع أنواع القتل لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حتى يمنعوا أي أحد يريد أن يؤمن ويصدق بما جاء به، وحتى يمنعوا من يأتي بعده أن يقول كما يقول إبراهيم فقالوا: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:24].
فلما أوقدوا له ناراً وألقوه فيها جاءت رحمة رب العالمين سبحانه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وأرادوا به كيداً فجعلهم الله عز وجل الأخسرين والأسفلين، وجعل هذا الذي فعله مع إبراهيم آية من الآيات لقوم يؤمنون.
قال إبراهيم لقومه: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [العنكبوت:25] أي: أن عباد النيران وعباد الأصنام وعباد الشيطان يعبدون ذلك وتكون بينهم مودات في الحياة الدنيا على ما هم فيه من باطل، فتجد الكفار يميل بعضهم إلى بعض، ويرضى بعضهم عن بعض في الظاهر، أما القلوب ففيها الحقد، والحسد، والخوف من الناس، والغيرة من الغير.
فالله عز وجل جعل قلوبهم متفرقة وإن اجتمعوا على ضلالة واحدة، فيظهر بعضهم لبعض المودة، ثم يوم القيامة يظهر الله ما في صدورهم، يظهر ذلك في النار فيشتم بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، يقول الله سبحانه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].(189/2)
تفسير قوله تعالى: (فآمن له لوط)
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26].
والوحيد الذي استجاب لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، لوط ابن أخيه وقال بعض المفسرين: ابن أخته، ولكن الغالب على أنه ابن أخي إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإبراهيم عم لوط عليهما الصلاة والسلام.
فلوط آمن لإبراهيم وجعله الله عز وجل بعد ذلك نبيناً آمن وقال: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].
يعني: إبراهيم ترك قومه وهاجر إلى الله سبحانه وتعالى لما لم يجد أحداً يؤمن به، ولن يهاجر إلا بإذن ربه سبحانه وتعالى، فهجرته إلى ربه الهجرة الخالصة، وإبراهيم عليه السلام كان مولده في بلدة في جنوب العراق اسمها كوثا، وهو المكان الذي أرادوا قتله فيه، فهاجر بعد ذلك من جنوب العراق إلى شمال العراق إلى مكان اسمه حران في الشمال، ومن حران ذهب إلى الشام.
فكأن هجرة إبراهيم من عند قوم يعبدون الأصنام إلى مكان آخر يعبدون فيه غير الله أيضاً؛ ليدعوهم إلى الله، وفي كل مكان كان يناظر قومه، ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهم يرفضون الاستجابة لإبراهيم.
فكأنه توجه مرتين في هجرته: مرة من جنوب العراق من المكان الذي أرادوا حرقه فيه، وهو الآن قريب من البصرة في جنوب العراق، فتوجه إلى شمال العراق إلى حران، ثم وجد هناك أقواماً يعبدون غير الله سبحانه، فناظرهم، ثم تركهم وتوجه بعد ذلك إلى الشام، فوجد أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فدعا الجميع فلم يؤمنوا، وناظرهم مناظرات عديدة وعظيمة فيها الإقناع للقوم، ومع ذلك لم يستجب له هؤلاء إلا من شاء الله سبحانه أن يهديه إلى دين رب العالمين.
فإبراهيم أول من هاجر إلى الله سبحانه وتعالى، ومعه ابن أخيه لوط.
ولما وصل إبراهيم إلى الشام كان عمره خمساً وسبعين عاماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فلم تكن هجرته من مجرد ابتلاء بسيط، إنما كان ابتلاء شديداً من قومه وصل بهم إلى أن أرادوا إحراقه بالنار وابتلي في أبيه صانع الأوثان والأصنام فقال لإبراهيم: اعتزلني واهجرني وابتعد عني وإلا لأرجمنك بالحجارة، أو لأسبنك أمام الناس.
فقال لأبيه: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48].
اعتزلهم وهاجر من عند هؤلاء الأقوام بإذن ربه سبحانه، قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26] أي: إذا كان منعكم ما أنتم فيه من رئاسة ومن أموال وقوة أن تدخلوا في هذا الدين العظيم فأنا أهجركم وأتوجه إلى ربي؛ إذا ظننتم أنكم بقوتكم تغلبونني فالله هو العزيز الذي لا يغالب، وهو القاهر فوق عباده سبحانه، إنه يعز ويغني ويظهر هذا الدين ويمنعني منكم، وله حكمة في عدم إيمانكم أن أخرج من هذا المكان إلى مكان آخر فالله في كل أمره وتدبيره عزيز غالب سبحانه وتعالى حكيم له حكمة في كل أمر يفعله سبحانه.(189/3)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب)
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ}] العنكبوت:27].
قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [العنكبوت:27] فبعد أن هاجر من جنوب العراق إلى شماله، ثم إلى الشام، ومن الشام ذهب إلى مصر، وفي مصر أهدى جبار مصر لزوجته سارة هاجر، وذهب بها إلى الشام، وهنالك أهدتها له زوجته سارة، فصارت لإبراهيم أمة يطؤها، فولدت له إسماعيل على نبينا وعليه السلام، فهذا أول من ولد له، وبعد ذلك أخذ إسماعيل وتوجه به إلى مكة، وتركه هنالك، ثم رجع إلى الشام فرزقه الله عز وجل بعد ذلك إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أي: أن يعقوب ابن لإسحاق عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فقوله تعالى: ((وَوَهَبْنَا لَهُ)) يعني: بعد ذلك {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27].
فلما هاجر إبراهيم لم يكن معه من المؤمنين سوى امرأته سارة وابن أخيه لوط، فتوجه الاثنان إلى ديار الشام، فصار لإبراهيم أنعام ومواشي، وصار للوط أيضاً كذلك فابتعد أحدهما عن الآخر كل واحد في مكان بأنعامه وأغنامه لأمرين: الأول: الكلأ، فكل منهما يختار لنفسه مكاناً فسيحاً لأنعامه.
والثاني: الدعوة إلى الله عز وجل، فلا يحتاج المكان لأكثر من نبي واحد.
فهذا توجه إلى مكان وهذا إلى مكان آخر، كل منهما يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27].
إذاً: هنا مكافئة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون له أجر عظيم جداً لكون كل نبي من الأنبياء بعده من ذريته وله أجره، فلذلك ندعو لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يصلي الله عز وجل عليه كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد من كسب أبيه) فإبراهيم أبو الأنبياء، فكل من جاء بعده من الأنبياء له ثوابه؛ لأنه سبب وجوده وهو إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو أبو كل الأنبياء بما فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان الأجر الذي يؤجره إبراهيم أجراً عظيماً جداً بناءً على ذلك.
ولكن الله عز وجل تفضل وأكرم نبينا صلوات الله وسلامه عليه أن أوصله إلى ما كان عليه إبراهيم من الخلة، فجعل محمداً خليله كذلك، وفضله عليه وعلى غيره، فجعله إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأعطاه الأجر تفضيلاً، وهنا كأن أجر إبراهيم أكثر؛ لأن من ذريته كل الأنبياء بما فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فلذلك تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل، والعادة عندما نقول: إن هذا أفضل لا نعطي له من الأجر كأجر المخصوص.
إذاً: إبراهيم أقل في الأفضلية من محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما ندعو لمحمد ونقول: أعطه ما تعطي إبراهيم، يقول العلماء: الأمر هنا على العكس في ذلك، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام كنبي له أجر معين، ونبينا صلى الله عليه وسلم أعظم، لكن إبراهيم كأب للأنبياء له مثل أجور من جاء بعده بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا: أعط محمداً كما أعطيت إبراهيم، فالمقصود: الأجر المجموع لإبراهيم هو وأولاد الأنبياء جميعهم بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فهذا الأجر أعظم مما يأخذه محمد عليه الصلاة والسلام وحده.
فلذلك يعطى فندعو فنقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وآل محمد عليه الصلاة والسلام هم ذريته بالأصل، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمن تقي من آله عليه الصلاة والسلام، فالمؤمنون الأتقياء أولياء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أولى بهم من آبائهم ومن أقربائهم، فعلى ذلك الأجر المجتمع لإبراهيم وذريته من الأنبياء ندعو الله أن يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهله عليه الصلاة والسلام ومن تابعه كأجور هؤلاء، فهذه العلة في الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما صلى الله على إبراهيم.
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت:27] أي: جعلنا في ذرية إبراهيم النبوة من فرعين: فرع إسماعيل، وفرع إسحاق، وفرع إسحاق منه كل الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفرع إسماعيل ليس فيه إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فجنس النبوة في هؤلاء الأنبياء من ذريته، وفيهم جنس الكتب المنزلة.
وقد آتى الله إبراهيم الصحف كما قال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18 - 19].
فإبراهيم آتاه الله عز وجل صحفاً، وموسى عليه الصلاة والسلام من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنزل الله عز وجل عليه التوراة، ومن ذريته بعد ذلك من الأنبياء داود الذي آتاه الله عز وجل الزبور، والمسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل الإنجيل، وكتب أخرى لا نعرفها أنزلها الله عز وجل على أنبياء ورسل لا نعرف كم عددهم، قال تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]، ولكن ذكر لنا من نعتبر بقصصه.
ومحمد صلوات الله وسلامه عليه أنزل الله عز وجل عليه هذا القرآن العظيم الشفاء لما في الصدور، والشريعة الباقية حتى تقوم الساعة، وحتى يبعث الناس من القبور.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} [العنكبوت:27] أي: آتينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أجره في الدنيا، فابتلي ابتلاءً عظيماً وشديداً جداً، فأي بلاء أعظم مما ابتلي به إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ في كونه يعيش مع أبيه وهو عابد للأصنام وصانع لها، وإبراهيم يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فيغضب عليه أبوه، ويطرده من المكان ويهدده بالقتل وبالرجم ويسبه، ثم يناظر قومه فيخيفونه بالنار ثم يحمل ويلقى فيها، ولو أنه أطاعهم وقال: أنا مكره، فيمكن أن يكون له عذر عندهم، ولكنه انتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى ولم يطلب من الملائكة أن تعينه، ولا الناس، بل لم يطلب من أحد شيئاً، ولم يطلب العفو من هؤلاء الذين يريدون قتله، وإنما انتظر الفرج من الله سبحانه، فإذا بالله يأمر النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
والكائنات انتظرت متى يأمرها الله عز وجل بأن تطفئ هذه النار، فالملائكة الموكلون بالمطر انتظروا أن يقول الله: أنزلوا المطر وأطفئوا هذه النار.
ولكن الأمر كان أسرع من ذلك بكثير، النار نفسها تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
إذاً: صار لهب النار المحرق ناراً باردة.
ولما كان البرد مؤذياً للإنسان قال: كوني برداً وسلاماً، والمعنى: كوني باردة وفيك سلم لإبراهيم وسلاماً له، فاطمأن في النار بتثبيت الله عز وجل له، فهذا كان بلاء لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم هاجر من عند هؤلاء فوجد آخرين يعبدون الكواكب التي في السماء، فناظرهم في ذلك فأبوا إلا الكفر، فهجر هؤلاء وتولى عنهم، ثم يأتي إلى أرض الشام ومنها يتوجه إلى مصر، فإذا بجبار مصر يرى سارة ويريد أن يأخذها من إبراهيم، ولو علم أنه زوجها لقتله، فاضطر إبراهيم أن يقول: هي أختي خوفاً من القتل، فيأخذ الملك السيدة سارة ويريد أن يأتيها، فإذا بإبراهيم يصلي لله عز وجل في هذه المصيبة التي ابتلي بها عليه الصلاة والسلام، وهي تدعو ربها، فإذا بالله يأخذ هذا الجبار فيصرعه، فيقول الجبار: ادعي لي وأنا أتركك، فتدعو له فإذا به يريدها ثانية، فتدعو عليه، فإذا بالله يصرعه ويأخذه ثلاث مرات وفي النهاية يقول لمن معه: إنما جئتموني بشيطانة.
فتركها وأهدى لها هاجر، فأخذت هاجر أمة عندها وذهبت إلى إبراهيم فوجدته يصلي فسألها، فقالت: إن الله عز وجل أنقذني من هذا الجبار، ثم وهبت هاجر لإبراهيم فصارت ملكاً له لعله يأتي منها بولد، فكان أن جاء منها بولد.
فرزق إبراهيم عليه الصلاة والسلام بولد فكأن هاجر ترفعت على سيدتها الأولى بسبب الولد، فإذا بها تغار منها، فكان في بيت واحد امرأتان وبينهما غيرة، فإذا بالله يأمره أن يأخذ هاجر وولدها ويتوجه بها إلى مكة، وهذا أمر صعب جداً أن يأخذ إبراهيم هذه التي صارت أم ولد له وأتاها وصار بينه وبينها مودة وعشرة، وبعد ذلك يتركها في مكة بلد ليس بها أنيس وكانت صحراء.
وتأمل حين تذهب إلى الحج وتتوجه إلى منى مثلاً، فإذا بالخيام تملأ المكان، فترى منظراً جميلاً جداً منى ومنظر الناس والعبادة.
وفي آخر يوم من أيام العيد عندما ينفر الناس في يوم النفر الأول، فترى الخيام التي كانت هناك بالألوف لم يبق من كل مائة خيمة إلا واحدة أو اثنتان، فصار المكان موحشاً، مع أنه بقي مئات من الناس، ثم بعد أيام منى ينصرف جميع الناس فيزداد وحشة، ولذلك لما ذهب بها وتركها وانصرف عنها قالت: إلى من تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يرد عليها.
فبعد أن كررت ذلك قالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا.
أي: طالما أن الذي أمر بذلك هو الله فلن يضيعنا، وإبراهيم يكتم في نفسه عاطفته وحزنه وشفقته على ولده الرضيع ويتركه في هذا المكان، لكنه أمر الله تعالى.
لكن لماذا هذا البلاء كله؟ من أجل أن تظهر الخلة التي بإبراهيم مع ربه سبحانه وتعالى أنه لا يحب أحداً حبه لله عز وجل، فيبتليه الله عز وجل في كل أحد في أبيه، وولده، وأم ولده لينظر هل يحب هؤلاء أكثر منه سبحانه أم لا؟ فيستجيب إبراهيم وينفذ أمر الله سبحانه، فلما كان خارج مكة وراء جبل وتوارى عن عيني هاجر(189/4)
تفسير سورة العنكبوت [28 - 35]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات الكريمات قصة نبي الله لوط عليه السلام مع قومه حين درا الحوار بينه وبينهم، وحين بكتهم نبيهم على إتيانهم الفاحشة، وهي إتيان الذكور دون ما خلق الله لهم من أزواجهم، وأنبهم بقوله: إن هذه الفاحشة لم يسبقوا إليها، وليس هذا فحسب؛ بل إنهم كانوا يقطعون الطرق، وعلاوة على ذلك كفروا بالله واستعجلوا عذابه، فجاءهم العذاب فأصبحوا جاثمين هلكى في ديارهم، وتلك عاقبة ظلمهم وعصيانهم.(190/1)
تفسير قوله تعالى: (ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28].
ذكر الله سبحانه وتعالى بعد قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام قصة ابن أخيه لوط عليه الصلاة والسلام، فقال: (ولوطاً إذ قال لقومه) فنصب لوطاً كما قال: (وإبراهيمَ) وكأن التقدير: واذكر لوطاً، أو: وأنجينا لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً.
قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [العنكبوت:28] أي: اذكر لوطاً وقت أن قال لقومه: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} [العنكبوت:28 - 29].
وفي قوله تعالى: (إنكم لتأتون)، و (أئنكم لتأتون) إذا اجتمعتا فلها عند القراء قراءات ووجوه كثيرة.
فقراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، ويعقوب، وأبي جعفر، وحفص عن عاصم: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28].
وباقي القراء الذين هم: أبو عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرئون: (أئنكم لتأتون الفاحشة) (أئنكم لتأتون الرجال).
إذاً: سيقرأ في الأولى بهمزتين، والثانية بهمزتين، وكل قارئ من القراء على أصله الذي يمد فيها والذي يسهل، فنجد مثلاً قالون وأبا جعفر يقرأان الأولى: (إنكم) والثانية (آئنكم) بالمد بالألف وبالتسهيل فيها.
ويقرأ ورش وابن كثير ورويس: (إنكم) (ائنكم) بالتسهيل في الثانية من غير مد للألف فيها.
ويقرأ أبو عمرو بالمد في الاثنين: (آئنكم لتأتون) (آئنكم لتأتون) الأولى بالمد مع التسهيل والثانية كذلك.
ويقرأ هشام: (إنكم) (آئنكم)، و (إنكم) (أئنكم) له قراءتان.
ويقرأ ابن عامر وروح عن يعقوب: (إنكم) (أئنكم).
ويقرأ شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (أئنكم) (أئنكم).
فالقراءت باعتبار اجتماع استفهامين: إنكم وأئنكم، تكررت مرتين ففيها هذه القراءات التي ذكرنا.
قال لوط: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28] الفاحشة: الجريمة العظيمة التي تسيء إلى صاحبها يوم القيامة، وتسيء إليكم في الدنيا، وتسوء غيركم بفعلكم معهم ذلك.
ويقال: فحش الأمر، يعني: زاد عن حده جداً، فيأتون الجرم الفضيع الذي لا يتوقع، وكانوا أول من وقع في هذه الفاحشة، ولم يفعلها أحد قبلهم، ولم يتخيل أحد قبلهم هذه الفاحشة التي وقعوا فيها.
فهي أبداً ما حصلت في الخلق قبل قوم لوط.(190/2)
تفسير قوله تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال)
ثم قال تعالى يفصل ما الذي يقعون فيه: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ} [العنكبوت:29].
فهذه جملة من الجرائم، وزد على ذلك أصل إجرامهم في كفرهم بالله سبحانه وتعالى، وأنهم كفار مشركون.
قال تعالى: (أئنكم لتأتون الرجال) إذاً: بدلاً من أن يتزوج الرجل المرأة يأتي الفاحشة، ويأتي الرجال بدلاً من النساء.
ثم قال تعالى: (وتقطعون السبيل) فهم قطاع طرق ولصوص، يقطعون الطريق على الناس بأخذ أموالهم وبجباية المكوس عليهم والضرائب التي يأخذونها من الناس، وكذلك يخطفون الناس من الطريق ليفعلوا بهم هذه الفاحشة.
قال تعالى: (وتأتون في ناديكم المنكر)، نادي القوم: المكان الذي يجتمعون فيه، فعند اجتماعهم فيها يفعلون جرائم تتكرر في مجتمعات الناس من السخرية والاستهزاء بالناس.
واجتمعوا على أن يفعلوا الفواحش في نواديهم، ولا ينكر بعضهم على بعض هذا الذي يقعون فيه من الفاحشة.
وجرائم قوم لوط إذا حدثت في قرية من القرى، أو في بلد من البلدان استوجبت عقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، واستحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم لوط، فقد أصابهم ربنا سبحانه وتعالى ببلاء عظيم، وبعقوبة شديدة فضيعة.
وكذلك من يفعلون فعلهم، فلم يقع قوم في فاحشة قط حتى يعلنوا بها إلا أصابهم الله عز وجل بأنواع من البلاء ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سوف نذكره بعد ذلك إن شاء الله.
فقال هنا لوط عليه الصلاة والسلام: (إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر)، أي: إذا اجتمعوا في نواديهم حرض بعضهم بعضاً على الوقوع في الفاحشة، وعلى أذى الناس والاستهزاء بهم، فكانوا يقومون في نواديهم ينظرون من يمر في الطريق فيحذفونه بالحصى، ويسخرون منهم، ويأخذونهم ويخطفونهم ولا أحد ينكر عليهم ما يقعون فيه من منكرات.(190/3)
تفسير قوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا)
قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] عندما يدعو رسل الله عليهم الصلاة والسلام أقوامهم في كل زمان فتكون النتيجة أن يكذبهم قومهم ولا يؤمنون بهم إلا أن يشاء الله شيئاً.
قال تعالى: (فما كان جواب قومه) أي: هذا هو الجواب الوحيد، فقصر الجواب على ذلك، ثم قال: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين)، وهذا بيان لكفر هؤلاء، ولو كان عندهم التصديق لعرفوا أنه نبي وعرفوا أن العذاب سيأتي وأن النبي لا يكذب عليه الصلاة والسلام، ولكنهم سخروا منه وقالوا: (ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين).
في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّه} [العنكبوت:29] قراءتان: الجمهور على القراءة بالهمز.
وقراءة ورش وأبي عمرو وأبي جعفر أيضاً: (إلا أن قالوا ايتنا بعذاب الله) بنقل الهمزة، فإذا بدأ كل القراء بكلمة: (ائتنا) فلا يبدءون بالهمزة فيها وإنما يبدءون بالياء فيقولون: (ايتنا بعذاب الله) إذا بدءوا بها، وليست محل وقف وابتداء.(190/4)
تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني على القوم المفسدين)
ثم دعا ربه سبحانه فقال: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت:30] ودعوة الأنبياء مستجابة، والله عز وجل يستجيب ولكن ليس شرطاً أن يدعو وفي اللحظة يأتي العذاب، ولكن الله يملي ويمهل إلى حين، فلما دعا ربه بين لنا ربنا سبحانه كيف أتى هؤلاء عذاب رب العالمين.(190/5)
تفسير قوله تعالى: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم)
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت:31].
إذاً: رسل الله وهم الملائكة عليهم السلام جاءوا في البداية إلى إبراهيم، وقد ذكرنا قبل ذلك أن لوطاً كان مع إبراهيم، وأن الاثنين خرجا من العراق، فهاجر مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأتيا إلى ديار الشام، أو أتيا إلى فلسطين، وبعد المجيء إلى فلسطين توجه الاثنان إلى مصر، ثم رجع كل واحد ومعه من الغنم والإبل والمواشي ما ضاقت الأرض عن الاثنين، فالمكان الذي فيه إبراهيم لا يسع أن يكون فيه إبراهيم ولوط، غير أن هذا نبي وهذا نبي ولا يكون نبيان في مكان واحد، بل يتوجه كل نبي إلى مكان ليدعو القوم إليه.
فتوجه لوط عليه الصلاة والسلام إلى قرى قوم لوط ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى وكانوا مجموعة من القرى منها سدوم وعمورة وصوغر، وهذه القرى كانت جنوب البحر الميت.
ويذكر ربنا سبحانه أن الرسل الذين هم الملائكة في طريقهم إلى لوط جاءوا إلى إبراهيم، فقال هنا ربنا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [العنكبوت:31] أي: جاءوا فبشروه.
وذكر في غير هذه السورة أنهم لما جاءوا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام دعاهم ليكرمهم ويطعمهم، وتوجه إلى بيته وجاء بعجل حنيذ فقربه وقدمه لهم {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] فهو لم يكن يعرف أنهم رسل الله، ولم يكن يعرف أنهم ملائكة، فلما لم يأكلوا الطعام تبين بعد ذلك أنهم ملائكة.
فقالوا لإبراهيم: إنا مرسلون لأهل هذه القرية لنهلكها، وقال سبحانه هنا: (ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) أي: بالبشارة أن يولد له عليه الصلاة والسلام، وأقبلت امرأته في صرة وقالت: عجوز عقيم، فأخبروها وبشروها بفضل من الله عز وجل أنه سوف يولد لها ولد.
فلما تعجبت: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73] فجاءت البشرى لإبراهيم بأنه سيولد له من سارة التي كانت عقيماً وكانت عجوزاً جاوزت الثمانين من عمرها وإبراهيم قرب المائة من عمره عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] وقد بشر قبل ذلك بالغلام الحليم فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام، والآن بشروه بالغلام العليم وهو إسحاق، فجاءت البشرى، ثم أخبروه أنهم متوجهون إلى قرى قوم لوط ليهلكوهم.
وهذه الآية أيضاً فيها قراءات: ففي قوله: (جَاءَتْ) ثلاث قراءات: يقرؤها بفتح الجيم الجمهور.
ويقرؤها بالإمالة ابن عامر بخلف هشام.
ويقرؤها حمزة وخلف: (ولما جيئت).
وقوله تعالى: (رُسُلُنَا): يقرؤها الجمهور بضم السين.
ويقرؤها أبو عمرو (رسْلنا) بتسكين السين ورفع اللام.
وقوله: (إِبْرَاهِيمَ) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (إبراهيم).
وقراءة ابن عامر بخلف هشام: (إبراهام).
وقوله تعالى: (بِالْبُشْرَى) يقرؤها الجمهور بالفتح.
وورش يقرؤها على التقليل.
وأبو عمرو وحمزة والكسائي وخلف يقرءونها بالإمالة.
فقال الملائكة: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) أي: سنهلك قرى سدوم بسبب ظلم أهلها.(190/6)
تفسير قوله تعالى: (قال إن فيها لوطاً)
قال إبراهيم وهو الأب الرحيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32] وفي سورة هود قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ} [هود:69] فسلم عليهم، وبعدما دعاهم إلى الطعام، وعرف أنهم ملائكة قال الله عز وجل: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:74 - 75] ففي إبراهيم عليه السلام ثلاث صفات من أحسن الصفات التي تكون في الإنسان: فهو حليم، أواه، منيب، (حليم): أي: عنده صبر وأناة ليس بمتعجل ولا بمتهور، وهذا الحلم ظاهر عليه عليه الصلاة والسلام في مخاطبته للملائكة عليهم السلام، فقد جادلهم في قوم لوط؛ لرحمته، وأنه يتوقع أن يؤمنوا ويمكن أن يرجعوا إلى الله عز وجل ويتوبوا.
وهو أواه، أي: رجاع إلى الله سبحانه، فظن أنهم يمكن أيضاً أن يرجعوا إلى الله سبحانه.
وكان الجدال فقال: أتهلكون قرية وفيها مائة يعبدون الله؟ قالوا: لا.
قال: أتهلكون قرية وفيها عشرون يعبدون الله؟ قالوا: لا.
قال: أتهلكون قرية وفيها ثلاثة يعبدون الله؟ قالوا: لا.
قال: أتهلكون قرية وفيها واحد يعبد الله؟ قالوا: لا.
قال: إن فيها لوطاً، فقالوا: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [العنكبوت:32].
إذاً: لن نهلك القرية ولوط فيها، بل سنخرج لوطاً منها ونهلك القرية بعد ذلك، وفي قوله عز وجل: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت:32] قسم، أي: والله لننجينه وأهله.
وفي قوله: (لننجينه) قراءتان: قراءة الجمهور: (لنُنجِّينه) بالتثقيل.
وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (لنُنْجينه) بالتخفيف.
قال تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:32] الغابرون: الباقون في العذاب، فامرأة لوط من هؤلاء.
وامرأة لوط كانت تذهب وتخبر قومها عن أسرار لوط عليه الصلاة والسلام، فكانت من الكافرين فاستحقت عقوبة رب العالمين سبحانه، ولم ينفعها أن زوجها كان نبياً عليه الصلاة والسلام، كما أن ابن نوح لم ينفعه أن أباه كان نبياً، وكذلك زوجة نوح، وقد ضرب الله عز وجل المثل للكفار بهاتين المرأتين فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم:10] والخيانة بالكفر، فلم تؤمنا، والخيانة بالوشي للأعداء بما يكون عند نوح أو عند لوط عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.(190/7)
تفسير قوله تعالى: (ولما أن جاءت رسلنا لوطاً)
ثم قال تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33] وهنا في (جاءت رسلنا) القراءات السابقة.
قال تعالى: (سيء بهم) أي: ساءه هذا الأمر، أو سُيء به، ولبيان المبني للمجهول قرأها نافع وأبو جعفر وابن عامر والكسائي ورويس عن يعقوب: (سُيء بهم).
قال تعالى: (وضاق بهم ذرعاً) إذاً: هنا ساءه أمر هؤلاء ولم يعرف أنهم ملائكة، ووجدهم شباناً حساناً، وطالما أن هناك شباناً موجودين فسيأتي قوم لوط يفعلون بهم الفاحشة، فكان أن (سيء بهم).
والإنسان الذي هو قليل الحيلة يضيق ذرعاً ولا يعرف ماذا سيعمل مع هؤلاء، ولوط ليس عنده جيش، وليس عنده أبناء ذكور، إنما كان معه بنات عليه الصلاة والسلام، فكيف يدفع قومه عن هؤلاء؟ والله عز وجل يرينا هذه الصورة التي فيها لوط عليه الصلاة والسلام، وكيف أن الأمر كان شديداً عليه لدرجة أنه يقول: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود:77]، ويقول لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].
ليرينا الله عز وجل كيف أنه إذا ضاق الأمر جاء الفرج من عنده سبحانه وتعالى وحده.
فهذا لوط كان وحده في بيته يدفع هؤلاء القوم، وذهبت امرأته إلى القوم وأخبرتهم أنه يوجد شبان حسان عند لوط عليه الصلاة والسلام، فجاء القوم يتدافعون في الطريق، فإذا به يغلق بابه في وجوههم فيدفعون عليه الباب، هو يدفع من الداخل يحمي أضيافه وهم من الخارج يدفعونه يريدون كسر الباب على لوط ومن معه، فضاق بهم ذرعاً وقال المقولتين السابقتين.
فلما ضاق به الأمر وقال هذه الكلمة إذا بالملائكة تنطق وتقول للوط: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] أي: لا تخف، لست أنت الذي ستحمينا نحن الذين سندافع عنك بإذن الله رب العالمين، ولن يستطيعوا الوصول إليك.
وإذا بالملائكة ترمي هؤلاء القوم بالحصباء في وجوههم فيعميهم الله عز وجل وهم على باب لوط، فيرجعون وهم يتوعدون لوطاً أنهم راجعون إليه عليه الصلاة والسلام، والملائكة تطمئنه ويقولون له: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [العنكبوت:33].
وفي ذلك قراءتان: هذه قراءة الجمهور.
وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب.
(مُنْجُوك).
وقوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت:33] يعني: وبناتك.
ثم قال: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [العنكبوت:33] أي: امرأتك التي وشت بأسرارك إلى هؤلاء الكفار، والتي لم تؤمن بك {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت:33] أي: من المتبقين في العذاب.(190/8)
تفسير قوله تعالى: (أنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء)
قال تعالى: {إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت:34] أي: عقوبة وعذاباً من السماء.
وفي قوله تعالى: (إنا منزلون) قراءتان: قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر.
فجاءتهم الزلزلة من عند رب العالمين، فإذا بجبريل عليه السلام يرفع القرية ويهوي بها، قال سبحانه: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:53 - 54] وأنزل عليهم حجارة من الجحيم فأهلكهم جميعاً.(190/9)
تفسير قوله تعالى: (ولقد تركنا منها آية لقوم يعقلون)
قال سبحانه: {وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:35] فالذي يمر هناك يعرف أن هذه سدوم قرى قوم لوط التي أهلكها الله وجعل مكانها بحيرة منتنة مالحة، فمن يعقل يحترز عن الوقوع في المعاصي، ومن لم ينفعه التذكر استحق العقوبة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(190/10)
تفسير سورة العنكبوت [36 - 40]
ذكر الله تعالى في هذه الآيات البينات قصة نبيه شعيب مع قومه، وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله وخوفهم اليوم الآخر ونهاهم عن الفساد في الأرض؛ فبدلاً من أن يؤمنوا كذبوه، فأهلكهم الله سبحانه، ثم ذكر نماذج من أولئك المكذبين وكيف أهلكهم ودمرهم؛ كل ذلك ليتعظ المؤمن ويعتبر بمن سبق، فمن فعل الذنب فلا يبعد أن تحل به عقوبة أمثاله من الأمم البائدة.(191/1)
ذكر بعض أنبياء الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
لما ذكر الله عز وجل لنا قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه وكيف أنه دعاهم إلى الله عز وجل وكانوا يعبدون الأوثان والأصنام من دون الله، فرفضوه وأرادوا أن يحرقوه فأنجاه الله عز وجل من النار، وذكر لنا قصة لوط ابن أخي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكيف أنه هاجر مع إبراهيم إلى بلاد الشام، ودعا قومه في قرى سدوم وعمورة وصوغر، فلما دعاهم إلى الله سبحانه أبوا إلا الكفر والإعراض والوقوع في أعظم المنكرات والفواحش وإتيان الذكران من العالمين، ثم حذرهم عقوبة الله عز وجل فرفضوا وقالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] فجاءهم العذاب فاقتلعهم الله عز وجل بأرضهم، وزلزل بهم، وأرسل عليهم من السماء حجارة من سجيل، فأصبحوا في ديارهم هامدين خامدين صرعى جزاءً بما كانوا يعملون.
ونلاحظ في سورة الأعراف عندما يذكر الله تعالى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يطيل في ذكرهم، وما فعلوا مع قومهم وما فعل قومهم معهم.
وكذلك في سورة هود، وفي سورة طه عندما يذكر موسى عليه الصلاة والسلام.
ولكن في هذه السورة إشارات الغرض منها: أن يبين الله تعالى كيف أن العصيان من الأقوام يترتب عليه العقوبة العاجلة من الله سبحانه.
فهذه السورة جزء منها مكي وجزء مدني، وكأن الجزء المكي منها يبين للنبي صلى الله عليه وسلم وللكفار من أهل مكة أن هذا رسول حق عليه الصلاة والسلام، وهو يدعوكم إلى الله كما دعا من قبل إبراهيم، ولوط، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء دعوا أقوامهم، وأنتم كذبتم كما كذب من قبل قوم إبراهيم وقوم لوط، وقوم شعيب وقوم موسى وغيرهم فانتظروا سوء عاقبة من كان قبلكم.
وذكر الله عز وجل قوم نوح، ثم عقب بإبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ونوح أول الأنبياء وأول الرسل عليه الصلاة والسلام إلى الكفار المكذبين، وبعده إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وإن كان بينهما قرون كثيرة فيها أنبياء يعلمهم الله سبحانه وتعالى.
ولكن كأن الغرض هنا في الترتيب أن يذكر الأب بعد الأب، فآدم الأب الأول، وبعده نوح عليه الصلاة والسلام، ثم أغرق الله عز وجل البلاد وأهلك العباد الذين كفروا به، وصار من على الأرض أبناء نوح عليه الصلاة والسلام فهو أب بعد أب.
وذكر بعده إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام وله التشريف.
ثم ذكر بعده لوطاً فهو في نفس الزمن، وهو ابن أخيه.
ثم ذكر بعده شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(191/2)
تفسير قول الله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً)
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [العنكبوت:36].
هو مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد سكن في هذه الديار التي سميت باسمه.
إذاً: ديار مدين التي كانت بين الشام وبين الحجاز هي مدين التي فر إليها موسى عليه الصلاة والسلام، فتجد في رأس خليج العقبة مكاناً اسمه أيلة بالقرب من الحجاز، أو على أول الحجاز تكون بلد مدين، والبعد بينها وبين مصر أكثر من ألف ميل الذي مشاه موسى عليه الصلاة والسلام هارباً من فرعون وفاراً إلى مدين! وتزوج هنالك ثم رجع إلى مصر مرة ثانية كل هذا ماشياً على قدميه عليه الصلاة والسلام.
فهذه مدين، وهذا مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكأنها المناسبة: أن هذا مدين بن إبراهيم وهذه البلدة التي كان فيها أرسل إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام.
فكأن قوم مدين كانوا قريبي عهد بإبراهيم؛ ولذلك استبعد من استبعد من المفسرين أن يكون شعيب هذا زوج ابنته موسى عليه الصلاة والسلام.
وقالوا: المسافة بعيدة بين إبراهيم وبين موسى حوالي ألف سنة، وشعيب قريب من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من أبناء مدين الذي هو ابن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قالوا: فبعيد أن يتزوج موسى من ابنة شعيب النبي.
لكن الغرض هنا أن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى مدين الذين كذبوا وكفروا أخاهم شعيباً، كأنه يقول هنا: وإلى مدين أرسلنا أخاهم شعيباً.(191/3)
تفسير قوله تعالى: (فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر)
قال تعالى: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} [العنكبوت:36] أي: اعبدوا الله، فأمرهم بعبادة الله سبحانه وتوحيده، وبأن يوجهوا كل أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ)) أي: أملوا ما عند الله من جنة وخافوا من عذاب الله سبحانه وصدقوا بما جئتكم به من رسالة من عند رب العالمين.
ثم قال: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين} [العنكبوت:36] يعثى: بمعنى: يفسد، ويقال في العثى: أنه أشد الفساد، أي: لا تفسدوا في الأرض أشد الإفساد فكان إفسادهم أنهم كفروا بالله سبحانه، وأنهم ينقصون في الكيل والميزان كما فصل الله عز وجل في سورة الأعراف وفي سورة هود كيف أن نبيهم بين لهم ذلك.
وكان شعيب يلقب بخطيب الأنبياء؛ لحسن بيانه، وحسن تبليغه، وجمال كلامه، وأنه أخذ قومه باللطف وبالبيان شيئاً فشيئاً وحجة وراء حجة ليقنعهم، ومع ذلك لم يستجيبوا ولم يؤمنوا به.
فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:85 - 86] فدعاهم بهذا البيان الطيب الجميل: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ)) أي: معي بينة وآية تدل على أني رسول من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ثم قال: ((فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)).
وفي آية أخرى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:85].
وفي الآية الأخرى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85].
ثم قال: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود:86] أي: لا أملك إلا أن أدلكم على الحق، ولست رقيباً عليكم، ولا أحولكم من شيء إلى شيء فلا أملك لكم ذلك.
فيخاطبهم ويتلطف لهم ويرقق قلوبهم بقوله: يا قوم! أي: أنا منكم، فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
وقال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود:85 - 86] يعني: ما بقي لكم من حلال أفضل وأخير لكم من حرام تطلبونه إن كنتم مصدقين بأنكم ترجعون إلى الله فيحاسبكم يوم القيامة.
فما كان جواب قومه إلا أن ردوا عليه بالسفاهة فقالوا: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] أي: أنت جاعل نفسك حليماً رشيداً فلن نسمع الكلام الذي تقوله.
ثم قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88].
وحاشا له أن يكون قد دخل في ملتهم حتى يعود فيها، ولكنهم قصدوا من آمن معه، فكما دخلوا معك في دينك يرجعون إلى ديننا مرة أخرى، وإلا فسوف نخرجك ونطردك من هذه القرية.
فرد عليهم: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:88 - 89] ثم دعا ربه: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف:90].
إذاً: جدل طويل بين شعيب وبين قومه، يرقق قلوبهم، ويدعوهم إلى هداية الله رب العالمين، وهم يأبون إلا قسوة القلوب والاستكبار والإفساد.(191/4)
تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأخذتهم الرجفة)
وفي النهاية يذكر الله عز وجل أنه أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت:37] فأجمل هنا ما فصل في سورتي الأعراف وهود وغيرهما.
قال: (فكذبوه) إجمالاً، (فأخذتهم الرجفة) وزلزل الله عز وجل بهم الأرض من تحتهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين وجاءهم العذاب من عند الله سبحانه.
وقد قال هناك: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:92] (كأن لم يغنوا) أي: كأن لم يعيشوا وكأن لم يقيموا فيها أبداً وكأنهم لم يكونوا قبل ذلك، مضت أعوام وسنون وهم في هذا المكان كافرين بالله سبحانه وتعالى، فلما جاءتهم الرجفة أصبحوا في ديارهم جاثمين: من الجثوم، والجثوم: البروك على الركب وعلى الأقدام، فكأنهم حين جاءت عليهم الرجفة من رعبهم يلقون أنفسهم على الأرض ويأتيهم الموت وهم على ذلك.
قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:94] ومنها المجثمة: وهي الطائر الذي يربط في مكان ويحذف عليه بالسهام.
وكذلك يقال: جثم الطائر وجثم الأرنب، بمعنى: أنه لبد في المكان وأقام وألصق بطنه بالأرض؛ فكذلك هم أصبحوا في ديارهم جاثمين ملقون على الأرض باركين عليها أمواتاً، وجاءهم العذاب من عند رب العالمين.
ثم قال: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} [الأعراف:93] أي: شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] أي: لا تستحقون أن أحزن عليكم، وكيف آسى عليكم وقد كفرتم بالله وقد حذرتكم فاستحققتم هذه العقوبة من ربكم؟ فلا آسى عليكم، ولا أحزن عليكم.(191/5)
تفسير قوله تعالى: (وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)
ثم ذكر الله عز وجل أقواماً آخرين قبل شعيب، وقبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت:38] أي: اذكروا عاداً واذكروا ثمود قبل ذلك فهم أقوام أهلكهم الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى: ((وَثَمُودَ)) قراءتان: قراءة حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب: (وثمود وقد تبين لكم).
وقراءة باقي القراء: (وثموداً وقد تبين لكم) بالألف وعليها تنوين.
قال تعالى: ((وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)) يعني: أنتم تمرون على ديار عاد، وتمرون على ديار ثمود فالله تعالى يخاطب قريشاً وأهل الحجاز: لقد عرفتم ديار هؤلاء، وكيف أهلكهم الله سبحانه، وكيف أن ديارهم لم تسكن إلا قليلاً، فديار عاد في الجنوب بين اليمن والحجاز، وديار ثمود في الشمال بين الحجاز والشام.
قال سبحانه: ((وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ)) في الحجر وفي الأحقاف كيف أهلكهم الله سبحانه.
قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت:38] أي: أن الشيطان يزين للإنسان الشيء على خلاف حقيقته، والله تبارك وتعالى يزين الشيء خلقة، فالله يخلق الأشياء جميلة وخلق الله عز وجل كله طيب جميل، والشيطان يأتي الإنسان فيزين له سوء عمله، فيعمل القبيح، فإذا بالشيطان يريه أن هذا الذي يصنعه أمر حسن.
والله يحرم على العبد النظر إلى الحرام؛ فإذا بالشيطان يزينه في عينه فيوسوس: انظر إليه فإنه حلو جميل، فينظر إلى ما حرم الله ويواقع ما حرم الله.
والشيطان يزين له المعصية ويزين له ما فيه غضب الله على أنه شيء يرضيه، فإذا بالعبد يواقعه فيقع في غضب ربه سبحانه، فزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة فجعلها في نظرهم حسنة.
قال تعالى: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [العنكبوت:38] أي: عن طريق الله سبحانه.
ثم قال: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38] أي: أن الإنسان الذي يتنكب الطريق وهو لا يعرف لعله يكون له عذر، أما الذي يعرف الطريق ويتنكب عنه فهذا لا عذر له.
فالله عز وجل أرسل الأنبياء يرشدون الناس: هذا طريق الله عز وجل، وهذا طريق الشيطان، واحذر أن تسلك هذا الطريق.
إذاً: هو مستبصر الآن ويرى الطريق الصحيح أمامه، كالذي يسير وأمامه طرق ولا يعرف أين أمشي، فيأتي إليه إنسان ويقول له: امش في هذا الطريق، فبعدما عرف الطريق يتركه ويمشي في غيره! فهذا مستبصر يعرف أين الحق ويمشي إلى الباطل وهو يعرف ذلك.
فالله سبحانه قد أنزل الكتب وأرسل الرسل لئلا يكون للناس حجة على الله سبحانه، فصد الشيطان هؤلاء عن سبيل الله، وكانوا يعرفونها، وكانوا يعرفون الحق وقد بان لهم بالبرهان طريق الله فكانوا مستبصرين.(191/6)
تفسير قوله تعالى: (وقارون وفرعون وهامان)
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى غيرهم فقال: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} [العنكبوت:39] فقارون كان من قوم موسى وقد ذكرنا قصته في سورة القصص، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76] والقصة معروفة.
(وفرعون): هو الذي حكم مصر والذي نظر في نفسه أنه أعلى من الناس، فادعى أنه إله عليهم، وكذب على الناس فوصدقوا كذبه، وكانوا قوماً مغفلين قال الله عنه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ} [الزخرف:51] وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24].
فإذا بهم يصدقونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
وهامان وزير فرعون الذي يعينه على باطله، فقد قال له: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38].
يقول له: سأبني لك صرحاً من أجل أن تطلع إلى السماء، وهو يعلم أن صرحه لن يبلغ السماء أبداً، ويبنيه ويصدق فرعون فيما يقول.
ويقول: هذا الصرح اصعد فيه إلى السماء فيصعد فرعون فوق الصرح، وينزل للقوم ويقول لهم: لم أجد أحداً في السماء، وليس هناك إله وهذا موسى كذاب، فهذا الكذاب هامان يعين فرعون على ما هو فيه من باطل.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [العنكبوت:39] فقارون ألهاه ماله وحسده لموسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان ابن عم لموسى عليه الصلاة والسلام، فغار من موسى فقال: أنا معي الأموال كلها وأنت تكون رسولاً!! فغار منه فكان أن خسف الله عز وجل به الأرض.
وفرعون وهامان كذبا موسى عليه السلام وقام الاثنان بأعمال تدل على هذا التكذيب، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:39] استكبروا وكأن هذه الآية تحذر كل مستكبر: مهما تكبرت وعلوت فلست بفائت على الله سبحانه وتعالى، بل الله الذي تركهم كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] أي: اذهبوا واعملوا ما تريدون فيستكبرون ثم لا يفلتون من ربهم سبحانه.(191/7)
تفسير قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه)
قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40] أي: كل واحد من هؤلاء الأقوام أخذه الله عز وجل بذنبه.
(فكلاً) هنا لف للكلام ثم نشر بعد ذلك كيف أهلكهم سبحانه.
فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} [العنكبوت:40] أي: كما فعلنا بقوم لوط، وكما فعلنا بقوم شعيب وغيرهم، ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم شعيب وثمود وغيرهم.
ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقارون وغيره.
ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40] كما فعلنا بقوم نوح المكذبين، وكما فعلنا بفرعون وجنوده.
ثم قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [العنكبوت:40] أي: لم يفعل ذلك ظالماً لأحد، قال سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] حاشا له سبحانه وتعالى أن يظلم.
قال تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40] أي: ظلموا أنفسهم فاستحقوا عقوبة الله، وهذا فيه تحذير لكل إنسان يظلم نفسه أو يظلم غيره أنه لن يفلت من العقوبة، فعليه مراجعة نفسه والرجوع إلى الله سبحانه إنه تواب رحيم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(191/8)
تفسير سورة العنكبوت [41 - 43]
ضرب الله تعالى مثلاً رائعاً لأولئك الذين عبدوا غيره واتخذوا معبوداتهم أولياء لهم ببيت العنكبوت الذي هو أوهن البيوت، فكأنه يقول: كما أن بيت العنكبوت لا يمنعها من حرٍ ولا قرٍ ولا ريح ولا عدو، فكذلك أولياؤكم لا ينصرونكم ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن ينفعوا غيرهم، ثم بين أن هذه الأمثال لا يعقلها ويفهم المراد بها إلا من وهبه الله العلم ورزقه فهم كتابه وتدبر آياته جل وعلا.(192/1)
تفسير قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
في هذه الآية من سورة العنكبوت يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن الكفار الذين عبدوا الأصنام من دونه سبحانه، وأن مثل هؤلاء في ضعفهم، وضعف عقولهم، وضعف من يلجئون إليه ويدعونه من دون الله سبحانه وتعالى كمثل العنكبوت حين اتخذت بيتاً لا يحميها من أعدائها، وقد يكون بيتاً تعيش فيه وتستخدمه مصيدة لغيرها، أما أنه يحميها من أحد يريد أن يدوس عليها فيقطع ويمزق هذا البيت ويقتل العنكبوت فلا يحميها من ذلك، ولا يحميها من الرياح إذا هاجت وسارت عليها فأطارت البيت بمن فيه.
فكأنه يشير إلى أن هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله سبحانه لا ينفعونهم بشيء، ولا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا لأنفسهم كمثل بيت العنكبوت في وهنه وضعفه.
قال تعالى: (اتخذت بيتاً) وهذا البيت لا يحميها من أعدائها، وإذا جاءت الرياح أطارت البيت وضيعته، وإذا داس عليها إنسان أو حيوان لا تقدر أن تدفع ولا يدفع بيتها عنها، فكذلك هذه الأصنام وهذه الآلهة التي تعبد من دون الله، لا تملك لأصحابها لا نصراً ولا ولاية ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً ولا شيئاً.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [العنكبوت:41] الولي: هو النصير، والولي هو الذي يحمي الإنسان ويدافع عنه، ويكون متولياً لأمره، فلا يعقل أبداً أن هذه الأصنام والتماثيل تتولى أمور هؤلاء القوم وتدبر لهم كونهم وأمورهم، فمثلهم كمثل هذه العنكبوت (اتَّخَذَتْ) يعني: العنكبوت (اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أوهن: أضعف من الضعف، قال تعالى عن زكريا عليه السلام: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم:4] أي: صار عظمي ضعيفاً لا يحملني، فالإنسان الواهن: هو الإنسان الضعيف، به وهن أي: به ضعف.
فاتخذت هذه العنكبوت بيتاً، وأوهن وأضعف البيوت هو بيت العنكبوت.
وفي قوله تعالى: (البيوت) قراءتان: قراءة بالضم وهي قراءة ورش، وأبي عمرو، وحفص.
وقراءة أبي جعفر ويعقوب، وباقي القراء بكسر الباء: (وإن أوهن البِيوت).
قال تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أي: لو كانوا يعلمون أن هذه الأشياء التي عبدوها من دون الله كبيت العنكبوت ولو أنهم تدبروا في ذلك لعلموا أنها لا تنفعهم شيئاً ولا تملك لهم حيلة ولا تملك لهم رزقاً فابتعدوا عنها ولم يعبدوها من دون الله سبحانه وتعالى.(192/2)
من عجائب العنكبوت وبيته
وهذه الآية آية عجيبة جداً، وفيها معجزة عظيمة من المعجزات في تعبير القرآن العظيم بهذه الصيغ، قال تعالى: {اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] والتاء تاء التأنيث، وهنا إشارة إلى أن أنثى العنكبوت هي التي تبني البيت، وهذا بعد دراسات العلماء لهذه الحشرة العجيبة سنين طويلة يصلون في النهاية إلى ما في هذه الآية ويقولون: الذكر لا يبني البيت أبداً إنما الذي يبني البيت هي أنثى العنكبوت! والوهن الذي أشار إليه القرآن على معاني صحيحة؛ فالمعنى الذي يفهمه القارئ من أول قراءته لهذه الآية أن أضعف البيوت بيت العنكبوت، وهذا معنى صحيح؛ فهو بيت واه وضعيف، كما نقول: إنسان وهن منه العظم، كأن بيت العنكبوت لا ينصب نفسه ولا بد أن تلصقه في الجدران من أجل أن يستقر عليه.
ومعنىً آخر من وراء ذلك: أن الوهن في العنكبوت نفسه، وهو أنثى العنكبوت وذكر العنكبوت وأولاد العنكبوت.
وهذه العنكبوت حين التزاوج والتلاقح فالذكر حين يلقح الأنثى تستنفد قواه بهذا التلقيح وتأخذ منه ما فيه وفي النهاية تقتله وتأكله.
فحياة أنثى العنكبوت حياة عجيبة جداً! بعدما نفعها بأن لقحها قتلته، ولم تقتله فقط؛ بل أكلته أيضاً، فهذا بيت ليس فيه رحمة إنما يعتمد على المنفعة.
وأولاد العنكبوت يهربون من البيت وهم صغار، ولا يعيشون أبداً في البيت إلى أن يكبروا؛ لأن البيت واه وضعيف.
وليس هناك علاقات اجتماعية قوية بين الأنثى والذكر والأولاد، فلو جاعت أكلت أولادها، فعلى ذلك هو بيت عجيب جداً.
وهذه دراسات علمية منشورة على الإنترنت ذكرها علماء المسلمين وأخذوها عن علماء الكفار الذين درسوا حياة الحشرات وتكلموا عنها باستفاضة، قالوا: هذا القرآن يذكر لنا أن أنثى العنكبوت هي التي اتخذت بيتاً، وهم أثبتوا الآن أن الذي يبني هذا البيت هي الإناث وليس الذكور.
وبيت العنكبوت ضعيف، وهذا معروف من زمن قديم، والجديد الذي عند أهل العلم في ذلك يقولون: إنه فيه ضعف من نوع آخر، وهو أن من بداخله يأكل بعضهم بعضاً وليس فيه حياة اجتماعية أسرية بداخله.
وهذا أمر عجيب من تعبير القرآن؛ إذ يمكن أن يقول الناس: هذا يعمل مثل خيط العنكبوت، أما القرآن فلا يقول: خيط العنكبوت، إنما يقول: بيت العنكبوت، فيا ترى ما الفرق بين الاثنين؟ فالخيط مهما كانت قوته لو حاولت تبني منه بيتاً فذلك غير ممكن أن يستقيم الخيط فتبني منه بيتاً، لكن البيت لا بد أن تعلقه على جدار أو عمود، فلا بد من تعليقه على شيء من أجل أن يستقيم ويرتفع.
فلو أتيت بالخيط ووضعته وجلست داخل هذا الخيط مهما كانت قوته فليس بشيء؛ بل لا بد أن يكون معلقاً بعيداً عنك من أجل أن يكون بيتاً تعيش فيه.
أما إذا لم يكن له أشياء تحمله وترفعه وتنصبه عليه سقط على من فيه، فلم ينفع من فيه بشيء.
فالعلماء يتكلمون عن التعبير القرآني: بالبيوت، ولم يقل: الخيوط.
قالوا في الدراسة: إن خيوط العنكبوت ظهرت أقوى أنواع الخيوط، فخيط العنكبوت ليس خيطاً ضعيفاً بالنظر إلى ما هو مثله من الخيوط.
بمعنى: لو أتينا بأي نوع من أنواع الخيوط الرقيقة في مثل رقة خيط العنكبوت، لكان خيط العنكبوت أقوى من هذا الخيط حتى لو كان هذا الخيط من الفولاذ أو من الصلب، ولذلك يقول العلماء: إذا كانت هذه الخيوط تبدو ضعيفة واهية وتمزقها الرياح؛ إلا أن الدراسات أثبتت أنها على درجة عالية من المتانة والشدة والمرونة، فهي تعد أقوى مادة بيولوجية ينتجها حيوان عرفها الإنسان حتى الآن.
ولا يفوقها في الكون كله قوة خيط إلا نوع يسمى: بالكوارتز المصهور، قالوا: هذا أقوى منه.
وقالوا: هذا الشيء الرفيع يتمدد إلى خمسة أمثاله، وليس هناك خيط مثله، فإذا كان طوله سنتيمتراً واحداً فإنه يتمدد حتى يصبح طوله خمسة سنتيمترات، فهو قوي وفيه متانة.
وقالوا: إنهم حاولوا أن يقلدوا خيط العنكبوت من أجل أن يصنعوا خيوطاً قوية تضاهي خيط العنكبوت، وقد قالوا: إنه أقوى من الفولاذ المعدني بعشرين مرة، فتخيل! خيط تصنعه هذه العنكبوت الذي أنت تدوس عليها برجلك، فلا تستطيع أن تصنع خيطاً مثل خيطها إلا بجهد جهيد.
وقالوا: أقوى الخيوط الموجودة الذي يلي خيط العنكبوت خيط استحدثوه حديثاً مصنوع من الكوارتز المصهور، يقولون: وتبلغ قوة احتماله ثلاثمائة ألف رطل للبوصة المربعة.
أي: أنك لو أتيت ببوصة مربعة مضغوطة من خيط العنكبوت يتحمل قوة من غير أن يتفشى ويتكسر ثلاثمائة ألف رطل عليه.
قالوا: فإذا قدر جدلاً أن أتينا بخيط العنكبوت وضغطناه وعملنا منه حبلاً في سمك الإبهام، فبالإمكان أن يأخذ طيارة جامو، وهي إحدى الطائرات العملاقة.
ولكن كيف يصنعون ذلك من أجل أن يصلوا إلى القوة العظيمة التي لهذه الخيوط؟ قالوا: هناك غدد موجودة في بطن العنكبوت، وهناك ثلاثة ثقوب موجودة فيها ينزل منها ما تفرزه الغدد وتخرج منها على هيئة شعيرات، فيجتمع خيط مع خيط ويجدل الخيوط في بعضها بحيث تكون في النهاية خيط العنكبوت.
كذلك في بطنها أكثر من ستمائة غدة تفرز مادة معينة، وهذه المادة تنزل من ثقوب ثلاثة موجود في داخلها مثل المغازل كل واحدة تنزل خيطاً، والثانية تنزل خيطاً، ويلتف الخيط على بعضه، فيتجدل بحيث يكون خيط العنكبوت الذي يظهر أمامنا.
وقد اكتشفوا أن الحشرات أكثر شيء موجود على الأرض، وقالوا: يوجد أكثر من عشرة مليون نوع من أنواع الحشرات، ولم يصلوا إلا إلى معرفة حوالي مليون وقليل من هذا العدد الضخم من الحشرات الموجودة على الأرض.
والعنكبوت لوحده خمسة وثلاثون ألف نوع من هذه الحشرات الموجودة، وربنا سبحانه وتعالى ضرب لنا مثلاً بها وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26].
إذاً: البعوضة خلق، وأنت لا تستطيع أن تخلق مثله، والذبابة خلق وأنت لا تستطيع أن تخلق مثلها، فخلق عظيم من خلق الله سبحانه وتعالى توجد فيه حكم خلقها الله سبحانه وتعالى.
وقد قال لنا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} [فصلت:53] أي: هؤلاء الكفار سنريهم آياتنا، أما المؤمن فيعلم أن الله لا يخلق شيئاً إلا لحكمة، والكافر يظل يفكر ويصنع ويتأمل ويخرج بنتيجة يصل في النهاية إلى ما قاله الله سبحانه وتعالى.
فضرب الله بالعنكبوت المثل، والإنسان يراها حشرة تافهة ويتقزز منها، ولكن يقول لك: هذه لا تخلو من فوائد، وربنا سيذكرها هكذا وانتهى.
العنكبوت فيها فوائد كثيرة جداً لدرجة أنهم يقولون: إنها تلتهم الملايين من الحشرات الضارة.
كذلك تلتهم الملايين من النباتات الضارة بالصحة، بل إنها تعمل كمبيدات حشرية لدرجة أن أحد العلماء يقول ويؤكد: إن نهاية الإنسان تصبح حتمية لو أن العنكبوت لم تكن موجودة على وجه الأرض، هل تتخيل هذا الشيء؟! فيضرب الله تعالى المثل بشيء يدل على أنه مثل عظيم من الله سبحانه وتعالى، والاختيار للألفاظ مقصود لمعانٍ عظيمة منه سبحانه.
قال سبحانه: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أي: لو يعلمون ذلك ويتأملون في كلام الله عز وجل لآمنوا ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى.
وقد ذكر الله تعالى قبل ذلك النمل فقال تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النمل:18]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن قتل النمل)، والعلماء يذكرون أيضاً أن النمل نافع جداً للإنسان، وأنه يتخذ سلاحاً يحمي الأشجار للإنسان من الحشرات الضارة بالأشجار التي تنخرها؛ لدرجة أن في اليمن يبيعون النمل، فيذهبون للغابات ويأتون بالأشجار التي عليها النمل وينقلونها على الجمال إلى السوق من أجل أن تباع، ويأخذها أصحاب مزارع الموالح وغيرها من أجل أن يحمي النمل لهم مزارعهم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن ذلك إلا لحكمة عظيمة جداً.
إذاً: نقتل ما كان مؤذياً للإنسان بالقرص، أو يخرب بيت الإنسان، أما غير ذلك فلو أنه قضي على النمل كله الذي على وجه الأرض لخربت وضاع على الإنسان غذاؤه.
ولو أنه قضي على جميع العناكب التي على وجه الأرض لمات الإنسان بعد ذلك من أعدائه الموجودين.
فالله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً إلا لحكمة، والإنسان قد يستكبر، ويقول: هذا مخلوق ليس له لزوم، ويضيع شيئاً من الأشياء التي أوجدها الله عز وجل في مكان، فإذا بتضييعه لهذا الشيء في هذا المكان يدمر له هذا المكان بسوء صنيعه.
وكذلك لو أن الإنسان أخذ شيئاً من موطن غير موطنه، ووضعه في مكان آخر، فتكاثر في هذا المكان، فلعله يخرب هذا المكان بصنيعه هذا.
فلو ترك الإنسان الدنيا على ما خلقها الله عز وجل عليه ولم يتعرض للتجارب لتضييع البيئة التي أوجدها ربنا سبحانه وتعالى أوجدها وفطرها عليها؛ لكانت الأرض فيها الخير العظيم قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].(192/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء)
قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت:42] أي: الكفار، وهذه قراءة أبي عمرو وعاصم، ويعقوب: (إن الله يعلم ما يدعون).
ويقرأ بالخطاب باقي القراء: (إن الله يعلم ما تدعون) يعني: يا أيها الكفار! إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء، ولو كان حقيراً أو شيئاً صغيراً تخفونه فالله يعلم ما كان صغيراً وما كان كبيراً من عبادتكم الباطلة.
إن الله يعلم كل ما تدعون من دونه، ويعلم ما تفعلون، وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:42] أي: الذي لم يخلق شيئاً إلا لحكمة والذي لم يرسل رسولاً إلا لحكمة والذي لم ينزل كتاباً إلا لحكمة سبحانه.(192/4)
تفسير قوله تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس)
قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} [العنكبوت:43] أي: تلك الأمثال العظيمة التي يذكرها الله سبحانه وتعالى: {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت:43] أي: نبينها ونوضحها للناس ونذكرها لهم على وجه العظة والتمثيل، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] أي: وما يفهم هذا الشيء وما يتعقل معانيها إلا العالمون.
والكافر الغبي يقول: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [البقرة:26] فمرة يذكر ذبابة، ومرة يذكر بعوضة، ومرة يذكر العنكبوت، ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟! أما العلماء فيقولون لك: أنت لا تفهم شيئاً، فلو قضي على العناكب التي خلقها الله تعالى لكان القضاء عليك أنت يليها، ولو أن هذه الحشرات الموجودة في الكون كلها غير موجودة فلن تستطيع أن تعيش، أو سيكون لك أعداء لا تقدر عليهم، وهذه الحشرات هي التي يبيد الله عز وجل بها هذه الأشياء؛ فانظر لحكمة الخالق الباري سبحانه وتعالى، واعقل وتفهم ما يقوله سبحانه: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده العالمين المؤمنين الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(192/5)
تفسير سورة العنكبوت [44 - 45]
بين المولى جل في علاه أن من دلائل عظمته وقدرته خلقه لهذه السماوات السبع بغير عمد، وأنه قد خلقها بالعدل والقسط، ففي ذلك الخلق على هذه الهيئة آية عظيمة باهرة تزيد أهل الإيمان إيماناً وتقوى، وتبعث في قلوبهم الرهبة والخشية من الله تعالى، فيعملوا بما أمر، ويجتنبوا ما نهى عنه وزجر، ومن ذلك إقامة الصلاة التي أمر الله تعالى بها، وتأديتها كما أمر سبحانه.(193/1)
تفسير قوله تعالى: (خلق السماوات والأرض بالحق)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق، أي: بالعدل وبالقسط، خلقها الله سبحانه وتعالى حقاً وبالحق خلقها سبحانه، فهي موجودة حقاً وصدقاً، والذي أوجدها هو الله سبحانه وهو الذي أقام السماوات والأرض على العدل وعلى القسط وعلى الحق سبحانه وتعالى.
وهذه آيات من آيات رب العالمين ودلالة للمؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم.
وتأمل أنه قبل ذلك ذكر بيت العنكبوت فقال: {إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41].
ثم قال: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [العنكبوت:44]، وقال سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:27 - 33].
يخبرنا عن هذا الخلق العظيم فيقول: هل أنتم أقوى أم هذه السماوات وهذه الأرضون؟! والإنسان كلما ازداد علماً كلما عرف أنه ضعيف وأنه ليس شيئاً، فأصل خلقة الإنسان هذا التراب الذي يمشي عليه، وإن كان حين سيره يضرب برجله الأرض، قال الله سبحانه: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، أي: لن تشقها برجلك لأنك أضعف من ذلك.
{وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ} [الإسراء:37]، أي: لن تطول فتصير كقمة الجبل، فأنت ضعيف والسماء والأرض والجبال أقوى منك.
والله عز وجل خلق هذا كله وأحكمه إحكاماً وأتقنه إتقاناً، فانظر إلى بيت العنكبوت وضعفه، وانظر إلى السماوات والأرض وقوتها، وانظر إلى من يعبدون غير الله سبحانه، من الذي يستحق أن يعبد؟ أهذه الأصنام وهذه الآلهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت أم الله الواحد القهار الذي خلق السماوات والأرض بالحق؟ لا شك أن الأحق بالعبادة هو الله سبحانه وتعالى.
فقد خلق السماوات والأرض وشرع لعباده ولم يتركهم هملاً، فهو أولى أن يطاع لكونه الخالق الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه، لا هذه الأنداد والآلهة التي لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت:44]، أي: في خلق السماوات، وقد قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، أي: من كان له لب وقلب وبصيرة وعقل عرف الآيات في ذلك، وعرف أنها لم تخلق نفسها ولم يوجدها إلا خالقها الله سبحانه فتوجه إليه وحده بالعبادة.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190]، أنه قال في الصباح لأصحابه: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها).
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات إذا استيقظ من نومه كل ليلة ليصلي بالليل، فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد أماتنا وإليه النشور)، ثم يقرأ العشر الآيات من آخر سورة آل عمران التي أولها قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191].
إذاً: المؤمنون يذكرون الله ويتفكرون في هذا الخلق فيزدادون إيماناً، فبدأ بقوله: (خلق السماوات والأرض)، وعقب بعد ذلك بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ} [آل عمران:49]، وبعد ذلك ذكر الصلاة وذكر الله سبحانه وتعالى.
وكأن هذه أشياء مرتبة بعضها على بعض، انظر إلى الكون فتفكر، فإذا تفكرت وتدبرت عرفت الخالق سبحانه وتعالى، وعرفت قوته وقدرته وأنه يستحق العبادة، فإذا عرفت ذلك فاعبده بالصلاة ولا تكتف بخمس صلوات في اليوم والليلة، بل أدم ذكر الله عز وجل ليل نهار، واذكر الله قائماً وقاعداً وساجداً وراكعاً بل اذكر الله عز وجل على كل حال.(193/2)
تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب)
ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه فقال {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45] أي: اقرأ عليهم قراءة تدبر وترتيل؛ ليتدبروا ويسمعوا منك هذا الكلام العظيم.
فأمره بقراءة هذا القرآن والمداومة على ذلك، فيقرأ في نفسه، ويقرأ للناس، ويقرأ للمؤمنين؛ ليتعظوا ويزدادوا إيماناً، ويقرأ للكافرين؛ لعلهم أن يؤمنوا ويدخلوا في هذا الدين.
وهذا أمر له بالتبليغ، أي: اتل في نفسك، وبلغ الناس فيسمعوا منك ذلك، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي جاء من عند رب العالمين ونزل من السماء.(193/3)
أمر الله تعالى بإقامة الصلاة
ثم قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45] ولم يقل: صل؛ لأن إقامة الصلاة تعني: إحسانها وإعدادها على النحو الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) من الإقامة فأنت أقم صلاتك، وائمر الناس بها.
فيقيمها صلوات الله وسلامه عليه ويداوم عليها في أوقاتها بقراءتها وركوعها وسجودها وقعودها وجميع شروطها، ويأمر الناس بها ويصلي بهم، فكان يعلمهم الصلاة بالقول، ويعلمهم بالفعل، ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي).
ويعلمهم بالإنكار عليهم إذا أخطئوا، فلما رأى المسيء صلاته أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فقال: (إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، ثم استقبل القبلة وكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اقعد وافعل ذلك في صلاتك كلها)، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم إتقان الصلاة، ويحذرهم من التهاون والتفريط فيها ويقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
ويأمرهم بإسباغ الوضوء، وأن الذي لا يسبغ الوضوء لا صلاة له فيقول: (ويل للأعقاب من النار)، أي: الذي يتوضأ ويتعجل الوضوء ولا يغسل رجليه جيداً.
وقد وجد رجلاً يصلي وعلى قدمه لمعة موجودة على ظاهر قدمه -أي: علامة على أن الماء لم يصل إلى هذا المكان- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فيتوضأ ويعيد هذه الصلاة.
فالإنسان المؤمن يحرص على أن يصلي صلاة كاملة يتقرب بها إلى الله سبحانه على النحو الذي يريده منا.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس قوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) يعني: هل يبقى من قذره ووسخه شيء؟ قالوا: (لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) رواه الترمذي وصححه وهو حديث صحيح.
فيذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس التي تنظف قلب الإنسان وبدنه، تنظفه من ذنوبه الظاهرة والباطنة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا قام العبد يصلي أتي بذنوبه فجعلت على منكبيه، فإذا قام في الصلاة تساقطت، وإذا ركع تساقطت، وإذا سجد تساقطت)، فهذه الصلاة عظيمة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، وهي نور تنير للإنسان دنياه وأخراه، وتنير قبره، وهي صلة بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى، يتقرب بها إلى الله فيريح الله قلبه بها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: (أرحنا بها يا بلال!) فكان يستريح بهذه الصلاة، بل قال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وقرة العين: استقرارها وهدوء النفس، وراحة البال له.
ولذلك أمرنا الله عز وجل بها وقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فيبين لنا حكمة من حكم الصلاة وفائدة من فوائدها.
وإذا ضايقه أمر صلى لله عز وجل فيفرج الله عز وجل عنه هذا الكرب الذي نزل به، أو يريح قلب الإنسان فيصبر ويتصبر، قال تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200]، فلذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يأتسون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت بأحدهم مصيبة فزع إلى الصلاة لعل الله عز وجل يخفف عنه وطأة هذا الشيء الذي نزل به.
فالصلاة للإنسان تريح قلبه، وتشعره أنه راجع إلى الله سبحانه وتعالى، فمهما حدث من مصائب الدنيا ففي النهاية كل الدنيا ستزول وهو سيرجع إلى الله عز وجل، فالأمر هين سهل طالما أنه حافظ على صلته بالله.(193/4)
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
والصلاة تعين الإنسان على تقوى الله سبحانه وتعالى وتعينه على اجتناب المعاصي والفواحش، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
فالإنسان المؤمن حين يسمع الأذان للصلاة يستمع له ويردد الأذان: الله أكبر من كل شيء، فلو أنه انتبه لهذا الذي يسمعه علم أن كل شيء حقير، والله عز وجل الكبير الجليل العظيم المتعال سبحانه، فلجأ إليه وترك كل شيء، وتوجه إلى بيت الله لهذه الصلاة العظيمة مستريح النفس ولن يضيع منه شيء من الدنيا، وكيف تضيع منه مصالحه وكيف تضيع منه أمواله وهو ذاهب ليطيع الله سبحانه وتعالى؟! فهو متوجه إلى الله عز وجل ليصلي الصلاة المكتوبة، وهو ذاكر لله وداخل إلى بيت الله، فلن ينظر إلى فلانة وهي تمشي في الطريق، ولن يخدع إنساناً أو يغشه.
فالمؤمن الصحيح الإيمان لا يفعل هذا الشيء، فهو يتذكر أنه ذاهب ليقابل الله عز وجل، ولكي يعبده كأنه يراه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وإذا كنت لا ترى الله عز وجل فاستشعر أنك تراه سبحانه فهو يراك سبحانه وتعالى.
وفي الدنيا حاسب نفسك وراقبها، قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فلا يقع الإنسان في فاحشة من الفواحش لا فاحشة فعلية كالزنا ونحوها، ولا فاحشة قولية كالبذاءات ونحوها، فيكون المؤمن مبتعداً تماماً عما يغضب الله سبحانه وتعالى.
وكذلك تنهى عن المنكر، وكل ما ليس معروفاً فهو منكر ينكره القلب وينكره العقل السليم، وينكر على الإنسان أن يقع في القبيح أو المعاصي أو يقع في الأذى.
إذاً: كل ما كان منكراً فالصلاة نور في قلب الإنسان تمنعه أن يعمل ذلك؛ لكونه ذاهباً إلى الصلاة، ثم يدخل فيها فيتذكر ذنبه ويقول: يا ربي اغفر لي وتب علي، فيلوم نفسه، وقد أقسم الله عز وجل بالنفس اللوامة فقال: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] فلها فضيلة عند الله عندما تلوم صاحبها فيرجع ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
هذه الصلاة تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، فيدخل في صلاته فيذكر الله فينجلي النور في القلب وينبلج ويجلي الصدأ الذي عليه.
فكلما ذكر الله سبحانه وتعالى انزاح عن قلبه شيء من صدى الذنوب إلى أن يخرج من صلاته سليم الصدر، مستريح البال، قرير العين، فيتوجه إلى عمله فلا يخون ولا يخدع ولا يغش، ويذكر نفسه: أنا الآن خرجت من الصلاة فكيف أعمل هذا وأنا مصلي وأقابل الله سبحانه؟ فاحذر فالله يراقبك.
فالصلاة تمنع الإنسان من المعاصي أو تقللها، فلعله يقع في ذنب ولكن يتدارك نفسه فيستغفر الله سبحانه وتعالى، ويندم على ذلك.
أما الذي يترك الصلاة فيسمع المؤذن يؤذن فإذا به يجلس في مكانه ويحاول أن يلتفت عن هذا الأذان، والأذان يقول له: حي على الصلاة، أي: تعال وهو ينشغل بالحديث مع غيره.
ولذلك احذر أن تسمع الأذان وتتكلم مع الناس، فأحياناً بعض الإخوة تجده يتكلم والمؤذن يؤذن، فلم يكن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة، بل كانوا ينشغلون بالأذان، فأول ما يسمع الأذان حتى لو كان يقرأ القرآن يترك القرآن ويردد الأذان مع المؤذن فالله أكبر من كل شيء، والله أكبر من هذا الحديث الذي تتكلم مع صاحبك، اقطع علائقك بالدنيا واذهب إلى الله عز وجل وردد هذا الأذان، فإذا انتهى الأذان كان لك أجر عظيم من الله سبحانه وتعالى على الترديد.
إذاً: لا ننشغل عن الأذان وعن النداء، ولا نتكلم في الشارع أو نقف على باب المسجد إلى أن يصلي الناس السنة ثم ندخل عند إقامة الصلاة تهاوناً بصلاة السنة، ولعلنا إن صلينا هذه الصلاة فإنها تكون زيادة لنا من الخير، وتكون زيادة في قلوبنا من النور والقرب من الله سبحانه وتعالى، فالصلاة فرصة للإنسان يتقرب بها إلى الله.
وتجد البعض يدخل إلى المسجد فإذا أكمل صلاة السنة تكلم مع الذي بجانبه وليس هذا وقت كلام، إنما هو وقت دعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، فهذه أوقات عظيمة جداً وفوائد نفيسة وفرص فلا نضيعها، فندعو الله عز وجل في هذا الوقت الذي يستجاب فيه الدعاء، ندعو لأنفسنا وللمسلمين وندعو الله عز وجل أن يفرج الكروب والبلاء الذي امتلأت به ديار المسلمين.
فالصلاة الحقيقية التي يصليها الإنسان متقرباً بها إلى الله تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وكم من إنسان يخرج من صلاته مثلما دخل فيها، إذا دخل في الصلاة سرح ونسي وانشغل بعمله، وصار يعد فلوسه، ويوسوس: سأذهب بعد الصلاة إلى فلان، وسأعمل كذا وقد ذكرنا أن الخواطر التي ترد على النفس والقلب إذا لم يجذبها الإنسان ولم يستطرد فيها لا شيء عليه قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وكلنا يسرح وينسى.
ولكن الإنسان الذي يدخل في صلاته فلا يفهم شيئاً من الذي يقوله، وفي رأسه شيء آخر، فهذه ليست الصلاة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر أنها تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر.
وقد ورد في حديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان فتى من الأنصار يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا أتاه) أي: كأن إسلامه جديد وأنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يخرج يسرق، فشكوا للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والذي يظهر أنه لم يثبت عليه ذلك وإلا لقطعت يده.
(فلما شكوا للنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الصلاة ستنهاه) يعني: إذا كان يصلي صلاة صحيحة فإنها ستنهاه صلاته، فلم يلبث أن تاب ورجع إلى الله سبحانه وتعالى.
إذاً: لما أحسن في الصلاة نفعته، وكم من إنسان قد يصلي ويسرق، وقد يدخل المسجد ليصلي من أجل أن يسرق الأحذية وهو خارج من بيت الله عز وجل.
والصلاة التي يتقرب بها إلى الله وتنهاه عن الفواحش وعن المنكرات صلاة يرجو بها الله عز وجل فيقبل على الله بقلبه فيها، ويتفكر ويتأمل فيما يقرأ.
فالفاتحة مثلاً خطاب ومحادثة بينك وبين الله، (فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال سبحانه: أثنى علي عبدي.
وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله عز وجل: مجدني عبدي.
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال الله سبحانه: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال الله: نعم.
سنعطيك ذلك) فتخرج من هذه الصلاة وقد هداك الله عز وجل الصراط المستقيم وأبعدك عن الفواحش والمنكرات.(193/5)
صلاة النافلة وفضلها
وتتقرب إلى الله عز وجل بصلاة النافلة فتصلي ركعتين قبل الفجر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليهما لفضلهما سفراً وحضراً، والسنة عدم الإطالة فيهما، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بسرعة وما يزيد على ركعتين، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا بعد الفجر إلا ركعتين).
إذاً: هما ركعتان فقط بعد أذان الفجر لا أكثر من ذلك، ولكن لهما أجر عظيم جداً عند الله سبحانه وتعالى جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يتركهما سفراً ولا حضراً.
وتصلي قبل صلاة الظهر أربع ركعات وبعدها أربع ركعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها أربعاً حرم الله بدنه على النار).
وتصلي أربع ركعات قبل العصر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً).
وتصلي ركعتين بعد المغرب تواظب عليها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
وما بين المغرب والعشاء كانوا يعدونها من صلاة الليل صلاة عظيمة.
وتصلي بعد العشاء وتوتر وتتهجد بعد ذلك.
فإذا واظبت من رواتب النهار على عشر ركعات بني لك بيت في الجنة، والذي يتأمل ويتدبر فيقول في نفسه: أنا صليت قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً فأرجو من الله عز وجل أن يحرم بدني على النار.
وأواظب على ذلك، وكذلك يقول: أنا اليوم فاتتني الأربع قبل العصر وسوف أدركها غداً ولا أضيعها من أجل أن يرحمني ربي.
وكذلك يقول: لا تفوتني الصلاة الآتية، سأواظب على صلاة الجماعة من أجل ألا تفوتني تكبيرة الإحرام أربعين يوماً في صلاة الجماعة فيكون لي أجر عظيم عند الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق).
فإذا خرج من الصلاة انتظر التي بعدها حتى يكمل الأربعين يوماً فيعطيه ربه ذلك، ولا يقول: تكفي حتى البراءة وانتهيت؛ بل يجعلها أكثر لتكتب له أكثر من براءة، بل اجعل حياتك كلها على ذلك كما كان الصحابة حياتهم كلها المواظبة على الصلاة وعلى التكبيرة الأولى، حتى إن أحدهم إذا فاتته هذه التكبيرة يحزن حزناً عظيماً على فواتها، وقد يظن أنه يعذب في ذلك؛ لأنهم عرفوا قدر الصلاة وشرفها.
نسأل الله عز وجل أن يعرفنا قدرها وشرفها وأن يعيننا عليها ويجعلها قرة عين لنا وراحة لقلوبنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(193/6)
تفسير سورة العنكبوت الآية [45]
ذكر المولى جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوامر عظيمة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ولأمته المقتدين بهديه: فأمره بتلاوة القرآن الكريم واتباع ما جاء فيه، ثم أمره بإقامة الصلاة؛ لتكون بينه وبين ربه جل وعلا صلة وثيقة؛ ولأن هذه الصلاة إذا أقيمت كما ينبغي أثمرت البعد عن الفواحش والمنكرات، ثم أمره بذكر الله المقترن بالصلاة وغيرها أو المطلق في كل الأحوال، ثم ختم الآية بتخويف العصاة وتفريح المؤمنين بأنه يعلم صنيع الفريقين فيجازي كلاً بعمله.(194/1)
تفسير قوله تعالى: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
هذه الآية العظيمة يأمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم فيها بثلاثة أشياء: الأول: أمره بتلاوة ما نزل من القرآن، على وجه البيان والتبليغ والتوضيح، وتعليم الأمة، وعلى وجه ذكر الله سبحانه وتعالى.
فتلا النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم في صلاته، وتلاه في خطبه، وتلاه على المسلمين، وتلاه على المشركين، وأرسل إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى هذا الكتاب العظيم، وأرسل إلى العالمين أنسهم وجنهم.
وكان يتلو هذا القرآن في ورده، حتى إنه قد ينشغل عن حزبه فيعوضه في وقت آخر، ولا يفوته ذلك أبداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:45]، فقام بذلك.(194/2)
أمر الله تعالى بإقامة الصلاة
ثم قال له: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أي: أقمها لنفسك فصل لله عز وجل بالليل طويلاً، وصل لله عز وجل بالنهار أيضاً، ثم أقمها للمؤمنين فائمر بالنداء لها، وصل بهم، وعلمهم أن يستقيموا فيها.
فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بأوامره وأفعاله، وبإنكاره على من يسيء منهم في صلاته وترغيبهم في الثواب فيها، وترهيبهم من التقصير فيها، فقام بذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وبين له ربه سبحانه في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] أن هذه الصلاة عظيمة جداً، تنهى الذي يحسن فيها عن الفحشاء والمنكر، ولا شك أنها تنهى كل إنسان عن الفحشاء والمنكر كل بحسبه، فإنسان جاء ليصلي وانشغل عن هذه الصلاة بالتفكير في أشياء خارجها، فأقل ما فيها أنه وهو في صلاته لا يفعل المنكر ولا يفعل الفحشاء، فنهاه ما هو فيه عن أن يقترف آثاماً وذنوباً.
فإذا دخل الإنسان الذي يقع في المنكرات والمعاصي والفواحش في الصلاة فأقل ما فيها أن هذا الجزء من وقته ليس بفحشاء وليس بمنكر.
فالصلاة منعته من ذلك في ذهابه من بيته ومجيئه إلى بيت الله عز وجل وهو متوجه إلى الصلاة على الأقل، وإذ هو متذكر لله عز وجل في ذلك الحين.
أما الإنسان الذي يدخل في الصلاة بخشوع، وخضوع، وتواضع لله سبحانه، وحب لهذه الصلاة، وكان في كل أحواله مستشعراً الذل بين يدي الله عز وجل، وهو قائم يقرأ، وهو راكع منحن، وهو رافع، وهو ساجد لله سبحانه متواضعاً، وهو قاعد يستشعر أنه عبد ذليل بين يدي الرب الجليل سبحانه وتعالى، وفي قراءته يتدبر معانيها، ويطبق على نفسه ما هو فيها من أن المحسنين لهم الجنة فيرجو ذلك، وأن المسيئين لهم النار فيخاف من ذلك، ويسأل الله من رحمته، يتعوذ بالله من غضبه وعقابه، فهو في مناجاة مع الله عز وجل في صلاته، وإذا ركع عظم ربه سبحانه وتعالى وذكره، وإذا سجد دعا ربه وهو مستيقن بأن الله يستجيب دعاءه.
فإذا كانت الصلاة على هذا الوجه وخرج فيستحق أن يقال: إن هذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا يعقل أبداً أن يكون إنسان يصلي على هذه الصورة ثم يخرج من الصلاة ليزني مثلاً، أو يخرج ليسرق، أو ليقع في شهادة الزور، وقول الزور، وأكل حقوق الخلق.
فهذه الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهو فيها متصل بالله عز وجل، فإذا خرج لم تنقطع صلته بربه سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول العلماء في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45]، أن المراد: إدامتها والقيام بحقوقها.
وأخبر الله سبحانه بالحكم من رواء هذه الصلاة بأنها تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر؛ لما فيها من تلاوة القرآن واستماع الذكر الذي يشتمل على الموعظة.
والصلاة تشغل بدن المصلي إذا دخل فيها وخشع وأخبت لله سبحانه وذكر الله، وتذكر أنه واقف بين يديه فتذكر الموقف يوم القيامة.
الإنسان المؤمن يتفكر حال وقوفه في الصلاة أنه يقف بين يدي الله عز وجل اختياراً، أما يوم القيامة فالكل واقفون بين يدي الله رب العالمين ومجموعون ومحشورون إليه اضطراراً، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وقال: {وقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات:24]، ولا بد للسؤال من إجابة، ولن يستطيع الهرب أبداً، ولا من الموقف بين يدي الله عز وجل في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فإذا وقف الإنسان في الصلاة في الدنيا تذكر الموقف يوم القيامة، وأن موقفه هذا يغني عن إطالة سؤال يوم القيامة، ويدفع عنه شر هذا اليوم الذي قال الله عنه: {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]، شديد العبوس، شديداً فيما هو فيه من سؤال وموقف وعرق، وفيما هو فيه من تبكيت وحسرة.
فإذا خرج الإنسان من هذه الصلاة لم تزل عليه هذه الصلاة وصفتها وخشوعها إلى الصلاة التي تليها، ولا يزال هكذا حتى يستمتع بهذه الصلاة.
ولذلك جاء عن بعض السلف رضوان الله عليهم أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر، وقال: أما تدرون بين يدي من أقف؟ استشعر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وهذه منزلة عظيمة جداً ليس كل إنسان يصل إليها، ولكن على الأقل يستشعر الخوف في قلبه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يصلي صلاة مودع.
فإذا دخل في الصلاة قال في نفسه: يمكن أن تكون هذه آخر صلاة أصليها.
فإذا استشعر ذلك أحسن فيها أفضل الإحسان.
قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى} [العنكبوت:45]، أي: صاحبها المصلي، {عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] فإذا انتهى من صلاته وقد أحسنها فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر.(194/3)
فضل الذكر
ثم قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، هذا هو الأمر الثالث، وإن كان على غير صيغة الأمر لكن في مواطن أخرى أمر الله عز وجل به ومن ذلك قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
والمعنى: إذا كان الله أمر بالتلاوة، وأمر بالصلاة، وبين أن التلاوة تؤدي بك إلى أن تبلغ هذه الرسالة العظيمة، وأن فيها التذكر، والموعظة، وأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعظم من ذلك المداومة على ذكر الله سبحانه وتعالى، كأنه يقول: واذكر الله سبحانه وتعالى فإنه أعظم.
فالإنسان يذكر ربه في كل أحواله، ومن ضمن ذلك أنه يذكره في صلاته، فكأن الذكر هنا أعظم؛ لأنه سيكون في الصلاة وفي غير الصلاة.
فلا يظن أن قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] معناه: أن ذكر الله في غير الصلاة أعظم من ذكر الله في الصلاة، فلم يقل ذلك إنما أطلق ذكر الله في كل الأحوال، فإذا قلنا: أيها أعظم أن أصلي فأذكر الله عز وجل في الصلاة، أم أكون ذاكراً لله في كل الأحوال بما فيها الصلاة؟ فلا شك أن هذه الحالة الثانية أعظم.
فهذا المقصود أنك بذكر الله سبحانه يطمئن قلبك، سواء كنت في الصلاة، أو في غير الصلاة، فكأنه يشير إلى الذكر لله سبحانه وتعالى دائماً.
والذكر يكون باللسان وبالقلب وبعقل الإنسان، كأن يتفكر ويتعظ بما يقول ولا ينسى.
وقد يذكر الله عز وجل بلسانه وعقله في شغل آخر لا يفهم ماذا يقول، كمن يجلس يسبح الله بعد الصلاة ولا يكون فاهماً لما يقول؛ فإن شاء الله يكون له أجر على ذلك.
لكن أجر من يقول: سبحان الله، وهو يفهم معناها، ويتدبرها، ويتلذذ بطعم سبحان الله وهو يقولها، فهذا أعظم بكثير من إنسان يقول بلسانه ولا يفهم بقلبه، وإن كان الذكر باللسان يؤجر عليه.
والذي يقرأ القرآن قراءة سريعة يتدبر بعضها؛ يريد أن يراجع لكيلا ينسى فهو مأجور على ذلك، وأعظم منه من يقرأ بتأنٍ وتمهل وخشوع تدبر وتفكر واتعاظ، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، وذكر الله يكون بقراءة القرآن، وكذلك بالأذكار التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء الله سبحانه وتعالى، وذكر الله بأن تطلب منه الجنة، وأن تتعوذ به من النار، فلا يزال ذكر الله على بال المؤمن وفي قلبه فيكون ذاكراً لله سبحانه وتعالى بلسانه وبقلبه.
فإذا كان عقل الإنسان حاضراً وهو في ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا عظيم جداً، وتأتي مكافأة من هذا شأنه في الدنيا وفي الآخرة، فينجيه هذا الذكر من مضايق كثيرة جداً بكثرة الذكر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردتم أن يستجيب الله لكم وقت البلاء فأكثروا من الدعاء وقت الرخاء)، ففي وقت رخائك أكثر من الدعاء، فإذا جاء وقت البلاء استجاب الله عز وجل لك؛ لأن صوتك مسموع في السماء، والملائكة تشهد لك عند الله سبحانه، وهو أعلم.
فلا يزال الإنسان ذاكراً لله حتى يعطيه الله عز وجل ما يتمناه في الدنيا والآخرة.
وكلما كان الإنسان منشغلاً بالدنيا كلما كانت الأماني موجودة، فيقول: يا رب! أعطني مالاً أو أعطني قصراً أو غير ذلك فطلباته في الدنيا كثيرة.
وكلما ترقى الإنسان ووصل لدرجة في ذكر الله سبحانه وحبه كان أمله في الآخرة يقول: يا رب! أسألك الجنة وأريد الحور العين، يا رب! أريد قصوراً في الجنة، فإذا كان يوم القيامة ووجد ما دعا به تمنى أنه لم يستجيب له دعاء في الدنيا وأنه ادخر له كل ذلك ليوم القيامة.
فالإنسان الذاكر لله عز وجل يعطيه الله ما يتمنى في الدنيا أو في الآخرة، وقد ترى إنساناً حقيراً، وتجده يمشي حافياً، وملابسه مقطعة أو مرقعة، ولكنه قرير العين، ومستريح البال، ومطمئن القلب، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وفي الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهذه الجنة هي جنة حب الله سبحانه وذكره.
فالمؤمن يستمتع بذكر الله، ويصل أقصى درجات الاستمتاع في الجنة، فيلهم التسبيح كما يلهم النفس، أي: كما أن النفس في الدنيا لا يستغنى عنه فكذلك أهل الجنة لا يستغني أحد منهم عن ذكر الله سبحانه، وعن تسبيح الله؛ لأنه استمتع به أعظم استمتاع.
والجنة عظيمة غالية، وأعظم ما يكون للإنسان المؤمن في الجنة والذي يتمناه أن ينظر إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتشرف بالقرب من الله سبحانه.
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالذكر في آيات كثيرة، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] وأمر الله عز وجل بقراءة هذا القرآن، وبالاستماع له فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِك} [العنكبوت:45] وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82].
وذكر المؤمنين الصالحين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] كذلك أمر الله سبحانه وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه:130]، أي: الصلاة قبل طلوع الشمس وهي صلاة الفجر، وقبل غروبها وهي صلاة العصر، فتواظب على صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم قال تعالى: {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، فجمع الصلوات الخمس في هذه الآية من سورة طه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مأمور والمؤمنون مأمورون تبعاً بالصبر وإقامة الصلاة.
ومدحهم الله سبحانه فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36 - 37]، فبدأ بالذكر ثم ثنى بإقامة الصلاة.
فهو في حال بيعه وشرائه ذاكر لله عز وجل، ففي صلاته لا بد أن يكون ذاكراً لله سبحانه؛ لأن حاله دائماً على ذلك، يتلذذ بذكر الله.
وإذا ذكر الله ذكره الله، كما جاء في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملئه ذكرته في ملأ خير منه)، وقد جاءت في ذكر الله عز وجل أحاديث عظيمة جميلة منها ما رواه أبو داود عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل) فالنبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه أن يجلس من الفجر إلى أن تطلع الشمس مع قوم يذكرون الله سبحانه، ثم قال: (ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله رب العالمين)، فتقول: الحمد لله وتثني على الله سبحانه، وتشكر الله سبحانه، قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فكأنك تطلب منه المزيد، فإذا أعطاك نعمة وحمدت الله تعالى جعل لك زيادة فوق هذه النعمة من فضله ومن كرمه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون الموحدون قالوا: ما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات)، يعني: سبقوا إلى الجنات سبقوا إلى النعيم، غيرهم محبوس في الحساب وهم حوسبوا بسرعة ودخلوا إلى الجنة فسبقوا غيرهم إلى الجنات.
وجاء أيضاً في الحديث أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فاخبرني بشيء أتشبث به)، يعني: أن الشرائع والسنن والأفعال كثيرة فأنا أكثر حاجة إلى ما أواظب عليه فلا أنساه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
وليس معناه أن يترك الصلاة والصيام، بل كأنه نصحه بأعظم ما يكون أن يذكر الله عز وجل ليذكره فيستغل بذلك وقته.
وروى الإمام الترمذي عن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم)، وكل إنسان يتمنى لو أنه يعمل شيئاً من هذه الأشياء أو ينالها، وقوله: (خير) أفعل تفضيل بمعنى: أفضل وأخير أعمالكم، وأزكاها وأطهرها، وأعلاها، وأنفسها عند الله سبحانه وتعالى، فما هو الشيء الذي هو أعظم من إنفاق الذهب والفضة، وخير من الجهاد؟ (قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى).
فذكر الله عز وجل أعظم من هذه الأشياء، لأنه يدعو المؤمن لكل هذه الأشياء، فإذا ذكر الله تعالى دعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الصوم فصلى وصام، ودعاه إلى الجهاد في سبيل الله سبحانه، وإذا لقي عدو الله ذكر الله فلم يرهب أحداً، ولم يخف أحداً، فكان الذكر أعظم.
لكن انظر للإنسان الذي ينفق الذهب والورق فلعله لا يذكر الله عز وجل وينساه، فيرائي بعمله، ويسمع به، وينتظر الجواب في الدنيا ولم يعمل العمل لله فحبط هذا العمل بذلك.
فإذا أعطى إنساناً فقيراً مالاً وبعد فترة شتمه الفقير قال له: يا ليتني لم أعطك شيئاً، أنا الذي أكلتك وشربتك، مَنّ عليه فضاع الأجر، فإذا كان ذكر ال(194/4)
تفسير سورة العنكبوت [46 - 47]
في هذه الآيات توجيهات ربانية هامة، فقد أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن واتباعه، وإقامة الصلاة؛ لأنها تنهى عن الفواحش والمنكرات، وذكر الله تعالى الذي يكون في كل حال وعلى كل حال، ثم بين المولى سبحانه كيفية جدال أهل الكتاب بالأسلوب الحسن الجميل، وأن يبين لهم أننا مؤمنون بما أنزل الله من كتب وأرسل من رسول، وإلهنا جميعاً إله واحد نحن له منقادون ومذعنون لأحكامه.(195/1)
أمر الله تعالى لنبيه بتلاوة القرآن والصلاة والذكر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أن يتلو ما أوحي إليه من الكتاب وأن يقيم الصلاة صلوات الله وسلامه عليه فقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]، فأُمر صلى الله عليه وسلم بالتلاوة والتبليغ.
وقال له ربه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94].
فأمره بأن يجهر للناس بهذه الدعوة العظيمة ويدعوهم إلى الله سبحانه، ويستعين على الدعوة إلى الله عز وجل بالصلاة وبذكر الله سبحانه وتعالى.
والصلاة عظيمة يستعين بها الإنسان على الدعوة إلى الله سبحانه ويتقرب بها إليه، وهي صلة بينه وبين الله.
والصلاة تنهى العبد عن معصية الله سبحانه، وتنهاه عن الفواحش والمنكرات، وتعينه على طاعة الله سبحانه، وعلى تبليغ هذه الدعوة بما يفتح الله عز وجل على العبد بذلك.
وأمره بذكر الله والإكثار من ذكره سبحانه فقال: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] أي: ذكر الله أكبر من كل شيء، فإذا كان الإنسان يصلي فينتهي عن الفحشاء والمنكر بهذه الصلاة، وهنا ذكر الله يكون في صلاته وفي عمله وفي قيامه وفي قعوده وفي كل أحواله.
فإذا كان الذكر قد استولى على قلب الإنسان ليل نهار في كل أحواله سواء في صلاة أو في غير صلاة، فهذا أكبر بكثير من الصلاة وحدها.
والمعنى: أكثر من ذكر الله سبحانه ولا تترك الذكر.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، سواء كان على وضوء أم لا، وكان لا يمنعه ولا يشغله عن ذكر الله شيء.
وذكر الله تعالى يستعين به العبد على طاعة الله سبحانه ويستعين به على الدعوة إلى الله.
فالذين يدعوهم إلى الله: إما أن يكونوا مسلمين، وإما أن يكونوا كفاراً، وهؤلاء الكفار منهم من في قلبه طيبة، وقد يستمع إلى هذا القرآن فيؤمن؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ مثل هذا وأن يجادله بالحسنى.
إذاً: بذكر الله وإقامة الصلاة يكون عند الإنسان رصيد في قلبه من تقوى الله عز وجل، ومن طاعته سبحانه، فيدعوه هذا إلى أن يدعو إلى الله بالحسنى، ويدعو إلى الله سبحانه بالموعظة الحسنة.(195/2)
تفسير قوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فالإنسان المؤمن يدافع عن دين الله سبحانه: إما بالقول، أو بالفعل.
والدفاع بالقول يكون بالجدال مع أهل الكتاب ومع غيرهم ممن يريدون أن يتعلموا هذا الدين العظيم، فإذا أرادوا أن يتعلموا فلعل أحدهم يناقش: لماذا قال كذا؟ ولماذا يفعل كذا؟ وما هو الدليل على كذا؟ فإذا كان يناقش بالحسنى فناقشه بالحسنى، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
قال تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) يقول مجاهد: هي آية محكمة، يعني: ليست منسوخة، فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى دعائهم إلى الله سبحانه وتعالى، والتنبيه على حججه وآياته رجاء إجابتهم.
والإنسان الداعي إلى الله تعالى قد يدعو أناساً مسلمين إلى المزيد من الطاعة، وقد يدعو كفاراً ليدخلوا في هذا الدين.
فالدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإما أن يستجيب المدعو ويدخل في هذا الدين، وإما ألا يستجيب.
والمدعو قد يكون كافراً مشركاً، وربنا سبحانه ذكر في سورة براءة كيف يدعى هؤلاء فقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] انظر إلى هذا الكلام العظيم من رب العالمين: لو أن أحداً من الكفار من أعدائك قال لك: أريد أن أسمع هذا القرآن، وأريد أن أعرف ماذا تقولون، وهو كافر حربي ليس بينك وبينه أمان، فتقول له: اسمع هذا القرآن واسمع هذا الدين العظيم، وتدعوه إلى دين الله عز وجل، وهذا قد يستجيب وقد لا يستجيب، فالذي عليك أن تدعو فقط أما أن يستجيب فهذا أمر الله سبحانه.
فإذا أتى إليك وسمع منك وقال لك: سأفكر، ولم يدخل في هذا الدين، فما تعمل مع هذا الإنسان؟ قال: (ثم أبلغه مأمنه) أي: أرجعه إلى مكانه مرة أخرى آمناً حتى لو كان عدوك، ومحارباً لك، بمعنى: أنه لو أتى إليك لقتال جاز قتله، لكن في حال الدعوة إلى الله وعندما يطلب أن يسمع كلام الله فليس شرطاً إذا سمع أن يدخل في الإسلام وإلا قتل.
فهذا العدو الذي جاء من الكفار إليكم ليستمع إلى هذا القرآن أسمعوه القرآن، وعلموه كلام رب العالمين سبحانه، فإذا استجاب فالحمد لله، وإذا لم يستجب فاصبروا عليه واتركوه يرجع إلى مأمنه مرة ثانية، وبعدما يرجع إلى مأمنه رجع الأمر إلى أنه كافر حربي وأنتم مسلمون، والحرب دائرة بين الإسلام والكفر.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتثل كلام رب العالمين سبحانه، ويدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
قال سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:46] والأصل أن المسلم لا يجادل إلا دفاعاً عن هذا الدين، فإذا كان بعض المنافقين يتكلم فيجادل ويرد على هذا الإنسان؛ لأنه يستحق ذلك حتى لا يفتن أحداً من المسلمين.
وكذلك أهل الكتاب لا تدخل معهم في جدال إلا إذا بدءوا بذلك وأحبوا أن يتعرفوا على هذا الدين فيرد عليهم بذلك، ولابد أن يكون معك أساليب الجدال، فليس أي إنسان يصلح للجدال مع هؤلاء، إنما ذلك لأهل العلم.
فقد يجادل في التفسير فيكون العالم بالتفسير هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في الفقه فيكون العالم الفقيه هو الذي يتصدى له ويرد عليه، وقد يجادل في غير ذلك.
إذاً: أهل العلم هم الذين يتصدرون لهؤلاء فيجادلوهم بالتي هي أحسن.
ولكن قد يتطاول هذا الكتابي أو الكافر على المسلمين، ويخرج عن الجدال والمناقشة إلى سوء الأدب وإلى الشتم والتحدي، وإلى أن يقذف هذا الدين، أو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحالة يكون ظالماً فيستحق أن يرد عليه بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
ولذلك قال بعض المفسرين: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] أي: قاتلوا الذين كفروا من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا كان فيهم الصغار فلا يقاتلون، لكن إذا وصل الأمر إلى التحدي وإلى الاعتداء على هذا الدين، وخرجوا عن الجدل بالحسنى إلى الجدل بالفحش؛ فهنا يستحقون الجهاد والدفع والرد عليهم؛ فلذلك قال الله سبحانه: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت:46]، إذاً: الأصل عدم الجدال، {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] أي: إذا احتجت للرد فرد بالتي هي أحسن مع من يحسن من هؤلاء ويريد أن يتعرف على هذا الدين.
لكن الذين ظلموا منهم، والذين يسبون ويطعنون في كلام رب العالمين وفي النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح معهم الجدال بالحسنى، قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: فيستحقون أن يجاهدوا في سبيل الله سبحانه.
قال تعالى: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] يعني: قولوا لهؤلاء الذين يجادلون ليتعرفوا ثم يدخلوا في هذا الدين: إن الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، وعلى عيسى عليه السلام، والذي أنزل الكتاب على محمد صلوات وسلامه عليه هو إله واحد، وهو الذي نتوجه إليه بالعبادة وحده لا شريك له.
وقوله: (وإلهنا وإلهكم واحد) أي: الإله المعبود الذي نزل التوراة، ونزل الإنجيل، ونزل القرآن إله واحد لا شريك له لا نعبد إلا إياه سبحانه وتعالى.
إذاً: هم لا ينكرون الربوبية ولكن يشركون في ألوهية الله سبحانه، فالرب عندهم الذي خلق ورزق وأعطى وأحيا وأمات هو الله سبحانه، ولكن في العبادة يعبدون الله وغير الله، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه} [التوبة:30] فعبدوا وأشركوا بالله سبحانه، فقولوا لهم: الإله واحد لا شريك سبحانه وتعالى فاعبدوا هذا الإله الواحد.
وقولوا: آمنا بما أنزل على الأنبياء جميعهم، وبما أنزل علينا؛ فآمنوا بذلك وانظروا في التوراة تجدون التبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها، وانظروا في الإنجيل تجدون البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا بهذا القرآن العظيم، قال الله سبحانه: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46] أي: آمنا بالقرآن وبالتوراة وبالإنجيل، قال: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] أي: المعبود الذي نعبده ولا نشرك به هو واحد لا شريك له، ولا صاحبة ولا ولد ولا والد.
قال تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت:46] أي: مذعنون وطائعون ومستسلمون ومنقادون لشرعه سبحانه وتعالى.(195/3)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] أي: كما أنزلنا كتب السابقين من السماء على هؤلاء الأنبياء كذلك أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم وهو القرآن.
قال تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] أي: آمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وما نزل عليه من القرآن، فهم يؤمنون ويصدقون بذلك.
إذاً: هنا المؤمنون هم الذين تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
أو أن قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] يعني: من اليهود والنصارى من عرفوا البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا القرآن فآمنوا وصدقوا، كـ عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونظر في هذا القرآن الذي جاء به، ونظر في علامات نبوته فآمن وصدق رضي الله تعالى عنه.
ثم قال: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} [العنكبوت:47] إذاً: هنا المسلمون آمنوا، جاءهم الكتاب المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا، وكذلك من أهل الكتاب من آمن من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم.
وقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49] أي: الذي يجحد ويكذب مع معرفته بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الظالم.
فـ عبد الله بن سلام كان مع اليهود في مدارسهم وفي بيته يتعلمون منه ومن غيره، ودخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد لهم، ودعاهم إلى دين الله سبحانه؛ فإذا باليهود يكرهون ذلك منه، فطلب منهم الإيمان بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، فرفضوا وأبوا واستكبروا، حتى سألهم: (أما تجدون صفتي عندكم؟ فقالوا: لا) فلما أراد الخروج فإذا بـ عبد الله بن سلام ينادي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك على الحق، ويتبع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أنه على الحق، ومعرفتهم بذلك حقيقية؛ ولذلك الله عز وجل يشهد عليهم فيقول: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الأنعام:20] أي: يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفون ما جاء به؛ كما أن الإنسان يعرف ابنه ولا يخطئ فيه.
قال سبحانه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا} [العنكبوت:49] أي: يكذب وهو يعلم: {إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47] أي: من كفر فهو يجحد بآيات الله سبحانه ويكذب بها.
وقد ذكرنا أن الإنسان المؤمن لا يتعرض للجدال مع أهل الكتاب إلا بالحسنى، والمتعرض لهم بالجدال يحتاج أن يطلع على كتبهم حتى يرد عليهم، لكن الذي يطلع ليرد ليس كل إنسان مسلم يفعل ذلك؛ ولذلك يقول الإمام البخاري: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء)، فيذكر الحديث تعليقاً، ويذكر الحافظ ابن حجر حديثاً أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب) أي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له أصدقاء من أهل الكتاب فطلب من بعضهم أن ينسخوا شيئاً من التوراة فكتبوه له، فأخذ الصحيفة وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الصحيفة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
إذاً: عمر المسلم ووقته لا يتسع للاطلاع على كل كتب أهل الكتاب وعلى كلامهم، ولعله إذا اطلع على ذلك يطلع على شيء فيكون من الحق الذي جاء به موسى أو الذي جاء به عيسى عليهما الصلاة والسلام؛ فيكذب بهذا الشيء فيكون قد كذب بكلام حق من عند الله عز وجل، أو يطلع على شيء يكون باطلاً مما حرفه أهل الكتاب فيصدق بهذا في نفسه فيكون مكذباً بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قطع عنهم ذريعة الوقوع في ذلك ومنعهم من قراءة كتب أهل الكتاب.
وهنا قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] إذاً: ضروري للذي سيجادلهم أن يكون مطلعاً على ما يقولون، فمثلاً: لما جاء عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لابس صليباً، وكان يناقش النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منه أن ينزع الصليب عنه، ثم بعد ذلك دعاه إلى الدين فقال: أنا على ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك، منك ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك ولا يحل لك في دينك؟) فهنا بهت الرجل ولم يعرف الرد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أتى وقد جعل نفسه أنه رجل من أهل الدين وأنه يعلم النصرانية جيداً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه ويقول له: أنت من فرقة الركوسية من النصرانية، وتأكل مرباع قومك، وذلك يحرم عليك في دينك أن تأكل ضريبة قومك، تأخذ الربع من أموال قومك وأنت تعرف أن هذا لا يحل لك في دينك، فهنا عرف الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرى منه بدينه، فإذا به يدخل في دين الله عز وجل ويستجيب للنبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: المناظر الذي يناظر أهل الكتاب لا بد أن يطلع على ما يرد عليهم به، ولذلك كأنه يستثنى ذلك؛ لهذه الآية: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46].
إذاً: العلماء من المسلمين يجوز لبعضهم أن يطلع على كتب هؤلاء ليرد عليهم إذا ناظروا المسلمين وناقشوهم في دينهم.
أما أن كل المسلمين يقرءون في كتب أهل الكتاب، فهذا حرام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فليس كل إنسان يقرأ يفهم، ولكن الذي درس القرآن ودرس سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهم ذلك وعقله، فهذا الذي يجوز له في حالة الجدال مع أهل الكتاب أن يطلع ليرد على كلامهم.
وأيضاً جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) وقال في رواية: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا) أي: كيف سيهدونكم وهم قد ضلوا عن سبيل الله سبحانه؟! قال: (وأن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل) يقول المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتف بنفسه.
وعندما أمر ربنا سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأل الذين أوتوا الكتاب من قبل، قال: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس:94] فهنا قيد: إذا كنت في شك، وهل يشك النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشا له عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نشك ولا نسأل) أي: مستحيل أننا نشك، ولا نحتاج أن نسأل هؤلاء، فقلوبنا مطمئنة بالإيمان، فكأن هذا الكلام فيه التحفيز على الإيمان والتصديق.
إذاً: هنا المؤمن يقول: لست محتاجاً أن أسأل أهل الكتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأنا مصدق بهذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين.
للحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(195/4)
تفسير سورة العنكبوت [46 - 49]
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات الكريمة أنه على المسلم عند مجادلة أهل الكتاب أن يعلن إيمانه بكل ما أنزل الله من كتب وما أرسل من رسل، وأن إلهنا جميعاً هو إله واحد لا شريك له نحن له مستسلمون وخاضعون، ثم بين الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولو كان كذلك لظن هؤلاء وغيرهم وشكوا في أنه جاء بهذا القرآن من عند نفسه، ولكن ذلك ليس صحيحاً؛ بل هو آيات بينات في صدور أهل العلم محفوظة، وليس له وظيفة سوى إنذار الناس بالعذاب وتبشيرهم بالجنة لمن اتقى ربه سبحانه.(196/1)
تفسير قوله تعالى: (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه لا ينبغي لهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم قال: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] فأدب المسلمين بأدب من آداب هذا القرآن العظيم وهو ترك الجدل، فلا ينبغي للإنسان المؤمن أن ينشغل بالجدل إلا إذا احتاج إلى ذلك، كما إذا جادله إنسان من الكفار من أهل الكتاب أو من غيرهم في دين الله سبحانه فليرد عليه بعلم.
إذاً: ينبغي على المسلم أن يتعلم دينه حتى لا يجادله إنسان فلا يعرف كيف يرد على هذا الذي يجادل فيه، فيتعلم ويدفع بالتي هي أحسن ويرد بالحسنى، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فلا يكون هم الإنسان الجدل، ولذلك جاء في الحديث: (لا يفلح قوم أوتوا الجدل) وفي الحديث أيضاً: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) فالإنسان بعدما كان على هدى ابتدأ في الجدل، فصار علمه كله عبارة عن أسئلة ومجادلات وأشياء عقلية، وابتعد عن القرآن الكريم وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم بتحكيم العقل بالجدل.
لكن إن احتاج المسلم إلى ذلك فيدفع بالتي هي أحسن.
قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا} [العنكبوت:46] لهم ولغيرهم: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت:46] أي قولوا لليهود للنصارى أهل الكتاب: آمنا بالكتب المنزلة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا نفرق بين أحد من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، بل آمنا بالجميع.
قال تعالى: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت:46] أي: الإله الذي نعبده هو إله واحد لا شريك له، لا صاحبة ولا ولد ولا والد، بل هو إله واحد وحده الذي يستحق العبادة.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46] أي: مذعنون مستسلمون له سبحانه.(196/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب)
ثم قال تعالى صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت:47] يعني: كما أنزلنا الكتب السابقة من السماء على هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ كذلك أنزل إليك هذا القرآن العظيم من ربك الإله المعبود الرب الخالق سبحانه.
قال سبحانه: {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [العنكبوت:47] أي: من جاءهم هذا الكتاب من المسلمين الذين عرفوا أنه الحق آمنوا به وصدقوه.
قال سبحانه: {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت:47] أي: من اليهود والنصارى من عرف الحق واتبعه أيضاً، أما الجاحدون لكلام رب العالمين فهم الكافرون الذين كذبوا وأعرضوا عنه، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه، فقال الله عز وجل لهؤلاء المكذبين: انظروا لهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الذي جاء بهذا الكتاب العظيم المعجز، والذي فيه نبأ من كان قبلكم، وخبر من يأتي بعدكم، أخبار يوم القيامة، وذكر الأنبياء السابقين، هل حكمتم عقولكم حتى تعرفوا أن هذا نبي حق أم أنكم رددتم ما جاء به بغير نظر وفهم وتعقل؟ لكن لا يؤمن بآياتنا إلا الإنسان المؤمن الذي يعلم ويعقل ويفهم.(196/3)
تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب)
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] أي: هلا نظروا إلى ذلك ففهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي أمي، والأمي: هو الذي لا يجيد القراءة ولا الكتابة، وهذه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون أبداً ما قرأ ولا كتب قبل ذلك، وجاء بهذا القرآن العظيم المعجز الذي يتحدى به الجميع.
وهلا فهموا وعقلوا كيف يكون رجل لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب قبل ذلك، ولا سافر إليهم في طلب علم منهم، ولا جالسهم في مكة ولا في غيرها، يخبر عن ربه سبحانه بهذا القرآن العظيم ويخبر عن الأنبياء السابقين، وما أتوا به من الآيات وما فعلوه مع أقوامهم وما صنع معهم؛ حتى إن أهل الكتاب ليتعجبون من دقة ما يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يأت به من عنده ولكن من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
ولو فكروا من أين تكلم عن آدم عليه السلام وعما حدث بين ابني آدم، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فقتل أحدهما الآخر، لعلموا أنه لم يعرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا بوحي من السماء، وإن كان عرفه أهل الكتاب من كتبهم، فهو لم يقرأ كتبهم، وكتب أهل الكتاب كانت بلغتهم وبلسانهم، فالتوراة مكتوبة باللغة السريانية أو يترجمونها عنها إلى العبرانية لكن ليس إلى العربية.
والذين في المدينة كانوا يقرءون التوراة بلسانها؛ ولذلك أكثر الذين كانوا في المدينة من اليهود كانوا لا يقرءون، لكن يذهبون إلى بيت مدراسهم فيقرأ عالمهم، فإذا أحبوا أن يفهموا شيئاَ يترجمه لهم إلى اللغة العربية ويفهمهم ويحرف ما يشاء في ذلك.
ولذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ذهب لبعضهم وأخذ منهم حكماً من التوراة ترجموها لـ عمر فقالوا له: عندنا في التوراة كذا وكذا، فذكروا الترجمة، فأخذها وذهب بها للنبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: كيف تصدقهم؟ وما يدريك وأنت لا تفهم اللغة التي نزلت بها التوراة ثم تأخذ منهم ما يحرفونه هم، لعلك تصدق بشيء يكون مما افتروه وكذبوه، ولعلك تكذب بشيء فيكون حقاً من عند الله عز وجل؟ فليس من حقك ذلك، ثم قال لـ عمر: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
فالغرض هنا: أن الله سبحانه ذكر في هذا القرآن العظيم أنباء السابقين، فذكر قصة نوح عليه السلام في مواضع من كتابه سبحانه، وكيف أغرق الله عز وجل الناس بالطوفان، وأنجى نوحاً والذين آمنوا معه، وهذا شيء لا يعرفه الناس إنما يعرفه أهل الكتاب، وأنه كان في زمن من الأزمان نوح عليه الصلاة والسلام فدعا قومه فلما لم يستجيبوا فدعا عليهم.
فالتفصيل الذي في القرآن لا يعرف جميعه إلا من اطلع على التوراة وعلى كلام أهل الكتاب فيعرف بعضاً من ذلك ويأتي القرآن يفصل هذا الشيء.
وموسى عليه الصلاة والسلام أرسل إلى قومه ودعاهم إلى الله، وكذبه فرعون وجنوده، وبنو إسرائيل تلونوا عليه، وأثبت الله عز وجل ذلك في الكتاب في مواضع كثيرة جداً، فذكر موسى بالذات عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صاحب شريعة، وكم حدث له من الأحداث مع قومه ومع بني إسرائيل، وكيف تقلبوا عليه وتلونوا معه وتغيروا وفي النهاية أسلم من أسلم وكفر من كفر.
فالله عز وجل أثبت في كتابه أشياء لا يعرفها إلا أحبار أهل الكتاب، فيجدون ذلك عندهم ويجدونه عند النبي صلى الله عليه وسلم، ويتفكرون من أين عرفه صلى الله عليه وسلم؟ ليس هناك إلا أمران: إما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف هذه الأشياء من اطلاعه على كتب أهل الكتاب، وإما بوحي من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
ويستحيل أن يأتي العلم بطريق آخر غير هذين الطريقين، فكونه لم يقرأ كتب أهل الكتاب وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجالس أهل الكتاب قبل ذلك؛ دل على أنه وحي.
وقد مدحه ربنا سبحانه وتعالى بذلك فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157] إذاً: اسمه صلى الله عليه وسلم مذكور عندهم في التوراة ومذكور عندهم في الإنجيل، وهم يحرفون اسمه بشيء آخر حتى لا يقولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه هو الذي جاء من عند رب العالمين.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أي كتاب قبل هذا القرآن أبداً.
وكذلك لم يكن شاعراً من الشعراء، ولا كاهناً من الكهان، إذ الكهان معروف أسلوبهم وطريقة السجع في كلامهم الذي يريدون أن يثبتوا به شيئاً أو ينفوه.
وكذلك فالشعراء تعرف القصائد التي يقولونها، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شعراً قبل ذلك، بل إنه عندما كان يتمثل بأبيات لبعض الناس قالها فلعله يخطئ فيها صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقيم التفعيلة والوزن لبيت الشعر، ولا يهتم بذلك، فلما قال رجل من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فهذا بيت شعر له وزن وتسمع الموسيقى الشعرية حين تقرؤه، ومعناه: أتجعل الغنيمة أو ما تعطيني من شيء أنا وفرسي نصف ما يأخذه فلان وفلان وتعطيني أنا الأقل؟! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الذي تقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟) فانكسرت التفعيلة ولم يعد شعراً، ولذلك عندما سمع الصحابة ذلك قالوا: صدق الله العظيم، لست بشاعر.
وهذا مدح للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان شاعراً لقالوا: هو لفق القرآن هذا من الشعر وغير التفعيلة بشيء آخر.
والقرآن ليس شعراً، يفهم ذلك من درس الشعر، ومن قرأه وصاغه، وقد يتمثل ببيت مما قاله من قبله، أما من عند نفسه عليه الصلاة والسلام فلا يقول شعراً.
فإذا كان ليس شاعراً وليس كاهناً، ولم يعهد عليه قبل ذلك قط أنه يكذب على البشر، ولم يقرأ كتاباً من كتب أهل الكتاب، ولا يجيد قراءة ولا كتابة، ثم يأتي بهذا القرآن الذي يعجز الخلق جميعهم إلى قيام الساعة، فلا يكون هذا إلا رسول عليه الصلاة والسلام.
فربنا سبحانه يقول لهؤلاء: اعقلوا وافهموا، فهذا رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48] أي: لو كنت كذلك: {لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فظهر بذلك حكمة الله تعالى في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب.
وكونه لا يقرأ ولا يكتب ليس معناه مدح عدم القراءة والكتابة، وليس معناه أن يقال للأمة الإسلامية: لا تتعلموا القراءة والكتابة، بل هذا خاص به صلى الله عليه وسلم، ومدح له أنه لا يقرأ ولا يكتب وجاء بهذا الكتاب المعجز ثم أنتم أيها المشركون الذين تقرءون وتكتبون هاتوا قرآناً مثله، قال تعالى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ} [القصص:49] وقال: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] فلم يقدروا، وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ولم يقدروا على ذلك.
وقال: {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس:38] وقال: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [البقرة:23] وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] أي: ولو قوى بعضهم بعضاً واجتمع بعضهم مع بعض وبذلوا ما بذلوه من أجل أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كانوا بعضهم لبعض ظهيراً.(196/4)
تفسير قوله تعالى: (بل هو آيات بينات)
قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب.
أما ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب فهذا لا يصح، ولا ينافي ذلك أنه كتب اسمه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية عندما كتب علي رضي الله عنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بـ سهيل بن عمرو يعترض ويقول: لو كنا نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله.
فرفض علي رضي الله عنه أن يغير رسول الله عليه الصلاة والسلام فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه القلم ومحا كلمة (رسول الله) وكتب مكانها (ابن عبد الله).
فهذه معجزة له صلى الله عليه وسلم لكونه لا يجيد قراءةً ولا كتابة، وهذه المرة عرف مكان كلمة (رسول الله) فشطبها وكتب (ابن عبد الله)، فهذه المرة الوحيدة التي كتب فيها.
والعلماء اختلفوا في ذلك: هل كتب بنفسه صلى الله عليه وسلم أو أمر غيره أن يكتب؟ ففي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علياً وأمره أن يمحو ذلك، فـ علي قال: والله لا أمحوه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها) أي: أين مكانها من الصحيفة، إذاً: حتى هذا الحين لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب، فأشار له إلى مكان كلمة (رسول الله) فمحاها بيده وكتب مكانها: ابن عبد الله.
وأكثر أهل العلم على أنه أمر غير علي رضي الله عنه أن يكتب ذلك.
وبعض أهل العلم ذكر أنه كتب بيده صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه معجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه ليس هناك أحد يكتب فجأة.
وقد خاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] فذكر شيئين: النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب.
ثم قال: ((بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ)) فاختلف المفسرون في عود الضمير (هو) فقال بعضهم: إنه عائد على القرآن، أي: القرآن آيات بينات.
وقال بعضهم: إنه عائد على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، أي: النبي صلى الله عليه وسلم آية من رب العالمين سبحانه وتعالى أن يكون نبياً أمياً لا يقرأ ولا يكتب ويأتي بهذا الإعجاز العظيم من عنده سبحانه.
فالذين قالوا: (بل هو) عائد على القرآن، قالوا: القرآن آيات بينات جليات واضحات من رب العالمين لا غموض ولا إشكال فيها، والذين أوتوا العلم هم الذين يفهمون ذلك ويحصلونه ويحفظونه في صدورهم.
إذاً: على هذا القول يكون القرآن هو الكتاب الوحيد الذي في الصدور، والتوراة والإنجيل وغيرها من كتب الله عز وجل التي نزلت لم ييسر حفظها لأحد، إنما كان يحفظها فقط الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما الناس فلم يكونوا يحفظونها؛ ولذلك حرفت هذه الكتب، وسهل بذلك تبديلها وتغييرها، وشرحها بغير لغتها، فإذا بدلها بغير لغتها حرف فيها ما يشاء.
أما القرآن فهو منضبط محفوظ في الصدور، يحفظه المسلمون من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
فالقرآن آيات محفوظة في الصدور ومكتوبة في الصحف، فالإنسان المؤمن يحفظ كتاب الله عز وجل كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].
وعلى القول الآخر بأن المعنى: هو النبي صلى الله عليه وسلم، ففي قوله تعالى: (آيات) معنيان: الأول: وجدان أهل الكتاب اسم النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبهم، ثم يجدونها محققة في شخصه، فيكون ذلك دافعاً لهم على الإيمان به، فقد كان البعض منهم يأتي إليه ويختبر تحقق هذه الصفات فيه، فإذا تأكد أنه فعلاً النبي عليه الصلاة والسلام دخل في دين الله عز وجل.
ويكون المقصود بقوله تعالى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] أن من أهل الكتاب من عرفوها من كتبهم.
والقول الآخر: أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذو آيات بينات، أي: صاحب معجزات من عند رب العالمين أعظمها هذا القرآن العظيم، ومنها الآيات الأخرى مثل: انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه حتى يتوضأ ويشرب جيشه الذين معه، وقد تكرر ذلك مراراً، وغير ذلك من بركات ومعجزات جعلها الله عز وجل على يده، حتى يعرف أهل العلم ذلك ويستيقنون، وأما من يجحدون بذلك فهم الظالمون، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(196/5)
تفسير سورة العنكبوت [50 - 55]
اعترض المشركون على محمد صلى الله عليه وسلم وطلبوا آيات عامة يأتيهم بها ليؤمنوا، فكان من رحمة الله تعالى أنه لم يجبهم إلى ذلك؛ لأنه لو أجابهم فكفروا لعمهم العذاب؛ بل أمره أن يرد عليهم بأن الآيات عند الله ينزلها متى شاء وأنا مكلف بالنذارة البينة، ثم رد الله عليهم أن أعظم الآيات هي نزول هذا الكتاب المبين الذي نزوله رحمة للمؤمنين، فإذا لم يؤمنوا بذلك فكيف يؤمنون بما هو دونه؟! وليس ذلك إلا جحود واستكبار، ومن استكبارهم أيضاً استعجالهم بالعذاب، ولكن ذلك ليس إليهم بل إلى ربهم، وقد جعل له أجلاً وسيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.(197/1)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المشركين في صنيعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وتعنتهم معه وجحودهم وتكذيبهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ} [العنكبوت:50].
ف
الجواب
يطلبون آيات حسية، ومعجزات يرونها أمامهم كما أرسل موسى بالعصا التي صارت حية، وكما أخرج يده فصارت بيضاء لها شعاع كالشمس، وكما أرسل إلى ثمود أخوهم صالح ومعه آية من آيات الله طلبوها وهي الناقة معها فصيلها، فطلبوا أن يروا شيئاً كهذا، وقد رأوا آيات من الله سبحانه وتعالى، وأعظم الآيات والمعجزات هذا القرآن العظيم الذي تحداهم الله أن يأتوا بمثله فلم يستطيعوا، ولكن كفرهم وتكذيبهم يجعلهم يتعنتون ولا يستحيون.
لكنهم يريدون آيات يرونها نازلة من السماء، وقد رأوا بعض هذه الآيات، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه أنه لو جاءتهم آية يرونها جميعهم فيكذبون فسيأتيهم العذاب بعد ذلك.
فلما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له الصفا ذهباً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، فأخبره ربه سبحانه أن لو فعلنا فكذبوا أهلكناهم، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يطلب ذلك.
فالآية التي تأتي عامة من عند الله سبحانه ويراها الجميع إذا كذبوا جاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه.
وانظر لما طلب الحواريون من المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم من عند ربهم مائدة من السماء، فقال المسيح عليه الصلاة والسلام لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:112]، فقال الله عنهم: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:113].
فسأل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ربه هذه الآية، فكان الجواب من الله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115].
إذاً: الآية التي تطلب ثم تأتي ويصر من رآها على التكذيب يأتيه عذاب يستأصل الجميع.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رحمة للعالمين، فمن رحمته أنه لم يجبهم فيما طلبوه.
فإن قيل: وانشقاق القمر ألم يكن من الآيات التي من الممكن أن يراها الجميع؟ ف
الجواب
آية انشقاق القمر لم تكن للجميع، ولو رآها جميع الكفار لأهلكهم الله عز وجل بتكذيبهم بعد ذلك.
وإذا كان بعضهم قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي كانت بالليل، والناس نائمون، فالذين طلبوا فقط هم الذين رأوا ذلك، وكذلك المسافرون أيضاً رأوا ذلك في سفرهم، ولذلك عندما كذب الذين رأوها جاءهم وعيدهم في حياتهم، فمنهم من قتل، ومنهم أخذه الله سبحانه وتعالى.
لكن الكفار يريدون آية عامة كأن تحول لهم الصفا ذهباً ويراها الجميع ليل نهار، أو ينزل لهم من السماء كتاب يذكر أن محمداً رسول من عند رب العالمين، ويرونه وهو نازل من السماء ومعه ملائكة يشهدون، وقالوا: ولو فعلت ذلك ما نظن أننا نؤمن بك.
إذاً: الأمر هو تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يريدون أن يؤمنوا أصلاً، إنما يريدون أن يجادلوا بالباطل.(197/2)
القراءات في قوله تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه)
وفي قوله تعالى عن الكفار: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ} [العنكبوت:50] بصيغة الجمع قراءتان: قراءة الجمهور (آيات).
وقراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه)، بالإفراد، لكن ابن كثير في كلمة (عليه) يشبع الهاء فيها.
أما باقي القراء فبالكسر بغير إشباع (عليهِ آية من ربه).
وقد قالوا: (مِنْ رَبِّهِ) وهم يعلمون أن ربه هو ربهم سبحانه وتعالى، ولكن قالوا كنوع من التكذيب: اذهب إلى ربك، وهات من عند ربك هذا الذي تزعم أنه يعطيك وأنك رسوله.
قال تعالى: {قل إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت:50] أي: أن الذي يخلق الآيات ويرسلها هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي أعطى موسى تسع آيات بينات كالعصا والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
إذاً: هذه آيات ومعجزات بينة من عند الله سبحانه وتعالى يرسلها متى يشاء.
قال تعالى: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50] هذا أسلوب قصر وحصر كأنه قال: ما أنا إلا نذير مبين، والمعنى: أنا رسول من عند رب العالمين أنذركم وأخوفكم إذا لم تؤمنوا بعذاب الله الذي توعدكم به.(197/3)
تفسير قوله تعالى: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب)
قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت:51] ففيهم نوع من العزة والكبرياء، عندما يتحداهم أحد يقبلون التحدي، ولعل الإنسان منهم أن يذهب للقتال ويرى خصمه أقوى منه، ويتحداه خصمه فيخرج لخصمه ليقاتله وهو يعلم أن خصمه أقوى منه.
ولكن القرآن يتحداهم ويكسر أنوفهم ويرغمها في الرغام والتراب، ويقول لهم: هاتوا سورة من مثله، ولا يقبل أحد هذا التحدي، ولا يقدرون على ذلك، ويقولون: ما هو بقول البشر، ومع ذلك لا يؤمنون.(197/4)
القراءات في قوله تعالى (أولم يكفهم) و (عليهم)
قي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} [العنكبوت:51] قراءتان: قراءة الجمهور بكسر الهاء في (يكفهم) وقراءة رويس عن يعقوب (أولم يكفهُم) بضم الهاء فيها.
وفي (عَلَيْهِمْ) أيضاً قراءتان: قراءة الجمهور بكسر الهاء.
وقراءة حمزة ويعقوب (عليهُم) بضم الهاء.
قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى} [العنكبوت:51] أي: يتلى تلاوة مرتلة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعهدوا مثل ذلك في كلامهم قط.
قال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [العنكبوت:51] أي: في هذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين، أو في هذا الإنزال من السماء، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] أي: رحمة من رب العالمين أن أنزل هذا الكتاب العظيم الذي فيه الهدى للناس، والذي هو طريق إلى جنة رب العالمين.
{وَذِكْرَى} [العنكبوت:51] أي: تذكرة وتبصرة وعبرة لمن يؤمنون، وقد قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، وقال: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فهو يذكر كل الناس ولكن لا ينتفع بها إلا من دخل الإيمان قلبه.
والقرآن الكريم نزل من عند رب العالمين رحمة وذكرى، فعندما يقرأ المؤمن هذا القرآن يستشعر رحمة رب العالمين سبحانه، ويستشعر جمال هذا القرآن، فيطمئن قلبه بذكر الله، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
يقرأ القرآن وله بكل حرف من القرآن يقرؤه عشر حسنات، فإذا قرأت (ألم) ألف بعشر حسنات، ولام بعشر حسنات، وميم بعشر حسنات.
وإذا قرأت سورة الإخلاص مرة واحدة كأنك قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كأنك قرأت القرآن كاملاً، ولو قرأتها عشر مرات يبنى لك بيت في الجنة رحمة من رب العالمين سبحانه بأشياء قليلة تفعلها وتقولها يكون لك الثواب العظيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(197/5)
تفسير قوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً)
قال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [العنكبوت:52] أي: كفى بالله الذي يحكم علي ويحكم عليكم، ويشهد علي ويشهد عليكم ويحاسبنا يوم القيامة، أي: قل لهؤلاء المكذبين: كفى بالله شهيداً يشهد لي بالصدق، ويشهد عليكم بالتكذيب.
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [العنكبوت:52] أي: يعلم كل شيء: ما في السموات وما فوقها، وما في الأرض وما تحتها، وما بين ذلك.
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ} [العنكبوت:52] أي: الذين آمنوا بالشيطان، وبكل ما هو باطل وليس بحق، وكفروا بالله سبحانه وتعالى، {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت:52] أي: خسروا أعظم شيء يدافعون عنه ويدفعون وهو أنفسهم.
فالإنسان يقي نفسه بغيرها، ويدافع عن نفسه ولو ضاع غيره فهذه النفس يخسرها يوم القيامة، وتشهد عليه فيضيع نفسه بسبب تكذيبه في الدنيا.
وفي الدنيا يمكن أن يقول الإنسان لآخر: أنا أفديك بنفسي، فإذا جاء يوم القيامة فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كل منهم يقول: نفسي نفسي، وقد كانوا في الدنيا يدعون الخلق إلى الله عز وجل، أما يوم القيامة فلا توجد حياة ثانية يضيعون الآخرة من أجلها، إنما الدار الآخرة هي الحياة وفيها الإقامة الدائمة عند رب العالمين، لا حياة بعدها، ولذلك كل واحد يقول: نفسي نفسي.
قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] ومن أعز على الإنسان من هؤلاء؟ ومع ذلك فر من الجميع ويقول: نفسي، إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي يقول: أمتي أمتي ويشفع للخلق يوم القيامة.(197/6)
تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب)
قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53].
قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) أي: هؤلاء الذين جهلوا هذا الدين العظيم وجهلوا قدر ربهم سبحانه فيهم أناس طويلة ألسنتهم مثل أبي جهل والنضر بن الحارث، فكانوا يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: أين العذاب الذي تخبرنا عنه؟ لم لم يأت إلى الآن؟ قال تعالى عن ذلك: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، وتأمل التحدي في كلامهم، يطلبون من الله تعالى أن يرسل لهم وثيقة عذاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعله عاجلاً لا آجلاً.
والقط: الوثيقة بالشيء، فقالوا: (رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ) أي: ما توعدتنا به من العذاب يوم القيامة عجله لنا الآن.
وإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] فليس عند هؤلاء عقول حين يقولون ذلك.
فيقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53] فالله عز وجل لا يخلف الميعاد، والعذاب آت ولكن الله أجل ذلك لأجل مسمى معلوم عنده، وسيأتيهم عذابهم إما في الدنيا بأن يقتلوا أو يموتوا فيذهبوا إلى عذابهم في قبورهم كما عذب فرعون وجنوده، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
وكذلك هؤلاء ربنا سبحانه وتعالى يقول: لا تستعجلوا فالعذاب آتيكم، فقتل منهم أبو جهل وغيره في يوم بدر وألقوا في قليب بدر، والله عز وجل عذبهم، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم على حافة البئر يقول لهؤلاء: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) تعذبون في هذا القليب ويتقد عليكم ناراً بما صنعتم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى} [العنكبوت:53] أي: أجلنا العذاب للوقت الذي رأيناه وأردناه، وأيضاً وعد الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة ولا يعجل لهم في الدنيا عذاباً يستأصل جميعهم.
قال سبحانه: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:53] أي: يقيناً سيأتي هذا العذاب، وسيأتيهم بغتة قال تعالى: {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53].
إذاً: الواحد منهم يظن أنه قادر على شيء وفجأة يأتيه العذاب في الدنيا ثم في الآخرة، فالموت يأتي بغتة، ولا يوجد نذير قبله يقول: إنك ستموت يوم كذا، الساعة كذا، وكم قال الأطباء أن هذا المريض لن يعيش إلا يومين أو ثلاثة ثم يعيش بعدها سنين.
وكم يقولون عن إنسان: إنه بصحة وعافية وقوة ولا خطر عليه، فيموت في تلك اللحظة، والله على كل شيء قدير.
وهل ظن أبو جهل وهو خارج من مكة يحفز الناس على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم فقال له بعضهم: ارجع بالناس، فلن نكسب شيئاً من القتال، إنما نقتل أقوامنا، فإذا بـ أبي جهل يقول له: أنت جبان، ويحفزه على ذلك فكان الاثنان قتيلين في يوم بدر.
وخرج أبو جهل في يوم بدر وهو يهيج الناس على القتال ويلبس عدة الحرب، وكان من أقوى الناس، وحوله مثل الحرجة ممن يدافعون عنه، والحرجة: شجر الغابة الملتف، وكأن أبا جهل لا يخلص إليه، فكانوا يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه أحد، وإذا بمقتله يكون على يد غلامين شابين صغيرين من الأنصار كلاهما يسأل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: يا عماه! أين أبو جهل؟ فيتعجب عبد الرحمن بن عوف، وكان في القتال يقول: ووددت لو أني بين رجلين أقوى منهما، يعني: أن الذين بجواره ولدان من الأنصار ما زالا في سن بداية الشباب، فلما قالا له: أين أبو جهل؟ قال: أين أنتم من أبي جهل؟ ومن أين تصلون إلى أبي جهل؟ فيقسم كل منهما ويخبر أنه آلى على نفسه لئن رأى أبا جهل لا يفارق سواده سواده حتى يكون أحدهما قتيلاً؛ لأنه كان يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون مقتله على يد الاثنين معاذ ومعوذ ابني عفراء رضي الله تعالى عنهما، فلما أبصراه استلماه بسيفيهما، ووصلا إليه وهو مثل الحرجة فوقع صريعاً على الأرض.
ويأتي إليه ابن مسعود رضي الله عنه ويركب على صدره ويقطع رقبته ويقول له أبو جهل: لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً قصيراً، إذا جلس عمر رضي الله عنه يكون طوله كطول ابن مسعود وهو واقف، فلما أراد ابن مسعود أن يقطع رقبة أبي جهل لعنة الله عليه قال له: يا رويعي الغنم، تصغير يقصد به التحقير، يعني: أنت تقتلني أنا! لقد ارتقيت مرتقى صعباً، تطلع أنت فوق صدري! هل كان يتوقع ذلك أبو جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله؟! فلما يئس قال: هل أبعد من رجل قتله قومه؟! كفر وتكذيب إلى أن يموت لعنة الله عليه، ومعنى كلامه أن أبعد رجل هو من قتله قومه، فمثلما غيري قتله قومه أنتم أيضاً قتلتموني.
قال الله عز وجل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54] فليس هناك مهرب إنما هم كداخل السور لا يستطيع أن يهرب منها، فجهنم تحيط بهم محدقة بهم.(197/7)
تفسير قوله تعالى: (يوم يغشاهم العذاب)
قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:55] أي: اذكر هذا اليوم وذكرهم بهذا وأنذرهم يوم يغشاهم، والغشي ما يأتي من فوق، فتأتيهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي: من كل مكان نسأل الله العفو والعافية.
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ} [العنكبوت:55] ويقول الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه قراءة نافع وقراءة الكوفيين (ويقول)، وباقي القراء: (ونقول) بنون العظمة، أي: نقول لهؤلاء: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، ذوقوا العذاب جزاء بما كنتم تكسبون.
{يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] أي يغطيهم عذاب رب العالمين، نار من فوقهم، نار سوداء مظلمة تغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقال لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55].
أما المؤمنون فيدخلهم الله جنته ويقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته، وأن يجيرنا من عذابه وناره.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(197/8)
تفسير سورة العنكبوت [53 - 58]
أمر الله تعالى عباده المستضعفين أن يهاجروا إلى أرض يستطيعون أن يعبدوا الله فيها، والهجرة قد يخاف فيها من الموت أو الفقر، فأخبرهم الله أن كل نفس ذائقة الموت، فلا يتركوا الهجرة خوفاً من الموت، فإنهم إن ماتوا مهاجرين فسيدخلهم جنات النعيم، ووعدهم بالرزق، فإنه تكفل برزق كل مخلوق خلقه فكيف يضيع رزق من هاجر لأجله؟!(198/1)
تفسير قوله تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:56 - 62].
لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن المشركين وعن تهورهم واستعجالهم العذاب، فقال الله سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [العنكبوت:53]، وكل ما هو آت فهو قريب، فالمشركون يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب، ولكن الله قد قضى أن عذابهم له أجل مسمى، فهو في علم الله عز وجل، والمؤمنون يستعجلون عذاب الكافرين، ويستعجلون الانتصار عليهم، والله عز وجل قد أجل عنده أجلاً، فإذا جاء أجل الله عز وجل ونزل قضاؤه وقدره بهؤلاء {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً} [العنكبوت:53] أي: فلن يأتيهم بعلامة قبلها، ولكن يأتيهم بغتة: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت:53].
وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت:54]، أي: هؤلاء الكفار الذين يطلبون العذاب وينتظر المؤمنون عذابهم يخبر الله سبحانه وتعالى بأنهم تحيط بهم جنهم يوم القيامة، (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين)، فلا يقدرون على الهرب منها، ويوم القيامة يستشعر الجميع أن الدنيا لم تكن شيئاً مهما طالت وإذا سئلوا {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113]، فمهما طال العمر بالإنسان فإنه في يوم القيامة يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، أي: جزءاً من اليوم، فالإنسان الذي يستعجل في الدنيا يقال له: لا تعجل ستعرف يوم القيامة أن الدنيا لم تكن شيئاً، وأن طول عمرك في الدنيا لا يساوي شيئاً، قال الله عز وجل عن عذاب يوم القيامة الذي يستعجلونه: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، أي: فقد أحدقت بهم جهنم، وأحاطت بهم، فمن فوقهم نار، ومن تحتهم نار، وهم محبوسون داخلها لا انفكاك لهم عنها، ولا مهرب منها.
لقد أمر الله عز وجل المؤمنين في الدنيا بأن يهاجروا من الأرض التي فيها الكفر، والظلم فقال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، أي: لم تخلقوا لتهانوا في مكان تقدرون على الهرب منه والخروج منه، فاخرجوا فإن أرض الله واسعة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
وقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [العنكبوت:56] هذا نداء للمؤمنين، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وعاصم، وباقي القراء يقرءونها: (يا عبادِ الذين آمنوا).
{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] قراءة الجمهور، (إن أرضي) بالسكون، وقراءة ابن عامر: ((إن أرضيَ واسعة فإياي فاعبدون)) وقراءة الجمهور: {فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56]، وقراءة يعقوب وقفاً ووصلاً: ((فاعبدوني)).
فالله عز وجل يأمر المؤمنين بقوله: (اعبدوني) أي: في أي مكان، فلا تصبروا على البقاء في مكان تهانون فيه، وتمنعون فيه من إقامة شعائركم، وشرائع الله سبحانه بل هاجروا منه إلى مكان آخر.
والمؤمنون منهم من هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من بقي بمكة ولم يهاجر، فكان المسلمون يراسلونهم، ويطلبون منهم أن يخرجوا، فيقولون: نخشى إن هاجرنا، والبعض منهم خرجوا، واستطاعوا أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والبعض الآخر أمسك بهم الكفار، وعذبوهم وضربوهم في مكة، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: ((إن أرضي واسعة)) فمن استطاع أن يهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليفعل ذلك، ومن استطاع ولم يفعل وظل مع الكفار، ومع من يفتنه عن دينه مع قدرته على الخروج فقد وقع في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97]، فهم كانوا مستضعفين في بلدهم لكنهم كانوا يقدرون على الخروج من هذه الأرض ومع ذلك ظلوا فيها، فقد بقوا في مكة يفتنهم الكفار فيفتنون، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء وأمثالهم الذين فتنهم الكفار فارتدوا على أعقابهم، وتركوا دين الله سبحانه بقوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] وهنا يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
والإنسان مخلوق لعبادة الله سبحانه، قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالمطلوب منه العبادة، وعمر الإنسان غالٍ جداً لا يساويه أي ثمن من الأثمان، وأغلى شيء عند الإنسان عمره، فكلما عبد الله سبحانه وتعالى كلما كان قريباً من ربه سبحانه، ويكون منزله في أعلى الجنات، وكلما فرط وقصر كلما بعد شيئاً فشيئاً حتى يكون في النار، ولذلك على الإنسان أن ينتهز لحظاته، وساعاته وأوقاته حتى يدخل جنة الخلود بعمله الصالح بعد رحمة الله سبحانه.(198/2)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)
قال الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]، فهذه نهاية كل إنسان، فلا أحد سيخلد في هذه الدنيا، وطالما أن الله عز وجل أمرنا بعبادته فلنعبد الله سبحانه، وإذا ضُيق على الإنسان في مكان فليخرج إلى مكان آخر، فلا يمكث في مكان يفتن فيه، ويبتعد عن دين الله، ثم يقول: أنا معذور، يكفر بالله سبحانه ويقول: أنا معذور، ويفعل أفعال الفساق ويقول: أنا معذور، فطالما أنه يستطيع أن يخرج إلى مكان آخر فليبتعد عن الفساق وعن الظلمة والكفار، وليعبد الله سبحانه وتعالى، فأرض الله واسعة.
فلا أحد سيفر من الموت، فإن الموت محيط بالإنسان، ومهما أمل الإنسان في العيش وفي الحياة فإنه في نهاية المطاف سيأتيه الموت من حيث لا يدري، ومن حيث لا يحتسب: (كل إنسان يغدو فمعتق نفسه أو موبقها)، وكما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن الإنسان يأتي عليه الصباح لا يدري هل سيكمل باقي يومه أو يموت في هذا اليوم؟ وهل سيموت على طاعة أم يموت على معصية؟ وقد أخبرنا الله عز وجل أن الموت يأتي للإنسان بغتة، فبعد أن كان في الدنيا إذا به عند الله سبحانه، وبعد أن كان في ظهر الأرض إذا هو في بطنها.
فمن عمل صالحاً فإنه يستبشر حين يلقى الله سبحانه وتعالى بعمله الصالح؛ كجهاده في سبيل الله وغيره من الأعمال الصالحة، أما الإنسان الذي يفر من الله، فإنه مهما فر فإن الموت محيط به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد رسم لأصحابه خطوطاً على الأرض، فقال هم الخط الأول: (هذا الإنسان، وخط بعده بقليل وقال: وهذا أجله، وخط بعده بكثير وقال: وهذا أمله).
فالإنسان يريد أن يحقق أمله وأمله بعيد جداً، فبينما هو ينظر إلى الأبعد إذ جاءه الأقرب، فليس كل ما يؤمله الإنسان سيأخذه، وأسعد الناس الذي يأتيه موته وهو مطيع لله سبحانه وتعالى، انظروا إلى الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، وكيف قتله اليهود لعنة الله عليهم، ولكم أن تعتبروا بهذا الرجل فقد ختم الله عز وجل له بالعمل الصالح فقد صلى الفجر ثم خرج فقتل شهيداً، فلعله ما كان يحلم بهذا الشيء، فإنه لم يكن يقاتل بسلاح ولا في يديه مدفع، وجاءته الشهادة وهو خارج في ذمة الله سبحانه وتعالى، وهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى، فمن كان يدري أن الشهادة ستأتيه في هذا الوقت، نسأل الله عز وجل أن يجعله من الشهداء، وأن يسكنه الجنة.
ولعل الإنسان يرى المنظر فضيعاً جداً، أن يسقط على إنسان صاروخ أو قنبلة أو يأكله قطار، أو تدوسه سيارة، إنه منظر صعب ورهيب جداً، ولكن الحقيقة أن الشهيد عند الله عز وجل له أجر عظيم، ففي الوقت الذي يأتيه حتفه لا يشعر بشيء، (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)، فالبعوضة تقرص الإنسان فلا يحس بها، وكذلك الشهيد، حتى وإن كان المنظر أمام الناس منظراً مروعاً ومنظراً صعباً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم ويقول لهم: لا تخافوا على الشهيد، فإن الله أرأف به منكم، فالله عز وجل يجعل هذا الشيء الهائل الذي تراه شيئاً يسيراً جداً، ويبشر الشهيد بالحور العين تستقبله، ويغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى منزله من الجنة، وغير ذلك من خصائص الشهيد عند رب العالمين سبحانه.
فـ أحمد ياسين قتل في سبيل الله سبحانه وتعالى نحسبه على يد الكفار، يقول عمر رضي الله عنه وقد قتله أبو لؤلؤة المجوسي لعنة الله عليه، لـ ابن عباس: اذهب فانظر من قتلني، فيذهب ويبحث ثم يقول له: قتلك أبو لؤلؤة، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل قتلي على يد أحد من المسلمين، فقد كان يخاف أن يكون رجلاً من المسلمين ظلمه مثلاً فقتله.
وعمر بن الخطاب كان يسأل الله عز وجل الشهادة، ويقول: اللهم ارزقني شهادة في بلد نبيك صلى الله عليه وسلم، فيتعجبون له، كيف تقتل في بلد النبي صلى الله عليه وسلم والجهاد بعيد عنها؟! والبلد دار إيمان، وكل الذين فيها مسلمون، فيقول: يأتي بها الله إن شاء، وليس في قلب عمر أنه سيموت هذه الموتة رضي الله تعالى عنه، فإذا بالشهادة تأتي إليه وهو في المحراب يصلي بالناس رضي الله عنه، والموت يأتي للإنسان بغتة، يا ترى هل كان عمر رضي الله عنه وهو ذاهب يصلي يدري أن أحداً سيقتله، لم يكن يدري رضي الله تعالى عنه، وكذلك كل إنسان، فطالما أننا لا ندري متى يأتي علينا الموت فليكن العمل الصالح دائماً هو هدفنا.
مرة من المرات أحد إخواننا صلى معنا الفجر، ثم ذهب، فلما وصل عند سكة الحديد داسه القطار، نرجو له الشهادة عند الله سبحانه وتعالى، والذي صلى الفجر هو في ذمة الله عز وجل، والله عز وجل يحذرنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من أذى هذا الإنسان الذي صلى الفجر في جماعة.
ولذلك نستبشر خيراً لمقتل الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه، نسأل الله أن يسلط على اليهود من يبيدهم، وأن يزيلهم، وأن يدمرهم تدميراً هم ومن يدافع عنهم، كما نسأله سبحانه أن ينصر الإسلام والمسلمين، وأن يدمر الكفرة والمجرمين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
يقول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57]، أي: المرجع إلى الله عز وجل، فأعد الجواب الذي ستقوله لله عز وجل.(198/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفاً)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} [العنكبوت:58] يطمئن الله عز وجل المؤمنين، بأن الدنيا زائلة، فمهما طالت، ومهما عُذب المؤمن فيها فإنها ستزول ولن تبقى.
ومعنى ((لنبوِّئنهم)) أي: لننزلنهم منزلاً في أعالي الجنات، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر ((لنبوينهم))، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((لنثوينهم)) من الثوى بمعنى: الإقامة، أي: لندخلنهم مكاناً يقيمون فيه ولا يخرجون منه، ((من الجنة غرفاً))، الغرف هي الأماكن العالية الرفيعة الفخمة، فالله عز وجل جهز هذه الغرف للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهم لم يقولوا: آمنا، بألسنتهم وكفرت قلوبهم وفسقت أعمالهم، لا؛ بل قالوا: (آمنا) بالقول، وصدق ذلك القلب والعمل، والغرف معناها: الجنات العظيمة العالية، وليس كما يتخيل الإنسان الغرفة التي في بيته، فهذه وإن سميت غرفة لكن هناك فرق كبير بين هذه وبين تلك، فقد قال سبحانه: {غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [العنكبوت:58].
وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم)، فأهل الجنة الذين هم في أدنى الجنات وفي أوسط الجنات ينظرون إلى أهل الغرف الذين هم في أعالي الجنات، قال صلى الله عليه وسلم: (يتراءون) والترائي: هو النظر للشيء البعيد، مثلما تنظر إلى الكواكب التي في السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق)، الغابر: أي: البعيد جداً، و (الدري): أي: المتلألئ في الأفق، قال: (من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)، أي: لتفاضل الدرجات، فبحسب عمل الإنسان يرفعه الله عز وجل درجات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا في أعالي الجنات.
(قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟) أي: أن الغرف العالية ليست إلا للأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، (بلى) يعني: ليس كما تقولون، ولكن هناك رجال مؤمنون سيبلغون ذلك، وهم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)، أي: قصوراً عظيمة في الجنة، وصاحب هذه القصور يرى داخلها وهو خارجها، ويرى خارجها وهو داخلها، (ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام)، فالذي يريد أن يصل إلى هذه الغرف فليعلم أنها لمن أطاب الكلام)، أي: كان خلقه حسناً، وكلامه طيباً، ليس رديئاً ولا فاحشاً، ولا نماماً، ولا مغتاباً، بل هو صادق في كلامه ولا يخرج من فمه إلا الطيب.
(وأطعم الطعام) أطعم الفقير والمسكين، وابن السبيل، والجار، والضيف، وأطعم أهله، (وأدام الصيام) يعني: صام كثيراً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال، فكأنما صام الدهر)، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر كصيام الدهر، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما يسهل علينا، فإذا أردت أن يكون أجرك كمن صام الدهر صم من كل شهر ثلاثة أيام، وصم الإثنين والخميس، ففيهما يرفع العمل إلى الله سبحانه وتعالى، وصم يوم عرفة، ويوم عاشوراء وهكذا، فالإنسان المؤمن يتحرى الأوقات الفاضلة، فيكثر فيها من الصيام بحسب ما يقدره الله عز وجل عليه.
قال: (وصلى بالليل والناس نيام)، فهو مع الناس حسن الخلق، وهو مع الله في صيام وقيام، وقيام الليل في البداية قد يكون صعباً على الإنسان، ولكن مع العادة يصير متعة للإنسان، كما قال الثوري رحمه الله: كابدنا قيام الليل عشرين سنة، واستمتعنا به عشرين سنة.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على عمل أهل الغرف العاليات، وأن يجعلنا منهم ومعهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(198/4)
تفسير سورة العنكبوت [58 - 63]
وعد الله المؤمنين بالرزق الحسن في هذه الحياة الدنيا إذا صبروا وتوكلوا على الله، وأخبر أنه كم من دابة لا تحمل رزقها ولا تدخر قوتها والله يرزقها ويطعمها ويسقيها، فمن لم يضيع رزق هذه الدابة وهو الله فلن يضيع رزق من عبده وآمن به، ولكن الله حكيم عليم، فهو يبسط الرزق لمن يشاء، ويضيق الرزق على من يشاء، ليبتلي العباد بالغنى والفقر، وفي ذلك حكم كثيرة للأفراد وللمجتمعات، ولا يصلح حال العباد إلا بتفاوتهم في الأرزاق.(199/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:58 - 62].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى الموت ذكر أن المرجع إليه سبحانه وتعالى ليجازي الخلق على ما عملوا، فأما الكفار فيعذبهم الله عز وجل عذاباً يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم في نار جهنم، ويقال لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالله عز وجل يبوئهم من الجنة نزلاً، وينزلهم من الجنة منزلاً عظيماً عالياً، وهي غرف الجنات، كما قال عز وجل: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [العنكبوت:58]، أي: لندخلنهم ولننزلنهم ولننسكننهم ولنقيمنهم في هذه الجنة العالية {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].
وذكر الله عز وجل العمل فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت:58]، والجزاء يوم القيامة أن يقال لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، يعني: أنعم بهذا لمن عمل.
فهم لم يكتفوا بأن يقولوا: آمنا وصدقنا بقلوبنا، ولم يكتفوا بأن نطقوا بألسنتهم بكلمة التوحيد، ولكن العمل الصالح وراء ذلك، فالله أمر المؤمنين بالعمل الصالح فقال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، فلما عملوا الصالحات جوزوا بالجنات وقيل لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].
وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم -والزعيم: الضامن- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، يعني بالقصور التي في الجنات، وربض المكان: الفناء الذي حول المكان، ووسط المكان أعظم من ربضه، فالجنة فيها ربض، وكأنه المنزلة الأقل في الجنة، وفيها منزلة أخرى هي أوسط الجنة، ومنزلة أخرى هي أعلى الجنة.
فذكر الأولى والثانية فقال: (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، هذا للمؤمن الذي أسلم والذي هاجر في سبيل الله عز وجل، ثم قال: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة)، هذا للمجاهد في سبيل الله عز وجل، لمن يجاهد بسنانه وبلسانه وبقلبه أعداء الله يجاهد المنافقين، ويجاهد الكفار، ويجاهد لنشر دين الله سبحانه وتعالى، ويدفع ما يلقيه أهل الباطل من شبهات، ويدفع ما يقوله أهل الكفر من اتهامات، فيجاهد في سبيل الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم زعيم ضامن له ببيت في ربض الجنة، وببيت آخر في وسط الجنة، وببيت ثالث في أعلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت)، والمعنى: طالما أنك أسلمت لله وآمنت بالله وجاهدت في سبيل الله سبحانه وعملت العمل الصالح فمت حيث شئت، فسواء مت وأنت تجاهد في سبيل الله عز وجل فصرت شهيداً، أو مت وأنت على فراشك في بيتك، فلك هذا الأجر لا ينقص أبداً، والضامن لك هذا الأجر هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الله عز وجل: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، أي: أن جزاءهم الجنة العالية العظيمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(199/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون)
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59]، أي: أنهم عملوا الصالحات وصبروا، والصبر أنواع: صبر على أوامر الله، فينفذ الأوامر، بأن يقول له: افعل كذا، فيفعل، ويصبر على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم)، فيجاهد الإنسان نفسه في العمل الصالح والعمل بما أمر الله سبحانه.
وإذا نهى الله عز وجل عن شيء فالمؤمن يجتنبه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)، أي: لا تأتوا هذا الشيء واتركوه بالكلية، فالمؤمن يصبر على ذلك.
والله عز وجل نهى العبد عن الحرام وعن شهوات باطلة، وإذا بالنفس تدفعه ليقع فيها، ولكن يصبر ويتصبر لأمر الله سبحانه، فهذا صبر آخر، وهو الصبر عن المعصية.
الصبر الثالث: الصبر على قضاء الله وقدره، على أقدار الله سبحانه، فحين تنزل المصيبة بالعبد يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كما قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
وفي أول هذه السورة قال الله سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، فلا بد من الابتلاء والاختبار والامتحان من الله عز وجل لعباده، فمن صبر على ذلك فله الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى.
فعلى الإنسان أن يصبر على المصائب، ويصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية.
قال الله سبحانه: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:59]، أي: صبروا لأمر الله سبحانه وتعالى، وتوكلوا على الله سبحانه أعظم التوكل، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فلو أن الإنسان يتوكل على الله سبحانه كما تتوكل الطير على ربها سبحانه لرزقه الله كما يرزق الطير؛ فإنها تصبح فتغدو تبحث عن رزقها فالله يعطيها رزقها، فقوله: (تغدو خماصاً) خمص البطن بمعنى: ضامر البطن، قل حجمها من قلة الطعام، وقوله: (تروح بطاناً)، أي: قد شبعت وامتلأت بطونها وانتفخت من كثرة ما أكلت من طعام.
فلو أن العبد توكل على الله حق التوكل وكان واثقاً بالله سبحانه، وأن الرزق بيد الله سبحانه، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وكل شيء بيد الله سبحانه، ولم ينسب ما هو لله لغير الله سبحانه، ولم يظن أو يحدث نفسه أن رزقي عند فلان، وفلان يعطيني الرزق؛ لرزقه الله من حيث لا يحتسب، فالرزق عند الله سبحانه، والله الرزاق العظيم الذي قال لعباده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، فالعبد يتوكل على الله سبحانه، وإذا أحسن التوكل جاءه رزقه من عند الله من حيث لا يحتسب، كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فهنا ربنا سبحانه وتعالى ذكر أمر التوكل عليه سبحانه وتعالى، فذكر أنه من صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنات.(199/3)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها)
أخبر سبحانه في هذه الآية كيف أن الدواب كلها تتوكل على ربها سبحانه وهو يرزقها تبارك وتعالى فقال: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60].
وقوله: (وَكَأَيِّن)، هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: (وكآين) بالمد المتوسط، وقرأها أبو جعفر بالتسهيل مع المد ومع القصر: (وكآين من دابة لا تحمل رزقها) بالتكسين فيها وبالتسهيل.
إذاً: هنا قراءة: (وكآين من دابة) بتسكين النون سواء في قراءة ابن كثير أو في قراءة أبي جعفر، والجمهور يقرءون: (وكأيِّن من دابة) تسكن وتدغم فيما بعدها.
وقوله: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت:60]، في هذا إشارة إلى أنه لا يوجد دابة تحمل رزقها ذاهبة وآتية، ولكن القليل من أنواع الدواب هي التي قد تفعل ذلك، ولكن الأكثر من الدواب التي خلقها الله عز وجل لا تحمل رزقها على ظهرها فتذهب وتجيء به، وإنما تبحث فتأكل، فإذا أكلت اكتفت.
والدابة: كل ما يدب على الأرض من حيوان، والمقصود: أن كل دابة قد خلقها الله سبحانه وتعالى لا تحمل رزقها، ولكن الله عز وجل يرزقها وإياكم.
لقد علم الله عز وجل العباد كيف يصبرون على أمر الله سبحانه وتعالى، وكيف يتوكلون على الله ويحسنون الظن بالله سبحانه وتعالى، فيصبر الإنسان، وإن جاع لا يجلس في بيته، وإنما عليه أن يذهب ليبحث عن الرزق متوكلاً على الله واثقاً بالله، فإذا بالله سبحانه وتعالى يفتح له باب الخير، وقد يمتحنه ويختبر إخلاصه هل يصبر أو لا يصبر؟ فيضيق عليه شيئاً ثم يأتي الفتح والفرج من الله تبارك وتعالى.
وقوله: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60]، أي: ويرزقكم أنتم أيضاً، فالإنسان ينظر ويعتبر، فانظر واعتبر كيف رزق الله كل هذه الدواب؛ فرزق كل طائر يطير في السماء، وكل إنسان يسير، وكل حيوان يدب على أربع، وكل حشرة، وكل شيء يرزقه الله تبارك وتعالى.
فقوله: ((اللَّهُ يَرْزُقُهَا))، يعني: الدابة ((وَإِيَّاكُمْ))، يعني: يرزقكم الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم)، أي: يسمع دعاءكم حين تقولون: يا رب! ارزقنا يا رب! أعطنا، وهو العليم بمن يستحق هذا ومن يستحق ذلك.(199/4)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر)
قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61].
وقوله: ((لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ))، يعني: لئن سألت الخلق: ((مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) وكل مخلوق -سواء كان مسلماً أو كافراً- يعلم أن الله هو الخالق سبحانه وتعالى، ولا يكابر في ذلك إلا كذاب جاحد مكابر، كما كابر فرعون وكما كابر النمرود، وإذا بالله عز وجل يفضح الاثنين وغيرهما ممن جحد ذلك، فهذا النمرود لما زعم أنه يحيي ويميت قال له إبراهيم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] أي: فضح وأسكت وألقم حجراً، ولما قال له إبراهيم: ((رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ)) تعاظم وقال: وأنا أيضاً أحيي وأميت، فقيل له: تحيي من؟ فقال: أحكم على واحد بالإعدام ومن ثم أعفو عنه فأكون قد أحييته، فلما كان هذا الكلام كلاماً فارغاً وظاهر الفساد، ولكنه سيجد من يدافعون عن هذا الكلام، أعرض إبراهيم عن هذا الشيء الذي يعرفون أنه كاذب فيه، وأتى له بشيء ثان أشد منه لا يقدر أن يدعيه، فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].
وسار على حذوه فرعون بعد ذلك وقال للناس كما حكى الله عنه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال كما حكى الله عنه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فإذا به يستخفهم فيصدقونه، فيفضحه الله سبحانه حين يغرقه في اليم ويرفع يديه ويدعو ويقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، فما زعم أحد أبداً أنه رب إلا وفضحه الله سبحانه وتعالى وأظهر كذبه.
قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61]،
الجواب
أن الخالق واحد وهو الله سبحانه.
إذاً: هنا العباد لا يختلفون في أمر الخالق، حتى ولو أنكروا بألسنتهم فإن القلوب تقر أنه خالقهم، ولكن في التوجه في العبادة: إلى من يتوجهون بالعبادة؟ ومن الذي يعبدونه؟ هنا يختلفون؛ فهؤلاء يعبدون شيئاً وهؤلاء يعبدون غيره إلا من هدى الله سبحانه إلى توحيده.
قال سبحانه: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61]، أي: إذا كانوا يعرفون الخالق سبحانه الذي يرزق والذي خلق السماوات والأرض والذي سخر الشمس والقمر وجعل الشمس تجري لمستقر لها، والقمر يدور مع الأرض وكل شيء بحساب وبقدر عنده تبارك وتعالى، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟! وقوله: ((أَنَّى يُؤْفَكُونَ)) يؤفك بمعنى: يصرف ويمشي بعيداً ويضل، والمعنى: كيف ضلوا عن عبادة الله؟! وكيف صرفوا عن توحيد الله وقد عرفوا أنه الذي يخلق ويرزق سبحانه؟!(199/5)
تفسير قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)
قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62].
قوله: ((يَبْسُطُ)) أي: يوسع، ((وَيَقْدِرُ)) أي: يضيق، فالله عز وجل يفعل كل شيء بحساب، كما قال سبحانه وتعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، فإذا وسع وفتح وبسط فمن يقدر أن يمسك هذا الرزق؟ وهنا قال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [العنكبوت:62]، أي: سواء كان مسلماً أو كان كافراً؛ لأن الدنيا لو كانت تساوي شيئاً لم يعط الكفار منها شيئاً، ولكن {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} [العنكبوت:62]، والله سبحانه وتعالى يضيق على من يشاء من خلقه، فلا يقل الإنسان: لماذا ربنا وسع لفلان ولماذا ضيق على فلان، مع أن فلاناً جيد ويصلي وهكذا وربنا مضيق عليه في الرزق؟! فهذا أمر الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، والدنيا لا تساوي شيئاً، فيضيق على فلان الذي يصلي والذي هو يعمل الصالحات؛ حتى يرفع درجاته عنده سبحانه وتعالى.
إذاً: أنت وإن اعترضت في الدنيا فإنك في الآخرة تعرف الجواب حين ترى هذا الإنسان قد رفعه الله عز وجل درجات عظيمة، وحين ستر عليه ذنوباً كثيرة فعلها واستتر بها، فالله ضيق عليه في الرزق كشيء من العقوبة له؛ لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب والزلات، فالله عز وجل يبسط ويقدر سبحانه، ولذا قال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62].(199/6)
تفسير قوله تعالى: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً)
قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]، من الذي ينزل من السماء ماءً؟ ومن الذي يرسل الرياح ويسيرها كيف يشاء؟ إنه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه ينزل الغيث ويسقي به بلدة ميتة، وينزل الغيث ماءً كثيراً غدقاً غير رائث من فضله سبحانه وتعالى.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أصحابه أن يدعو ربهم أن يسقيهم، فإذا به يقف وهو في خطبته ويقطع الخطبة ويدعو ربه سبحانه، فإذا بالمطر ينزل من السماء، فمن الذي أتى بهذا المطر وهم يرون السماء صافية والشمس مشرقة وليس بينهم وبين جبل سلع من سحاب، فإذا بسحابة تنشأ وتتوسط السماء وتنزل على العباد رزقاً من عند الله سبحانه وتعالى؟ إنه الله وحده الذي ينزل الغيث، وقد زعم الكفار أنهم حاولوا ذلك وقدروا على شيء من ذلك! قالوا: ننتظر سحابة مليئة بالماء وحين تأتي نرمي عليها بشيء من صواريخ أو شيء من تراب أو حاجة تفجر هذه السحابة فتنزل الماء، فهنا يقال: ما الذي صنعوا من ذلك؟ ومن الذي جاء بالسحابة؟ ومن الذي خلقها؟ ومن الذي سيرها؟ ومن الذي ملأها بالماء؟ إنه الله، وهم حين يفعلون ذلك قد ينزل شيء من رذاذ المطر وقد لا ينزل شيء، فالله عز وجل هو الذي ينزل ما يغيث به العباد، ولم يذكر رذاذاً من المطر، إنما قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خبِيرٌ} [لقمان:34].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(199/7)
تفسير سورة العنكبوت [63 - 66]
آيات الله تعالى الكونية الدالة على ألوهيته كثيرة، ولذا قرر الله بها المشركين، وجعلها برهاناً على كفرهم به سبحانه؛ لأنهم يعلمون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وأن الله بيده الرزق والنجاة من المهالك، وإذا بهم يشركون بالله ويعبدون غيره عند السراء والرخاء، وما ذلك إلا لأجل أن يتمتعوا بهذه الدنيا الفانية الزائلة، ويوم القيامة لن يفلتوا من عذاب الله ونقمته.(200/1)
دلائل ربوبية الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:63 - 66].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن دلائل ربوبيته سبحانه، وأنه وحده الرب الخالق الفعال لما يريد سبحانه، فإذا كان هو الرب الذي يخلق ويرزق وينزل من السماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها، ويعلم ذلك الكفار كما يعلمه المسلمون، فليكن هذا الإله الواحد سبحانه هو الذي يعبد ليس غيره؛ ولذلك يبكت الله سبحانه هؤلاء المشركين ويقرع آذانهم بهذه الآيات، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:61] فإذا كانوا يقولون: الذي سخر الشمس والقمر، والذي خلق السماوات وما فيها، والأرض وما عليها هو الله سبحانه الذي خلق كل شيء وهم يعرفون ذلك، فلماذا ينصرفون عن توحيده؟ ولماذا يعبدون غيره ويشركون به؟ {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] يعني: تعجب من انصرافهم عن توحيد الله -الذي عرفوا أنه الإله وحده- إلى عبادة غيره.
قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:62] الله يوسع ويبسط لمن يشاء، ويضيق على من يشاء، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم:48] سبحانه وتعالى، أغنى: أعطى الغنى، وأعطى المال، وأعطى السعة، وأقنى: أفقر سبحانه وتعالى.
فالله يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء سبحانه، وهم يعرفون ذلك، فلماذا صرفوا عن توحيده وعن عبادته؟ فعجباً لهم!! قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63] وهذا شيء يشاهدونه ويعرفونه، فالأرض تكون مجدبة لا نبات فيها ولا ماء عليها، فيسألون الله سبحانه ويدعونه؛ فينزل من السماء ماءً، فإذا بالأرض تخرج زرعها وتخرج ثمارها؛ فيأكلون ويشربون ويتنعمون، ثم يشركون بالله ويجعلون رزقهم أنهم يكفرون بالله، ويستبدلون شكر الله سبحانه كفراً به.
قال الله سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا} [العنكبوت:63]
الجواب
{ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت:63] شهدتم على أنفسكم، الحمد لله على نعمه وفضله، الحمد لله: الثناء الجميل على الله عز وجل بما هو أهل له من صفات كمال وجمال وجلال.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [العنكبوت:63] أحمده تبارك وتعالى على ذاته وكماله وصفاته سبحانه، وأشكره على آلائه ونعمائه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63] يعني: يمشون في الأرض وينظرون إلى نعم الله وآياته فلا يفهمون أنه هو الذي يستحق العبادة وحده، فينصرفون عن توحيده، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] لا عقول لهم يفهمون بها: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].(200/2)
تفسير قوله تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب)
قال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا: هي الحياة التي يحياها الإنسان، لذا سميت حياة، والدار الآخرة حياة، ولكن ليست كهذه الحياة، بل هي حياة أخرى؛ ولذلك يقول تعالى عنها: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] يعني: دار الحياة الدائمة، ودار الإقامة الدائمة التي لا تفنى ولا تزول.
فقال هنا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] وعندما تقارن بين الدنيا وبين الآخرة فإنك تجد أن الدنيا لا تساوي شيئاً، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] يعني: مهما جد الناس فيها، ومهما أخذوا بالأسباب فهم في لعب إذا قاسوا ذلك بالآخرة.
ويوم القيامة يتذكر الناس هذه الحياة الدنيا فيقول بعضهم لبعض: كم لبثنا فيها؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ} [الكهف:19] لم نقعد في هذه الدنيا إلا يوماً أو بعض يوم، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:104].
يقولون: يا ترى كم لبثنا في هذه الدنيا؟ عشرة أيام مثلاً! ((يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)) هو يوم واحد الذي لبثناه في الدنيا، لأنهم عندما يقيسون الدنيا بالآخرة يكون الفرق كبيراً جداً، فيوم القيامة وحده مقداره خمسون ألف سنة، والإنسان إذا عاش ستين سنة أو سبعين سنة أو أكثر أو أقل من ذلك، ثم أتى يقارنها بيوم مقدراه ألف سنة فإنه يرى أنه كان يلعب في هذه الحياة الدنيا، وعلى سبيل المثال عندما تقول: قارن بين الموظفين الذين يشتغلون في مصر، والموظفين الذين يشتغلون في الخارج، تجد الذي يشتغل في أمريكا يقول لك: أنا أشتغل من الصبح حتى الليل، وأرجع إلى البيت لأنام فقط، ولا أحس براحة أبداً، وأذهب إلى الشغل في اليوم الثاني، والموظف هنا في مصر يقول عن نفسه: أنا لا ألعب، بل أنا أشتغل وأتعب وأشقى، لكن عندما نقارنه بإنسان آخر يشتغل أحسن وأفضل منه ويشقى في عمله، نقول له: هذا الذي تفعله ليس عملاً إنما هو لعب.
كذلك الحال عند مقارنة الدنيا بالآخرة، ففي الدنيا يذهب الإنسان ويأتي ويقعد ويقف وينام، أما في الآخرة فإنه سيقف خمسين ألف سنة بين يدي الله تبارك وتعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].
وفي هذا اليوم من شدة وهول الموقف ينظر الناس إلى مناظر فظيعة، فيرون مانع الزكاة يؤتى بزكاته فتحمى في النار ثم يكوى بها في هذا الموقف، وإذا كانت من بهيمة الأنعام يؤتى بها كلها في قاع قرقر ويبطح لها هذا الإنسان فتمشي عليه الأنعام مدة خمسين ألف سنة، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حتى يرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار، فينظر الناس إلى ذلك وهم واقفون ينتظرون الحساب، وفصل القضاء بين العباد، ومن شدة هذا الموقف يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، اصرفنا ولو إلى النار.
فإذا تذكروا الدنيا يقولون: إنها دنيا دنية ما الذي كنا نعمل فيها؟ وما هو المرض الذي أصابنا في الدنيا؟ وما هو البلاء الذي جاء لنا في الدنيا؟ لا شيء لا شيء إذا قورن بهول هذا اليوم، فإذا دخلوا النار عرفوا حقيقة ما كانوا فيه من لعب ولهو في الدنيا، ومن تضييع وتفريط، وعرفوا قول الله سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] الحياة الدنيا لهو يلهو فيها الإنسان، ولعب يلعب فيها الإنسان، فعندما يقول: أنا أعبد ربي في هذه الدنيا، فيقال له: انظر كم ساعة تنامها في اليوم؟ وكم ساعة تدخل فيها الخلاء؟ وكم ساعة تأكل فيها؟ وكم ساعة تتكلم فيها؟ وكم ساعة تصلي لله عز وجل؟ فلو جمعت وقت الصلوات كلها في اليوم فستجد أنه لا يساوي شيئاً مقابل أربع وعشرين ساعة هي مجموع ساعات اليوم الواحد، وقد يقف الإنسان يتكلم مع أصحابه ويضحك ساعات طويلة، فإذا جاء إلى عبادة الله عز وجل إذا به يتضجر بسرعة.
فيستشعر العبد يوم القيامة أنه كان في لهو ولعب، إلا الذين اتقوا الله سبحانه وتعالى، وعرفوا أن الأعمار غالية، وأن الدنيا لن تأتي مرة ثانية، فانتهزوا هذه الدنيا وخافوا على أعمارهم أن تضيع سدى وهباءً، فإذا بهم يعملون في هذه الدنيا بكل وسيلة وحيلة يتقربون فيها إلى الله عز وجل، بالليل يقومون لله سبحانه وتعالى، فإذا ناموا كانت نيتهم ليقوموا لله عز وجل، وليعبدوا الله سبحانه وتعالى، ولعل أحدهم يتمنى لو أنه لا ينام، وأنه يقدر على أن يتفرغ الليل والنهار لعبادة الله سبحانه وتعالى، حتى كان بعض السلف يقول لله من كثرة صلاته واستمتاعه بصلاته: يا رب! إن كنت جعلت لأحد يصلي في قبره فاجعلني أصلي في قبري! من كثرة ما استمتع بالصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى، وكانوا يصومون لله سبحانه ويستمتع أحدهم بصيامه في الهواجر كما يستمتع أحدنا بإفطاره وشرب الماء البارد في اليوم الحار، وقد عرفوا الثواب العظيم من وراء ذلك، عرفوا أن الذي يصوم يوماً يبعد عن النار بمقدار سبعين خريفاً، فالمؤمنون المتقون المحسنون عرفوا أن الأعمار فرصة لا تعوض، فانتهزوا ليلهم ونهارهم، كانت هممهم عبادة الله عز وجل في كل حال، تجد الشخص في قيامه في نومه في عمله يعبد الله عز وجل.
فعندما تذهب إلى عملك تحسن عملك وتتقنه؛ لأنك تعلم أن الله يراقبك، فتؤجر على ذلك، تتعب وتشقى في العمل، وترجع إلى بيتك وقد كلت يداك من كثرة العمل؛ فيأجرك الله سبحانه حتى اللقمة تجعلها في فيّ امرأتك يكون لك أجر في ذلك.
فكان عملك عبادة بهذا المعنى، تصلي لله سبحانه، وتصوم لله، ولذا تجد بعض الناس يترك الصلاة والصوم ويقول: أنا أعمل للأولاد والعمل عبادة وهو مفرط في حق الله سبحانه، فلابد أن يأتي بالواجبات والفرائض كما أمر الله سبحانه، ويعمل عمله الذي هو عليه فرض ليطعم نفسه ويكفي عياله، ويتقن في عمله حتى يكسب من حلال فيدعو ربه سبحانه، فيستجيب الله عز وجل له.
فالحياة الدنيا لهو ولعب إلا ما كان فيها من ذكر لله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها)، الدنيا لا تساوي شيئاً، ولا تستحق إلا أن تكون ملعونة ملعوناً ما فيها: (إلا ذكر الله وما والاه).
الإنسان الذاكر لله عز وجل هو الذي يستحق رحمة رب العالمين، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فالذكر من العبادات لله عز وجل التي خلق الإنسان من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
قال سبحانه وتعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت:64] إذا كان في عمل للدنيا، أما إذا كان لله فهو الجد كل الجد، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها: {لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] هم لم يعلموا، ولكن هي الآخرة سوف يعلمون ذلك.
والله عز وجل يقول: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] وكأن العلم هنا علم آخر غير العلم الذي هو بمعنى المعرفة، فالعلم هنا: هو اليقين المنافي للشك، فلو بعد عن قلوبهم الشك، وعرفوا أنهم راجعون إلى الله، وأنه مجازيهم لكانوا يعلمون: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام:37]، بمعنى: لا يعلمون علماً يدفعهم إلى العمل ويمنعهم عن المعاصي.(200/3)
تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين)
قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] يذكرهم بنعمه عليهم سبحانه إذا ركبوا في السفينة أو في المركب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] وهنا دلالة الاقتضاء تقتضي أن هنا شيء محذوف، والتقدير: إذا ركبوا في الفلك، ثم هاجت الأمواج والرياح، وتلاطمت بهم الأمواج، إذا بهم يخافون من الغرق: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22 - 23].
وهذه عادة الإنسان في وقت شدته يقول: يا رب! يا رب! وفي وقت رخائه ينسى ربه سبحانه وتعالى، وهنا يقول الله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت:65] مشيراً إلى شدتهم، ففي وقت شدتهم: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [العنكبوت:65] يا رب! نجنا يا رب! نجنا: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، فتوجهوا إليه وحده، فلما كانوا في الفلك وجاءت الريح العاصفة: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:67] فدعوا الله وحده سبحانه.
ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] إذا هم يشركون بالله فيدعون غير الله سبحانه، وكان أهل الجاهلية على ذلك، وكذلك الكثيرون من الناس اليوم على ذلك، فحينما يشتد بهم الكرب يقولون: يا رب يا رب! فإذا انتهى الأمر يقول أحدهم: يا سيدي فلان! يا سيدي فلان! ويدعون غير الله سبحانه وتعالى، وقد عرفنا قصة عكرمة لما فر من النبي صلى الله عليه وسلم وكره أن يدخل في هذا الدين العظيم، وركب في السفينة، فإذا بالبحر يعلو، والريح تشتد، ويأتي ربان السفينة ينادي على الناس: إنه لا ينجيكم إلا الله، ادعوا الله، فهنا جاء التوحيد، عرفوا الله عز وجل وهم في السفينة، وكان أهل السفينة مشركين، فـ عكرمة بن أبي جهل فكر في ذلك، وسبحان من يمن على من يشاء بفضله سبحانه، أبوه أبو جهل ذاك الملعون الذي حارب النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله الله عز وجل في يوم بدر، وصار إلى لعنة الله وناره، وهذا ابنه عكرمة كاد يكون كأبيه ولكن أدركته رحمة رب العالمين سبحانه.
فركب البحر فاراً من النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطيق أن يكون في مكان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ركب وعلت الأمواج وقال ربان السفينة: إنه لا ينفعكم ولا ينجيكم إلا الله، فإذا به يتدبر في الأمر ويتفكر: إذا كان لا ينجينا في البحر إلا الله فلا ينجينا في البر إلا الله.
فلا يستحق أن يعبد إلا الله، وأخذ على نفسه عهداً لئن أنجاه الله عز وجل ليذهبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليبايعنه، وليجدنه رءوفاً رحيماً، فكان أن أنجاهم الله، وذهب عكرمة للنبي صلى الله عليه وسلم، وسلم عليه بالإسلام وأسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.(200/4)
تفسير قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم)
قال سبحانه في الكثيرين من هؤلاء: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] إذا هم يدعون غير الله سبحانه، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66] واللام هنا إما لام كي أي: لكي يكفروا، يشركون لكي يجحدوا ربهم سبحانه ويعبدوا غيره، {وَلِيَتَمَتَّعُوا} [العنكبوت:66] لكي يتمتعوا بهذه الدنيا الحقيرة باللهو واللعب، ثم يرجعون إلى الله.
وإما أن اللام لام العاقبة، ويكون معنى: (ليكفروا بما آتيناهم): يشركون لتكون العاقبة كفرهم بالله سبحانه وتعالى، وتمتعاً قليلاً ثم يصلون إلى النار بعد ذلك.
وإما أن اللام لام الأمر، وكسرت وقرئت أيضاً بالسكون على أنها لام الأمر، فقرأها بالكسر قالون عن نافع، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف: (ولْيتمتعوا) بالسكون، وبقية القراء قرءوها بالكسر مثل قراءة حفص عن عاصم، وقراءة ورش عن نافع: (ولِيتمتعوا فسوف يعلمون) بالكسر.
فعلى قراءة السكون تكون بمعنى: التهديد من الله، مثل قوله سبحانه وتعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] فليس المعنى التخيير أي: الذي تريدونه اعملوه، بل هذا تهديد، أي: اعمل وستعرف بماذا أجازيك، فهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه.
كذلك على قراءة الكسر يأتي فيها ذلك المعنى؛ لأن أصل لام الأمر السكون، فعلى ذلك يكون المعنى حتى في الكسر أيضاً التهديد من الله عز وجل لهؤلاء: (ولِيتمتعوا فسوف يعلمون) فسوف يعلمون ماذا سيحدث لهم في الدنيا وفي قبورهم ويوم القيامة يوم يبعثون.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(200/5)
تفسير سورة العنكبوت [65 - 69]
يحفظ الله عباده ويغيثهم عند الشدائد، ومع ذلك يشركون به سبحانه في الرخاء، ويحذر الله من كفرهم وضلالهم وتكذيبهم للحق وافترائهم عليه سبحانه بالكذب، والجهاد في الله ومن أجل الله سبب في معية الله وهدايته عبده المحسن إلى طريق الرشاد.(201/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فسوف يعلمون)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في آخر سورة العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:65 - 69].
في هذه الآيات الأخيرة من سورة العنكبوت يخبرنا الله عز وجل عن عظيم فضله على عباده، أنه هو الذي خلقهم وأنه هو الذي رزقهم، وأنه هو الذي نزل لهم من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها، وأنه هو الذي ينجيهم في البر والبحر، فإذا ركبوا في الفلك فارتفعت عليهم الأمواج، وهاجت بهم الرياح، فلا يجدون ملجأً من الله إلا إليه، فيدعون الله مخلصين له الدين، متجردين له وحده لا شريك له بالعبادة، ويتركون آلهتهم والأنداد التي اتخذوها من دون الله عز وجل، ويتوجهون إليه وحده بالعبادة، فيدعونه مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر يرجعون مرة ثانية إلى شركهم بالله سبحانه، فليفعلوا ذلك، قال الله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66].
وهذا تهديد ووعيد من الله سبحانه لهؤلاء الكافرين، فهو يقول لهم: اكفروا بما شئتم، وتمتعوا بما شئتم، وانتظروا ما يأتيكم به الله عز وجل من عذاب فسوف تعلمون.
وهذه الآية قد تكرر معناها في القرآن ثلاث مرات، فقد قال الله تعالى في هذه السورة سورة العنكبوت: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66]، وقال الله عز وجل في سورة النحل وفي سورة الروم: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل:55]، فالله عز وجل يقول للكفار: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:66]، أي: تمتعوا بما شئتم في هذه الدنيا، فإنها لا قيمة لها، فلو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، فمن الأشياء التي يحسدهم عليها الناس، أن أعطاهم الله من المال وأعطاهم من النعم، وأعطاهم من البنين، وأعطاهم من القوة في أجسادهم، وأعطاهم من الثياب والرياش، وأعطاهم ما يتنعمون به، وهذا دليل على أن الدنيا حقيرة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطى هؤلاء منها شيئاً.(201/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً)
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} [العنكبوت:67]، أي: هؤلاء الكفار، ألم يروا آية من آيات الله عز وجل فيهم وفي بلدتهم مكة تدلهم على ربهم وخالقهم سبحانه، مقدر الأقدار الذي يكفرون به ويشركون به، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت:67]، لماذا جعل الله مكة وحدها آمنة وكل الناس من حولهم يتخطفون؟ من الذي جعل هذا البلد بلداً آمناً؟ يأتي الناس إليه من كل مكان، ويحجون بيت الله سبحانه وتعالى، ويكونون آمنين وهم فيه، وفي رحلاتهم من بلادهم إلى الحرم لا يكونون آمنين، فإذا جاءوا إلى الحرم أمنوا، وقد يلقى الرجل قاتل أبيه وقاتل أخيه في الحرم ولا يتعرض له بشيء، كل هذا في الجاهلية، وهذا تحريم قدري من الله سبحانه وتعالى.
أليست هذه آية من الآيات التي تدلهم على نعم الله عز وجل عليهم، فأنتم في بلادكم في أمان، ومن يأتي إلى بلادكم يستشعر فيها الأمان، فإذا خرجوا من عندكم يتخطف الناس من حول هذا البلد العظيم، أو من حول سكان هذا البلد.
والخطف: هو الأخذ بسرعة، فالناس من حولهم يتخطفون بالقتل والغصب وغير ذلك، ويؤخذون، وكانت عادة العرب الإغارة، أي: أن يغير بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ولا يهتمون لذلك، فهم معتادون على هذا الشيء.
فإذا جاءت الأشهر الحرم كفوا وسكتوا وانتظروا حتى تمر الأشهر الحرم، ولعلهم يتعجلون خروج هذه الأشهر الحرم فيغيرون أسماءها، فإذا جاء عليهم شهر محرم فلا بد أن يحرموا، وشهر محرم بعد ذي القعدة وذي الحجة، فيقولون: نلغي المحرم في هذه السنة، ونجعل اسمه صفراً، فيسمونه صفراً؛ ليغير بعضهم على بعض، ومن أجل أن يقاتل بعضهم بعضاً، ويأخذوا أموال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض فيه، أما في مكة فلا أحد يجرؤ أن يفعل ذلك، وقد رأوا آيات الله سبحانه، ومن أعظم ما رأوه حين جاء أبرهة من اليمن إلى مكة ليهدم الكعبة، ومعه الفيلة يريد بها هدم الكعبة بيت الله سبحانه وتعالى، فأرسل الله عليه وعلى جيشه طيراً أبابيل، قال تعالى: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:4 - 5].
وقد رأى أهل مكة ذلك؛ فخاف الناس كلهم من هذا المكان، وعرفوا أنه المكان الآمن، فهو بيت الله عز وجل، وأن له رباً يحميه، هذه الكلمة العظيمة قالها عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبرهة، فقد قال له: جئت أسأل عن إبلي، أما البيت فله رب يحميه، أي: لن تستطيع أن تعمل شيئاً في هدم البيت، ومن الممكن أن تفعل في إبلي ما تشاء؛ ومن أجل هذا جئت أطلب إبلي التي أخذتها، أما البيت فلن تقدر عليه.
وأخذ إبله، وخرج أهل مكة ينظرون كيف سيدافع الله عز وجل عن حرمه وعن بيته، فزلزل الله أبرهة وجيشه وهزمهم سبحانه، بأن أرسل عليهم طيوراً ترميهم بحجارة من نار، فجعلهم كعصف مأكول.
قال الله سبحانه: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:67]، أي: بالشيطان، وبالكفر بالله سبحانه، وبما يشركونه بالله عز وجل من آلهة وأنداد، قال تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، أي: يكفرون بنعم الله عز وجل، والقرآن نعمة من الله عز وجل، والتوحيد، أن يعلمهم التوحيد ليكونوا من أهل الجنة نعمة من الله سبحانه؛ ولذلك أهل الجنة يقولون عن هذا الدين العظيم حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
فمنة من الله وكرم منه سبحانه أن يهدي العباد إلى جنته، قال سبحانه: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67]، هكذا ذكرت هنا، وفي النحل وفي غيرها قال الله تعالى: {وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72]، أي: أيكفرون بنعمة الله وينسون توحيده وشكره سبحانه؟(201/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت:68] كذب الكفار على ربهم سبحانه وتعالى، وزعموا أن هذا القرآن ليس كلام رب العالمين، إنما يعلمه بشر، وإنما يعلمه رجل باليمامة اسمه الرحمن، وإنما يعلمه رجل أعجمي، فكذبوا وافتروا على الله الكذب، وكذبوا على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولمَّا أخبرهم الله عز وجل عن هذا المكان الآمن، كيف أمنهم فيه، وجعل الناس من حولهم يخطف بعضهم بعضاً، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص:57]، كما في سورة القصص، فقال الله سبحانه: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:57 - 58].
فقد كذبوا بما يقوله الله سبحانه وتعالى، وقد أمنهم في ديارهم، فقالوا: سنتخطف من أرضنا، لا نستطيع أن نؤمن معك لكيلا نتخطف من أرضنا، وقد أخبرهم الله عز وجل بأنهم آمنون، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا))، فما الذي سيجعلكم تتخطفون من دياركم؟ وما الذي سيجعل الكفار يأتون إليكم إذا أسلمتم وأنتم في بلادكم؟ والله يدافع عن حرمه وعن بلده سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [العنكبوت:68]، فادعى لله الصاحبة، وادعى لله الولد، أو كذب بالحق وبالقرآن الذي جاء من عند رب العالمين، قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68]، فقوله: ((أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ))، استفهام، والمعنى فيه التقرير، أي: أنه فعلاً فيها، والمثوى: دار الإقامة، والمستقر أي: أليس في جهنم مستقر للكافرين؟ بلى، فيها المستقر للكافرين، يستقرون فيها ولا يخرجون منها أبداً، ولا يموتون ولا يحيون فيها، لا حياة كريمة، ولا موتاً يريحهم، وإنما العذاب الأليم.(201/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
أما المؤمنون الصالحون المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فقد مدحهم الله عز وجل في كتابه، وأعد لهم الجنات العظيمة كما تقدم قبل ذلك، وهنا يخبر بمعيته سبحانه لهؤلاء حيث يبين الله أنه مع هؤلاء المؤمنين المتقين المحسنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، أي: لنهدينهم طرق الحق، فمن جاهد في الله هداه الله عز وجل، ومن جاهد في الله ثبته الله عز وجل، ومن جاهد في الله علمه الله، من جاهد في الله كان محسناً، وكان الله معه سبحانه، قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فهو سبحانه يؤكد ذلك، فكن محسناً، والإحسان كما جاء في حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فإن لم تكن أنت ترى الله عز وجل فالله يراك، فلا بد أن تراقب الله سبحانه وتعالى، وتعبده كأنك تراه.
ففي هذه الآية قد أخبرنا الله أنه مع المحسنين الذين جاهدوا في الله عز وجل، فجاهد في سبيل الله حتى يهديك الله سبحانه، ويبين لك السبل، والجهاد جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الهوى، والجهاد في طلب العلم الشرعي، وجهاد الكفار والمنافقين، وكل بحسب ما يستحقه من نوع الجهاد.
وإذا اتقى العبد ربه وأحسن في عبادته لله، فإن الله عز وجل يكون معه.
ويقول تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
وجاء عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، فانظروا إلى الكلام العظيم الجميل للإمام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لقد كان عمر بن عبد العزيز من العلماء، ومع ذلك من تواضعه يقول: إنما قصر بنا ودفعنا إلى الجهل ومنعنا من العلم تقصيرنا في العمل.
وكان الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رضي الله عنه يقول: ما احتقرت نفسي عند أحد - يعني من العلماء - إلا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، هذا هو ابن شهاب الزهري الذي يقول علماء الحديث: حديث لا يعرفه الزهري فليس بحديث، فـ الزهري عالم عظيم من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أحفظ الناس وأتقنهم، ومع ذلك يقول: إنه لم يحقر نفسه عند أحد من العلماء أبداً، فكل العلماء يراهم دونه رضي الله عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فقد كان عمر بن عبد العزيز عالماً عظيماً، وكان إماماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيرى نفسه أنه أقل من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
إن عمر بن عبد العزيز حين توفي لم يتجاوز بضعة وأربعين سنة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومع ذلك كان الخليفة العادل الذي لم تشغله الخلافة عن العلم الشرعي، ولم يشغله شيء عن العلم الشرعي، وإنما تجرد لله سبحانه وتعالى، وعمل لله، فكان الخليفة الراشد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا -أي: الذي دفعنا للجهل ونحن لا نعرف مزيداً من العلم- قال: تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا.
إذاً: العلم ليس الحفظ والتحصيل فقط، بل العلم هو العمل به، فالإنسان يعمل بما علم، وكلما علم عمل بما علم، فالله عز وجل يفتح له علوماً أخرى غير التي عمل بها، فيقول عمر رضي الله عنه: لو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا الله علماً لا تقوم به أبداننا، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
يقول أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، والمعنى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، من نصروا دين الله عز وجل بكل وسيلة لنصر دين الله عز وجل، من جهاد بقوة وسلاح وسيف وسنان، ودعوة باللسان، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، يقول الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أي: أن أعظم شيء في الجهاد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفس في طاعة الله عز وجل، وهو الجهاد الأكبر، فالإنسان المسلم إذا جاهد نفسه استطاع أن يجاهد أعداءه، أما إذا كان لا يجاهد نفسه، وإذا كان يتبع هواه وشهواته، فإنه لا يقدر أن يجاهد أعداء الله سبحانه وتعالى.
أيضاً جاء عن سفيان بن عيينة، أنه وصى ابن المبارك رضي الله عنهما، فقال: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وابن المبارك وما أدراك من ابن المبارك رضي الله عنه! كان إماماً عظيماً عالماً فقيهاً محدثاً، عالماً بالقرآن، حتى قالوا: إنه كان إماماً في تسع عشرة خصلة من الخصال، فقد كان إماماً في الفقه، وإماماً في القرآن، وإماماً في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإماماً في العمل، وإماماً في الزهد، وإماماً في الحديث، وإماماً في أشياء كثيرة، رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكانت وصية سفيان بن عيينة لـ ابن المبارك نافعة له، يقول له رضي الله تبارك وتعالى عنه: إذا رأيت الناس قد اختلفوا، وأردت أن يوفقك الله للحق، فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور، أي: كن مع المجاهدين، وكن مع أهل الثغور، فالله يهديك لما يحبه سبحانه، وما اختلف الناس فيه، قال: فإن الله يقول: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع هؤلاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(201/5)
تفسير سورة الروم [1 - 3]
سورة الروم إحدى السور المكية التي تتميز بخصائص السور المكية، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن معجزات غيبية تحققت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد عهده، فهذا القرآن هو المعجزة الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل الزيغ والضلال معرضون عن ذلك.(202/1)
بين يدي سورة الروم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1 - 4].
هذه السورة الثلاثون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الروم، وسميت بسورة الروم؛ لأنه بدأ بذكر الروم فيها، قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ}، ثم ذكر أنهم سيغلبون بعد بضع سنين.
سورة الروم من السور المكية، وهي سورة عجيبة وفيها معجزة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، بل معجزات في هذه السورة العظيمة، وهي تحتوي على خصائص السور المكية من ذكر نبوءة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذكر توحيد الله سبحانه، وذكر من عبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وفيها ذكر نعم الله سبحانه وتعالى على العباد، وفيها مقتضى ربوبيته سبحانه وتعالى، وكيف أنه إذا أعطى العباد رحمة من عنده سبحانه إذا بالعباد يفرحون، وقد يصل بهم فرحهم إلى الفخر، وإلى الغرور والاستكبار، وإذا أذاقهم شيئاً من الضر إذا بهم يقنطون، فالإنسان عجيب في تقلبه بين حالة الفرح الشديد الذي يدعو إلى الزهو والخيلاء والاستكبار، فيبتعد عن عبادة الله سبحانه، وبين أن يقنط إذا جاءه شيء مما يسوءه.
ويذكر الله عز وجل في هذه السورة رزق الله سبحانه، وأنه هو الذي بيده الرزق، وأنه يقبض ويبسط سبحانه وتعالى، وفيها الحث على إيتاء ذي القربى حقوقهم واليتامى والمساكين وغير ذلك.
وفيها إشارة إلى تحريم الربا، فقال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39].
كذلك فيها بيان ربوبية رب العالمين سبحانه، وأنه الرب الذي يخلق، والذي يرزق سبحانه تبارك وتعالى، والذي يحيي، والذي يميت، والذي يبعث عباده سبحانه، قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40]، هل هناك شريك آخر يفعل مثل الذي يفعله الله سبحانه؟ حاشا لله سبحانه، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40].
كذلك يخبر سبحانه عن سبب استحقاق العباد لعقوبة رب العالمين سبحانه وتعالى، أنهم إذا كسبوا بأيديهم المفاسد ظهر الفساد فعم الجميع، واستحقوا عقوبة الله، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41]، فإذا اكتسب الناس السيئات استحقوا أن يعمهم الفساد ويأتيهم من عند ربهم العذاب، وفيها أيضاً الأمر بالتوجه إلى عبادة رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم:30]، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الروم:43].
وفيها الإشارة إلى اليوم الآخر، وأن الله سبحانه وتعالى يفصل بين العباد في هذا اليوم، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:45].
وفيها ذكر إرسال الرسل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، ففيها الوعد من الله سبحانه للمؤمنين بأن الله ينصرهم سبحانه، وأنهم مهما كانوا ضعفاء فلا بد أن يأتي عليهم وقت ينصرهم الله سبحانه، كما أن الأرض تكون ميتة، فينزل الله عليها الغيث فيحييها بعد ما يئس أهلها من ذلك، ولذلك يقول الله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [الروم:48]، ثم قال: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم:50]، فإذا أحيا الأرض بعدما كنتم تتوقعون أن لا حياة بها، وأنها لا تحيا، فكذلك قد يأتي على المسلمين زمن فيه شدة، وفيه تعذيب، وفيه ضيق، فإذا بالله ينزل رحمته، كما ينزل الغيث على الأرض فيحييكم، ويردكم قاهرين غالبين بعدما كنتم مهزومين مغلوبين.
كذلك أشار الله عز وجل في هذه السورة إلى ضعف الإنسان ومراحل عمره، فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54]، سبحانه وتعالى {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
كذلك أشار إلى ما يكون يوم القيامة من وقوف المجرمين بين يدي رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم:55]، ثم ذكر الله سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع الظالمين اعتذارهم ولا عتبهم.
كذلك يخبر الله سبحانه أنه في هذا القرآن العظيم ضرب الأمثلة للناس لعلهم يتذكرون بهذه الأمثلة، ولكن من طبع الله على قلبه لا يفيق ولا يرجع ولا يتذكر.
ثم أمر نبيه صلوات الله وسلامه عليه بالصبر على ما هو فيه هو والمؤمنين، قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60].
فهذه العبر الموجودة في هذه السورة تبين لنا أن هذه السورة فيها تصبير للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ما هم فيه من أذى هؤلاء الكفار، والسورة ستون آية، والبعض يعدها تسعة وخمسين آية؛ والخلاف في العد كما ذكرنا قبل ذلك مبني على معرفة وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وأين وقف صلى الله عليه وسلم؟ فبحسب قراءته صلى الله عليه وسلم ووقفه يعدون رأس الآية، فيقولون: هذه الآية الأولى، هذه الثانية، هذه الثالثة، ولذلك لا يوجد خلاف إلا في مواطن، فالبعض عدها آية، وجعل الوقف عليها رأس آية، والبعض لم يعدها، والخلاف في العد في خمس مواطن في هذه السورة.
في الموطن الأول: {الم} [الروم:1]، هذه عدها البعض آية، والبعض عدها تابعة للآية التي تليها، فممن عدها آية: الكوفيون، فيقرءون: {الم} [الروم:1]، ويقفون، على أنها رأس آية، {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، وغيرهم يقرءون: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:1 - 2]، على أن الآيتين آية واحدة، فهذا من الخلاف فيها.
كذلك في قوله سبحانه: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2]، البعض عد الوقف عندها آية، والبعض الآخر يعدها تابعة لما قبلها.
كذلك في قوله: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، عند المدني الآخر وكذلك عند الكوفيين أنها ليست آية، ولكنها وقف، وعند غيرهم أنها آية، فيقفون عليها: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4].
كذلك قوله سبحانه: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، عدها الكوفيون آية، وغيرهم يعدونها أنها ليست آية وهي مما بعدها.
كذلك قوله سبحانه: {يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، البعض يعد هنا الوقف على أنها آية، والبعض لا يعدها آية، والغرض أن الوقف الذي وقفه النبي صلى الله عليه وسلم في أماكن فبناء على سماعهم من النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه البعض عد هذه آية، والبعض عدها أنها آية مع الذي يليها.(202/2)
تفسير قوله تعالى: (الم.
غلبت الروم)
السورة بدأها الله عز وجل بقوله: {الم} [الروم:1] أي: هذه الحروف من اللغة العربية التي تقرءونها، والتي تكتبونها، والتي تقولون بها خطبكم وشعركم ونثركم، فإن هذا القرآن من هذه الحروف، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، أي: هاتوا مثل هذا القرآن، فالقرآن لم نأت به بحروف أعجمية، بل هو من حروف تقرءونها وتكتبونها.
قال تعالى: {الم} [الروم:1]، ففيها التحدي من الله عز وجل لعباده، هاتوا مثل هذا القرآن من مثل هذه الحروف.
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:2 - 4]، وقال تعالى في سورة يوسف: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، فالله يطمئن المؤمنين أن الظلم وإن استمر فترة فإنه ينتهي، ولابد أن يأتي نور الله سبحانه وتعالى وعدله وحكمه سبحانه وتعالى.
وفي هذه الآية معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء سيكون، وقد كان عند الناس بالمعايير البشرية وبالمقاييس التي هم فيها مستحيل أن يحدث هذا الشيء، والله عز وجل يخبر في وقت ضيق المسلمين أن هذا سيحدث ولن يكون بعيداً، بل سيكون في بضع سنين! قال تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: يفرح المؤمنون بنصر الله، فالمؤمنون كانوا مضطهدين من قبل أهل الشرك، فأهل مكة كانوا مشركين، وكانوا يضطهدون المسلمين، ويؤذونهم ويعذبونهم، فكان المسلمون ينتظرون فرج الله سبحانه وتعالى ونصره، وقد أراهم الله عز وجل واقعةً بين الدولتين العظميين اللتين كانتا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دولة الفرس ودولة الروم، فقد جارت دولة الفرس على دولة الروم فإذا بهم يغلبونهم ويهزمونهم هزيمة منكرة، وكانت هزيمة فظيعة للروم، وكان الروم أهل كتاب نصارى، أما الفرس فقد كانوا عباد النيران؛ لذلك كان ميل المشركين من قريش إلى الفرس؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام والفرس يعبدون النيران، فالأمر قريب من بعضه، فكلهم يعبدون غير الله، فلذلك فرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم مثلهم لا كتاب عندهم من رب العالمين، ففرحوا وأغاظوا المسلمين، وأخبروا المسلمين أنهم وثنيون، وسينتصرون عليهم وإن كانوا هم أهل كتاب، كما انتصر الفرس وهم وثنيون على الروم وهم أهل كتاب، فأنزل الله آيات يطمئن فيها المؤمنين أن ذلك لن يدوم، إنما هي سنون قليلة، وتنتصر الروم على الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ونزل القرآن بهذا المعنى بقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2 - 4]، أي: في بضع سنين وسينتصر الروم مرة ثانية.
فإذا بالمشركين يستهزئون بذلك، كيف ينتصر الروم وقد هزموا؟ وكانت المعايير الموجودة والمقاييس البشرية أن هذا مستحيل أن يحدث، كان هذا الكلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الزمن المكي سنة ستمائة وعشرين ميلادية، ففيها هزمت الروم على أيدي الوثنيين أهل الفرس عباد النيران، وكانت الخسائر جسيمة جداً على الروم جراء هذه الهزيمة، حتى قالوا: لن تقوم لدولة الروم قائمة بعد ذلك، فإن الفرس أخذوا أطرافاً من بلاد الروم، وقد أغار على الروم أناس من الشمال أيضاً يقال لهم: الآفار والسلاف واللمبارديون وغيرهم، وكأن الدنيا كلها تكالبت على الروم، فلذلك قالوا: لن تقوم للروم قائمة بعد ذلك.
فجمع الروم الأموال للدفاع عن أنفسهم فقط وليس للغزو، فقد جمعوا كل الأموال الموجودة في مملكة الروم للدفاع عن أنفسهم، فوصل الأمر بهم إلى أخذ كل الأموال التي مع الناس، ومع ذلك لم تكف هذه الأموال للدفاع ولشراء العدد، فجمعوا الذهب والحلي والبرنز ليصيغوه أموالاً ينتفع بها الجيش للدفاع عن أنفسهم، حتى لا تضيع دولة الروم، وفي هذا الوقت الذي استشعر فيه الروم أنهم ضائعون وأن البلاد ضائعة يخبر الله المؤمنين أن دولة الروم لن تضيع، بل سيغلبون في يوم من الأيام، فانتظر المؤمنون ذلك؛ لأن الروم أقرب إليهم من هؤلاء المشركين، فبذلك قال الله عز وجل للمؤمنين أنه: {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:3 - 4].
ثم بعد ذلك سيفرح المؤمنون بنصر الله سبحانه وتعالى، فأنجز الله عز وجل وعده يوم بدر بنصر المسلمين، وانتصر الروم في هذا اليوم على الفرس نصراً عجيباً جداً، فالله سبحانه إذا أراد شيئاً لا أحد يستطيع رده ومستحيل أن أحداً من الخلق يمنع ما يريده الله سبحانه وتعالى.(202/3)
ذكر ما جاء من قصة اختلاف كسرى مع قادته وأسباب هزيمته
أرسل ملك الفرس إلى بلاد الروم أخوين من القادة العظام الذين عنده لقتال الروم، ولما وصلوا إلى بلاد الروم وفعلوا بهم ما فعلوا إذا بأحدهما يرى في المنام أنه جالس على سرير كسرى، فشاعت الرؤيا بين الناس، حتى وصلت إلى الملك، فأراد كسرى قتل هذا القائد الذي رأى هذه الرؤيا خوفاً على ملكه، فأرسل إلى أخيه قائد الجيش أن يقتل أخاه، فرفض ذلك، فبعث له رسالة ثانية: اقتل أخاك! فرفض، وبعث له رسالة ثالثة فإذا به لا يفعل ذلك، فعزله الملك، وولى مكانه أخاه الآخر الذي كان قد أمر بقتله قبل ذلك، وأرسل إليه الملك رسالة أن اقتل أخاك، وكاد يفعل ذلك، لولا أن أخاه أراه الرسائل الثلاث وقال: يرسل إليك الملك بقتلي وأنا أخوك، وتريد أن تنفذه، وقد أرسل إلي من قبل بثلاث رسالات يأمرني فيها بقتلك، فلم أفعل، فلما نظر في الأمر وجد أن ذلك صحيح، وعرف أن الملك يريد الوقيعة بينه وبين أخيه، وأنه يريد بهما شراً، فلم يفعل وعصى الملك وأخذ يتفاوض معه، ولحقت الهزيمة بالفرس، ولا يتوقع الإنسان مثل ذلك، فإن ذلك شيء عجيب جداً! فإذا بالروم يجتمعون لقتال كسرى، وهزموه ومن معه، وهذا تدبير رب العالمين سبحانه، إذ انهزموا كما أخبر الله سبحانه وتعالى في فترة يسيرة، قال تعالى: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، ولم يجعل الله الأمر مفتوحاً، بل قال لهم: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، والعرب عندهم (بضع) ما بين الثلاث إلى التسع، {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4].(202/4)
مراهنة الصديق المشركين على انتصار الروم قبل تحريم الرهان
لما سمع المشركون قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2 - 3]، استهزءوا بذلك، وذهبوا إلى أبي بكر الصديق يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: صاحبك يقول: إن الروم ستغلب، فإذا بـ أبي بكر يبادر بالتصديق رضي الله عنه، وقال: أراهن أنه سيحدث ما قال الله سبحانه، في وقت لم يكن الرهان محرماً، فـ أبو بكر الصديق حسب أنهم سيغلبون في بضع سنين كما قال الله سبحانه، فاتفقا على ذلك، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن البضع ما بين الثلاث والتسع، وأمره أن يزيد في المدة ويزيد في الرهان، وفعلاً ذهب وزاد في المدة، ووقع ما قاله الله سبحانه وتعالى، وانتصر الروم على الفرس في الوقت الذي انتصر فيه المسلمون في يوم بدر على المشركين! وكان نزول هذه الآيات في مكة قبل هجرة المسلمين ثم هاجر المسلمون، والذي راهن أبا بكر هو أبي بن خلف قال أبي بن خلف: إن غلبت الروم الفرس فأنا أدفع لك كذا، فكان الاتفاق على خمس من البعير أو نحو ذلك، ولما أراد أبو بكر الصديق أن يتوجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جعل الرهان مع أحد أبنائه، وحدث بعد ذلك أن غلبت الروم الفرس فإذا بـ أبي بكر يكسب هذا المال الذي راهن به ويتصدق بهذا المال، ويحرم الله عز وجل المراهنة بعد ذلك.
ففي هذه الآية معجزة من المعجزات وهو الإخبار بالغيب ثم وقوعه كما قال الله سبحانه وتعالى، فلم يكن في حساب الناس أن الروم ستقوم دولتها مرة أخرى إلا بعد مائة سنة، ولكن الله سبحانه وتعالى حقق هذا الشيء المستحيل عند البشر {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4]، فكان ذلك بعد سبع سنوات مما ذكره الله عز وجل، بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فمن معجزات القرآن الإخبار بالغيب، إذ تحقق على النحو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى.(202/5)
المعجزة المستنبطة من قوله تعالى: (في أدنى الأرض)
قال عز وجل: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، قالوا: هذه أيضاً معجزة أخرى من معجزات القرآن العجيبة، فالأولى معجزة إخبار بغيب، والقرآن معجزة رب العالمين، في صياغته وإتقانه؛ لذلك الكفار لم يقدروا أن يأتوا بمثله، وتشريع القرآن معجز، ولا يقدر أحد أبداً أن يأتي بتشريع مثل تشريع رب العالمين سبحانه وتعالى أو يدانيه، كذلك في القرآن وجوه إعجازية، وإخبار بمغيبات، لم يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقرأ كتب أهل الكتاب، وهو الأمي صلى الله عليه وسلم، فكان يخبر بأشياء لا يعرفها أهل الكتاب، ويعجزهم بذلك.
ومن إعجازه أيضاً: ما ذكره علماء الأرض والجيولوجيا، قالوا: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3]، لها معنيان: معنى الدنو أي: القرب، فالمعركة التي وقعت بين الروم والفرس كانت في فلسطين عند البحر الميت، وفي نفس المكان انتصر الروم على الفرس بعد ذلك.
فمفهوم قوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3] أي: في أقرب الأرض إلينا، فبلاد الفرس شاسعة في الشمال، وبلاد الروم شاسعة في الشمال وفي الغرب، فأدنى الأرض إلينا فلسطين، فكانوا يفهمون المعنى على ذلك، وهو معنى صحيح، ولكن الآية أشارت إلى شيء آخر، وهو أن الدنو يأتي بمعنى: الشيء الأسفل، فقوله تعالى: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3] أي: في أسفل الأرض، وأخفض منطقة من الأرض، فلما بحث علماء الأرض هل المكان الذي حدثت فيه هذه الحرب كانت فعلاً أخفض الأرض كما ذكر الله سبحانه؟ قال الشيخ الزنداني: التقيت مع أحد من أساتذة علوم الجيولوجيا في أمريكا اسمه: البروفسور ظلمة وهو من كبار علماء الجيولوجيا في أمريكا، جاء زيارة ومعه نموذج للكرة الأرضية بها تفاصيل لارتفاعات ولانخفاضات وأعماق البحار، كله مبين بالتضاريس، ومحسوب بالمتر.
فسأله الشيخ عبد المجيد الزنداني: ما هي أخفض مناطق الأرض؟ إن الله سبحانه وتعالى يقول: {فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:3]، وهي المنطقة التي حصلت فيها الحرب بين الروم وبين الفرس، فهي أخفض منطقة على الأرض، فإذا بالرجل يعاند؛ لأنه لم يسمع القرآن من قبل وقال: المناطق المنخفضة في الأرض كثيرة، فهناك منخفضات موجودة في هولندا، ومنخفضات موجودة في أمريكا، ومنخفضات موجودة في كذا، وحاول أن يفهمه أن هذا المكان ليس أخفض مناطق الأرض.
قال الشيخ عبد المجيد: واستغرب الرجل حين قلت مرة أخرى: أنا متأكد مما أقول، إن هذه أخفض منطقة في الأرض، فإذا بالرجل يخرج نموذج الكرة الأرضية التي معه، وأخذ يتتبع ما فيها من تضاريس، فوجد سهماً موجوداً على فلسطين، على مكان البحر الميت فقال: إنها فعلاً أخفض منطقة على سطح الكرة الأرضية، قال الشيخ عبد المجيد: أدار هذه الكرة الأرضية التي فيها الارتفاعات والانخفاضات بسرعة، فلما أدراها على منطقة بيت المقدس وعلى المنطقة التي حولها وجد سهماً طويلاً خارجاً من المنطقة، ومكتوب بخط واضح أخفض منطقة في العالم! فقال الرجل: صحيح، الأمر كما قلت: إنها أخفض منطقة في الأرض! هذه المنطقة موجودة تحت سطح البحر بحوالي ثلاثمائة وخمسة وتسعين متراً تحت سطح البحر، وهي المنطقة الوحيدة في العالم الذي تصل لهذا الدنو، ولهذا السهل من سطح البحر! وهذه معجزة أخرى في كتاب رب العالمين سبحانه.
والمعجزة الأولى قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، فأشار إلى أنهم سيغلبون بعد ذلك فكان الأمر على ما ذكر سبحانه وتعالى.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا وأن يفقهنا فيه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(202/6)