مقدار الجلد في حدي الزنا والقذف
لقد نص الله تعالى على عدد الجلد في الزنا والقذف، ففي القذف ثمانون جلدة، والقاذف هو الذي يرمي رجلاً أو امرأة بالفاحشة، ويجلد القاذف الحد المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل، وهو ثمانون جلدة، وأما الزاني غير المحصن سواء كان رجلاً أو امرأة فيجلد مائة جلدة.(64/6)
الأقوال في مقدار الجلد في حد شارب الخمر
لقد ثبت التوقيف في الخمر على ثمانين جلدة من فعل عمر رضي الله تعالى عنه، وقد كانوا قد اختلفوا كم جلد النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر، فقيل: جلد أربعين وقيل: ثمانين، وقد ورد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب الخمر فأمرهم بضربه، فقال: قوموا له، فقاموا له، قال الراوي: فمنا الضارب بسوطه، ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه).
فقوله هنا: (قوموا له) خطاب لفضلاء الصحابة ليفعلوا ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً، فلو فعل أحد منهم شيئاً فيه ضرر بالمجلود فالله سبحانه وتعالى سيطلع النبي صلى الله عليه وسلم أن فلاناً تعمد أن يفعل كذا.
فلا يعقل أن يترك هذا الأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فيقال: قوموا له، فيأتي بعض الناس ممن بينه وبينه عداوة فيقوم يضربه بشيء يقتله، فلكي لا يكون مثل ذلك فإن الحد لا يترك لآحاد الناس أن يقيموه، وإنما الحاكم يوكل من يقيم هذا الحد كجلاد يكلف بذلك ويقوم به في مشهد من فضلاء الناس؛ حتى يعرف أن هذا لم يقتله بالحد الذي يقام عليه.
فلذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإقامة هذا الحد، وتتابع الصحابة أنه يقام الحد في شرب الخمر بثمانين جلدة.
يقول ابن العربي المالكي: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر، ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة، فيزاد الحد لأجل زيادة الذنب.
والأصل في الحد ما جاء في الشرع في كتاب الله عز وجل، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة خلاف الأصل، إلا أنهم قد استدلوا على هذه الزيادة بما وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها في الثانية فاجلدوه، فإن شربها في الثالثة فاجلدوه، فإن شربها في الرابعة فاقتلوه)، فالإنسان الذي لم يزجر مع تكرار الجلد فقد يصل الأمر به في النهاية أن يعزر بالقتل؛ فلذلك قالوا: إنه إذا احلولت له المعصية فيزداد في الحد، وقد أتي عمر رضي الله تعالى عنه بسكران في رمضان، -ومعلوم أن حد شرب الخمر إما أربعون وإما ثمانون- فقال عمر رضي الله عنه والصحابة: إن الحد ثمانون جلدة.
وكأنهم رأوا أن الذي يردع هذا الإنسان ثمانون، وهذا أقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً قاسه عمر رضي الله عنه على أقل الحدود وهو حد القذف؛ لأن الإنسان إذا شرب الخمر أصيب بالهذيان، ومن ثَم يقذف الناس، فلذلك جعلوا حد شرب الخمر كحد القذف، لكن الذي سكر في نهار رمضان، أمر عمر بضربه مائة، فكأن عمر نظر لحرمة اليوم فهو يوم من شهر رمضان، فأمر بعشرين جلدة زيادة تعزيراً، فحد الخمر ثمانون، وعشرون لهتك حرمة الشهر.
قال ابن العربي رحمه الله: فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وذكر أن رجلاً لعب بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط، فلم ينكر ذلك الإمام مالك حين بلغه.
وقوله: لعب بصبي كأنها مقدمات اللواط والعياذ بالله، فاللوطي حده الشرعي القتل سواء بالرجم أو بالضرب بالسيف، أو بحسب ما ذكر العلماء في ذلك، لكن الوالي هنا جلده ثلاثمائة جلدة، فلم يضربه ثمانين جلدة كما في حد القاذف، ولا مائة جلدة كما في حد الزاني غير المحصن، ومع ذلك لم ينكر الإمام مالك رحمة الله عليه، وكأنه رأى في هذا الباب أنه يقام عليه الحد ويعزر بأكثر من ذلك.
وقد صنع عمر في التعزير أكثر من ذلك، فإنه قام شخص بتزوير خاتم عمر رضي الله عنه، وأخذ مالاً من بيت المال بتزويره لختم عمر رضي الله عنه، فأمر عمر بجلده مائة، فجلد مائة، ثم تركه في السجن إلى أن برئ من هذه الجلدات، ثم أخرجه وجلده مائة أخرى، ثم أدخله السجن حتى برئ، ثم أخرجه وجلده مائة ثالثة، فدل ذلك على أن الإنسان يؤدب بالشيء الذي يردعه في باب التعزيرات، وقد يصل أحياناً إلى أن يقتل إذا كان يستمرئ الذنب ويخشى الضرر على الناس منه، كمن يتاجر في الحشيش أو الأفيون، فإنه يوزع على الناس ما يؤذيهم، فقد يصل التعزير في مثله إلى أن يقتل.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حده شارب الخمر من حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وهو يتخلل الناس يسألهم عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان عنده فضربوه بما في أيديهم، قال: وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه التراب، فلما كان أبو بكر رضي الله عنه أتي بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين)، يقول الإمام الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فآتيه وهو في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه.
فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين، وتتابع الناس على ذلك أن شارب الخمر يجلد ثمانين جلدة.(64/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)
قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، فقوله سبحانه: {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2] الخطاب هنا للمؤمنين، وهذا فيه تهييج داعي الإيمان في القلوب، كما تقول لإنسان: إذا كنت رجلاً فتعال لي، مع أنه رجل أمامك وليس امرأة، ولكن تريد تهييجه ليفعل ذلك.
فكذلك هنا الله عز وجل كأنه يقول: إن كنتم مؤمنين فافعلوا ذلك، فكل إنسان يخشى أن يسلب منه هذا الإيمان إذا ترك أمر الله سبحانه وتعالى، فإنه يفعل ما أمر الله عز وجل به من إقامة هذا الحد.
قوله: ((وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ))، قراءة الجمهور: ((رَأْفَةٌ)) بتسكين الهمزة، وأما قراءة ابن كثير (رَأَفَةٌ في دين الله) بفتح الهمزة.
والرأفة هي الرحمة، وهي أرق الرحمة، والمعنى: لا تأخذكم بهما رقة وأنتم تفعلون ذلك، فلا تخففوا الضرب من غير إيلام؛ لأن الله سبحانه هو أولى بالرحمة منكم إذا كان هذا يستحق الرحمة، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، ثم قرأ: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (حد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً)، والمطر أربعين صباحاً يأتي بالبركة من السماء، فإقامة الحد سبب في نزول البركات من السماء؛ لأن الحد فيه أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفيه ردع لأصحاب المعاصي عن معاصيهم، وفيه أن أخذ الناس لحقوقهم بإقامة الحد، فمن حُدّ في الدنيا سقط عنه العذاب يوم القيامة، وكذا الإنسان إذا ظلم بأن قذفه آخر أخذ حقه بأن يقام على الظالم حد القذف مثلاً.
إذاً: إذا وجد شرع الله عز وجل بين الناس في الدنيا وحكم فيما بينهم؛ فإنهم يستحقون الرحمة، ويستحقون أن يوصفوا بالإيمان، يقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، فإقامة الحدود دليل الإيمان والتقوى وتنزل البركات من السماء والأرض.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: ليشهد إقامة الحد عليهما طائفة من المؤمنين، وقالوا: لا يشهد التعذيب إلا من لا يستحق التأديب، أي: لا يشهد هذا الحد إلا من وصفهم الله عز وجل بأنهم من أهل الإيمان، فخرج بذلك الفساق.
كما أنه إذا كان الحاضرون من المؤمنين فقد يدعون الله عز وجل أن يتوب عليه، فيتوب الله عز وجل عليه، فلذلك قال العلماء: المقصود بذلك الإغلاظ على الزناة والتوبيخ بحضور الناس، وأن ذلك يردع المحدود، ومن شهده وحضره يتعظ به ويزدجر لأجله.(64/8)
تفسير سورة النور [2 - 5]
لقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم أسس وقواعد بناء المجتمع المسلم على تقوى الله عز وجل، وتنظيم حياته، وذلك أن القرآن الكريم هو دستور لحياة المسلم في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياته، وإن مما اهتم به القرآن الكريم الاعتناء بطهارة المجتمع ونظافته، ذلك أن المجتمع الطاهر النظيف تكون ثمرته طيبة؛ ومن أجل ذلك حرم إشاعة الفاحشة، وحرم الزنا، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم الكلام في أعراض الناس وقذفهم إلا بالبينة الشرعية الواضحة، وهذه الآيات تبين هذه الحقيقة وتوضحها، وتبين عاقبة المتعدي والمجترئ عليها.(65/1)
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5].
في هذه الآيات من سورة النور ذكر الله سبحانه حكم القذف بعد أن ذكر سبحانه حكم الزنا، فقد ذكر الزنا في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وذكر هنا الجلد، وأنه يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)، وهذا الحديث فيه زيادة حكم على ما في هذه الآية، فقد ذكرت الآية أن البكر -وهو الإنسان الذي لم يتزوج، أو المرأة التي لم تتزوج- إذا وقع أحدهما في هذه الجريمة فإنه يجلد مائة جلدة.
وقد جاء أيضاً الحكم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وزاد على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام).
إذاً: فينفى الزاني والزانية سنة من البلدة التي وقعت فيها هذه الجريم، فيجلدان مائة، ويغربان عاماً.(65/2)
الأمر بعدم التساهل في إقامة الحدود
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فلا تأخذ الذي يقيم الحد رأفة في دين الله عز وجل.
ومعنى ذلك: أنه يجلد الزاني جلداً يؤذي، ولا تأخذه رأفة في ذلك، وليس معنى ذلك أن يقتله بضربه.
وأيضاً من معاني {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور:2] ألا تقلل من الحد، كأن تضربه خمسين بدلاً من المائة، ولكن اضربه كما أمر الله عز وجل، والله أعلم بحكمه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {َلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: أنه لابد لإقامة الحد من أن يشهده طائفة من المؤمنين، فيعلمون أن هذا الذي يقام عليه الحد آثم، وأنه يستحق ذلك، ولعلهم يدعون له أن يغفر الله عز وجل له فيغفر له، وكذلك يشهدون ذلك حتى لا يكون الذي يقيم الحد يجلد جلداً يقتل معه مثلاً، فيكون هناك شهود على هذا الذي يقيم الحد.
وكذلك حتى لا يتهاون في ذلك فيقلل من الضرب مثلاً، فيكونوا شهوداً على ذلك أيضاً، وأيضاً حتى يشعر هذا الإنسان بالفضيحة عندما يرى الناس يشاهدونه وهو يضرب، فلعله يرتدع أن يقع في ذلك مرة أخرى.(65/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات فإن الله غفور رحيم)
ثم ذكر ربنا سبحانه حكم القذف فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] والمحصنات هن: النساء العفيفات المؤمنات، وأيضاً الرجال الأعفاء المؤمنون لهم نفس هذا الحكم بإجماع أهل العلم على ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، فأمر الأعراض ليس سهلاً، فليس من حق أحد أن يتكلم على آخر بأنه رآه يزني، ولو كان قد رآه وحده فشهادته غير مقبولة، فلا معنى لأن يقول: رأيته يزني إلا أن يجلد هو الحد، فإذا قال ذلك قلنا له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال بن أمية: (البينة على ما تقول وإلا حد في ظهرك).(65/4)
تشدد الشرع في أمر الأعراض
وقد جعل الله عز وجل أعراض الناس محترمة، ولا يجوز لإنسان أن يقع فيها ويؤذيها، فإذا فعل ذلك أقيم عليه الحد إذا كان قاذفاً، أو يعزر في ذلك إذا كان ساباً بغير القذف.
فالذين يرمون المحصنات لا بد وأن يأتوا بأربعة شهداء كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فحد القذف أقل من حد زنا البكر سواء كان رجلاً أو امرأة، وإذا كان الذي وقع في الزنا ثيباً من الرجال أو من النساء فيكون حده الرجم، وهو من أشد الحدود، فيرجم هذا الإنسان؛ لأنه قد تزوج وعنده ما يكف به نفسه، فكيف يذهب إلى حرمات المسلمين ويصنع ذلك؟ فلا عذر له، ولا يمهل، ولكن يقام عليه هذا الحد، وهو الرجم تطهيراً له، وتطهيراً للمجتمع أيضاً من مثل ذلك.
إذ أنه لو ترك الإنسان المتزوج يزني فإن كل إنسان سيجلس مع امرأته ومع الغريبة، فتنتشر المحرمات بين الناس، وتحل المصائب، ويستحق بها الناس حرمان البركات من السماء، فلأن يبتر هذا الإنسان من المجتمع أولى من حرمان المجتمع من بركات السماء؛ بسبب وجود مثل هذا الإنسان فيه.(65/5)
الأحكام المترتبة على القذف
قال تعالى مبيناً حكم القاذف: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
فذكر الله عز وجل أحكاماً على هؤلاء الذين وقعوا في جريمة القذف، وجريمة الوقوع في عرض إنسان، فقال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
والحكم الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، وهذه الأبدية مقيدة بالتوبة، فإذا تابوا بعد ذلك قبلت شهادتهم، ثم قال ذاكراً ما تبقى من أحكام: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5].
فالإنسان الذي وقع في القذف يستحق أن يوصف بأنه فاسق، والفاسق لا تقبل شهادته، فإذا شهد في المحكمة عند القاضي فإنه ترد شهادته؛ لأنه فاسق، وهذا القاذف قد يكون عند نفسه صادقاً، فقد يكون رأى شيئاً، ولكن الشريعة قيدت وكتفت هذا الإنسان من أن يتكلم بكل ما رأى، فلعله رأى شيئاً على غير حقيقته، أو لعله أخطأ في هذا الشيء، ولأن يخطئ في السكوت أفضل له من أن يخطئ في الكلام، فإذا تكلم أقيم عليه الحد بذلك.(65/6)
قصة قذف المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قذف مجموعة من الناس رجلاً من أفاضل الصحابة وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فقد قذفه أربعة، فشهد عليه ثلاثة، والرابع كاد ولم يفعل.
وهؤلاء الأربعة هم أبو بكرة وهو صحابي فاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه، واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة، وأخوه نافع بن الحارث بن كلدة، وشبل بن معبد، وزياد بن أبيه، فلما ذهبوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع منهم، فلما جاء الرابع وهو زياد قال عمر رضي الله عنه: أرى رجلاً لا يفضح الله أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على لسانه، فقال الرجل: أما الزنا فلم أر، قال: رأيت أمراً قبيحاً.
والظاهر أن هذا كان من باب النكاح الذي كان لا يجيزه عمر، وكأن المغيرة رضي الله تبارك وتعالى عنه -كما جاء في بعض الروايات الضعيفة التي توضح هذا الشيء- أنه لما كان والياً في أمر من أمور المسلمين تزوج هذه المرأة بهذه الولاية؛ لأنه كان أميراً، فكان هو بدلاً عن الولي فزوجها من نفسه؛ لأنه الأمير.
فلما تزوجها رآه هؤلاء وهو يأتيها وقد أصبحت امرأته، فرفعوا الأمر إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يروا أنه تزوجها، وعمر كان لا يجيز مثل هذا الزواج، وكان يسميه نكاح السر، ويقول: لو رفع إلي ذلك لرجمت فيه.
فكان المغيرة بين أمرين: إما أن يقول: تزوجتها واجتهدت في ذلك، وهنا يقول له عمر: لأرجمنك؛ لأن هذا ليس زواجاً على ما يختار عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وإما أن يسكت ولا يتكلم كما فعل هنا رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهؤلاء قالوا: إنهم رأوه يأتيها.
وقال الرابع: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا.
وحاشا له أن يزني رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه كان متأولاً في ذلك، ورأى أنه يجوز له أن يتزوجها من غير وليها لكونه أميراً.
والصواب: أنه ليس له ذلك، ولكنه اجتهد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلما شهد الثلاثة بذلك ولم يشهد الرابع وإنما قال: رأيت أمراً قبيحاً أما الزنا فلا، أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالثلاثة فأقيم عليهم الحد، ومنهم هذا الصحابي الفاضل أبو بكرة واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأما الرابع الذي قال: رأيت أمراً قبيحاً فلم يقم عليه الحد، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهؤلاء: توبوا وارجعوا عن ذلك، فأنا أقبل شهادتكم إذا تبتم ورجعتم عن هذا -وهذا بعدما أقام عليهم الحد، وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة-، فتاب اثنان ورجعا عما قالا، وأما أبو بكرة فقال: لا والله لا أرجع، ولقد رأيته، وقام يعيدها مرة ثانية، فأراد عمر أن يقيم عليه الحد مرة ثانية رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال علي بن أبي طالب -وهو فقيه رضي الله تبارك وتعالى عنه- لـ عمر: إن أقمت عليه الحد فارجم صاحبك.
يعني: إذا أردت أن تقيم عليه الحد فمعنى ذلك أنه قد كملت عندك أربع شهادات؛ لأنك جلدت هؤلاء الثلاثة، وستجلد هذا مرتين، فكأنه شاهد رابع، وقد قبلت أنه شاهد رابع، فقد أصبح الآن عندك أربعة شهود، إذاً: فارجم هذا الآخر، وأقم عليه الحد.
فلم يفعل عمر بن الخطاب لم يجلد ولم يرجم، وكان عمر بن الخطاب بعد ذلك لا يقبل شهادة أبي بكرة رضي الله عنه، ويقول له: تب فإذا تبت -يعني: رجعت وكذبت نفسك في هذا الذي قلته- قبلت شهادتك، فرفض هذا الشيء، وكان رجل عدلاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان إذا طلب للشهادة بعد ذلك يقول: لا تقبل شهادتي، ولا يؤخذ بشهادتي.
يعني: أن عمر قد رد شهادته، وأما هو عند نفسه فيرى نفسه صادقاً، وما كان يقول عن نفسه أنه: كذاب حاشا له أن يكون كاذباً رضي الله عنه، ولكنه أخطأ في التأويل.
فالمقصود: أن هؤلاء الثلاثة قد شهدوا، وأما الرابع فقال: رأيت أمراً قبيحاً، ومع ذلك لم تقبل هذه الشهادة، فإذا كان الشاهد واحداً فمن باب أولى له أن يسكت.(65/7)
قصة ماعز رضي الله عنه
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان يربي ماعزاً يتيماً في حجره، فلما كبر ماعز رضي الله عنه وتزوج وقع على امرأة أو على جارية من الحي، فذهب هذا الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن ماعزاً قد زنى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا هزال هلا سترته بثوبك).
يعني: كان الأولى بك أن تسكت من أن تفضح إنساناً لعله يتوب إلى الله عز وجل.
فهنا أمر بالستر على المسلمين، فلعل الإنسان الذي سترت عليه يستحيي من نفسه، ويرى أن الله قد ستره فيتوب، ولا يعود إلى هذا مرة ثانية، بخلاف الفضيحة، فإنه إذا فضح وتكلم الناس فيه فإنه يستسهل هذه الجريمة، وكثرة الكلام في هذا يسهل على الناس أن يتخيلوا هذه الجريمة واقعة، فإذا رأوها بعد ذلك سهل عليهم أن يسكتوا عنها، فتشيع بين الناس هذه الجريمة.(65/8)
النهي عن إشاعة الفاحشة
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وقد نزلت هذه الآية في قصة الإفك وفيما أشاعه أهل الإفك من الكلام عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور:19]، والمحبة أمر قلبي، فالذي يحب ويتمنى أن تشيع الفاحشة بين الناس له {عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] فكيف بالذي يفعلها؟ ومن إشاعة الفاحشة التكلم بها، فكثرة الكلام في الزنا يجعل الناس يتهاونون في أمره، فيسكت كل إنسان عما يراه، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر.
ولذلك كان من أول الأشياء في الكف عن ذلك إسكات ألسنة الناس عن الكلام في ذلك، فنهي أن يتكلم الإنسان في عرض أخيه المسلم ويقول: رأيت فلاناً يزني أو كذا، وشدد الله سبحانه وتعالى في ذلك فاشترط لقبول هذا القول أربعة شهود، ((فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكذابون)) أي: وهم الفسقة الذين ترد شهادتهم.
وقد قال العلماء في قول الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أنه يبقى مدة العمر إلى أن يموت لا تقبل شهادته، إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:5]، فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يعني: من هذا الذي وقعوا فيه، بأن يكذبوا أنفسهم في هذا الذي قالوه، ويرجعوا عن هذا الذي فعلوه أو قالوه، والله غفور رحيم.(65/9)
اختلاف العلماء في الاستثناء الوارد في الآية
وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أحكام، ثم جاء الاستثناء بعدها، فاختلف العلماء في عود هذا الاستثناء، وعلى ماذا يرجع؟ فإن الآية ذكرت: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فهذا هو الحكم الأول، والحكم الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4]، والحكم الثالث: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، ثم جاء الاستثناء {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5].
فاتفق العلماء على أن القاذف يجلد، وأن الاستثناء لا يعود إلى هذا الحكم، فإذا طلب المقذوف إقامة الحد على من قذفه فإنه يجلد ثمانين جلدة.
وأجمعوا على أن الاستثناء لا يرجع إلى الجلد، وأما الحكمان الباقيان {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] فالجمهور على أن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يرجع إليهما.
وقالوا: إن الأصل أنه إذا تعاقبت جمل وجاء شرط بعدها أو استثناء فإن هذا الاستثناء أو الشرط يعود إلى جميع الجمل.
وقال الإمام أبو حنيفة ومن وافقه: إن الاستثناء يعود إلى أقرب مذكور إليه.
فعلى قول الجمهور فالاستثناء يعود إلى الجميع، إلا أن الإجماع قد قام على أنه لا يعود إلى الجميع، بل لا بد من الجلد، وإنما يعود إلى الأمرين الباقين، وهما قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أي: فإذا تابوا فاقبلوا شهادتهم.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] أي: فإذا تابوا فلا يوصفون بكونهم فسقة.
وأما عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله فإن الضمير لا يعود إلا إلى قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]؛ لأن الضمير لا يعود إلا إلى أقرب مذكور، فإذا تاب إلى الله سبحانه فيرتفع عنه وصف الفسق فقط، وأما شهادته فلا تقبل أبداً عند أبي حنيفة فسواء تاب أو لم يتب فلا تقبل شهادته، وهذا باعتبار أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل فإنه يرجع إلى آخر جملة.
ومما احتج به الجمهور على أن الاستثناء يرجع إلى جميع ما سبق قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:33 - 34].
فذكر الله سبحانه وتعالى أنهم: {يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة:34] أي: فلا تفعلوا بهم ذلك، فعاد الاستثناء إلى جميع ما كان قبل ذلك في هذه الآية.
ولكن جاء في قتل المؤمن خطأً أن الله سبحانه وتعالى ذكر استثناء في النهاية فلم يعد هذا الاستثناء إلا إلى آخر مذكور، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92].
فذكر الله سبحانه وتعالى أن على القاتل خطأً دية مسلّمة إلى أهل المقتول، فقال: {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:92] أي: فمن لم يجد الرقبة المؤمنة فليصم شهرين متتابعين.
قالوا: فعاد الاستثناء إلى آخر جملة باتفاق.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/10)
تفسير سورة النور الآية [3]
يخبر الله تعالى أنه لا ينبغي للزاني أن يتزوج بامرأة عفيفة إلا إذا كان قد تاب وظهرت توبته، وكذلك لا يجوز للزانية أن تتزوج بعفيف، وإنما تتزوج بمثلها، والتزوج من الزانية المشركة يحرم باتفاق، وأما الزانية المسلمة فيحرم التزوج بها إذا لم تتب, وهذا باتفاق أيضاً.(66/1)
تفسير قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
لما حرم الله عز وجل الزنا، وحرم الوسائل التي تؤدي إليه من النظر واللمس وغير ذلك، ذكر هنا شيئاً آخر من الأحكام الشرعية التي تجعل الإنسان يبتعد عن أمر الزنا، ويبتعد عن الزناة.
قال سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} قال المفسرون: صيغة الخبر هنا في قوله: {لا يَنكِحُ} بمعنى النهي، فهذا نهي للإنسان أنه يتزوج بامرأة زانية، وكذلك المرأة العفيفة لا تتزوج الرجل الزاني، فالزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، فلا يتزوج إلا بمثله.
ويأتي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى وهو قوله: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله)، وفي رواية في سنن أبي داود: (لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله)، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أن يتزوج الزاني المجلود الذي لم يتب إلا من كان مثله، أو أن العادة أنه لا يتزوج الزاني إلا بامرأة توافقه على ما كان فيه من الباطل والمحرم.(66/2)
أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)
اختلف العلماء في معنى هذه الآية، ويذكر الإمام القرطبي ستة أوجه من أوجه التأويل: الوجه الأول: أن مقصد الآية تشنيع الزنا وتبشيع أمره، وأنه محرم على المؤمنين، كأنه في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3] أي: وحرم الزنا على المؤمنين.
قال: وهذا معنى حسن بليغ، واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ.
فقوله سبحانه: ((لا يَنكِحُ)) أي: لا يطأ ولا يواقع ولا يزني إلا بمن توافقه، فإن كانت مسلمة فقد اتصفت بصفة رذيلة وهي أنها زانية، أو أن التي توافقه على ذلك تكون من المشركات.
والعكس: فالزانية لا يطأها في حال زناها إلا إنسان زانٍ، فإن كان مسلماً فقد اتصف بهذا الوصف الرذيل: أنه زان، أو لا يطأها إلا إنسان مشرك يستبيح ذلك الفعل، {وَحُرِّمَ ذَلِكَ} [النور:3] أي: وحرم الزنا على المؤمنين، هذا هو القول الأول من كلام أهل العلم.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه أنهم قالوا: النكاح في هذه الآية بمعنى الوطء، وإن كان النكاح يأتي في القرآن بمعنى العقد، وذهب بعض أهل العلم إلى أن جميع ما جاء في القرآن من نكاح فإنه بمعنى العقد، ورجح ذلك الإمام الزجاج من أئمة اللغة، وقال لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، أي: بمعنى عقد الزواج.
وقال ذلك أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يعرف النكاح في كتاب الله عز وجل إلا بمعنى العقد، وهذا القول فيه نظر، فصحيح أنه قد جاء في القرآن قوله الله عز وجل: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهذا فيه معنى العقد، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تبيين النكاح بأنه الوطء والعقد وليس مجرد عقد الزواج، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طلقها زوجها ثلاثاً ثم تزوجت غيره، وأرادت أن ترجع إلى الأول، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) فهنا مجرد تزوجِّها من إنسان آخر والعقد عليها لا يبيح لها أن ترجع إلى الأول حتى يطأها هذا الثاني، فجاء في القرآن النكاح بمعنى الوطء، كما جاء في القرآن بمعنى العقد.
فعلى ذلك قول ابن عباس هنا في قوله: {الزَّانِي لا يَنكِحُ} [النور:3] أي: لا يطأ، بمعنى أنه لا يزني إلا بزانية مثله أو مشركة تستبيح ذلك، هذا هو الصواب.(66/3)
ذكر سبب نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها)
قوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا} [النور:3] أي: لا يطأها {إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
قالوا: نزلت هذه الآية لسبب، وهو ما رواه أبو داود والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسرى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق)، كان هذا الرجل الذي هو مرثد بن أبي مرثد يأخذ الأسرى الموجودين في مكة من المسلمين ويهربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عمل جليل من هذا الرجل، وكان لهذا الرجل امرأة بغي وهي صديقة له، وهذه المرأة كانت تعينه وتساعده في خطف الأسرى حتى يأخذهم ويهرب بهم إلى خارج مكة.
فالرجل أراد أن يتجمل مع هذه المرأة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! أنكح عناقاً؟) أي: أأتزوج هذه المرأة التي خدمتني كثيراً في هذا الأمر؟ فكان الجواب (أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت، حتى أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3])، وهذه المرأة لم تكن قد تابت بعد من الزنا، بل كانت ما زالت على زناها، ومعروفة بالبغاء، ولكن كانت تساعده في تهريب الأسرى، فهنا الفعل الذي فعلته المرأة وإن كان فعلاً حسناً حيث أعانته في تهريب المسلمين إلا أنها كانت زانية، فلا يحل له أن يتزوج هذه المرأة الزانية، فنزلت الآية: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] يعني: في حال زناه.
قال: (فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي وقال: لا تنكحها)، هذا لفظ أبي داود، وجاء في الترمذي بأطول من ذلك.
فقال أكثر أهل العلم: إن عناقاً كانت كافرة ولم تكن مسلمة، وكانت فاجرة بغي، فهذا الرجل لما أراد أن يتزوجها منع من ذلك؛ لأنها كافرة وأيضاً لكونها زانية، فوصفت بأنها زانية، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكحها).(66/4)
حكم التزوج بالزانية
اختلف العلماء: هل يجوز للرجل أن يتزوج بالمرأة الزانية؟ ذكرت الآية أن: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3]، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك أيضاً، وذكر أنه: (لا ينكح الزاني المحدود -أو المجلود- إلا مثله).
إذاً: فلا يجوز لإنسان مسلم أن يتزوج بامرأة زانية، لكن هل معنى ذلك: أنه لو تزوجها يبطل هذا النكاح؟ الراجح أنه يحرم ولا يبطل النكاح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله) وهذا الزاني إذا كان من المسلمين فيجوز له أن يتزوج، والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه إذا كان محدوداً وأقيم عليه الحد في ذلك، فهذا المحدود إما أن يكون قد تاب إلى الله عز وجل، فلا بأس على ذلك، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} [البقرة:160]، فيجوز له أن يتزوج من عفيفات المسلمين، أو أنه لم يتب، وكأن الحديث يشير إلى الزاني المحدود الذي لم يتب، فهذا لا يجوز له أن يتزوج من عفيفات المسلمين، بل يتزوج بمثله.
وكذلك المرأة التي اشتهرت بالزنا مثلما كانت عناق مشهورة بذلك، وقد كان هناك في الجاهلية بيوت للزناة معروفة، فهذا بيت فلانة، وهذا بيت فلانة، فيذهب إليها الرجال لهذه الفاحشة، فالمعروفة بهذه الجريمة لا يجوز للرجل أنه يتزوج بمثلها حتى تتوب وتظهر توبتها، فإن تابت جاز أن يتزوجها، وهذا مذهب أحمد رحمه الله، أما لو تابت من الزنا وتزوجها رجل فالنكاح صحيح اتفاقاً، لكن جمهور العلماء عندهم أن النكاح صحيح إذا تزوج الرجل بامرأة كانت تزني ولم تتب، لكنه يأثم في هذا الشيء الذي أتاه.(66/5)
ذكر سبب آخر في نزول قوله تعالى: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)
قال الإمام القرطبي: إن هذه الآية مخصوصة في رجل من المسلمين أيضاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من الزانيات، وكانت تشترط أن تتزوج الرجل وتنفق عليه بشرط أن تستمر على الزنا الذي هي فيه.
فجاء هذا الرجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتزوجها، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وكأن الآية نزلت في قصة أم مهزول وقصة عناق أيضاً، والحديثان صحيحان.
وقيل: إنها نزلت في أهل الصفة، وكانوا قوماً من المهاجرين الفقراء، ولم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، ونزلوا في صفة المسجد، وكانوا أربعمائة، وكانوا يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل، فكان رزقهم ضعيفاً، وليس معهم مال يتزوجون به، وكان في المدينة نساء من البغايا مشهورات، فهؤلاء سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجوا من هؤلاء زواجاً رخيصاً؛ لأن التزوج من المرأة البغي أرخص من غيرها، فنزلت الآية في المنع من ذلك، وأنه ولو كان فقيراً فلا يجوز له أن يتزوج امرأة من البغايا المشهورات بهذا الأمر.(66/6)
قول الحسن في معنى قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية)
جاء عن الحسن: أن المراد هنا الزاني المحدود، والزانية المحدودة.
يعني: كأن الآية محمولة على أن من زنى واشتهر بذلك فإنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بمثله، ولا يتزوج بعفيفة من المسلمين.
وقال بعض أهل العلم: إن قوله سبحانه: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] منسوخة بقول الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] قوله: ((الأَيَامَى مِنْكُمْ)) يعني: غير المتزوجين، فعمت المتزوجين وغير المتزوجين.
ولكن الأولى في ذلك أن الإنسان المؤمن لا يجوز له أن يتزوج بامرأة بغي مشهورة بذلك، ويجوز له أن يتزوج بنساء مسلمات عفيفات وهن كثيرات، ويجوز له أن يتزوج بامرأة هذا حالها ولكنها قد تابت إلى الله سبحانه وتعالى، كما ذهب إلى ذلك الإمام الحسن البصري وذهب إلى ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وكذلك الرجل الذي وقع في هذه الجريمة واشتهر عنه ذلك، لا يجوز أن يوافق ولي المرأة على أن يزوجه بابنته، ولكن إن تاب وبدت توبته جاز له أن يزوجه.
لكن لو حصل أن إنساناً مشهوراً بهذه الجريمة تزوج بامرأة عفيفة من المسلمين، وقلنا بحرمة ذلك، فهل يبطل هذا العقد؟ الراجح: أنه لا يبطل هذا العقد، ولكن عليه الإثم في ذلك.
والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/7)
تفسير سورة النور الآية [4]
إن حفظ العرض مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولذلك فقد عاقبت الشريعة كل من يفتري على الآخرين ويطعن في أعراض المسلمين، فشرع الله حد القذف صوناً للأعراض وحفاظاً على سمعة العباد.(67/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4 - 5].
في هذه السورة الكريمة يذكر الله عز وجل فيها حكم الإنسان القاذف الذي يقذف مؤمناً أو مؤمنة، سواء كان القاذف رجلاً أو امرأة، فحكمه الشرعي فيه هو ما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، والمحصنات هن العفيفات من المؤمنات.
والمحصنة: هي التي أحصن فرجها، وهي العفيفة التي استعفت عن الحرام، فهي كريمة مؤمنة.
وقراءة الكسائي: (والذين يرمون المحصِنَات) بكسر الصاد فهي محصنة لنفسها، موصوفة بأنها حصان محصنة، وقراءة الجمهور: (المحصَنات) بالفتح.
والرمي: السب والقذف، فالذين يرمون، أي: يسبون ويقذفون، وأصل القذف: أخذ الحجارة والحذف بها، فاستعير ممن يقذف بالحجر فيجرح إلى الذي يقذفه بلسانه فيجرح كذلك، فقالوا: وجرح اللسان كجرح اليد، وقد يكون جرح اللسان أشد بكثير من جرح اليد، فجرح اليد يبرأ، ولكن جرح اللسان بالسب أو القذف ينتشر بين الناس.
وقد جاء الإسلام بحماية الأنساب وحفظ النسل بأن حرم الزنا؛ حتى لا تختلط الأنساب، فلا يعرف لمن يكون الولد ومن الذي اشترك فيه.
وجاء أيضاً بحماية الأعراض، فحرم على الناس أن يقذف بعضهم بعضاً، وعرض الإنسان هو محل المدح والذم، فالذي يرمي محصناً أو محصنة بجريمة الزنا عوقت بهذه العقوبة، قال سبحانه وتعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فإذا رمى القاذف أحداً بجريمة الزنا فإنه يحد حد القذف، وأما إذا سب بشيء آخر غير الزنا فلا يحد حد القذف وإنما يعزر، وحد القذف ثمانون جلدة، لقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].
والأمر الثاني: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور:4] أي: إلى أن يموتوا، لا تقبل لهم شهادة، بل يصيرون كذابين، والأمر الثالث: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فوصفهم بالفسق، هو الخروج عن طاعة رب العالمين سبحانه، فعاقب الله الفاسق بعقوبة شديدة منها ما هو حال الآن وهو حد القذف بطلب المقذوف، ومنها ما هو مستمر إلى أن يموت، وهي وصفه بالفسق وعدم قبول شهادته، إلا إذا تاب فحكمه سيأتي.
وفي قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:4] قال العلماء: الرمي هو السب بجريمة الزنا، ويسمى: القذف، ومنه الحديث: إن ابن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء.(67/2)
الحكمة من تخصيص المحصنات بالذكر
والحكم في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] يعم الجميع، فالذي يرمي محصنة أو محصناً بهذه الجريمة فهو داخل تحت هذه الآية، ولكن لما كان أمر النساء أشد وأهم في ذلك خصصه الله عز وجل بالذكر، كما بدأ بذكر الزانية في أول السورة؛ لأنها داعية إلى ذلك بفتنتها.
وهنا لما كانت المرأة مصونة مستورة خصها بالذكر وإن كان الحكم عاماً لمن يرمي المحصنة أو المحصن.
يقول العلماء: إن الله عز وجل ذكر في هذه الآية النساء من حيث كونهن أهم، ورميهن بالفاحشة أشنع وأنكى للنفوس، وسوف يلحقها ويلحق أهلها العار فذكرت لأهميتها.
وقذف الرجال المحصنين داخل تحت هذا الحكم بالمعنى وبإجماع الأمة على ذلك، وإن كان النص قد ذكر قذف النساء المحصنات وهذا كتحريم لحم الخنزير، فقد ورد النص به لأهميته، وعظم الخنزير وشحمه وجلده تبع له في التحريم.(67/3)
شروط حد القذف
وحتى يقام حد القذف على القاذف لا بد من توفر شروط إقامة الحد، وهي تسعة شروط: شرطان في القاذف، وشرطان في المقذوف، وخمسة شروط في المقذوف به.
فالقاذف هو الإنسان الذي يرمي آخر بالزنى، ويشترط أن يكون عاقلاً بالغاً حتى يقام عليه الحد، فإذا كان مجنوناً فلا حد عليه، وإذا كان غير بالغ فيعزر تعزيراً ولا يقام عليه الحد؛ لأنه غير مكلف.
وأما المقذوف به: فهو الكلام الذي يقذف به الإنسان، كأن يقذفه بوطء يلزمه فيه الحد، سواء كان بالزنا أو باللواط، أو بنفيه من أبيه، كأن يقول: يا فلان أنت زان أو واقع في اللواط مثلاً، أو أنت لست ابن فلان، على وجه يقصد به نفيه عن أبيه بسبب هذه الجريمة.
ولكن إذا لم يكن يقصد ذلك وإنما يقصد معنى آخر، كأن يرى إنساناً ذكياً ويقول له: أنت لست ابن فلان؛ لأن أباه غبي، فهذا لا يقصد القذف، وإنما يقصد معنى آخر.
فهذان شرطان في المقذوف به.
وأما المقذوف فيشترط فيه خمسة شروط حتى يؤخذ له من الآخر حقه، ويقام على الآخر الحد: الشرط الأول: أن يكون المقذوف عاقلاً، فإذا كان مجنوناً فلن يتأثر بالقذف، وإن تأثر أهله؛ لأن تشريع حد القذف كان حماية للمقذوف، وتأديباً للقاذف، إلا أنه لما لم يتأذى المقذوف بأن كان مجنوناً فلا يجلد القاذف في هذه الحالة، وقد يعزر على ذلك، والتعزير معناه العقوبة في الشيء الذي لا حد فيه، كعشر جلدات من ذلك ولكن لا يبلغ به حد القذف.
وإذا لم يكن المقذوف بالغاً فلا يقام الحد على القاذف؛ لأنه معلوم أنه كذاب، وقد يعزر في ذلك.
ويشترط في المقذوف كذلك أن يكون مسلماً، فإذا قذف المسلم كافراً فإنه يعزر على ذلك، ولكن لا يقام عليه الحد.
ويشترط في المقذوف أن يكون حراً حتى لا يكون أدنى من القاذف، فإذا كان المقذوف عبداً فلا يقام على قاذفه الحد، ولكن يحرم قذفه، وقاذفه يحد في يوم القيامة، والله عز وجل جعل الناس مسخرين بعضهم لبعض، فجعل هؤلاء أحراراً وجعل هؤلاء عبيداً، وجعل للأحرار أحكاماً وجعل للعبيد أحكاماً، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد سبحانه وتعالى.
فلو قذف العبد أقتص من قاذفه يوم القيامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من قذف مملوكه أقيم عليه الحد يوم القيامة).
ومن شروط المقذوف: أن يكون عفيفاً عن الفاحشة، فلو أن إنساناً قذف آخر وقال له: يا زاني، وتبين أن هذا الإنسان المقذوف ليس عفيفاً، فعلى ذلك لا يقام عليه الحد، وقد يعزر على ذلك تعزيراً.(67/4)
اختلاف أهل العلم في التعريض بالزنى هل هو قذف أم لا
اتفق العلماء على أن القاذف إذا صرح بالزنا كان قذفاً، كأن يقول: أنت زانٍ مثلاً، وأما إذا لم يصرح بالزنى بل عرض بكلام يفهم منه ذلك فاختلف العلماء هل يقام عليه الحد أو لا؟ فذهب الإمام الشافعي وأبو حنيفة إلى أنه في التعريض لا يقام عليه الحد، وقد يعزر على ذلك.
وذهب الإمام مالك والمشهور عن أحمد أنه في التعريض يقام الحد عليه.
وسبب الخلاف أن هذا التعريض هل ينظر فيه إلى براءة ظهر هذا الإنسان فيحمي ظهره من الجلد، أو إلى أن المقذوف أوذي بهذا الكلام الذي قيل له؟ فمن العلماء من غلب النظر إلى أن الأصل البراءة إلى أن يثبت القذف بالتصريح، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
ومن العلماء من قال: إن التعريض فيه ما يساوي التصريح، فإذا عرض في الكلام كان في ذك إيذاء يستحق أنه يقام عليه الحد، ولعل هذا هو الأرجح.
وقد ذكر الله التعريض في كتابه عن قوم شعيب لما قالوا عن سيدنا شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] وهم يقصدون: إنك لأنت السفيه المتهور، فذكرها الله عز وجل في كتابه مشنعاً على هؤلاء السفلة الذين قالوا ذلك لنبيهم عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أن التعريض كالقذف الصريح.
وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى عن أبي جهل أنه يقال له يوم القيامة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] وهو في موقف ذل ومهانة يوم القيامة، والمقصود به الإهانة والتحقير، لأنه كان يظن نفسه عزيزاً في الدنيا، فقيل له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، والمقصود: إنك أنت الذليل المهان.
وكذلك حكى الله عز وجل عن قوم مريم عليها السلام لما أتت قومها تحمل غلاماً أنهم قالوا لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28] أي: من أين أتيت بهذا الغلام ولم يكن أبواك يقع في جريمة الزنا، ولا كانت أمك بغياً، والمقصد هو التعريض بأن هذا الغلام من البغي، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، وقد ذكر الله عز وجل قول اليهود عن مريم فقال: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156]، وكان من قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:28]، فكأن التعريض أخذ حكم التصريح.
وأيضاً: جاء أن عمر رضي الله عنه حبس شاعراً اسمه جرول، لما قال لأحد الناس: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فهذا لا يقصد به المدح، وإنما المقصود به الذم والشتم وأنه كالمرأة تقعد في بيتها، وتؤتى بالطعام والشراب والكسوة، فلذلك حبسه عمر رضي الله عنه، وتوعد هذا الشاعر بقطع لسانه.
وأيضاً لما سمع قول النجاشي يقول عن أناس: قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل أي: أن هذه القبيلة لا يظلمون أحداً ولا يغدرون بأحد، وهذا كأنه مدح ولكن الحقيقة أنه شتم وسب، فـ عمر سمعه وأخذ الكلام على محمله أنه يمدحهم، فسأل رجلاً عنده: تراه ذمهم؟ قال: لقد بال عليهم بهذا الكلام، والمقصود أنهم ضعفاء لا يقدرون أن يقوموا بهذا العمل.
فقوله: ولا يظلمون الناس حبة خردل تعريض بضعفهم وقلة عددهم، وكان أهل الجاهلية ينصح بعضهم بعضاً بالظلم، وأنه دليل القوة، فهؤلاء لا يظلمون الناس حبة خردل لضعفهم وقلتهم، وعدم قدرتهم على ذلك.
فعاقب عمر هذا الشاعر، وعاقب الآخر؛ لأن التعريض بالكلام قد يكون مثل التصريح.
فلذلك إذا عرض إنسان بآخر بهذه الجريمة وفهم من الكلام أنه يقصد الزنا فإنه يقام عليه الحد كالذي يصرح بذلك، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(67/5)
تفسير سورة النور [4 - 9]
يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أن من رمى زوجته بجريمة الزنا فعليه أن يلاعنها بأن يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين في قوله، ثم يدعو على نفسه في الخامسة باللعنة -وهي الطرد من رحمة الله- إن كان من الكاذبين عليها، ولا يدرأ عنها العذاب حتى تشهد أربع شهادات أنه كذب عليها، ثم تدعو في الخامسة على نفسها بالغضب إن كان صدق فيما قاله، ويترتب على هذه الملاعنة فراق أبدي بينهما، وانتفاء الرجل من الولد، وقد رجح الجمهور أن الملاعنة يمين وليست شهادة، وإن كانت تشبه لفظ الشهادة.(68/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10].
ذكر الله في هذه الآيات حكم القذف، ثم ذكر سبحانه قذفاً خاصاً وهو أن يقذف الرجل امرأته بجريمة الزنا والعياذ بالله، فالأول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] أي: عموم المحصنات المؤمنات العفيفات: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4]، فالإنسان القاذف استحق ثلاثة أنواع من العقوبة: أن يجلد الحد وهو ثمانون جلدة، وأن يوصف بأنه إنسان فاسق، وألا تقبل منه الشهادة أبداً، إلا إذا تاب إلى الله سبحانه وتعالى.
وذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى ذكر ثلاثة أشياء ثم استثنى بعد ذلك، فاختلف العلماء هل هذا الاستثناء: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5] يرجع إلى أقرب مذكور أو يرجع إلى جميع الأشياء السابقة.(68/2)
عودة الضمير في الجمل المتعاطفة
اختلف العلماء إذا تعاطفت جمل ثم جاء الاستثناء بعد ذلك هل يعود هذا الاستثناء للجميع إلا ما أخرجه الدليل، أو يرجع إلى آخر مذكور قبله؟ فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يعود إلى آخر مذكور فقط دون الباقي، وعند الجمهور أنه يعود إلى الجميع إلا إذا دل الدليل على إخراج أحد المذكورين من هذا الاستثناء.
وبناءً على ذلك، فيكون عند الجمهور {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] أي: يقذفون المحصنات بجريمة الزنا: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وبإجماع أهل العلم أنه لو طلب المقذوف أو المقذوفة من القاضي أن يقيم الحد على فلان لأنه قذفه، فإنه لا يسقط الحد عن هذا القاذف ولو تاب.
((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) عند الإمام أبي حنيفة أن الاستثناء: في قوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا))، يعود على أقرب مذكور، فلا يكون القاذف فاسقاً إذا تاب، ولكن لا تقبل له شهادة حتى ولو تاب، ويقال عنه: هذا عدل وليس بفاسق.
والجمهور يقولون: طالما أنه صار عدلاً وليس فاسقاً، إذاً فتقبل شهادته.
وذكرنا آيتين أخريين في كتاب الله عز وجل: الآية التي في الحرابة: وهي أن يعمد رجل أو مجموعة رجال فيقطعون على المسلمين طريقهم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
إن العقوبة التي فرضها الله سبحانه عليهم جعلها خزياً لهم في الدنيا، وعقوبة لهم يوم القيامة فإن لهم عقوبة أخرى عند الله عز وجل: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:33 - 34].
فهنا اتفق العلماء على أن التائب من هذه الجريمة يسقط عنه هذا الحد، فقطاع الطريق على المسلمين إذا قدر عليهم الإمام أو نائبه قبل التوبة فإنه ينكل بهم يطبق عليهم هذه الأحكام، لكن إذا لم يقدر عليهم فقد جعل الله عز وجل لهم حكماً آخر وهو: أنه فتح لهم باب التوبة، ولو تاب هؤلاء وعرفوا أنهم سيقام عليهم الحد المذكور في الآية فلن يتوبوا، وسيظلون على ما هم يقطعون الطريق، ويزدادون عتواً فالله عز وجل من رحمته وحكمته أن جعل هؤلاء لو تابوا فإنه يسقط عنهم الحد، واتفق أهل العلم على ذلك.
قالوا: فبناءً على ذلك فقوله: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ)) هذا استثناء، وهو يرجع إلى جميع المذكورات قبل ذلك: من أنهم لا يقتلون، ولا يصلبون، ولا تقطع أيديهم ولا أرجلهم من خلاف، ولا ينفوا من الأرض، هذا في سورة المائدة.
وفي سورة النساء ذكر الله عز وجل قتل المؤمن خطأ: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] إلى آخر الآية، فذكر هنا شيئين: تحرير الرقبة المؤمنة، والذي لا يجد الرقبة المؤمنة عليه أن يصوم شهرين متتابعين، والأمر الثاني: دية مسلّمة إلى أهله، قال: {إِلَّا أن يصدقوا} [النساء:92].
وإذا تصدق أهل القتيل هل تسقط عنه الكفارة؟ قال أهل العلم: لا تسقط عنه الكفارة؛ لأن الكفارة لازمة له، ولكن إذا تصدقوا بالدية سقطت الدية فقط فلا تؤخذ منه الدية، ويلزمه الكفارة وهي عتق رقبة، وإن لم يجد فصام شهرين متتابعين.
ولما جاء كان الاستثناء في القرآن يعود مرة إلى جميع المذكورات، ومرة يعود إلى آخر مذكور، اختلف العلماء في ذلك، والبعض قال: نتوقف حتى يأتي دليل آخر يبين هل يعود الضمير إلى الأخير أو إلى غيره.
لكن الراجح أن الأصل في الاستثناء إذا تعاطفت جمل أنه عائد على جميع الأشياء السابقة إلا لدليل يخرج أحد هذه الأشياء أو بعض هذه الأشياء.(68/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم)
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك نوعاً آخر من أنواع القذف المخصوص، إذاً: فهنا قذف مؤمنة غريبة لا يعرفها، أو يعرفها كأن تكون جارة له أو غير ذلك، وقد يقذف أي امرأة وأي رجل، لكن أن يقذف امرأته فهذا بعيد، لذلك فالغالب أنه لا يقول ذلك فيفضح نفسه، ويفضح أهله، ويوسم أولاده بهذه الأمر الفظيع وبهذه الجريمة والصفة القذرة، فهنا الله سبحانه وتعالى ألزم الرجل الذي يقذف امرأته بالملاعنة التي ذكرت في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6 - 7].(68/4)
اختلاف العلماء في الملاعنة
اختلف العلماء هل الملاعنة التي بين الرجل وبين امرأته شهادة لأن الله عز وجل قال: شهادة أحدهم، أو هي أيمان، موثقة بكلمة الشهادة؟ فذهب الجمهور إلى أنها يمين، ولكن وثقت هذه اليمين بكلمة الشهادة، وبكونه يستحضر أنه شاهد نظر هذا الشيء، فهو على يقين مما يقول.
وذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الملاعنة هذه شهادة وليست أيماناً، ولكن أكدت بلفظ اليمين.
إذاً: قيل هي شهادة فيها شائبة يمين، وقيل: بل هي يمين فيها شائبة شهادة، فسيبنى على هذين القولين: أنها إذا كانت شهادة فلن تقبل إلا ممن تقبل شهادته، فإذاً لا بد أن يكون الرجل حراً والمرأة حرة، وأما إذا كان أحد الاثنين حراً والآخر عبداً فلن تقبل منه الشهادة؛ لأن العبد ليس من أهل الشهادة.
فإذا كان الرجل عبداً متزوجاً بامرأة أمة فلا تصح بينهما هذه الملاعنة على قول من يقول: إنها شهادة.
وأما على قول الجمهور: إنها يمين، فقالوا: إن اليمين يصح من أي أحد سواء كان حراً أو عبداً.
والذين قالوا: إنها يمين احتجوا بأن هذه الآية ذكر الله عز وجل فيها: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6]، ففصل كلمة شهادة بأن يقول: بالله كذا، وهذه ليست صيغة شهادة، وإنما هي صيغة يمين؛ لأن الأصل في الشهادة أن الشاهد لا يحلف، وهنا الشاهد يحلف على الشهادة التي رآها، والأصل أن الشاهد عدل، فطالما أن الشاهد عدل إذاً فتقبل شهادته في الشيء الذي يقوله.
ولكن كونه يذكر هنا أنه لا بد أن يقول: بالله كذا، ويكرر هذا اليمين أربع مرات، ففيه دليل على أن هذا من الأيمان وليس من الشهادات.
ويدل على ذلك أنه جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (احلف بالله الذي لا إله إلا هو إني لصادق، يقول ذلك أربع مرات)، فسماه حلفاً، وفي هذا دليل على أن هذا من الحلف وليس من الشهادة.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد هذه الأيمان: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، فدل هذا على أن الذي قاله الرجل والذي قالته المرأة يمين.
إذاً فالراجح أن هذا اللعان بين الرجل وبين امرأته يمين من الأيمان.
قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:6] أي: يقذفون: {أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] أي: الرجل يقذف المرأة فتكون الملاعنة بين الاثنين، وبالملاعنة تحرم عليه المرأة نهائياً، وإذا كانت حاملاً ينتفي عنه الحمل بسبب هذه الملاعنة، والصيغة في (يرمون) لجمع المذكر، فهي في رمي الرجل للمرأة وليس العكس.
والمرأة إذا رمت زوجها فإنها تدخل تحت مسألة القذف السابقة.
وأما الرجل حين يقذف امرأته فإن فيه مهانة شديدة جداً، وسيكون هناك ولد في يوم من الأيام فينتفي منه هذا الرجل، فيكون ضرره متعدٍ، فلذلك كان فيه هذه الملاعنة.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، فلو كان هناك أربعة شهداء آخرون فشهد الشهود لرجمت المرأة بذلك.(68/5)
القراءات في قوله: أربع
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6]، هذه قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [النور:6]، وكأنه مبتدأ وخبر، والتقدير: الشهادة أربع.
وقرأ باقي القراء نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وشعبة عن عاصم: (فشهادة أحدهم أربعَ شهادات بالله)، وكأن شهادة هنا مصدر أصله: أن يشهد أحدهم أربعَ شهادات بالله، فنصبت على ذلك.
فسيقول أربع جمل فيها: أنه يشهد بالله أنه صادق فيما يقول، وأنها فعلت هذه الجريمة.(68/6)
تفسير قوله تعالى: (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)
قال الله سبحانه: {وَالْخَامِسَةُ} [النور:7] أي: الشهادة الخامسة، أو الجملة الخامسة التي يقولها هي: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]، فيدعو على نفسه باللعنة، وهذا شيء فضيع جداً؛ فاللعنة معناها: الطرد من رحمة الله عز وجل، ولما كان يدعو على نفسه باللعنة إن كان كاذباً فيما يقول، دل هذا على أن القذف فضيع جداً، وأنه إن كان كاذباً فقد استحق أن يطرد من رحمة رب العالمين سبحانه.
القراءات فيها: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ} [النور:7] هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع ويعقوب: (أنْ لعنةُ الله عليه إن كان من الكاذبين)، وكلمة (لعنة) مكتوبة في المصحف بالتاء المفتوحة، فالجميع يقرءونها: (أنَّ لعنةَ الله)، أو (أنْ لعنةُ الله)، والأكثرون عند الوقف عليها يقفون عليها بالتاء، إلا ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، فإنهم يقفون عليها بالهاء.(68/7)
تفسير قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب إن كان من الصادقين)
قال الله سبحانه {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ)) [النور:8 - 9]، وهي بالفتح قراءة حفص عن عاصم فقط، وباقي القراء يقرءونها بالضم: (والخامسةُ)، وكأن قراءة حفص عن عاصم: (أن تشهد أربع شهادات، والخامسة معطوفة على أربع شهادات.
وعلى قراءة الجمهور أنه استئناف، فتكون مبتدأ، والتقدير والخامسة في الملاعنة كذا وكذا.
{أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها نافع: (أن غضِب الله عليها) على الفعل الماضي.
وقراءة يعقوب: (أن غضبُ الله عليها إن كان من الصادقين)، فيكون لفظ الجلالة مضافاً.
وقراءة نافع: (أن غضِب الله) على أن لفظ الجلالة فاعل، وقراءة الجمهور: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [النور:9]، على أن غضب مصدر، ولفظ الجلالة مضاف إليه.
وسبب نزول هذه الآية: ما رواه أبو داود عن ابن عباس: أن هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بـ شريك بن سحماء، وهلال رجل من الصحابة، وقد رجع إلى بيته فوجد امرأته ومعها رجل في البيت، فلم يهيجهما، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة، وإلا حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي ببينة على ما تقول، أو يقام عليك الحد.
والحد في القذف كان قد نزل لكن آية الملاعنة لم تكن قد نزلت بعد، فالرجل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر وماذا يعمل معها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة) يعني: ائت بأربعة شهود يشهدون لك على ذلك وإلا فالحد في ظهرك.
فقال الرجل: (يا رسول الله! إذا رأى أحدنا رجلاً على امرأته يلتمس البينة؟!) أي: من أين سيأتي بالبينة؟ قال: (فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال الرجل: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد) وفعلاً نزلت هذه الآية تبرئ الرجل من الحد بهذه الملاعنة، فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور:6] الآية حتى قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية وحصلت الملاعنة من الاثنين.
ومما جاء في ذلك ما قاله سعد بن عبادة رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة؟! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح) يعني أنه سيضربه بحد السيف، وصفحة السيف هي عرضه.
ويعني: لن اضربه ضرب تأديب ولكن سأضربه ضرب قتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الله عز وجل الفواحش ما ظهر منها وما بطن).
وجاء أيضاً في قصة رجل آخر من الصحابة وهو عاصم بن عدي الأنصاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (جعلني الله فداك، لو أن رجلاً منا وجد على بطن امرأته رجلاً فأخبر بما جرى جلد ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً فلا تقبل شهادته، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء؟! وإلى أن يلتمس أربعة شهود فقد فرغ الرجل من حاجته، فقال عليه الصلاة والسلام: كذلك أنزلت يا عاصم).
وكان عويمر العجلاني -وهو قريب لـ عاصم - يسأل عن هذا الأمر كثيراً، وكأنها مسألة خطرت في قلبه فبدأ يسأل عنها، وقال: سل لي يا عاصم! أي: اذهب واسأل النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيسكت أم أنه يفعل شيئاً، ومن أين يأتي بالشهود على ذلك.
وكرر الرجل كلامه، فذهب عاصم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا تسأل عن شيء لم يحصل، فإذا حصل فاسأل، وأحياناً يكون السؤال عن شيء قد سكت عنه الشرع فينزل الأمر بتحريمه، أو يسأل الإنسان عن شيء فيه بلاء فيبتلى بسبب سؤاله، فهذا سأل عن شيء لم يحصل فإذا به هو الذي يبتلى به، فوجد مع امرأته رجلاً، وكأن هذا من شؤم هذا السؤال.
فـ عاصم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى الرجل وقال له: إنك لم تأت بخير، لقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام الذي قلته، والآخر رجع إلى بيته فوجد الرجل مع امرأته.
وقد نزلت الآية لهذه الأسباب، وإن كان الأقوى أنها نزلت في هلال، ثم طبق هذا الحد على الباقين، كما يذكر بعد ذلك، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/8)
تفسير سورة النور [6 - 10]
لقد حد الشارع الحكيم حدوداً وشرع شرائع حماية للمجتمعات من الرذيلة، وحفاظاً على الأعراض والأنساب، ومن تلك الأحكام التي شرعت ملاعنة الرجل لزوجته إذا اتهمها بالزنا ولم يأت بأربعة شهود، ويترتب على ملاعنة الزوجين أحكام منها: نفي الولد إن كانت حاملاً، والفراق للأبد، وألا ينسب الولد إلى أبيه.(69/1)
تفسير آيات اللعان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10].(69/2)
خلاف العلماء في الشهادات هل هي شهادة أم يمين
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكماً من الأحكام، وحداً من الحدود وهو حد القاذف، وهو الذي يقذف المحصنة أو المحصن من المؤمنين، والمقصود بالمحصن أي: العفيف من الرجال، والمحصنة: العفيفة من النساء يعني: المؤمنات، فهذا يشمل عموم المحصنات، وهنا خص الله عز وجل الذين يرمون أزواجهم، ورمي الرجل لامرأته هذا شيء نادر أن يحدث، فجعل له حكماً من الأحكام وهو: أن الرجل يتلاعن هو وامرأته في ذلك.
فالرجل يقول: إنها فعلت هذه الفاحشة، والمرأة تكذب ذلك ولكن بصورة معينة جاءت في هذه الآية، فأحدهما سيشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الصادقين فيما رمى به امرأته من ذلك، والشهادة الخامسة أنه يدعو على نفسه بلعنة الله عز وجل إن كان من الكاذبين.
فإذا قال الرجل ذلك وجب على المرأة العذاب، ويدرأ عنها أنها تجيب وترد على هذه الدعوى بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما يقول، وقد قدمنا في الحديث السابق أن العلماء اختلفوا في أن أيمان الملاعنة التي ذكرت بصيغة الشهادات هل هي أيمان بصيغة الشهادة أم هي شهادة بصيغة الأيمان؟ والجمهور على أنها أيمان بصيغة الشهادات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلّف الرجل والمرأة، فقال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) ففي الحديث بيان أن هذه أيمان.
وذهب الأحناف إلى أنها شهادة، وعلى ذلك لا تكون الشهادة إلا ممن هو أهل للشهادة، فالعبد لا تقبل شهادته؛ لأن العبد ليس أهلاً للشهادة، هذا عند الأحناف.
واحتج الجمهور بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، والأحناف ذكروا أنها شهادة واحتجوا بهذه الآية: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، قالوا: إن الأصل في الذي يقذف المحصنة أنه لابد أن يأتي بأربعة شهداء، وهنا قام الرجل مقام الأربعة الشهود، فهو الآن شاهد، ولكن لولا أنه جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم تسميتها بالأيمان لكان قول الأحناف قولاً وجيهاً.(69/3)
قصة الملاعنة التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
جاءت قصة الملاعنة في صحيح البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين رجل وامرأته، وذكر القصة أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد فيه ضعف يسير، ولكن يشهد له أحاديث أخرى في هذا المعنى، فسياق الإمام أبي داود سياق طويل وفيه تفصيل، ففيه قال ابن عباس رضي الله عنهما: (جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عز وجل عليهم، فجاء من أرضه عشياً، فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يزد حتى أصبح، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني جئت أهلي عشاءً فوجدت عندهم رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه صلوات الله وسلامه عليه، فنزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:6] الآية، فسرَّى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال للرجل: أبشر يا هلال! قد جعل الله عز وجل لك فرجاً ومخرجاً، قال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلوا إليها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة لتأتي، فجاءت فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: هاتين الآيتين، (فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا).
فهنا الرجل قذف امرأته والمرأة كذبته، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعظ الاثنين: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) أي: لا يمكن أن يكون الاثنان صادقين، فأحدهما كاذب، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر المرأة والرجل وقال: (إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا) ففي الدنيا كان الرجم شديداً، ولكن ما في الآخرة أشد وأفظع، فلما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال هلال: (والله لقد صدقت عليها، فقالت: قد كذب) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لاعنوا بينهما)، فهذا الحكم الذي في كتاب الله عز وجل فطبقوه، (فقيل لـ هلال: اشهد، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، فلما كان الخامسة قيل له: يا هلال! اتق الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة) يعني: أنت حلفت أربعة أيمان، فهذه الخامسة هي الموجبة عليك لعنة الله سبحانه وتعالى إن كنت من الكاذبين، (فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي) فهنا المرأة شهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين (فشهدت حالفة بالله سبحانه إنه لمن الكاذبين، فلما كانت عند الخامسة قيل لها: اتقي الله؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب) يعني: العذاب في الآخرة (فتلكأت ساعة) يعني: المرأة سمعت النصيحة فكادت أن تؤثر فيها (فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي)، وهنا قارن بين النظر في الآخرة ثم النظر في الدنيا، الإنسان ينظر إلى الآخرة على أنها بعيدة، فهي رأت أن قومها سيفتضحون فقالت: لا أفضح قومي، فنظرت وآثرت الدنيا على الآخرة، قال: (فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) ثم قال: (ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما).(69/4)
الأحكام المترتبة على الملاعنة
وهنا حكم من الأحكام الشرعية وهو: التفريق بين الاثنين (وقضى ألا يدعى ولدها لأب)، فهي كانت حاملاً من ذلك، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالتفريق، ففرق بين المرأة والرجل، وهذا يكون تفريقاً أبدياً، فالرجل الذي يطلق امرأته ثلاثاً لو أنها تزوجت بعد ذلك بآخر ثم طلقها جاز له أن يراجعها ويتزوجها مرة أخرى، ولكن في مسألة الملاعنة إذا تمت فإنه يفرق بين الاثنين ولا يجتمعان أبداً، سواء تزوجت غيره أو لا، فلا يجتمعان أبداً طالما تمت الملاعنة.
وقضى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية بألا يدعى ولدها لأب، ولا ترمى، فيقال: ابن أبيه، أو يدعى لأمه: فلان بن فلانة، لكنه ليس لفلان هذا، قال: ولا ترمى المرأة؛ لأنه لم يثبت عليها شيء، فلا ترمى المرأة ولا يرمى ولدها، لكن لو حصل أن شخصاً عيرها وقال لها: أنت زانية ما النتيجة؟! قال: (ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد)، فقد حصلت الملاعنة بين الرجل والمرأة فحكمهما مؤخر إلى يوم القيامة، فالله عز وجل يفصل بينهما، ولكن في الدنيا لو أن إنساناً رمى هذه المرأة حتى ولو كان يوجد هناك شيء يفيد أن هذه المرأة هي فعلاً وقعت في هذا الشيء فليس لأحد أن يرميها، فإن فعل أحد ذلك أقيم عليه الحد، كذلك الولد الذي جاء لا يدعى لأب، ولكن إذا رماه إنسان بالزنا فإنه يقام عليه الحد بذلك.
قال: (وقضى ألا بيت عليه ولا قوت؛ من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفىً عنه)، وهنا حكم آخر، (فقضى ألا بيت لها)، يعني: أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى إذا كانت في فترة العدة، فالمرأة التي طلقت مرة أو مرتين لها النفقة والسكنى، ولا نفقة ولا سكنى للمرأة بعد الطلقة الثالثة.
فقوله: (ولا قوت؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفى عنه)، فيه بيان أن المرأة المطلقة لها النفقة والسكنى على التفصيل الموجود عند الفقهاء، والمتوفى عنها كذلك.
ثم أشار في الحديث إلى شيء ليبين أن المرأة ستكون صادقة أو كاذبة فقال: (إن جاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الإليتين فهو للذي رميت به)، فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى زوجها هلال، ونظر إلى شكل شريك بن سحماء فإذا هو رجل غليظ سمين، فقال: -ولم يقل ذلك لكل الناس وإنما للبعض- إذا جاء هذا الولد (أورق، جعداً، جمالياً خدلج الساقين، سابغ الإليتين، فهو للذي رميت به، فجاءت به على هذا النعت)، أورق يعني: أسمر، وجعداً يعني: شعره ليس ناعماً، جمالياً يعني: ممتلئ، خدلج الساقين أي: رجلاه يخينتان وسمينتان، وسابغ الإليتين أي: مقعدته سمينة، (فهو للذي رميت به).
فهنا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لشيء ومع ذلك فالحكم باق، وهو أن الذي يرمي هذه المرأة حتى ولو ظهر الولد الذي جاءت به يشبه الذي وقعت المرأة به ليس لأحد أن يرمي المرأة، ولا أن يرمي الولد، ومن فعل أقيم عليه الحد قال: (فجاءت به أورق، جعداً، جمالياً، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان) وهنا سمى هذه الشهادة يميناً، فأخذ الجمهور بهذا، قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن).
قال عكرمة: عن ابن عباس: فكان بعد ذلك أميراً على مصر وما يدعى لأب، يعني: أميراً على قطر من الأقطار، فهذا الولد كبر وفاق غيره وصار أميراً في يوم من الأيام، ومع ذلك لا يعرف أبوه، فلو أنه مات فأمه هي التي ترثه، وهذه هي المسألة الوحيدة التي فيها: أن الأم تكون عصبة للابن، فالأم تأخذ كل الميراث في هذه المسألة، فلو أنه مات أخذت الأم نصيبها ونصيب الأب في هذه المسألة، والغرض أن هذا صار أميراً في يوم من الأيام ولا أحد يرميه بشيء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في ذلك: إذا نفى الرجل الحمل فإنه يلاعن، يعني: غاب عنها فترة طويلة ثم جاء فإذا بها حامل فهنا يجوز له أن يرميها في هذه الحال، قال: فإذا نفى الحمل فإنه يلاعن، فيقول: هذا ليس ابني، فتكون الملاعنة بين الاثنين لإثبات ذلك.
يقول القرطبي رحمه الله: واللعان عندنا يكون في كل زوجين حرين كانا أو عبدين، مؤمنين أو كافرين، فاسقين كانا أو عدلين، ومبنى ذلك على أن الملاعنة هي أيمان وليست شهادات، فأي إنسان فإنه يصح أن يحلف، والمرأة كذلك تلاعن إذا نفت عنها التهمة، فمن يقول: إنها شهادة فلا تصح الملاعنة إلا إذا كانوا من أهل الشهادة، وإذا كانوا ليسوا من أهل الشهادة فلا يقام ذلك.
فـ القرطبي يقول: وعندنا وعند الشافعي هي يمين -وهذا قول الجمهور أيضاً- أنها يمين، وهذا هو الأرجح من ناحية الدليل.
يذكر العلماء هنا مسألة: وهي لو أن إنساناً تزوج امرأة ثم طلقها، وبعدما طلقها قذفها، فهل تحصل بينهما ملاعنة أم أنه يقام عليه الحد لأنه الآن صار غريباً؟ قالوا: ننظر في ذلك هل المرأة حامل أو لا، أي: الرجل عندما طلق المرأة هل كانت حاملاً؟ فإذا كانت حاملاً فله أن يلاعن؛ لأن الملاعنة هنا إنما هي لنفي نسب هذا الولد، حتى لا تنسبه إليه، وإذا لم تكن المرأة حاملاً وانتهت عدتها فبعد انقضاء العدة ليست زوجة له، وفي خلال العدة قد يجوز للرجل أن يراجع امرأته إذا كانت له مراجعة، فإذا انتهت العدة صار غريباً عنها، فإذا قذفها لا يقال: لا بد من ملاعنة بين الاثنين، وإنما يقال له: البينة أو حد في ظهرك.
وهنا مسألة: الملاعنة لا تكون بين الزوجين في بيت من البيوت مثلاً، وإنما يتلاعنا عند القاضي، فالقاضي هو الذي يفعل ذلك، وهو الذي يفرق بين الاثنين، والملاعنة حكم خطير جداً يبنى عليه التفريق الأبدي بين الاثنين؛ فعلى ذلك لابد من حضور الاثنين عند القاضي ليقوم بذلك، وليس لآحاد الناس أن يفعل ذلك.
كذلك من المسائل: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها، الزوج ومعه ثلاثة آخرون شهدوا بذلك، فهل يحسب الزوج شاهداً فيقام عليها الحد أم أن الرجل يلتعن مع المرأة؟ يقول العلماء: إذا شهد أربعة على امرأة بالزنا أحدهم زوجها فإن الزوج يلاعن، فلا بد من ملاعنة بين الرجل وبين امرأته، والشهود ليس لهم قيمة الآن، فلابد من أربعة شهود حتى يثبت قول الرجل، ويقام على المرأة حد الملاعنة.
الدليل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] فهنا الرجل رمى المرأة ولابد له من أربعة شهود يشهدون على المرأة أنها زنت، فذهبوا وشهدوا أمام الحاكم وقالوا: رأينا فلانة تزني وهنا الآن أربعة شهود شهدوا فيقام عليها الحد الرجم.
من المسائل التي ينقلها الإمام القرطبي عن ابن العربي المالكي يقول: من غريب أمر هذا الرجل -يقصد الإمام أبا حنيفة - أنه قال: إذا قذف زوجته وأمها بالزنا أنه إذا حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم، قال ابن العربي: وهذا لا وجه له، وما رأيت لهم فيه شيئاً يحكى، وهذا باطل جداً، فإنه خص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه.
قلت: الإمام القرطبي ينقل هذا الكلام عن ابن العربي المالكي، وابن العربي أحياناً يكون غير منصف في كلامه، والعجب أن القرطبي ساق هذا الكلام دون أن يبين وجه الصواب، والصواب: أن هذه المسألة هي نفسها التي ذكرناها قبل ذلك في الخلاف بين أبي حنيفة والجمهور من أن الملاعنة هل هي شهادة أو أيمان، فبناها على هذا الأصل، وهنا قول ابن العربي المالكي أن الإمام أبي حنيفة ليس له أصل يرجع إليه غير صحيح، بل له أصل يرجع إليه، وكان المفروض أن الإمام القرطبي ينبه على ذلك.
[النور:4] والمسألة: لو أن الرجل رمى امرأته بالزنا وقال: يا زانية يا بنت الزانية! فشتمها بذلك، فهو رماها ورمى أمها، فمذهب الإمام أبي حنيفة أنه إذا قذف الرجل الزوجة وأمها فإن حد للأم سقط حد البنت، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم؛ لأنه يرى أن الملاعنة شهادة وليست أيماناً، فإذا حد لأجل الأم أصبح فاسقاً لا تقبل شهادته في ابنتها، لأن الله يقول: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] الآية.
فعلى ذلك لا يصلح أن يتلاعن مع المرأة، فالرجل مشى على أصله رحمة الله عليه في ذلك، فالخلاف في الأصل وليس في هذا التفريع، فكلام ابن العربي ليس بصواب، وقوله: إنه كلام باطل، وأثر غريب، ولا أصل قاسه عليه ولا نظر، هذا كلام خطأ من ابن العربي كعادته إذا لم يعجبه الرأي شن على صاحبه.
وذكرنا ذلك لبيان أن القرطبي كان المفروض عليه أن ينبه في المسألة أن أبا حنيفة له أصل يرجع إليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(69/5)
تفسير سورة النور (تابع) [6 - 10]
لقد حد الله تعالى حدوداً لهذه البشرية، وبيّن لهم ما يجب عليهم تجاهها، ومن تلك الحدود: اللعان الحاصل بين الزوجين، واللعان يكون إذا قذف الزوج زوجته ولم يأت بأربعة شهداء، فهنا يلاعن بينهما بالطريقة الواردة في هذه الآيات، وبعد ذلك يفرق بينهما أبداً، وينسب الابن إلى أمه، وإذا مات ورثته أمه، ولا يجوز أن يرمى هو ولا أمه، ومن رماهما جلد حد القذف.(70/1)
سبب نزول آيات اللعان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور:6 - 10].
ذكرنا في الحديث السابق سبب نزول هذه الآيات، وهي قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ} [النور:6]، وكان ذلك في قصة هلال بن أمية لما رمى امرأته بهذه الفاحشة ثم ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يطلب الحكم الشرعي في ذلك، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: (البينة وإلا حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي بالبينة على قولك أو حد في ظهرك، والبينة هنا مأخوذة من الآيات السابقة التي قال الله عز وجل فيها: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4]، وهذا الذي كان معمولاً به قبل نزول هذه الآية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال: (البينة وإلا حد في ظهرك)، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم لحسن ظنه بالله عز وجل: إن الله سينزل فيه ما يبرؤ ظهره، وبالفعل فقد أنزل الله عز وجل ما يبرؤ ظهره.
وحدثت أيضاً قصة أخرى لرجل آخر من الصحابة اسمه: عويمر العجلاني.
فقد جاء في صحيح البخاري أن سهل بن سعد قال: إن عويمراً أتى عاصم بن عدي -وكان سيد بني عجلان- فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يصنع؟ فطلب من عاصم بن عدي سيد بني عجلان أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! وذكر له ما قاله عويمر، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا في رواية لـ مسلم: قال: (فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
إذاً: فهذه من ضمن الأسئلة التي لا ينبغي أن يسألها الإنسان، وهي أن يسأل عن بلاء أو فاحشة ولو حصلت في أهل بيته، فإنه لا يدري لعل البلاء يكون موكلاً بمنطقه وما يقوله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره المسائل خاصةً التي لم تقع، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)؛ لأنهم كانوا يسألونه كثيراً، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أن الله عز وجل يكره ذلك، وأخبرهم: (أن من أشد الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).
فالأصل في المسائل التي سكت عنها الشارع العفو؛ ولذلك كان من أشد الناس جرماً من حرمت بسببه أشياء كان قد سكت عنها الشارع، فهذا الرجل وهو: عويمر العجلاني لما سأل عاصماً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم كره النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها؛ حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إلى عويمر قال له: يا عاصم! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم لـ عويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، وكأنه هو الذي ابتلي بهذه المصيبة، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد نزل فيك وفي صاحبتك)، وكان الحكم في هذا قد نزل قبله بقليل في قصة هلال بن أمية وامرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (قد نزل فيك وفي صاحبتك) أي: أن نفس الحكم في هلال وامرأته سيطبق عليك وعلى صاحبتك، (فأت بها).(70/2)
بعض الأحكام المتعلقة بالعان
ففيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأتي بالمرأة إلى مجلسه صلى الله عليه وسلم حتى يفصل بينهما، وهذا يدل على أن الملاعنة تكون عند القاضي أو الحاكم، وليس بين المرأة وزوجها.
قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله! إن أمسكتها)، وهذه رواية الإمام مسلم، قال: (فطلقَها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم).
قال ابن شهاب الزهري راوي الحديث: فكانت سنة المتلاعنين.
يعني: التفريق بين الاثنين، وأخذ جمهور أهل العلم من هذا الحديث: أن طلاق الثلاث يقع ثلاثاً، وليس ذلك بحجة في هذا الحديث؛ لأن التفريق هنا ليس بطلاق، وإنما حصل هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، فالفرقة حصلت بالملاعنة، وبإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم لها، وبتفريقه بينهما، ثم طلاق الثلاث لا يحرم مطلقاً، فإنه يجوز له أن ينكحها إذا نكحت هي زوجاً غيره، لكن الملاعنة تفريق نهائي إلى الأبد.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث قال: (وكان فراقه إياها بعدُ سنة في المتلاعنين)، وفيه قال سهل: (فكانت حاملاً)، أي: أن زوجة عويمر كانت حاملاً، فكان ابنها ينسب لأمه فقط، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها، وأن الزاني بها لا يرث؛ لأنه أب غير شرعي، فالأم ترث منه بالفرض، فإذا لم يوجد لهذا الابن من الزنا أحد يرثه من عصبات ونحوهم ففي هذه الحالة ترث الأم الفرض منه، وترث ما تبقى من الإرث تعصيباً، وهذه هي الصورة الوحيدة التي ترث فيها الأم جميع الميراث.
وفي رواية أخرى: في صحيح مسلم أيضاً قال: (فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد) أي: تمت الملاعنة بحضور النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وكأن عظمة المسجد تمنعهما من الكذب خاصة مع هذه الأيمان المغلظة، قال: (فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد).
وفي الحديث: (فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ففارقها عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاكم التفريق بين كل متلاعنين).
فهذه قصة أخرى من القصص التي حدثت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت الآية بسبب قصة هلال بن أمية لما رمى امرأته بـ شريك بن سحماء، وكأن بين القصتين وقتاً بسيطاً وقليلاً بحيث إن عويمراً لم يعرف شيئاً عن نزول هذه الآية؛ ولذلك ذهب ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.(70/3)
رجل قذف امرأته بعدما سكت عنها، فهل يلاعن أم لا؟
وهنا يقول العلماء: هل للرجل أن ينفي حمل امرأته بعدما سكت عنها أم لا؟ فالكثير من العلماء يقولون: ليس له أن ينفيه بعد سكوته؛ لأن سكوته بعد العلم به ينزل منزلة الرضا به، وبعض العلماء يقول: إذا وجد امرأته حاملاً ولم يعلم بذلك فإنه يلاعنها لزاماً، وبعضهم يقول: بل يسأل عن سبب سكوته، فإن أعطى عذراً وجيهاً قبل منه، كأن يعتذر بأنه كان يظن انتفاخ بطنها مرضاً من الأمراض أو نحو ذلك.
قالوا: فإن أخر ذلك إلى أن وضعت ثم قال: رجوت أن يكون ريحاً أو سقطاً لأستريح من القذف، فالراجح: أن هذا عذر مقبول، وله أن يلاعن بعد ذلك.
يقول الإمام القرطبي: قال ابن القصار: إذا قالت امرأة لزوجها أو لأجنبي: يا زانية، فقد رمي بالزنا، فهل لها الملاعنة؟ أقول: لا؛ لأن الملاعنة تكون في رمي الرجل لامرأته، فهذا أفحش وأشد، لكن إذا رمت المرأة زوجها فعليها الحد إلا أن تأتي بشهود فيرجم الرجل، لكن لو أن المرأة رمت زوجها بالزنا بلفظ التأنيث فقالت: يا زانية! فهل يعتبر ذلك صريحاً في الرمي أم يعتبر تعريضاً فقط؟ الراجح: أنه من صريح الكلام، سواء قالت: يا زاني! أو يا زانية!(70/4)
حكم اللعان في النكاح الفاسد
ومن المسائل أيضاً: يقول الإمام القرطبي رحمه الله: يلاعن في النكاح الفاسد؛ لأن النكاح إما أن يكون صحيحاً أو فاسداً، أما السفاح فليس نكاحاً بلا خلاف بين العلماء، وهذا مثل نكاح المتعة، وهو أن يتزوج الرجل المرأة يوماً أو يومين ثم يطلقها من دون ولي ولا شهود، وهذا النكاح كان موجوداً في أيام الجاهلية ثم وجد في الإسلام ثم نسخ وأزيل، والآن موجود عند الشيعة، فهذا من قبيل الزنا، والنكاح باطل في الأصل، لكن النكاح الفاسد: هو الذي فقد بعضاً من الشروط التي اختلف فيها العلماء.
وقد جاء في الحديث: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، فإذا جاء بولي دون الشهود واكتفوا بإعلان النكاح، فعند بعض العلماء: أنه يكفي ذلك ويغني عن الشهود، وعند البعض: أنه لا بد من شاهدي عدل في ذلك، وأما الإعلام فهو من ضمن الواجبات في ذلك، فهذا النكاح على هذه الصورة يصير فاسداً عند من اشترط الولي والشاهدين، فهو نكاح وإن وصف بالفساد، لكن لو رمى الرجل امرأته بالزنا وكان نكاحهما فاسداً فإن له أن يلاعنها؛ لأن الفساد لا يخرج النكاح عن مسماه في الأصل.
واختلفوا فيما لو أبى الرجل أن يلاعن امرأته بعد رميه لها بالزنا هل يحد أم لا؟ فقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا حد عليه؛ لأن الله تعالى جعل على الأجنبي حداً وعلى الزوج اللعان، وهذا خطأ، بل الصواب أن الحد يقع على الاثنين معاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ هلال بن أمية: (البينة، وإلا حد في ظهرك)، فلما نزلت آية اللعان أمره بالملاعنة بدلاً عن الحد، فيسقط الحد بالملاعنة؛ ولذلك قال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد وجمهور العلماء: إذا لم يلتعن الزوج حُدّ؛ لأن اللعان براءة كالشهود للأجنبي، وفي حديث العجلاني وهو عويمر ما يدل على ذلك، وهو قوله في الحديث: (إن سكت سكت على غيظ، وإن قتلت قتلت، وإن نطقت جلدت أو أقيم علي الحد).
فالراجح: أن الإنسان إذا رمى امرأته بهذه الجريمة فإنه يقام عليه الحد إلا أن يأتي بشهود، أو يلتعن مع المرأة.(70/5)
من الذي يبدأ به في اللعان
والبداءة في اللعان تكون بما بدأ الله عز وجل به، فإذا كانا في مجلس الحاكم أمر الرجل بالبداءة، فيقسم أربع مرات بهذه الصيغة: أشهد بالله إني لمن الصادقين، وهي ضرب من القسم، يعني: أشهد حالفاً بالله سبحانه تعالى إني لمن الصادقين فيما قذفت به هذه من هذا الأمر، ويشهد بشيء قد رآه لا بشيء قد أخبر عنه، ثم يقول في الخامسة: أن عليه لعنة الله إن كان من الكاذبين فيما رمى به هذه من ذلك.
فحينئذ وجب عليها الحد بذلك، فالذي يدرأ عنها العذاب أنها ترد بأربع شهادات، فتقسم بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من هذه الجريمة، ولذلك قال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور:8]، وكأنها قد استوجبت الحد بكون الرجل قال هذه الشهادات الأربع، فهي تدرأ وتدفع عن نفسها هذا الحد بأن تشهد بالله أربع مرات فتقول: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من هذه الجريمة، وفي المرة الخامسة تقول: إن غضب الله عليها إن كان الرجل من الصادقين.(70/6)
انقطاع الصلة بين الزوجين المتلاعنين إلى الأبد
فإذا تمت الملاعنة فرق بينهما فلا يجتمعان أبداً، ولا يتوارثان، وبهذا انفسخ هذا النكاح من أصله، فالفرقة هنا ليست فرقة طلاق، بل فرقة فسخ؛ ولذلك فلا ميراث بين الاثنين، ولا نفقة ولا سكنى للمرأة، ولا يحل للرجل أن يراجعها أبداً، هذا قول جمهور أهل العلم.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الرجل لو كذب نفسه بعد ذلك وقال: إنه كاذب فيما رماها به من ذلك، فإنه يقام عليه حد القذف، ثم بعد ذلك يكون خاطب من الخطاب.
والراجح: أن السنة قد جاءت بأنهما لا يجتمعان أبداً.(70/7)
ما يفتقر إليه اللعان
يقول العلماء: اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء، فإذا تمت هذه الأشياء فرق بينهما: الأول: أنه يشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم يدعو على نفسه في المرة الخامسة باللعنة إن كان من الكاذبين، والمرأة تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
إذاً: فعدد الألفاظ مقصور.
الثاني: قالوا: إنه يفتقر أيضاً إلى المكان، والراجح: أن هذا ليس بشرط صحة في الملاعنة، فهو يصح في أي مكان طالما حضر الحاكم أو القاضي.
الثالث: الوقت، وليس شرطاً لصحة اللعان، فقد اختار العلماء: أن المساجد تختار لهذا لشرفها، وبعضهم حدد الوقت فقال: بعد صلاة العصر؛ لأنه الوقت الذي يعظم فيه اليمين؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى.
الشرط الرابع: جمع الناس.
والصواب: أن عدد الألفاظ وحضور الحاكم لهذه الملاعنة شرطان رئيسيان لصحة اللعان، وكذلك وجود الناس في ذلك؛ حتى يشهدوا على الرجل وامرأته، فإذا حدثت هذه الملاعنة فرق بين الاثنين، والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(70/8)
تفسير سورة النور الآية [11]
إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان له من البلاء أوفر نصيب، فقداتهم في عرض أحب نسائه إليه، وزيادة في التمحيص واستخراج مكنون الصبر ينقطع الوحي شهراً، فعمت الشائعة، وهمس المنافقون ثم صرحوا، واشتد الكرب على بيت النبوة وصاحبه الكريم لتصفى خلته لربه، ولما بلغ الأمر ذروته جاء الفرج والوحي من الرب الرحيم ببراءة الطاهرة زوجة المصطفى وحبيبته رضي الله تعالى عنها وأرضاها.(71/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما بعدها حديث الإفك الذي قاله المنافقون، ووقع فيه بعض المسلمين في شأن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي ذلك موعظة لكل إنسان مؤمن لئلا يتطاول على أشياء قد حرمها الله عز وجل فيقع فيها.
وقد بدأت هذه السورة بذكر حرمة الزنا، ثم الكلام عن القذف وأن الإنسان الذي يقذف غيره إن لم يأت بالشهداء فهو عند الله من الكاذبين، وقال سبحانه: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4].
فالأصل في الإنسان المسلم أن يمسك لسانه عن الوقوع في أعراض الناس، كما أنه يكف يده عن أن يقع في سفك الدماء، أو أن يأخذ أموال الناس بالباطل.
ولما ذكر الله عز وجل في أول هذه السورة القذف والزنا حدثنا هنا عن أمر من الأمور التي وقعت لزوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأحب أزواجه إليه، ففي ذلك موعظة وبيان أنه إذا نزلت بإنسان مصيبة فليست هي آخر الدنيا، وأنها ليست الهم الذي يجعل الإنسان يستشعر الشر العظيم في ذلك، ولكن ما من مصيبة تنزل إلا وفيها خير من الله عز وجل، ولذلك يطمئن الله المؤمنين ويقول: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وإن كانت صورته شراً للمؤمنين، وشراً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدث هذا الإفك الذي يفتريه الكذابون على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع ذلك يقول الله: هو خير، وما من شر يحدث للإنسان إلا ومن وراءه خير لو صبر على الذي ابتلي به.
وليس هناك شيء يدوم، بل إن الشر الذي يبتلى به الإنسان لا بد أن يأتي عليه الوقت ويزيله الله عز وجل، ويرفعه بعدما يكون هذا الإنسان المؤمن قد أخذ الأجر العظيم من الله سبحانه على صبره على ذلك.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11].
الإفك: حديث الكذب، يقال: الإنسان الأفاك، أي: الكذاب الذي يختلق الشيء، ويؤلف الكذبة ويقولها، فيتناقلها الناس ويتناولونها منه.
والعصبة: الجماعة من الناس من ثلاثة فما فوق، وتطلق على العشرة أيضاً، وقد تطلق على الأربعين.
فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي: أن مجموعة منكم وقعوا في الإفك، إلا أن صاحب الجريمة والإفك والكذب هو عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين، وكان خزرجياً أنصارياً، ووقع فيه كذلك مجموعة آخرون من المسلمين أساءوا بالوقوع في ذلك، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليهم الحد، والعجيب أن هذا المنافق لم يقم عليه الحد؛ لأنه تكلم في السر وكلم المنافقين أمثاله، وشاع الخبر فتناقله المسلمون، ووقعوا فيه، فكان ممن تكلم في ذلك مسطح بن أثاثة، وأمه ابنة خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه؛ لأنه كان فقيراً، وكان ممن شهد بدراً، فوقع في شأن عائشة رضي الله عنها، ووقع فيها رجل آخر وهو شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وكان ممن نقل هذا الكلام أيضاً أخت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم واسمها حمنة بنت جحش، وهي أخت زينب بنت جحش رضي الله عنها وضرة عائشة، ولكن عصمها الله عز وجل بالورع.
ومعلوم أن النساء الضرائر تكيد كل ضرة لصاحبتها، ولكن هذه التي كانت في منزلة عائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم تقول عنها عائشة: وكانت تساميني عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما تحدث الناس بهذا الحديث الكاذب فـ زينب رضي الله عنها مع كونها ضرة لها عصمها الله عز وجل بالورع، وقالت: لا أقول إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، ما علمنا إلا خيراً.
لكن أختها حمنة بنت جحش وقعت في ذلك وتكلمت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد هؤلاء الحد الشرعي بعد القصة الطويلة التي حصلت.
والله عز وجل له حكم عظيمة في هذا الأمر الذي حدث لأحدى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فغيرها لن تكون أفضل منها فإذا حدث لها مثل ذلك فلتتصبر بما حدث لـ عائشة رضي الله عنها.
وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما وجد مسطحاً ابن خالته يتكلم عن ابنته وكان ينفق عليه حلف أنه لا ينفق عليه، فنزل القرآن يؤدب أبا بكر الصديق ويحذره من ذلك ويقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].
فإذا به يقول: بلى أحب أن يغفر الله لي.(71/2)
سياق قصة الإفك كما في صحيح مسلم
وهذه القصة موجودة في الصحيحين: صحيح بخاري وصحيح مسلم لكنها في صحيح مسلم أكمل وأتم، فنذكر رواية مسلم لهذا الحديث عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها حين قال لها أهل الإفك مقالاً فبرأها الله مما قالوا.
فـ الزهري أخذ هذا الحديث من أربعة من التابعين وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، قال: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضاً.
فهنا تتبين قوة حفظ ابن شهاب الزهري رضي الله عنه، فقد كان جبلاً في الحفظ؛ لذلك كانوا يقولون: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس حديثاً أصلاً.
فـ ابن شهاب الزهري يذكر الحديث عن أربعة كل واحد حدثه بهذا الحديث، ويعرف ماذا قال كل واحد، وما هو النقص الذي عنده، والزيادة التي عند الآخر، ويذكر هذه الألفاظ، وقد حفظ الله عز وجل هذا الدين بهؤلاء الحفاظ رضوان الله تعالى عليهم.
قال: ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) أي: كانت عادته -وهو متزوج تسع نساء- إذا أراد أن يخرج في غزو أو سفر أن يقرع بينهن، فلم يكن يقول: هذه المرة فلانة، والمرة الثانية فلانة، وهو لا يعرف هل ستكون المرة الثانية أو لا، فلذلك كان في أمر السفر يقرع بينهن، والتي يخرج سهمها يأخذها معه صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب)، وهذا كان في غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع، وكان ذلك سنة ست بعدما أنزل الله عز وجل آية الحجاب.
قالت: (فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل)، فقد أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته بالحجاب الذي هو حجاب الشخص فلا ترى، فهي تحمل في هودج، وهو محفة مثل الصندوق فوق ظهر الجمل، فلا يعرف من حمله أبداخله أحد أم لا؟ فهي مطيعة لله عز وجل حين أمرها بالحجاب على هذه الهيئة وليس مجرد لبس الثياب فقط.
فتقول رضي الله عنها: (فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي) يعني: كأنها ذهبت تقضي حاجتها ثم رجعت، وكان معها عقد تلبسه فضاع في المكان الذي ذهبت تقضي حاجتها فيه، فرجعت تأتي بالعقد من ذلك المكان، وعند ذلك جاء الذين يحملون الهودج فحملوه وظنوا أنها بداخله، وهي تذكر لماذا لم ينتبهوا إلى الهودج هل هو ثقيل أم خفيف؟ وهل فيه أحد أم لا؟ تقول رضي الله عنها: (وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام) يعني: لم يكن عندهم سعة، فكان أكل النساء أكلاً قليلاً؛ فلذلك كانت خفيفة لم تحمل اللحم ولا غيره، فالذي يحمل الهودج لا يعرف هل هناك أحد أم لا؟ قالت: (فرحلوا الهودج) يعني: على البعير (وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم) فهي تذكر أنها كانت جارية حديثة السنة ولا زالت صغيرة، إذ حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان لها من العمر ست سنوات ودخل بها ولها تسع سنوات في المدينة، فالعقد كان في مكة والدخول كان في المدينة، وهذه الغزوة كانت في سنة ست، أي: أن عمرها خمسة عشر عاماً رضي الله عنها، وتذكر أنها كانت جارية حديثة السن.
فقالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب)، وقد كان تفكيرها على قدر سنها رضي الله عنها، فذهبت تبحث عن العقد الذي ضاع، وكان من الممكن أن تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذهابها؛ ولكن لعله لم يكن موجوداً بجوارها صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر على بالها أن تخبر أحداً بالأمر، فظنت أنها ستأتي به وترجع قبل أن يمشوا، فما كان منهم إلا أنهم مشوا قبل رجوعها.
قالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب) أي: أن المكان الذي كانوا موجودين فيه ليس فيه أحد.
قالت: (فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت) أي: نامت في المكان الذي كانت فيه.
قالت: (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش) والتعريس: هو النزول للمبيت من وراء الجيش، فكأنهم يجعلون مثل ذلك بحيث إنه لو فقد الجيش شيئاً يجده من عرس وراءه.
قالت: (فأدلج فأصبح عند منزلي) يعني: مكث في المكان الذي هو فيه وبعد ذلك قام من الليل وصار وراء الجيش فجاء على المكان الذي هي فيه في وقت الصباح.
قالت: (فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ).
يعني: كأنها نامت في مكانها فلما نامت انكشف حجابها عن وجهها فهو جاء فرآها فعرفها، وكان يعرفها من قبل ذلك.
قالت: (فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني) استرجاعه يعني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قالت: (فخمرت وجهي بجلبابي فوالله ما كلمني كلمة).
فانظروا أدب الرجل لم يكلمها ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وما الذي أخرك؟ لم يقل شيئاً رضي الله عنه أكثر من أن قال: إنا لله وإنا إليه راجعون: (والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين عرفني، فأناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها) أي: أناخ الجمل ودعس على يده بحيث يكون ثابتاً على الأرض، فركبت عائشة رضي عنها.
قالت: (فانطلق يقود بي الراحلة) فهي راكبة وهو يمشي يقود الجمل.
قالت: (حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في نحر الظهيرة) يعني: خرج بها من مكانها في الصبح ووصلت إلى الجيش عند الظهر.
قالت: (فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) فأبوه أبي، وأمه سلول؛ ولذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول فعندما نكتبها نثبت همزة الوصل في ابن الثانية دون الأولى؛ لأن سلول أم عبد الله وليست أم أبي.
قالت: (فقدمنا المدينة فاشتيكت حين قدمناها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي) يعني: تغير النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر، وذلك حين سمع الناس يقولون هذا الكلام.
وكان الذي بدأ بالكلام في ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، فجاء في رواية في غير صحيح مسلم أن هذا الرجل حين وجدهما راجعين قال: والله ما سلم منها ولا سلمت منه، فبهذه الكلمة تعرف إجرام هذا الرجل الذي تسامح النبي صلى الله عليه وسلم معه كثيراً، ومن ذلك أنه حين مات هذا المجرم -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- إذا بابنه -وابنه رجل صالح- يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيه، فمجاملة للابن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه.
وقد قال هذا الرجل مقالته في استخفاءً، فلما ذكر مقالته تكلم الناس وانتشر الحديث، فتغير النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرضت لم تعرف من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اللطف الذي كان فيه قبل ذلك، فقد كان يأتيها ويسأل عنها ولا يزيد على أن يقول: كيف تيكم؟ وينصرف صلى الله عليه وسلم، وهي لا تدري ما الأمر، وما الذي حصل.
قالت رضي الله عنها: (فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل) يعني: كان أمر العرب أن البيوت ليس فيها دورة مياه، فلكي يخرجوا للخلاء تخرج المرأة بالليل في صحبة امرأة أخرى، وتذهب إلى المناصع وهو المكان الذي تقضي فيه حاجتها وترجع بالليل.
قالت (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح) أي: دعت على ابنها بالتعاسة، فتعجبت عائشة من ذلك وقالت لها: (أتسبين رجلاً قد شهد بدر؟) يعني: ابنك شهد بدراً ثم تسبينه وهي لا تعرف ما الذي عمله مسطح وما الذي عمله غيره.
فقالت لها: (أي هنتاه أتسمعي ما قال) تعني: أنت لا تعرفين ماذا قال فيك.
قالت: (وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي) يعني كانت في بداية شفائها من مرضها، فإذا بها تخبرها بذلك فازداد مرضها رضي الله عنها.
قالت: (فلما رجعت إلى بيتي فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ قالت: قلت أتأذن لي أن أتي أبوي، وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر) أي: ليست مصدقة أن يكون الناس قد قالوا عليها هذا الشيء، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: (فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ فقالت: يابنية هوني عليك).
أمها هي أم رومان وهي امرأة مؤمنة تقية، فق(71/3)
تفسير سورة النور [11 - 15]
إن للقدر أسراراً عظيمة قد لا تنكشف لأول وهلة، فيظن من يظن أن في الأمر شراً فإذا به خير عظيم، فحادثة الإفك التي حدثت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب بها البيت النبوي، واشتد الكرب، وازدادت البلبلة خصوصاً وقد انقطع الوحي شهراً زيادة في التمحيص، ثم يأتي الفرج من القريب المجيب، فيشرع الأحكام، وترفع الدرجات، ويلاقي المنافقون شنيع صنيعهم.(72/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
ذكرنا في الحديث السابق أن هذه الآيات من هذه السورة الكريمة نزلت في تبرئة السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها مما قاله الأفاكون الكذابون المنافقون عنها، وذكرنا ما رواه البخاري ومسلم من هذه القصة التي فيها حديث الإفك، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس لما سمع ذلك وقال: (من يعذرني في رجل قال عن أهل بيتي ما قال، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقام رجل من الأنصار وهو سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه وقال: نحن نعذرك يا رسول الله) يعني: نحن ننصفك في ذلك الذي حدث، (فإن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك، قالت عائشة رضي الله عنها: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان رجل صالحاً ولكن أخذته الحمية، فقال لـ سعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله)، وهنا أحياناً العصبية تكون في قلب الإنسان فتدفعه إلى الخطأ وقد يكون مؤمناً، وقد يكون على صلاح، فيتكلم بكلام يحاسبه الله عز وجل عليه، فهذا من أخطر ما كان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم شغله هذا الحديث الفظيع الذي قيل عن زوجته رضي الله عنها ومع ذلك هذا يتكلم ويقول لـ سعد بن معاذ: (كذبت لعمر الله لا تقتله)، ويقصد المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، (فكاد الأوس والخزرج يقتتلون بسبب ذلك، فسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم)، وتأملوا كيف أن عصبية الجاهلية تدفع الناس لنسيان المشكلة الأساسية والدخول في أمور فرعية بعيدة عن الأصل.
وأخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءها وقال لها: (إذا كنت قد ألممت بأمر فتوبي إلى الله)، فهي ردت على هذا بما ذكر سابقاً، وفي النهاية أنزل الله عز وجل بعد شهر عذر السيدة عائشة، وأنها بريئة من هذا الذي قيل عنها، فكان لها منزلة عظيمة جداً عند ربها سبحانه أن ينزل في شأنها عشر آيات.
وكانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من ذلك، يعني: كانت تتمنى أن لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه تبرئها، لكن أن ينزل قرآن فما كان ذلك على بالها.
وتقول عائشة رضي الله عنها: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمري: ما علمت أو ما رأت؟ فقالت: زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، يعني: أخاف من ذلك، وإني لا أقول كلاماً كذباً أبداً، والله ما علمت إلا خيراً.
وفيه تقوى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن القدوة للمسلمين والمسلمات من بعد ذلك، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة الجميع، فهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم طهرهن الله عز وجل تطهيراً؛ فلذلك قالت: أحمي سمعي وبصري.
ومهما تكون الغيرة في المرأة من ضرتها لكن لا يدفعها ذلك إلى أن تقول مثل هذه المقالة الشنيعة.
فقالت زينب وهي كانت تغار من عائشة، والسيدة عائشة تغار منها، ولكن مع ذلك شهدت بالحق وأنه مستحيل أن تقع عائشة في ذلك فقالت: ما رأيت إلا خيراً، وما علمت إلا خيراً، وأقسمت بالله على ذلك رضي الله عنها.
إن الذي بدأ بهذا الإفك هو عبد الله بن أبي ابن سلول الرجل المنافق، وقد أسر ذلك لمن حوله من المنافقين فأشاعوا هذا الكلام، ولذلك لم يثبت عليه شيء وإن كان هو صاحب هذه الكذبة العظيمة والإفك العظيم، فحين جاءت السيدة عائشة ومعها صفوان بن معطل السلمي يقود الناقة التي تركبها قال هذا الرجل المجرم: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فكان أصل الكلام من هذا الرجل فتناقله الناس، وممن تناقله وثبت عليه حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فهؤلاء لما أنزل الله عز وجل براءة السيدة عائشة أمر بهم فأقيم عليهم الحد، وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فلم يقم عليه شيء، وهذا من الله عز وجل إملاء واستدراج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة) فمن أقيم عليه الحد فهذا كفارة فيتوب الله عز وجل عليهم بذلك، وأما هذا فالله يستدرجه ويمهله ويؤخره إلى يوم القيامة للحساب العظيم، ولنار جهنم التي يستحقها هنا المنافق وأمثاله.
لذلك إذا كان ربنا سبحانه وتعالى لا يعاقب العبد في الدنيا فليس معنى ذلك أنه أفلت من العقاب، ولكن إن تاب تاب الله عز وجل عليه، وهذا الرجل لم يتب إلى الله، وكان إلى آخر حياته على كفره ونفاقه وكذبه، وعلى الوقيعة بين المؤمنين حتى أهلكه الله سبحانه وتعالى وهو مشهور بالنفاق بين الناس.
فمن كان يدافع عن هذا الرجل علم يقيناً كيف آل الأمر به في آخر حياته إلى النار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه حين مات، ثم نهاه ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يصلي على المنافقين، فلما نهاه عن أن يصلي على أحد منهم مات أبداً علم الناس يقيناً أن هذا الرجل كان من المنافقين، وأنه كان لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما ذكر الله تبارك وتعالى.
وقد ظلم في هذه القصة مع السيدة عائشة صفوان بن المعطل السلمي فلما عرف أن حسان كان يتكلم فيه أخذ السيف واختبأ في مكان، فلما ظهر حسان علاه بسيفه وقال: تلقّى ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر فإن كنت شاعراً تستطيع الرد فأنا لا أرد إلا بالسيف، فضربه السيف، فذهب حسان يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالعدل، وإن كان حسان من ضمن من وقع في السيدة عائشة فقد أقيم عليه الحد، فعلى ذلك يكون له القصاص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من حسان أنه يهب ذلك له، قال: واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يعني: اتركها من أجلي، فتركها حسان رضي الله وتعالى عنه، وكان حسان بعد ذلك يقول شعراً يمدح عائشة رضي الله عنها، فجلس عند غرفتها وقال عنها رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل يذكرها أنها على غاية الكمال في العفة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي رزينة عاقلة ما يظن فيها أبداً أن تقع في ريبة فضلاً عن أن تقع في ذلك الذي قالوه عنها.
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل، غرثى بمعنى: جائعة غير آكلة، أي: أنها نظيفة طاهرة لا تقع في عرض أحد أبداً، ولا تأكل لحوم الناس بمثل هذه المقالة.
فلما قال لها ذلك رضي الله وتعالى عنهما قالت: ولكنك لست كذلك.
فلما كان الناس يريدون أن يقعوا فيه كانت تنهاهم عن ذلك، وتقول: إنه قد أقيم عليه الحد، وإنه كان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تذكره بخير.
فتأمل ما قال عليها وما قالت عليه، فكان من شعره فيها قوله: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواصل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت اللغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلها تقاصر عنها سورة المتطاول إذاً: يمدح السيدة عائشة، ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب بشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أقوى شعراء النبي صلى الله عليه وسلم هجاء للكفار، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أهجهم وروح القدس معك).
يعني: كل شاعر من الشعراء تكون الشياطين من وراءه، لكن هذا كان جبريل من وراءه يؤيده.
فعلى ذلك فله فضيلة، فمن رحمة رب العالمين سبحانه أن أنزل الحدود وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد عليه وعلى من معه من المسلمين الذين تكلموا؛ تطهيراً لهم لكي يعرف أنهم قد طهروا من هذا الذي وقعوا فيه.
وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فأمره إلى يوم القيامة للعذاب الأليم هو وأمثاله.
جاء في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلى القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش).
قال العلماء: إنما لم يحد عبد الله بن أبي ابن سلول لأن الله تبارك وتعالى قد أعد له في الآخرة عذاباً عظيماً، فكأنه أخر ذلك ليوم القيامة فيأخذ العذاب الشديد.
قال الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، هذا تأديب للإنسان المؤمن ألا يسمع كلاماً فيه كذب، أو فيه انتهاك لعرض إنسان مسلم، وأنه إذا سمع ذلك رد على الذي يقوله، ولا يسيء الظن في المسلمين، فالأصل براءة عرض الإنسان المسلم، وأنه بريء مما يرمى به حتى يأتي الرامي بأربعة شهود كما ذكر الله عز وجل يشهدون على ذلك.(72/2)
القراءات في قوله تعالى: (لا تحسبوه شراً لكم)
وفي قوله سبحانه: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11] قراءتان: قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر: (لا تحسَبوه) بفتح السين.
وباقي القراء: (لا تحسِبوه شراً لكم) بالكسر.
والمعنى: أن مثل هذا البلاء الذي قد يرمى ويلقى على إنسان في الدنيا ليس بالشر للإنسان طالما كان من وراءه الأجر عند الله، فيصبر الإنسان المؤمن على ذلك.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، أي: وإن كان في ظاهره أنه مصيبة ولكن فيما عند الله عز وجل فيه أجر، فلذلك قال: {هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، يعني: فيما تنتظرون من أجر عند الله عز وجل، وأيضاً في الدنيا من تمحيص واختبار وتمييز الخبيث من الطيب، فينتبه الناس من هذا الإنسان الخبيث، ويحذرون شر مثل عبد الله بن أبي ابن سلول في المؤمنين.
قال الله سبحانه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] يعني: إلا أن يتوب الإنسان ويقام عليه الحد؛ لأن الحدود كفارات للذنوب.
قال تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11] وكأن كثيراً قد تكلموا لكن الذين اشتهر أمرهم أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد عليهم، وأما غيرهم فلم يحصل لهم شيء ولعلهم حكوا الكلام فقط.
وهذا الرجل لم يقم عليه الحد تأخيراً له ليوم القيامة، ووصفه بأنه {َالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [النور:11]، وفي ذلك قراءتان: هذه قراءة الجمهور.
وقراءة يعقوب ((والذي تولى كُبره منهم))، والكبر من الأمر معناه: عظيم الأمر وأعظم الجرم في ذلك فهو أول من قال بالمقالة الذي ذكرناها والباقون رددوا ذلك، فمن عرف منهم أقيم عليه الحد، والله عز وجل يبسط يد التوبة لمن يتوب إليه سبحانه، فقال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11]، يعني: أن الحد لا يكفي لتطهيره؛ لذلك لم يقم عليه في الدنيا، ويدخر له العذاب العظيم ليوم القيامة.(72/3)
تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)
ثم أدب المؤمنين فقال: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12].
قوله: ((بِأَنفُسِهِمْ)) تحتمل وجهين: ظن كل إنسان بنفسه الخير، وأنه لا يتكلم بمثل هذه المقالة التي هي محض من الشر، فعلى ذلك الظن الخير إني أحسن الظن فيمن قيل عنه هذا الشيء، فيظن المؤمنون والمؤمنات بعضهم في بعض الخير.
قال تعالى: ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)) أي: ظن بعضهم في بعض الخير، أو استحضروا ظن الخير في أنفسهم فقاسوا غيرهم على أنفسهم، فقد جاء أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله تبارك وتعالى عنه لما سمع ذلك ذهب إلى امرأته وسألها، فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل في عائشة رضي الله عنها؟ فقال: نعم، وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟ فهنا ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً، فقالت: لا والله، قال: فـ عائشة أفضل منك لا تفعل هذا الشيء.
فهنا لو أن كل الناس كانوا كـ أبي أيوب الأنصاري لأخمد الأمر من أوله، وما كان أحد قال هذا الشيء.
فربنا يؤدب المؤمنين لماذا ما قلتم كما قال أبو أيوب الأنصاري، وظننتم الخير في أنفسكم وقستم عائشة على أنفسكم، فهي أفضل منكم، وهي أم المؤمنين، فإذا كان أحدكم يأنف أن تقع امرأته في ذلك فهل يظن بالسيدة عائشة أن تقع في مثل ذلك!! قال تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] (الإفك) أعظم الكذب، و (مبين) يعني: بيِّن واضح، فهذا كذب بين واضح.
يقول العلماء: إن هذه الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان، ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم، لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً.
والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا قال: لا إله إلا الله فتحلى بهذه الكلمة فهو معصوم الدم والعرض والمال، هذا الأصل.
فالإنسان طالما أنه مسلم، فالأصل أنه صالح، والأصل أنه عفيف، فهذه أصول لا نزول عنها، ولا نبتعد عنها إلا بشيء يقيني، وعلى ذلك فمهما جاء من كلام: فلان يعمل كذا، فلا يصدق فيه إلا أن يأتي اليقين أنه فعلاً فعل هذا الشيء، فيقيننا لا يزول عن هذا الوصف الذي هو عليه حتى يثبت الشيء الآخر عليه بدليل يقيني.(72/4)
تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)
قال سبحانه: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] قوله: (لولا) أداة تحضيض، والمعنى: هؤلاء القائلون هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء، وقد كانت السيدة عائشة وحدها في هذا المكان، وجاء صفوان فدخلا إلى المدينة، فمن أين سيأتون بالشهود حتى يثبتوا هذا الكذب الذي يقولونه؟! قال سبحانه: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]، هذا فيهم وفي كل من كان مثلهم، فكل من رمى مسلماً في عرضه فالأصل أنه كذاب حتى يثبت ما يقول ببينة واضحة، وبشهود تقبلهم الشريعة، فإذا لم يأت بالشهود فهو كذاب عند الناس وكذاب عند الله سبحانه وتعالى.
قال الإمام القرطبي: أي: في حكم الله كاذبون، وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكن الشريعة جاءت بحرمة أعراض المسلمين.
يعني: ليس من حقك أن تتكلم حتى يكون عندك شهود يشهدون بهذا الشيء، ولو ترك الأمر هكذا فكلما رأى شخص شيئاً تكلم عنه، ففضح الناس بعضهم بعضاً، ولكن في مثل هذا الشيء لا بد من أربعة شهود وإلا يكون هذا المتكلم كاذباً عند الناس وكاذباً عند الله سبحانه وتعالى.(72/5)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)
يقول سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14].
ولولا فضل الله عليكم ورحمته فإن الأمر أمر خطير جداً أن يغضب النبي صلى الله عليه وسلم، والله لا يسكت على مثل ذلك، ولكن رحمة رب العالمين التي جعلته سبحانه وتعالى بفضله وبرحمته يكف عن هؤلاء العذاب العظيم، كأن يزلزل بهم الأرض، أو يخسف بها فيدخلهم النار.
ولكنه سبحانه لفضله ورحمته سبحانه في الدنيا والآخرة قال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، أفاض في الكلام بمعنى: أخذ في الكلام، وكأنهم تكلموا كثيراً، وشاع الكلام في ذلك، فلولا أن الله برحمة عظيمة واسعة رحمكم بها لكان عذبكم جميعكم في الدنيا بما قلتم عن عائشة رضي الله وتعالى عنها.(72/6)
تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم)
قال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
يعني: يتلقفه بعضكم من بعض في استعجال ودون روية وتثبت.(72/7)
القراءات في قوله تعالى: (إذ تلقونه)
وفي قوله تعالى: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)) ثلاث قراءات: هذه قراءة الجمهور بسكون الدال، وقراءة ابن كثير: بكسرها.
وقراءة حمزة وخلف وأبي عمرو وهشام: بإدغام الذال في التاء.
والتلقي بالألسنة لنقل ذلك فأنتم تتكلمون بما ليس لكم به علم، ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا)) يعني: أن تتكلم عن عرض مسلم فضلاً عن أن تتكلم عن عرض أم المؤمنين رضي الله وتعالى عنها، فذلك ليس هيناً بل هو عند الله عظيم، وكم من الذنوب يقع فيها الناس وينظرون إليها أنها دقيقة وأنها هينة ولا قيمة لها وهي عند الله عز وجل عظيمة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لما مر بالقبرين يعذبان فقال صلى الله عليه وسلم: إنهما لا يعذبان وما يعذبان في كبير؛ بلى إنه لكبير -يعني: ما يعذبان في كبير في نظرهما، وفي نظر الناس أنه شيء بسيط ولكنه عند الله عظيم فضيع- أما أحدهما فكان لا يتنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، فكم من الذنوب التي يقع فيها الإنسان يحسبها هينة وهي عند الله عظيمة! نسأل الله العفو والعافي في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(72/8)
تفسير سورة النور [11 - 19]
إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد ابتلى الله خليله وحبيبه محمداً صلى الله عليه وسلم ليستخرج منه مكنون خلته، وليعلم أن الخليل لا يرضى بالمزاحمة، فاتهم في عرضه وأحب نسائه إلى فؤاده، ثم زيادة في التمحيص تنتشر الشائعة وينقطع الوحي من السماء، ثم بعد العسر يأتي الفرج وتأتي البشرى: أن ما كنتم فيه من شدة ليس شراً لكم بل هو خير لكم؛ لرفع درجاتكم، ولتسن لكم الحدود، وليجازى المنافقون بسوء صنيعهم.(73/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * {يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:11 - 19] ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات حديثاً تكلم به المنافقون عن عائشة رضي الله عنها في أمر الإفك، فكذبوا وافتروا عليها، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وعائشة رضي الله عنها ما كانت تظن أن الله سبحانه وتعالى سينزل في شأنها قرآناً، فتقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل في قرآن، ولكن كانت أتمنى أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه تبرئني، فأنزل الله عز وجل عشر آيات في هذا الشأن كما سمعنا.
فقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور:11] الإفك هو الكذب، وعصبة منكم: أي: مجموعة منكم، وليسوا كل المؤمنين، قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور:11]، بل هي مصيبة من المصائب، وما من مصيبة إلا وفيها خير للمسلمين وإن كان ظاهرها الشر.
قال تعالى: {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} [النور:11] فالإنسان الذي يكسب خطيئة وإثماً فإنما يكسب ذلك على نفسه، وإن كان قد يضر غيره في الدنيا بهذا الذي قال، ولكن في الحقيقة أن ضرره ذلك يقع عليه في الدنيا وفي الآخرة كما حدث بهؤلاء الذين تكلموا بهذا الأمر، وأما الذي أشاع هذا الأمر واستهواه ونشره في الناس، وتكلم به سراً بينه وبين المنافقين حتى شاع بعد ذلك، فهو الذي تولى كبره كما قال سبحانه: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].(73/2)
تفسير قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)
قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] يحض الله سبحانه وتعالى المؤمنين أنهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يحسنوا الظن بإخوانهم، وأنهم إذا أحسنوا الظن في أنفسهم فليقيسوا إخوانهم على أنفسهم، وإخوانهم أفضل منهم، فيقول سبحانه: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} [النور:12] يعني: كل مؤمن ومؤمنة، {بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] يعني: ظن بعضهم في بعض ظن الخير وليس ظن السوء، أو أن كل إنسان عند نفسه أنه على خير، فإذا كان يرى نفسه كذلك فكيف بنظره إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله وتعالى عنها؟.
فالمفروض عليهم أن يحسنوا الظن ولا يتكلموا في ذلك، فهلا فعلوا ذلك؟ {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] كما قال ذلك أبو أيوب الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما.(73/3)
تفسير قوله تعالى: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء)
قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] أي: هؤلاء القائلون الكذابون هلا جاءوا بأربعة شهداء يشهدون لهم أن ما يقولونه حق؟ وهيهات أن يقدروا أن يأتوا بالشهداء على ذلك.
قال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13].(73/4)
تفسير قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14]، فالله عز وجل رحمن ورحيم في الدنيا والآخرة، فلولا أنه تفضل على المؤمنين فعفا عنهم سبحانه لجازى الجميع بهذا الذي قالوه، وحاسبهم في الدنيا بأن يعذبهم فيجعلهم عبرة لغيرهم.
وقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: فيما خضتم فيه من الحديث عذاب عظيم.(73/5)
تفسير قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)
قال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] أي: تتلقونه من لسان إلى لسان فتتكلمون به، {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} [النور:15] كأن الكلمة كلمة عظيمة وخطيرة وشنيعة تملأ الفم، فتكلموا بأفواههم.
قال تعالى: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15]، وربنا سبحانه قد حذرنا من ذلك فقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فالإنسان مسئول عن سمعه ماذا يسمع به، وماذا ينصت إليه، ومسئول عن بصره ما الذي ينظر إليه ويبصره، ومسئول عن قلبه ما الذي يكنه فيه وينويه ويضمره.
فقال سبحانه: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور:15] فالذم هنا لمن يتكلم فيما لا يفقهه ولا يفهمه وليس له به علم.
وفي قوله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] تحسبون ذلك هيناً في أنفسكم وفي نظركم وهو عند الله سبحانه شيء عظيم فظيع.(73/6)
القراءت في قوله تعالى: (وتحسبونه هيناً)
وفي قوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] قراءتان: بفتح السين، وهي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة.
وقراءة أبي جعفر وباقي القراء بكسر السين: (وَتَحْسِبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ).(73/7)
تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا)
ثم قال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] أي: هلا إذ سمعتموه {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] أي: لولا أنكم فعلتم ذلك فقلتم: هذا شيء فظيع ولا نتكلم بمثله أبداً، لخمدت الفتنة في مهدها.
قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا الإفك الفظيع في زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو أنهم عقلوا ذلك فنظروا أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشا لله سبحانه أن يجعل له ما يؤذيه في أهل بيته، وقد قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
فهلا أحسنتم الظن في ربكم سبحانه وقلتم: حاشا لله أن يجعل أحداً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجته وحبيبته، سبحانك يا ربنا أن يحدث هذا، أو أنك تجعل من يؤذي نبيك صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك، فيقولون: هذا الذي قالوه بهتان عظيم، والإفك أعظم الكذب، والبهت أن يرمي الإنسان غيره بما ليس فيها جهاراً.
فيقولون: لو أننا قلنا ذلك فهو بهتان عظيم.(73/8)
تفسير قوله تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً)
قال تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] أي: يحذركم بهذه الموعظة وبما حدث أن ترجعوا لمثل ذلك أبداً، قال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17]، وهذا تحضيض وتهييج للإيمان في القلوب، فإذا كنتم مؤمنين فلا تعملوا هذا الشيء، وهذا كما تقول لإنسان: إن كنت رجلاً فاعمل كذا، وهنا إن كنتم مؤمنين فلا ترجعوا إلى هذا أبداً واحذروا أن تتكلموا به أبداً.(73/9)
تفسير قوله تعالى: (ويبين الله لكم الآيات والله عليكم حكيم)
قال تعالى: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] أي: يوضحها لكم لئلا يكون لكم حجة على الله سبحانه بعدما بين ووضح {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] يقول هشام بن عمار: سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل.
هذه فتوى الإمام مالك رحمه الله، وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومنزلته منزلة عظيمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت متخذاًَ خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً) وإيمانه لو وزن بإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح إيمان أبي بكر على الأمة، فيقول مالك: لو أن إنساناً سب أبا بكر رضي الله عنه فإنه يستحق أن يعزر وأن يؤدب، وكذلك عمر رضي الله وتعالى عنه.
وأما من سب عائشة -يعني: بالإفك- فيستحق القتل، فما الفرق بين الاثنين؟ الفرق أن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رجل فاضل من المؤمنين، فالإنسان الذي يقذفه يكون فاسقاً وكذاباً يستحق الحد الذي ذكر الله في الكتاب.
لكن الذي يقذف عائشة فهذا مكذب بكتاب الله سبحانه، فربنا أنزل براءة عائشة رضي الله عنها في القرآن، فلما يأتي إنسان يرميها بذلك كالشيعة أو كالمجرمين منهم الذين يرمونها بذلك فهنا ربنا سبحانه وتعالى يشهد عليهم بأنهم كاذبون، فلذلك أفتى الإمام مالك: أن من يسبها -يعني يرميها بهذه الفاحشة- فإنه يستحق القتل.
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] حكيم بما يشرعه لكم؛ ليردعكم وليؤدبكم، ولتنتهجوا منهج الله سبحانه وتعالى في أمره ونهيه.(73/10)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] أي: الذي يحب ويتمنى في قلبه أن يشيع أمر الفاحشة ويفشو ويكثر.
والفاحشة هي الأمر المفرط في القبح، والمقصود به جريمة الزنا.
فالإنسان الذي يحب ذلك ويتمنى أن يكون هذا بين الناس أمراً عادياً والناس يفعلونه، فالذي يحب ذلك ولو لم يفعل، ولو لم يعن على ذلك، ولكن يتمنى بقلبه ذلك هذا له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يفعلها ويأتيها؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، في الدنيا لهم عذاب أليم بإقامة الحد وغيره مما يبتليهم الله عز وجل به في ذلك الأمر، وذلك إذا لم يتوبوا إلى الله سبحانه، وقد رأينا كيف أن الله يبتلي هؤلاء الزناة واللواطين بالإيدز، ويبتليهم بالسيلان وبالزهري وبالهربز وغيرها من الأمراض الفتاكة التي لا يعرفون لها دواءً.
وفي الآخرة العذاب الأليم في نار جهنم، لكنه هنا مقيد في عذاب الآخرة بمن مات مصراً على هذا الذنب، وأما من تاب فيتوب الله عز وجل عليه، والله يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء وأنتم لا تعلمون، فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وقد روى الإمام أبو داود والإمام أحمد أيضاً من حديث معاذ بن أنس الجهني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمى مؤمناً من منافق بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم) يعني: سمع منافقاً يتكلم في عرض مؤمن من المؤمنين فيرميه بالفاحشة، ويرميه بكلام زور، فحمى عرضه منه وقال له: فلان لا يفعل مثل هذا الشيء، وأنت كاذب فيما تقول، فحمى عرض المؤمن، ودافع عنه، فالله عز وجل يبعث له ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، فلا يدخلها، فإذا مر على الصراط وكاد أنه يهوي بذنوبه إذا بالملك يعدله على الصراط ولا يجعله يقع في نار جهنم.
ثم قال: (ومن رمى مسلماً بشيء يريد شينه حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قاله) فالإنسان الذي يسيء الظن في المسلمين فيفتري عليهم، أو يتحدث عنهم بأكاذيب سواء عرف أنها أكاذيب أو لم يعرف كان مصيره ما ذكر في الحديث؛ لأن التحدث في أعراض الناس لا يحل لأحد، وإذا تكلم فإنه يأتي بشهود على هذا الذي يقوله حتى يقبل منه هذا الشيء، فيقام الحد على من رماه بهذه الجريمة.
وإذا كان يتكلم نقلاً للحديث يريد شينه كأن يكون مغتاظاً من شخص فيقول: أنا سمعت الناس يقولون عنه كذا وكذا، يريد شين هذا الإنسان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل يحبسه يوم القيامة على جسر جهنم، فإذا مر على الصراط يحبس فوقه فلا يستطيع أن يمر على الصراط حتى يخرج مما قال، فهو محبوس على جسر جهنم تلفحه النار، ولن يستطيع أن يخرج مما قال؛ لأنه قد قاله في الدنيا.
وكأن المعنى أنه يعذب بذلك في هذا المكان، ويحبس على جسر جهنم حتى يخرج مما قال.
وهذا الحديث حسنه الألباني في سنن أبي داود في الطبعة الثانية.
وقد ذكر هنا الإمام القرطبي حديثاً بهذا المعنى رواه الطبراني وإسناده فيه ضعف، وفيه: (أيما رجل شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها) وهذا يشهد له الحديث الذي ذكرنا في المعنى.
فأي رجل -وكذلك المرأة- شد عضد إمرئ من الناس في خصومة لا علم له بها، يعني: لقي اثنين يختصمان من الناس فوقف مع واحد على الثاني، فشد عضده وهو لا علم له بشيء ولكن عصبية وتحيز له، وبدأ يتكلم مع هذا ويفتري أيضاً فيقول: أنا رأيته وسمعته، وهو لم ير ولم يسمع شيئاً، فذكر هنا أنه في سخط الله حتى ينزع عنها.
ثم قال: (وأيما رجل حال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقاً) وهذا الحديث إسناده ضعيف لكن له شاهد آخر بهذا المعنى: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) كأنه يعاند الله تعالى، فربنا يأمر بإقامة الحد، وهذا يرفض ذلك ويمنعه.
قال هنا: (فقد عاند الله حقاً، وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار) وهذا الجزء من الحديث الذي ذكرناه حسنه الشيخ الألباني في سنن أبي داود وإن كان ضعفه في ضعيف الجامع الصغير لكنه في طبعة ثانية حسن هذا الحديث.
والحديث الذي عند الطبراني يشهد له ما عند أبي داود وعند الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ بالمعنى نفسه.
فذكر هنا أن الذي يريد أن يشين امرأً مسلماً فيرميه بشيء هو منه بريء، فقال: (كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار، ثم تلا مصداقه من كتاب الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(73/11)
تفسير سورة النور [19 - 22]
لقد نهى الله المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان، وعن سبيل المجرمين، فإن الشيطان حريص على رؤية المسلمين والناس أجمعين في النار، لكن الله يعصم بفضله المؤمنين عن اتباع سبيله، وطريق غوايته، ثم بين تعالى أنه على المنفقين ألا يقطعوا نفقاتهم عن الذين تكفلوا بالإنفاق عليهم ورعايتهم؛ لأنه من اتباع خطوات الشيطان الرجيم، المطرود من رحمة رب العالمين.(74/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].(74/2)
مصير الذين يحبون إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا
في هذه الآيات وما قبلها من هذه السورة الكريمة يخبر الله سبحانه وتعالى عن أحكام عظيمة، منها ما قدمناه قبل ذلك من أن الله عز وجل بين لنا الآيات، وأخبرنا أن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وهذا في الذين يحبون إشاعة الفاحشة فقط فكيف بالذين يفعلون الفاحشة؟! لا شك أن لهم عذاباً أليماً في الدنيا، بإقامة الحد عليهم، وبشؤم معصيتهم التي صنعوا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فمن شؤم هذه الفاحشة أن ينزع الإيمان من قلبه، ويعلق فوق رأسه حتى يتوب إلى الله ثم يرجع إليه إيمانه.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19] أي: أن الله يعلم من يستحق هذه العقوبة ويعلم أن الإنسان الذي يقع في رمي المحصنات الغافلات إنسان يستحق العقوبة العظيمة عند الله عز وجل؛ لإفساده بين الخلق، ولاتهامه المؤمنين أهل العفاف وأهل الصدق وأهل التقوى بهذا البهتان العظيم، فالله يعلم من الذي يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ممن لا يستحقها، وهو يعلم كل شيء، وأنتم لا تعلمون إلا ما يخبركم ويعلمكم به سبحانه.
إذاً: الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم العذاب الأليم في الدنيا بإقامة الحد عليهم، وإذا ماتوا وهم مصرون على هذا الذي قالوه فالله عز وجل يعذبهم عذاباً أليماً في نار جهنم.
قال سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20]، والجواب هنا محذوف ولك أن تتخيل ما الذي يحدث حين تعصي ربك سبحانه؟ وما الذي تستحقه من الله عز وجل على هذه المعصية؟ ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) فتقدير
الجواب
لعذبكم في الدنيا بعذاب أليم، كأن ينزل عليكم من السماء عذاباً، أو يفتح عليكم من الأرض عذاباً، أو يخسفها بكم، ولو يؤاخذ الله العباد بذنوبهم وبما كسبوه لعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولكن الله ذو فضل عظيم، حيث يتفضل فيعفو عن العباد، ويتفضل فيعطي العباد، ويتفضل فيفتح باب التوبة للعباد.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} والرءوف اسم من أسماء الله الحسنى فيه رحمة الله سبحانه وحنانه بعباده.
وفيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وابن عامر وحفص عن عاصم {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20]، وقراءة باقي القراء: (وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوف رَحِيمٌ) الأولى: رءوف على وزن فعول، والثانية: رَؤُف على وزن فَعُل، وكذا في آيات القرآن التي فيها هذه اللفظة: (رءوف).(74/3)
التحذير من اتباع خطوات الشيطان
يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] يحذر الله عز وجل المؤمنين من أن يتبعوا مسالك الشيطان ومداخله وأهواءه التي يدعو الناس إليها، والمعنى: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم الشيطان لسلوكها.
قوله: ((خُطُوَاتِ)) الخطوات واحدها خطوة، والخطوة ما بين القدمين، كأن تمد رجلاً للأمام فتقيس ما بين القدم الأمامية والقدم الخلفية، فتلك المسافة تسمى: خطوة.
قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] بالضم للطاء وهذه قراءة قنبل عن ابن كثير وقراءة ابن عامر وقراءة حفص عن عاصم وقراءة الكسائي وقراءة أبي جعفر ويعقوب، وأما باقي القراء فيقرءونها بالفتح: (لا تَتَّبِعُوا خَطَوَاتِ الشَّيْطَانِ).
يقول سبحانه {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] أي: ومن يسر في مسالك الشيطان، وكأن الشيطان يمشي ثم يضع علامة، فيأتي الإنسان ويمشي على هذه العلامة وهكذا، فمن تبع خطوات الشيطان فإن الشيطان يأمره بالفحشاء والمنكر، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، فالذي يسير وراء الشيطان سيكون من أهل الفحشاء -وهي القبائح- ومن أهل الزور والبهتان، ومن أهل الأفعال والأقوال القبيحة، قال سبحانه في سورة البقرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة:268] أي: أن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ويأمركم بأن تقعوا في كل فاحشة؛ لأن الشيطان لا يحب الخير للإنسان، فهو عندما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام كاد له، فجعله الله عز وجل شيطاناً رجيماً، وتوعده بالنار، قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:36 - 37] أي: المؤخرين فلن نعذبك الآن، وإنما سنؤخر عذابك إلى يوم القيامة، ووعد الله حق لا يخلف، ولذا ظل الشيطان يتغيظ من ابن آدم؛ فهو بخلق آدم أظهر ما في داخله من الكبر والغرور، قال الله عز وجل حاكياً عن إبليس: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فقد ابتلي آدم بالشيطان، فهو يحسده أن خلقه الله عز وجل بيده، وأمر الملائكة أن يسجدوا له، فرفض أن يسجد لآدم، واستكبر عليه وكان من الكافرين باستكباره، فالله عز وجل جعله من أهل العذاب.
فآدم كان سبب عذاب هذا الشيطان، فالشيطان جعل يحسده ويحسد بنيه، يقول الله سبحانه مخبراً عن توعد الشيطان بإغواء بني آدم: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، ويقول في موضع آخر: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهو يكيد للإنسان حتى يأخذه معه إلى النار، والله سبحانه وتعالى بين لنا في كتابه أنه عدو لنا فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] أي: احذروا أن تكونوا من أهل النار، فالشيطان يدعوكم إلى ذلك، وهنا في سورة النور يخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر، فهذا سبيله وهذا ديدنه.
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، فتكررت (لولا) مرات في هذه السورة، وقد لا يذكر جوابها أحياناً ويذكر أحياناً أخرى كما في هذا الموضع: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ))، وذلك بأن هداكم وأن علمكم سبحانه، ولولا رحمته بكم سبحانه: ((مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)) يعني: ما تزكى وما تطهر منكم أحد أبداً، وما استحق أن يكون من أهل الجنة، وما استحق أن يهدى، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، وهذا محض فضل من الله عز وجل، إذ أنه يريد بكم الخير والرحمة والتخفيف فضلاً منه ونعمة، فلولا فضله ورحمته بالناس ما تطهر أحد أبداً، ولا عرف شرع الله سبحانه ولا طريق جنته.
يقول الله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] أي: يهدي من يشاء إلى طريق الحق وطريق الإسلام، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور:21] كل شيء، ((عَلِيمٌ)) بمن يستحق منكم أن يهدى ومن يستحق منكم أن يضل.(74/4)
تفسير قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة)
قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي غيره من المؤمنين، لكنه كان سبب نزولها، فقد كان ينفق على مسطح بن أثاثة، وأم مسطح هي بنت خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أما مسطح فهو ابن خالته مجازاً، واسمه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف، وقيل: إن مسطح لقب له واسمه عوف، وكان فقيراً مسكيناً، وكان من المهاجرين من أهل بدر، وربنا سبحانه وتعالى قد اطلع على أهل بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وكان مسطح بن أثاثة ممن خاضوا في حديث الإفك، وقد جاء عنه أنه اعتذر لـ أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان، وكان حسان شاعراً، فـ حسان كان يقول الشعر وأنا أسمعه ولا أقول، فقال له أبو بكر: لقد شاركت فيما قيل، وأقسم أبو بكر يميناً أنه لا ينفق عليه مرة ثانية؛ لأنه كان يحضر المجلس الذي يتكلم فيه عن عائشة، أما اعتذاره ذاك فالله أعلم بثبوته، إلا أن الله عز وجل قد أمر بإقامة الحد، فكان مسطح ممن أقيم عليه الحد، ويلزم منه أنه تكلم فأقيم عليه الحد رضي الله عنه، كما أقيم الحد على حسان بن ثابت وحمنة أخت زينب بنت جحش، فهؤلاء الثلاثة أمر الله عز وجل بأن يقام عليهم الحد؛ تطهيراً لهم في الدنيا، فلا يكون عليهم يوم القيامة شيء، وأما عبد الله بن أبي ابن سلول ذاك المنافق فالله عز وجل أخره للآخرة، فلم يقم عليه الحد في الدنيا؛ ليكون له العذاب الأليم في الآخرة، وقد فضحه في كتابه سبحانه حيث قال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
فلما حلف أبو بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح أنزل الله عز وجل هذه الآية يأمر أبا بكر وغيره بأن يرجعوا في ذلك الحلف الذي حلفوه.
فقال سبحانه: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] يعني: لا يحلف ولا يقسم، فأصلها من الألية، والألية بمعنى اليمين والحلف.
قوله: (ولا يأتلِ) هذه قراءة الجمهور، وقرأها أبو جعفر: (ولا يتأل أولوا الفضل منكم والسعة) أي: لا يقسم أولو الفضل منكم والسعة، وفيه مدحة لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه صاحب فضل، كما أن فيه إشارة إلى أن كل صاحب فضل يجب أن يراعي أن الله سبحانه قد أعطاه من فضله، وجعله أفضل من غيره، فإن أكرمك الله فكن كريماً في معاملتك وأخلاقك مع الناس.
قوله سبحانه: {وَالسَّعَةِ} [النور:22] أي: الغنى.
قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] أي: أن يؤتوا أهل القرابة، وقد كان مسطح ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من أصحاب المسكنة وأصحاب الفقر والمهاجرين في سبيل الله، والملاحظ هنا أن الذي أتى به مسطح وغيره كبيرة من الكبائر، إذ الوقوع في عرض إنسان مسلم كبيرة من الكبائر، فضلاً عن أن يقع في عرض عائشة رضي الله عنها وهي المكرمة المطهرة.
وهذه الكبيرة لم تحبط له عملاً، ودليل عدم حبوط العمل من الآية أن الله ذكر أنهم من أولي القربى من المساكين والمهاجرين في سبيل الله، وقد كان مسطح من المهاجرين، فدل على أن الذي وقع فيه لم يحبط عمله، ولذلك كان البعض من أهل العلم يقولون: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وآيات الرجاء كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ومع أن أبا بكر الصديق مقصود بالآية إلا أنها عامة له ولغيره، أي: ينبغي أن تراعي قرابتك وإن أساءوا إليك، فهذا أبو بكر أساء إليه قريبه بأفظع ما يكون، حيث رمى ابنته زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره الله أن يعطيه وإن كان قال ذلك.
قوله: ((وَالْمَسَاكِينَ)) أي: راع الفقير والمسكين؛ لكونه فقيراً أو مسكيناً مسلماً، فيعطى حتى ولو كان مسيئاً في جانب آخر ووقع في كبيرة من الكبائر.
قال تعالى: {وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، فوصفه بأنه مهاجر، وهجرته في سبيل الله، فلم يهاجر لدنيا مع أنه وقع في كبيرة، ومع ذلك لم يلغ له ذلك سبحانه، وهذا من فضله ورحمته سبحانه.
قوله: ((وَلْيَعْفُوا)) اللام لام الأمر، فالله عز وجل يأمر المؤمنين بالعفو، فإذا كان العفو في ذلك الشيء الفظيع وهو الطعن في العرض، وقد يحمي الإنسان عرضه بدمه، مع ذلك فالله يقول له: ((وَلْيَعْفُوا))، فكيف بما هو أقل من ذلك؟! فيجب العفو أيضاً.
قوله: ((وَلْيَصْفَحُوا)) الصفح: هو التجاوز والمغفرة عن هذا الذي وقع في الإساءة، وقد تعظم الإساءة عند إنسان حتى إذا قيل له: اعف واصفح قال: لا؛ لأنك لا تعرف ماذا عمل بي، فقد عمل فيّ كذا وعمل فيّ كذا، فالله سبحانه وتعالى يقول {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: اعف واصفح ليكون جزاؤك من جنس عملك، كما أنك تعفو عن الناس فالله يعفو عنك، وإذا كنت تصفح عن الناس فإن الله يصفح عنك.
ولذا حين تحدث إساءة لإنسان ينبغي أن يتذكر ذنوبه في جانب ربه سبحانه وتعالى، ويتذكر إساءاته مع الله عز وجل، ويتذكر معصيته لله سبحانه وتعالى، فإذا تذكر ذلك ورغب في مغفرة الله له فعليه أن يغفر للناس ويصفح عنهم، قال سبحانه وتعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، فلما قال الله عز وجل ذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: بلى بلى أحب والله أن يعفو ويصفح عني.
فقد وعد الله سبحانه كرماً منه بالعفو والصفح لمن كان من أهل العفو والصفح، فقال: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: يغفر ويتجاوز ويعفو {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].(74/5)
بيان ما تحبط به الأعمال
قال العلماء: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرة من الكبائر فإنه لا يحبط العمل، وإنما يحبط عمل الإنسان الكفر بالله والشرك به، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] يعني: لا يحبط العمل إلا إذا مات الإنسان على الشرك بالله، فإنه إذا أشرك بالله ومات على ذلك حبط عمله؛ لقوله تعالى: ((لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ))، والراجح أن جميع الكبائر غير محبطة لعمل الإنسان، لكن الكبيرة ذنب عظيم يستوجب العذاب عليه، ومع ذلك قد يكون للإنسان أعمال أخرى يقبلها الله عز وجل، فلا تحبط هذه الكبيرة هذه الأعمال.
ومن محبطات الأعمال مع الشرك بالله سبحانه أن الإنسان يمن بالعمل الذي عمل، فلو أن مؤمناً عمل عملاً يبتغي به وجه الله سبحانه ثم منّ بعمله سواء كانت صدقة أو غيرها فإنه يحبط.(74/6)
بعض الأحكام المستنبطة من قوله تعالى: (ولا يأتل أولوا الفضل)
لقد أخذ أهل العلم من الآية مع ما ورد في الأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن الذي يحلف على شيء أنه لا يفعله فرأى أن فعله أولى فعليه أن يرجع عن هذا الحلف، ويفعل هذا الذي حلف ألا يفعله، ويكفر عن يمينه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني والله لأحلف على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير)، فالإنسان إذا حلف على ألا يعمل كذا ثم وجد أن ما حلف على تركه واجب عليه، وهو آثم بتركه، كأن يحلف أن يقطع الرحم، فهنا يحرم عليه قطيعة الرحم، ويجب أن يصل الرحم ويكفر عن هذه اليمين.
وفي الحديث (لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه)، أي: لأن يصر في يمينه، كمن يغضب ثم يقسم أن يفعل المعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن الإصرار على هذه اليمين أشد إثماً من أن يرجع في يمينه ويكفر عنها.
قال الفقهاء: من حلف ألا يفعل سنة من السنن وأقسم على ذلك، جُرحت عدالته، وردت شهادته؛ لأن الله عز وجل ينهانا أن نحلف على فعل شيء باطل لا يجوز {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22]، ولذا ينبغي ألا تحلف على منع خير، فلو أن إنساناً حلف على منع خير وجب عليه أن يفعل الخير، وأن يكفر عن هذه اليمين.
وأما إذا كان على التأقيت كأن يقسم ألا يصوم يوماً بعينه وصيامه نافلة، فلا يفسقه ذلك، ولا ترد شهادته بذلك، إنما الذي يفسق الإنسان أن يحلف أنه لا يفعل سنة للنبي صلى الله عليه وسلم أبداً، فهذا جارح قوي فيه، وقد تصل التهمة في الإنسان الذي يقسم على ترك سنه إلى الكفر والعياذ بالله، إذا كان يرفض سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أصلها، كأن يأخذ بالقرآن ويترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم رافضاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أمرنا بأخذ القرآن والسنة، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فكل ما يلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة هو وحي من عند الله، فمن رد السنة كأنه يرد الوحي من عند الله، والله أعلم.(74/7)
تفسير سورة النور [23 - 26]
من الموبقات المهلكات التي توعد عليهن رب الأرض والسماوات: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فإن هذه الجريمة من أعظم الكبائر، ومن أشد المخاطر، فكيف يقف من وقع في أعراض المؤمنات -وبالأخص في عرض عائشة أم المؤمنين وسيدة الطاهرات- أمام الله عز وجل؟! وماذا يصنع من تشهد عليه جوارحه بذلك عند الحكم العدل؟! فإياك إياك من الوقوع في الهلاك والخسران!(75/1)
تفسير قوله سبحانه: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ * الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:23 - 26].
في هذه الآيات من سورة النور يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن الجزاء الأخروي والدنيوي للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وذكر الله عز وجل قبل ذلك حد القذف، وهذا جزاء في الدنيا، وذكر هنا شيئاً آخر من العقوبة التي تكون في الدنيا وفي الآخرة وهي اللعن؛ لأنهم يستحقون ذلك، واللعن: هو الطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى.(75/2)
أوجه القراءة في كلمة المحصنات
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] أي: هؤلاء الذين يقذفون المحصنات، وهنّ العفيفات من النساء، وكلمة: (المحصنات) في كل القرآن فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (المحصنات)، وقراءة الكسائي: (المحصِنات)، ما عدا التي في سورة النساء في آية التحريم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء:23] إلى قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24]، فقد اتفق الجميع على أنها هنا بالفتح.
والمحصنات هن المتزوجات، لكن كلمة: (المحصنات) في غير هذا الموضع تقرأ بقراءتين: قراءة الجمهور: (المحصنات)، على أنها اسم مفعول، يعني: أن غيرها أحصنها، وقراءة الكسائي: (المحصِنات)، على أنها اسم فاعل، يعني: أنها أحصنت فرجها ونفسها، فهي محصنة، وهي محصَنة يعني: أحصنها زوجها لما تزوجها، فجعلها عفيفة؛ لأنه كفها عن غيره.
كذلك: أحصنها وليها، أو أحصنها الله سبحانه وتعالى، أي: فطرها عفيفة، وجعل العفة من طبيعتها، فهي محصَنة وهي محصِنة، أي: عفيفة مانعة فرجها عن غير ما أباح الله سبحانه وتعالى لها.
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور:23] أي: يقذفون، {الْمُحْصَنَاتِ} [النور:23] أي: العفيفات، {الْغَافِلاتِ} [النور:23]، وهذا مدح للمرأة المؤمنة، فليس فيها لؤم أو خبث أو نوع من التطفل، بحيث إنها تريد أن تعرف كل شيء، فهذا مدح للمرأة المؤمنة المبتعدة عن الناس، التي لا تستمع إلى الوشايات وإلى أقوال الزور وإلى الكلام غير الطيب، فهي غافلة عن أحوال الناس، وعما يراد بها، فتجدها دائماً في سترها وبيتها، فقد أعفها الله سبحانه وتعالى عن الحرام، فهي في غفلة عن أمر الدنيا، مقبلة على ربها سبحانه وتعالى، فهذا مدح للمرأة المؤمنة.(75/3)
صفات المحصنة في هذه الآية
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور:23]، فمن صفاتها: أنها مؤمنة عفيفة غافلة عن هذا الكلام الفارغ الذي يقال عنها، وحكم المحصن أيضاً نفس هذا الشيء، فكما أن العفاف موجود في النساء، فهو كذلك موجود في الرجال، فالذين يرمون هؤلاء لعنوا في الدنيا والآخرة، أي: استحقوا اللعن، وهو الإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
والمقصود بالذين يرمون المحصنات: إما المنافقون، فهم ملعونون في الدنيا والآخرة؛ لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، ولذلك لن يدخلوا الجنة أبداً، فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار لكفر قلوبهم.
أو: أنهم الفسقة والمجرمون، فعلى ذلك ستكون اللعنة والطرد من رحمة رب العالمين سبحانه إلى حين، فهناك فرق بين لعن الكافر ولعن المنافق ولعن الإنسان الذي هو على التوحيد، فقد يخلد في النار كما يخلد القاتل نفسه في نار جهنم إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ولكن خلود هذا الموحد دون خلود الكافر، فالكافر خالد مخلد فيها أبداً بلا خروج، وأما عصاة الموحدين وإن أتوا من الكبائر ما أتوا فسيدخلون نار جهنم إلى ما يشاء الله سبحانه، فإذا أخبر أنهم ملعونون، أو أنهم خالدون، فخلودهم أقل من خلود الكفار وإن كان مدة طويلة جداً لا تحصى، نسأل الله العفو والعافية.
إذاً: فهؤلاء الذين يقذفون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، فهم ملعونون مطرودون من رحمة الله سبحانه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا وقعت عليهم لعنة من يلعن أمثالهم، فهو يقول: لعنة الله على الذين يرمون المحصنات الغافلات، فيستجاب لمن يدعو عليهم بذلك، وفي الآخرة يطردهم الله عز وجل من رحمته ويدخلهم نار جهنم والعياذ بالله، وقد يكون ذلك في الكفار -كما ذكرنا- والمنافقين فهو خلود أبدي، وقد يكون في عصاة الموحدين فهو خلود دون خلود، وقد يكون هذا لمن أصر على ذلك ومات عليه، وقد يكون الإنسان وقع في هذا الجرم ولكنه تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فأمره إلى الله سبحانه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه سبحانه وتعالى، ولكن لا بد من القصاص، فيقتص للمؤمن أو المؤمنة الذي وقع هذا الإنسان فيهما، فيحبسون حتى ولو كان هذا الإنسان من أهل الجنة، حتى ولو كانت له أعمال صالحة تدخله الجنة، فيحبس على جسر قبل الجنة حتى يقتص هذا الآخر منه، فيأخذ من حسناته ما يشاؤه الله سبحانه وتعالى، فالإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل تاب الله عليه، لكن في حقوق الآدميين لا بد من القصاص، فإن لم تكن عنده حسنات أخذ من سيئاتهم فوضعت عليه، وذلك حتى يقتص لحقوق الآدميين.
قال الله سبحانه عن هؤلاء: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23] يعني: يوم القيامة لهم العذاب العظيم، وقد يكون العذاب في الدنيا أيضاً كما في الآخرة.(75/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم إن الله هو الحق المبين)
قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وهذا متعلق بما قبله، فلهم عذاب عظيم، إذاً: فهم ملعونون في الدنيا والآخرة: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23]، أي: في يوم القيامة، وفي هذا اليوم يقول سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف (يوم يشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، ففصل بين الفعل والمفعول بالجار والمجرور، وهي كلمة: عليهم، فجاز فيها الوجهان، إما التأنيث على الأصل فيها، وإما التذكير على أنه فصل بين الفعل والمفعول بهذا الضمير.
قال: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} [النور:24] يعني: يوم القيامة {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من رمي المحصنات الغافلات المؤمنات حديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، والموبقة هي المهلكة، وهي من عظائم الذنوب التي تهلك صاحبها، قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، فهذه الخصال من كبائر الذنوب.
فبدأ بالشرك بالله، ثم السحر وهو من الكفر، وذكر من الجرائم العظيمة قتل النفس، قال: (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، إذاً: فمن أعظم الكبائر الوقوع في هذه الأشياء.
والحديث هنا لم يذكر فيه أشياء أخرى هي من الكبائر، وكأن هذه الأشياء من أعظم الكبائر.
إذاً: فاللسان يشهد على صاحبه، فالإنسان كان يتكلم في الدنيا بلسانه، وعقله يوجه لسانه إلى كيفية الكلام، فيكذب ويصدق ويخبر، وأما يوم القيامة فالله سبحانه هو الذي يجعل اللسان ينطق بالحق، ولا يستطيع عقل الإنسان أن يوجه اللسان في تلك اللحظة، وإذا باللسان الذي كان يجادل عن صاحبه في الدنيا يشهد عليه يوم القيامة: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ} [النور:24] أي: وتنطق أيدي هؤلاء بما كانوا يقترفون، {وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، فكل هذه الجوارح تنطق يوم القيامة، فيومئذ يكون الجزاء وافياً، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، والدين هنا بمعنى: الجزاء والحساب، كما قال سبحانه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وقد جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم توضح نطق أعضاء الإنسان يوم القيامة بالخير شاهدة له، أو بالشر الذي كان يفعله في الدنيا.
فمن الأحاديث التي جاءت في أمر الخير: حديث رواه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود أيضاً من حديث يسيرة -امرأة من المهاجرات- قالت: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات، ولا تغفلن فتنسين الرحمة)، فأمرهن بالتسبيح والتهليل والتقديس، أي: ذكر الله سبحانه بقول: سبحان الله، وقول: لا إله إلا الله، وهذا معنى التسبيح والتهليل، وأما التقديس فمعناه: أن تقول: سبوح قدوس، فتقدس ربك سبحانه.
قال: (واعقدن بالأنامل)، والأنملة: هي طرف الأصبع، فالأفضل أن يسبح الإنسان بيده؛ لأن الأنامل تنطق يوم القيامة أنها كانت تسبح لله سبحانه وتعالى.
قال: (فإنهن مسئولات مستنطقات) أي: الأنامل، فسيسألن وسيطلب منهن النطق والشهادة لصاحبهن.
قال: (ولا تغفلن فتنسين الرحمة) يعني: عن ذكر الله سبحانه، فإذا غفل الإنسان عن ذكر الله نسي رحمة الله، فنُسي يوم القيامة، فهذا في الخير.
وأما في الشر فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أنس قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ -يعني: يحتج على الله سبحانه وتعالى، وهو كذاب فيما يحتج به- يقول: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله تبارك وتعالى: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني)، وهذا من كذب العبد وإجرامه، فهو يريد أن يكذب على الملك سبحانه وتعالى، وهو يظن أن جوارحه ستنطق بما ينفعه يوم القيامة، وهذا كما قال سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
قال: (فيقال: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيدعو على نفسه: بُعداً لكنّ فعنكن كنت أناضل)، أي: أدافع عنكن ثم تشهدن علي؟! فما نفعته أعضائه يوم القيامة، بل شهدت عليه.
والآية أخبرت أن اللسان أيضاً ينطق شاهداً على العبد، وجاء في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست دونها سحابة؟)، أي: هل يصيبكم الضرر أو يزدحم بعضكم على بعض؟ وفي رواية: (هل تضامون؟)، يعني: هل يظلم بعضكم بعضاً من أجل النظر إلى الشمس؟ بل كل الناس ستنظر من مكانها.
إذاً: فليس أحد في الدنيا يتضرر أو يزدحم عند رؤيته الشمس، فكذلك الحال في النظر إلى الجبار جل جلاله، ولله المثل الأعلى سبحانه، قال: (فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما)، والمعنى: لن تتضرروا في رؤية ربكم سبحانه تعالى، ولن تزدحموا لتروا ربكم، بل سيرى كل مؤمن ربه سبحانه وتعالى يوم القيامة.
قال: (فيلقى العبد) أي: يلقى الله عبده، (فيقول: أي فل!)، أصلها: أي فلان! (ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟) أي: سخرت لك هذه النعم العظيمة، قوله: (وأسودك) من السيادة، أي: أجعلك سيداً ورئيساً على قومك، (وأزوجك) أي: أعنتك وجعلتك تتزوج، (وأسخر لك الخيل والإبل)، فكنت أنت المالك لها، والمتحكم فيها، والمسيطر عليها، (وأذرك ترأس وتربع) يعني: تركتك تترأس على قومك (وتربع)، أي: ترتع كما تشاء، أو: تملك الرباع، وتملك الأطيان والديار، أو: تأكل مرباع قومك، قال: (فيقول: بلى، فيقول: أفظننت أنك ملاقيّ؟ -أي: هل خطر على بالك أنك ستقف هذا الموقف؟ -فيقول الرجل: لا، فيقول: سبحانه: فإني أنساك كما نسيتني) أي: مثلما نسيت أنك ستقابل ربك وأنه سيحاسبك.
قال: (ثم يلقى الثاني، فيقول: أي فل! ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب! فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول الثالث: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع، فيقول له: هاهنا)، أي: قف هنا؛ لأنه يعلم أنه كذاب، فيحاسبه الله حساباً عسيراً، ثم يقال له: (الآن نبعث شاهدنا عليك)، فيفكر في ماهية هذا الشاهد ومن يكون، قال: (فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه)، فهذا الإنسان تنطق أعضاؤه بالشهادة عليه أنه فعل كذا وفعل كذا، وفي الحديث الذي قبله ذكر: أنه يدعو على نفسه، ويدعو على أعضائه إذا شهدت عليه.
وهنا في الآية يقول الله عز وجل: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24]، فلسان الإنسان أيضاً ينطق شاهداً عليه يوم القيامة، قال: {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] أي: بكل ما كانوا يعملون في الدنيا، قال: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25] أي: جزاءهم الحق، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور:25]، أي: في يوم القيامة {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] أي: الحكم العدل سبحانه وتعالى، فهو الحق الذي يحق الحق سبحانه وتعالى، ويعلمون أن ما سواه مما عبدوه من دون الله باطل، وأن الله هو الحق وحده سبحانه وتعالى، {الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] أي: الظاهر الجلي، والمبين كذلك: الذي يبين شريعته ومنهاجه ويظهرهما، فيبين طريق الهدى وما يحتاج إليه خلقه من شرعه سبحانه وتعالى، قال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [النور:25] قالوا: بمعنى: يبين لهم الحقائق ويظهر حقائق ما كانوا يصنعونه في الدنيا، وما كان يعدهم به من ثواب ويهددهم به من عذاب يوم القيامة، فالله هو الحق المبين.(75/5)
تفسير قوله سبحانه: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)
ثم يقول سبحانه: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]، الخبيثات: أكثر المفسرين على أن المراد بها هنا: الكلمات، يعني: الكلمات الخبيثات، والسياق نفسه يدل على ما حدث من أهل الإفك في كذبهم على عائشة، فقد أخذوا الكلمات الخبيثة في ذم السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وفي قذفها، فالله عز وجل يقول للناس: تفكروا! فالكلمات الخبيثة لا تخرج إلا من خبيث، فالخبيثات للخبيثين، والخبيثون هم: أهل الخبث، وهم متلازمون مع الكلام الخبيث، فهي لهم وهم لها.
قال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] أي: أصحاب الكلمات الطيبة الجميلة، فهي لا تخرج إلا من الإنسان الطيب، صاحب الكلام الحسن، والنية السليمة، والقلب الطيب، فالطيبات للطيبين، فهم أهل لذلك.
وكلام الإنسان دليل على ما في قلبه، فإن كان لا يتكلم إلا بكلام خبيث فهو إنسان خبيث، وإن كان لا ينطق إلا بطيب فهو إنسان طيب، قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26].
ثم قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] يعني: أن الطيبين والطيبات بريئون من كلام هؤلاء الخبثاء الذين يرمونهم بالفواحش، يعني: المنافقين.
ثم قال: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]، فقد أعد الله عز وجل لهم المغفرة العظيمة يوم القيامة، وكذلك الرزق الكريم؛ جزاءً على صبرهم في الدنيا على أصحاب الكلام الخبيث.
نسأل الله العافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/6)
تفسير سورة النور [23 - 27]
يبين المولى سبحانه سنة من سننه الماضية في الغابرين واللاحقين، وهي أن الرجل الطيب لا يتكلم إلا بطيب الكلام، ولا ينكح إلا طيب النساء، وأن الرجل الخبيث لا يتفوه إلا بخبيث الكلام وفاحشه، ولا يقع إلا على خبيثات النساء، وذلك إذا لم يتوبوا، وأما لو تابوا فإن التوبة تجب ما قبلها، وتلحقهم بالصنف الأول وهم الطيبون.(76/1)
تفسير قوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها أحكاماً في يوم القيامة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
وقد قدمنا قبل ذلك أن الله سبحانه حرم أعراض المؤمنين كما حرم دماءهم وأموالهم، فالمؤمن لا يحل له أن يقع في عرض أخيه المؤمن أو المرأة المؤمنة، فلا يتكلم عنه بما يسوءه وما لا يحل له الكلام فيه، بل لو أنه رأى فيه ما لا يجوز فينبغي عليه أن ينصح، وأما القذف بجريمة الزنا فلا يجوز لأحد أن يقع فيه إلا أن يأتي بأربعة شهود على هذا الذي يقوله، فإن لم يفعل ذلك فهذا إنسان كذاب كما وسمه الله عز وجل بذلك، مع أنه قد يكون رأى ذلك بنفسه ولكن الشريعة لم تبح له أن يتكلم حتى يكون معه أربعة يشهدون على ذلك، فأخبر: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:23].
فهم في الدنيا ملعونون، وفي الآخرة مطرودون من رحمة رب العالمين سبحانه، قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24].
وقدمنا كيف أن الإنسان يأتي يوم القيامة يجادل عن نفسه فإذا بأعضائه تشهد عليه بما كان يصنعه يوم القيامة، فيوفيهم الله عز وجل جزاءهم وعقابهم الوافي الذي يستحقونه، جزاءً على ما قدموا، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25].
فالله سبحانه وتعالى يحق الحق، ويأبى أن يدوم الباطل، فإنه وإن ترك أهل الباطن ففي النهاية يقصمهم سبحانه وتعالى، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
فمن أسماء الله تعالى الحق، وهو يحق الحق يوم القيامة، فيرون كيف يحكم الملك الحق بالعدل المبين، ويظهر الحق يوم القيامة فهو الحق المبين، أي: المبين المظهر لهذا الحق يوم القيامة، والمبين في الدنيا للناس طريق الهدى، وما يحتاجون إليه من شرع رب العالمين سبحانه.
والله هو الحق المبين أي: الحق الثابت بذاته، الظاهر في ألوهيته سبحانه وتعالى.
والله الحق أي: هو ذو الحق وصاحب الحق البين، فيعلمون يوم القيامة أن الله هو الحق المبين الذي يبين لهم حقائق ما كانوا يعملون في الدنيا، وما كان يتوعدهم عليه فيها فيظهره سبحانه.
ثم قال: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، والخبيثات وصف لمحذوف تقديره: الكلمات، والمعنى: أن الكلمة الخبيثة لا تخرج إلا من إنسان خبيث، والكلمة الطيبة لا تخرج إلى من إنسان طيب.
ثم قال: {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} [النور:26] يعني: لا ينتظر من خبيث إلا كلاماً خبيثاً كلاماً غير طيب.
قال تعالى: {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] يعني: المنتظر من الأناس الطيبين المؤمنين أن يتفوهوا ويتكلموا بالكلام الطاهر الطيب الجميل، فكأن هذه أوصاف للكلمات وأوصاف لأصحابها.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] يعني: أن الطيبين والطيبات بريئون مما يقول هؤلاء المنافقون وهؤلاء الفساق, ومما يرمونهم به من كلام خبيث، كأن المقصود بذلك عائشة رضي الله تعالى عنها وصفوان، فهؤلاء الطيبون، ولا يخرج منهم إلا الطيب، وهؤلاء قد برأهم الله عز وجل مما وقع في أعراضهم من أهل الكذب وأهل النفاق.
وقيل: إنها تحمل على ما تقدم قبل ذلك في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:3].
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله)، وكأن المعنى المقصود: أن الزاني المجلود مفضوح أمام الناس؛ فقد شهد عليه أربعة بهذه الجريمة، فإذا كان عاهراً مجاهراً بذلك ولم يتب فلا يجوز لإنسان أن يزوج ابنته الطيبة لمثل هذا الإنسان الخبيث الذي يجاهر بهذا الزنا، أو بهذه الأفعال الفاحشة، فهذا يتزوج امرأة مثله في ذلك.
لكن إذا تاب وعلمت توبة، وإذا تابت المرأة وعلمت توبتها، جاز أن يتزوج الرجل وأن تتزوج المرأة، وأما أن يغر إنسان طيب بمثل ذلك فهذا يعد عيباً من العيوب، فلا ينبغي لمسلم أن يتزوج مثل هذه، وإنما يبحث عن المرأة الطيبة كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، فالإنسان المؤمن يتزوج لقضاء وطره، وهذا شيء ولكن ليس هو كل شيء، وإنما يتزوج أيضاً لتكون له أسرة طيبة، وأولاد طيبون ينفعونه في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا ينفعونه بالبر والإحسان، فإذا كبر الإنسان احتاج إلى أولاده، فيكونون بجواره يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فإذا مات دعوا له، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21].
فالبيت الطيب ينفع صاحبه والبيت الخبيث يضره دنيا وآخرة، لذلك فالمؤمن يكون حريصاً على أن يكون بيته بيتاً مؤمناً، فيظفر بذات الدين، وإلا فتربت يداه.
وقد ذكر بعض أهل العلم عن عائشة رضي الله عنها أنها أعطيت تسعاً لم تعطهن امرأة من نسائه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل فضلها بذلك، فذكر بعض أهل العلم عن عائشة أنها قالت ذلك، وإن كان إسناده ضعيفاً إليها، فمما أعطاها سبحانه: أن جبريل عليه السلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها حين أمر أن يتزوجها كما صح بذلك الحديث، فنزل في سرقة من حرير وقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة، فكانت عائشة رضي الله عنها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بإعلام الله عز وجل له في ذلك.
كذلك تزوجها بكراً، وما تزوج بكراً غيرها.
وكذلك توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه في حجرها رضي الله عنها، وكانت تقول: توفي رسول الله ما بين حاقنتي وذاقنتي، تعني: على صدرها تحت ذقنها.
فلا شك أن لها فضيلة أن يجعل الله عز وجل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب ما يكون إليها.
وقالت: إنه قُبر في بيتها، وهذا موجود حتى الآن، وهو دليل على فضيلة عائشة رضي الله تعالى عنها.
والملائكة تحف بيت عائشة رضي الله عنها؛ لأن فيه قبر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا كان في أهله لا يأتيه جبريل حتى ينصرف عن أهله، وأما عائشة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم معها فجاءه جبريل وبلغها السلام، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ترى ما لا أرى.
وتقول: إن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، فما يبعدني عن جسده صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أنزل الله عز وجل عذرها في كتابه، وبرأها مما قال الكذابون عنها.
وكذلك أبوها أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال الله عنه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40].
وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمانه بإيمان الأمة لوزنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك وعدها الله عز وجل بمغفرة ورزقاً كريماً على أنها إحدى زوجات لنبي صلى الله عليه وسلم، ثم خصها في هذه الآية فقال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فضلها: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وذكروا أيضاً في فضائل عائشة رضي الله عنها: أن يوسف عليه السلام، لما رمي بالفاحشة برأه الله عز وجل على لسان شاهد، فقال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:26 - 28].
فبرأه الله عز وجل على لسان إنسان قال ذلك، قيل: كان صبياً صغيراً أو كان رجلاً كبيراً فالله أعلم بذلك، فكان على لسان بشر.
والمسيح صلوات الله وسلامه عليه لما رموا أمه وقالوا: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27].
أنطقه الله سبحانه فقال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، فأجاب عن نفسه وعن أمه.
فلما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك برأها الله عز وجل ولم يجعل براءتها على لسان أحد من الناس، لا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من عند نفسه، ولا على لسان أحد يدافع عنها، وإنما في كتاب الله عز وجل، بآيات تتلى إلى يوم القيامة، فجعل لها فضيلة أن ذكر شأنها في كتابه في هذه السورة الكريمة.(76/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا)
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالاستئناس والاستئذان، وهذه آية من آيات الآداب التي يجهلها كثير من الناس، وإن علموها فلا يطبقها أكثرهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27].
فالبيوت التي هي غير بيتك لها حكم، وبيتك له حكم آخر، فقال: (لا تدخلوا بيوتاً).(76/3)
القراءات في قوله (بيوتاً)
في هذه الآية قراءتان: قراءة ورش وأبي عمرو وحفص عن عاصم، وجعفر ويعقوب: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] بضم الباء في بيوت.
وقراءة باقي القراء: {لا تَدْخُلُوا بِيُوتًا غَيْرَ بِيُوتِكُمْ} [النور:27] بكسر الباء فيها.
قال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، والاستئناس هو طلب الأنس الذي يكون بين الناس، والألفة التي تكون بيهم، فالألفة تكون بالحديث وبالمودة؛ لأنك إذا اقتحمت على الناس بيتهم يخافون من دخولك، فجعل الله أمرين هنا: أمر الاستئذان بالقول، وكذلك تؤنس هذا الذي دخلت عليه من نفسك فيستشعر الراحة، ويستشعر الألفة والمودة، فيستمع إليك فيما تريد.
فالله عز وجل كرم بني آدم فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70].
فمن تكريم الله عز وجل للإنسان أن خلقه إنساناً يمشي على قدميه، وليس كغيره من الحيوانات التي تمشي على الأيدي والأقدام.
وجعل للإنسان عقلاً يفكر به، وجعل له مراكب يركبها، وحمله في البر والبحر، وجعل له بيتاً لراحته، وجعل الأرض كفاتاً للإنسان في حياته ومماته، ففي الحياة هو فوق الأرض، وفي الممات هو في باطن الأرض، وأكرمه الله عز وجل بأن جعله يستتر في الدنيا في البيت، ويستتر في الموت بالقبر، فالبيت سترة للإنسان يقضي فيه حاجته، أو يغير فيه ثيابه، ويتحرر فيها من أشياء تكون أمام الناس قيوداً عليه، وفي بيته يتخفف من ثيابه، وينام كما يشاء.
فالبيت مكان راحته، فلذلك جعل لهذه البيوت آداباً بحيث إنه لا أحد يحرج الآخر في بيته ولا يضايق عليه، فخصص الله عز وجل بني آدم بالمنازل، وأما الحيوان فيقضي حاجته في الطريق، والإنسان يذهب إلى بيته فيستتر تكريماً من الله عز وجل له.
فستره عن أبصار غيره في بيته، وجعل له الاستمتاع بهذه البيوت على الانفراد، وجعله ملكاً في بيته، وهذه من المنن التي منّها ربنا سبحانه على بني إسرائيل قال: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة:20].
فليس كل واحد من بني إسرائيل سيكون ملكاً على الناس، وإنما المقصود كالملوك، والملك لا يختلف كثير عن غيره من الناس، فهو يملك بيتاً، وأنت تملك بيتاً، وتملك مالا، وتملك طعاماً وشراباً، وعندك أمن في بيتك.
فالله عز وجل جعل للإنسان طعامه وشرابه، وجعل له مكان أمنه في بيته، وملكهم الاستمتاع بها على الإنفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على الإنسان في بيته، ومنعهم من النظر داخل البيت حتى يستأذنوا ويلجوا بإذن، وأما بغير إذن فلا يحل لأحد أن يطلع على بيت أحد بغير إذنه.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقأوا عينه).
ومعنى الحديث: إذا كان الإنسان يتجسس وينظر إلى نافذة إنسان آخر أو من داخل ستارة أو نحوها، جاز لهذا الآخر أن يفقأ عينه ولا دية في ذلك.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً نظر إليه وهو في بيته وبيده مدرى -أي: عود يمشط به شعره صلى الله عليه وسلم- والرجل يتلصص وينظر، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقأ عينه به، ثم قال: إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) وذلك أن الإنسان له حرية بداخل بيته، فمن حقه أنه يكون له أشياء يسترها عن غيره، وليس من حق أحد أن يتدخل في ذلك.
وذكر الإمام الطبري في سبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي بن ثابت: (أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد) فالمرأة في بيتها لعلها تخلع شيئاً من ثيابها فلا تحب أن يراها أحد إلا إن يكون زوجاً لها، قالت: (لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي الرجل من أهلي وأنا على تلك الحال) يعني: يأتي أبوها يفتح الباب ويدخل، ولعلها تكون متجردة من ثيابها، فيدخل الأب على هذه الحالة، فشكت للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فأنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
قالوا: والاستئناس بمعنى الاستعلام، أي: طلب العلم، كأنك تعلم من بداخل البيت أنك موجود في الباب، والاستئناس يكون قبل الدخول وبعده، وأما قبل الدخول فيكون بصوت يعلم أن هذا الإنسان موجود بالخارج، ثم إذا كان الآخر يسمع، فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ أما بعد الدخول فيكون الاستئناس بالمودة في الكلام، حتى يرتاح الآخر بدخولك عليه.
ومن ذلك لما دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد غضب على نسائه واعتزل في مشربة له، فخشي عمر وغيره أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد طلق نساءه، فذهب عمر للنبي صلى الله عليه وسلم واستأذن، فلم يؤذن له إلا في المرة الثالثة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس فوجد النبي صلى الله عليه وسلم غضبان، فجلس ساكتاً وبعد قليل استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام، فأذن له فتكلم عمر حتى ضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
فالغرض أن الاستئناس إذا كان قبل الدخول فهو من باب الاستئذان والاستعلام، أو إعلام من في الداخل بوجود هذا الذي في الخارج، ثم يستأذن فيدخل، فإذا دخل فيؤنس أهل البيت بالكلام الطيب الذي يقوله والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/4)
تفسير سورة النور الآية [27]
إن الدين الإسلامي دين الآداب، ففيه مراعاة وحفظ لعورات الآخرين، ومما يدلل على ذلك أنه شرع أدباً حث عليه في القرآن الكريم وعلى لسان النبي الأمين وهو أدب الاستئذان، وهذا الأدب فيه حفظ لعورات المسلمين، فتنبغي مراعاته والعمل به والتأدب بآدابه.(77/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:27 - 29].(77/2)
وجوب الاستئذان قبل الدخول
في هذه الآيات من سورة النور يذكر الله عز وجل لنا آداباً من الآداب الشرعية التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون، فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وذكر أن ذلك {خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، والاستئناس كما ذكرنا في الحديث السابق طلب الإيناس، وهو من الأنس: ضد الوحشة، فتدخل البيت فيأنس بك أهل البيت ولا يستوحشون منك، فينبغي على الإنسان ألاّ يدخل على أهل بيت ويهجم عليهم هجوماً، ولكن يجب عليه أن يستأذن قبل الدخول، ويعلن بأنه على الباب، أو أنه قادم إليهم، فيشعرون بنوع من الأنس وعدم الاستيحاش منه.
فقالوا: إن الاستئناس من الإيناس، أي: أن تؤنس غيرك أو أن تجعله يأنس بك ويألفك ولا ينفر من دخولك عليه.(77/3)
الفرق بين الاستئذان والاستئناس
ذكر الله هنا الاستئناس وذكر الاستئذان، ولكل منهما معنى يختلف عن الآخر، فلذلك قالوا في الاستئناس: أنه قبل دخوله الدار يعلن أنه فلان، أو أنهم يستشعرون منه بصوت ونحو ذلك، فجاء عن أبي أيوب رضي الله عنه ذكر الاستئناس ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على الرجل أن يتكلم بتسبيحة، أو بتكبيرة، أو يتنحنح، فيأذن له أهل البيت) والمعنى: أن الذي يأتي إلى أهل بيت عليه قبل الدخول أن يعلمهم أنه آت ولا يدخل دون أن يشعرهم بذلك فسيشعر الناس بالوحشة منه، سواءً كان هو صاحب البيت أو غير صاحب البيت.
وجاء عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود كان إذا دخل الدار استأنس فيتكلم ويرفع صوته، ومن في البيت يستشعرون أن أحداً آتٍ فيتهيئون لذلك.
وقد جاء عن مجاهد أنه قال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تتنحنحوا أو تتنخموا، وليس الغرض التنحنح ولا التنخم ولكن الغرض أنك لا تدخل البيت فجأة فيفزغ منك أهل البيت، فإذا أردت دخول البيت فعليك أن تؤنس أهل البيت، ثم تسلم عليهم، ثم تدخل.
وفي بيتك أيضاً عليك أن تستأنس وتستأذن وتدخل، إلا أن يكون داخلاً على امرأته أو العكس، فيجوز ذلك دون إذن، لكن دخول الابن على أبيه، أو البنت على أبيها أو على أمها، والابن على أمه أو على أخته فكل ذلك لا بد من الاستئناس والاستئذان؛ فإنه قد يدخل على وضع قد يتأذى ويكره صاحبه أن يراه أحد وهو على هذا الوضع.
يقول أهل العلم في ذلك: مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك لغاية وهي الاستئناس وهو الاستئذان، وإن كان الراجح أن الاستئناس غير الاستئذان.
(تستأنسوا) أي: فتعلموا أهل البيت أنكم آتون بأي صورة من الصور، فيصبح أهل البيت يستشعرون أن هناك أحداً موجوداً فيتهيئون، فإذا سلم أجابوا وردوا عليه السلام.(77/4)
من آداب الاستئذان
{وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، والتسليم أنك تستأذن على أهل البيت ثلاث مرات وتسلم فتقول: السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ فإذا أذنوا دخلت، وإذا لم يأذنوا لم يجوز لك أن تفتح الباب وتدخل، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
وذكرنا قبل ذلك حديث أبي موسى الأشعري مع عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فقد أرسل عمر إليه فذهب أبو موسى واستأذن ثلاثاً، ولم يأذن عمر رضي الله عنه؛ لأنه كان مشغولاً، فبعد الثالثة انصرف أبو موسى الأشعري، فقال عمر بن الخطاب: ألم أسمع صوت الأشعري؟ فقالوا: بلى، فقال: علي به، ائتوا به، فأتوا بـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فسأله عمر رضي الله عنه: ما منعك أن تأتينا؟ فقال: أتيت فسلمت ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يستيقن من ذلك فأمره بأن يأتي بمن يشهد له بذلك، فجاء أبو سعيد الخدري وأبي بن كعب وشهدا له بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
فعلى ذلك إذا استأذن الإنسان على أهل بيت فليستأذن ثلاث مرات وهذا أقصى ما فيه، وليس له أن يزعج أهل البيت بأكثر من ذلك، فإذا أرادوا أن يردوا عليه ردوا، وإذا لم يردوا عليه رجع وانصرف إلا أن يستيقن أنهم لم يسمعوا استئذانه فله أن يستأذن أكثر من ثلاث مرات، ولكن إذا سمعوا ولا يريدون مقابلتك فارجع، والله عز وجل يقول: {وإَذْا قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً من بني عامر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال الرجل: أألج؟) يعني: أأدخل، وهذا ليس من أدب الاستئذان؛ فالأدب أن يبدأ بالسلام.
وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، ولأن ذلك {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] كما قال الله عز وجل.
يقول العلماء: إنما خص الاستئذان بثلاث؛ لأن الغالب من الكلام أنه إذا كرر ثلاثاً سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، أي: إذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوا هذه الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يحفظوها، فالعادة أنه إذا تكرر الشيء ثلاث مرات فإنه يكفي فهماً وعرفاً، فالذي يستأذن ثلاث مرات يعرف أنه يستأذن فإما أن يسمح له بالدخول وإما ألا يسمح له.
وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (كان إذا سلم على قوم سلم ثلاثاً)، وهنا لعل القوم عدد كبير فيريد أن يسمع الجميع فيسلم ثلاثاً، فلعله يظن أنهم مشغولون فلا يسمعون في المرة الأولى، فيسلم الثانية ويسلم الثالثة صلوات الله وسلامه عليه؛ ليسمع الجميع.
يقول أهل العلم: فإذا لم يؤذن له بعد الثالثة فقد ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، فإذا ما أذن بعد ثلاث مرات - سواء كان الاستئذان بالتسليم، أو بالطرق على الباب، أو برن جرس الباب - فأهل البيت لا يريدون دخول هذا الضيف.
قالوا: أو لعله يمنعه من الجواب عذر، فربما أن صاحب المنزل في دورة المياه فيتأذى من كثر طرق الباب.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذهب إلى أحد الصحابة وهو عتبان بن مالك رضي الله عنه فأتاه صلى الله عليه وسلم واستأذنه، فخرج الرجل مستعجلاً، في رواية (أنه خرج يجر إزاره)، كأن الرجل كان يغتسل أو كأنه كان قد أتى أهله، فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثيابه وأسرع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعلنا أعجلناك)، وهذا من أدب النبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
ولم يرد هنا أنه استأذن أكثر من ثلاث، أو أنه أمر الرجل بالخروج حالاً، ولكنه استأذن صلى الله عليه وسلم فسمع الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج متعجلاً.
وجاء عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أتى سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه فاستأذن فسلم صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات يسمعه سعد بن عبادة ولا يجيب إلا في سره -يعني: يستكثر من تسليم النبي صلى الله عليه وسلم عليه- ولما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من الثالثة انصرف عليه الصلاة والسلام، فخرج سعد رضي الله عنه وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه السلام جهراً، وقال: إنما أردت أن أستكثر من تسليمك -يعني: أحبينا أنك تكثر من السلام علينا؛ من أجل أن ينالنا بركة هذا السلام- ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم معه).
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك الناس العمل بالاستئذان.
وكأنه يقصد في زمنه رضي الله عنه أن الناس تركوا العمل به؛ لوجود الأبواب على البيوت، فأصبح الذي في الداخل لا يسمع صوت التسليم فيحتاج أن يطرق الباب، فكأن هذا معنى كلام ابن عباس.
فقال العلماء: وذلك لاتخاذ الناس الأبواب فيصعب على الإنسان في هذه الأزمنة أن يأتي على باب العمارة مثلاً ويقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهذا لن يسمعه أحد، فعليه أن يرن جرس الباب.
وجاء عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم السلام عليكم).
وهذا من الأدب، فأنت حين تطرق على الباب أو ترن الجرس ولا تقف بوجهك أمام باب الشقة؛ فلعل امرأة تفتح الباب فتنظر للداخل، أو لعل صاحب البيت يفتح فتنظر إلى داخل البيت، ولكن يجب أن تقف عن يمين أو عن شمال الباب بحيث يكون وجهك تلقاء الحائط وليس تلقاء الباب.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك؛ بسبب أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، فإن كان الباب مغلقاً فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قف في البئر، فمد رجليه في البئر، فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني للحاجب-: ائذن له، وبشره بالجنة).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في حائط، أي: في بستان جالساً على بئرٍ، وكأن الجو كان حاراً فأراد أن يبرد رجليه بداخل البئر صلوات الله وسلامه عليه، والبستان له باب، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فطرق الباب لأنه أتى من بعيد وطرق الباب حتى يسمع من بالداخل.
يقول الإمام القرطبي: صفة الدق أن يكون خفيفاً بحيث يُسمع، ولذلك ثبت في حديث عن أنس بن مالك قال: (كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافر) أي: أن الصحابة لما كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يطرقون الباب بأكفهم، ولكن يطرقون الباب بأظافرهم، وهذا من الأدب.
ويتحكم في مثل هذا الشيء اختلاف المكان، وبحسب سماع أهل البيت.(77/5)
ذم قول الطارق: (أنا)
ومن الأدب أن الذي بداخل البيت إذا سأل من؟ فعلى الطارق أن يقول: فلان، أو يقول: أنا فلان، لكن لا يقول: أنا فقط، فالذي بداخل البيت لا يعرف من يكون الذي بخارجه، فقد جاء (أن جابراً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال جابر رضي الله عنه: فقلت: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا، كأنه كرهها)، إذاً فالأدب أن يقول الإنسان: أنا فلان.
وجاء عن عمر بن الخطاب (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال: السلام عليك يا رسول الله! أيدخل عمر؟)، فالاستئذان يجب أن يذكر صاحبه اسمه.
وكذلك في التلفون فبعض الناس أحياناً عندما يتكلم لا يذكر اسمه ظناً أن الذي يتكلم معه يعرفه، فهذا مما لا ينبغي، فعلى الإنسان أن يتواضع، وأما الذي يستكبر فيحس أن كل الناس يعرفونه بمجرد أن يتصل بالتلفون، فالإنسان يجب عليه أن يتواضع ويستشعر في نفسه أن غيره أفضل منه، فمن تواضع للناس يرفعه الله سبحانه وتعالى، قال عليه الصلاة والسلام: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله).
وقد جاء عن الصحابة والتابعين آثار في هذا الأمر: فـ أبو موسى الأشعري جاء إلى عمر بن الخطاب يستأذن وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري ثلاثاً، فيذكر نفسه، فربما ما سمع الأولى فيسمع الثانية أو الثالثة، فذكر اسمه ووصفه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وذكر الخطيب البغدادي في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال: قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة بن الحجاج رضي الله عنه، وهو من أمراء وأئمة المؤمنين في الحديث، قال علي بن عاصم: فدققت عليه الباب، فقال شعبة: من هذا؟ قال: فقلت: أنا، فقال شعبة: يا هذا ما لي صديق يقال له أنا! ما أعرف أحداً اسمه أنا، ثم خرج إلي رضي الله عنه.
وذكر عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال: دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي: من هذا؟ فقلت: أنا، فقال: لا يعلم الغيب إلا الله.
وجاء عن كثير من السلف كراهة أن يصف الطارق نفسه ويقول: أنا، ولكن يقول: أنا فلان، أو يقول: فلان.
وجاء في سنن أبي داود: (أن صفوان بن أمية أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بلبن وجدايا وضغابيث، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة -أي: أرسل إليه بلبن ولحم ضباء غزلان وضغابيث وهي قثاء- فدخل الذي أتى بالهدية ولم يسلم -فلم تشفع له الهدية التي أتى بها- فقال له صلى الله عليه وسلم: ارجع فقل: السلام عليك).
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه).
وجاء عن أبي هريرة قال: إذا قال الرجل: أأدخل؟ ولم يسلم، فقل: لا، حتى تأتي بالمفتاح وهو: السلام عليكم.
فالذي يريد أن يدخل يأتي بمفتاح الدخول وهو: الاستئذان مع التسليم.
وجاء عن حذيفة أنه جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت -بسبب أن الباب كان مفتوحاً- فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أما بعينك فقد دخلت، وأما استك فلم تدخل، أي: ما دخلت وقعدت بمقعدتك ولكن بعينك قد دخلت.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث سهل بن سعد: أنه اطلع رجل من جحر في حجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدراة يحك بها رأسه - أي: كان معه عود يحك بها رأسه صلى الله عليه وسلم، والرجل ينظر من خرم في الجدر على النبي صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر).
يقول الإمام القرطبي هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه الذي فيه أهلك فلا إذن عليك، إلا أنك تسلم إذا دخلت، وعند الدخول على المرأة يفضل أن يستأنس؛ لعله يرى منها ما يكره، كأن تكون المرأة في غير حالة الاستعداد لأن يراها الزوج، فلعلها تتأذى بهذا الشيء، فقد كان ابن مسعود يقول: السلام عليكم حتى يشعروا أنه موجود، فتقوم زوجته تتهيأ لاستقبال زوجها، وخاصة إذا كان قادماً من سفر.
يقول قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك؛ فهم أحق من سلمت عليهم، فإن كانت التي تدخل عليها أمك أو أختك قالوا: تنحنح واضرب برجلك؛ حتى تنتبه لدخولك.
قال قتادة: لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها -ويقصد بالأهل: الزوجة- قال: أما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها.
ولذلك قال مالك رحمه الله: ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما.
روى عطاء بن يسار (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أستأذن على أمي؟ قال: نعم.
قال: إني أخدمها -يعني: أستأذن وأنا أخدمها؟ - فقال: استأذن عليها.
فعاوده ثلاثاً، فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ فقال: لا.
قال: فاستأذن عليها)، الحديث رواه مالك في موطئه بإسناد رجاله ثقات، ولكنه مرسل عن عطاء، وعطاء بن يسار من كبار التابعين.
وإذا دخل بيتاً وليس فيه أحد فيستحب أن يسلم على نفسه؛ لعموم قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فاستحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال قتادة: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه يؤمر بذلك، وهذا صح عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه ابن أبي شيبة بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه بهذا المعنى: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل ذلك، وليس على سبيل الوجوب، ولكن استحباباً، وذُكر أن الملائكة ترد عليهم.
قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27] يعني: هذا التسليم والاستئناس أخير وأفضل لكم {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، والذكرى ضد النسيان، وتتذكر أي: تتعظ، وفيها قراءتان {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، وهي قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف، و (لعلكم تذَّّكَّرون) بالإدغام وهذه قراءة باقي القراء، والمعنى أنك تتذكر بهذه الموعظة فلا تنساها، فتعمل بها فتؤجر عليها.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/6)
تفسير سورة النور [27 - 30]
من أهم ما جاءت به الشريعة إتمام مكارم الأخلاق، والأمر بمحاسن الآداب، ومنها: أدب الاستئذان، الذي بتطبيقه يستأنس الإنسان بصاحبه، ويحفظ عينه عن الوقوع في نظر ما لا يحل له فيؤذي بذلك قلبه ويؤذي صاحبه، إلا أن البيوت التي فيها منفعة للإنسان ولا يوجد فيها ما يثير الفتنة ومكامن الشهوة فلا بأس ألا يستأذن فيها؛ لأنه إنما جعل الاستئذان من أجل البصر.(78/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27].
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى أدباً من الآداب يعلمه للمؤمنين في (حالة إتيانهم) بيوتاً غير بيوتهم، وذلك أنهم يستأنسون ويستأذنون ويسلمون على أهلها، قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فهنا ذكر الاستئذان والتسليم على أهل البيت كما قدمنا قبل ذلك، ثم قال: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:27] وكذلك إذا كان يوجد لك محارم في هذا البيت وأردت أن تدخل فتستأذن أيضاً على الدخول على المحارم، إلا أن تكون الزوجة فهنا لا يجب الاستئذان في الدخول على الزوجة، والعكس الزوجة مع الزوج وإنما هذا الأفضل، فالأفضل أن يستأنس وألا يفزع أهل البيت بأن يدخل فجأة عليهم.
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} [النور:28] يعني: في هذه البيوت إذا لم تجدوا أحداً فيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم.
ومن الآداب أن الإنسان إذا جاء بيتاً واستأنس واستأذن وسلم ولم يرد عليه، وعلم أنه يوجد أحد بداخل البيت فطالما لم يؤذن له فليس له أن يدخل هذا البيت.
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} [النور:28]، فالبيوت لها حرمات، فعلى ذلك فليس من حقك أن تدخل بيتاً غير بيتك حتى تستأنس، وتسلم على أهله، ويؤذن لك بذلك.
جاء عن قتادة قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري هذه الآية -يعني: قوله سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]- فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع وأنا مغتبط.
قال سبحانه: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
وهذا أدب آخر من الآداب أن صاحب البيت قد يقول لك: ارجع، سواء كان له عذر في ردك أو لا، فعليك أن ترجع ولا تغضب قال تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُم} [النور:28] يعني: أطيب وأطهر لكم، فحين رجعت بزكاء نفسك طيب الله عز وجل قلبك، وأعطاك الثواب على استجابتك لأمر الشارع الحكيم.
فانظر إلى قصة المهاجر السابقة الذي أراد أن يطبق الآية على نفسه، ويتمنى أن يستأذن فيقال له: ارجع، فيرجع بهذا الأجر والثواب الذي قال الله عز وجل عنه: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
يعني: أنك استجبت لدين ربنا سبحانه، فترجع وقد طهر الله عز وجل قلبك، وجعل نفسك زاكية، وجعل لك أجراً عظيماً عنده.
وهناك فرق بين هؤلاء وبيننا، فنحن إذا ذهب أحدنا إلى آخر فقال له: ارجع، غضب غضباً شديداً، وتألم لذلك، وأما هم فبالعكس تماماً، فهذه الآداب الشرعية لا بد أن نلتزم بها، ودين الله عز وجل يعلم الإنسان المؤمن الذوق، والأدب الراقي، ويعلمه أنه لا يغضب من الحق، وهذا هو معنى الاستئذان فإما أن يسمح لك بالدخول أو لا، فطالما أنك رضخت للإذن فارضخ للجواب.
وقد علمهم الله تعالى في الآية الأخرى كيف أنهم يستأذنون على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى طعام، فقال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53]، فالأصل أنه إذا دعاك لطعام أن تذهب في وقت الطعام ولا تذهب قبل ذلك، فإذا كانت الوليمة بالليل فلا تذهب من أول النهار وتنتظر، قال: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب:53] أي: بعد ما انتهيتم من الطعام فانصرفوا.
وعند الدعوة تذهب على وقتها، فإذا قيل لك: أنا أدعوك للطعام عندي في وقت المغرب، فلا تذهب من العصر.
وهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53]، فالدعوة يليها الدخول بعد الإذن، ثم إذا طعمت فانتشر، ويقول لنا: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب:53] بمعنى: طبخ الطعام ونضجه، ولكن اذهب في وقت نضج الطعام، فتأكل وتنصرف، وهذا الأدب علمه الله عز وجل للمؤمنين هو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره عليه الصلاة والسلام.
يقول الإمام القرطبي: إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير، يعني: الذي يستأذن سواء كان صغيراً أو كبيراًَ، والذي يأذن سواء كان صغيراً أو كبيراً، فصاحب البيت قد يبعث إليك ابنه يحضرك فيكون قد أذن لك في الدخول فتدخل؛ لأنه وكيل أو مبلغ عن صاحب البيت، وسواء كان هذا الصغير دون البلوغ أو فوق البلوغ، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه دون البلوغ وكان يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يخدمه، ومع ذلك يستأذن عليه في دخوله، ويجلس معه ثم ينصرف في قضاء حوائج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28] يعني: أن الله يراقبكم ويعلم ما تعملون، فإذا راقبكم وعلم ما تعملون فإنه سيحاسبكم عليه يوم القيامة، وكأنه يهدد الإنسان: أنك إذا لم تلتزم بهذه الآداب الشرعية ولم تلتزم بشرع الله عز وجل فالله يحاسبك على هذا الذي فعلت يوم القيامة.
ويكون هذا توعد لأهل التجسس على البيوت, وطلب الدخول على غفلة لفعل المعاصي، والنظر إلى ما لا يحل وما لا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في المحظور.
فتعلمنا من الآيات كيف نستأذن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن، ويعلم أصحابه ألا يستقبلوا الباب بوجوههم، ولكن عن يمين الباب أو عن شمال الباب؛ حتى لا تقع العين على ما في الداخل.
ولو أن إنساناً وقف أمام الباب متغافلاً ويقصد أنه إذا انفتح البيت فإنه ينظر إلى داخل البيت، فالله عز وجل يهدده ويقول: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28]، فيمكن أن يظهر أمام الناس أنه غافل، لكن ما في قلبه يعلمه الله سبحانه.
فمن تجسس على البيوت أو طلب أن يدخل على غفلة من أهل البيت حتى يرى ما لا يجوز له، أو أنه ينظر من خارج البيت إلى ما لا يحل له، فهؤلاء جميعهم الله عز وجل يقول لهم ولغيرهم: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور:28].(78/2)
تفسير قوله تعالى: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة)
قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] البيوت نوعان: بيوت مسكونة، وبيوت غير مسكونة، فالبيوت المسكونة: إما بيوتكم أو بيوت غيركم، فتتعلم الاستئذان في الجميع، إلا الرجل مع امرأته.
وإذا كانت بيوتاً غير مسكونة مثل أن ينزل في فندق مثلاً ويحجز غرفة فإنه يدخلها بلا إذن؛ لأنه ليس بداخلها أحد أصلاً.
أو إنسان دخل دورات مياه في الطريق وهي خالية فلا حرج في ذلك.
فإذا كانت أماكن فيها منافع للإنسان وليس فيها أحد فلا يوجد إذن ولا معنى للإذن، فيقول: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} [النور:29] يعني: ليس فيها أحد من الناس، ولكن {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} [النور:29] يعني: فيها منفعة لك كالدخول لقضاء حاجة أو نحو ذلك.
يقول جابر بن زيد: ليس يعني بالمتاع: الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة، إما منزل ينزله قوم في ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو جاء ينظر إليها فهذا متاع، وكل منافع الدنيا متاع.
والمعنى: أن البيت غير المسكون ليس شرطاً أن يكون معداً للنزول فقط، ولكن قد يكون بيتاً للنزول وليس فيه أحد، أو أنه مكان لقضاء الحاجة، أو بستان، أو طريق يأتيه الإنسان لقضاء حاجة من حوائجه، فليس فيه أحد فيجوز له أن يدخل هذا المكان من غير استئذان.
يقول سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور:29]، قد يبدي الإنسان الخير والله عز وجل يعلم أنه يضمر الشر، فما خفي على الناس فلا يخفى على الله سبحانه وتعالى، فالله يعلم ما تبدون من خير أو شر، وما تخفون من خير أو شر.(78/3)
تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
أمر الله المؤمنين بعد ذلك ويقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ المؤمنين بهذا الأمر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وسورة النور أول ما بدأها سبحانه وتعالى بأن ذكر حد الزاني والزانية، ومن مقدمات الزنا: النظر، فلذلك هنا أمر بغض الطرف، يعني: اخفض بصرك، ولا ترفعه فتنظر إلى ما يحرم، وقلل من النظر إلى الأشياء حتى لا تقع في الحرام، قال تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وما قال: يغضوا أبصارهم وفرق بين يغضوا أبصارهم، ويَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فالبصر نعمة من النعم، فتنظر إلى ما يحل لك، وتنظر إلى ما تحتاج إليه، وتنظر إلى أشياء فيها منفعة لك، وتنظر فتعلم أن هذا فيه خير لك أم أنه ليس كذلك.
والبضاعة تشتريها فتنظر إليها، ولكن إذا وصلت للحرام هنا يقول لك: غض من البصر، ولم يقل: غض بصرك فتبقى دائماً تنظر في الأرض ولا تنظر إلى ما أحل لك، وأبغض النظرات هي النظرات المحرمة، وذلك إذا وجدت الفتن، وإذا وجد ما يحرم على الإنسان أن ينظر إليه من امرأة أجنبية، أو أمرد حسن وغير ذلك مما لا يجوز له أن ينظر إليه، فعلى ذلك يغض بصره في هذه الأحوال، والأصل أنه يباح له أن ينظر إلى ما يحل، فإذا عرض شيء يحرم فنظر إليه فله النظرة الأولى، وعليه النظرة الثانية، كأن يكون الإنسان ماش في الطريق وفجأة رأى أمامه ما يحرم عليه، وهو لم يتعمد ذلك فيغض البصر، فإذا استدام البصر فهنا يأثم على ذلك.
جاء في صحيح البخاري أن سعيد بن أبي الحسن قال للحسن بن أبي الحسن أخيه: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن، يعني: حين يخرجون للجهاد في سبيل الله عز وجل فيصلون إلى الأماكن التي فيها الكافرات فتكون المرأة كاشفة عن وجهها، وعن شعرها، وكاشفة عن صدرها.
قال: اصرف بصرك، يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].
وقال قتادة: عما لا يحل لهم.
قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فيحفظ الإنسان نظره عن أن يقع في خائنة عين، فينظر إلى ما نهى الله عز وجل عنه، يقول الإمام القرطبي: البصر هو الباب الأكبر للقلب، وأعمر طرق الحواس إليه، فإن نظر الإنسان لشيء فسرعان ما يشتهي قلبه هذا الشيء الذي نظر إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته -يعني: من جهة البصر، فينظر الإنسان ولا يزال ينظر حتى يقع في الشيء المحرم- فيجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إياكم والجلوس في الطرقات)، يحذرهم من أن يجلسوا في الطرقات.
فقالوا: (يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه)، فطالما أنكم ستقعد في الطريق وليس لكم أماكن أخرى فافعلوا، وقد كان العرب ليس لهم بيوت ولا نوادٍ للجلوس فيها، وكانت بيوتهم ضيقة، فكان المكان الذي يجتمعون فيه إما المسجد وإما الطريق، فيجتمعون في الطريق، فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقالوا: ما لنا منها بد، أي: نحن نحتاج لهذا من أجل أن نتحدث في أشياء، أو يرشد بعضنا بعضاً، فقال: (فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقه، قالوا: ما حق الطريق؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فهذه خمسة حقوق للطريق، فالمار في الطريق يحرم عليه أن ينظر إلى ما حرم الله عز وجل، والذي يحط في الطريق أشياء يحرم النظر إليها يأثم إثماً عظيماً؛ كأن يخرج الرجل ابنته أو امرأته متبرجة إلى الطريق، أو يعلق صور نساء عاريات في الطريق، فإذا كان النظر إلى ذلك حراماً، فالذي يجعل ذلك أشد إثماًَ، وواقع في الحرمة الشديدة بسبب ذلك.
ثم قال: (وكف الأذى) أي: أنك لا تؤذي أحداً من المسلمين، والدين يعلمك أنك تكون رفيقاً لا عنيفاً، وترشد الناس برفق، فتأمر بالمعروف تبتغي أن يهدي الله عز وجل الناس بك، وتنهى عن المنكر حتى يقل، وإذا كان النهي عن المنكر سيسبب منكراً أكبر فلا داعي للنهي عنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وعلمهم ربنا سبحانه وتعالى فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
ومن حقوق الطريق: رد السلام، فإذا مر بك إنسان وسلم عليك وجب عليك أن ترد عليه السلام.
وقد جاءت أحاديث أخر بحقوق أخرى مثل: إرشاد الطريق، وإعانة الإنسان الذي يحمل شيئاً على دابته، أو يحمل على ظهره فتعينه على ذلك، وتغيث الملهوف والمحتاج.
جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سأله عن نظر الفجأة، فقال صلى الله عليه وسلم: (اصرف بصرك)، وقال: (لا تتبع النظرة النظرة) يعني: لو فرضنا أنك كنت ماشياً فوقع بصرك على شيء محرم فتغض البصر ولا تنظر مرة أخرى، قال: (لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنما لك الأولى وليست لك الثانية).
قال الإمام الأوزاعي: حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان وهو أحد التابعين، فلما نظر إليها راجع نفسه ولطم نفسه على عينه ففقأها.
ثم قال لعينه: إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك.
فلقي أبا موسى الأشعري الصحابي الفاضل الفقيه رضي الله عنه، فقال له أبو موسى: ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب.
يعني: أنت نظرت والعين أداة، ولكن القلب والعقل هما اللذان يوجهانها، وليس مطلوب منك ذلك، فقد ظلمت عينك فإن لها أول نظرة، وعليها ما كان بعد ذلك.
قال الأوزاعي: وكان غزوان ملك نفسه، فلم يضحك حتى مات رضي الله وتعالى عنه.
يعني: كان يتعهد نفسه بالتأديب أنه لا يضحك فيما لا يليق مثلاً، أو أنه من شدة خوفه من الموت والحساب كان يحاسب نفسه على أعماله وأقواله وضحكاته.
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة، فأمرني أن أصرف بصري)، فالإنسان المؤمن إذا نظر إلى شيء يحرم عليه من صورة إنسان أمرد فعليه أن يغض البصر، وكما يقال: النظرة سهم من سهام إبليس.
فكلما نظر الإنسان إلى شيء وأطال النظر إليه أورث في قلبه نوعاً من العشق لهذا الشيء، وشيئاً فشيئاً حتى يقع في الحرام، والقلب والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، لذلك فالإنسان الذي في البرّ لا يدخل نفسه في اللجة فيغرق.
فإذا نظر إلى الشيء فالعين تستحلي النظر، والقلب يدفع إلى ذلك ولكن إذا غض البصر من أوله عصمه الله عز وجل، وأورثه في قلبه إيماناً، وأذاقه الله عز وجل حلاوة الإيمان في قلبه بذلك.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى طاعته وغض أبصارنا وكف أيدينا، وحفظ فروجنا، نسأل الله عز وجل أن يعيننا في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة على جنته.(78/4)
تفسير سورة النور [30 - 31]
يأمر الله سبحانه المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عن الحرام؛ لأن البصر هو بوابة الوقوع في كبيرة الزنا، وبيَّن سبحانه أن غض البصر أزكى للمؤمن وأطهر لقلبه؛ لأن المؤمن إذا فعل الطاعات واجتنب المعاصي والسيئات زكت نفسه وطهرت، ولأهمية غض البصر أمر الله عز وجل المؤمنات بأمر خاص أن يغضضن من أبصارهن، مع أنهن قد دخلن بالتبع في قوله: (قل للمؤمنين).(79/1)
تفسير قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31].
لقد أمر الله عز وجل عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم، وأن يحفظوا فروجهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، فهذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بغض البصر.
وغض البصر: هو خفض البصر وعدم النظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، وبدأ بذكر البصر لأن البصر يوصل الإثم إلى الفرج، فغض البصر يجعل في قلب الإنسان الإيمان، ويحصنه من الوقوع في الزنا؛ لأن البصر يرسل النظرة إلى النفس فتتشهى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فبدأ بالسبب الذي يؤدي للنتيجة وهي الوقوع في الفاحشة.
وكلمة المؤمنون يدخل فيها الذكور بالأصل والإناث بالتبع، وكذلك نقول لمجموعة من الناس: هؤلاء مسلمون، فهذه الكلمة وإن كانت جمع للذكور لكن يدخل تحتها الإناث، وإنما غلب الذكور، فكان من الممكن أن يكتفى بذلك وتكون الآية للمؤمنين والمؤمنات جميعاً، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر المؤمنين الذكور وذكر المؤمنات حتى لا تظن المرأة أن هذا خطاب للرجال فقط، فأكد أنها مقصودة بالآية التي تليها.
قوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} توكيد لهذا الشيء، وقد ورد في القرآن أوامر يأمر الله عز وجل المؤمنين بها بصيغة: يا أيها الذين آمنوا فيدخل فيها الرجال والنساء، ولكن عندما يكون الأمر أمراً خطيراً يحتاج لأن ينبه عليه الجميع، وأن كل إنسان سيسأل عن هذا الأمر يوم القيامة، فإنه يذكر الرجال ويذكر النساء، فهنا السورة في أولها ذكرت الزانية والزاني، ولو كان ذكر الزاني فقط لعرفنا أنه يدخل فيه الزانية أيضاً، ولكن للتأكيد على أن الرجل الذي يقع في هذه الفاحشة مسؤول يوم القيامة والمرأة كذلك، وحتى لا يكون لأحد عذر ذكر الله الرجال والنساء، وعندما جاء ذكر حكم كبيرة من الكبائر قال الله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة:38]، فنص على الرجل ونص على المرأة، وكذلك عندما تظن البعض من المؤمنات أن الرجال مذكورون في القرآن وحدهم بأن لهم أجراً كبيراً، والنساء بالتبع تأتي الآية وتقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر هذه الآية، فيذكر الرجال ويذكر النساء، ولو ذكر الرجال لكفى ويدخل تحته النساء، ولكن لبيان أن هؤلاء يثابون، وأيضاً هؤلاء يثبن على ما يفعلن من الأعمال الصالحة، ومن هذا الباب جاء التأكيد وأن كل إنسان رجل كان أو امرأة سيسأل يوم القيامة عن هذا الأمر، فالرجل مطلوب منه غض البصر، والمرأة أيضاً مطلوب منها غض البصر.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)، حفظ الفرج: هو أن يستره عن أن يراه من لا يحل له أن ينظر إليه، والمعنى الآخر: ستر الفرج عن الوقوع في الفاحشة.
فعندما قال الله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) لأن بصر الإنسان حاسة يحتاج إلى النظر بها رجلاً كان أو امرأة، ولكن الفرج الأصل فيه الستر والحفظ فلم يقل: ويحفظوا من فروجهم، ولو قال ذلك لكان معنىً صحيحاً، لأن الإنسان يحفظ فرجه إلا عما يحل له، ولكن لما كان الأصل في النظر أن ينظر الإنسان، قال: (يغضوا من أبصارهم) أي: بعضاً من هذه الأبصار، وهو النظر المحرم، ويباح ما سوى ذلك، لكن الفرج على العكس من ذلك، فالأصل فيه الستر والحفظ، فلم يقل: (من فروجهم) ولكن قال: (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ).
قوله: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (ذَلِكَ): أي: الغض والحفظ.
(أَزْكَى لَهُمْ) أي: أطهر لهم، والإنسان كلما عمل طاعة زكى نفسه، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وكلما زكاه الله عز وجل وطهره أورثه إيماناً في قلبه، والإيمان يزيد وينقص، فيزيد الله عز وجل المؤمنين هدىً، ويزيدهم إيماناً بطاعتهم له سبحانه وتعالى، وينقص الإيمان بمعصية الإنسان لربه سبحانه، ولا يزال الإيمان ينقص حتى يضيع بالكلية، لذلك فالمؤمن يحرص على المحافظة على إيمانه بطاعة الله سبحانه، وعلى أن يزداد إيمانه بذكره لله سبحانه وبالعمل الصالح، فغض البصر يجعل للإنسان في قلبه نوراً، ولذلك جاء عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي فالإنسان العاصي يبتعد عنه نور الإيمان، والإنسان المطيع يمتلئ قلبه نوراً، فيعرف ما الذي يفعل ويعرف ما الذي يجتنب.
(ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: غض البصر، وحفظ الفرج.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ) الخبرة: هي العلم الدقيق بخفايا الشيء وخباياه، وخفايا النفوس وخفايا الأعين، فالله خبير سبحانه وتعالى.
(بِمَا يَصْنَعُونَ) بما يصنع الرجل وبما تصنع المرأة، وبما يتصنع الرجل وبما تتصنع المرأة، فالله خبير بما يبديه هذا الإنسان وبما يخفيه، وبما يصنعه لله عز وجل وما يصنعه لغير الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في حديث بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟! قال صلى الله عليه وسلم: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك) أي: أن الأصل الستر وحفظ العورة.
(فقال: الرجل يكون مع الرجل) وكان أهل الجاهلية لا يستحيون من هذا الشيء.
(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن استطعت ألا يراها أحد فافعل) أي إن استطعت أن تستتر ولا يرى سوءتك أحد أبداً فافعل، (قال قلت: فالرجل يكون خالياً؟!) أي: وحيداً في البيت، (فقال صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس)، فالإنسان يستحيي من ربه سبحانه أن يقعد متجرداً، وإن كان ليس محرماً عليه إذا كان في حمام أو نحو ذلك فتجرد من ثيابه لحاجة، ولكن إذا كان يستحيي من الناس فليستحيي من الله سبحانه وتعالى.(79/2)
حكم دخول الحمام
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: بهذه الآية حرم العلماء نصاً دخول الحمام بدون مئزر، والمقصود بالحمام هنا: الحمام العمومي، وهو مكان يدخله الناس كلهم يستحمون فيه، وفي الماضي لم يكن هناك حمامات في البيوت، ولم يكن يوجد دورات مياه في البيوت، فكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا أراد أحدهم أن يأتي الخلاء فإنه يخرج إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يرجع إلى بيته، والنساء كن يخرجن من الليل إلى الليل إلى المناصع -مكان- فتخرج المرأة مع امرأة أخرى لقضاء الحاجة، فكان أمراً صعباً جداً، وهذه كانت عادة العرب في أول الأمر، ثم بعد ذلك فتح الله عز وجل عليهم وأصبحت البيوت بها دورات مياه، ولكن كانت المياه باردة فكانوا يحتاجون لتسخين المياه للاستحمام، ولم يكن البيوت يوجد بها هذا الشيء، فكانوا يحتاجون أن يخرجوا إلى الحمام -وهو مكان فيه نار يخرج منها ماء-، فيذهب الناس يستحمون فيه، والحمام مأخوذ من الحميم، والحميم هو اللهب والنار، فكانوا يذهبون إلى المكان الذي فيه الحميم، ليستحموا بالماء الساخن، فكان البعض من الناس يدخلون ويتكشفون في هذا المكان، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولم يكن ذلك مشهوراً عند الصحابة، ولكن لما فتحوا الفتوح بدأوا يذهبون إلى بلاد الشام ويجدون هذه الحمامات، ويذهبون إلى بلاد العراق ويجدون هذه الحمامات ولم يكن معروفاً في المدينة هذا الشيء إلا على سبيل الندرة.
فإذا دخل الإنسان حماماً عمومياً فلا بد له أن يستر ما بين سرته وركبتيه.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة.
فذكر في خلوة، وإن وجد إنسان فيه فليكن هذا مستتر والآخر مثله.
وصح أن ابن عباس رضي الله عنه أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة، فقالوا: يجوز للرجال أن يدخلوا الحمام بالمآزر، ولكن يستر من سرته إلى فخذه.
قالوا: وكذلك النساء للضرورة، ويشدد في أمر النساء، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ترويه أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل) إن من النساء في زماننا هذا من تنزع ثيابها في الحمام، وفي بيت غير بيتها، ونراها تمشي كاسية عارية، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تهتك الستر الذي بينها وبين الله عز وجل، أي: تستحق من الله أن يفضحها وأن يعاقبها في الدنيا وفي الآخرة، فقال: (إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل).
وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احذروا بيتاً يقال له: الحمام) الحديث رواه الطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس، وصححه الشيخ الألباني قالوا: يا رسول الله! ننقي الوسخ، قال: فاستتروا) أي: إذا كنت تحتاج أن تذهب إلى هذا المكان فلا بد أن تكون مستتراًَ ولا تكون متجرداً.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما دخول الحمام في هذا الزمان فحرام على أهل الفضل والدين.
والمقصود بالزمان زمن القرطبي، وقد كان في القرن السابع رحمه الله تعالى.
قال: لغلبة الجهل على الناس، واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم أي: أنه يدخل الحمام وعندما يكون في وسط الناس يخلع ثيابه فتبدو عورته أمام الناس، وهذا محرم.
يقول رحمه الله: حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائماً وسط الحمام وخارجه بادية عورته، فهذا أمر بين الرجال، فكيف بين النساء؟! لاسيما بالديار المصرية.
هذا كلام القرطبي، وأصله من قرطبة، وسكن في صعيد مصر، ومات فيها رحمه الله تعالى، وعندما رأى أشياء كثيرة في مصر قال: لاسيما بالديار المصرية؛ فإن حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي عن أعين الناس سواتر، أي: أن الأشياء التي تستر الناس في حماماتهم قد خلت منها الحمامات المصرية، فكيف لو أتى في هذا الزمان ورأى البحار التي بها العري ولا حول ولا قوة إلا بالله.(79/3)
شروط دخول الحمامات العامة
يقول رحمه الله: قال العلماء: فإن استتر فليدخل بعشرة شروط: الأول: ألا يدخل إلا بنية التداوي، أو بنية التطهير عن الرحضاء، أي: أن يكون محتاجاً لهذا الشيء، فإن لم يكن محتاجاً فلا يذهب.
الثاني: أن يتعمد أوقات الخلوة أو قلة الناس.
فلا يذهب في وقت يكثر الناس فيه؛ لأنه قد يكون منهم من لا يستحيي فينكشف أمام هذا الداخل.
الثالث: أن يستر عورته بإزار صفيق، والإزار: هو ثوب يستره من سرته إلى ركبته أو أسفل من ذلك، ومعنى صفيق: أي متين وغليظ.
الرابع: أن يكون نظره إلى الأرض، أو يستقبل الحائط؛ لئلا يقع بصره على محظور، أي: إذا ذهب محتاجاً إلى هذا المكان فليكن بصره للحائط أو للأرض؛ حتى لا ينظر إلى شيء محظور.
الخامس: أن يغير ما يرى من منكر برفق، فيقول: استتر سترك الله، أي: أن يأمر غيره بالاستتار برفق.
السادس: إن دلكه أحد فلا يمكنه من عورته: من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته.
السابع: أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس.
الثامن: أن يصب الماء على قدر الحاجة.
التاسع: إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه، أي: عندما يحب أن يدخل مع الناس فلينتظر إلى أن يأتي أناس محترمون أهل دين فيذهب معهم، بحيث يكون في وسط أناس لهم خلق ودين واستتار.
العاشر: أن يتذكر به جهنم، أي: إذا رأى النار تذكر نار جهنم، فيعينه ذلك على الاستتار وعلى غض البصر.
هذه الشروط في الحمام المصري الذي يكون مقفلاً فكيف الحال بالبحر المفتوح الذي فيه الرجال والنساء، فممنوع أن يذهب المسلم إلى مثل هذا المكان فيكون في وسط الناس ويقول: أغض بصري! كيف سيغض بصره؟! إلا أن يكون على الصورة التي ذكرها القرطبي أن يذهب في وسط أناس من أهل الخير والتقوى في وقت خال مثل الفجر أو غيره.
فالمرء المسلم يخاف من الله سبحانه وتعالى، ويحافظ على نفسه، وعلى دينه، ويغض بصره، ولا يذهب إلى مكان يرى فيه الفحش أمامه ولا يقدر على إنكار شيء منه، وقد عمت الفواحش في الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله يقول في كتابه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فالإنسان عندما يختلط بأهل السفه وأهل العري يسهل عليه أن يكون مثلهم، فتجده يذهب إلى البحر وينزل في وسط الناس، ويقف بينهم وفخذاه ظاهرتان، فيهين نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يهون في نفسه، ويهون عليه دينه، وينسى ربه سبحانه وتعالى.
فالمسلم دائماً عصمته في الالتجاء إلى الله عز وجل، وفي كونه مع جماعة المسلمين وإخوانه الصالحين، فإذا ذهب إلى مكان فليذهب إلى المكان الذي به أهل الصلاح، وليحرص على أن يطيع الله سبحانه وتعالى، ويغض بصره؛ لأن الإنسان إذا نظر إلى شيء سرعان ما يتساهل ويتأول لنفسه حتى يقع في الفاحشة والعياذ بالله، ولنأخذ العبرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا أخذهم الطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا من قبل)، فتجد الناس يتساهلون في الحرام وفي المنكر وفي العري، ثم يختلط الرجال بالنساء، وبعد ذلك يقعون في الفاحشة، فيأتي العذاب من عند الله سبحانه وتعالى، وهذا ما نسمع عنه في هذه الأيام، فهناك وباء ظهر في الصين وبدأ ينتشر في شرق آسيا وغيرها، وهو وباء (سارس)، وهو التهاب رئوي، وهو: ميكروب ضعيف جداً، والقضاء عليه في خارج جسم الإنسان لا يستغرق خمس دقائق بكلور أو بغيره، أما إذا دخل جسم الإنسان فإنه ليس له علاج، فلم يجدوا له علاجاً إلى الآن، وقد أخذ ينتشر، فالآلاف من الناس يموتون من هذا المرض، وقد قرأنا في الصحف أن الصين يقولون: نريد أن نرجع إلى تقاليدنا القديمة، فلا داعي لأن يقُبِّل الناس بعضهم بعضاً، لقد بدءوا يعرفون سبب الأمراض، فهم عندما يقبلون بعضهم يقعون في الفواحش فيبتليهم الله عز وجل بالأمراض، فمرض الهربس والسيلان والإيدز يأتي من المباشرة الجنسية، فقالوا: لا بد من وضع واقٍ لكي لا يأتي بالمباشرة، ولكن هذا الميكروب أصبح ينتقل إليهم عن طريق التنفس، يخادعون الله سبحانه وتعالى وهو خادعهم، ويريدون أن يعجزوا ربهم سبحانه وتعالى؟! وهيهات أن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وقد قالت وزيرة الصحة الصينية ونائبة رئيس الوزراء: نريد أن نرجع إلى التقاليد القديمة، لا داعي لأن يقبل أحدنا الآخر، لا داعي حتى أن يصافح أحدنا الآخر، يريدون أن يسلموا بالإشارة فقط، لقد بدءوا يعرفون أن الفاحشة التي يقعون فيها هي التي تجلب لهم المصائب والأمراض، وكلما كثرت الفواحش في الناس ابتلاهم الله عز وجل، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها)، وأما إذا كانت الفاحشة مستترة فإن الله قد يستر على عباده، حتى إذا أعلنوها بين الناس ضربهم الله بالطاعون والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(79/4)
تفسير سورة النور (تابع) [30 - 31]
من حكمة الله عز وجل أن أمر بغض البصر وحفظ الفرج؛ حتى لا تشيع الفاحشة وتنتشر الجريمة، وحتى يتمكن الإنسان من غض بصره وحفظ فرجه عن المحرمات أمر الله عز وجل النساء بعدم الخروج سافرات، ونهاهن عن التبرج حتى لا يفتن بهن الرجال، وسداً لذريعة الفساد، وإغلاقاً لأبواب الفتن.(80/1)
الأمر بغض البصر وحفظ الفرج
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:30 - 31].
في هاتين الآيتين من سورة النور يأمر الله عز وجل المؤمنين رجالاً ونساءً بأمرين: غض الأبصار، وحفظ الفروج.
ثم ذكر للنساء مزيد تأكيد في ذلك فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر ما ذكره سبحانه وتعالى.
ففيه أن هذا الدين العظيم جعل حدوداً للإنسان، وليس من حق الإنسان أن يقتحم هذه الحدود التي جعلها الله عز وجل حماية له ولغيره، فبصر الإنسان خلقه الله عز وجل لينظر به إلى ما ينفعه، وحرم عليه النظر به إلى ما يضره، فليحذر الإنسان وليغض بصره، كما أمر الله عز وجل بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، ولم يقل: قل للناس، ولكن قال: قل للمؤمنين، تهييجاً لداعي الإيمان في القلوب، فإذا كان العبد مؤمناً فسوف ينفذ ما أمره الله عز وجل به.
وقوله: (يغضوا من أبصارهم)، (ويغضضن من أبصارهن) أي: من بعض النظر وليس من جميع النظر، وإلا فالعين خلقت لكي تنظر وتبصر، ويتأمل بها الإنسان ما يريد أن يتأمله، ويبصر بها ما يريد أن ينظر إليه.
فيكون غض البصر، واخفض الطرف عن الحرام.
قال تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وكأن البصر علاقته بقلب الإنسان وبفرجه علاقة شديدة وقوية، فلذلك هنا عقب بعد غض البصر بحفظ الفرج، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، ولما كان الأصل في البصر: غض بعضه، قال: عضوا من أبصاركم، ولما كان الأصل في الفرج: الحفظ، قال: احفظوا فروجكم كاملة، فأمرهم بحفظ الفرج عن كل ما حرم الله سبحانه وتعالى إلا ما يباح للإنسان من زوجته أو ملكت يمينه.
قال الله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] أي: أطيب وأطهر لهم، وقد مدح الله عز وجل المؤمنين الذين يتطهرون بقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وقال عن الذين يزكون أنفسهم ويطهرونها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، فيزكي نفسه أي: يطهرها بطاعة الله سبحانه والبعد عن محارمه.
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: أوقعها في الرجس والنجس والخبث، وفيما حرم الله عز وجل من المعاصي ومن الذنوب، فالمؤمن يزكي نفسه بمعنى: يطهرها.
وفرق بين التزكية التي يريدها الله عز وجل من العبد، والتزكية التي يمنع منها العبد، كما في قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] أي: لا تمدحوا أنفسكم بالأوصاف التي فيها المدح، بمعنى: لا تجعل نفسك أفضل من غيرك بهذه الصفات، ولكن الله أعلم بما في القلوب، وهو أعلم بأهل التقوى سبحانه، فقوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] أي: قد أفلح من زكاها بالعمل وليس بالقول وقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي: بالأقوال، وبمدح بعضكم بعضاً، فتقطعوا ظهور إخوانكم بهذا المديح الذي لا ينبني عليه إلا العجب والرياء والافتخار، ولكن زكوها بتقوى الله عز وجل، وبفعل الطاعات، فمن كان كذلك فهو مفلح، فيزكيه الله عز وجل ويطهر قلبه، ويعصمه من الشيطان: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
وأمر الله المؤمنات بما أمر به المؤمنين، فقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]، فبغض الإنسان بصره: يحافظ على فرجه وإيمانه، ويحافظ على قلبه من الشهوات والشبهات؛ لأن الإنسان إذا أطلق لبصره العنان، ونظر إلى ما حرم الله: اشتهى هذا الذي حرمه الله، فوقع في العشق الحرام، وبعد ذلك يستبيح الحرمات التي حرمها الله سبحانه وتعالى.(80/2)
التحذير من فتنة النساء وما يقع في آخر الزمان
لقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما يخشاه على هذه الأمة هو فتنة النساء، فقال: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
فخاف صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من النساء، وأمر المرأة بأن تحتجب، وقال: (المرأة عورة)، كما أمرها الله عز وجل ألا تبدي زينتها إلا لمحارمها، فإذا أبدت المرأة زينتها للأجانب عنها أوقعت نفسها في الفتنة، وأوقعتهم في ما حرم الله سبحانه وتعالى، فأوشك الناس أن يستبيحوا للزنا، وهذا هو الحاصل في هذا الزمان ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقد أصبح الإنسان يترخص في شرع الله سبحانه، وينسى دينه، ويقع في المحرمات، رجالاً ونساء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البزار وابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق تسافد الحمير.
قال: قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم، ليكونن)، فلا تقوم الساعة حتى يحدث ذلك، وقوله (يتسافدوا في الطريق) أي: يزني الرجل بالمرأة في الطريق.
وهذا ما يحدث في دول الغرب، ففي الحدائق العامة أمام الناس لا يستحي الإنسان أن يأتي المرأة فيفعل بها ما يشاء، طالما أنها بالغة وكبيرة راشدة، فالقانون عندهم لا يمنع من هذا الشيء، وأما بلاد المسلمين - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فقد وجدت بعض تلك الصور سواء قلت أو كثرت، فالرجل يحتضن الفتاة في الشارع، ويمشي معها في الطريق، ويضع يده على كتفها، وتتعرى المرأة في الطرقات، وفي البحار، إلى غير ذلك من العري والأشياء الفاضحة التي تحدث هنالك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا - يقعوا في الزنا- في الطريق تسافد الحمير)، كما تفعل البهائم بلا حياء.
قال عبد الله بن عمرو: (قلت: إن ذلك لكائن؟) كأنه يتعجب: هل من الممكن أن يحصل هذا الشيء؟ قال: (نعم، ليكونن).
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإخبار بما يكون من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله عز وجل يخبره بما يكون، فيخبر الناس، فيكون على ما قاله صلوات الله وسلامه عليه.(80/3)
ما ينبغي للمسلم فعله حتى يغض بصره ويحفظ فرجه
روى الترمذي وابن حبان، من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأتي أهله؛ فإن الذي معها مثل الذي معها).
وهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وبينه عملاً صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان جالساً مع أصحابه عليه الصلاة والسلام -والنساء في عهده صلى الله عليه وسلم كن محتجبات، فليس هناك امرأة تمشي كاشفة أو عارية، التزاماً بأمر الله سبحانه وتعالى- فتمر امرأة من بعيد، ويقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى بيته ويأتي أهله، ثم يخرج إليهم بعد ذلك ويخبرهم أنه رأى هذه المرأة، فذهب إلى بيته وأتى أهله صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يهيجه الشيطان، أو يوسوس له؛ لأن الله قد عصمه من ذلك، ولكنه أراد أن يعلم أصحابه عليه الصلاة والسلام، فأتى أهله، ثم اغتسل، ثم خرج وأخبرهم بما حدث، وكأنه يقول: لا تجعل نفسك تشتهي ما لا تفعله ولا تحصل عليه إلا بطريق الحرام، ولكن اذهب إلى ما أحله الله لك.
أما الشباب العزاب فقد قال لهم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
فعلمهم أن من استطاع منهم تكاليف الزواج، وعنده القدرة عليه فليتزوج: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) أي: فإن الزواج يعين المؤمن على أن يغض بصره، وعلى إحصان فرجه.
والذي لا يقدر على الزواج فعليه ألا يتمنى ما لا يقدر عليه، ولكن قال له صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم؛ لأن الصوم يقلل ما في نفسه من شهوة، فالغذاء إذا قل قلت شهوة الإنسان، وكثْرة الصيام نوع من تقليل الأغذية.
والأمر الآخر أن الصوم يذكر الإنسان بمحارم الله، فيحفظ لسانه وبصره وأذنه ويده ورجله عن الحرام، فإذا بصومه -إذا كان صوماً حقيقاً- يبعده عن ذلك، ويعينه على غض بصره وحفظ فرجه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يتزوج، والأمر بالزواج هنا للاستحباب، ولكن إذا خشي الإنسان على نفسه الوقوع في الفتنة وعنده قدرة على الزواج وجب عليه أن يتزوج؛ حتى يحصن فرجه، ويعف نفسه عن الوقوع في ما حرم الله سبحانه.
وقوله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] فيه أمر للنساء أن يحفظن فروجهن، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ فرجك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك).
فيجب على المرأة أن تحفظ فرجها إلا من زوجها، كما يحرم عليها وعلى الرجل إبداء ما حرم الله سبحانه وتعالى إبداءه.(80/4)
حفظ الفرج نوعان
حفظ الفرج -كما ذكرنا قبل- نوعان: الأول الحفظ من النظر، فلا ينظر إليه أحد.
والثاني: الحفظ من الوقوع في الحرام، ولذلك مدح الله عز وجل المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] فهذا هو الأصل، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] أي: أن الرجل يحفظ فرجه إلا من زوجته أو ما ملكت يمينه، فله أن يملك الأمة فيطأها ويكون له منها الولد، أما المرأة فإنها تحفظ فرجها إلا من زوجها فقط، وأما ما ملكته يمينها فلا يجوز لها معاشرته.
والآن وفي زماننا لا يوجد إماء ولا عبيد، وعلى ذلك فيجب على الرجل حفظ فرجه إلا من زوجته فقط، والمرأة كذلك مع زوجها.(80/5)
الأمر بالحجاب وعدم إظهار الزينة
قال الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، وهذا يدل على أن زينة المرأة: زينة ظاهرة، وزينة باطنة.
فالزينة الظاهرة: كالثياب ونحوها، فعندما تمشي المرأة في الطريق لابسة ثيابها فإنها تكون معذورة في إبداء هذه الزينة.(80/6)
اختلاف أهل العلم في كشف الوجه والكفين
واختلف العلماء: هل للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها للأجانب؟ مع اتفاقهم على أن المرأة إذا خشي منها الفتنة وكانت في زمن يكثر فيه الفساق أنه لا بد أن تستر وجهها وكفيها بحيث لا يبدو منها شيء، وفي غير ذلك اختلفوا، فذهب البعض إلى أنه لا يبدو منها إلا الوجه والكفان، وذهب البعض الآخر إلى أنه لا يبدو منها شيء مطلقاً.(80/7)
أدلة القائلين بجواز كشف الوجه والكفين
استدل القائلون بجواز كشف الوجه والكفين بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] بقوله: إن ما ظهر منها هو الوجه والكفان.
وجاء أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسر ما ظهر منها، قال: الكحل والسوار والخضاب، وذكر نحو ذلك.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها ما يؤيد هذا القول فيما رواه أبو داود أن أسماء بنت أبي بكر أخت السيدة عائشة رضي الله عنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنها، وقال: (يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه) صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا الحديث احتج به من قال: إن المرأة يجوز أن يبدو منها الوجه والكفان.
وهذا الحديث اختلف أهل العلم في الاحتجاج به، فأكثرهم قالوا بضعفه، حتى الذي رواه - وهو الإمام أبو داود - ذكر أنه مرسل، وقال: هذا مرسل خالد بن دريك، ولم يدرك عائشة.
يعني: أن فيه انقطاعاً؛ لأن راوي الحديث وهو خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها، أي: أنها ماتت رضي الله عنها قبل أن يسمع منها رضي الله عنه، ولأجل ذلك ضعف الحديث.
قالوا: وعلى فرض صحته فيكون قبل أن يأمر الله عز وجل النساء بالحجاب في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]، فالحديث كان في بداية الأمر، وبعد ذلك أمر الله عز وجل بالحجاب.
واحتج من أجاز كشف الوجه والكفين أيضاً بما جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في أن الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: (يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم.
قال: وذلك في حجة الوداع).
فقالوا: إذا كان هذا الحديث الأول قبل الحجاب، فإن الحديث الثاني كان بعد الحجاب، ففيه أن الفضل بن عباس كان راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، والمرأة كانت حاجة تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تحج لأبيها، وأن الفضل نظر إليها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لوى وجه الفضل إلى الناحية الأخرى؛ حتى لا ينظر إليها.
فالذين قالوا بجواز كشف الوجه احتجوا بأن المرأة كما في الحديث كشفت وجهها.(80/8)
أدلة القائلين بعدم جواز كشف الوجه والكفين
استدل القائلون بعدم جواز كشف الوجه والكفين بأن ينظر إليها لتركه النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليها، وقالوا أيضاً: إن المرأة كانت محرمة، فكأنها أبدت وجهها وكفيها لكونها محرمة، والكلام ليس في الإحرام وإنما في غير ذلك.
كما احتج العلماء القائلون بأنه لا يجوز أن يبدو منها شيء بحجة قوية وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) وهذا الحديث رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنهما بسند صحيح.
وراوي الحديث هو الذي قال في قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]: إن ما ظهر منها هو الثياب الظاهرة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (المرأة عورة) لم يستثن شيئاً، فكل المرأة عورة لا يجوز أن يبدو منها شيء.
فالعمل بهذا الحديث أقوى، والمرأة يلزمها أن تستتر وخاصة في زمن يكثر فيه الفساق.
وفي هذا الحديث: (إذا خرجت استشرفها الشيطان)، فالشيطان: إما شيطان الجن -إبليس وأشياعه- وإما شيطان الإنس.
واستشرف بمعنى: رفع البصر إليها، وأصل الاستشراف: أن يضع الإنسان يده على عينه حتى ينظر إلى الشيء البعيد.
فمعنى: (استشرفها الشيطان) أي: نظر إليها الشيطان، أو أنه جاء إليها فجعل الناس ينظرون إليها، فكأن الاستشراف هنا إذا كان من شيطان الجن بمعنى: زينها في نظر الناظرين من شياطين الإنس حتى تعجبهم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كأنه يحذر المرأة أن تخرج إلى الرجال فينظروا إليها فتفتنهم، وأكثر ما يفتن في المرأة وجهها، وأول شيء ينظر إليه الإنسان من غيره هو الوجه.
فعلى ذلك يلزم المرأة أن تستتر في مثل زماننا هذا الذي كثر فيه الفساق، وإن كانت المسألة خلافية بين أهل العلم، هل يجب عليها أن تستر وجهها وكفيها أو يستحب؟! الأحوط هو قول من قال بلزوم ستر الوجه والكفين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)، والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/9)
تفسير سورة النور الآية [31]
لقد كرم الله سبحانه وتعالى المرأة المسلمة، وعلمها كيف تصون نفسها، وتعتز بحجابها، فهي محط أنظار أمراض النفوس، وهي فتنة إذا لم تلتزم بأوامر ربها، ولذلك فإن سورة النور تذكر بعض الآداب والواجبات التي على المرأة أن تعمل بها؛ لتحفظ دينها ومجتمعها من الانحلال، ولنساء المسلمين اليوم أسوة بنساء المهاجرين والأنصار بالأمس، وبهذا التأسي يفزن برضا الله سبحانه وجناته.(81/1)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج كما قدمنا قبل ذلك، وزاد هنا للمؤمنات فقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، أي: لا تبدي المرأة زينتها إلا ما ظهر منها.(81/2)
اختلاف أهل العلم فيما يحرم إظهاره من زينة المرأة
واختلف أهل العلم في هذه الزينة المذكورة في الأول، وقال بعد ذلك: ((وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ))، فكأن هناك زينة ظاهرة في المرأة يجوز إيداؤها، وزينة أخرى لا يجوز لها أن تبديها وهي زينة باطنة.
فالزينة الظاهرة: هي الثياب الظاهرة التي تلبسها المرأة، فلا تملك أن تخفيها، وتحتاج المرأة للخروج لحاجتها، فهذه هي الزينة الخارجة والزينة الظاهرة، فلا ينبغي للمرأة أن تلبس من الثياب ما يلفت إليها النظر، وتتبرج في الطريق بألوان الثياب وتجعل الناظرين ينظرون إليها، ولا يجوز لها أن تلبس شيئاً يصف بدنها، ولكن لا بد أن تستتر بثياب صفيقة غير شفافة، وتكون ساترة لها، وربنا سبحانه وتعالى كرم المؤمنات وجعل المرأة المؤمنة مستترة، فلا ينظر إليها أحد ولا يهينها أحد، فهي مستورة بستر الله سبحانه وتعالى، فتلبس ثيابها، وتتجمل بإيمانها، فهي ثياب الإيمان التي تفرق بين المرأة المؤمنة والمرأة الفاسقة الفاجرة الكافرة، فصان الله عز وجل المؤمنات من أن ينال من أعراضهم، فالمرأة المؤمنة تغض بصرها فلا تقع في الحرام، وهي لا تنظر إلا إلى ما أحل الله عز وجل لها، فلا تنظر إلى رجال أجانب، ولا تنظر إلى عورات النساء أو الرجال، فهي تغض بصرها إلا ما أحل الله عز وجل لها من نظر إلى الزوج أو نظر إلى المحارم فيما يحل، قال تعالى: ((وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)).(81/3)
اختلاف أهل العلم في نظر المرأة إلى الرجل وفي نظر الرجل إلى المرأة
وهنا اختلف أهل العلم في نظر المرأة إلى الرجل، فهل يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجل؟ نقول: يحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا بد أن تستتر المرأة من الرجل إلا في حال الضرورة، فإذا كان في حالة ضرورة جاز للرجل أن ينظر للمرأة، كالمداواة ونحوها إن لم يوجد نساء، فعلى ذلك يجوز أن ينظر إلى ما تدعو الحاجة إليه، لكن غير ذلك لا بد من غض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ ما حرم الله عز وجل أن يبدو وأن يظهر، فالمرأة تحفظ نفسها وبدنها، وتحفظ فرجها، وتغض من بصرها، وجاء في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم سلمة: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة)، تعني: أنا وميمونة كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، (فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب)، يعني: بعدما أمر الله عز وجل بالحجاب، (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلن: يا رسول الله! أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: أفعمياوان أنتما؟) أي: ألستما تبصران؟ هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الترمذي، لكن إسناد الحديث فيه ضعف.
ففيه: أن المرأة لا تنظر إلى الرجل، وهذا هو المعنى الصحيح، وجاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو).
وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ستر عائشة وكانت تنظر إلى الحبشة، وكانت عادة الحبشة في الأعياد أن يلعبوا بالحراب ويرقصوا بها، وقد دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد، وفعلوا هذا الشيء في مسجده صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم، وقال للسيدة عائشة رضي الله عنها: (أتشتهين تنظرين؟) أي: أتحبين أن تنظري؟ وهي لا تريد أن تنظر ولا غيره، ولكن تريد أن ترى قدرها من النبي صلى الله عليه وسلم (فوقفت تنظر وهو يسترها بثوبه صلى الله عليه وسلم، وظل النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى هي التي سئمت) أي: لم يقل لها: كفى، ولكن هي التي سئمت فدخلت، فالسيدة عائشة رضي الله عنها هنا نظرت لذلك، وفي رواية: (أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه فطأطأ لي منكبه، فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت).
فالجمع بين الحديث وهذه الآية: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] أن المرأة لا تنظر إلى الرجل الواحد نظرة تأمل وتفحص فيه، وكونها تنظر إلى مجموعة يلعبون نظرة عامة فهذا جائز يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها هذا.
وأما أن تنظر إلى رجل واحد أو إلى رجال نظرة شهوة ونظرة تفحص فهذا غير جائز؛ لأن ذلك يوقع في قلبها الفتنة كما يحدث العكس للرجال، فهذا هو المنهي عنه.
وقال بعض أهل العلم: هذا الحديث كان والسيدة عائشة صغيرة، فقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، قالوا: فكانت صغيرة، فيجوز للصغيرة ذلك.
والصواب: أنها كانت كبيرة وليست صغيرة، فقد جاء في بعض الروايات أن هذا كان بعد مقدم الحبشة، وكان قدومهم سنة سبع، وكون النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في المدينة ولها سبع سنوات، ودخل بها ولها تسع سنوات، فإنه سيكون قد مضى من عمرها ست عشرة سنة، إذاً: فالقول: إنها كانت صغيرة قول بعيد، والصواب: أنها جاوزت الست عشرة سنة رضي الله عنها.
وأيضاً جاء في حديث لـ فاطمة بنت قيس في الصحيحين، لما طلقها زوجها التطليقة الثالثة، وكأن المرأة لم يكن لها مكان تعتد فيه، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقد كان في البداية أمرها أن تمضي إلى إحدى النساء واسمها أم شريك، امرأة أنصارية، قال: اذهبي واعتدّي عندها، ثم رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة عجوز، ويحضر إليها الكثيرون من الصحابة في بيتها تطعمهم أو تعطيهم شيئاً، والبيت مع ضيقه وهي فيه سيحصل شيء من الحرج حين يقدم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتنظر إليه أو ينظر إليها، فقال: (اعتدي عند ابن أم مكتوم)، وكان ابن عمها وليس محرماً لها رضي الله عنهما، فأمرها وقال: (إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده)، إذاًَ: هو أعمى لا يراها، ولكنها تراه، والضرورة موجودة، فالمرأة ليس لها مكان تعتد فيه، وزوجها طلقها الطلقة الثالثة وليس لها بيت، إذاً: فالأحرى بها أن تذهب عند هذه المرأة العجوز، وهذا من حيث النظر في البداية، ولكن لما كانت هذه المرأة كبيرة وكان الناس يحتاجون إليها ويذهبون إليها في بيتها، والبيت مع ضيقه وحضور الرجال إليها تطعمهم أو تعطيهم شيئاً، سيجعل هذه المطلقة تنظر إلى مجموعة من الرجال.
إذاً: الأفضل أن تعتد عند ابن أم مكتوم في بيته، فهو رجل واحد، وإن نظرت نظرت إلى رجل واحد، والرجل سيكون متزوجاً، وعنده أهله في بيته، فعلى ذلك سيكون الأمر أيسر بكثير عند ابن عمها ابن أم مكتوم من أنها تكون عند أم شريك، فلذلك أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تعتد عند ابن أم مكتوم، وعلل ذلك بأنه رجل أعمى تضع ثيابها عنده، يعني: في هذا البيت، فضلاً عن أن ابن أم مكتوم كان ابن عم لها.
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31]، واختلف العلماء فيما يظهر من الزينة: فذهب ابن عباس وغيره إلى أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان.
وجاء عن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن قوله تعالى: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] يعني: الثياب الظاهرة.
وقال أهل العلم: إنه في الزمن الذي يكثر فيه الفساق ويبتعد الناس عن الدين، فلا بد للمرأة أن تستتر جميعها، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم في أنه هل تبدي المرأة الوجه والكفين أم أنها تستر الجميع؟ لكن في زمن الفتنة تستتر المرأة وخاصة إذا كانت جميلة ينظر إليها الناس، فلابد أن تستر وجهها، وتستتر بستر الله الذي أمرها الله به.
قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، الخُمُر: جمع خمار، والخمار: الغطاء، ومنه: خمرّ الشيء، يعني: غطاه، والخمار هنا المقصود به: الغطاء الذي يوضع على رأس المرأة، فيكون الخمار نازلاً من فوق الرأس فيستر صدر المرأة، وسمى الله صدر المرأة جيباً، وأمر أن تضرب المرأة بالخمار، فينزل من على رأسها ويستر صدرها، وقوله تعالى: {جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] مثل كلمة عيون، وكلمة بيوت في القرآن، فإنها تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فتقرأ بُيوت وبِيوت، شُيوخ وشِيوخ، عُيون وعِيون، جُيوب وجِيوب، وابن ذكوان وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءونها بالكسر، وبقية القراء يقرءونها بالضم.(81/4)
سبب نزول قوله تعالى: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
ذكروا في سبب نزول هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رءوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر، يعني: كانت المرأة في الجاهلية تضع خماراً على رأسها وتجعله وراءها، فيبدو من الأمام صدرها، فهذا مثل جاهلية اليوم تجد المرأة تمشي وصدرها منكشف، فكان أهل الجاهلية على هذا الشيء.
وكانت المرأة في الجاهلية لا تبالي أن يظهر منها شعرها، أو أن يظهر منها أذنها وقرطها، أو يبدو خلخالها، بل كانت تمشي في الطريق لابسة خلاخيل في رجليها فتضرب برجلها حتى يسمع صوت الخلخال وهي ماشية، فينتبه إليها الناس وينظرون إليها، فحذر الله عز وجل المؤمنات من الوقوع في ذلك.
فقد ذكر الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (رحم الله نساء المهاجرات الأول، لما نزل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أزرهن فاختمرن بها)، وكذلك نساء الأنصار، فجاء عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أنها قالت: (لما أنزلت هذه الآية {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها) يعني: أخذت الإزار الذي تلبسه فشقته من قبل الحاشية، أي: البطانة، فقد كان الثياب عندهن قليل، فنزلت الآية بالأمر بحجاب المرأة.
وأيضاً جاء في حديث ذكره ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت: (بينا نحن عند عائشة رضي الله عنها قالت: فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] لما نزلت هذه السورة انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان) تعني: أن كل واحدة بحثت عن الذي عندها من إزار أو مرط أو غيره، فتغدو وتجعله فوق رأسها وتغطي به صدرها، وتذهب لتصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر، ففي الليل عرفن ذلك، وفي الفجر ذهبن يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقول السيدة عائشة: أنها نظرت لمنظر النساء وكأن الغربان على رءوسهن، يعني: فقد وضعن على رءوسهن أشياء من الثياب السوداء ونحو ذلك، ومعروف أن الغراب أسود، أو المقصد: أن المرأة كانت تجعل الثياب على رأسها وتبالغ في إخفاء رأسها.
وورد في رواية أخرى عن عائشة عند أبي داود قالت: (يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها)، فدل على أن كلاً من المهاجرات والأنصاريات فعلن ما أمر الله عز وجل به حالاً، ولم تقل المرأة: سنفعله تدريجياً كما يفعل نساء هذا الزمان، فتلبس ما تشاء من بنطلون ضيق وتزعم أنها محجبة، وتحط على رأسها ريشة قماش وتزعم أنها طارحة جلباباً، وتخادع نفسها ويغرها الشيطان، وفي النهاية الموت يأتي على الجميع والحساب يوم القيامة.(81/5)
الدعوة إلى الحجاب وإلى الرجوع إلى تطبيق كتاب الله وسنة نبيه
ولذلك على الإنسان المؤمن أن يعلم أهل بيته، ويعلم بناته أن يستترن، وأن يطعن الله سبحانه وتعالى، فالمرأة إذا عصت الله سبحانه وتعالى كانت شؤماً على نفسها وعلى أهل بيتها، وكانت فتنة لغيرها، فلا بد أن يتقي الله سبحانه وتعالى النساء والرجال في البنات وفي الأخوات وفي الأهل.
ففي حالات كثيرة تجد الرجل يمشي مع زوجته متبرجة ولا يستحيي من ذلك، وتلاقي المرأة تمشي مع ابنتها والرجل مع ابنته وهي متبرجة، فإن قلت: هذا حرام، قال: لا زالت صغيرة، فكلمة صغيرة ضحك بها الغرب على الشعوب المسلمة، وبدءوا يقولون: المرأة صغيرة، ثم تجد الأب يترك ابنته إلى ثمانِ عشرة سنة ويعاملها كطفلة! إن السيدة عائشة تزوجت ولها سبع سنوات، ودخل بها النبي صلى الله عليه وسلم ولها تسع سنوات، فتقول: إذا بلغت الصبية تسعاً فهي امرأة.
ففي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعاملون الصغيرة على أنها كبيرة، وليس من اللائق أن تقول عن رجل: طفل صغير، وقد مضى من عمره ثمانِ عشرة سنة، فإن أعداء الإسلام يضربون هذه الأمة بأسلحتهم ويهينونها، وبذلك فإن المسلم يهين نفسه، ويستحق الهوان من غيره، ولا يستحق أن يدافع الله عز وجل عنه.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام فالإنسان الذي تهون عنده نفسه يصير أهون عند الغير، فأمة المسلمين لما نسوا أنفسهم، وطأطئوا رءوسهم للغرب، ولما تركوا دينهم وراءهم، واقتدوا بأوروبا وأمريكا، وصارت التشريعات الفرنسية هي التي تحكمهم، وأصبح كتاب الله زينة للبيوت فقط لا للتشريع، ونسى المسلمون ربهم سبحانه وتعالى سلط الله عليهم غيرهم فأذلوهم، وصارت الشعوب ترمي المسلمين بأنهم متخلفون، وشعوب المسلمين هي الشعوب المتأخرة التي جعلت اهتمامها بالدنيا فقط، فإذا أراد المسلمون أن يقلدوا الغرب يتركون التقليد في الأشياء العلمية المفيدة ويقلدونهم فيما يخالف دين الإسلام، فهل من التنوير أن المرأة تتبرج، وأن الرجل ينظر إلى ما يشاء، والبحور تمتلئ بالعرايا، فهذا هو التنوير الذي عرفه المسلمون من هؤلاء، فقد تركوا ما عندهم من علوم وبقوا متأخرين، وقد كانوا قادة الأمم في العلوم قبل ذلك، فقد كانت كتب المسلمين في الطب وغيرها تترجم إلى هؤلاء ليتعلموا من المسلمين، واليوم أصبح المسلمون المتأخرين المتخلفين وأصبح هؤلاء القادة عليهم والسادة فوقهم، فيأمرونهم فينفذون لهم ما يريدون، فكيف يقول المسلمون: نحن نريد أن نعرب الطب، فنقول: لو عربتم كتب الطب فهل سيقرؤها الآخرون وهم أصلاً يسبقكونكم في هذه العلوم، فهذا الكلم الذي يتكلم به المسلمون عبارات جوفاء وأشياء لا ينظرون إلى جوهرها، بل ينظرون إلى مظهرها فقط، فالمسلمون لن يعودوا إلى ما كانوا عليه إلا إذا تمسكوا بكتاب ربهم سبحانه وتعالى، وطبقوا هذا النور العظيم، إذا تعلمت المرأة كيف تحتجب، وكيف تطيع ربها سبحانه، وكيف تعلم أولادها، فإذا عرفوا ذلك ورجعوا إلى دين الله عز وجل أعانهم الله سبحانه على أن يكونوا سادة الأمم، وجاء العصر الذي يقاتل فيه المسلمون اليهود ويقول الحجر (يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله)، فهنا يجعل الله عز وجل الجمادات تقاتل مع المسلم، وتعينه على الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وأما إذا كان المسلم متأخراً ومتخلفاً وتاركاً لدين الله عز وجل وراء ظهره فلا ينتظر توفيقاً من الله إلا أن يراجع دينه، ويرجع إلى ربه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا ويعين كل المسلمين على العودة إلى كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/6)
تفسير سورة النور (تابع) الآية [31]
لقد جاء الإسلام بصيانة المرأة وسترها والمحافظة عليها، وكذلك جاء لتطهير المجتمع من أمراض الشهوات والرذائل، ولذلك حرم الزنا، وأمر بحفظ الفروج.
ولما كانت المرأة هي العامل الأقوى في نشر هذه الأمراض أمرها الله عز وجل بحفظ البصر والفرج، وأمرها بالحجاب وعدم إبداء الزينة إلا لمن ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية.(82/1)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)(82/2)
أنواع الزينة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة النور: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأمر المؤمنات بما أمر به المؤمنين، فقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة.
فالزينة الظاهرة لا تبدي المرأة منها إلا ما تحتاج إلى إبدائه كالثياب الخارجة، بشرط ألا تكون زينة في نفسها بحيث تلفت إليها أنظار من تمر به من الرجال ونحو ذلك، قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، والخمار هو: ما تغطي به المرأة رأسها، فتضرب بهذا الخمار على رأسها، وتستر به صدرها.
والمقصود بالجيب: جيب القميص، أو جيب الدرع، وهو مكان دخول الرأس في القميص أو في الدرع أو في ما تلبسه المرأة، وقد يكون واسعاً فيبدو صدرها فأمرها الله عز وجل أن تنزل الخمار الذي فوق رأسها فتستر به صدرها.
قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وهذه هي الزينة الثانية وهي الزينة الباطنة، فلا لا يجوز للمرأة أن تبدي هذه الزينة إلا لمن ذكرهم الله عز وجل هنا وأباح لها أن تبديها لهم.
وما تبديه المرأة للزوج غير ما تبديه لباقي هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية.
وقد ذكر سبحانه هنا اثني عشر صنفاً من الأصناف الذين يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم.(82/3)
الزينة التي تبديها المرأة أمام الزوج
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31]، والبعل: هو زوج المرأة، ويطلق على السيد أيضاً.
والمرأة إما حرة وإما أمة، فالمرأة الحرة تبدي زينتها وجمالها وبدنها كله لزوجها، فللزوج أن ينظر من زوجته إلى كل شيء منها، وكذلك تنظر المرأة إلى زوجها، وهذا حلال أحله الله عز وجل.
وكذلك السيد مع أمته، والأمة هي المملوكة المشتراة بالمال، والزوجة هي التي يعقد عليها وليها للزوج، فلا يملك الزوج منها شيئاً، ولكن ينتفع بما أباح الله عز وجل له من استحلال فرجها، والاستمتاع بها.
وأما الأمة فيملك سيدها أن يبيعها وأن يبقيها وأن يعتقها، والآن لا توجد إماء ولا يوجد عبيد؛ فقد حررهم الله عز وجل بما فرض في القرآن من كفارات ونحوها، فحررهم كلهم حتى لم يبق في المسلمين عبيد، بل وفي العالم كله لم يبق عبد ولم يبق إلا العبودية لغير الله سبحانه وتعالى الموجودة في الخلق، أو في الكفرة فهم يعبدون غير الله سبحانه، وأما العبيد والإماء فليسو موجودين الآن.
فالبعل المقصود به: السيد أو الزوج، فللزوج أن يرى من المرأة كل ما يبيحه الله عز وجل له، فينظر إليها إلى بدنها كله، وقد بدا هنا بالزوج.(82/4)
الزينة التي تبديها الزوجة أمام بقية الأصناف غير الزوج
قال تعالى: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [النور:31]، فللمرأة أن تبدي زينتها لأبيها، ولا شك أن ما تبديه المرأة لزوجها غير ما تبديه لأبيها، فإن الزينة التي تبديها المرأة لزوجها هي بدنها كله، وأما الزينة التي تبيدها المرأة لأبيها أو لباقي من ذكر الله سبحانه وتعالى فهي ثياب المهنة أو ثياب البيت، وما قد يبدو منها في ثياب بيتها أو ثياب مهنتها، مثل يدها أو رجلها أو ساقها أو ذراعها أو شعرها أو رأسها، وأما عورتها فيما بين سرتها إلى ركبتها فلا يطلع هؤلاء على ذلك.
وتخفي صدرها فلا تظهره أمام هؤلاء، قال أهل العلم: إن ما تبديه المرأة لهؤلاء الأحد عشر غير ما تبديه المرأة لزوجها.
قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: آباء البعولة وآباء الأزواج.
قال تعالى: {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: إن المرأة أمام أبيها وأمها وأولادها وبقية الأصناف لا تظهر لهم إلا ما يظهر منها في ثياب مهنتها في بيتها مثل كتفها ونحرها وذراعها وقدمها وشعرها ورأسها وذراعها ولا تظهر أمام هؤلاء ما بين سرتها إلى ركبتها، وإنما هذا يظهر أمام الزوج فقط.
قال سبحانه وتعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ} [النور:31]، أي: ابن المرأة {أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] أي: ابن زوجها.
{أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31]، أي: أن للأخ أن يرى ذراعها وساقها ورأسها فهذا جائز {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ} [النور:31] أي: من تكون هي عمة له فيجوز له أن ينظر أيضاً إلى رأسها وشعرها وذراعها ورجلها.
قال تعالى: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} [النور:31] أي: من تكون لهم خالة، قال تعالى: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] أي: نساء المرأة فمن كان معها من نسائها قريبة لها فتدخل عليها، وهن غير الكافرات.
وقد اختلف أهل العلم في المقصود هنا.
قالوا: لكن الأصل هنا في قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يعني: نساء المرأة من المؤمنات.
فهنا الاتفاق على أن المسلمات يدخلن على المرأة، وينظرن منها إلى ما يجوز للمرأة أن تنظر إلى المرأة منه.(82/5)
حكم التجرد وإظهار العورة
ولا يجوز للمرأة أن تبدو متجردة أمام امرأة أخرى، وكثير من النساء يفعلن هذا الشيء ويتساهلن فيه، فلا تستحي المرأة أن تبدي ما بين سرتها إلى ركبتها أمام امرأة أخرى، وهذا غير جائز، فعلى المرأة أن تستتر من النساء، والرجل يستتر من الرجال، فلا يبد لهم ما بين سرته إلى ركبته، فهذا عورة.
والعورة قسمان: عورة مغلظة، وعورة مخففة، فالعورة المغلظة: السوءتان.
والعورة المخففة: غير ذلك مما بين السرة إلى الركبة.
والعورة المغلظة لا يجوز لأحد أن يبديها، ولا يجوز لأحد أن ينظر إليها إلا لحاجة، والعورة المخففة قد تبدو مع المهنة أو مع شيء آخر، ولكن لا يُنظر إليها.
والمرأة مع المرأة كذلك، فلا تنظر المرأة إلى عورة امرأة أخرى فيما بين سرتها إلى ركبتها إلا لحاجة من تطبيب ونحو ذلك.
وأما لغير حاجة فليس لها ذلك.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) يعني: لا تنظر إلى بدنها كله، فقد يكون في نفسها شيء فتذكر هذا الشيء لزوجها، أو تفضح هذه المرأة أمام غيرها، فحمى ربنا سبحانه وتعالى المؤمنة وقال لها: لا تظهري زينتك أمام أحد إلا من ذكر هاهنا.
ولا يجوز للمرأة أن تظهر ما بين السرة إلى الركبة لأحد إلا لزوجها، وإلا لحاجة من تطبيب ونحوه.
إذاً: فالمقصود بقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] النساء المسلمات، قال العلماء: تَظهر المرأة بزينتها للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة، وأما نساء أهل الذمة فقد خاف العلماء من أن تبدي المرأة زينتها أو تكثر من التزين أمامهن فيفضحها، فإنهن لا دين عندهن، فإن من الممكن أن يذكرن أن فلانة شكلها كذا ولونها كذا ورجلها كذا وعينها كذا، فيذكرن أشياء من زينتها فيفضحنها، أو يذكرنها للكفار.
وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد: فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، وإنهن من قبلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر عورتها أو إلى عورتها إلا أهل ملتها.
فهذا مذهب عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد خشي عمر من دخول المسلمات مع الكافرات في الحمامات، فإذا كان المسلمون إذا دخلوا الحمامات العمومية تجردوا من ثيابهم أمام الآخرين فكيف بالنساء؟ فهن ناقصات عقل ودين، فقد تفعل المرأة ذلك، فإذا دخلت المرأة حماماً فيه كافرات أيضاً فقد تفعل هذا الشيء، فخشي عمر من ذلك، فنهى عن مثل ذلك؛ خوفاً من هذا الشيء.(82/6)
حكم إبداء المرأة لزينتها أمام النساء
إن مسألة إبداء الزينة أمام الكافرات أنواع: أما إبداء البدن كله فهذا محرم، فلا يجوز لا أمام مسلمة ولا أمام كافرة.
وأما أن تخفي المرأة ما بين السرة إلى الركبة وتبدي غير ذلك أمام امرأة مسلمة فهذا جائز، وأما أمام الكافرة فتمنع المرأة من هذا الشيء، وأما ثياب المهنة التي تلبسها في بيتها أمام أبيها أخيها وأقاربها ومحارمها الذين ذكرهم الله عز وجل فقد اختلف أهل العلم في ذلك: فذهب الشافعي وغيره: إلى المنع من ذلك.
فقد ذكر الإمام النووي وغيره أن المرأة المسلمة لا تبدي زينتها أمام امرأة كافرة في ذلك.
وذهب الحنابلة وغيرهم: إلى أنه لا فرق بين ما تبديه المرأة المسلمة أمام المسلمة وبين ما تبديه أمام المرأة الذمية، كما أنه لا فرق بين ما يبديه المسلم أما المسلم وبين ما يبديه أمام الذمي.
وجاء عن الإمام أحمد روايتان في هذه المسألة.
فقال: أنا أذهب إلى أنها لا تنظر إلى الفرج، ولا تقبلها حين تلد.
أي: أن المرأة الكافرة لا تكون لها قابلة إذا وجدت الطبيبة المسلمة أو الداية المسلمة، فإن لم يوجد غيرها واحتيج إلى ذلك فلا بأس، ولو اضطرت إلى الذهاب إلى طبيب ذهبت إلى الرجل الطبيب المسلم.
أي: أن الأمر في التطبيب مع الحاجة، فقد تذهب المرأة إلى الطبيبة المسلمة، وإذا لم تجد ذهبت إلى الطبيبة الكافرة، وإذا لم تجد ذهبت إلى الطبيب الذكر المسلم.
وجاء عن الإمام أحمد رواية أخرى، وهي: أن المسلمة لا تكشف قناعها عند الذمية.
والقناع هو: الغطاء الذي تجعله المرأة فوق رأسها تستر به رأسها ومحاسنها.
فقال: لا تكشف قناعها عند الذمية، ولا تدخل معها الحمام، والخوف من دخول الحمام خوفاً من التجرد، فإن المرأة قد تستهين بأمر دينها فتخلع ثيابها كما يحدث الآن، فقد صارت المرأة تخلع ثيابها في البحار أمام الرجال والنساء، ولا تفرق بين شيء وشيء، فنهى العلماء عن ذلك؛ خوفاً مما يحدث بعد ذلك، فلعل المرأة المسلمة تتجرد أمام المرأة الكافرة، فتصورها وترسلها لغيرها لتفضحها بها.
ولعلها إذا تجردت أمام الكافرة يكون في نفسها شيء من شهوات النساء الباطلة أو الشذوذ، فتقع معها في السحاق، والعياذ بالله.
أو تدعوها إلى مثل ذلك.
فإذاً تستتر المرأة ولا تبدي زينتها أمام هؤلاء، وأما إذا كان لا يقصد إلى هذا الشيء فالراجح: أن ما تبدو به أمام المرأة المسلمة جاز لها أن تبدو به أمام غيرها، ولكن الأحوط أن تحتاط المرأة لنفسها، فإذا عرفت عن هذه أنها تتكلم في أمر النساء، أو يخشى من شهوتها، أو ثرثرتها، فإنها تستتر، ولا تدخل أمثالها على بيتها.
قال ابن قدامة رحمه الله: والأول أولى.
وهو أنها تبدو أمام الكافرة بثياب الزينة وبما يجوز لها أن تظهره أمام المسلمة، قال: لأن النساء الكوافر من اليهود وغيرهن كن يدخلن على نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني: كان بعض نساء اليهود يدخلن على السيدة عائشة رضي الله عنها، ولم ينهاها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنه أمرها أن تحتجب من هذه المرأة، قال: فلم يكن يحتجبن ولا أمرن بحجاب، وقد جاء أن امرأة يهودية جاءت إلى عائشة رضي الله عنها: تسألها شيئاً، أي: تطلب منها إعانة، فدعت للسيدة عائشة وقالت: أعاذك الله من عذاب القبر.
فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله عز وجل عليه بعد ذلك (إنكم تفتنون في قبوركم، فكان يتعوذ بالله عز وجل من عذاب القبر).
يعني: إلى هذا الحين لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر ولم يوح إليه في أمر عذاب القبر بشيء، حتى دخلت المرأة اليهودية على السيدة عائشة ودعت لها بذلك.
فسألت السيدة عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن قول اليهودية فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إنكم تفتنون في قبوركم.
وقال: إنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم، فكان يتعوذ بالله من عذاب القبر)، صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك قالت أسماء وهي أخت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم: (قدمت علي أمي وهي راغبة، يعني: في الإسلام، أو: راغبة عن الإسلام، أو: راغبة في صلة من الصلات، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأصلها؟ فقال: نعم)، وقد كانت أم أسماء غير أم عائشة، فأم عائشة اسمها أم رومان وقد كانت مؤمنة مسلمة، وأما أم أسماء فكانت كافرة، فجاءت تزور أسماء وهي كافرة، فلما جاءت أرسلت أسماء لتسأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل تستقبلها وهي كافرة؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبلها؛ فإنها أمها.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها هنا أن تحتجب منها.
وهنا قد يقال: هي أمها، والمرأة لا تحتجب من أمها، إلا ما لا يجوز لها إظهاره أمام الأم.
ولكن اليهودية التي دخلت على عائشة رضي الله عنها لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحتجب منها، ولم يثبت عنه مثل ذلك.
قالوا: فعلى ذلك لا يثبت الأمر بالحجاب إلا بنص من كتاب أو سنة، وهذا ليس فيه ذلك، فعلى ذلك فقوله سبحانه: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور:31] يحتمل أن يراد به جملة النساء، يعني: من يدخل على المرأة من النساء سواء كن من أقارب المرأة، أو غريبات عنها، أو إمائها مسلمات أو كافرات، أو كن حرائر من ذميات أو نحو ذلك، فيجوز للمرأة أن تظهر أمامهن كلهن بثياب زينتها، ولكن لا تتجرد أمامهن، وعليها أن تستر أمام النساء ما بين سرتها إلى ركبتها، وتستتر أكثر من ذلك أمام النساء الكافرات.(82/7)
معنى قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانهن)
قال الله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] وهذا هو الصنف العاشر ممن تبدي المرأة زينتها أمامهم، قال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] فإذا كانت فالمرأة تملك أمة مسلمة أو كافرة فيجوز لها أن تبدو بثياب زينتها أمامها، وكذلك إذا كانت المرأة تملك عبداً كافراً أو مسلماً، ففي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك).
فالعبد الذي تملكه المرأة يجوز له أن ينظر إلى وجهها ويدها.
وفرق بين أن تملك المرأة عبداً وبين أن يملك الرجل أمة، فالرجل إذا ملك أمة فيجوز له أن يطأها؛ لأنها ملكه، والمرأة إذا ملكت عبداً فلا يجوز له أنه يطأها، إلا إذا تزوجها بإذن وليها، أو زوجها وليها عبداً، وكان هذا العبد يجوز له أن يتزوجها.
فلا يجوز له أيضاً أن ينظر إليها متجردةً، وإنما يدخل عليها ويقضي لها حوائجها، فيجوز له أن ينظر إلى وجهها ويدها ولو انكشف شيء من شعرها أيضاً جاز له أن ينظر إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى لـ فاطمة غلاماً عندما كانت محتاجة لمن يخدمها ويعينها، فدخل عليها وكان ثوبها الذي عليها إذا غطت به رأسها انكشف قدمها، وإذا عطت قدمها انكشف شعرها أو رأسها رضي الله عنها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك أو غلامك)، فدل هذا على أن العبد يجوز له أن ينظر إلى يد سيدته ووجهها، أو حتى إلى شعرها.
وأما أكثر من ذلك فلا، وهذا الحديث لم يذكر فيه أكثر من أنه بدأ شيء من رأسها أمام هذا العبد، فإذا اعتقت هذا العبد صار حكمه كغيره من الناس، فلا يجوز له أن ينظر إليها.(82/8)
معنى قوله تعالى: (أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال)
ومن الأصناف الذين ذكرهم الله عز وجل في هذه الآية: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ} [النور:31]، والإربة أصلها: الحاجة.
والمقصود هنا: الشهوة، قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31]، وذلك مثل الرجل الشيخ الكبير والعجوز الذي لا شهوة عنده، أو الإنسان العنين، أو الإنسان المخنث خلقة، يعني: خلق وفيه خنوثة وتكسر، وفيه صفات الأنوثة وليس له في النساء حاجة.
فإذا بدأ أنه له في النساء ذلك لم يجز أن يدخل عليهن، قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31]، قال المفسرون: هو: الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء، يعني: المعتوه الذي ليس فيه شيء من العته، ولا شهوة فيه.
وقيل: العنين، وقيل: الإنسان المخنث خلقة، وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم، ويرتفق معهم وهو ضعيف، يعني: في شهوته وفي علقه، ولا يشتهي النساء.
فإذا كان على هذا النحو بأن خلق لا شهوة فيه، أو بسبب مرض فيه جاز له أن يدخل مع رجال البيت على النساء، وأن يسأل أو يأكل أو نحو ذلك.
قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31]، فإذا بدا أن هذا الإنسان يفهم أمر النساء لم يجز له أن يدخل، ولذلك جاء في الحديث: (أن رجلاً كان مخنثاً وكان يدخل على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسأل نساء النبي صلى الله عليه وسلم فيعطينه، وكانوا يرون أنه لا حاجة له في النساء ولا شهوة فيه، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم مرة وهو يتكلم في أمر النساء، وهو ينصح أخاً لإحدى أمهات المؤمنين، ويصف له امرأة ويقول: إذا فتح الله عز وجل عليكم ثقيفاً فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ألا أرى هذا يعلم ما هناك؟) يعني: يفهم أمر النساء، فمنعه ونفاه خارج المدينة أبداً؛ من أجل ألا يخدع الناس، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فنفي خارج المدينة، وكان يؤْذن له كل أسبوع ينزل المدينة يسأل الناس.
فهو لما كان معروفاً بين الناس أنه مخنث وأنه لا شهوة له في النساء كانوا يتركونه يدخل بيوتهم يسأل، فيعطونه ويطعمونه، ولما ظهر من كلامه أنه يفهم أمر النساء، ويصف امرأة بأنها فيها من الجمال وكذا وكذا، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منعه من الدخول على بيوت النساء، ونفاه خارج المدينة، فكان بعد ذلك ينزل في كل أسبوع مرة، فيسأل الناس.
وفي قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور:31] قراءتان: فقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم وأبو جعفر (غيرَ أولي الأربة من الرجال)، وقرأ باقي القراء بالجر فيها.(82/9)
معنى قوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء)
قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ} [النور:31]، وهذا هو الصنف الثاني عشر ممن يجوز للمرأة أن تبدو أمامهم بزينتها، وهو: الطفل.
والطفل يطلق على من لم يبلغ الحلم، فيطلق على الإنسان وهو في بطن أمه جنين، وعندما يخرج من بطن أمه إلى المراهقة.
وكلمة راهق بمعنى: قارب البلوغ ولم يبلغ، فمرحلة المراهقة تطلق على آخر مرحلة من مراحل الطفولة قبل البلوغ.
أي: أنه قارب البلوغ ولم يحتلم.
فالطفل إذا لم يبلغ جاز للمرأة أن تبدو بزينتها أمامه، إلا إذا بدأ عليه شيء من الشهوة، أو كان يتكلم بما يراه، وينقله لغيره، أو يصف النساء، فإذا علم منه ذلك فعلى المرأة أن تتستر أمامه.
والله أعلم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(82/10)
تفسير سورة النور [31 - 32]
إن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ينفذ إلى القلب فيمرضه، أو يصيبه في مقتل، ومن تركه أورثه الله نوراً يجد حلاوته في قلبه، وقد جاء الأمر الرباني لمن اتصفن بصفة الإيمان من النساء أن يغضضن أبصارهن، وألا يكن داعيات للفتنة بحركاتهن أو زينتهن وملابسهن، أو حتى بالضرب بأرجلهن ليعلم ما يخفينه من زينتهن، ثم جاء النداء الرباني الرحيم بأن من فعل شيئاً من ذلك فطريق فلاحه أن يتوب إلى الله تعالى، ويرجع إليه.(83/1)
تفسير قوله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
لما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة عما يجوز للمرأة أن تظهره أمام محارمها، وعن الزينة الظاهرة والباطنة، وما لا يحل لها أن تظهره أمام غير محارمها، أمر عباده بالتوبة إليه سبحانه فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فإذا كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يقول: (إني لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، وهو المعصوم الذي قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويعد له في المجلس الواحد سبعين مرة يستغفر فيها، فالمؤمنون مأمورون بأن يتوبوا في كل وقت إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، وتوبة العبد سبب للفلاح، فما من إنسان إلا ويبدر منه ذنب من الذنوب كبر أو صغر، جاء في الحديث: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
وذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى ما تتعلق هذه الآية أو هذه الجملة به، فذكر النساء وقال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]، فذكر هؤلاء.
وقد يبدو من المرأة شيء من زينتها أمام غير من ذكر الله عز وجل، فكأنه يشير إلى ذلك ويقول: توبي إلى الله عز وجل مما بدر منك سواء كان عمداً أو خطأً، وقد تنكشف المرأة أمام البعض، وتستتر أمام البعض الآخر، وقد منع الله عز وجل من إظهار الزينة إلا أمام من ذكر.
وقد تستصغر إنساناً ولا يكون صغيراً، وقد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ويكون من هؤلاء، فيأمر الله عز وجل بالتوبة إليه، ففي نهاية هذه الآية قال الله سبحانه وتعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ} [النور:31] يعني: الرجال الذين لا حاجة لهم في النساء: من كبر سن فيه، أو يكون إنساناً مخنثاً خلقة.
فإذا دخل وطلب طعاماً أو سأله ونظر إلى شيء فهنا لا يجب على المرأة أن تستتر استتاراً كاملاً منه، ولكن قد تظن أن هذا من غير أولي الإربة ثم يبدو أنه من هؤلاء، مثل المخنث الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ونقصد بالمخنث الإنسان الذي ليس به حاجة إلى النساء، أو الذي في تركيبه طبيعة النساء، وأما المخنث تطبعاً فهذا ملعون، وفي الحديث: (لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال).
فالإنسان الذي يتكسر في مشيته ويتشبه بالنساء ملعون، والمرأة المترجلة التي تتشبه بالرجال في زيها وفي مشيتها ملعونة.
ولكن لما نتكلم عن المخنث الذي يجوز أن يدخل البيت ويسأل المرأة نقصد به من كان أشبه بالنساء منه بالرجال خلقه.
وكذلك الطفل قال تعالى: {وَالطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] أي: الطفل الذي لا يميز العورات، أو الطفل الذي لم يبلغ.
فإذا كان الطفل صغيراً جاز للمرأة أن تبدو أمامه بزينتها، فإذا كان الطفل كبيراً وهنا سواء كان ابنها أو غير ابنها، فإذا كان ابن لها فهو ممن دخل في هذه الآية، وإذا كان ليس ابناً لها وكان صغيراً مثله لا يطلع على عورات النساء ولا يفهمها جاز أن تبدو في ثياب مهنتها أمامه، لكن إذا ظن أنه يفهم ذلك وأنه قد قارب البلوغ، وأنه يتكلم بكلام كثير ممكن ينقل أوصاف المرأة للرجال مثلاً فيجب عند ذلك أن تستتر المرأة أمامه، فإن بدا منها شيء فهنا ربنا سبحانه وتعالى يذكر بالتوبة فيقول: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [النور:31]، فالإنسان المؤمن يكثر من التوبة إلى الله عز وجل من ذنوبه التي يقع فيها.
وأيضاً هنا ذكر في هذه الآية تحذير للنساء من الضرب بالأرجل فقال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]، فقد كانت المرأة في الجاهلية تمشي وقد ينكشف شيء من شعرها، أو شيء من صدرها فلا تبالي بذلك، وإذا أحبت إحداهن أن تلفت النظر لبست خلخالاً في رجلها، فإذا مرت بالرجال ضربت برجلها الأرض فيحدث الخلخال صوتاً، فينتبه الرجال لها وينظرون إليها.
وقارن بين جاهلية الأمس وجاهلية اليوم كيف أنها اليوم لا تحتاج إلى الخلخال ولا غيره، فهاهي تمشي عريانة أصلاً، فتلفت نظر جميع من ينظر إليها في الطريق، وأيهما أشد الجاهلية الأولى حين يبدو من المرأة شيء من رقبتها، أو شيء من شعرها وهي تمشي، أو لكي تبين أنها امرأة تسير في الطريق تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال، أم جاهلية اليوم حين تمشي المرأة كاسية عارية في الطريق والكل ينظر إليها؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد تمشي المرأة في الطريق فتضحك بصوت مرتفع ينتبه إليها من ينظر إليها، وقد تتكلم بصوت عالٍ، وهذه هي الحرية التي تطلبها، النساء فتضع إحداهن المساحيق على وجهها أو على جسدها، وهي ألوان تلفت النظر إليها، أو عري فاضح وتهتك أمام الناس، فتهتك ما بينها وبين ربها من ستر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(83/2)
القراءات في قوله تعالى: (أيه المؤمنون)
قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: (أيهُ الْمُؤْمِنُونَ)، كأنه أخذ الكلمة على أنها كلمة واحدة أصلها: أي والضمير، فتعامل معها على أنها كلمة واحدة، فهي مناداة، فعلى ذلك بناها على ما يرفع به فكانت (أيهُ الْمُؤْمِنُونَ).
وهي قراءة أنكرها بعض أهل العربية، ولكن القرآن حجة على غيره، وليس غيره حجة عليه، فأفصح اللغات ما نزل به كتاب رب العالمين، وطالما ثبتت القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي حجة وحدها لذاتها.
وأيها مكتوبة في المصاحف همزة وياء وهاء، فعلى قراءة (أيه) ستكون عليها فتحة بدون ألف، ولذلك اختلف القراء في الوقف عليها: فذهب أبو عمرو، ويعقوب والكسائي إلى أنها تقرأ بالألف على أصلها {وتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا} [النور:31].
وباقي القراء قالوا: نتعامل مع الرسم الذي هو موجود فيها.
فإذا وقفنا عليها قلنا: ((أيّهْ)) على أنها همزة وياء وهاء، والهاء عليها فتحة فإذا قرئت وصلاً كانت: {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:31]، وإذا وقف عليها يبقى: ((أيُّه)) على قراءة الجمهور.
قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، فقيد الفلاح بالتوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (التوبة تجب ما قبلها)، فالتوبة تمحو وتزيل ما كان قبلها من معاصي.(83/3)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)
ثم قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، هذه الآية خطاب من الله عز وجل للأولياء أن أنكحوا بمعنى: زوجوا، فكأنه يشير لولي المرأة، أو إلى ولي من يحتاج إلى تزويج ممن لا يقدر أن يتزوج بنفسه؛ لضعف عقله مثلاً، أو لكونه عبداً، فيقول: زوجوا هؤلاء.
فالإنسان الذي يقدر على الزواج بنفسه فسيتزوج، ولكن المرأة لا تزوج نفسها فوليها مأمور أن يزوجها، فقال: {وَأَنكِحُوا} [النور:32]، وفرق بين أنكحوا وانحكوا، فانكحوا بمعنى تزوجوا، وهو خطاب للرجل، وأما أنكحوا فمعناها: زوجوا، وهو خطاب لولي المرأة ألا تعضل المرأة عن الزواج.
وفيها إشارة إلى أن المرأة لا تزوج نفسها إذ لم يقل: أنكحن، ولذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن تزوجت بغير ولي: (أيما امرأة نكحت بغير أذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)، فلا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها، ولكن الولي هو الذي يزوجها، والولي أبوها أو جدها أو عمها أو أخوها، فهؤلاء عصبة المرأة الذين يزوجونها.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)، فلا يتم النكاح إلا بأن يعقده ولي المرأة.
قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] والأيامى: جمع أيم، والأيم هي المرأة التي لا زوج لها، وقد يطلق على الرجل الذي لا امرأة له، ولكن هذا قليل.
فأصل الأيم المرأة غير المتزوجة سواء كانت لم تتزوج أصلاً، أو تزوجت وطلقت، أو تزوجت وتوفي عنها زوجها، فهذا كله داخل تحت الأيامى.
وقد اختلف العلماء في حكم هذا النكاح: هل هو فرض، أم مستحب، أم مباح؟ فقال العلماء: يختلف ذلك باختلاف حال المؤمن من خوف العنت، وعدم صبره.
يعني: حسب حال الإنسان: هل يقدر على الصبر عن النكاح فلا يتزوج، أم أنه لا صبر له عن النكاح، فإذا كان يخاف على نفسه العنت، ويقدر على الزواج فيجب عليه أن يتزوج إذا كان عنده التكاليف المالية، ويخاف على نفسه الوقوع في الزنا.
وإذا كان معه مال يكفيه: إما للحج وإما للزواج فهو مخير بين الاثنين.
لكن إذا كان يخاف على نفسه الزنا في زمن مثل زماننا الذي كثرت فيه الفتن، ويخاف على نفسه الوقوع فيها، ولا صبر له عنها فيبدأ بالزواج، ثم يرزقه الله عز وجل ما يحج به بعد ذلك، وإلا فليقدم الحج على الزواج.
يقول العلماء: إذا خاف الهلاك في الدين أو الدنيا أو فيهما فالنكاح حتم واجب، وإن لم يخش شيئاً فيقول بعض العلماء: إنه يباح له الزواج.
وقال البعض: إنه مستحب، وهذا هو الراجح؛ فهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث الذي في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها) أي: أن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبوا يسألون نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن حال النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبادته: كم يصوم؟ وكيف يصلي؟ وكم يقوم من الليل؟ فلما أخبر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الصحابة عن حاله وعن صلاته؛ كأنهم تقالوها، يعني: كانوا يظنون أن يقال لهم: إنه يصلي من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، والنبي صلى الله عليه وسلم بشر يحتاج لقضاء حاجته، ويحتاج إلى أن يكون مع نسائه، وهو مشغول بأشياء فلا يمكن أن يكون وقته كله صلاة وصوم فقط.
فهؤلاء كأنهم تقالوها، فقال بعضهم لبعض: (وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً).
يعني: هو الذي كان يتوقعه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل كله من العشاء إلى الفجر، فقال: أنا سأعمل هذا الشيء.
وقال الآخر: (وأنا أصوم الدهر ولا أفطر)، وهذا كان متوقعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم كل يوم.
وقال الآخر: (وأنا اعتزل النساء ولا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال لهم: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له) أي: أنا أخشى الخلق لله عز وجل، واتقى خلق الله لله سبحانه.
قال: (لكني أصوم وأفطر)، ولو أن الدهر كله كان صياماً فكيف سيقوم بالعبادات الأخرى كالجهاد في سبيل الله عز وجل، وتعليم الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! قال: (وأصلي وأرقد)، ولو أنه يقوم الليل كله لتعب، ونفهت عيناه، وتعبت قدماه، ولم يقدر على المواظبة والمواصلة، ولكنه يقوم من الليل، ويرقد صلوات الله وسلامه عليه.
قال (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وضع لهم هذه القاعدة: فالذي لا يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستحق أن ينسب إليه، ولا يستحق أن يتشرف بأن ينسب إلى سنته، أو أن يكون معه يوم القيامة.
فوضع لهم هذه القاعدة التي أراحت المؤمنين، ومن شدد على نفسه وجد المشقة بعد ذلك، فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه شدد على نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ القرآن في شهر، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: اقرأ القرآن في خمسة عشر يوماً، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال: في أسبوع، قال: أطيق أكثر من ذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقه).
فشدد على نفسه فكان يختم في كل ثلاثة أيام، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل مثله، ثم قال: خير الصيام صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً).
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لم يأخذ الرخصة، وأخذ بهذا لما كبر سنه رضي الله تعالى عنه وجاءته الشيخوخة، فلم يكن قادراً على ذلك، وهذا ليس فرضاً عليه، وكان يقول: يا ليتني أخذت برخصة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: هو كان أعلم مني بنفسي، فقيل له: لماذا لا تترك الذي أنت فيه؟ يقول: لا أريد أن أترك شيئاً كنت أفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأريد أن أقابله يوم القيامة، فشدد على نفسه فشدد عليه.
قال الله سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، هذا إذا وجد العبيد، فهنا يأمر الله عز وجل سيد العبيد أن يزوجهم ويعفهم، وإذا تركوا بغير زواج أوشك العبد أنه يهرب من سيده ليزني، والأمة كذلك، فأمره بإعفاف هؤلاء.
ثم وعد الله عز وجل الجميع فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وفضل الله عظيم سبحانه.
والإنسان يعيش في الدنيا يبتغي فضل الله سبحانه، ورزقك عند الله مقسوم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، فوعد من الله عز وجل لهم أنهم إذا استغنوا بالله سبحانه، وطلبوا العفاف في هذا الزواج، فالله يغني الناكح المتعفف، وكم من إنسان يتزوج ويغنيه الله سبحانه، وكم من إنسان يتزوج ويفتقر، فهذا وعد الله والله لا يخلف الميعاد، فمن توكل على الله فالله وكيله، والله حسبه، والله يعطيه سبحانه.
والإنسان الذي يعتمد على نفسه ويترك توكله على الله سبحانه ويحسن الظن بنفسه، ويسيء الظن بالله لا يستحق أن يعان إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم)، فجعل الله عز وجل لهؤلاء حقاً عليه عز وجل أن يعينهم.
فقال: (المجاهد في سبيل الله سبحانه) أي: ليس في سبيل دنيا ولا مغنم، وإنما في سبيل الله، ولرفع دين الله ونصره.
قال: (والناكح يريد العفاف)، إنسان يتزوج يريد أن يغض بصره، وأن يحصن فرجه، ويريد أن يتعفف بهذا النكاح، ويرجو رحمة الله ثقة في الله، فهذا حق على الله أن يعينه وأن يغنيه سبحانه.
قال: (والمكاتب يرد الأداء)، والمكاتب: هو العبد الذي كاتبه سيده على أن يؤدي مالاً معيناً ويصير حراً، فهو يسعى جاهداً لذلك، فحق على الله عونه.
وهذا حديث صحيح رواه النسائي، والترمذي، وابن ماجه.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (التمسوا الغنى في النكاح)، أي: أنه يستدل وينزع بهذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
وقال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
فهذا في الإنسان الناكح الذي يريد العفاف، والذي يتوكل على الله، ويتقيه، ولا يرهق نفسه ولا يرهق غيره بتكاليف النكاح، فالإنسان الذي يتزوج على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أبسط الأشياء، والمرأة التي تريد ذلك فهذا زواج مبارك، وهذا من بركتها.
فالله عز وجل ييسر النكاح لهؤلاء، وييسر لهم الغنى، والإنسان الذي يتزوج ويريد أن يتزوج بالديون، وأن يكون عنده الشيء العظيم من والمتاع، والمرأة تأبا أن تتزوج إلا إذا كان المهر كذا، وكان المتاع كذا، فهؤلاء يفتقرون في النهاية.
ولكن كلما تيسر أمر النكاح كان فيه بركة من الله عز وجل، وكان فيه عون من الله سبحانه على ما في هذه الآية من وعد الله، نسأل الله من فضله ورحمته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله و(83/4)
تفسير سورة النور [32 - 33]
دين الإسلام هو دين الفطرة، فقد جاء ليهدي النفوس لا ليعذبها، ومن أجل ذلك سن الزواج الذي هو نداء الفطرة في كل إنسان سوي، فأمر المولى سبحانه أولياء الأمور بتزويج من احتاج إلى ذلك رجالاً ونساء، ولأن هذه الغريزة متعلقة بالجسد والنفس فهي مرادة حتى من العبيد والإماء، إذ لا دخل لرقهم في غرائزه وشهواتهم.(84/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
يأمر الله سبحانه في هذه الآية بالنكاح والإنكاح، فيقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] (أنكحوا) أي: زوجوا، فالولي يزوج من هو ولي عليها، كابنته وأخته، فإذا زوجت فلا ترفض ذلك؛ فهي مأمورة بالطاعة، ويلزمه ألا يكرهها، إلا أن تكون صغيرة ومثلها لا رأي له.
ولكن الأصل أن الله سبحانه وتعالى جعل النكاح عفة لعباده، وجعله وسيلة للتناسل وإبقاء النسل إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى} [النور:32] يعني: من ليست له زوجة من الرجال، ومن ليس لها زوج من النساء، والأصل أن الأيم هي المرأة التي لا زوج لها، ويطلق أيضاً على الرجل الذي لا زوجة له.
قال: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر أيضاً بتزويج العبيد والإماء، أي: أعينوهم على العفة بالزواج، قال: {مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور:32]، فكما أن الحر له حقوق، فكذلك العبيد لهم حقوق، فالله عز وجل جعل لهم حقوقاً في كتابه، وجعل لهم حقوقاً على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن العبد إنسان مؤمن مثل الحر، ولكن جعله الله عز وجل تحت يدك، فلا تتجبر عليه، ولا تقس عليه، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم)، إذاً: فهذا العبد جعله الله تحت يد الحر، ولو شاء الله لجعل هذا الحر عبداً تحت يد هذا العبد وجعله حراً، ولكن الله عز وجل منّ على عباده حين ملكهم هؤلاء، وقال: راعوا الحقوق في الذين تملكونهم، فكما أنك إنسان ومقتضى إنسانيتك أن لك حقوقاً فتحتاج إلى النكاح لتعف به نفسك، فكذلك هذا العبد يحتاج إلى ذلك.
والإنسان الحر لو لم يتزوج لعله يقع في السفاح والزنا، والعبد كذلك، بل العبد أشد، فالحر قد يجد من أهله من يمنعه من ذلك، وأما العبد والأمة فلا أهل لهما.
فالعبد قد يكون أسيراً وجيء به إلى أرض غير أرضه، فإذا به لا أهل له، ولا رادع له، فإما أن يكون في قلبه إيمان يمنعه وخوف من الله عز وجل يدفعه إلى طاعة الله، وإما أنه لا يهتم بشيء، فإذا به من أفجر الفجار.
ووجود الإنسان الحر في أهله إذا أراد أن يقع في منكر فإنه يستحيي منهم ويخاف؛ لأنه يوجد فيه من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.
ولذلك أمر الله عز وجل الأحرار بالزواج؛ لأن هذا يحصنهم ويمنعهم من الفجور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يا مشعر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فأنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، فالزواج ليس للأحرار فقط دون العبيد، ولكن قال الله عز وجل هنا: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، والصلاح خير لصاحبه في كل أحواله حراً كان أو عبداً، فهنا وصى الله سبحانه بهؤلاء الصالحين من العبيد والإماء أن زوجوا هؤلاء، فالسيد يملك الأمة، فإما أن يعفها هو بأن يطأها ويكون له منها الولد، فهي ملك يمين، أو يتزوجها، أو يزوجها، أو يبيعها لمن يقدر على ذلك.
وأمر الله عز وجل الحر السيد أن يزوج هذا العبد حتى لا يقع في الحرام، قال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32].(84/2)
معنى قوله تعالى: (إن يكونوا فقراء يغنهم الله)
ثم قال سبحانه: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ} [النور:32]، فوعد من الله سبحانه أن الإنسان الذي يتزوج ابتغاء العفاف أن الله عز وجل سيغنيه من فضله.
وفي قوله تعالى: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ثلاث قراءات: فقراءة أبي عمرو، وروح عن يعقوب: (يُغْنيِهِمِ الله من فضله).
وقراءة حمزة والكسائي وخلف ورويس أيضاً: (يغنيهُمُ الله من فضله) بضم الهاء والميم؛ لأن أصل حركة الضمير الضم، فمشى مع هذا الأصل.
وقراءة باقي القراء: {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، بكسر الهاء وضم الميم.
والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة، واسع الفضل، واسع الغنى، فلا تقتر على خلق الله سبحانه.
والله عليم بمن يستحق أن يغنيه، فكم من إنسان يتزوج ويكون فقيراً، فتكون البركة في هذا النكاح.
وكم من إنسان يتزوج ويكون قد قدر عليه رزقه في هذا النكاح، فالله أعلم بمن يستحق فضله، فنحن نرى شيئاً والله عز وجل يرى قلوب العباد ما الذي فيها، وما الذي يستحقونه.
فقد وعد في كتابه فقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فهناك إنسان يتقي ربه سبحانه، ويتوكل عليه، ويمشي في الأمر فييسره الله عز وجل، وهناك إنسان يجرب ربه فيقول: سأتزوج فأنظر هل سيغنيني أم لا؟ والله جل في علاه لا يجرَّب، لكن إن تثق في الله عز وجل يعطك، وإن تتوكل على الله فالله نعم المولى ونعم الوكيل ونعم النصير.
ولذلك فالإنسان الذي يثق بالله عز وجل يقول له: (أنا عند ظن عبدي بي)، فظن بالله خيراً؛ فإن الله عز وجل عند حسن ظنك به.
أما أن تجرب ربك وكأنك لم تحسن الظن به، وكأنك تشك في وعده سبحانه وتعالى، فلا يستحق فاعل هذا إلا ما يشاءه الله سبحانه.
ففقر الإنسان لا يمنعه من الزواج طالما أنه يملك شيئاً يتزوج به، ويجد من ترضى به على حاله، فليتزوج ولينتظر الفضل والرزق من الله سبحانه، وإذا كان شديد الفقر لا يقدر أن ينفق على من يتزوجها، فليصبر في هذه الحال.
وفرق بين إنسان رزقه قليل فيستطيع أن يعيش عيشة متواضعة في مكان يسير، وعلى قدر حاجته، وينفق على المرأة التي يتزوجها وهي ترضى بهذا، فهذا خير وبركة وتيسير من الله سبحانه وتعالى، ولذلك هنا جاء في الحديث ما يبين أن الفقر لا يمنع من الزواج، وأن الإنسان الفقير طالما أنه يجد شيئاً فليتزوج.
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني وهبت لك نفسي)، وهذا جائز للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب:50]، وهذا الحكم له وحده فقط صلى الله عليه وسلم، لذلك قال الله عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50].
فلما قالت المرأة ذلك سكت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا في الحديث أنها قامت قياماً طويلاً، فقال رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة) يعني: كأن الرجل وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يتزوجها، وكان شديد الحياء، فاستحيا أن يقول لها: لا، وهذا من أدبه الجم عليه الصلاة والسلام.
فالرجل استشعر ذلك، والمرأة تريد الزواج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء تصدقها؟)، ولم يقل: اذهبي وهاتي أولياءك؛ لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، فهو أولى بها من أبيها وأخيها ومن نفسها أيضاً.
فقال لهذا الرجل -وقد نظر لمصلحة المرأة الآن-: (هل عندك من شيء تصدقها) يعني: لم يسأله هل عنده بيت أو مكان يتزوجها فيه، ولكنه سأله عن المهر.
فقال الرجل: (ما عندي إلا إزاري) أي: ليس عندي شيء إلا الإزار الذي ألبسه، فقال: (إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك) يعني: ماذا ستعمل؟ وكيف ستصلي وقد أعطيتها وأصبح ملكاً لها؟! ثم قال: (التمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال التمس)، وكانوا فقراء، فالرجل منهم يذهب يعمل ويأتي بطعام يومه أو وجبته، فهذا الذي يملكه، فإذا تزوج فإنه يستطيع أن يطعم المرأة كل يوم، ولكن لابد للمرأة من مهر، فالرجل لم يجد، فقال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم يقل له: من ذهب أو من فضة، لأنه لن يستطيع أن يأتي به، ولكن ولو خاتماً من حديد، فلم يجد، فقال: (أمعك من القرآن شيء، فقال: نعم، سورة كذا وكذا، وسورة كذا، لسور سماها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجناكها بما معك من القرآن) يعني: مهرها الآن السور التي معك، فإذاً: أنت ملزم أن تحفظها الذي تحفظه من القرآن، فهذا هو مهر هذه المرأة.
والغرض من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد الرجل فقيراً لا يملك أن يدفع مهراً، ومع ذلك لم يقل له: لا تتزوج، فطالما أنه يقدر على أن يأتيها بطعام يومها، وأنه يستطيع أن ينفق عليها ما تحتاجه من ضروريات الحياة، إذاًَ: فعلى ذلك له أن يتزوجها ولو كان المهر شيئاً يسيراً.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن: (من بركة المرأة يسر مهرها)، فيكون مهراً يسيراً خفيفاً، وهذا من بركة المرأة أن تتزوج فيكون الزواج يسيراً لا مشقه فيه، وأيضاً ما إن تتزوج حتى تنجب فهذا من بركة المرأة.(84/3)
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً)
قال الله عز وجل بعد ذلك: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، فإذا كان الإنسان لا يوجد معه مهر، ولا يستطيع أن يقوت من يعول ولا أن يقيم بيتاً، فكيف سيتزوج؟! فيلزمه الاستعفاف إذاً.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ} [النور:33] السين في يستعفف استدعاء واستفعال، يعني: ليطلب العفة، ويستدعي العفة من نفسه.
والعفة: هي الكف عما حرم الله سبحانه وتعالى، وعما لا يحل للإنسان أن يفعله.
فالإنسان العفيف هو الذي يصبر عن محارم الله سبحانه، ويضبط نفسه ويكف نفسه عما حرم الله، وعما يجب أن يتركه.
وليستعفف هؤلاء الذي لا يجدون نكاحاً، يعني: لا يجدون طول النكاح، فلا يقدر على النكاح بسبب المال.
وإلى متى يستعففون؟ قال الله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وكأنه وعد من الله سبحانه وتعالى إن تستعفف يغنك الله عز وجل.
وليستعفف هؤلاء إلى أن يرى الله عز وجل منهم عفة حقيقة وصبراً جميلاً، فيغنيهم الله عز وجل من فضله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)، فالصوم يمنع الإنسان من معصية الله عز وجل؛ لأنه يقلل الدماء في عروقه، فيصبره على الشهوة، ويصبره على أمر النكاح، ولا يستعجل الإنسان فيقول: أنا صابر فلماذا لم يغنني الله؟ وأنا أسال الله فلماذا الله لم يعطني؟ فالإنسان المتعجل جدير بعدم الإجابة، لذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي)، فهذا إنسان عجول يدعو قليلاً ثم ينقطع، فالإنسان الذي يدعو يصبر لأمر الله سبحانه، فالله لم يقل: أنا سأستجيب لك اليوم، ولا غداً.
وانظر حين وعد الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بفتح مكة فقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح:27]، فالصحابة يريدون وعد الله عز وجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى رؤيا قبل ذلك أن الله يفتح لهم، فلما ذهبوا عام الحديبية ولم يستطيعوا أن يدخلوا مكة ورجعوا قالوا: (ألم تكن تحدثنا أنا نأتي مكة)، فكأنهم تعجلوا ذلك، قال: (بلى، وإنا إن شاء الله آتوها، هل حدثتكم أنا نأتي هذا العام؟!)، هل قلت لكم إننا سنأتي هذه السنة؟ فلم يقل ذلك ولكن ذكر لهم رؤيا رآها أنهم سيفتحون مكة، وسيدخلونها، وأما تحقيق ذلك فمرجعه إلى الله تعالى، ولكن سيكون وعد الله الذي وعد به نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
فرجعوا من الحديبية بعدما كانوا مؤملين أنهم يدخلون مكة، ولم يدخلوا، ولما أمرهم أن يحلقوا كأنهم ما زالوا ينتظرون دخول مكة، فلم يحلقوا، وأصبح كل واحد يتلكأ ويتأخر حتى حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره، ثم بدأ يحلق بعضهم لبعض، وكاد بعضهم يقتل بعضاً من شدة غمهم؛ لأنهم لم يدخلوا مكة هذا العام.
فلما كانوا راجعين أنزل الله عز وجل سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فتح ماذا وقد رجعنا من دون فتح ولا شيء؟ فذهب عمر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -وكان من أكثر الناس كلاماً في هذا اليوم- فقال: (أو فتح هو؟ قال: نعم) يعني: هل هذا الذي عملناه فتح وقد رجعنا بشروط أقرب للهزيمه منها للعدل، ورجعنا ولم ندخل ولم نعتمر؟ فقال: نعم، فتح، فصدَّق عمر أن الأمر فتح، وكان أعظم الفتوح.
وفي سنين الإسلام الطويلة قبل ذلك كان العدد الذي يدخل في الإسلام قليلاً، إلا أن ما بين الحديبية إلى فتح مكة دخل في دين الله الأفواج الكثيرة، ثم فتحت مكة بعد عامين فكان الفتح العظيم من الله، وكانت الإجابة بوعد الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا لم يقل: سنفتح لكم مكة اليوم، أو غداً أو بعد كذا، والله أعلم من يستحق أن يستجيب له حالاً، ومن يستحق التأجيل، ومن لا يستحق الاستجابة في الدنيا بل يدخر له ذلك ليوم القيامة.
لذلك على المؤمن أن يصبر لأمر الله وينتظر الفرج ولو بعد حين، وتأمل صبر يعقوب عليه الصلاة والسلام على ذهاب ابنه، فلما قال الله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، وهذه رؤيا نبي فهي حق، فلذلك الأب فهم الرؤيا، وأنه لابد أن الأب والأولاد كلهم يسجدون ليوسف عليه الصلاة والسلام، فهذه رؤيا حق، فقال: {لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف:5]، ثم أخذوا أخاهم وألقوه في الجب، وجاءوا لأبيهم وقالوا: أكله الذئب، فلم يصدقهم في ذلك، ولم يقل: يا رب ائتني به الآن، فأنا لا أصدقهم فيما يقولون، أو دلني على مكانه، وإنما صبر سنين طويلة إلى أن أصبح يوسف أميراً على مصر، وحاكماً عليها، وهذه سنين طويلة جداً إلى أن رجع يوسف لأبيه أو جاء الأب إلى ابنه.
فعلم أن الله لا يخلف الميعاد، وأن هذه رؤيا حق، فلم يسأل ربه أو يناقشه في هذه الرؤيا، وأولاده يكذبون عليه يوماً بعد يوم، فقالوا: أكله الذئب، ثم قالوا: {تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنْ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85] وقد قالوا له ذلك قبل أن يجد يوسف عليه الصلاة والسلام.
وقد كان شديد الصبر والكظم لغيضه، {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84]، فذهبت عيناه من الحزن، لكنه لم يتعجل أمر الله إلى أن جاء أمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، وهذه الرؤيا لها فوق الخمسين سنة قبل ذلك، ثم كان تأويل هذه الرؤيا -وهي رؤيا صدق- وتحققت لكن لم يُحدد زمن لوقوعها.
كذلك الإنسان المؤمن الذي يتوكل على الله ويثق بوعده، وأن الله يريد به الخير واليسر، وأنه إن أخر شيئاً فلخير أخره، فماذا سيخسر الله إن استجاب الآن أو غداً، ولكن له حكمة سبحانه وتعالى، فثق بالله سبحانه، وانتظر فضله ورحمته الواسعة.
نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(84/4)
تفسير سورة النور الآية [33]
خلق الإنسان في هذه الحياة ليبتلى، فقد يبتلى بالفقر والغنى، ومن ذلك أن الرجل كامل القوة تام الأعضاء قوي البنية قد لا يجد صداق امرأة ينكحها، فيأتي التوجيه الرباني مرشداً له كيف يتصرف ويواجه هذا الابتلاء، وذلك بأن يطلب الاستعفاف بالصيام، والابتعاد عن كل ما يثير هذه الشهوة الجامحة حتى تزول شدته، ويأتي الفرج من ربه، فينكح ما طاب له من النساء.(85/1)
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33].
لما أمر الله عز وجل عباده بالنكاح وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، ووعد سبحانه بالفضل منه {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، فالقادر على النكاح يتزوج، وخاصة إذا كان في زمن الفتنة ويخاف على نفسه من العنت والوقوع في الفاحشة، فيجب عليه أن يتزوج طالما عنده القدرة المالية، وعنده القدرة على النكاح.
وأما الذي لا يقدر فيطلب العفاف والكف عن ما حرم الله سبحانه بأن يغض بصره، ولا يمشي في أماكن الحرام، ولا يصادق أصدقاء السوء، ولا يطلع على ما لا يحل له الاطلاع عليه، ويكف شهوته بأن يكثر من الصوم، ويتذكر أمر الآخرة والحساب عند الله عز وجل، وأمر النار لو أنه وقع في الفاحشة وفي المعصية، ويتذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث في أن (العين تزني، وأن اليد تزني، وأن الرجل تزني) وما إلى ذلك من أحاديث، فيستعين بما ذكرنا وغيره على أن يحصن نفسه؛ لئلا يوقع نفسه في الفاحشة, فيتعفف بالبعد عن الحرام.
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، والله سبحانه يعد بأن يغنيه من فضله وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، فيتعفف هؤلاء انتظاراً لفرج الله، وانتظاراً للغنى من الله سبحانه وتعالى.(85/2)
تشوف الإسلام إلى إعتاق العبيد
ثم قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] وهؤلاء هم ملك اليمين، وهم العبيد والإماء، فلهم حقوق كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم) فالله عز وجل جعل هؤلاء العبيد تحت أيدي الأحرار يملكونهم، والله يفعل ما يشاء، وقد كان الرق قبل الإسلام منتشراً جداً، وكان موجوداً عند العرب في الجاهلية وعند اليهودية والنصرانية وعند الكفار من هنود وبوذيين وغيرهم من الأمم، فجاء الإسلام على هذا الوضع الموجود، فلو أنه بدأ وقال: حرروا الرقاب، لما أطاق أحد أنه يفعل ذلك، وما نفذوا ذلك؛ لأن الرقاب التي في أيديهم أموال، فالواحد يشتري بماله عبداً أو عبدين أو ثلاثة؛ ليعلموا ويأخذ منهم الأجرة على العمل الذي عملوه، وهو يملكهم ويبيعهم، فلو أنه حرم عليهم ملك العبيد وأمر بتحرير كل العبيد لما استجابوا لذلك.
ولذلك جاء الإسلام يريد أن يحرر هؤلاء العبيد، ولكنه لم يأت بوجوب إعتاق الرقاب مطلقاً، ولكن جعل ذلك في الكفارات مثل كفارة القتل خطأً أو عمداً، فيحرره إذا كان قبل عمداً واستحق بذلك النار؛ فلعل الله عز وجل أن يعفو عنه.
فالإنسان الذي قتل خطأ الكفارة التي عليه أن يبدأ بالعتق، والإنسان الذي يحلف يميناً فعليه كفارة ويبدأ بتحرير الرقبة، والإنسان الذي يظاهر من أهله عليه في الكفارة تحرير رقبة، والذي يفطر عمداً بجماع في نهار رمضان عليه كفارة تحرير رقبة.
فجعل كفارات كثيرة أول ما يبدأ المكفر فيها يبدأ بتحرير الرقاب، فهذا هو ما يجب فيه تحرير الرقاب، وما سوى ذلك فقد جعل تحرير الرقاب مستحبا، ً فمن خاف من النار يوم القيامة أعتق عبداً يكون فكاكاً من النار.
وأمر الله المسلمين أن يجعلوا جزءاً من زكاة أموالهم في عتق الرقاب، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60]، فقوله: (وفي الرقاب) يعني: جعل شيء من زكاة ماله لعتق العبيد.
وقد جعل من ذلك أيضاً عتق المكاتَب، فإذا وجد السيد في عبده خيراً وعلم منه صلاحاً وتديناً وأمانة وقدرة على الكسب ولا يوجد مانع من عتقه أعتقه، وقد يقول الإنسان: هذا مالي فكيف أضيعه من يدي ببساطة؟! فلما علم الله شح النفوس جاء بطريقة ثانية فحْواها ألا يضيع مال السيد، بل يترك العبد يعمل ويدفع ثمن نفسه، فيكتب عقداً بينهما أنه يدفع ذلك خلال سنتين مثلاً، ثم يكون بعد ذلك حراً.
فانظروا كيف حرر العبيد، فمرت السنون والأعوام وإذا بكل العبيد يعتقون، ولا يوجد رق بعد ذلك.
وانظر الفرق بين الإسلام وبين الغرب الكافر فلما أراد الأمريكان أن يحرروا العبيد صدر بذلك قرار جمهوري، فوقعت حرب أهلية بين الناس، ودام القتال سنوات طويلة بين أصحاب المال ومن يريد أن يتحرر.
أما الإسلام من فقد حرر العبيد من غير إراقة دماء، ولكن حرر هؤلاء خلال سنين طويلة.
فالإسلام يخاطب القلوب والعقول، ويذكر بالآخرة، ويربط العامل بدخوله الجنة، والنجاة من النار، فجاءت هذه الآية في الكتابة، والكتابة: هي العقد بين السيد والعبد سواء كان ذكراً أو أنثى.
فيقول لهم سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] فالعبد يطلب من سيده أن يحرره، فهذا معنى قوله: (يبتغون)، فلا يتعنت السيد فيمنع ذلك، لكن طالما أن العبد يقدر على أن يأتي بثمن نفسه، وهو عبد صناع فلا مانع أن يكتب معه عقده، قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] وملك اليمين هو العبد أو الأمة.
قال: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، هذا أمر من الله للسادة بالكتابة، قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] يعني: إن علمت في هذا الإنسان أمانة وتديناً وصلاحاً وقدرة على الكسب فكاتبه.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن عقد الكتابة في هذه الحالة واجب، واحتجوا بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، وهذا أمر من الله فيحمل على الوجوب.
لكن الجمهور قالوا: هذا الأمر على الاستحباب، وقرينة صرفه عن الوجوب قوله في الآية نفسها: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، والخير والصلاح والتدين والأمانة شيء قلبي ولا أحد يطلع عليه، فالسيد لم يعلم إلا بالظاهر، وقد يكون الباطن خلاف ذلك، فقد يظهر ذلك ليعتق.
وقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا وجد من عبيده من هو محافظ على العبادة اعتقه، فكان عبيده يتظاهرون أمامه بذلك، فكان يعتقهم.
ففال له الناس: إن هؤلاء يخدعونك وإنما يفعلون ذلك أمامك فقط، فكان يقول: عبد الله بن عمر رضي الله عنه: من خدعنا بالله انخدعنا.
فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان صادقاً مع الله، وتأمل الفرق بيننا وبينه، فنحن نحاول أن نكون أذكياء، لكن الصحابة كان ذكاؤهم فطرياً، فهم لا ينخدعون ولكن يتغافلون.
والمؤمن يتعامل مع الله سبحانه وتعالى، فإذا وجد إنساناً يظهر الصلاح اعتبره صالحاً، ولا يشغل نفسه به: هل هو صادق أم لا؟ لأن الله سبحانه هو الذي سيتولى حسابه، فلماذا يضيع وقته معه ويقعد يرقبه ليتأكد من صلاحه؟! لذلك كان الصحابة أفطن وأعلم بأمر الدنيا والآخرة منا، فنحن نقعد نفتش وننقب ونبحث فيضيع وقتنا بدون فائدة، لكنه ببساطة يقول: من خدعنا بالله انخدعنا.
يعني: نحن عملنا هذا العمل لله، فلنا الأجر عند الله، وهم حسابهم عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33]، فإن علم الإنسان في هذا العبد خيراً كاتبه، قالوا: وعلم الخير شيء مجهول، ونحن إنما نعلم الظاهر فقط، وأما ما في القلب فلا نعمله، فيكون الحكم على ذلك: إذا علمت صلاحه يقيناً وجبت مكاتبته، وأما إذا لم يعلم يقيناً فيستحب أن أكاتب هذا العبد الذي ظهر فيه الخير والصلاح.
قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فانظروا الفضل من الله عز وجل، فربنا كريم ويعلِّم العباد الكرم.
فالله عز وجل يأمرك أن تكاتب هذا العبد، وهو لا يملك مالاً؛ لأنه قبل عتقه ملْك لسيده، وكذلك كسبه، فإذا كاتبته على مال معين فاعفه عن جزء منه؛ إعانة له في عتقه، فالله عز وجل يقول لهذا السيد: اتق الله في هذا العبد أن تأخذ منه كل المال، فإن كنت كاتبته على ألف فخفِّض له قليلاً، فإذا أعطاك ثلاثة أرباع المال فاعف عن الربع الأخير، وإذا كان عليه عشرة أقساط فأترك له قسطاً أو قسطين.
وهنا قال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالله عز وجل دائماً يذكرك أن المال ليس مالك، وإنما هو مال الله، ويعرف الإنسان ذلك في وقت الوفاة حينما يقول: مالي كله صدقة، فيقال له: المال مال الورثة، ولكن لك أن توصي بالثلث من المال فقط، وبشرط ألا توصي بذلك لوارث، فليس من حقك أن تفعل ذلك، فإن كنت تريد أن تعمل الخير فأوصي إلى غير وارث.
وعندما يكون الإنسان في مرض الموت يستشعر أنه الذي جمع المال طول عمره، فإذا أراد أن يصرفه رُفع أمره إلى القاضي ليحجر عليه، فهذا المال جمعة في حياته كلها لكن ليس من حقه الآن أن يصرفه؛ فقد انتقل للورثة.
فالإنسان خليفة في الأرض، وهو لا يخلف الله تعالى كما يقولون، وإنما الإنسان يخلف غيره، فهذا يموت والآخر يأتي بعده، وهذا يذهب وهذا يأتي، والمال في يد هذا وبعد ذلك أخذ هذا المال آخر، فيخلف بعضهم بعضاً.
فهنا يقول ربنا سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] يعني: أن السيد الذي كاتب عبده يتنازل عن قسط أو قسطين من المال، وكذلك المسلمون يدفعون من زكاة أموالهم؛ ليساعدوه من اجل أن يعتق ويتحرر.
وبهذه السورة العظيمة الجميلة تحررت رقاب كثيرة حتى تحررت كل الرقاب التي مع المسلمين.
والكتابة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صورة من الصور التي تبين حرص الصحابة على الخير وخاصة أمهات المؤمنين رضوان الله وتعالى عليهن، فهذه عائشة رضي الله عنها جاءتها بريرة، وهي امرأة كانت أمة وكان زوجها عبداً، فـ بريرة يملكها أناس، وزوجها -اسمه مغيث - يملكه أناس آخرون، فتزوج مغيث من بريرة، وبعد ذلك كاتبها أهلها على تسع أواق في تسع سنوات أو في خمس سنوات، فـ بريرة لما كاتبوها دخلت على عائشة رضي الله عنها تستعينها في كتابتها، وعليها خمس أواق نجمت عليها في خمس سنين.
وهذه الرواية من روايات الحديث في صحيح البخاري، وفي رواية أخرى وهي الأرجح منها: أنهم كاتبوها على تسع أواق من الفضة خلال سنين معينة وتعتق بعدها، فهي لم تكن أدت من كتابتها شيئاً، فجاءت إلى عائشة رضي الله عنها تستعين بها على ذلك، فأعجبتها وأحبت أن تسارع وتبادر إلى خير، فقالت: أرأيت إن عددتها لهم عدةً واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك فيكون ولاؤك لي؟ يعني: إذا دفعت لك ذلك مرة واحدة، هل سيبيعك أهلك؟ وهي لا تريد أن تشتريها لتجعلها أمة عندها، وإنما لتعتقها رضي الله تبارك عنها.
فذهبت بريرة إلى أهلها فأبى أهلها ذلك، وقالوا: لا إلا أن يكون لنا الولاء.
والولاء في هذا الباب بمعنى: الميراث، والمعنى: أنهم أرادوا ذلك، إذ قد تصبح غنية في المستقبل، فلعلها تموت فإذا لم يكن لها ورثة ورثوها بالولاء.
وبريرة كانت متزوجة من مغيث، والظاهر أنها عندها أولاد منه، فلما عتقت خيرت في زوجها هل تبقى معه أو لا تريد أن تبقى معه، فكان مغيث يجري وراءها في الطريق وهو يبكي يريدها أن تبقى معه،(85/3)
تفسير سورة النور [33 - 34]
لقد حث الله عباده على النكاح، ومن لم يجد ما لا يتزوج به فقد حثه الله على العفاف، ووعده بالغنى، ورغب الله في مكاتبة الرقيق إن كان فيهم خير، فيكون العتق صلاحاً لهم في دينهم ودنياهم؛ ولا يكونون عالة على غيرهم، وحرم الله على من يملك الجواري أن يكرههن على الزنا، فإن أكرهن فإن الله يغفر لهن إن كن لا يردن ذلك.(86/1)
تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:33 - 34].
يأمر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين بالعفة بعدما أمر بالإنكاح، قال سبحانه وتعالى قبل ذلك: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، فأمر بالتزويج، وأن الولي الذي عنده عبد أو أمة وهم يريدون النكاح أن يعينهم عليه.
ثم قال: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، فالقادر على النكاح يتزوج، والذي لا يجد قدرة مالية على النكاح فليستعفف: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]، وهذا أمر.(86/2)
معنى قوله تعالى: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم)
قال: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور:33]، هذه المكاتبة التي فصلناها قبل ذلك، فقد أمر الله عز وجل الذين يملكون العبيد والإماء إذا وجدوا منهم صلاحاً، ووجدوا فيهم أمانة، ووجدوا فيهم خيراً وقدرة على الاكتتاب؛ أن يعينوهم على التحرر والخروج من الرق إلى الحرية، قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فأمرهم أن يكاتبوهم إذا لم يحرروهم بلا شيء، فيدفع العبد ثمن نفسه، وذلك بأن يعمل ثم يدفع ثمن نفسه فيكون حراً بعد ذلك.
وأمر الله عز وجل بإعانتهم، فهذا الذي يملك عبداً، ويكاتب هذا العبد على ثمن أمره الله عز وجل بالإعانة، وذلك إما بخفض قيمة الأقساط التي يدفعها، فيتنازل له عن قسط أو قسطين من هذا المال، أو أن يعنيه بالمال من صدقة أو من زكاة ونحو ذلك؛ حتى يصير حراً، قال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، ويذكرنا الله أن المال هو مال الله عز وجل، فمهما آتيت إنساناً من مال فلا تزعم أن الفضل لك، وإنما الفضل من الله؛ لأنه صاحب المال وصاحب الغنى الحقيقي سبحانه وتعالى.(86/3)
معنى قوله تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء)
ذكر الله حكماً ثالثاً في الآية نفسها وهو: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، فالحكم الأول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا} [النور:33]، والحكم الثاني: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور:33] وأمر بإعانتهم على فك رقابهم فقال سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، ثم ذكر حكماً آخر فقال: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، وهذا الحكم عام وسبب هذا الحكم خاص، والفتيات هنا هن الإماء، وما كان رجل أبداً يكره ابنته على أن تذهب إلى الزنا، بل كان العرب يقتلون بناتهم خوفاً من الوقوع في ذلك، ولم يكن يحدث هذا من الحرائر غالباً وإنما كان يحدث من الإماء، فكان الرجل يملك مجموعة من الإماء، فيأمر الأمة أن تذهب تسافح وتأتي له بأجرة، فنهى الله عز وجل عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية في المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول لعنة الله عليه، فقد كان منافقاً كافراً امتلأ قلبه بالكفر والحنق على الإسلام، وأعماله فاسدة، وهذا الرجل كان في الجاهلية من كبار الناس في المدينة، وكادوا يجعلونه ملكاً عليهم لشرفه عندهم، فلما جاء الإسلام وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنه قد انتهى أمره وضاعت رياسته، فانقلب ما كان فيه من أمور خير كان عليها في الجاهلية، إلى شر شديد جداً في الإسلام! فدخل في الإسلام كرهاً؛ لأنه وجد من حوله قد دخلوا في الإسلام، وسيضيع منه الأمر إذا ظل على كفره، وخوفاً من أن يقتل كافراً، فدخل في الإسلام ظاهراً وقلبه ممتلئ بالبغض للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت أعماله شنيعة قذرة، وقد كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويوالي اليهود، ويدافع عن اليهود، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل يهود بني قينقاع دافع عنهم هذا المنافق دفاعاً شديداً، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم ولم يقتلهم.
وهناك فرق بين هذا المنافق الكافر المجرم وبين الرجل الأنصاري العظيم سعد بن معاذ رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول كان يهود بني قينقاع أولياء له في الجاهلية، وسعد بن معاذ كان يهود بني قريظة أولياء له في الجاهلية أيضاً، فلما جاء الإسلام ومنع الموالاة مع الكفار فـ سعد بن معاذ ترك هؤلاء.
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم قتل بني قينقاع، إذا بـ عبد الله بن أبي يدافع عنهم دفعاً شديداً، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أتقتلهم في غداة واحدة؟! ولم يزل يدافع عنهم حتى تركهم النبي صلى الله عليه وسلم له؛ تأليفاً لقلبه، وليس حباً لهذا الإنسان، عسى أن يصلح حاله، وأيضاً خوفاً من الفتنة؛ لأن أشياعه من الأنصار كثير، فقد كان خزرجياً، والخزرج أهل ود النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل دفاع عن دين الله عز وجل، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم فتنتهم بهذا الرجل المجرم عبد الله بن أبي ابن سلول، فترك له هؤلاء اليهود، وأجلاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وأما سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري رضي الله عنه الذي اهتز عرش الرحمن لوفاته رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ فرحاً بقدومه على ربه سبحانه، فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم في حصاره لبني قريظة أن ينزلوا على حكمه، رفضوا أن ينزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، وظنوا أنه سيفعل بهم كما فعل المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول بحلفائه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزلهم من الحصن بأمان إلى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، ولما جاء سعد بن معاذ وقفوا يبكون له ويتوددون له، ويذكرونه بأيام الجاهلية، وما كان بينه وبينهم، فقال: آن لـ سعد بن معاذ ألا تأخذه في الله لومة لائم، وحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تؤخذ أموالهم، فقتل في غداة واحدة جميع رجالهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مصوباً لحكمه: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك).
وهذا عبد الله بن أبي بن سلول المجرم الملعون قال عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8]، يقصد بالأعز نفسه، وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين لعنة الله عليه، وقد سلط الله عز وجل عليه ابنه عبد الله، وكان رجلاً مؤمناً رضي الله عنه، فوقف بسيفه على أول المدينة ومنع أباه من الدخول؛ حتى يعترف أنه هو الأذل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، ومنعه من الدخول حتى أقر بأنه الذليل لعنة الله عليه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو العزيز ومن معه من المؤمنين.
فهذا الرجل أهل لكل خيانة، وأهل لكل شر، وأهل لكل فساد، وهو سبب نزول هذه الآية، فقد كان عنده جاريتان، وكان يأمرهما بالزنا ويكرهما عليه، فتخرج الفتاة وتزني وترجع إليه بمال الزنا والعياذ بالله.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن جارية لـ عبد الله بن أبي ابن سلول، يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33].
قال الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33]؛ لأنه لا يتصور الإكراه إلا والفتاتان لا ترغبان في ذلك وتمتنعان منه، وأما إذا كانت الفتاة تطاوع على ذلك فلا إكراه في ذلك، لكن الفتاة كانت مؤمنة، وكانت ترفض ذلك، فكان يجبرها على هذا الزنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية يحرم ذلك.
وقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] هذا وصف للحال الذي عليه الفتاتان، وليس هذا شرطاً، وليس المعنى: إذا أردن تحصناً فلا تكرهوهن، وإذا لم يردن فأكرهوهن، فلا مفهوم لهذه الآية، ولكن المعنى: والحال أنهما تريدان التحصن والبعد عما حرم الله، وتريدان هذا الإسلام العظيم، وتريدان طاعة الله سبحانه، فلا يحل لكم أن تصنعوا ذلك معهن ولا مع غيرهن، والتحصن بمعنى العفة.
ثم بين الله سبب إكراههم الفتيات على البغاء فقال: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33]، فالأمر كله من أجل المال، والمنافق لا يشبع من شيء، فهو يريد المال ولو بهذه الصورة القذرة حيث يأمر الفتيات بالبغاء.
وقوله: (لتبتغوا) مفعول لأجله، أي: لأجل أنكم تبتغون عرض الحياة الدنيا، والدنيا أعراض، نقول: جاء للإنسان عرض، والمرض عرض يعرض للإنسان، والعرض شيء لا يدوم، فما أخذته في الدنيا لا يدوم لك أبداً، بل ينفد ويزول، فكل أعراض الدنيا مهما أخذت منها شيئاً، وكذلك ما يعرض لك من مرض ومن أشياء تبتلى بها فإنها لا تدوم، فهؤلاء يبتغون عرض الدنيا، فالله يحذر من ذلك، ويبين أن هذا عرض ليس دائماً، فابتغ ما عند الله من الجنة الدائمة.
وقوله {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] فيها قراءات: قرأها ورش وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر ورويس: (على البغاء ان) بهمزة أولى محققة، وبهمزة ثانية مسهلة.
وقرأها قالون والبزي بالعكس؛ بتسهيل الأولى، وبتحقيق الثانية (على البغآ إن)، ولهما المد أو القصر في ذلك.
وقرأها ورش أيضاً مطولاً لها: (على البغآ إن أردن) فيمد الهمزة الأولى ويمد الأخرى، وهذه قراءة أخرى له في ذلك.
وقرأها أبو عمرو: (على البغا إن)، بحذف الهمزة الأولى وإثبات الثانية فقط.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ} [النور:33] أي: يكره الفتاة على الزنا {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} [النور:33]، أي: هؤلاء النساء {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]، فالمكرهة معذورة في إكراهها، فإذا أجبرها سيدها على ذلك بالضرب أو بالتخويف بالقتل، فهذه مكرهة، فالله يغفر لها، وهذا الذي أكرهها له العذاب الأليم عند رب العالمين سبحانه وتعالى.(86/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات)
قال الله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، لقد تفضل الله عز وجل على عباده بأن أنزل عليهم هذا القرآن الذي يتلى ويعمل بما فيه ويثاب الإنسان عليه.
{وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ} [النور:34] عظيمات {مُبَيِّنَاتٍ} [النور:34]، فيها قراءتان: (آيات مُبْيَّنات) و (آيات مُبِّيَنَات)، فقرأها ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: بالكسر، وقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وشعبة عن عاصم: بالفتح على اسم المفعول.
فهي مبِّينة على اسم الفاعل بمعنى آية موضِّحة، فهي توضح لك ما تحتاج إليه، فهي في ذاتها ظاهرة وواضحة، وليست محتاجة إلى تعب وعناء في فهمها، فهذا القرآن العظيم كل إنسان يعرف العربية ويسمعه فإنه يفهم ما يقوله الله سبحانه وتعالى، فهو بيِّن في نفسه، وهو مبَّين للأحكام التي يريد الله عز وجل منك أن تعمل بها، وهي مُبَّيَنَة، فإذا جاءت في موضع مجملة وضحت في موضع آخر، وإذا أشكلت في موضع وضحت وفسرت في موضع آخر، وكذلك يبينها النبي صلى الله عليه وسلم بسنته صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: {وَمَثَلًا} [النور:34] يعني: هذا القرآن الذي نزل من عند رب العالمين فيه الآيات البينات، وفيه الأمثال، فالله يضرب لكم فيه الأمثال كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب المثل بالبعوض، وضرب المثل بالذبابة، ويضرب المثل بالأحياء والأموات، ويضرب المثل بالجماد، وبالحيوان، وبالطيور؛ لنفهم عنه سبحانه وتعالى.
قوله: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [النور:34] أي: الأمثال من الأمم السابقة كيف فعلوا، وكيف فعل بهم.
{وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34] أي: وفيه موعظة، والذي يفهم هذه الموعظة ويعمل بها هو التقي، وأما غير التقي فلا يفهم ولا يعتبر، فيكون هو عبرة لغيره، فالسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، فالقرآن فيه آيات بينات، وأمثال من خلوا من قبلنا؛ لنتعظ ونعمل.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيعملون بأحسنه وينتفعون به.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(86/5)
تفسير سورة النور الآية [35]
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أنه نور السماوات والأرض، ومنورهما، وهادي أهل السماوات والأرض إلى الصراط المستقيم، وضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً لنوره قي قلب المؤمن بمشكاة -وهي الكوة غير النافذة- فيها مصباح بداخل زجاجة بيضاء نقية كالكوكب المنير المتلألئ، وفتيل هذا المصباح يوقد من زيت شجرة الزيتون المباركة، وهذا الزيت يكاد يضيء من شدة صفائه، فهذا مثل لنور الله في قلب المؤمن، وهو نور الإيمان والوحي والهدى.(87/1)
تفسير وقوله تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
ذكر الله عز وجل نوره في هذه الآية العظيمة الكريمة، ومجيئها في هذا الموضع غاية في الجمال والإحكام والإتقان، فالله عز وجل ذكر قبلها غض البصر، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30].
وذكر بعدها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
ثم ذكر أنه أنزل: {آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34].
ثم ذكر هذه الآية العظيمة، وذكر بعدها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
فالذي يتأمل في هذه الآيات يجد أن الله سبحانه وتعالى قصد أن يبين لنا نوره سبحانه وتعالى، فهو النور سبحانه، وجعل في قلوب عباده نوراً، وأنزل عليهم من السماء نوراً يهديهم، وأرسل إليهم رسولاً من عنده يهديهم إلى نوره سبحانه وتعالى، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15].
فهذا نور بعضه وراء بعض: نور طاعة الله سبحانه وهداه، ونور اجتناب معصية الله سبحانه وتعالى وعقوبته، وذكر ذلك لما ذكر غض البصر، وكأن المعنى: أن من غض بصره فإنه يورث في قلب الإنسان نوراً من عند الله سبحانه وتعالى.
فالله نور السموات والأرض، أي: منورهما وهادي كل شيء سبحانه وتعالى، وطاعته تورث في القلب النور، ومعصيته تحجب عن القلب النور.(87/2)
فوائد غض البصر
قال أهل العلم: من فوائد غض البصر: أنه يورث نور القلب، والإنسان الذي يغض بصره فإنه يستنير قلبه، ويورث الفراسة، فيكون الإنسان ذكياً تقياً يعرف الشيء ويفطن إليه بمجرد إحساسه.
ولذلك أخبر سبحانه وتعالى عن قوم لوط أنهم أظلمت قلوبهم فصاروا متحيرين لا يفهمون ولا يفقهون، ووقعوا في هذه الجريمة الشنعاء وهي إتيان الرجال من دون النساء، فالله سبحانه وتعالى يخبر عنهم: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72].
والإنسان الذي يقع في المعصية وخاصة الفاحشة من زنا ولواط، فإن مبدأ هذه الفاحشة هو النظر إلى المرأة أو الأمرد، فيقع في النهاية في هذه الفاحشة والعياذ بالله.
وهؤلاء وقعوا فيها واستحلوا ما حرم الله سبحانه وتعالى، فأخبر تعالى أنه عاقبهم وعاجلهم بعقوبة عجيبة جداً، فأرسل عليهم رسولاً من عنده سبحانه يستدرجهم فيما هم فيه من بلاء ومعصية حتى إذا أصروا على الوقوع في هذه الفاحشة، إذا برسل الله عليهم الصلاة والسلام -وكانوا ملائكة من عند رب العالمين- يخرجون لوطاً، وإذا بالقرية تهدم على من فيها، ويرسل عليهم ربنا سبحانه وتعالى حجارة تحرق من كان فيها، ويهلكهم ويتلفهم ويدمرهم بهذه الجريمة، يقول تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يعمهون} [الحجر:72].
والسكرة: العماية، يعني: كأنهم مخمورون، فعقولهم تائهة قد سكرت كالإنسان الذي يشرب الخمر فيتوه عقله، وكذلك أنها مسَّكرة، أي: مغلقة عليهم قد أغلقت وتاهت عقولهم؛ بسبب ما وقعوا فيه من الفاحشة.
فالفواحش تظلم على الإنسان قلبه، ومبدأ هذه الفواحش من نظر الإنسان، فينظر فيقع في الزنا أو اللواط، والقلب يتمنى الشيء والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.(87/3)
أضرار النظر إلى ما حرم الله
قال أهل العلم: إن التعلق بالصور والنظر إلى ما حرم الله سبحانه يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب بل جنونه، فيجن القلب فلا يعقل ما الذي يدفع صاحبه إليه، فلذلك قال بعض الشعراء: سكران سكر هوى وسكر مُدامة فمتى إفاقة من به سكران والإنسان السكران الذي في قلبه هوى لا يفيق، وعقله يذهب، فإذا بالقلب والعقل لا يأبهان لشيء ولا يفهمان شيئاً، فإذا به يضيع، ومتى يفيق هذا الإنسان الذي يضيع؟(87/4)
الأمور التي تؤدي إلى إصابة الفراسة
ذكر الله سبحانه آية النور عقب آيات غض البصر لينبه الإنسان أن غض البصر يورث في القلب نوراً وهذا من فوائد الطاعة وتجنب معصية الله سبحانه، لذلك قالوا: كان رجل من أهل العلم اسمه شاه بن شجاع الكرماني، كانت لا تخطئ له فراسة، فكان يتوسم في الشيء ويقول: أظنه كذا، فيكون على ما ظنه، والأمر ليس أمر ذكاء من الإنسان أو أن يجعل نفسه فاهماً وعارفاً بكل شيء، ولكنها من الله عز وجل نور في قلب الإنسان، فيتفطن للشيء الذي لا يتفطن إليه غيره.
فسألوا هذا الرجل عن ذلك، فقال: من عمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفَّ نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال، لم تخطئ له فراسة.
فالإنسان الذي يريد أن يتوقع الشيء ويكون على النحو الذي يتوقعه، ولا أحد يستطيع أن يخدعه، فإن ذلك لن يأتي من كثرة مخالطة الناس، أو أن يظن الإنسان أنه ذكي، ولكن يطيع الله عز وجل فيورثه الله عز وجل في قلبه ما يفهم به الأمور.
فهذا الرجل الفاضل كان يقول: من عمّر ظاهره بإتباع السنة، أي: من يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويتابع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته.
وعمّر باطنه بدوام المراقبة، أي: لا يبقى الظاهر متابعاً للسنة والباطن خرب، ولكن يعمره بمراقبة الله وبالخوف من الله سبحانه وتعالى، فاجتنبوا المعاصي ظاهراً وباطناً.
ويغض بصره عن المحارم، ويكف نفسه عن الشهوات، يعني: الباطلة التي حرمها الله عز وجل، فكذلك يأكل الحلال ولا يأكل من حرام، وإذا اجتمعت فيه هذه الصفات الخمس فالله عز وجل يجعل في قلبه فراسة، فلا يكاد يخطئ في شيء يظنه أو يتفرس فيه، فـ {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35].(87/5)
شرح حديث: (إن الله عز وجل لا ينام)
وجاء في صحيح مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فالله عز وجل من صفاته سبحانه وتعالى وكماله وجماله أنه لا ينام، وإذا كان أهل الجنة لا ينامون، والنبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن ذلك فقال: (النوم أخو الموت) فالنوم دليل على أن الإنسان متعب، فيستريح بالنوم، وأهل الجنة لا يتعبون أصلاً، فالجنة لا تعب فيها ولا شقاء ولا نصب، والنوم في الجنة يضيع على المؤمنين جزءاً من استمتاعهم بالشهوات فيها، وبما أباحه الله عز وجل وجل لهم، وما أعطاهم من إكرام.
ولا موت بعد الموتة الأولى، فإذا كان هذا في الإنسان المخلوق، فإذا دخل الجنة فالله عز وجل لا يجعله ينام إكراماً من الله عز وجل لعبده، فكيف يجعل في عبده صفة ويكون هو سبحانه وتعالى على خلاف ذلك! فالله له الكمال سبحانه وتعالى، فالله لا ينام أبداً، فإن النوم أخو الموت، فلا يظن أبداً بالله عز وجل أن يكون فيه هذا النقص.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يخفض القسط ويرفعه) فهنا ميزان الله عز وجل العدل، فيفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، يخفض ويرفع، يعز ويذل، ويفعل ببعض عباده شيئاً ويفعل بغيرهم شيئاً آخر خلاف ذلك، وكل هذا مقتضى حكمته سبحانه وتعالى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)، معناه: أن الأعمال كلها تصعد إلى الله عز وجل ولا يتأخر منها شيء، والإنسان لما تأتيه أشياء فإنه يأخذ بالأول فالأول؛ لأنه لا يقدر على أن يأخذ الجميع مرة واحدة، ولله عز وجل المثل الأعلى، فكل شيء يصعد إليه فهو يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالأعمال تتسابق ارتفاعاً إليه سبحانه، وهو مطلع على الجميع سبحانه وتعالى قبل صعودها إليه بل قبل أن يفعله الخلق.(87/6)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور) فقد احتجب الله عن خلقه وهم أهل سمواته وأرضه بحجاب من النور سبحانه وتعالى، والله عز وجل أخبر عن نفسه أنه نور سبحانه وتعالى، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قيام الليل: (اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن) أي: منور السموات والأرض، فالله عز وجل نور السموات والأرض، كما ذكر لنا في هذه الآية، وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وأيضاً جاء في القرآن قول الله سبحانه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69].
ويوم القيامة لا شمس فيه ولا قمر ولا نجوم ولا كواكب، والذي يضيء ويشرق في الأرض ويجعلها منيرة يوم القيامة هو نور الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69].
وجاء في صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره -سبحانه وتعالى- فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل) فرجعت الهداية إلى نور الله سبحانه وتعالى، فإنه خلق الخلق وجعلهم في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه من هذا النور جاءه الهدى من الله عز وجل، ومن لم يصبه من نور الله عز وجل كان من الأشقياء.
وأيضاً جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، فنور السموات من نور وجهه سبحانه وتعالى.
فالله نور السموات والأرض ومنورهما وهادي أهل السموات وأهل الأرض.
والله عز وجل ذكر آيات في غض البصر قبل قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، ثم بعد ذلك ذكر الله عز وجل أمر المساجد فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
فالمراد بالنور: الطاعة، أي نور غض البصر، فمن كف نفسه عن المعصية أورثه الله عز وجل في قلبه نوراً، ومن أتى إلى بيوت الله عز وجل وعمرها بطاعة الله جعل الله عز وجل في قلبه نوراً، فالبعد عن المحارم يورث في القلب النور، والاشتغال بالطاعة يجعل في القلب النور، فالله عز وجل يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فإن غض بصره عما حرم الله سبحانه عوضه عليه من جنسه بما هو خير، فجعل الله مكانه نوراً في قلبه يرى به الأشياء على حقيقتها، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه أبواب العلم والمعرفة والفراسة من فضله سبحانه.
ومن فائدة غض بصر الإنسان والبعد عن المعاصي: قوة القلب، فالله عز وجل يقوي قلب الإنسان ويثبته ويشجعه، ويجعل الله عز وجل له سلطاناً من عنده ينصره به مع سلطان حجته، ولهذا قالوا: إن الإنسان العاصي يوجد في قلبه من الذل ما لا يستشعره إلا هو، أما الإنسان الطائع فإنه يستشعر في قلبه عز الطاعة.
وذل المعصية جاء من ظلمتها، فإذا به لا يبصر الشيء على حقيقته.
يقول الحسن البصري رحمه الله: إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذل المعصية في رقابهم، يأبى الله إلا أن يذل من عصاه.
فالإنسان وإن ركب المراكب العالية الفخمة: فسارت به السيارات، وطارت به الطائرات، وركب السفن، ومشى مختالاً في الأرض، فالله يأبى عز وجل إلا أن يجعل في قلبه الذل والحاجة إليه سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
فالله نورٌ سبحانه وتعالى، وهو منور السموات والأرض، وهادي أهل السموات والأرض، وهو سبحانه حجابه النور، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة المعراج: (هل رأيت ربك؟ قال: نوراً أنى أره) أي: أنه لا يطيق أن يرى ربه سبحانه تبارك؛ لأنه لم يعط من القوة أن يرى الله عز وجل كما يعطى ذلك المؤمنون فيرونه في يوم القيامة، وأما في المعراج فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ببصره إلا نوراً، وأما أن يصف ربه سبحانه فلا يقدر على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ)) ليس هذا هو النور الذي هو حقيقته سبحانه وتعالى، ولكن النور الذي يضرب له المثال هو نور هدايته في قلب الإنسان المؤمن، فإن الله عز وجل يقذف في قلب المؤمن نوراً شديداً قوياً كهذا النور الذي يصفه سبحانه وتعالى، فمثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة فيها مصباح، والمشكاة هي الكوة، وهي طاقة في الحائط غير نافذة، وأصل المشكاة هو الدلو من الجلد، أو العلبة المفتوحة من مكان وحد فقط.
وهذه المشكاة بداخلها مصباح، وفتيل هذا المصباح موضوع في داخل زجاجة، والزجاجة غاية في الإنارة والإضاءة كالكوكب الدري الشديد الإضاءة، وهذه المشكاة موجهة للضوء إلى مكان واحد مثل اللمبة التي يوضع عليها عاكس، فإنه يوجه النور ويكون قوياً موجهاً إلى مكان، فالعلبة المفتوحة من طرف واحد يكون ذلك أقوى للإضاءة، وبداخل هذه المشكاة مصباح، وفتيل هذا المصباح داخل الزجاجة، والزجاجة كالكوكب المنير المضيء، فكيف إذا اتقد هذا الفتيل بداخلها؟! وقوله تعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35].
فهذا المصباح له زيت يوقده، وهذا الزيت يستخرج من شجرة الزيتون، وزيت الزيتون يعطي إنارة عظيمة، وهو زيت مبارك، كما سيأتي في أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وهذه الآية تكفي في الدلالة على ذلك.
والشجرة إذا كانت شرقية يكون فيها فوائد، فإنها تأتيها الشمس من المشرق فتعطيها نوعاً من التطييب لها، وإذا كانت غربية ففيها نوع أخر، وإذا كانت وسطاً كانت أفضل أنواع أشجار الزيتون، فهي شجرة وسط لا شرقية ولا غربية، والزيت الذي فيها يكاد يضيء وحده من غير ما يوضع فيه نار، فكيف إذا وضع بداخله النار! فهذا كله لبيان النور الذي في قلب الإنسان المؤمن، فكيف يكون إذا كان في قلبه هذا النور الشديد العظيم؟ وهل يقع هذا في معصية؟ وهل يضل ويتوه عن طاعة الله سبحانه؟ كلا.
قال الله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] أي: نور فوقه نور، فهو أنوار مجتمعة بقلب الإنسان الذي يتبع هدى الله سبحانه وتعالى، {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، وأمر الهدى والإضلال يرجعان إلى الله، فالله يهدي من يشاء ويضل من يشاء سبحانه وتعالى، ويضرب الأمثال بذلك لعل الناس يتذكرون.
هذا هو التفسير الإجمالي للآية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(87/7)
تفسير سورة النور [35 - 37]
لقد شبه الله نوره الذي يقذفه في قلب المؤمن فينير له الطريق، ويهديه في الظلمات، ويطمئن في المخاوف، شبهه تشبيهاً رائعاً في هذه الآيات، فانظره مع تفسيره تزدد علماً وفهماً.(88/1)
تفسير قوله تعالى: (الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية نوره العظيم الذي يهدي به من يشاء من خلقه، فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35].
{اللَّهُ نُورُ} [النور:35] أي: منور السموات والأرض بما جعل فيها من ضياء،.
قال سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] أي: هادي من في السموات ومن في الأرض، فالله نور ليس كغيره من النور، كما أننا نؤمن بصفاته سبحانه وأنه لا يشبهه شيء، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وأخبر أنه خلق الإنسان من سلالة من طين، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
فالله سميع وبصير سبحانه، وجعل للإنسان سمعاً وبصراً، وجعل فيه حياة، ونؤمن أن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فالمخلوق فيه كحياة، ولكنها ليست كحياة الخالق سبحانه وتعالى.
وللمخلوق سمع وبصر، ولكنها لا يشبهان أبداً سمع الخالق سبحانه ولا بصره، وكذلك الله نور، ولا يشبهه نور غيره.
فالله نور السموات والأرض، والله منوِّر السموات والأرض، فينورهما بما يشاء، والله يهدي أهل السموات وأهل الأرض، فهذه من معاني تنوير الله سبحانه وتعالى للسموات والأرض.
ثم ضرب مثالاً لنوره فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، وختم بقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] إذاً: فلا يضرب مثلاً لنوره الذي هو صفة من صفاته سبحانه، فهو لا يشبهه شيء، ولا يضرب له الأمثال، ولكن يذكر لنا شيئاً من نور هداه سبحانه في قلب الإنسان المؤمن.
فالإنسان يعرف صفات الله سبحانه وتعالى لما يرى أمامه في الكون من قدرة الله عز وجل العظيمة المبهرة، فيعرف قدر الله سبحانه، قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فلولا أن الإنسان يرى أشياء كبيراً حجمها، لما عرف أن الله هو الكبير سبحانه وتعالى.
فيرى الأرض عظيمة قد استوعبت من عليها من مخلوقات، ويرى من الأجرام التي خلقها الله عز وجل ما هو أكبر بكثير من هذه الأرض، فيعلم أن هناك ما هو أكبر من هذا الكبير.
ثم ينظر في هذه المجرات التي خلقها الله عز وجل، فيعلم أنها أعظم وأعظم وأكبر من هذا الكون الذي يراه من أرض ومن شموس حولها، فيرى هذا شيئاً كبيراً، والله أكبر من كل شيء سبحانه وتعالى.
فالله يُري الإنسان الآيات ليعرف بها عظيم صفات الله تبارك وتعالى.
وكذلك يرينا نوراً قد خلقه الله عز وجل، وهذا نور آخر أعظم منه خلقه الله أيضاً، وهذا نور ثالث أعظم وأعظم، فالإنسان يطلع على ما يراه من نور، فيرى نوراً موجوداً في الأرض، ونوراً يأتي من القمر، وهذا ضياء يأتي من الشمس، وفوقها ما هو أعظم من ذلك بكثير.
فالإنسان يرى النور في الدنيا، فهو يطيق أن ينظر إلى ضوء الشمعة، ولكن إذا كان مصباحاً لم يكد يقدر أن ينظر إليه، فإذا كبر ما فيها من ضوء صارت هالوجيناً مثلاً فمستحيل أن ينظر إليها بنظره، فالله نور سبحانه وتعالى، وهو أعظم من ذلك بكثير.
فيضرب لنا هذا المثل للتقريب للأذهان، فعندما يرى الإنسان الشيء الكبير يعلم أن الله أكبر من ذلك، وعندما يرى الشيء العظيم يعلم أن الله أعظم من ذلك.
فمثل نوره ما يجعله في قلب الإنسان المؤمن من نور الإيمان، ونور معرفة الله سبحانه، واليقين به سبحانه، ونور القرآن في قلب الإنسان المؤمن، ونور الإتباع والهدى في قلبه، فهذا النور الذي يضيء له فلا يكاد يضل، ولا يكاد يقع في شيء يغضب الله سبحانه وتعالى.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور:35] قالوا: المشكاة: هي الكوة في الحائط، وكأنه نافذة مغلقة من مكان ومفتوحة من مكان آخر، وكأنه فتحة في الحائط موضوع فيها هذا المصباح.
قال تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35] كأنه العلبة التي توضع بداخلها اللمبة من أجل تجميع الإضاءة في مكان، فكأنه يريد هنا أن يرينا مثلاً من الأمثلة: أنه إذا وجد مثل هذا النور في مكان فلا يمكن لإنسان ألا يرى ما حول هذا النور إلا أن يكون أعمى.
إذاً: فهو نور عظيم أضاء المكان الذي هو فيه، فتخيل مكاناً مغلقاً، وهناك علبة بداخلها مصباح، وهذا المصباح صفته أنه: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، والفتيلة التي فيها النار داخل الزجاجة، وهذه الزجاجة يذكرها الله عز وجل فقال: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35]، فكل شيء فيها مضيء، والفتيلة مضيئة، والمشكاة التي بداخلها كأنها مضيئة.
قال تعالى: {الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ} [النور:35] بداخل علبة زجاجية، الزجاجة هذه كأنها وحدها {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] كأنها كوكب دري، والمصباح: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35].(88/2)
القراءات في قوله (كوكب دري)
قوله تعالى: {دُرِّيٌّ} [النور:35] فيها ثلاث قراءات: (دِرِّيء) وهي قراءة أبي عمرو والكسائي.
و (دُرِّيء) هي قراءة شعبة عن عاصم، وحمزة وباقي القراء يقرءون: {دُرِّيٌّ} [النور:35] كأنه من الدر، أو من الإضاءة العظيمة الشديدة.
وقوله تعالى: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور:35] أي: كوكب ثاقب مضيء إضاءة عظيمة، أو كأنه الكوكب الدِّرِّي من الدرء، وهو الاندفاع، كأنه الكوكب الجاري بسرعة في السماء، فكلما ازداد جرياً ازداد إضاءة وتوهجاً، فكأن الزجاجة كوكب مضيء، إذاً: الزجاجة وحدها كأنها مضيئة، المصباح بداخلها مضيء.
يقول هنا سبحانه وتعالى: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ} [النور:35] يعني: أن الفتيل يوقد من زيت هذه الشجرة التي بارك الله عز وجل فيها، وهي شجرة الزيتون، فجعل في زيتها الفوائد العظيمة للإنسان في كل شيء، فإذا أوقد فيه مصباح كان أشد استنارة.
{لا شَرْقِيَّةٍ} [النور:35] أي: لا شرقية فيحجب عنها الضوء الغربي.
{وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] فيحجب عنها الضوء الشرقي، ولكنها وسط، وهذا أشد لجمالها ولحسن زيتها.
يقول الله سبحانه: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ} [النور:35] أي: أن زيتها الذي يوقد هذا المصباح يكاد يضيء لوحده، فلو فرضنا أن فتيلة سيخرج منها نار، ومن أجل أن نغذي هذه الفتيلة سنضع لها زيتاً، والزيت لوحده يكاد يضيء، والمصباح يضيء، والزجاجة كوكب دري، وموضوعة في مكان مغلق، فكم سيكون حجم الإضاءة التي بداخل هذا المكان؟ فهل ممكن أن يضيع منك شيء في مكان بمثل هذه الإضاءة؟ لا.
وكذلك ما يجعله الله عز وجل في قلب الإنسان المؤمن من نور الإيمان يستدل به على عظمة الخالق سبحانه، ويستدل على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وعلى العمل الصالح فيعمله، ويستدل على أن هذا حلال فيأتيه، وأن هذا حرام فيبتعد عنه، فهذا نور في قلب المؤمن يهديه الله عز وجل به إلى ما يشاء من طاعته.
قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] يعني: هذه الأنوار بعضها فوق بعض تضيء لصاحبها، وتريه الطريق المستقيم.
قال سبحانه: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35] أي: لنور الهدى، ونور الإيمان، ولنور القرآن العظيم، ومتابعة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا في الحديث: (إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل).
فالله سبحانه وتعالى يهدي لنوره من يشاء.
قال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} [النور:35] فهذا مثال من الأمثلة العظيمة، وهو مثال: النور، ويضرب الله أمثلة كثيرة في كتابه سبحانه، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب المثل بالبعوض، ويضرب المثل بالذبابة، ويضرب المثل بالنور، ويضرب المثل بالنار، ويضرب المثل بالظلمات، ويضرب الأمثلة بما يشاء سبحانه؛ حتى يقرب للإنسان فيفهم عن الله سبحانه وتعالى ما يريد أن يفهمه إياه.
إذاً: فهنا يضرب الأمثال حتى يفهم الإنسان، فإذا قرأ القرآن ولم يفهم ما أراده الله عز وجل منه ضرب له الأمثال، فحذره من الحرام، وأمره بأن يؤدي الواجبات والمستحبات فإذا لم يفعل ذلك ولم يفهم، فهذا شاء الله عز وجل أن يضل ولا يهتدي.
فالله يضرب الأمثال واضحة كهذا النور، فإذا لم يعقل الإنسان، فمعناه: أنه لا يريد أن يفهم هذا الذي آتاه من عند الله، فيستحق ما يناله من عذاب يوم القيامة.
قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35] أي: ليس علمه محدوداً بل أحاط بكل شيء علماً، فما في السموات وما فوقها، وما في الأرض وما تحتها، كل ذلك قد أحاط الله عز وجل به علماً.(88/3)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)
قال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36].
{فِي بُيُوتٍ} [النور:36] وهي: المساجد بيوت الله سبحانه وتعالى، وكل شيء ملك لله، فالأرض أرض الله، والسماء سماء الله، وكل شيء لله، ولكن لتشريف هذه المساجد سماها بيوته سبحانه وتعالى.
{أَذِنَ} [النور:36] أي: أمر الله سبحانه وتعالى وقضى أن ترفع وتشيد وتبنى؛ لعبادة الله سبحانه وتعالى.(88/4)
القراءات في قوله تعالى: (في بيوت)
في قوله تعالى: ((فِي بُيُوتٍ)) قراءتان: قراءة بضم الباء وهي قراءة ورش وأبي جعفر وأبي عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم بضم الباء.
وباقي القراء يقرءونها بالكسر: ((في بُيوت أذن الله أن ترفع)).
ومثلها ما جاء في القرآن من: ((شُيُوخ)) و ((شِيوخ))، و ((عُيُون)) و ((عِيون)) ونحو ذلك، ففيها قراءتان: بالكسر وبالضم.
قال تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي: يرفعها الإنسان ليعبد الله عز وجل فيها.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
إذاً: هذه المساجد ليست مبنية للعب، وإنما بنيت لعبادة الله سبحانه وتعالى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنيت المساجد لما بنيت له) أي: لذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم، وللصلاة، فهذه بيوت الله سبحانه أذن أن ترفع لذلك.(88/5)
تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37]، فهذه البيوت فيها رجال وصفهم الله عز وجل بذلك، (رِجَالٌ) وكأنه يقول: نعم الرجال وأفضل الرجال عمّار بيوت الله سبحانه وتعالى، الذين ذكرهم وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
فهؤلاء الذين هداهم الله سبحانه وأكرمهم، لذلك فالإنسان المؤمن إذا وجد نفسه يواظب على بيوت الله عز وجل للعبادة، ويكون محباً لبيت الله سبحانه، فليبشر بهذه البشارة التي بشر الله سبحانه بها هنا وفي سورة التوبة.
فذكر هنا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] فكأنه يمدحهم بهذا الوصف، فهم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال.
فهؤلاء الرجال اختصهم الله بأن يعمروا بيوته، فاستحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف: أنهم رجال، يعني: نعم الرجال، وهكذا كما تقول لإنسان: أنت رجل، وأنت تقصد: أنت نعم الرجل، أنت فيك صفات ليست في غيرك.
وكذلك في هؤلاء، وذكر أنهم يعمرون مساجد الله وبيوته فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
وبيوت الله هي المساجد، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة بنى له الله بيتاً في الجنة) سواء كان المسجد صغيراً أو كبيراً.
قال تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أي: تشيد ويرفع بنيانها، ليصلي الناس بداخلها.
وترفع أيضاً بمعنى: تطهّر وتعظّم ويرفع شأنها.
فالمؤمن يعظم بيت الله عز وجل، فلا يأتي المسجد من أجل أن يلعب بداخله، ولا يأتي المسجد من أجل أن يؤذي أحداً في بيت الله سبحانه، فلا يجوز الأذى ظاهراً ولا باطناً، وقد يتأذى الإنسان من شيء فتتأذى الملائكة منه أشد من أذى الإنسان.
فيُرفع بيت الله سبحانه فلا يؤذي فيه أحداً، ويطهره من الأنجاس والأقذار، ويعظم بيت الله سبحانه وتعالى.
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في الدور، وأن تطهر وتطيب)، فديار الأنصار كانت كثيرة، فكأن البعض منهم يشق عليهم أن يأتوا إلى مسجد النبي الله صلى الله عليه وسلم من عوالي المدينة ونحوها، فأمرهم أن يتخذوا مساجد في الدور.
والدار: مجموعة البيوت التي تكون متلاصقة في مكان، يعني: يتخذون في أحيائهم مساجد، فيصلون فيها صلاة الجماعة، فإذا كان يوم الجمعة جاءوا فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المساجد أن تطهر وتطيب، فالمسجد مكان يصان عن الأذى، ويطهر ويطيب، فتكون رائحته طيبة.
إذاً: فالإنسان الذي يأتي إلى بيت الله برائحة خبيثة من ثيابه أو من جواربه، هذا قد فعل غير ما أمر الله عز وجل به، لذلك فالإنسان المؤمن يحرص على نظافته، ويحرص أنه إذا جاء إلى المسجد أن يتطيب، وأن يتجمل لبيت الله سبحانه، كما أمر الله سبحانه وتعالى قال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
قال تعالى: ((أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)) إذاً: هنا ستبنى المباني، لكن هل المعنى أن ترفع فوق القدر المحتاج إليه فيكون المسجد تحفة معمارية مثلاً؟ لم نؤمر بهذا الشيء، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم المنع من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فجاء في الحديث: (لا تقوم الساعة حتى يتباهي الناس في المساجد) إذاً: فالمساجد أصبحت للمباهاة وليست من أجل الصلاة، بل من أجل أن يقال: مسجدنا أحسن من المسجد الآخر.
وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) وفي رواية: (فالدبار عليكم) وهو بمعنى: الدمار.
والمعنى: أنك مخلوق لعبادة الله سبحانه، فإذا نسي الإنسان هذه العبادة، ونظر إلى شيء آخر غير العبادة، وكل همه أن يزخرف المسجد، وأن يدهن بأصفر وأحمر، وينقش ويزخرف، ويضع صور في المسجد، فإذا دخل الصلاة نقرها كنقر الغراب، فإذا انتبه الإنسان لزينة المسجد، ونسي السبب الذي من أجله بني هذا المسجد، فانتظروا الدمار من الله سبحانه وتعالى، فلم تعد المساجد للعبادة، ولم تعد لذكر الله، بل صارت للمباهاة.
وكذلك في الحديث نفسه قال: (إذا حليتم مصاحفكم) فأصبح هم الإنسان أنه يشتري مصحفاً حسناً؛ من أجل أن يعلقه في السيارة، أو من أجل أن يعلقه في بيته، أو يضعه أمام المرآة حتى يتفرج عليه، لكن لا يفتح المصحف ولا يقرأ فيه شيئاً، مع أن كتاب الله أنزل ليحفظ في الصدور، ويحفظ بالأعمال، فيعمل بما فيه شريعة ومنهاجاً، ويحفظه فيتلوه متعبداً به لله سبحانه، فإذا ترك هذا كله، وأصبح المصحف من أجل أن يعلق في السيارة، أو يوضع في البيت كنوع من الديكور، فانتظر الهلاك والدمار؛ فالمصحف لم ينزل من أجل أن تضعه تحت المخدة وتنام، من أجل البركة في زعمك، أو تضعه على الدولاب ولا يقرأ فيه، وإنما جاء المصحف شريعة من الله عز وجل يقرأ ويتدبر، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فكأن قلب الإنسان الذي لا يقرأ القرآن ولا يتدبر فيه مغلق بقفل لا يفتح؛ لأنه ترك القرآن وراءه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:36 - 37].
قوله: {بِالْغُدُوِّ} [النور:36] أول النهار.
قال تعالى: {وَالآصَالِ} [النور:36] الأصيل: وقت العصر، والمقصد أنه دائماً صباحاً ومساءً وهو في تسبيح وفي ذكر لله عز وجل في الصلوات الخمس وفي غير ذلك.
{رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] فهؤلاء هم الرجال الذين وعدهم الله سبحانه أن يهديهم، وأن يغفر لهم، وأن يرحمهم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(88/6)
تفسير سورة النور الآية [36]
ما أجمل تلك البيوت التي رفعها الله سبحانه فنزهها عن الأقذار الحسية والمعنوية، وخصها بأن يذكر فيها اسمه، وجعل روادها أهل القلوب السليمة التي لا تلهيها تجارة أو بيع عن ذكر ربها، فالأجساد خارجها والقلوب معلقة كالقناديل تضيء فيها، فيجازيهم ربهم الرحيم يوم القيامة أحسن الجزاء وأتمه، ويزيدهم من فضله!(89/1)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
يذكر الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين المساجد وهي بيوت الله في الأرض، قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] (أذن) أي: أمر وقضى سبحانه وتعالى.
{أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36]، فذكر صفة هذه المساجد أنها مرفوعة يرفعها المؤمنون ويبنونها بطاعة الله سبحانه وتعالى، وبذكر الله سبحانه.(89/2)
القراءات في قوله تعالى: (يسبح له فيها)
في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} [النور:36] قراءتان: قراءة حفص ومن معه، وابن عامر ومن معه، فـ ابن عامر وشعبة يقرءان هذه الآية: (يُسبَّح له فيها بالغدو والآصال)، فعلى قراءة شعبة عن عاصم وابن عامر يستحسن الوقف على رأس هذه الآية: (يُسبح له فيها بالغدو والآصال).
وباقي القراء منهم حفص عن عاصم ونافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36].
وعلى هذه القراءة يستحسن الوصل حتى لا يفصل الفاعل عن الفعل، فيقرأ: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) فيصل الآية بما بعدها.
فهؤلاء رجال من صفاتهم: أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
فهؤلاء المؤمنون عمّار بيوت الله سبحانه وتعالى لا يلهيهم شيء عن صلاتهم، ولا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا تلهيهم الدنيا، وقد عبر عن الدنيا بالتجارة والبيع وذلك أكثر ما يشغل الإنسان، فهو يحتاج أن يشتري ويبيع ليتم بهما عيشه، ومع ذلك لا يلهيهم هذا عن ذكر الله سبحانه، وعن الإتيان إلى بيت الله في الصباح وفي المساء وفي كل وقت، فلا يضيع صلاة، فقلوبهم معلقة بالمساجد، وهؤلاء ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله كما في الحديث: (رجل قلبه معلق بالمسجد)، إذا خرج منه حتى يرجع إليه، فقد تعلق قلبه بالمسجد، فجعله الله عز وجل من أهل جنته وأظله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
هذه المساجد التي أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه جعل في بنائها الثواب العظيم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) فمن بنى لله مسجداً ولو كان صغيراً، وضرب له هنا مثالاً بمفحص القطاة، وهي الحمامة التي تجعل لنفسها عشاً تبيض فيه ولو كهذا، ويستحيل أن يكون المسجد كهذا ويصلي فيه أحد، ولكن المقصد أنه ولو كان مسجداً صغيراً يصلي فيه جماعة قليلة، فكيف بمن بنى لله مسجداً كبيراً.(89/3)
رفع المساجد حسياً ومعنوياً
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] يقول العلماء: وبيوت الله عز وجل أذن برفعها وتطييبها وتطهيرها ولم يأذن باللغو فيها، ولا باللعب فيها، ولا بتنجيسها ولا بالإيذاء فيها للملائكة أو للناس، فلذلك تصان المساجد من اللغو، وتصان من الرفث، ومن البيع والشراء ونحو ذلك كما سيأتي.
فمما تصان عنه وتنزه عنه: الروائح الكريهة، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: مما تصان وتنزه عنه المساجد: الروائح الكريهة، والأقوال السيئة وغير ذلك، وذلك من تعظيم المساجد أنه لا ينبغي أن يكون فيها رفث، ولا ينبغي أن يكون فيها لغو، ولا ينبغي أن يرفع فيها الأصوات إلا بذكر الله سبحانه وتعالى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه في غزوة تبوك: (من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم- فلا يأتين المساجد)، فالذي يأكل ثوماً وبصلاً لا يأتي المساجد.
وفي حديث آخر قال: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم).
وقال عمر رضي الله عنه في خطبته: (ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين ولا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من رجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً).
فلا مانع من أكل الثوم والبصل وهما مطبوختان، فإنهما في هذه الحالة لا رائحة لهما، وأما إذا كانا غير مطبوختين فإنهما لهما رائحة كريهة، فإذا أكلهما أحد وجاء إلى المسجد فإنه يؤذي الملائكة والمصلين بذلك، فلا ينبغي له أن يأتي إلى المسجد، فلا يجوز للإنسان أن يتعمد أن يأكل ذلك قرب وقت الصلاة، ولكن يجعل بينه وبين وقت الصلاة وقتاً كافياً، كأن يأكل بعد العشاء مثلاً بحيث إذا جاء الفجر لا تكون رائحة فمه متغيرة بذلك.
يقول العلماء -وهذا نقل الإمام القرطبي رحمه الله-: وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يؤذي الناس برائحة فمه الكريهة، وكذلك يؤذي الملائكة فالعلة يقاس عليها.
قال: وفي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبيهه ينبغي أن يجتنب مجتمع الناس.
أي: إنسان رائحة ثيابه منتنه يتأذى بها الناس إذا جاء المسجد فعليه التباعد عن الناس؛ لرائحته النتنه.
أو إذا كان الإنسان ثيابه قذرة مشحمة فإذا دخل في الصف يؤذي الناس ويسجد على الأرض فيوسخ سجاد المسجد، فهذا لا ينبغي أن يأتي المسجد وهو على هذه الحالة، ولكن يغير ثيابه ويأتي بيت الله نظيفاً طاهراً، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: عند موضع كل صلاة، فتتزين للصلاة كما تتزين لضيفك الذي تقابله.
فهنا رائحة الثوم والبصل رائحة منتنه فكيف برائحة السجائر التي يشربها الإنسان فيؤذي بها الناس، ويؤذي بها الملائكة؟! وكذلك إذا كانت رائحة الإنسان قذرة منتنة من عرق شديد ونحو ذلك مما يتأذى به الناس، وأحياناً بعض الناس تكون رائحة عرقهم رائحة شديدة فإذا كان على ذلك فليتنظف قبل أن يأتي بيت الله سبحانه، حتى لا يؤذي الناس بهذه الرائحة.
وبعض الناس في الصيف يلبس حذاءً وجورباً ويدخل المسجد فتكون رائحة المسجد غاية في القذارة والنتانة لا يقبلها الإنسان، فعلى المرء أن ينزع جوربه وليدخل مكان الوضوء فيتوضأ ويغسل رجليه؛ حتى لا يؤذي الناس برائحته.
ولو أن كل الناس دخلوا المسجد بأرجل منتنه أوشك الناس ألا يصلوا في المسجد، فتجد أحياناً سجاد المسجد حين تسجد عليها لا تطيق رائحتها، فتجلس منتظر متى الإمام يرفع تكاد أن تختنق من وضع رأسك على الأرض، ومن شم الرائحة المنتنه في الأرض.
فإذا كان هذا من إنسان فلا ينبغي أن تكون مثله، فإذا تأذيت بذلك فاحرص على أن تكون نظيفاً عند دخولك المسجد؛ حتى لا يتأذى أحد من رائحتك، ولا تؤذي الملائكة بذلك.
وكذلك أصحاب الروائح المنتنه في صناعة من الصناعات، كأن تكون صناعته تحتم عليه أن يتعامل مع أشياء لها رائحة تكون في يده أو ثيابه، فإذا جاء عند وقت الصلاة فليغسل ذلك، والمنظفات موجودة عند الناس من صابون ونحوها بحمد الله وبفضله، فليغسل أثر ذلك حتى يأتي المسجد وهو نظيف طيب الرائحة.
قالوا: وإذا كان هذا يتأذى به الناس، وتتأذى منه الملائكة فلا ينبغي أن يحضر الجماعة، فمن يتأذون منه أكثر من ذلك كأن يكون في المرء مرض فيخرج منه رائحة منتنه، أو إنسان به جرح فحصل في الجرح نوع عفونة بحيث إنه لا يطيق الناس أن يشموا رائحة هذا الإنسان، فله عذر أن يمكث في بيته ولا يجب عليه أن يأتي لصلاة الجماعة؛ حتى لا يؤذي الناس، وقد قال الله تعالى: {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61].
ولذلك كان من الشريعة أن الإنسان المجذوم يكون بعيداً عن الناس، (لما جاء المجذوم للنبي صلى الله عليه وسلم يبايعه قال له: ارجع فقد بايعناك، ارجع فقد بايعناك).
والجذام نوع من الأمراض المعدية بقدر الله، فهو سبحانه يجعلها سبباً من أسباب انتقال الأمراض من شخص إلى آخر، وهو مرض صعب شديد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحب هذا المرض.
(فر من المجذوم فرارك من الأسد).
فلا ينبغي للمجذوم أن يحضر مع الناس الجماعات، وهذا الذي قاله للناس قاله تعليماً، وحتى لا يظن الإنسان أنه بمجرد أن جاء هذا المجذوم وواقف بجواره أنه سيكون مثله، فكأنه يقول للمجذوم: لا تؤذ الناس، ولما أتى يبايع النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (ارجع فقد بايعناك).
فيأخذ الإنسان بالحيطة والحذر في ذلك، ويستيقن أن ما أصابه فبقدر الله سبحانه وتعالى، وما أخطأه فلن يخطئه إلا بقدر الله سبحانه وتعالى.
فقال أهل العلم: إن من كان ذا عاهة مؤذية يتأذى منه الناس بسببها فلا ينبغي عليه أن يحظر في جماعة الناس.
وكالمريض بمرض في الرئة يعلم منه أنه يؤذي الناس بعطاسه، ومعلوم عند عطس الإنسان أن الرذاذ يصل من عطسته إلى سبعة أمتار، فإذا كان الإنسان صاحب مرض معدي فلا ينبغي أن يحضر مع الناس في صلاة جماعة، ولكن يعتزل في بيته حتى يشفيه الله سبحانه وتعالى، أخذ أهل العلم ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في التأذي برائحة الثوم والبصل، فقالوا: هذا أشد من ذلك، فإذا كان هذا المريض معذوراً في ذلك فالإنسان غير المعذور الذي لسانه ذرب وطويل ومؤذي، ولا يستطيع أن يتحكم في نفسه إذا دخل المسجد، وإذا كان في الشارع أو في السوق وكلمه أحد شتمه وسبه، فمثل هذا يمنع من دخول المسجد.
وذكر الإمام القرطبي عن أبي عمر بن عبد البر من فقهاء المالكية وأحد الأئمة المجتهدين، قال: شاهدت شيخنا أبا عمر أحمد بن عبد الملك بن هشام رحمه الله أفتى في رجل شكاه جيرانه، واتفقوا عليه أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده.
يعني: رجل سفيه يأتي بيت الله عز وجل ويتكلم على الناس ويؤذيهم بلسانه، ويمد يده فيضرب الناس، ولا يحترم بيت الله سبحانه وتعالى.
يقول أبو عمر بن عبد البر: فأفتى بإخراجه من المسجد، وإبعاده عنه، وألا يشهد معهم في الصلاة؛ إذ لا سبيل مع جنونه واستطالته إلى السلامة منه.
يعني: عامله معاملة المجنون، فهو طالما كان سفيهاً لا يمسك نفسه فيضرب ويبطش بيديه، فعلى ذلك يكون حكمه حكم المجنون، فلا ينبغي أن يكون في بيت الله سبحانه وتعالى.
وأبو عمر بن عبد البر من العلماء المجتهدين يقول: فذاكرته يوماً أمره، وطالبته بالدليل.
يعني: يتكلم مع شيخه فيما أفتى به، ما الدليل على الذي ذكرته؟ فقال: وراجعته فيه القول فاستدل بحديث الثوم، فقال: هو عندي أكثر أذى من أكل الثوم.
فإذا كان الذي يأكل ثوماً يمنع من المجيء إلى المسجد، مع أنك يمكن أن تتعود على رائحة الثوم والبصل، وأما طول اللسان واليد في المسجد فهذا مما لا يطاق.
قال: وهذا عندي أكثر ممن أكل الثوم، وصاحبه يمنع من شهود الجماعة في المسجد.
فكأن الإمام ذلك أبو عمر ابن عبد البر ينقل ذلك موافقاً لشيخه بعدما سأله.
قال أهل العلم: المساجد كلها سواء، وهذا هو الصواب وإن كان فيه خلاف يسير، ولكن المساجد كلها سواء في ذلك فالإنسان الذي به رائحة غير طيبة لا ينبغي أن يدخل المساجد: لا المسجد النبوي، ولا الكعبة، ولا المسجد الحرام ولا غيره من المساجد، فكلها يستوي فيها المنع.
قال: أفتى العلماء على أن المساجد كلها سواء لحديث ابن عمر فيمن أكل من هذه الشجرة، -يعني: الثوم- فلا يأتين المساجد.
قال العلماء أيضاً: وتصان المساجد أيضاً عن البيع والشراء وجميع الأشغال، والاشتغال في بيت الله عز وجل لا ينبغي أن يكون إلا بالصلاة وبالذكر.
ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قام في المسجد وقال: (من دعا إلى الجمل الأحمر) فقد كان عنده جمل أحمر فضل عليه، فوقف في المسجد بعد الصلاة وقال: من رأى الجمل الأحمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وجدت لا وجدت) فدعا على الرجل ألا يجد جمله فقال: (لا وجدت، إنما بنيت المساجد لما بنيت له) وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر (أنما بنيت المساجد للتسبيح، ولذكر الله، وللصلاة).
فهنا قال للرجل: (لا وجدت) مع أن يمكن أن يقال: هذا معذور وجمله ضائع، وهو ليس شيئاً حقيراً.
فنقول: (ولو كان جملاً أو أكثر من ذلك فليست المساجد مكاناً لذلك، وإذا أراد أن ينادي على جمله فليناد خارج المسجد، أو في الشارع وليس في المسجد، فإنما بنيت المساجد لما بنيت له، فلا ينبغي رفع الأصوات في المساجد، وهذه حالة تجدها في كثير من المساجد، وأحياناً عندنا في المسجد بعد الصلاة تجد بعض الناس يقف ويتكلم ويكثر من الكلام، فيشوش على الناس صلاة النافلة وهو يحكي ويتكلم، ولا يدري أن الناس ين(89/4)
تفسير سورة النور (تابع1) الآية [36]
إن عمارة بيوت الله بالذكر والصلاة وقراءة القرآن دليل على تعلق قلب العبد بربه، وعلى قوة إيمانه واتصاله بالله تعالى.
ولما كان لعمارة بيوت الله هذا الفضل العظيم كان لا بد من التأدب مع هذه البيوت العظيمة، وتعظيمها، وعدم اللهو واللعب فيها، وترك ما يفضي إلى شغل الناس عن الصلاة وقراءة القرآن فيها.(90/1)
فضل عمارة المساجد بالذكر والطاعات
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يحرصون على المجيء إلى بيوت الله سبحانه، وعلى الجلوس فيه مصلين مسبحين الله تعالى، فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37]، وقال في سورة التوبة، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، فجعلهم الله عز وجل من أهل الهدى؛ لحرصهم على المجيء إلى بيوت الله سبحانه، ومواظبتهم على صلاة الجماعة، وحرصهم على الجلوس بعد الصلوات في المساجد مسبحين الله، ذاكرين الله سبحانه، فجعل الملائكة يستغفرون لهم، ويشهدون لهم عند الله عز وجل كما في الحديث بقولهم: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون).
فالمساجد بيوت الله سبحانه وتعالى في الأرض، وقد شرفها الله عز وجل وجعلها لذكره، ففي الحديث أنه لما جاء الرجل الأعرابي وجلس وبال في المسجد نصحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (إن هذه المساجد لم تبن لهذا؛ إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن)، فبيوت الله عز وجل يصلي العبد فيها صلاة الجماعة، والنافلة ونحو ذلك، ثم يجلس ذاكراً الله عز وجل فيها، كما يأتيها ليتعلم أو يعلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هذه المساجد بنيت لذكر الله، أي: لأصناف ذكر الله عز وجل: من قراءة للقرآن، ومن تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، وقراءة وسماع دروس العلم.(90/2)
آداب الجلوس في المسجد(90/3)
عدم الانشغال بكلام أهل الدنيا
جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يذكر فيها آداب المساجد، وأشياء لا يجوز للإنسان أن يفعلها داخل المسجد، فمن ذلك ما جاء في الحديث: (أن رجلاً من الصحابة كان يصلي -وهو يجهل عدم جواز الكلام في الصلاة- فإذا برجل بجواره يعطس في الصلاة، فقال: الحمد الله، فقال: يرحمك الله -فتكلم في الصلاة-، فلما قال ذلك نظر إليه الناس -فكأنه هش لما نظر إليه الناس- فقال: ما لكم تنظرون إلي؟ فضرب الناس بأيديهم على أفخاذهم، فسكت بعد أن كاد يتكلم)، وبعد الصلاة توقع من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهره أو يزجره، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن).
فالإنسان وهو يصلي سواء في المسجد أو في غير المسجد لا يجوز له أن يتكلم بكلام أهل الدنيا، فإذا كان في بيت الله جالساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة، فينبغي عليه أن يكون على هيئة الذي يبتغي الفضل والأجر من الله عز وجل على جلوسه، فلا ينشغل بكلام الدنيا، ولا بالمسامرة مع الناس.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما رفع الصوت في المسجد فإن كان مما يقتضي مصلحة للرافع صوته دعي عليه بنقيض قصده، والمعنى: أنه إن رفع صوته في غير صلاة مكتوبة جهرية مثلاً، أو في غير تعليم الناس العلم، وإنما لمصلحة خالصة، كأن ينادي: ضاع مني كذا، أو من يشتري كذا، أو غيره من المصالح الخاصة، فهذا يدعى عليه بنقيض قصده، أي: بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن سمع من ينشد ضالة في المسجد: (فليقل لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا).(90/4)
النهي عن التشبيك بين الأصابع في المسجد
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا توضأ وخرج من بيته قاصداً المسجد فهو في الصلاة، ثم قال: (فلا يفعلن هكذا، وشبك بين أصابعه)، أي: إذا كنت في الطريق من بيتك إلى المسجد وأنت متوضئ فأنت في صلاة، فلا تشبك بين أصابعك حتى في الطريق إلى المسجد؛ لأنك في صلاة، فإذا كان هذا في الشارع، فكيف في بيت الله سبحانه وتعالى؟! فلا ينبغي أن يتشاغل الإنسان بتشبيك أصابعه أو بقرقعتها، أو باللعب واللغو في داخل بيت الله عز وجل، فالمساجد بنيت لما بنيت له من ذكر الله وما والاه من التعلم والتعليم، والصلاة وقراءة القرآن.(90/5)
النهي عن رفع الصوت في المسجد
سمع عمر رضي الله عنه رجلاً في المسجد كان يرفع صوته فقال عمر: ما هذا الصوت؟ أتدري أين أنت؟ فأنكر عليه أن يرفع صوته في المسجد، ونهاه عن ذلك؛ لأنه ليس من الأدب أن يرفع الإنسان صوته في بيت الله عز وجل إلا لما هو مشروع، كإمام يرفع صوته، أو مبلغ يبلغ عن الإمام في الصلاة، أو في درس علم، أما رفع الصوت بكلام الدنيا فهذا مما لا ينبغي في بيت الله سبحانه.(90/6)
النهي عن تناشد الأشعار في المساجد
جاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المسجد، وعن البيع والشراء فيه، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، فهذه من الأشياء التي ينهى عنها في بيت الله عز وجل.
فمما ينهى عنه في المساجد: تناشد الأشعار، والأشعار منها ما هو جائز ومنها ما ليس بجائز، فالشعر الجائز كأن يكون في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، أو في ذكر الله سبحانه وتعالى، أو في مدارسة العلم، كأن يكون متناً في الفقه، أو في الحديث، ونحو ذلك مما يقوم الإنسان بحفظه من الأشعار؛ ليتعلم العلوم الشرعية، ومما يكون خلال الدروس العلمية، أو في المواعظ ونحوها.
لكن أن يقعد الإنسان في المسجد يقول شعراً من أشعار الدنيا فهذا لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل على جواز قول الشعر في المسجد إذا كان فيه مدح للنبي ودفاع عن الإسلام: هو أن حسان بن ثابت كان ينشد في المسجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهجهم وروح القدس معك)، فيدعوه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هجاء المشركين، وقد كان يدافع عن الإسلام بشعره رضي الله تبارك وتعالى عنه، ومثل ذلك جائز، وأما أشعار الدنيا التي يقولها الإنسان في المسجد فهذا لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وأما تناشد الأشعار في المسجد فاختلف ذلك -أي: كما تقدم ذكره- وجاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشعر: (هو كلام: حسنه حسن، وقبيحه قبيح)، وهذا حديث حسن.
ففيه أن الأشعار منها ما هو حسن ومنها ما قبيح، فإذا كان الذي في بيت الله عز وجل من قبيل الحسن فهو الذي يجوز أن يقال، كأن يكون في موعظة مثلاً، أو أثناء خطبة ونحوها، أو في مدارسة العلم كدراسة متن أو أرجوزة من الشعر في أصول الفقه مثلاً، أو في أصول الحديث، فهذا يعين طالب العلم على حفظ العلم، ومثل ذلك يجوز، وأما إنشاد الشعر للشعر فلا يجوز، وهذا نهى عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه.(90/7)
النهي عن البيع والشراء وإنشاد الضالة في المسجد
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البيع والشراء في المسجد، ففي الحديث: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) أي: ادعوا على الإنسان الذي يبيع ويشتري في المسجد، وقولوا له: لا أربح الله تجارتك.
كذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تنشد الضالة في المسجد، وأن يرفع الإنسان بذلك صوته وينادي: من لقي كذا، أو أنا لقيت الشيء الفلاني، فهذا لا يجوز، فالبحث عن الضالة، أو تعريفها ليس في المسجد، وإذا أحب الإنسان أن ينشد ضالة ويرفع بذلك صوته فليخرج خارج المسجد، ولا مانع أن يقول: وجدت كذا أو لقيت كذا، أما داخل المسجد فلا، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً يفعل ذلك ويقول: من دل على الجمل الأحمر؟ فقال: لا رده الله عليك، إن المساجد لم تبن لهذا).
فهذا رجل ضاع منه جمل فرفع صوته في المسجد قائلاً: من لقي الجمل الأحمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك، ودعا عليه، وقال: (لا رده الله عليك).
إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه لا يجوز رفع الصوت في المسجد بتجارة، أو ببيع وشراء، أو بالبحث عن ضالة، فأمور الدنيا لا ينبغي الانشغال بها في المسجد، بل ينشغل فيه الإنسان بذكر الله عز وجل، والصلاة، وبالعلوم الشرعية ونحو ذلك.(90/8)
النهي عن تحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة)، أي: كأن تكون هناك حلقات يتحدثون فيها، أو حلق للعلم، فلا ينبغي أن يجلسوا قبل خطبة الجمعة متحلقين، فهذا يعلمهم القرآن والتجويد، وهذا يعلمهم التفسير وغير ذلك؛ لأنهم بذلك يسدون على الناس الأماكن في بيت الله عز وجل، فقبل خطبة الجمعة ينتظر الناس الصلاة، فمنهم من يصلي، ومنهم من يذكر الله عز وجل، ومنهم من يقرأ سورة الكهف، ومنهم من يقرأ غيرها من القرآن، ومنهم من يسبح وهكذا، فكل إنسان مشغول بشيء.
فالناس يحرصون على المجيء إلى بيت الله عز وجل في يوم الجمعة، ويزدحمون في المسجد، فلو جلس إنسان يعلم الناس قبل صلاة الجمعة في حلقة، وكل واحد أخذ حلقة في المسجد، حتى يمتلئ المسجد بالحلقات، فلن يلقى الذي يأتي من خارج المسجد مكاناً يجلس فيه، وإن قعد فلن يستطيع أن يقعد وسط الحلقة، فقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في وسط الحلقة)، وإن قعد خارج المسجد فالملائكة على أبواب المسجد يكتبون أسماء الداخلين إلى بيت الله عز وجل.
وأيضاً: فالذين يجلسون قبل خطبة الجمعة لإلقاء الدروس فإنهم يرفعون أصواتهم ويشوشون على الناس الذين يصلون، ويذكرون الله عز وجل، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
فلا ينبغي أن يكون قبل خطبة الجمعة حلق للدروس ولا لغيرها، ولكن يأتي كل إنسان بمفرده ليذكر الله أو ليصلي النافلة، أو يجلس ينتظر صلاة الجمعة، هذا الذي ينبغي أن يكون.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وقد كره بعض أصحابنا التعليم في المساجد، ورأى أنه من باب البيع، وهذا إذا كان بأجرة.(90/9)
الحفاظ على المسجد من لعب الصبيان
إن الأطفال قد يأتون إلى المسجد لكي يتعلموا العلوم، وقد كانوا في الماضي يعلمون الأطفال القرآن في المسجد، ويحفظونهم الأحاديث، فكانوا يخافون على المسجد من اللغو واللعب الذي يقوم به الأطفال، ويمنعون من ذلك.
أما إذا كان بأجرة فقد عده بعض العلماء أنه من باب الإجارة، أو من باب البيع، فقد يرفع المعلم صوته بطلب الأجرة بداخل المسجد، وهذا ممنوع منه في البيع.
قال القرطبي رحمه الله: فإذا كان بغير أجرة منع أيضاً من وجه آخر، وهو أن الصبيان لا يتحرزون عن الأقذار والوسخ، فيؤثر دخولهم المساجد على نظافتها، وقد أمرنا بتنظيفها وتطييبها، والأطفال منهم من قد يتبول في المسجد، ومنهم من يأكل ويرمي الأكل فيه، أو يقذره بحذائه، ولهذا يمنع من ذلك.
وليس معنى ذلك هو القول بمنع الأطفال من المسجد منعاً باتاً، ولكن إذا كان وجودهم يشوش على المصلين، وهناك من يؤدبهم ويعلمهم ويمنعهم من اللعب فلا بأس إذاً، وأما إذا ضاق الأمر واستمر الإزعاج، وضاعت على الناس صلاتهم، فيمنعوا من دخول المسجد، وخاصة إذا كانوا صغار السن، أو دون سن السبع السنوات بحيث يتأذى المصلون من أصواتهم ولغوهم ولعبهم؛ لأن صغار السن قد لا يأتون المسجد إلا للعب، ويمكن أن يأخذ الطفل المصحف ويقطعه، أو يشطب فيه، فإذا كان الإمام القرطبي يقول: تقذير أرض المسجد -فقط- ممنوع منه، فكيف بتقطيع المصاحف، أو الشطب فيها ونحوه؟! إذاً: إذا أتينا بالأطفال إلى المسجد فليكن في السن الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة فيه: (مروا أولادهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)، فبعد سن السبع يؤتى بالطفل إلى المسجد، بشرط أن يعلم آداب المسجد، ويحذر من اللعب مع الأطفال فيها.(90/10)
حكم المبيت في المسجد
قال القرطبي رحمه الله: وأما النوم في المسجد لمن احتاج كإنسان غريب احتاج أن يبيت في المسجد، وليس له مكان يأوي إليه فلا بأس أن يبيت فيه.
وجاء في صحيح البخاري عن أنس: (قدم رهط من عكل على النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا في الصفة).
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان ينام وهو شاب عزب لا أهل له في المسجد.
وكان ذلك قبل أن يتزوج عبد الله بن عمر، فكان يبيت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي فيه ويقوم الليل، ويجتهد في العبادة، ثم يستريح في المسجد كالمعتكف في بيت الله سبحانه وتعالى، فمثل ذلك جائز.
وجاء في صحيح البخاري عن عائشة قالت: أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب وكان لها حفش في المسجد، قالت: فكانت تأتينا فتتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها قالت: ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فهذه المرأة أسلمت وكان قومها كفاراً، ولما أسلمت هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لها مكان تنزل فيه، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، وبنى لها حفشاً، والحفش: هو عش صغير أو خيمة صغيرة في المسجد تنام فيها المرأة إذا لم يكن لها بيت، ولم يكن عند أحد مكان يسعها فتنزل فيه.
فهذه المرأة كانت تدخل على السيدة عائشة رضي الله عنها، فإذا جلست فإنها تقول: ويوم وشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فسألتها السيدة عائشة: وما يوم الوشاح؟ فقالت المرأة: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه حدية وهي تحسبه لحماً فأخذته.
أي: أن جارية قريبتها كانت تلبس وشاحاً من جلد -الوشاح لونه أحمر- فنزلت حدية وحسبته لحماً، وخطفته وطارت به، فأخذوا هذه المرأة -ظناً منهم أنها سرقت هذا الوشاح- وعذبوها وفتشوها، قالت: فبينا هم حولي وأنا في كرب إذ أقبلت الحدية -أي: وهم يعذبونها ويفتشونها ويتهمونها بالسرقة، فإذا بالحدية تأتي- ومعها الوشاح وتلقيه فوقهم، فهذا هو الأمر العجيب الذي جعل المرأة تقول هذا البيت من الشعر.
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني فقالت: قلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريء.
فهذه المرأة هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة، وليس أهل لها في المدينة، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن جعل لها عشة في مؤخرة المسجد تبيت فيها.
يقول الإمام القرطبي: من احتاج إلى ذلك -أي: إلى المبيت بمثل هذه الحاجة- فليبت في المسجد.
أما أن يتخذ المسجد كالفندق فلا، فبعضهم يذهب ليعمل في النهار، ثم يجيء بالليل لينام، لا ليصلي أو يقوم الليل أو يعتكف؛ فهذا لا ينبغي، ولم تبن المساجد لهذا، ولكن الذي يأتي إلى المسجد ويبيت فيه؛ لكي لا تفوته صلاة الفجر، فهذا إنسان بات لغرض ولعلة صحيحة، وأما أن يتخذ في المسجد مكاناً كالبيت؛ حتى لا ينزل في فندق ويدفع أجرته فهذا لا ينبغي.
والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(90/11)
تفسير سورة النور (تابع2) الآية [36]
لقد شرع الله لعباده الصلاة في المساجد، وبين أنها بيوته، وبين فضلها وفضل بُنائها، ووصف المنشغلين بذكر الله عن الملاهي والمغريات بأنهم الرجال، فالرجل الحقيقي: هو الذي يقدم حق الله على حظوظ نفسه وشهواتها، ولقد بين الله جزاء هذا العمل من إكرامه لأهله في الدنيا والآخرة، فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل.(91/1)
فضل المساجد وفضل أهلها وما يقال عند دخولها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
ذكرنا في الحديث السابق هذه الآية وهي قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36].
ففيها ذكر هذه المساجد التي عظمها الله عز وجل وقضى وأمر برفعها، وأن يذكر فيها اسمه سبحانه، وأن يسبح له فيها في الصلاة وغيرها.
قوله: (بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) الغدو: أول النهار، ومنه صلاة الغداة أي: الفجر.
والآصال: جمع أصيل وهو من الظهر إلى العشاء، فدخلت مواقيت الصلوات الخمس فيها، فكأن التسبيح يكون في جميع أوقات الصلاة في المساجد، فهؤلاء هم الرجال الذين من صفاتهم: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
فهم يأتون بيوت الله سبحانه فيصلون لله سبحانه وتعالى، ويذكرونه ويسبحونه، ويحضرون حلق الذكر، فتشهد لهم الملائكة بذلك من وقت إتيانهم من بيوتهم إلى رجوعهم إلى بيوتهم، فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون.
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا جئت بيت الله عز وجل ودخلته أن تسمي الله تعالى، وتدخل برجلك اليمنى، وتدعو ربك سبحانه أن يفتح لك أبواب رحمته.
فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي حميد -أو عن أبي أسيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك)، فداخل المسجد طالب للرحمة، والخارج من المسجد طالب لفضل الله سبحانه وتعالى، فالذي يأتي إلى بيت الله يريد المغفرة ويريد فضل الله عز وجل ورحمته، والخارج من المسجد يبحث عن رزقه عندما يرجع إلى بيته، فيسأل الله عز وجل من فضله، وأن يرزقه ويغنيه ويعفه ويعطيه من فضله سبحانه.
وقد جاء في الحديث الآخر: (إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم، وليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك).
وجاء في حديث السيدة فاطمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم! اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك).
فدخول المسجد ليس كدخول غيره، فعندما تدخل المسجد تطلب الرحمة، وعندما تخرج من المسجد تطلب الفضل من الله عز وجل، وهذه مزية لبيت الله سبحانه.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل المسجد يقول: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، ويدخل برجله اليمنى ويقول: باسم الله، اللهم صل على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)، وجاء في هذا الذكر في قوله: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وبسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم).
فيجب على المسلم أن يحفظ هذا الذكر العظيم، فإذا دخل بيت الله عز وجل قال: (أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم)، فإن الله عز وجل يعصمه من الشيطان الرجيم، (يقول الشيطان: حفظ مني سائر اليوم).
وإذا دخل صلى على النبي صلى الله عليه وسلم بأي صيغة من صيغ الصلاة عليه، ومن هذه الصيغ كما في هذه الرواية: (اللهم صل على محمد) وفي رواية: (والصلاة على رسول الله)، أو (والسلام على رسول الله) صلى الله عليه وسلم، ثم تسأل الله عز وجل من رحمته.
فالدخول إلى المسجد يكون بالرجل اليمنى، والخروج من المسجد يكون بالرجل اليسرى.(91/2)
بعض من أحكام تحية المسجد
وفي الحديث عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، وهذا أدب آخر يختص به بيت الله عز وجل، فإذا دخلت المسجد فلا تقعد حتى تصلي ركعتين تحية المسجد.
وفي حديث آخر يقول أبو قتادة: (دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فجلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟ قلت: يا رسول الله! رأيتك جالساً والناس جلوس، قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين)، فمن السنة ألا تقعد إذا دخلت بيت الله عز وجل مباشرة، بل لابد أن تفرق بين المسجد وبين غيره، فتصلي ركعتين تحية المسجد، ثم تجلس بعد ذلك.
وتحية المسجد سنة على قول جماهير أهل العلم، وذهب البعض إلى أن تحية المسجد واجبة، واحتجوا على ذلك: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة فدخل سليك الغطفاني والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس الرجل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم وأن يصلي ركعتين، وأن يتجوز فيهما)، قالوا: وسماع خطبة الجمعة واجب، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يقوم وأن يصلي ركعتين دليل على أنه سيترك الواجب، فليس من الممكن أن يترك الواجب لأجل المستحب على قولهم، فعلى ذلك يترك الواجب للواجب، فقام فصلى ركعتين تحية المسجد، فعلى ذلك تكون ركعتا تحية المسجد واجبتين، وهو قول البعض من الظاهرية، كـ داود بن علي، وأما ابن حزم فذهب إلى أنها سنة وليست فريضة، وهو الصواب.
ودليله ما جاء في حديث المعراج: قال الله عز وجل: (هن خمس في العدد وهن خمسون في الأجر، أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي)، فالصلوات المفروضات خمس من عند الله عز وجل، وهن في الأجر خمسون.
ومن الأدلة: حديث الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل علي غيرهن؟! قال: لا، إلا أن تتطوع)، فدل ذلك على أن غير الصلوات الخمس لا تكون فريضة إلا ما كانت الصلاة فيها فرض كفاية مثل: صلاة الجنازة، وأما غير الصلوات الخمس فليست بفريضة إلا أن يكون نذراً نذره الإنسان على نفسه.
وقد ذكر أهل العلم: أن تحية المسجد لو كانت واجبة لوجب على كل من دخل أن يصليها، ويلزم من ذلك عدم جواز دخول المسجد إلا على وضوء.
يقول القرطبي رحمه الله: ولا أعلم قائلاً بذلك.
وهذا الاستدلال صحيح، إذ لو كانت واجبة لما جاز لأحد أن يدخل المسجد إلا وهو متوضئ؛ لأنه يلزمه أن يصلي تحية المسجد، ولكن أهل العلم يقولون بجواز أن يكون متوضئاً أو غير متوضئ، فإن لم يكن متوضئاً جاز له أن يجلس، ولكن الأفضل فيه أن يكون على وضوء حتى يصلي ركعتين تحية المسجد.(91/3)
حكم تعارض تحية المسجد مع الخطبة في الجمعة أو السلام على الناس وأيهما يقدم
وإذا كان الخطيب يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما، حتى يدرك الخطبة ولا يضيع على نفسه واجباً، فإن ضيع بعضها فلن يضيع الكثير، ويجب عليه ألا يطيل في تحية المسجد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل ركعتين وتجوز فيهما)، فأمر بالتجوز في ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم في صلاة تحية المسجد هنا: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).
ولو أن الإنسان دخل المسجد فسمع شيئاً ينشغل به عن تحية المسجد كسماعه للأذان، فإنه يجوز له أن يصلي تحية المسجد ثم يدرك ترديد ما بقي من الأذان، والأفضل أن ينتظر حتى يردد الأذان مع المؤذن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ثم بعد ذلك يصلي تحية المسجد؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إذا سمع أحدكم المؤذن فليقل مثلما يقول، ثم يصلي علي، ثم ليسأل الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد واحد وأرجو أن أكون أنا هو)، صلوات الله وسلامه عليه.
ولو أن الإنسان دخل المسجد فهل يبدأ بالسلام على الناس أم بتحية المسجد أولاً؟ الصواب فيها: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، فنهى عن الجلوس حتى يصلي ركعتين، فيجوز له أن يسلم على الناس إذا دخل لقول الله سبحانه: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فإذا دخل الإنسان المسجد بدأ فسلم على الناس، ثم صلى ركعتي تحية المسجد، والتسليم لن يأخذ منه وقتاً، ولن يجلس ليسلم على الناس، والنهي في الأصل ليس عن التسليم وإنما النهي عن الجلوس فقط حتى يصلي ركعتين، ونحن نقول هذا الكلام لأن بعض إخواننا يسأل عن ذلك.
وأما تسمية هذه الصلاة: بتحية المسجد فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فيه كلمة تحية المسجد، أو أنه سمى هذه الصلاة: تحية المسجد، ولكنه قال: (فليصل ركعتين)، فهذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء سموها: تحية المسجد، فالشاهد: أن من قال: إنه يمنع السلام على الناس حتى يبدأ بتحية المسجد فقد أخطأ، وقد قال الله عز وجل: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا} [النور:61]، فجاء بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب مباشرة، فإذا وجدت المسلم أمامك فسلم، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على المسلمين، فإذا وجدت المسلم في طريقك أو في مسجدك أو في أي مكان فابدأه بالسلام، حتى إنه يشرع السلام إذا فرق بينك وبينه شيء من جدار أو شجرة أو نحوه، وتسلم عليه أيضاً إذا التقيتما بعد ذلك، ولا ينبغي لي أن أدخل المسجد والناس أمامي يقابلوني ثم لا أسلم على أحد حتى أصلي ركعتين وبعد ذلك أتوجه إلى الجميع بالسلام، فلم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ذلك أحد من أهل العلم، وإنما الصواب: أنه يسلم على من لقيه في المسجد أو في غيره، ثم يصلي تحية المسجد بعد ذلك.
وقد نبهنا قبل ذلك: على أنك إذا جئت والإمام يخطب ودخلت المسجد فلا بد عليك أن تصلي ركعتين ثم تجلس، ولا ينبغي أن تلقي السلام على أحد والخطيب يخطب، فالواجب عليك أن تستمع الخطبة فقط، وكلامنا هنا: هو في إلقاء السلام على الناس إذا لم يوجد ما يمنع من الكلام، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال لصاحبه: أنصت! والإمام يخطب فقد لغا).
وفي حديث آخر: (ومن لغا فلا جمعة له)، والإنسان إما أن يتكلم لحاجة أو لغير حاجة، كأن يقطع كلام الخطيب ويكلم الناس، أو يعطس الإنسان فيرفع صوته بالحمدلة، فيجيبه أحدهم بصوت مرتفع فيقول: يرحمك الله، فيرد عليه، فهذا كله لا ينبغي في أثناء الخطبة، لكن إذا عطست والخطيب يخطب فقل: الحمد لله في سرك، ولا ترفع بها صوتك، وإذا رفعت صوتك وقلت: الحمد لله، فلا ينبغي لأحد أن يشمتك إلا إذا سكت الخطيب، فيقول: يرحمك الله؛ حتى لا يكون هناك كلام في أثناء الخطبة، فإن من تكلم في أثنائها فقد لغا، ومن لغا فقد ضيع على نفسه صلاة الجمعة، لكن إذا كان الإنسان خارج المسجد فلا تحية عليه حينئذ، فلا توحد تحية للشارع مثلاً، فإذا جاء والخطيب يخطب وهو في الشارع، فليجلس في الشارع، لكن هل يجوز له أن يسلم على الناس ويرفع صوته مدِّعياً أنه في غير مسجد؟ لا؛ لأن للشارع حكم المسجد في السماع؛ لأنه يسمع الخطيب، فيلزمه أن يستمع للخطبة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.(91/4)
تفسير قوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)(91/5)
جواز الوقف والوصل في قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال)
قوله سبحانه: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] >قوله: (يُسَبِّحُ): أي: ينزه الله سبحانه وتعالى عن النقص ويقول: سبحان الله! ويسبح: أي: يصلي لله سبحانه وتعالى، ولذلك سميت صلاة النافلة بالسبحة؛ لأن الله سبحانه يسبَّح فيها.
وقوله: (يُسَبِّحُ)، فيها قراءتان، قراءة الجمهور: (يُسَبِّحُ).
وقراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم: (يُسَبَّحُ).
وإذا قرئ بقراءة ابن عامر وشعبة فالمستحسن أن يقف على رأس الآية فيقول: (يسبَّح له فيها بالغدو الآصال)، ثم يبدأ: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37]، وهنا شيء محذوف يدل عليه ما بعده.
وقوله: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، إما أنه عائد على الآية التي قبلها (فِي بُيُوتٍ)، فيكون المعنى: في بيوت رجال؛ لأن (رجال) هنا مبتدأ، و (في بيوت) الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم عليه.
أو هم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله على الابتداء والخبر.
وعلى قراءة الجمهور: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا) بالفعل المبني للمعلوم، فإنه قوله: {رِجَالٌ} [النور:37] يكون فاعلاً، وبالتالي فلا يجوز الفصل بين الفعل والفاعل، فعلى ذلك يصل بينهما فيقال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37]، فيصل الفاعل مع فعله؛ حتى لا تنقطع الجملة.(91/6)
المؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله سبحانه
قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور:37]، فذكر أن هؤلاء الرجال لا يلهيهم شيء عن ذكر الله سبحانه، وأعظم شيء يلهي الإنسان عن الذكر هو المال، وأعظم الأموال: هي التي تكون مكتسبة من التجارة.
فهؤلاء المؤمنون لا يلتهون عن ذكر الله عز وجل بتجارة ولا ببيع، وقالوا: إن التجارة هي ما يجلب من خارج البلد، والبيع: ما يكون فيما بينهم من تجارة حاضرة.
قالوا: (لا تلهيهم تجارة ولا بيع)، أي: لا شيء يجيء من الخارج، ولا شيء موجود بينهم يبيعونه.(91/7)
عظم أجر الذهاب إلى المساجد والمرابطة فيها
ووجود الإنسان المؤمن في بيت الله عز وجل فيه أجر عظيم جداً حتى ولو كان جالساً لا يصلي، فلو كان جالساً ينتظر الصلاة أو في عقب الصلاة فله أجر عظيم، بل في مشيه إلى بيت الله سبحانه الأجر العظيم، كما جاء في الأحاديث، ومنها ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه)، وهنا: أن أجر الذي يأتي إلى الصلاة المكتوبة كأجر الحاج المحرم، وليس معنى هذا أنه يغني عن الحج، ولكنه أجر يماثل أجر الحاج المحرم.
قال: (ومن خرج إلى تسبيح الضحى) أي: وقت صلاة الضحى، ليصلي ركعتين في المسجد.
قال: (لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).
فقوله: (وصلاة على إثر صلاة) أي: صليت الصبح وبعد ذلك رجعت إلى بيتك ثم جئت في صلاة الظهر بشرط ألا تلغو بين الصلاتين، أي: لا تضيع الوقت في كلام فارغ، أو أشياء تأثم عليها أو أشياء مكروهة، فإذا حفظت لسانك فيما بين الصلوات كتب لك كتاب في عليين، أي: أعلى الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وجاء في الحديث: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، ومشاء: غير معنى ماش؛ فالماشي قد يمشي مرة أو مرتين، لكن المشاء: هو المداوم على المشي، فهو يواظب على صلاة الفجر، ويواظب على صلاة العشاء في بيت الله عز وجل، فلا يمتنع من ذلك بزعم: أن الدنيا مظلمة، والجو بارد، أو الجو حار، بل يأتي بيت الله عز وجل في كل وقته، خاصة في أوقات الظلم: الفجر والعشاء، فالذي يأتي في الظلام إلى بيت الله سبحانه فليبشر بنور تام يوم القيامة، والنور التام هو عكس النور الناقص، والإنسان يوم القيامة قد يكون له نور يضيء أمامه ما يشاء الله سبحانه، وقد تكون أمامه ظلمات يوم القيامة، فالله عز وجل ينيرها لأصحابها بصلاتهم، وبإتيانهم المساجد في وقت الظلم: في الفجر وفي العشاء.
وبعض الناس يتقد له النور ويخبو مرة على قدر عمله، وعلى قدر قربه من الله عز وجل؛ ولأنه ابتعد وعصى، فيتقد له نور يرى به قليلاً ثم ينطفئ النور ويظلم عليه، ويتقد مرة أخرى وبعد ذلك يظلم عليه، لكن أهل صلاة الفجر وصلاة العشاء لهم نور تام كامل لا يخبو ولا ينطفئ، وذلك بمواظبته على الصلاة في هذين الوقتين: في العشاء وفي الفجر.
قوله: (بشر المشائين) أي: المواظبين على صلاة الفجر، (بالنور التام يوم القيامة).
وقد جاء كذلك في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح).
و (النزل): هو طعام الضيف، فتقول: فلان نازل عندي، أو: جهزت له نزله، أو: جهزت له القرى -وهو طعام الضيف- فكأن هذا الذي يغدو إلى بيت الله عز وجل في الصباح، أو يروح وقت العشي ونحوه، كالضيف لله عز وجل، فالله يجهز له في الجنة نزله وطعامه، فالله عز وجل يتفضل على زائر مساجده بأن يعطيه من فضله ورحمته في جنته.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا من فضله ومن رحمته، وأن يجعلنا من أهل عليين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(91/8)
تفسير سورة النور (تابع3) الآية [36]
إن المشي إلى المساجد له فضل عظيم، وثواب جسيم، فكل خطوة ترفع درجة، وتمحو سيئة، وكذلك المكث في المساجد له ثواب عظيم، فالمرء في صلاة إذا كانت الصلاة هي التي تحبسه في المسجد.(92/1)
فضل المشي إلى المساجد والصلاة فيها مع الجماعة
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى جعل له في الأرض بيوتاً، وهي: المساجد، وجعل عمّارها أفضل الخلق، وأقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، والذين يستحقون أن يهديهم الله عز وجل في الدنيا، وأن يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.
وجعل من هؤلاء من يحفظون كتاب الله عز وجل، وجعلهم أهله سبحانه، وبشرهم بمشيهم في الظلمات إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: رجل قلبه معلق بالمساجد) إذا خرج منها حتى يرجع إليها، فتعلقت القلوب بالمساجد، والذي يتعلق قلبه ببيت الله سبحانه وتعالى هو متعلق بالله عز وجل، فإذا كان يوم القيامة نفعه هذا التعلق ببيت الله سبحانه في أن يظله الله عز وجل في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة) وهذا ثواب عظيم من الله عز وجل لمن أتى إلى بيت الله، فكل خطوة يرفعه الله بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً: (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعاً وعشرين درجة) أي: أن صلاته في الجماعة في بيت الله سبحانه وتعالى تزيد على صلاته منفرداً في بيته أو في سوقه ببضع وعشرين درجة.
قال صلى الله عليه وسلم موضحاً: (وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، فلم يخطُ خطوة إلا رفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحسبه، والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر، اللهم تب عليه، ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، فأي فضيلة أعظم من هذه الفضائل التي ذكرت في هذه الأحاديث.
فصلاة الإنسان في جماعة تضاعف على صلاته وحده ببضع وعشرين درجة، وسبب هذه الدرجات هو أن المسلم قام بأفعالٍ كثيرة وليس مجرد الصلاة فقط، بل إنه توضأ وتطهر وأحسن وضوءه، ثم خرج يمشي من بيته إلى المسجد، فالخطوة الواحدة يرفعه الله عز وجل بها درجة، والأخرى يحط عنه بها خطيئة، وهكذا، لكن بشرط أنك لم تأت إلا للصلاة، وليس من أجل أن تقابل أحداً، أو أن لديك موعد مع إنسان، لا، ولكنك جئت لا تنهزك إلا الصلاة، ولم تدفعك وتحضك على المجيء إلى بيت الله إلا الصلاة، وحب الله سبحانه وتعالى.(92/2)
فضل الجلوس في المسجد
قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه) فمن حين أن يدخل بيت الله عز وجل فهو في صلاة حتى يخرج.
وفي هذا الحديث يخبرنا صلى الله عليه وسلم وهو يرى ما لا نرى، ويعلم ما لا نعلم، صلوات الله وسلامه عليه، حيث يقول: (والملائكة يصلون على أحدكم)، وهناك فرق بين: يصلون عليكم، وقوله: يصلون على أحدكم، فمعنى يصلون عليكم أي: على الجميع، فتكون الصلاة على جميع الموجودين، فقد ينال البعض منها الكثير وينال البعض القليل، ولا ينال البعض الآخر، ولكنه قال: (يصلون على أحدكم) أي: على كل واحد منكم، وكل واحد تختصه الملائكة بالصلاة عليه، فتدعو له، وجميع الموجودين في المسجد ينالهم الخير العظيم، وتنالهم دعوات الملائكة الكرام عليهم السلام.
قال: (يصلون على أحدكم) أي: يدعون لأحدكم، (ما دام في مجلسه الذي صلى فيه، يقولون: اللهم ارحمه، اللهم اغفر له، اللهم تب عليه) وهذه دعوات عظيمة، والواحد منا إذا وجد أحد الصالحين فإنه يقول له: ادع لي، فالملائكة هنا تدعوا للعبد دعاء مستجاباً من فضل الله وكرمه سبحانه وتعالى، ولن تخص أحداً دون الآخر، بل تدعوا للجميع واحداً واحداً، فتقول لكل واحد من القادمين إلى بيت الله عز وجل: (اللهم ارحمه) تدعو لهم بالرحمة.
(اللهم اغفر له) تدعو له بالمغفرة.
(اللهم تب عليه) تدعو له بالتوبة، فإذا كان مذنباً تاب الله عز وجل عليه، وغفر له ورحمه، وإذا تاب الله عليه وغفر له ورحمه، فقد فاز بجنة الله عز وجل ورضاه سبحانه.
فهذه الدعوات، وهذا الجزاء العظيم يناله بشرط أن يأتي إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة، أي: أنه جاء من بيته متطهراً من أجل الصلاة، ثم قيد الحصول على تلك الفضيلة بقيدين في آخر الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، فالمؤذي أذاه في كل مكان، فإذا كان في المسجد آذى نفسه بأذاه لغيره، فإذا آذى أحداً من الناس: بغيبة، أو بنميمة، أو بلمز، أو برفع صوت، أو بشتم، أو بسب، أو بأي نوع من أنواع الأذى باليد أو باللسان، فلا يستحق ذلك الجزاء العظيم، حتى وإن كان جاء للصلاة ولم ينهزه إلا الصلاة.
والقيد الآخر: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم يحدث فيه)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه، إذاً: فقوله: (ما لم يحدث فيه) أي: ما لم يبتدع في بيت الله سبحانه وتعالى.
فإذا لم يؤذ أحداً من الناس، ولم يبتدع في دين الله سبحانه وتعالى، فقد استحق هذا الأجر العظيم الذي جاء في الحديث.
وقد سئل أبو هريرة عن معنى الحدث؟ ففسره ببعض معنى الحدث، وقال: (ما لم يحدث) أي: يفسو أو يضرط، بمعنى: خروج الحدث منه، وهذا معنى صحيح أيضاً، ولكن الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه)، ولم يزد على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا تفسير من الراوي، وهو: أبو هريرة رضي الله عنه، وهو من أعلم الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه، فذكر بعض معاني الحدث، ومن ضمن الإحداث في المسجد: أن يبتدع الإنسان بدعة في دين الله، وهذا فسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد).
ومن ضمن الإحداث، بمعنى: الحدث: أن يجلس في المسجد على غير وضوء، فمن توضأ وجلس في المسجد نال من الأجر وكأنه في صلاة، وذلك من حين أن يدخل المسجد إلى أن يخرج، حتى ولو كان جالساً في سهو أو يتفكر، فإذا كان على وضوء ناله هذا الأجر كله.
فينبغي على المسلم أن ينتهز فرصة وجوده في المسجد بأن يكون على وضوء، وأن يكثر من ذكر الله سبحانه، وألا يلغو وهو في بيت الله سبحانه وتعالى.(92/3)
المكوث في المسجد أو حضور الجنازة
قال حكيم بن زريق: قيل لـ سعيد بن المسيب: أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ بمعنى: هل تفضل أن تجلس في المسجد من الصلاة إلى الصلاة، أو تترك المسجد وتخرج لحضور الجنازة؟ فقال رضي الله عنه: بل الجلوس في المسجد أحب إلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان) وأما الجالس في المسجد فإن الملائكة تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه).
فاستحضر رحمه الله أن الملائكة تدعو له وهو جالس في المسجد، وفضل أن يجلس في المسجد على أن يحضر الجنازة، وفي كل خير، فحضور الجنازة فيه أجر عظيم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد -أي: تبعها- فصلى عليه جنازة فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) أي: بشهوده الجنازة، والانتظار حتى تنزل في قبرها، فلما سمع ذلك قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
ففيه أن ابن عمر تحسر على أنه اكتفى بأن صلى على الجنازة، ولم يشهدها، أو أنه وصلها وانصرف قبل أن تنزل إلى قبرها، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
فينبغي على الإنسان أن يحرص على حضور الجنازة ما لم يمنعه عذر، فإذا خير بين أن يعتكف في المسجد وبين أن يحضر الجنازة، فهو مخير بين خيرين، وإن كان حضور الجنازة فيه خير ونفع متعد، وثوابه عظيم، كما فيه أيضاً تطيب لقلب أهل الميت، ومواساة لهم، وفيه دعاء للميت وهو في قبره بالتثبيت، وأجور كثيرة من نواح أخرى قد تزيد على وجود الإنسان في المسجد، ولكن في كل خير.(92/4)
المفاضلة بين المكوث في المسجد وحضور الجنازة
قال حكيم بن زريق: قيل لـ سعيد بن المسيب: أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ بمعنى: هل تفضل أن تجلس في المسجد من الصلاة إلى الصلاة، أو تترك المسجد وتخرج لحضور الجنازة؟ فقال رضي الله عنه: بل الجلوس في المسجد أحب إلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان) وأما الجالس في المسجد فإن الملائكة تقول: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم تب عليه).
فاستحضر رحمه الله أن الملائكة تدعو له وهو جالس في المسجد، وفضّل أن يجلس في المسجد على أن يحضر الجنازة، وفي كل خير، فحضور الجنازة فيه أجر عظيم، وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد جنازة -أي: تبعها- فصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان) أي: بشهوده الجنازة والانتظار حتى تنزل في قبرها، فلما سمع ذلك قال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
ففيه أن ابن عمر تحسر على أنه اكتفى بأن صلى على الجنازة ولم يشهدها، أو أنه شهدها وانصرف قبل أن تنزل إلى قبرها، فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة.
فينبغي على الإنسان أن يحرص على حضور الجنازة ما لم يمنعه عذر، فإذا خير بين أن يعتكف في المسجد وبين أن يحضر الجنازة فهو مخير بين خيرين، وإن كان حضور الجنازة فيه خير ونفع متعد، وثوابه عظيم، كما فيه أيضاً تطيب لقلب أهل الميت، ومواساة لهم، وفيه دعاء للميت وهو في قبره بالتثبيت، وأجور كثيرة من نواح أخرى قد تزيد على وجود الإنسان في المسجد، ولكن في كل خير.(92/5)
ذم الكلام بغير ذكر الله في المسجد
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً حلقاً، ذكْرهم) وفي رواية: (إمامهم الدنيا فلا تجالسوهم؛ فإنه ليس لله بهم حاجة)، ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، وذكر له شواهد، وصححه أو حسنه.
أي: أنهم جاءوا يتسامرون في المسجد، فيجلسون حلقاً حلقاً يتكلمون في الدنيا وليس في ذكر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (ذكْرهم أو إمامهم الدنيا) بمعنى: ما يأمونه، أي: مقصدهم وذكرهم ليس ذكر الله عز وجل، ولكن يذكرون الدنيا، فيتكلم هذا عن ما عنده في البيت، ويتكلم ذاك بما وراءه من الشغل، وهكذا، فكثير من الناس هذا حالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: (فلا تجالسوهم) أي: لا تقعدوا معهم في مثل هذه المجالس، فإذا رأيت شخصاً يحدثك عما صنع بالأمس، أو أنه ذهب إلى مكان كذا، أو بقي له عند فلان كذا، فلا تجلس معه، فإنه يحرمك من الأجر، ومن دعوة الملائكة لك.
والإنسان المؤمن يضن بعمره، ويضن بوقت العبادة أن يضيعه في كلام فارغ لا يؤجر عليه.
فإذا كنت في المسجد فاحرص ألا يلهيك أحد عن ذكر الله عز وجل، وإذا وجدت نفسك جالساً تسبح الله بعد الصلاة، وتريد أن تقرأ آية الكرسي والمعوذات، وجاء أحدهم يريد أن يتكلم معك ويشغلك فلا ترد عليه، وقل له: اصبر حتى اختم الصلاة؛ لأن كثيراً من الناس يحب أن يضيع وقته بالكلام، فإذا وجدك في الشارع، أو في المسجد تكلم معك، فاحرص على ألا تضيع وقت العبادة معه.
إن الذي يأتي ليتكلم معك في أمور الدنيا قد ضيع عليك أجراً عظيماً، فآية الكرسي التي تقرأ عقب الصلاة يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر الصلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) أي: أنك إذا صليت الفريضة، وقرأت آية الكرسي ثم مت، دخلت الجنة، فالذي يأتي ليكلمك عن أمور الدنيا في هذا الوقت فإنه يحرمك من هذا الثواب، فلا يستحق الجواب، إلى أن تختم الصلاة، وتختم بهذه الأذكار التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي على الإنسان ألا يفرط في وقته أو وقت غيره.
وكثير من الناس يقولون: إنهم مشغولون وورائهم أعمال مهمة، فيصلي مستعجلاً ويترك الأذكار، فإذا خرج وقف على باب المسجد يحدث هذا ويتكلم مع ذاك، فينشغل عن ذكر الله عز وجل، وعن التسبيح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بكلام هذا وذاك، وبأشياء له عنها مندوحة أن يتركها.
إن العمر لا يعوض، واليوم الذي يمضي من الإنسان لا يعود إليه، واليوم قد يقدر الإنسان على شيء، ولا يقدر عليه غداً، فليحرص على أن يأخذ من الدنيا أعظم ما فيها وهو ذكر الله سبحانه وتعالى وطاعته.(92/6)
من آداب المساجد
لقد جمع الإمام القرطبي حوالي خمسين عشر خصلة في تعظيم حرمة المساجد، وهي أكثر من ذلك بكثير، ولكن نذكر الملخص الذي ذكره القرطبي رحمه الله، قال من حرمة المسجد: أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، فيلقي السلام إذا دخل المسجد على أقرب الناس إليه، ولا يرفع بذلك صوته فيزعج الآخرين، ويسمع كل من في المسجد؛ لأنه لو رفع كل إنسان دخل المسجد صوته بالسلام ليتأذى الناس بذلك، خاصة وفيهم من يقرأ القرآن، أو يسبح، أو يصلي.
ولذلك قال رحمه الله: إن كان الناس جلوساً، فكأنه احتراز من إزعاج المصلين، حتى لا يشغلهم بالسلام.
ولذلك يقول جابر بن عبد الله: لا أحب أن أسلم على من يصلي، وإن سلم علي أحد رددت، أي: أنه إذا وجد أحداً يصلي لا يقول له: السلام عليكم، ولكن إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة ردّ عليه السلام، وذلك بأن يشير بيده، أو بإصبعه أنه سمع ذلك، ولكن لا يرد بالقول وإلا بطلت صلاته.
فمن آداب المسجد: أن يسلم الداخل على من فيه، فإن لم يكن في المسجد أحد فإنه يسلم كذلك؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61] أي: يسلم بعضكم على بعض، وإذا لم يكن فيه أحد من الناس فإن فيه ملائكة الله عز وجل، فإذا دخل استحب أهل العلم أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أي: أنه يسلم على نفسه، وعلى من في المسجد من ملائكة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال القرطبي رحمه الله تعالى: إن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
ومن آداب المساجد أيضاً: أن يركع ركعتين قبل أن يجلس كما ذكرنا في الحديث السابق.
قال: وألا يشتري ولا يبيع فيه، والمعنى: أنه لا يجوز أن يجري عقد الشراء والبيع أو المساومة على المبيع في المسجد، ولكن لو أن إنساناً اشترى من إنسان شيئاً خارج المسجد، وجاء هذا بالشيء إلى المسجد، وأعطاه له فقط من غير كلام آخر، فهذا جائز؛ لأنه مجرد مناولة، كأن يشتري إنسان كتاباً من آخر خارج المسجد، ثم جاء البائع وأعطاه كتابه داخل المسجد.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على من يبيع أو يشتري في المسجد فقال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك) أي: يدعون عليه.
قال رحمه الله: ومن آدابها: ألا يسل فيه سهماً ولا سيفاً، والغرض أنه لا يؤذي أحداً من المسلمين بشيء في يده، فإذا دخل المسجد ومعه حديدة، أو شيء قد يؤذي به الناس فليتجنب أن يمشي به في وسط الزحمة؛ لكي لا يخدش بحديدته أو ما معه أحداً.
قال القرطبي رحمه الله: ولا يطلب فيها ضالة، وقد ذكرنا من قبل أنه لا يجوز للإنسان أن يعرف فيه ضالة، كأن يقول: وجدت كذا، أو ضاع مني كذا، فمن أراد ذلك فليكن خارج المسجد.
قال: ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، أي: بالكلام عن أمور الدنيا، وإذا رفع صوته فليكن في درس علم أو في صلاة.
وأيضاً: لا يرفع الصوت بذكر الله عز وجل؛ حتى لا ينزعج الناس، ولذلك لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة في رمضان وهم يصلون التروايح خشي أن تفرض عليهم، فلم يصل بهم صلاة التراويح جماعة، إلا مرة أو مرتين، ولم يفعل بعد ذلك، وقال: (خشيت أن تفرض عليكم أو تكتب عليكم).
فكان الصحابة يصلون فرادى، فخرج مرة فسمعهم يصلون، وكل شخص يصلي وحده، ويرفع صوته، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: (كلكم يناجي ربه، فلا يرفع بعضكم صوته على بعض، ولا يؤذي بعضكم بعضاً) أو كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً لا يرفع في المساجد صوت بغير ذكر الله سبحانه، وكذلك إذا كان بذكر الله فلا يرفع بحيث يؤذي الناس بعضهم بعضاً، فإذا كان الناس جالسين في انتظار صلاة الجمعة فلا يرفع الإنسان صوته بقراءة القرآن؛ حتى لا يشغل الذي بجواره، بل يسمع نفسه فقط، أو يسر القراءة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة).
والجاهر بالقرآن: هو الذي يرفع صوته، والله تعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] أي: شيء حسن أن تبدي الصدقة، ولكن: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] أي: أفضل لكم، وكذلك في قراءة القرآن، فالجهر بها بين الناس شيء طيب، لكن من غير أن يتأذى بها أحد من الناس، فإذا كان في رفع الصوت بها أذى فيجب على القارئ أن يخفض صوته، ومع هذا فالإسرار بها أعظم في الأجر إذا كان بين الناس.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(92/7)
تفسير سورة النور [36 - 37]
إن أحب البقاع إلى الله تعالى هي المساجد، وقد أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وللمساجد آداب ينبغي لكل مسلم مراعاتها، وقد بين أهل العلم هذه الآداب بأدلتها من الكتاب والسنة وقواعد الشريعة ومقاصدها.(93/1)
آداب المساجد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
ذكر الإمام القرطبي في هذه الآية خصالاً في تعظيم بيوت الله سبحانه وتعالى وهي المساجد، فقال رحمه الله: قد جمع بعض العلماء في ذلك خمسة عشرة خصلة قال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري ولا يبيع، ولا يسل فيها سهماً ولا سيفاً، ولا يتخطى رقاب الناس.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن البيع والشراء في المسجد فقال: (من رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها؛ لا يعقر مسلماً) يعني: الذي يمشي في زحمة سوق أو في مسجد وفي يده شيء قد يؤذي به الناس كسيف أو سهم ونحو ذلك، فيأخذ النصل بيده حتى لا يؤذي به أحداً من الناس.
وأيضاً لا يجوز أن يطلب في المسجد ضالة كأن يقول: لقد ضاع مني الشيء الفلاني، ولكن يطلبها خارج المسجد وليس داخله، ومن وجد شيئاً فليعرفه خارج المسجد وليس في داخل المسجد.(93/2)
حرمة تخطي رقاب الناس في المسجد وإيذائهم
ومن آداب المسجد أن السابق إلى المكان أحق به، فالإنسان الذي جاء إلى الصف الأول مبكراً هو أحق بمكانه، ولا أحد ينازعه في المكان فيقيمه ويجلس مكانه؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل الرجل من مكانه ويجلس هو فيه.
وكذلك نهى عن تخطي الرقاب، فقد رأى رجلاً يتخطى الرقاب في صلاة الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة، فقطع خطبته وقال للرجل: (اجلس فقد آذيت وآنيت) أي: آذيت الناس وتأخرت عن الصلاة.
فإذا كان الناس قد ازدحموا وملئوا المكان فلا ينبغي لأحد أن يتخطى رقابهم حتى يجلس أمامهم، وهذا تجده كثيراً، فبعض الناس في وقت صلاة الجمعة والمسجد مزدحم، فيدخل متأخراً من باب المسجد فيتخطى الصفوف حتى يجلس في الصف الأول! وهذا من سوء الأدب، فقد تأخر عن المجيء إلى المسجد وجاء ليؤذي الناس، والإيذاء للمسلمين حرام، فلا يجوز لأحد أن يؤذي أحداً من المسلمين، فمن الأذى لهم أن يتخطى أحد الصفوف ويجلس بينهم فيزحمهم في صفهم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما، فلعل إنساناً يحب إنساناً آخر ويحب أن يجلس بجواره، فيأتي ثالث ويقول: وسع وسع، ويقف بين الاثنين، هذا من سوء الأدب، فالأدب أن يسلم ويستأذن فإذا أذنا له جلس، وإلا لم يجلس بينهما.
وأيضاً من الأدب في بيت الله عز وجل ألا يرفع فيه صوت بغير ذكر الله سبحانه وتعالى، ولا يتكلم في المسجد بأحاديث الدنيا.
وكذلك لا يضيق على أحد في الصف، وعلى الإنسان أن يحرص على الصف الأول، ففي الحديث: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)، ولكن ليس معنى هذا أن يزاحم الإنسان المصلين، بل يأتي مبكراً حتى يجلس في الصف الأول.
وكثيراً ما يحدث هذا الخطأ فتجد الصف ممتلئ ولا يوجد مكان لآخر، فتجد من يدخل في الصف، حتى إن بعضهم يترك له المكان ويرجع إلى الصف الثاني، فهذا أخذ مكان غيره وليس مكانه ولا يستحقه.
وأحياناً بعض الناس يضايق الآخرين في الركوع أو السجود بكوعه، فقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد فرج بين يديه، فيحاول أن يصنع ذلك في صلاة الجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك إذا كان منفرداً أو إماماً صلى الله عليه وسلم.
فعلى المصلي في الصف أن يحرص على آداب الصف، ولا يؤذي أحداً من المصلين.
وكذلك لا يرفع صوته بذكر الله عز وجل لا في الصلاة ولا في غيرها بحيث يتأذى منه الناس، فالبعض يقرأ من المصحف بصوت عالٍ، وهذا خطأ، فعليه أن يخفض صوته ويسمع نفسه فقط، وإذا كان المسجد فارغاً فليرفع صوته إذا شاء: (والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة) كما في الحديث.
وكثير من الناس يرفع صوته حتى في الصلاة، فيسمع الناس قراءته وتسبيحه ودعاءه، ويؤذي من بجواره.
عليك أن تقبل على الصلاة نشيطاً فرحاً بأنك تصلي كما في الحديث: (أرحنا بها يا بلال)، لكن لا ترفع صوتك فيها فتؤذي أحداً من الناس.
وبعض الناس في الصلاة يقرأ الفاتحة سراً حتى يصل إلى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] فيرفع صوته، فيزعج الذين بجواره.
وبعض الناس يظهر تعبه في الصلاة كالكسلان، فأنت تصلي بين يدي الله عز وجل، وفي الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فالله عز وجل لا يمنع عنك ثوابه حتى تمتنع أنت من طاعته سبحانه وتعالى، ومن ذكره سبحانه، فاحرص على إتقان الصلاة وإحسانها، فقف فيها بجد وبنشاط فإنك بين يدي الله عز وجل، وأري ربك أنك تعبده عبادةً حقيقة لا عبادةً فيها ملل.
ومن الآداب: ألا يمر أحد بين يدي مصلي، فإذا كان إنسان يصلي وجعل أمامه سترة فامش من وراء السترة.
والسترة للمصلي مشروعة، وبعض الناس يصلي في آخر المسجد بلا سترة، فيوقع الناس في الحرج عند الخروج والبحث عن أحذيتهم.
فاحرص إذا كنت مسبوقاً أن تصلي إلى سترة، وإذا لم تجد سترة أمامك فتقدم ودع غيرك يمر من ورائك.(93/3)
تنزيه المسجد من النجاسات والقاذورات واللعب وكلام الدنيا
ومن الآداب: ألا يبصق ولا يتنخم ولا يتمخط في بيت الله سبحانه وتعالى، إلا إذا كان محتاجاً إلى ذلك فيخرج منديلاً ويتفل في منديله بطريقة مهذبة بحيث لا يؤذي من بجواره من الناس.
ولا يفرقع أصابعه في الصلاة، ولا يعبث بشيء من جسده، فهذا ليس من أدب الصلاة.
وكذلك ينزه المسجد عن النجاسات وعن الصبيان والمجانين، فمن كان على ثيابه نجاسة قد يلوث بها الأرض.
فليجتنب دخول بيت الله عز وجل حتى يزيل النجاسة.
ويجنب دخول المسجد الصبيان الذين لا يعقلون، فقد يجري ويلعب في المسجد، ويرفع صوته ويؤذي الناس، فمثل هذا ينزه المسجد عن إدخاله فيه، والذي يؤتى به إلى المسجد هو من كان في سن يصلى فيها وذلك بعد سبع سنوات، ويكون معلوماً من حاله أنه يعرف أن يصلي، وإذا قيل له: اسكت يسكت، وبعض الناس عنده سفاهة غريبة جداً، فهو يعلم أن ابنه قليل الأدب يلعب في المسجد، فإذا قيل له: يا أخي اتق الله لماذا أتيت به؟ فيقول: ما هو دليلك يا أخي؟! يعني الذي عمله ابنه في المسجد من سوء الأدب غير مهم عنده، لكن أنت ما هو دليلك على أنك تمنعه؟! وقد ذكرنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره على حرمة ذلك، فالمساجد لها حرمة، فلا يجوز الإتيان إلى المسجد بالصبيان المعروفين بأذى الناس واللعب لا للصلاة ولا لغيرها، لكن الذي يؤتى به لبيت الله عز وجل من يصلي ويتأدب، وإذا أمر أن يسكت سكت.
وكذلك المجنون لا يمكَّن من دخول المسجد، فهو غير مكلف أصلاً حتى يدخل بيت الله، وإنما يخرج من بيت الله سبحانه حتى يستطيع الناس أن يصلوا، فالمسجد ليس مكاناً للمجانين ولكنه بيت الله سبحانه.
وإذا علم من حال إنسان أنه يأتيه حالات جنون فمثل هذا يمنعه أهله من المجيء للمسجد حتى يزول عنه ذلك.
أيضاً: من حرمة المساجد عدم إقامة الحدود فيها من جلد ونحوه؛ لأنه الذي يقام عليه الحد سيصرخ ويصيح، وليس المسجد مكاناً لذلك، وإذا كان حد القتل فسيلوث المسجد بدمائه.
ومن الآداب: أن يكثر من ذكر الله تعالى ولا يغفل عن ذكره سبحانه، ولا ينشغل بكلام الدنيا، فهذا بيت الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يعظم، فعلى المرء أن يجلس في بيت الله لطاعة الله وليس لإزعاج المصلين، فكل مصل منشغل بصلاته، ويكفيه الوساوس التي تأتيه وهو في الصلاة يسرح فيها، فلا تزدها عليه بكلامك ورفع صوتك وكأنك تنفر الناس عن الصلاة.(93/4)
عدم اتخاذ المساجد طرقاً والحرص على نظافتها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلاً، فيقال: لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقاً، وأن يظهر موت الفجأة) رواه الدارقطني، وقال الألباني: حديث حسن.
قوله: (أن يرى الهلال قبلاً) قبلا: بفتحتين، ومعناه أنه يرى الهلال كبيراً، والهلال في أول ليلة من الشهر يرى صغيراً جداً ولا يكاد يراه إلا القليل من الناس، ويختفي سريعاً، ولكن من علامات الساعة أنه يكبر في أول ليلة من الشهر، فيظن الناس أنه قد طلع قبل تلك الليلة ولم ينتبهوا له! قال: (وأن تتخذ المساجد طرقاً) هذا من أشراط الساعة، فالمسجد يكون طريقاً للناس، فيدخل الرجل المسجد ليمر منه ولا يصلي، وإنما يدخل لحاجة وينصرف، وكأن المسجد شارع وليس هو بيت الله سبحانه! قال: (وأن يظهر موت الفجأة) يعني: يكون الرجل قاعداً صحيحاً وفجأة يموت، وهذا يحدث كثيراً، ومن الماضي كان يحدث ولكن يكون في آخر الدنيا موت أكثر الناس كذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (موت الفجأة أخذة أسف).
وهذا للإنسان الفاجر يعني: أن الله عز وجل يعاجله بالعقوبة ولا يعطيه فرصة ليتوب إليه سبحانه، وقد كان الصحابة يفرحون إذا مرض الإنسان قبل أن يموت، ويحبون أن يمرض شهراً أو شهرين أو أكثر من ذلك أو أقل؛ لأن المرض كفارة، فيكفر المرض من ذنوب الإنسان، فإذا مات بعد ذلك لعله يموت مغفوراً له، فإذا غضب الله على عبد فإنه لا يترك له فرصة ليتوب، ويأخذه فجأة، قال الله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24]، وفي الحديث: (إن الله يملي للفاجر حتى إذا أخذه لم يفلته) أي: يتركه يعلو ويعلو ويعلو وفجأة يأخذه فلا يفلته، يقبضه الله عز وجل ليعذبه على جميع ذنوبه، ولا يجعل له شيئاً من الكفارات، فمن أشراط الساعة أن يكثر شرار الخلق، فيكثر فيهم موت الفجأة.
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)، وهذا إذا كانت أرض المسجد تراباً، فإذا كان المسجد مفروشاً بسجاد فلا يحل لأحد أن يبصق عليه، فإذا فعل وجب عليه أن يطهر ذلك المكان من أثر ذلك.
وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم قال: (عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق)، فإماطة الأذى من محاسن أعمال هذه الأمة عند الله عز وجل، فقد تكون هناك قشرة موزة قد يتزحلق بها أحد فأماطها وأبعدها عن الطريق، فله أجر، أو وجد أذىً يؤذي الناس فأزاله عن الطريق، أو وجد مجاري تخرج إلى الشارع فأصلحها، فإنه يؤجر على ذلك.
فمن الحسنات أن تميط الأذى عن الطريق، وقد صار الناس يأنفون من ذلك، بل وانقلب الحال، فصار الناس بدل أن يميطوا الأذى عن الطريق يضعون الأذى في الطريق، فيضع الزبالة في الطريق مع وجود صناديق القمامة، وبعضهم يرميه أمام الجيران، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن).
فمن مساوئ الأعمال تقذير بيت الله سبحانه، فعلى المسلم أن يحرص على نظافة بيت الله سبحانه وتعالى، فقد كانت امرأة تقم وتكنس المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فافتقدها النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسأل عنها، فقالوا: ماتت بالليل فدفناها، فقال: (هلا آذنتموني؟)، يعني: هلا أخبرتموني بموتها، وهذا لفضيلتها، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى قبرها فصلى عليها هنالك بعدما دفنت المرأة؛ لأنها كانت تكنس المسجد وتزيل الأذى من المسجد، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم لها فضيلتها فذهب فصلى عليها عند قبرها، وقال: (إن هذه القبور ممتلئة ظلمة على أصحابها، وإن صلاتي عليهم تنور قبورهم).
قوله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] وخص الرجال بالذكر، والمعنى: هم رجال ليسوا كغيرهم من الرجال، كذلك قال الإمام القرطبي هنا، وتخصيصهم بالذكر دليل على أن النساء لا حظ لهن في ذلك، فالمرأة صلاتها في البيت وليس في المسجد، فإذا جاءت المسجد لحاجة فهذا حسن، كأن تأتي لسماع درس علم أو نحوه ما لم تفتن أو تفتن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن، وليخرجن وهن تفلات).
وقد جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها) يعني: كلما صلت المرأة في المكان البعيد عن أن يراها الناس كان هذا أفضل لها، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فإنه نبه على أن البيوت خير للمرأة من المساجد إلا أن تحتاج المرأة لشيء في المسجد فيجوز لها أن تذهب إلى المسجد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(93/5)
تفسير سورة النور [36 - 39]
ذكر الله تعالى صنفاً من عباده يتميزون عن غيرهم من اللاهثين وراء الدنيا والغافلين عنها بأنهم يسبحون الله تعالى ليل نهار في الغدو والآصال، فلا يلهيهم تصرفهم في قضاء حوائجهم ومعاشهم من تجارة وبيع عن ذكر ربهم، أو عن إقامة صلاتهم، أو أداء حق الله الواجب في أموالهم؛ لأنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فالمولى الكريم سيجزيهم أحسن ما عملوا، ويبدلهم بعد خوفهم أمناً.
وأما الكافرون فلا ينفعهم ما عملوه في الدنيا، بل يكون حالهم كالعطشان في الصحراء يرى السراب فيظنه ماءً، فإذا جاءه لم يجده شيئاً.(94/1)
تفسير قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع والله يرزق من يشاء بغير حساب)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:36 - 39].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات رجالاً لا تلهيهم التجارة والبيع عن المجيء إلى بيوت الله سبحانه، ولا تشغلهم الدنيا عن رحمة رب العالمين، ولا عن حب الله وطاعته سبحانه.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور:36] أي: في الصباح والمساء، ففي كل وقت يسبحون الله سبحانه ويصلون طائعين، فهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
فالمؤمنون الصالحون الذين يعرفون حق الله سبحانه وتعالى يعبدونه ولا يشركون به شيئاً، فأقبلوا بقلوبهم ووجوههم عليه، وأتوا إلى المساجد حين سمعوا النداء، وحرصوا على صلاة الجماعة، وتعلقت قلوبهم بالمساجد فلا تلهيهم تجارة ولا بيع.
ولعل المقصود بالتجارة التي تقدم عليهم من خارج البلد، والبيع: التجارة الحاضرة التي بينهم.
فلا يلهيهم الشيء البعيد الذي يتشوق الناس إليه، وينتظرونه، ولا الشيء القريب الذي هو في متناول أيديهم شغلهم عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فهم في ذكر لله سبحانه وتعالى دائماً، فإن كانوا في تجاراتهم فهم في ذكر لله.
وقد اختلف العلماء في قوله سبحانه: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاة} [النور:37] فقال بعضهم: (عن ذكر الله) يعني: الأذان، فكأنهم يسمعون الأذان ويرددونه، ويأتون إلى المساجد حين يسمعون النداء.
وقيل: حضور الصلاة.
وقال ابن عباس: عن الصلاة المكتوبة.
وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، فيوحدونه ويمجدونه بها.
وقيل: نزلت في أهل الأسواق، قال سالم: جاز عبد الله بن عمر رضي الله عنه في السوق وقد أغلق الناس حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة، فقال فيهم نزلت: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].
والغرض: أن ذكر الله أعم من أن يكون الصلاة أو غيرها، فذكر الله سبحانه في قلب الإنسان المؤمن، وعلى لسانه في كل حين، فلا ينشغل عن الذكر وهو يبيع؛ لأن ذكر الله عز وجل في قلبه وفي عقله، فهو يخاف من الله ولا ينساه أبداً، فلا يغش في بيعه، ولا يخون، ولا يطفف في الكيل، ولا في الميزان، ولا يخدع، ولا يدلس ولا يغبن، ولا يفعل فعلاً يسخط الله عز وجل عليه، فهو بذلك ذاكر لله لا ينساه: لا في بيعه، ولا في تجارته، ولا في مشيه، ولا في بيته ليل نهار.
وهذا الإنسان المؤمن يلهمه الله عز وجل ذكره، فإذا به يستمتع به، فإذا أكل قال: بسم الله، وإذا دخل بيته قال: بسم الله، وإذا مشى وهو في الطريق سمى الله سبحانه، ويذكر الله عز وجل في أبسط ما يكون من ذكر الله، فكيف إذا قرأ كتاب الله سبحانه، وذكر الله بكلام الله سبحانه؟! وكذلك لا ينشغل عن إقام الصلاة، فيحضرها عند إقامتها، ويحرص على تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، ويحرص الصف الأول.
فإذا صلى أقام صلاته فأحسنها ولم يسئ فيها، ولم ينقرها نقر الغراب، ولم يصل صلاة الإنسان المتلهف على الدنيا، المسرع إليها المفرط في الصلاة.
كذلك لا يلهيه البيع ولا التجارة عن إيتاء الزكاة، وكم من إنسان يكون معه مال، ويخاف إن أخرج الصدقة أن ينقص المال، فيبخل ويشح ويضل، فإذا أتى عليه وقت الزكاة بدأ يفكر هل يخرج الزكاة دفعة واحدة أو على دفعات وأقساط؟! وكأنه يشح ويظن على ربه سبحانه، وكأنه يستكثر أن يعطي الفقير المال جملة واحدة، وقد يخشى إن أعطاها الفقير أن تضيع منه!! فيقال لمن هذا حاله: أنت لم ترسل حافظاً على الفقير، ولا حسيباً عليه، ولكن الله عز وجل أمرك أن تخرج زكاة مالك في وقتها.
لكن لو أن إنساناً أخرج جزءاً قبل وقته لحاجة الناس، فلا مانع من ذلك، وأما إذا جاء وقت الزكاة فصار عليك إخراجها فرضاً، فإذا أخرتها صارت ديناً عليك، فإذا قسطته شيئاً فشيئاً كان ديناً عليك تسدده بالتقسيط، ولا تدري لعلك تموت قبل تسديده كاملاً ولا يخرج ما بقي عنك أحد، فيضيع عليك الأجر في الدنيا، وعليك الوزر في الآخرة؛ لأنك منعت زكاة المال.
فهؤلاء لا يلهيهم البيع، ولا تلهيهم التجارة عن ذكر الله، ولا عن إقام الصلاة، ولا عن إيتاء الزكاة، فيفعلون كل ذلك مخافة الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] أي: يخافون يوماً عظيماً خطيراً، ونكّره الله سبحانه وتعالى معظماً لشأنه، والتقدير: يخافون يوماً وأي يوم يكون هذا اليوم؟ إنه يوم عظيم.
{يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] أي: الشر فيه منتشر وعظيم، وشر هذا اليوم ما يكون فيه من عذاب وأهوال.
وفي هذا اليوم يقوم الناس خمسين ألف سنة ينتظرون أن ينتهي بهم هذا الموقف إما إلى الجنة، وإما إلى نار.
ومن شدته يقول بعض الناس: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، ويظنون أن النار أهون عليهم من هذا الموقف، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37] أي: تتحول قلوب الناس عن أماكنها، وهذه الآية مثل قوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر:18] فالكفار يوم القيامة لا يطمئنون أبداً فهم في غاية الفزع، وقد كانوا في الدنيا مطمئنين وهم يعصون، ولك أن تتخيل إنساناً في شدة الفزع يقول: قلبي، وهذا في فزع الدنيا وهو فزع خفيف، وأما فزع يوم القيامة فلا نجاة منه، بل تتحول فيه القلوب عن أماكنها.
وكذلك تتقلب وتتحول فيه الأبصار، فإذا ببعضهم قد ازرقّت أبصارهم، قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] أي: عيونهم زرقاء وألوانهم سوداء، وذلك أقبح ما يكون في الإنسان.
وكذلك تعمى أبصارهم يوم القيامة والعياذ بالله.
وكذلك تتحير الأبصار فتصير عينا الإنسان المفزوع زائغتين، فتتقلب شمالاً ويميناً يبحث عن منجى وملجأ فلا يجد ملجأً، ولا منجىً من الله إلا إليه.
وإذا دخلوا النار تقلبت قلوبهم وأبصارهم في نار جهنم.
وأما المؤمنون فيعصمهم الله سبحانه وتعالى وينجيهم، نسأل الله العصمة والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
قال تعالى: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، فالمؤمن يجزيه الله سبحانه أفضل ما عمل.
وأصل الجزاء يوم القيامة أن يكون على الإحسان في الدنيا وعلى الإساءة، لكن لأنهم كانوا مؤمنين، واجتنبوا كبائر الذنوب، غفر الله لهم صغائر ذنوبهم وتجاوز عنها، قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31].
بل يبدل سيئاتهم حسنات من فضله وكرمه سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:38]، وهذا كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالزيادة النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38] فلا أحد يطلب من الله عز وجل شيئاً وهو مخلص لرب العالمين سبحانه، راجٍ له إلا أعطاه الله سبحانه.
فالله هو الغني بذاته، فيرزق من يشاء في الدنيا وفي الآخرة ولا أحد يجبر الله عز وجل أن يعطيه شيئاً، وإذا أراد أن يضيق على أحد فلا أحد يغالبه سبحانه.
فهو يعطي من يشاء على الحسنة عشر أمثالها، وعلى الحسنة مائة مثل أو سبعمائة مثل، أو بغير حساب، أي: من غير عد.
وقوله تعالى: (بغير حساب) لها معنيان: الأول: بغير خوف أن ينفد ما عنده؛ فإن خزائنه ملآى لا تغيظ أبداً.
والثاني: أن يرزق عبده بغير أن يحاسبه، والله يفعل ما يشاء، وقد يدخل أناساً من المؤمنين جنته من غير أن يحاسبهم على شيء، بل يغفر لهم ويدخلهم جنته بفضله ورحمته.(94/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)
أما الكفار فذكر أمرهم وحالهم ومآلهم، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
فالكفار عملوا أعمالاً في الدنيا ظنوا أنها نافعتهم، فلما أتوا يوم القيامة صارت هباءً منثوراً، قال الله سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وقد يفعل الكافر في الدنيا الأعمال الصالحة، فقد يحسن إلى جاره، وقد يفعل الخير، وقد يتصدق بصدقة، ولكن ذلك لا يقبل منه، إنما يوفيه الله به في الدنيا، ولا يدخر له شيئاً يوم القيامة.
فإذا جاء الكافر يوم القيامة جعل الله عمله هباءً منثوراً، والهباء هو ما يراه الإنسان في شعاع الشمس وهي داخلة من الكوة، وكذلك عمل الكافر يكون هباءً منثوراً لا قيمة له في يوم القيامة.
وذلك أن العمل لكي يكون مقبولا لا بد فيه من شرطين: الأول: الإخلاص، وهو أن يعمله لله وحده لا شريك له.
والثاني: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فهذان شرطان لقبول العمل؛ فإذا أتى الإنسان بالعمل الخالص لله المتابع للنبي صلى الله عليه وسلم فيه قبله الله.
وأما الكافر: فقد امتنع أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عمل عملاً أشرك بالله فيه وعبد غيره، فالله أغنى الشركاء عن الشرك، فجعل أعمالهم التي عملوها وظنوا أنهم ينتفعون بها يوم القيامة كالسراب.
والسراب هو: الشيء الذي تراه في وقت الظهيرة في الصحراء المنبسطة أمامك كأنه ماء، فمن شدة الحر يسخن الهواء ثم تنعكس الأشعة، فتظن أن الأشعة المنعكسة فوق الأرض ماءً وليست ماءً.
والإنسان العطشان في الصحراء يجري وراء هذا السراب يظنه ماءً؛ فإذا وصل إلى مكانه لم يجده شيئاً، فكذلك الإنسان الكافر.
فقد كان في الدنيا يعمل أعمالاً يظن أنه يتقرب بها، وأنها صالحة، وأنها تنفعه، وقد رفض أن يتابع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يؤمن به، وأن يدخل في هذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده ولم يرض لهم غيره.
فلما رفض إذا بالله سبحانه لا يقبل منه عملاً، فقدموا يوم القيامة وأعمالهم كسراب بقيعة.
والقيعة والقاع: المنبسط من الأرض الصحراء، قال تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39] أي: أن هذا الإنسان الظمآن الذي يكون في الصحراء يشتهي شُرْب الماء، فإذا رأى السراب جرى إليه ولهث حتى يصل فلا يجد شيئاً؛ وكذلك هذا الكافر يوم القيامة يظن أنه ينتفع بعمله فلا يقبل منه شي.(94/3)
القراءات في قوله تعالى (يحسبه الظمآن)
وفي قوله تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39] قراءتان: قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وخلف: (يحسَبه) بفتح السين.
وقراءة باقي القراء: (يحسِبه الظمآن) بكسر السين.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39] أي: إذا وصل إليه لم يجده شيئاً.
وانتقل إلى يوم القيامة فقال: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39]، فكأن الظمآن حين يصل إلى الذي ظنه ماءً ولم يجد شيئاً سيموت من شدة العطش، والكافر يوم القيامة يقدم ويظن أن ينتفع بعمله، فإذا جاءه ضاع منه هذا العمل، ووجد الله عنده؛ ليوفيه حسابه، والله له بالمرصاد، فيأخذه ويحاسبه الجزاء الوافي، والله سريع الحساب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(94/4)
تفسير سورة النور [39 - 40]
يضرب الله تعالى مثلاً رائعاً لمآل أعمال الكافرين في الآخرة برجل مسافر انقطع عنه الماء، واشتدت عليه حرارة الجو، ولا أنيس له ولا سمير في الصحراء القاحلة، فيلوح له من بُعد سراب لامع، فيحسبه ماء، فيهرع إليه وإذا به ينصدم، فبعد أن يجهد نفسه ويزداد عطشه لشدة جريه يجد أن ذلك سراباً فلا ينتفع به، وكذلك أعمال الكافرين، فهم يظنون أنها تنفعهم، فيجعلها الله سبحانه يوم القيامة هباءً منثوراً.(95/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآيات أمْر المساجد وأن هذه المساجد يوجد فيها المؤمنون الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، ويخلصون له، والذين ينير الله عز وجل قلوبهم بحفظ كتابه سبحانه، وبكثرة تسبيحهم وصلاتهم في بيوت الله، ثم ذكر المؤمنين وذكر شيئاً من أعمالهم وذكر جزاءهم.
ثم انتقل لذكر الكافرين كيف تكون أعمالهم وكيف يكون جزاؤهم عند الله تبارك وتعالى، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فالكافر مهما عمل من خير فإنما يجزى عليه في الدنيا فقط.
وأما عند الله يوم القيامة فلا أجر له ولا ثواب؛ لأن الأجر والثواب عند الله مرتبط بإيمان العبد، وشرط الثواب على العمل أن تعمله خالصاً لله سبحانه وتعالى، فليس فيه ريا ولا شرك.
فهؤلاء الكفار عملوا أعمالاً هي شرك بالله تبارك وتعالى، وتقربوا إلى غير الله، أو عملوا أعمالاً ابتغوا بها الخير لغيرهم، ولكن أصل الإيمان ليس في قلوبهم، فقد كفروا وجحدوا ربهم، وكذبوا رسل رب العالمين، ثم عملوا أعمالاً فلن تقبل منهم؛ لأن شرط القبول: الإيمان والتصديق والدخول في هذا الدين العظيم، فإذا رفضوا كلام رب العالمين، وكذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تصدقوا أو عملوا أعمالاً صالحة في الظاهر فهذه لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، فإذا جاءوا يوم القيامة اغتروا بأعمالهم، وظنوا أن لهم أعمالاً مقبولة عند الله سبحانه، فلما قدموا وجدوا هذه الأعمال هباء منثوراً، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: كالذرات المتناثرة التي تراها في الكوة إثر دخول الشمس منها، فكذلك أعمالهم لا يؤجرون عليها.
وهنا ضرب الله ومثلاً آخر يتبين منه عدم قبول أعمال هؤلاء وكيف يكون شأنها، وكيف يتحسرون عليها يوم القيامة، فيقولون: يا ليتنا عملنا هذه الأعمال مع تصديقنا بالله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39] مبتدأ، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، مبتدأ ثانٍ وخبر، والجملة خبر للمبتدأ الأول، أو {أَعْمَالُهُمْ} [النور:39]، بدل من {الَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39].
قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، وهو هذا الشيء اللامع البعيد الذي تراه في وقت الظهيرة وأنت تمشي في صحراء واسعة منبسطة في شدة الحر، فتنزل الحرارة وتبخر الأبخرة الموجودة في طبقات الهواء مع تمدد أشياء منها، فتنكسر عليها أشعة الشمس فتراها كأنها ماء أمامك، فمثل عمل الكافر كإنسان يمشي في صحراء في غاية العطش، فوجد أمامه قاعاً منبسطاً فظن أن فيه ماء وهو سراب في وقت شدة الظهيرة، فجرى تجاه هذا الماء يريد أن يشرب منه، فلما وصل بعد تعب لم يجد ماء ولا شيئاً، ولكن وجد سراباً لامعاً كالماء وليس ماء حقيقة.
قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فغير الظمآن في هذا المكان ليس محتاجاً للماء ولكن الظمآن في غاية العطش هو الذي يكون في غاية الاشتياق أن يصل إلى هذا الماء ليشرب منه، وكذلك الكافر يوم القيامة ينتظر عملاً ينجيه وينقذه مما هو فيه، فإذا به يتذكر الأعمال الصالحة التي عملها، فلما ظن أنه ينتفع بها إذا بالله عز وجل لا يقبل منها شيئاً.
قال هنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، لما جاء يوم القيامة ولم يقبل منه هذا العمل وجد الله هناك عز وجل ليسأله ويجازيه على كفره وجحوده وتكذيبه، فكما لم يجد صاحب السراب العطشان ماء، كذلك هؤلاء يوم القيامة لم يجدوا ثواباً على أعمالهم بل قد أحبطها كفرهم فلم يجدوا شيئاً.
قال تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] أي: وجد الله له بالمرصاد، أو وجد جزاء الله سبحانه وتعالى له على كفره عند حشره، قال: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] أي: أعطاه العقوبة الوافية جزاءً بما قدم من كفر قال: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فيحاسب الخلق جميعهم لا يشغله شيء عن شيء يوم القيامة، فيوفي للمؤمنين جزاءهم بالحسنى، ويوفي الكافرين جزاءهم وعقوبتهم على ما فرطوا وما قدموا من أعمال سيئة.(95/2)
تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي)
وهذا مثال آخر قال سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40]، إذاً: فالكفار أعمالهم مثلها الله عز وجل لنا بهذين المثلين: بمثل السراب، أي: أنها لا شيء، وبمثل الظلمات، فقال: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40]، فأعمالهم مع كفرهم لا نجاح فيها ولا قبول لها، بل هم في ظلمات الكفر والشك والحيرة، وفي ظلمات المعاصي في الدنيا وكذلك يوم القيامة، فيمثِّل لهم هذه الأعمال وهم في حيرة وشك وفي كفر.
وانظر إلى هذه الصورة قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ} [النور:40]، فهذه الظلمات في بحر شديد غوره وعميق جداً، وليس في أي بحر، ولكن قال: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [النور:40] أي: في بحر عميق بعيد غوره بعيد قاعه يغشى هذا البحر {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:40].
وهنا في هذه الآية يذكر الله عز وجل موجاً فوقه موج آخر، وقد كانوا في الماضي يقولون: موج من فوقه موج، أي: من ورائه موج.
إذاً: موج عالٍ وراءه موج عالٍ مثلما ترى البحر عندما يكون مرتفعاً عالياً، فتأتي موجة تلو الأخرى، فكانوا يقولون ذلك، ولكن مع تقدم علوم البحار ونزول الناس بآلاتهم إلى أعماق البحار وجدوا تطبيقاً حقيقياً لهذه الآية، وأنه {مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، وليس موج، من وراءه موج فقالوا: هذا لا يكون إلا في البحر العميق.
قالوا: وهذه من معجزات كتاب رب العالمين سبحانه التي تبين أنه جاء من عند رب العالمين، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم ينزل بحراً قط، ولو كان عند بحر فإنه يكون بحراً سطحياً، وأما البحر العميق فلا، لا هو ولا أحد من أصحابه أبداً نزلوا بحراً عميقاً، ومن يقدر على ذلك؟! قالوا: أقل أعماق الموج الداخلي في البحر مائتا متر من سطح البحر، قالوا: ويكون موجاً داخلياً في البحار العميقة جداً كالمحيطات، فتكون أمواج مختلفة جداً في العمق الذي لا يقدر الإنسان أن يصل إليها في الغطس في البحر، وأكبر مسافة ينزل إليها الإنسان ولا يؤذى بنزوله إليها حوالي ثلاثين متراً أو سبعة وثلاثين متراً، فهذه أقصى مسافة يقدر الإنسان أن يصل إليها من غير آلات ولا شيء.
وإذا نزل أكثر من ذلك فإنه يزيد عليه ضغط الماء فتتحول الغازات الموجودة في دماغ الإنسان كغاز النيتروجين مع شدة الضغط إلى سائل، فإذا خرج وخف الضغط رجع إلى غاز، فيفور دماغه ويموت.
لذلك فهؤلاء الذين ينزلون أقصى من ذلك لا بد أن تكون معهم آلات حتى لا يحدث لهم ذلك، وإذا أرادوا الصعود لا يصعد مرة واحدة، ولكن يصعد مسافة قليلة وينتظر فترة طويلة، ومن ثم يطلع مسافة ثانية وينتظر فترة طويلة، ويحتاج أن تكون معه أنبوبة أكسجين من أجل أن يتنفس، والغواص يعلمونه ذلك حتى لا يصاب بأذى.
فهنا الآية تخبر عن هذا الموج الذي تحت أعماق مائتي متر عن سطح الماء أنه موج وفيه ظلمة، وهذا فعلاً هو الحاصل، فالمكان الذي فيه الموج الداخلي في أعماق المحيطات لا تجد شيئاً من النور، ولذلك الكائنات الحية التي في هذا المكان لها خصائص أخرى غير الكائنات التي فوق السطح القريبة من الناس، فتجد أن بعض الأسماك ليس لها عيون أصلاً؛ لأنها ليست محتاجة للرؤية بداخل هذه الأعماق المظلمة.
فالله عز وجل يخبر عن هذه الأعماق أنها ظلمات، فإذا نزلت تسبح في البحر مترين مثلاً تجد أشعة الشمس غير منكسرة، فترى ما حولك، ثم تنزل تحت جداً فتجد الظلمة بالداخل التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور:40]، وليس هذا في أي بحر، وإنما هو البحر العميق {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور:40]، وهو موج داخلي قال: {مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ} [النور:40]، وهو موج سطحي، فيقولون: هذا الموج السطحي مع حركة الماء يكسر أشعة الشمس، ولذلك عندما تصنع شيئاً داخل الماء ومن ثم تحرك الماء فوقه فإنك لا ترى هذا الشيء الداخلي؛ لانكسار الأشعة، فهذا الموج الداخلي في ظلمة.
ثم قال: {مِنْ فَوْقِهِ سحاب} [النور:40] إذاً: فوق ذلك سحاب أيضاً فاليوم شاتي والسماء مظلمة وفي سطح البحر موج عالٍ، وداخله موج آخر، قال تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، فالذي في مثل هذا المكان العميق في الماء وفي مثل هذه الظلمة ظلمة السحاب، وظلمة السماء، وظلمة الليل، وظلمة قاع البحر، إذا أخرج يده لا يكاد يراها.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، إذاً: هذه الظلمات نطبقها على حال الإنسان الكافر فهو في ظلمة كفره، وفي ظلمة حيرته وتخبطه، وفي ظلمة شكه في قلبه، فلا يطمئن الكافر أبداً، فمهما ظهر أمام الناس أنه مطمئن، وأنه ساكن، ولكن قلبه ممتلئ حيرةً بخلاف الإنسان المؤمن.
والإنسان المؤمن وإن تكالبت عليه مصائب الدنيا، فهو مطمئن بالله سبحانه وتعالى، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتطمئن القلوب بذكر الله والركون إليه؛ قال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فالمؤمن يعرف ربه، ويعرف مصيره وأنه راجع إلى الله؛ لذلك إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذه كلمة عظيمة يستحق عليها الإنسان المؤمن الثواب العظيم، فإذا قال: إنا لله في وقت المصيبة ووقت البلاء يعني: ماذا حصل: أخذت مني الدنيا أو أخذ مني شيء منها، فأنا كلي لله سبحانه وتعالى، وأمري راجع إلى الله، فهو مطمئن بالله سبحانه.(95/3)
القراءات في قوله تعالى: (من فوقه سحاب ظلمات)
وأما الكفار فهم في ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
وفي قوله: {مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40] ثلاث قراءات: هذه قراءة الجمهور.
وقرأها البزي عن ابن كثير (من فوقه سحاب وظلمات).
وقرأها قنبل عنه (ومن فوقه سحاب ظلماتٍ بعضها فوق بعض) على الإضافة، وكأن المعنى: سحاب فيه ظلمات عظيمة، وهو سحاب الليل أو سحاب الشتاء الذي فيه الظلمة، فهو يستر ضوء الشمس عن الإنسان، أو سحاب من فوقه سحاب.
ثم رجع على البدل من أولها {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:40]، فقال: {سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور:40]، على البدل من الأول.
قال تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40]، إذا أخرج يده في هذه الظلمات لم يكد يرى يده ولو قربها من عينه، وقد لا يرى هذه اليد، فمعناه أنه في ظلمات شديدة.
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، فالنور نور الله سبحانه قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35]، فالمؤمنون أنار الله قلوبهم وأبصارهم وبصائرهم.
فالمؤمن يرى الآيات فيعتبر ويتعظ، والكافر مهما رأى من شيء فلا عبرة ولا اتعاظ، وهو بعيد عن الله سبحانه وتعالى وقد سحب منه النور، فلا نور له.
فمن أراد الله به خيراً أضاء الله قلبه ونورّه فاهتدى، ومن لم يرد الله به خيراً ابتعد عن دين الله سبحانه وتعالى، قال: {مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، يهتدي به في ظلماته، ويموت هذا الإنسان على كفره إلا أن يشاء الله به خيراً.
لذلك الإنسان المؤمن الذي يواظب على المجيء إلى بيت الله عز وجل له البشارة العظيمة من كتاب رب العالمين في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [النور:38]، إذاً: فالبشارة في كتاب رب العالمين بالجزاء على أحسن ما عملوا، ويكفر عنهم سيئاتهم سبحانه وتعالى.
والبشارة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة).
ففي ظلمات الليل يذهب المؤمن لصلاة المغرب، ولصلاة العشاء في بيت الله رب العالمين.
وفي ظلمة الفجر يذهب المؤمن إلى بيت الله، فيقال له: كما ذهبت في الظلمة وأنار الله قلبك بالإيمان؛ فيوم القيامة ينير لك ويضيء لك موقفك ومكانك، ويضيء لك الصراط، فتمر عليه بفضل الله سبحانه وتعالى وبنور الله.
نسأل الله عز وجل أن ينير لنا طريقنا إليه في الدنيا، وفي قبورنا، ويوم القيامة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(95/4)
تفسير سورة النور [41 - 45]
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السماوات والأرض من الملائكة والإنس والجن والحيوان وحتى الجماد، فكل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله تعالى.
ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض، فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود وحده لا شريك له.
ثم ذكر سبحانه أنه يسوق السحاب بقدرته، وقد يكون المطر النازل من السحاب نعمة وقد يكون نقمة، ويقلب الله الليل والنهار ويتصرف فيهما كيف يشاء، فهذا دليل على عظمته وقوته وعزته تعالى.(96/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:41 - 44].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تسبيح الكائنات التي خلقها، فكل مخلوق خلقه الله سبحانه يسبح بحمده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، ومعنى يسبح بحمده أي ينزهه ويحمده.
فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:41] أي: أن السموات والأرض ومن فيهما من جميع المخلوقات تسبح ربها، وأخبر هنا (بمن)، التي يخبر بها عن العاقل، فمن يسبح الله وينزهه ويحمده فهو عاقل وإن كان جماداً أو نباتاً أو حيواناً، فطالما أنه عرف ربه، وحمد ربه وسبحه فهو عاقل، فاستحق أن يخاطب بذلك.
فكل من في السموات والأرض يسبحون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، ويخضعون له ويخشونه، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
أي: ما من شيء إلا يسبح بحمد الله سبحانه، ويسجد لله طائعاً أو مكرهاً، فالمؤمن يسجد لله طائعاً له وينفذ أمره، لكونه عرف الله سبحانه وعبده وابتغى رضاه سبحانه وتعالى، والكافر يسجد لله مكرهاً، ويطيعه، وينفذ فيه أمر الله الكوني القدري.
فكل شيء يسجد لرب العالمين سبحانه طائعاً أو مكرهاً، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور:41] أي: ما بين السموات والأرض، وهو هذا الجو وما فيه من مخلوقات من طيور تطير وغيرها، فهذه الطيور تسبح بحمد ربها سبحانه، فتصطف في السماء باسطة أجنحتها مسبحة ربها سبحانه تبارك وتعالى، حامدة له على ما أعطاها وما قدره لها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطانا).
ففهمت الطيور أن الله ربها وخالقها ورازقها، وأنه لا يتركها، فإذا بها تسبح حامدة ربها، في حال كونها صافات وباسطات أجنحتها في السماء.
{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور:41] أي: أن الله عز وجل قد علم صلاة كل مخلوق وتسبيحه، والإنسان لا يفهم لغة الطيور والحشرات والحيوان، وقد جعل الله عز وجل لها ما تتخاطب به وتسبحه به.
فالمؤمن يتفكر في خلق الله الخلاق العليم العظيم سبحانه، الذي هو أكبر من كل شيء، ويعلم كل شيء، فهو يعلم لغات الطيور وغيرها في اللغات.
فالعربي يتكلم بلغة يعرفها الله، وكذلك الأعجمي والطير والبهائم، فكل هذه المخلوقات قد علم الله عز وجل صلاتها ودعاءها وتسبيحها.
وعلماء الحيوان يبحثون في ذلك، ويقولون: هناك لغة للحيوان يتخاطب بها، وكذلك للحشرات وللنمل وللنحل فكل منها يخبر بعضها بعضاً عن أشياء، وهي تصلي لرب العالمين بهيئة يعلمها الله، وتسأل الله فيعطيها، وتتوكل على الله فيرزقها.
ومعنى تسبيح الله: تقديسه وسؤاله ودعاؤه وتنزيهه عن كل معصية.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] أي: والله عليم بما يفعل الخلق جميعهم: من إنسان أو حيوان أو جان أو ملك أو جماد، فمن يفعل شيئاً يعمله الله سبحانه وتعالى، ولا يتحرك شيء إلا بمقدار، ولا ينزل شيء إلا بقضاء الواحد القهار، سبحانه وتعالى.
فالله قد أحاط بكل شيء علماً، فكل شيء دق أو جل، صغر أو كبر قد أحاط الله به علماً، فلا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.(96/2)
تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السموات والأرض وإلى الله المصير)
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:42]، لله يملك السموات وما فيها، والأرضين وما فيها، فكل شيء خلقه الله فهو ملك له.
ومهما زعم إنسان أنه يملك في الدنيا، أو أنه صار ملكاً فملكه هذا عرض، ولكن صاحب الملك الحقيقي هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وملك الإنسان يزول ويرجع كله بعد ذلك إلى خالقه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] أي: كل شيء راجع إلى الله، فملك الإنسان في الدنيا راجع إلى الله عز وجل، وهو تارك ما أخذه ليرجع إلى صاحبه وخالقه سبحانه وتعالى.(96/3)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً)
يخبرنا الله عن قدرته العظيمة سبحانه تبارك وتعالى، كما أخبرنا عن تسبيح الكائنات له عز وجل، فالله يرزقنا من السماء، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور:43]، ومعنى يزجي سحاباً أي: يدفعها برفق، فيحركها ويسوقها ملك من ملائكة رب العالمين موكل بالسحاب، فالسحاب يتراكم بعضه مع بعض، وهذا معنى قوله تعالى: {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور:43]، ثم ينشأ بداخله من الهواء ما يجعله كالشفاط فيسحب السحب بعضها من بعض، ثم يجعله ركاماً، أي: يتراكم بعضه فوق بعض.
إذاً في البداية يسوق الله سبحانه وتعالى السحب من مكان إلى مكان، ثم تجتمع، ثم يعلو بعضها فوق بعض حتى تصير كالجبل في النهاية، وهذا الشيء لا يراه أبداً إنسان من الأرض، وإنما يعلمه من صعد فوق السحاب بطائرة، فيرى السحابة فعلاً مثل الجبل بالضبط، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ير ذلك، وإنما أخبره الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
فإذا صارت السحب كالجبل بعضها فوق بعض إذا بأمر الله يأتي فينزل المطر من خلاها، قال تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ} [النور:43]، والودق هو قطرات المطر، وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور:43] ومعنى من خلاله أي: من بينه.(96/4)
القرءات في قوله تعالى: (وينزل)
((وَيُنَزِّلُ)) [النور:43]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو: (ويُنِزلُ).
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43] أي: السحاب الركامي الذي يتكون بعضه فوق بعض حتى صار كهيئة الجبل، فينزل منه فيصيب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، فيسوق الله المطر إلى من يشاء من خلقه فيكون رزقاً له، وينزل على من يشاء من خلقه البرد فيهلكهم فيكون وبالاً عليهم، والله يفعل كل خير بعباده ويفعل ما يشاء سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور:43]، قال علماء الفلك: يكون ارتفاع السحاب الركامي من خمسة عشر إلى عشرين كيلو متر ممتداً إلى أعلى، ويمر بثلاثة مراحل: مرحلة الالتحام ثم مرحلة تراكم السحب بعضها فوق بعض، فتكون كالجبل، ثم مرحلة الهطول، ومن ثم تفنى هذه السحابة وتنتهي.
وهذا السحاب الذي خلقه الله عز وجل يتكون بداخله شحنات كهربائية -الله أعلم بها- فينشأ منها هذا البرق، قال سبحانه: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] والمعنى: ليس كل بصر يذهب من ضوء هذا البرق، وإنما يكاد يذهب.(96/5)
القراءات في قوله تعالى: (يذهب)
وفي قوله تعالى: {يَذْهَبُ} [النور:43] قراءتان: الأولى قراءة الجمهور ببناء الفعل للمعلوم، والثانية: (يُذْهِبُ) وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن قعقاع، وهي ببناء الفعل للمجهول أو لما يسم فاعله.
قال علماء الفلك: إن هذا السحاب فيه شحنات كهربائية مفرقة فيه قد تصل إلى أربعين شحنة في الدقيقة الواحدة، فإذا حصلت هذه الكمية من الشحنات بعضها وراء بعض تكون البرق، فالذي ينظر إليه تخطف بصره، ولذلك فإن الراصد لهذه البروق يذهب بصره، وهو ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد والبرق، كما في المناطق الحارة، فينجم عن فقد أبصارهم أضرار عظيمة في غرق المراكب أو السفن وفي سقوط الطائرات بسبب النظر إلى هذا البرق.
فهل كان هناك طائرات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليرون ذلك؟ أم هل راقبه أحد الصحابة حتى ذهب بصره من هذا البرق؟(96/6)
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)
قال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44].
والمعنى أن الله تعالى يقلب الليل الطويل في الشتاء إلى ليل قصير في الصيف، والعكس من ذلك في النهار، فالليل تكون فيه البرودة، والنهار تكون فيه الحرارة، والليل يكون فيه القمر، فيكون هلالاً ثم محاقاً وسراراً الخ والنهار تأتي فيه الشمس، وقد تأتي السحب فتحجب ضوء الشمس، ويقلب ما يشاء سبحانه وتعالى، فيقلب أرزاق العباد بالليل والنهار، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، فهو يقلب الليل والنهار كما يشاء سبحانه.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44] أي: ما يفعله الله عز وجل من تقليب الليل والنهار فيه عبرة لأصحاب الأبصار الذين ينظرون ويعقلون ويفهمون ويعلمون أن الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان ورزقه وقدر له المقادير، وهو الذي يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
فهم ينظرون في الكون ويعلمون أن مدبر هذا الكون واحد لا شريك له، فلو كان في هذا الكون إله غير الله سبحانه لفسد الكون كله، ولكن هذا الكون أصلحه الله عز وجل وجعله على هذا النظام البديع الذي يظل عليه إلى أن يأتي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.(96/7)
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)(96/8)
القراءات في قوله تعالى: (والله خلق)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، فهذا آية من آياته سبحانه.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45] هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((والله خالق كل دابة من ماء)).
فلم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تحليل طبي لجسد الإنسان ليعرف مم خلق!(96/9)
كلام علماء الطب عن الماء في جسم الإنسان
قال علماء الطب: إن جسد الإنسان يتكون من سبعين في المائة (70%) منه ماء، وباقي هذا الجسد يتركب من باقي المواد التي خلق منها، وكذلك كل ما يدب على الأرض مخلوق من ماء سواء كان إنساناً أو حيواناً أو ما يكون في الأرض من حشرات، وما يكون في الجو من طير، فالتحليل لأجساد هذه الأشياء يثبت أن التركيب الأغلب فيها هو من الماء.(96/10)
معنى الماء في الآية الكريمة
والماء يأتي لمعنيين: فيأتي بمعنى النطفة، فكل ما يدب على الأرض يتكاثر بذلك.
ويأتي بمعنى الماء المعروف الذي يتركب منه الجسد، وكان الناس في الماضي يفهمون أن المراد بالماء هو النطفة، وأما أن جسد الحيوان أكثره ماء فهذا لم يعرف إلا بالعلم الحديث، والقرآن قد سبق العلم الحديث في أن الماء ضروري للإنسان، فيمنُّ الله عز وجل على الإنسان بأنه قد رزقه هذا الماء.
والإنسان ممكن أن يعيش من غير أكل مدة أقصاها ستون يوماً، وأما الماء فلا يستطيع أن يصبر على فقده أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة أيام، ويموت الإنسان إذا فقد الماء أكثر من ذلك.
فالماء ضروري للإنسان وجسده مركب منه، والماء أساس تكوين الدم في الإنسان، وكذلك السائل اللمفاوي، والسائل النخاعي، وإفرازات جسم الإنسان: كالبول والعرق والدموع واللعاب والمخاط، والسوائل الموجودة في الغضاريف والمفاصل، وسبب رخاوة جسم الإنسان هو الماء الذي فيه، ولو أن الإنسان فقد عشرين بالمائة من الماء الذي فيه فإنه يوشك أن يموت.
فالله يمن على العباد أنه خلقهم من ماء، وسقاهم منه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ليطهرهم به، وليثبت به أقدامهم.
فالماء نعمة عظيمة، فإنه يذيب المواد الغذائية والفضلات الموجودة في جسد الإنسان حتى تخرج منه كالبول والعرق، فيجب على الإنسان أن يحمد الله على هذه النعمة العظيمة بعد الشرب وكذلك بعد أكل الطعام، فصاحب النعم العظيمة لا يعرفها إلا إذا فقدها، فاحمد ربك في وقت الرخاء يعطك في وقت البلاء، ولا تكن كالذي لا يذكر ربه إلا إذا فقد النعمة.(96/11)
تفسير سورة النور [42 - 46]
يدلل الله عز وجل على عظيم قدرته في هذا الخلق والكون بأنه ينشئ السحاب الثقال المحملة بالماء الكثير والبرد فيرزقه من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ويقلب الليل والنهار ليستفيد منهما الإنسان للعمل والراحة والسكنى، وخلق المخلوقات على أشكال وصور مختلفة، كل هذا ليدلل على قدرته العظيمة، وحكمته البالغة، وآياته الواضحة الباهرة.(97/1)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:44 - 46].
أخبرنا الله تعالى في هذه الآيات وما قبلها عن بديع صنعته في خلقه سبحانه وتعالى، وعن قدرته العظيمة، وأنه يسبح له من في السموات والأرض، والطير كذلك تسبح ربها صافات، فكل قد علمه الله عز وجل صلاته وتسبيحه.
فالله عليم يعلم كل شيء، والله خالق كل شيء، والله سبحانه وتعالى أعلم بمن خلق، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فخلق كل شيء وجعل له ما يفهم به ويخاطب به، والله يفهم جميع لغات هذه الأشياء من إنسان وحيوان وبهائم وحشرات وطيور وجماد ونبات، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، والله سبحانه وتعالى عليم بما يفعلون، وعلمه محيط بكل شيء، ولا يحيط الخلق بشيء من علمه، فالله أحاط بكل شيء علماً، فانظر إلى الإنسان كيف أحاط الله به علماً، يكتب ما يعمل هذا الإنسان منذ خلق، ويؤمر الملك أن يكتب أجل هذا الإنسان وعمله، وشقي أو سعيد، فكم سيبقى هذا الإنسان في بطن أمه؟! ومتى سينزل من بطن أمه؟! وهل سيموت فيها أم يخرج منها حياً؟! فيأمر الله عز وجل الملك أن يكتب جميع ما يكون عليه، فيؤمر بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد.
فنزل إلى هذه الدنيا وقد علم الله عز وجل قبل خلقه كيف سيكون هذا الإنسان فيها، هل يعيش أم يموت، وهل يموت صغيراً أم شاباً أم كهلاً أم شيخاً، وما الذي سيتعلمه، وما الذي سيعمله، وما الذي سينويه، وهل سيكون على الإسلام أم على غيره، فعلم الله كل شيء، والإنسان قد يبتلى ويصاب بأشياء من مصائب الدنيا، يصاب بأشياء تسعده وأشياء تشقيه، والله قد علم ذلك كله، فهذا في الفرد الواحد، ويعلم فوق ذلك بكثير، فيعلم نفس الإنسان حين يخرج ونفسه حين يدخل، ومتى يكون آخر نفس لهذا الإنسان، فهؤلاء الناس جميعهم الله يعلم من كل واحد منهم هذا الشيء، يعلم من يموت ومن يعيش، ويعلم في النبات {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فهذا شيء عظيم جداً جداً، فعندما تنظر في علم الله سبحانه في ورقة من ورق الشجر فهو يعلم متى ستنبت هذه الورقة، ومتى تكتمل، ومتى تسقط على الأرض، وكذلك الحبة الصغيرة يعلم الله متى تنمو، ومتى تكون في الشجرة، ومتى تكون ثمرة، ومتى تجف، ومتى تسقط في الأرض، ومتى تبتلعها، ومتى تنمو من جديد، وهذا شيء عظيم جداً من علم الله سبحانه، فيتحير الذي ينظر ويفكر في هذا، فعلم الخالق سبحانه وتعالى علم محيط بكل شيء.
والإنسان لا يحيط بشيء من علم الله، والإنسان هنا جنس فيشمل كل الناس، فلو اجتمعوا فلا يحيطون بشيء من علم الله عز وجل، والذي ينظر في علم الإنسان يريد أنه كلما ازداد علماً تخصص في شيء، وإذا ازداد علماً بعد ذلك قلّ الشيء الذي يتخصص فيه، فانظر للإنسان الذي يتعلم وهو صغير فعندما يكبر ويذهب إلى الكلية يتعلم الطب، فيدرس جميع الفروع دراسة ليست تفصيلية، وإنما يدرسها دراسة عامة، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في فرع واحد فقط، فإذا ترقى بعد ذلك تخصص في شيء من هذا الفرع، وتجد إنساناً أصبح طبيباً ممارساً أو أصبح أخصائياً لجزء من جسم الإنسان، ويقوم بتحضير الدكتوراة في جزء منها في شيء معين فيه، وبعد ذلك يتخصص في مرض معين من الأمراض يكون له باع في هذا الشيء، فعلم الإنسان كلما ازداد تخصص وضاق، وبقية الأشياء ليس لديه فيها خبرة، فتذهب لطبيب مشهور جداً في نقطة معينة في هذا الشيء يعرفه، فعندما تسأله عن منطقة بعيدة منها يقول لك: اذهب إلى أخصائي فيها، فهذا الإنسان علمه لا يحيط بشيء واحد من كل جهاته، والله عز وجل أحاط بكل شيء علماً، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فهو العليم سبحانه وتعالى الخبير، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41].
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:42] جميع ما في السموات وما في الأرض ملك لله تعالى، فهو المالك الحقيقي، فيملك كل شيء، ويحكم على كل شيء، ثم المصير إليه سبحانه وتعالى، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42] أي: المرجع والمآب.
ثم يعجبنا من قدرته العظيمة كيف يكون السحاب كما ذكرنا في الحديث السابق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} [النور:43] (يُزْجِي): يسوق ويدفع برفق، ثم يؤلف بين هذه السحاب، ثم يركمها بعضها فوق بعض حتى تصير جبلاً عالياً بمقدار (15) كيلو متراً أو (20) كيلو متراً بعضها فوق بعض.
قوله: (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي: فترى قطرات المطر تنزل من خلاله، فلو شاء لسكبه دفعة واحدة، وتخيل لو انسكب هذا السحاب دفعة واحدة، كيف سيصنع بمن ينزل فوقه؟ فهذا يكون شيئاً عظيماً ومهولاً، ولكن الله بفضله ورحمته سبحانه ينظم كونه.
قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) وهذا مثل هيئة الجبل الموجود على الأرض.
(فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) أي: قطع الثلج.
ومن رحمة رب العالمين أنه لا يجعل السحابة تسقط قطعة ثلج واحدة؛ لأنها ستنزل على الناس وتكسر كل ما تنزل عليه، لكن الله بفضله ورحمته ينزل البرد قطعاً صغيرة من الثلج، ولو شاء الله عز وجل لجعله مهلكاً لخلقه، ولكنه رحيم بنا سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ) يصيب بهذا المطر والبرد من يشاء، فرحمة الله مقسومة، فيقسم الأرزاق لعباده، فيكون في هذا المكان مطر كثير، وفي هذا المكان مطر غزير، وفي هذا المكان مطر يسير، بحسب ما يقدره رب العالمين سبحانه من أرزاق للعباد، ويكون في مكان ما مهلكاً، وفي مكان آخر منبتاً، والله يفعل ما يشاء.
قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ) أي: ضوء البرق الذي يخرج من خلال هذه السحاب ومن خلال هذا الرعد، وفي البرق شحنات كهربائية تكون بداخل هذه السحاب، فيكاد سنا وضوء هذا البرق يذهب بأبصار من ينظر إليه.(97/2)
تفسير قوله تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)
قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44].
كما ذكرنا أنه يجعل الليل يطول فيقصر النهار، ويجعل الليل بارداً والنهار حاراً، ويجعل الليل مظلماً وقد يكون منيراً، ويجعل النهار مضيئاً وقد يظلمه بسحاب، فيقلب أرزاق العباد بين الليل والنهار، ويقلب حالاتهم من نوم وغيره بالليل والنهار.
قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ) أي: هذه عبرة وعظة لأولي الأبصار، فينظرون كيف يقلب الله الليل والنهار، ولو شاء لجعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، قال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} [القصص:71]، فلو أنه فعل ذلك فمن سيقدر أن يأتي بالضياء، ولو شاء الله لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، وقال تعالى: {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72]، فجعل الليل سكناً، وجعل فيه النوم سباتاً، وجعل النهار فيه معاشاً، فالإنسان يحتاج إلى أن يستريح، وقد يقول الإنسان: أنا أستطيع أن أظل بغير نوم لمدة ثلاثة أيام، ويحاول هذا الشيء ويجد في النهاية أنه يستسلم للنوم ولا يقدر على هذا الشيء، وإلا فإنه يتعب ويموت في النهاية، فالله عز وجل جعل الليل والنهار، وتقلب العباد واحتياجهم لليل والنهار والنوم والعمل عبرة لأولي الألباب والأبصار، فيعلمون أنهم محتاجون لربهم سبحانه، ومحتاجون إلى فضله ورحمته جل وعلا، فيحتاج الإنسان إلى رزقه فيقول: يا رب! ويحتاج إلى صحته وعافيته فيقول: يا رب!، ويحتاج إلى نومه فيقول: يا رب! ولا يشعر بحاجته إلا حين يفقدها، وعندما تجد نفسك أرقت ليلة ثم ليلة أخرى فتصير كالمجنون، ولا تعرف كيف ينام! فتقول: يا رب! اجعلني أنام، وتقوم بشرب المسكنات والمنومات، لكي تجد النوم، فالله عز وجل صاحب الفضل العظيم على الإنسان، فهو الذي يجعلك تنام بالليل، والإنسان يريد أن يعمل وفجأة يمرض، فيقول: يا رب! اشفني أريد أن أعمل، وأريد أن آكل، وأريد كذا، ولا يعرف فضل الله عز وجل ونعمته عليه، فلا يشكره على هذه النعمة إلا حين يبتليه الله سبحانه بفقدان هذه النعمة، فالإنسان المؤمن دائماً يتذكر ويبصر ما بصره الله عز وجل به.(97/3)
تفسير قوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء)
ثم يذكر الله نعمة أخرى من نعمه سبحانه وتعالى كما ذكرنا في الحديث السابق، وهذه النعمة هي الماء، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور:45].
قوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)، أي: كل ما يدب على الأرض خلقه الله عز وجل من ماء، والله خلق خلقاً كثيراً، فخلق الملائكة وجعلهم من نور، وخلق الجان فجعلهم من نار، وخلق الإنسان والدواب فجعله من ماء، فالله خلق كل ما يدب على الأرض من ماء.
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) هنا يرينا الله آياته العظيمة سبحانه وتعالى، فهو الخالق وحده لا شريك له، فخلق الخلق وجعل لكل شيء من خلقه قدرة معينة قدره عليها، فمن هذه المخلوقات ما يمشي على بطنه كالثعبان والحية وغيرها، فهذه تمشي على بطنها على الأرض، أو في الماء كالحيتان ونحو ذلك.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ)، فهذا الإنسان الذي جعله الله عز وجل يمشي على رجلين، وكرمه سبحانه وتعالى، وشرف يديه فرفعها ولم يجعله كغيره ممن يمشي على يديه، ثم يتناول بها طعامه، ولكن جعل اليدين مرتفعتين، وجعل القدمين على الأرض، فشرف الإنسان وكرمه سبحانه وتعالى.
قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ)، والله يخلق ما لا تعلمون، ولكن هذا الغالب المشاهد، وإن وجدنا من الحشرات ما له أكثر من أربع أرجل، فالله يخلق ما يشاء، ولكن هذا الغالب الذي نراه أمامنا، فلو شاء الله عز وجل لجعل الإنسان يمشي على يديه ورجليه، فأراد أن يريه كيف كرمه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70] أي: جعلنا الإنسان مكرماً يركب فوق الجمل والخيل ولا يمشي على أربع، ولا يُركب ولكنه يَركب، فكرمه الله سبحانه ليعبده ويشكره، ولو شاء لجعله مثل الحشرات، ولو شاء لجعله مثل الثعابين يمشي على بطنه.
فقد أرانا الله هذه القدرة منه سبحانه حتى نحمده ونشكره سبحانه وتعالى على ما أنعم به علينا، فيقول سبحانه: (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يخلق الله ما يشاء ممن يمشي على رجلين، وممن يمشي على أربع، وممن يمشي على بطنه، وخلق الملائكة تطير بأجنحتها {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، يخلق ما يشاء سبحانه وتعالى.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكل شيء قد جعله الله للإنسان عبرة، فيرى آية من آيات الله: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد فالإنسان يتفكر في كل مخلوقات الله عز وجل التي تدل على بديع صنعها، وعلى أن الخالق واحد، فينظر إلى النملة كيف خلقها الله! وكيف تكسب رزقها! وكيف جعل لها تفكيراً فتعرف كيف تأتي بهذا الطعام! وكيف تخزنه للشتاء! وإذا كانت الحبة التي ستأتي بها لو مكثت إلى الشتاء فستنبت، فيفهمها ربها سبحانه كيف تخرق هذه الحبة حتى لا تنبت ولا تنمو! فجعل فيها قدرة أن تأكل وتبحث عن طعامها، وأن تعيش مع غيرها، فالذي أعطاها هذا الشيء، وأعطى الحيوان من بهائم وغيرها هذه القدرة هو الله سبحانه وتعالى، وأعطى الإنسان ما هو فوق ذلك، فيتفكر الإنسان كيف أن الله جعل لهذه قدرة وجعل لهذه قدرة! أفلا يكون هو القدير على كل شيء سبحانه وتعالى؟! وجعل في هذه حياة وفي هذه حياة، أفلا يكون هو الحي الباقي سبحانه وتعالى؟ فيرينا آيات قدرته سبحانه وبديع صنعته في هذه المخلوقات، لنتفكر أن الذي جعل هذا معجزاً وهذا معجزاً وهذا معجزاً هو الله الواحد القادر على كل شيء سبحانه!(97/4)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا آيات مبينات)
قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النور:46].
قوله: (لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) هي آيات بينات، وهي مبينات، والآية البينة: هي الآية الواضحة، فأنزل كتاباً واضحاً، وجعل لنا في الكون آيات واضحة لكل ذي عينين وبصيرة، فيبصر ويعلم أن الله خلق هذا عبرة لخلقه ليتفكروا.
(مُبَيِّنَاتٍ) اسم فاعل، والمعنى: أنها مبيِّنة للإنسان فيما يحتاج إليه، وهذه قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، وباقي القراء يقرءونها: (لقد أنزلنا آيات مبيَّنَات) أي: قد وضحنا ما أشكل عليكم فيها، وهي في نفسها مبَّينة قد بينها الله سبحانه وتعالى، وبينها لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، والآيات المبيَّنَة لا يفهمها كل إنسان، ولكن ذلك راجع لأمر قضاء الله وقدره سبحانه، وحكمته وعلمه، فهو يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وكم يمر الإنسان على آيات من آيات رب العالمين في الكون فينظر إلى الآية ولا يعتبر بها، ويقرؤها ولا ينتبه لها! حتى يقول له إنسان: انظر إلى هذا الشيء فينتبه؛ لعظيم قدرة الله عز وجل على هذا الأمر، وكم من آيات نراها ولا نتعجب لها! فإذا تفكرنا فيها أو دلنا إنسان عليها كأننا لأول مرة نسمع هذه الآية ونرى مقتضاها في الكون الذي أمامنا، فالله عز وجل هو الذي يهدي سبحانه، فمهما استعان الإنسان بغيره فلا يقدر أن يعينه على الهدى إلا رب العالمين سبحانه، فهو الذي يهدي من يشاء إلى دينه القويم وإلى شريعته ومنهاجه.
وكلمة (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فيها إثبات للقضاء والقدر، وأن الله عز وجل من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله، فإنه سبحانه يهدي من يشاء ويعافي ويعصم فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، فالإنسان الذي يضله الله هذا عدل من الله؛ لأنه يستحق غير ذلك، والإنسان الذي يهديه الله فهذا فضل من الله سبحانه وتعالى يتفضل به على من يشاء.
قوله: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الصراط: هو الطريق، أي: إلى طريق مستقيم، وهو طريق شريعة رب العالمين سبحانه.
وكلمة صراط هنا فيها ثلاث قراءات: فتقرأ بالصاد، وتقرأ بالسين، وتقرأ بالزاي المشمة.
فيقرؤها قنبل عن ابن كثير، ورويس: (إلى سراط مستقيم) بالسين.
ويقرؤها خلف عن حمزة بالزاي: (إلى زراط مستقيم).
ويقرؤها باقي القراء: (إلى صراط مستقيم) بالصاد المكسورة.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا، ونعوذ به أن يضلنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(97/5)
تفسير سورة النور [47 - 52]
يخبرنا الله سبحانه هنا عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأعمالهم تخالف أقوالهم، فهم يقولون أنهم مؤمنون بينما أعمالهم تنافي الإيمان وتضاده، وهذا فيه تحذير من الله للمؤمنين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه أولئك من النفاق والكفر بالله تعالى، وقد بين سبحانه للمؤمنين بأن الفلاح والفوز كله في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(98/1)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم)(98/2)
عدم التحاكم إلى شرع الله من صفات المنافقين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورو النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور:47].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المنافقين وكيف يتصرفون حين يدعون إلى الاحتكام لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يحذرنا الله عز وجل من مثل هذه الأخلاق التي عليها هؤلاء المنافقون، فهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ويقولون: سمعنا وأطعنا، وفي وقت الجد إذا بهم يندفعون عن الإيمان إلى ما يشتهون من هوىً ومن باطل.
فإذا كان الشيء الذي يطلبونه عند النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نتحاكم إليه، وإذا لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ولن يعطيهم هذا الشيء -لأنهم يعرفون أنهم مبطلون- تحاكموا إلى غير النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال الإمام الطبري وغيره: (كان رجل من المنافقين اسمه بشر كانت بينه وبين رجل من اليهود خصومة في أرض، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المنافق مبطلاً فرفض، وقال: إن محمداً يحيف علينا)، حاشا له صلوات الله وسلامه عليه، بل إن هذا المنافق كان ظالماً لليهودي، فانظروا إلى أهل النفاق كيف تخرج كلمة الكفر من ألسنتهم، فمهما أخفوا ما في قلوبهم فلا بد وأن تتلفظ الألسن بهذا الشيء الذين يبطنونه، ويظهر في فلتات الألسن منهم ذلك.
فاليهودي يقول له: تعال نتحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن اليهودي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، وأنه نبي حقاً صلوات الله وسلامه عليه، وإن لم يعترف هذا اليهودي أنه نبي.
ولكن على كلٍ عرف اليهودي أنه صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، وكان له حق فقال للمنافق: (تعال نذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فرفض المنافق وقال: تعال نذهب إلى كعب بن الأشرف) لأن الضلِّيل كعب بن الأشرف يهودي يقبل الرشوة، فهذا المنافق يذهب لليهودي فيعطيه الرشوة فيحكم له على أخيه اليهودي، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالعدل وبالحق صلوات الله وسلامه عليه.
فالله عز وجل يعجب من أمر هؤلاء المنافقين الذين يقولون: آمنا بألسنتهم ولا يتجاوز الإيمان الألسن إلى القلوب، فقال تعالى مخبراً عنهم: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا} [النور:47] هذه المقالة بالألسن.
ثم قال: ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ))، فيسهل على المنافق أن يقول: لا إله إلا الله، لكن كونه ينفذ مقتضى لا إله إلا الله بأن يتحاكم إلى شرع الله عز وجل، فهذا ما لا يفعله المنافق إلا إذا كان الشرع في هذا الشيء سيوافق هواه، وإذا كان هو المظلوم والشريعة ستعطي له حقه ففي هذه الحالة يذهب ويقول: أريد الشريعة، فالحاكم الذي سيعطيه ما يهواه فهو تابع لهذا الذي يريد.
فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول: ((ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)) أي: من بعد هذا القول.
ثم قال: ((وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))، فالله عز وجل أخبر المؤمنين أن هؤلاء ليسوا من المؤمنين في شيء، فالذي يدعى إلى كتاب الله تعالى ليحكم بيننا ويرفض هذا الشيء فهذا ليس مؤمناً، وليس على دين النبي صلى الله عليه وسلم.(98/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين)
يقول سبحانه في هؤلاء المنافقين: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48]، قوله: ((وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) ذكر هنا الله سبحانه وتعالى وذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ثم أعاد الضمير لواحد، فقال: ((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ))، فالذي سيحكم بين الاثنين بشرع الله هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سيقضي في الخصومة صلى الله عليه وسلم، فلذلك أعاد الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فذكر الله عز وجل أنه الذي أنزل الكتاب وهو الذي أنزل الأحكام الشرعية وجعلها شريعة ومنهاجاً، لكن الذي سيحكم بهذه الشريعة هو النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ((إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ)) كأن هؤلاء هم الذين يقولون: آمنا بألسنتهم، فمنهم من يستجيب ويذهب، ومنهم من يعرض.
فكأن الفريق الذي يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويتحاكم إليه إنما ذهب استحياءً، وهم قالوا: آمنا بألسنتهم، فاستحيوا وذهبوا وتحاكموا، وأما الفريق الآخر منهم الذي لا يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رأى في زعمه أن الحق معه، وأنه سيحكم له بذلك، فيذهب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49] فالحق إما لك وإما عليك، فإن كان الحق عليك فأده، وإن كان الحق لك فخذ حقك، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيحكم بالحق، ويعطي كل ذي حق حقه، فيأخذ من الظالم ليعطي للمظلوم، فهؤلاء المنافقون إذا كانوا مظلومين تحاكموا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيأتي لهم بحقهم، وإذا كانوا ظالمين ذهبوا لأهل الرشوة وأهل الفساد ليتحاكموا إليهم.
فقوله: ((وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ)) أي: طائعين منقادين خاضعين مسرعين للنبي صلى الله عليه وسلم طالما أنهم سيأخذون منه، لكن إذا كان سيحكم عليهم ذهبوا إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم.(98/4)
تفسير قوله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا)
قال الله سبحانه وتعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] أي: أن هذا الذي يبعد عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يظن أن الله عز وجل سيظلمه؟ حاشا لله عز وجل.
وهل يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلمه؟ هذا مستحيل أيضاً، فيقول سبحانه: ((أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)) أي: هل في قلوبهم النفاق والكفر.
ثم قال: ((أَمِ ارْتَابُوا)) أي: صاروا متشككين في شرع رب العالمين سبحانه، ومتشككين في النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يحكم بينهم بالعدل، فهذا كله من النفاق، وهذا كفر بالله عز وجل، فكون في قلوبهم الشك والريبة من النبي صلى الله عليه وسلم هذا كفر.
ثم قال: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ)) أي: إن ظنوا أن الله سبحانه وتعالى سيظلمهم فقد كفروا بذلك، فالله يعجب من أمرهم: فإما أن يكونوا مؤمنين فمستحيل أن يظنوا هذه الظنون، وإلا فهم على كفرهم فالله يفضحهم.
وقال سبحانه: ((أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: يميل ويجور ويظلم.
وقوله: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [النور:50] أي: أن الله لا يظلم أحداً شيئاً سبحانه وتعالى، والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه.
فهؤلاء الذين يخافون أن يظلمهم الله كيف يظلمهم وهو يملك كل شيء؟! وقال سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
قال أهل العلم: إن القاضي الذي يحكم بين المسلمين بعضهم مع بعض لا بد وأن يكون مسلماً، فلا يجوز أن يكون الكافر قاضياً ولا والياً على المسلمين ويحكم بينهم، وكيف سيحكم بشرع الله سبحانه وهو كافر به؟! وقال سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
فإذا كانت هناك خصومة بين مسلم وبين كافر فالذي يحكم بينهما هو القاضي المسلم، وأما إذا كانت الخصومة بين ذمي وذمي وبين كافر وكافر، فإذا تحاكما للمسلمين جاز أن يحكموا بينهما، وجاز أن يعرضوا عنهما إذا علموا أنهما مبطلان، وإذا تحاكما إلى غير المسلمين فشأنهما.
فهنا وجوب الحكم إذا تخاصم المسلمون فيما بينهم إلى القاضي المسلم، وأن الواجب عليهم أن يحكِّموا بينهم من يصلح للقضاء وللحكم، ومن يصلح لفصل الخصومة من المسلمين، وليس من الكافرين ولا من المنافقين.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
قوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (قول) خبر كان مقدم، واسمها (أن يقولوا) وهو المصدر المنسبك من أن والفعل، كأنه يقول: إنما كان قولَ المؤمنين قولهُم، أي: أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا.
فالمعنى: أن السمع والطاعة هو قول المؤمنين حين يدعون إلى الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم للحكم بينهم.
وقوله: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ)) (إنما) أداة قصر وحصر، والمعنى: أن هذا القول فقط هو الذي يصدر عن المؤمن، ولا يصدر عنه قول غير هذا القول أبداً، فالمؤمن إذا دعي إلى الله ورسوله: تعال نتحاكم لشرع الله، قال: سمعنا وأطعنا، فإن كان الحق له أخذه، وإن كان الحق عليه أعطى الحق لصاحبه.
ثم قال: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)) ((لِيَحْكُمَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر: ((لِيُحْكَمَ)) بينهم، أي: ليُحْكَمَ بينهم بشرع رب العالمين.
وقوله: ((أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)) أي: ننفذ أمر الله عز وجل ونطيعه سبحانه وتعالى بما يحكم فينا النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ((وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) فقضى الله عز وجل بأن الذين يقولون ذلك إذا دعوا ليحكم بينهم رب العالمين لكتابه وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم أنهم الناجون يوم القيامة، والناجحون النجاح الأبدي، وأهل النعيم المقيم، وأهل الجنة.
فالواجب على كل إنسان مؤمن إذا حدث بينه وبين غيره خصومة أن يتحاكما، إلى قاض مسلم؛ ليحكم بينهما بشرع رب العالمين سبحانه.
فالمؤمن عليه أن يحكِّم شرع الله، وإذا كان يعلم أنه ليس له حق على الآخر ولكن في يده أوراق، أو في يده شيكات فليس له أن يقول: سأرفع عليك قضية؛ لأن بيدي أوراقاً بهذا الشيء؛ لأن المؤمن يعرف شرع رب العالمين سبحانه، ويخاف من عقوبة رب العالمين، والمؤمن لا يكذب ولا يغش ولا يخدع ولا يخون ولا يزور، وإنما يقول بالحق، قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135].
فالإنسان المؤمن يكون قائماً بالعدل، وشهيداً ولو على نفسه، أو على والديه أو على أقاربه، فيشهد بالحق ولا يكذب أبداً.
وربنا يحذرنا من أكل أموال الناس بالباطل حيث يقول سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، فالإنسان المؤمن يتحاكم لشرع رب العالمين سبحانه وتعالى.
وأيضاً الذي يحكم بين الناس لا بد وأن يعرف شرع رب العالمين، ولا بد أن يكون دارساً لشرع رب العالمين، وخاصة مسائل القضاء التي تكلم فيها الفقهاء، وأما إذا كان شيخ حارة، أو حافظاً للقرآن وهو لا يعرف شيئاً من أحكام رب العالمين سبحانه فهنا لا يلزم أن يذهب إلى هذا الإنسان، وإنما الواجب أن يذهب إلى من يعرف الأحكام الشرعية، وكم من إنسان يجهل الأحكام الشرعية ويقضي بالهوى والإثم، فتجد بعض هؤلاء إذا سأله إنسان عن شيء أجاب بما يعرفه هو ولم يرجع إلى أهل العلم في ذلك، لذلك فاحذر أن تحكم بين الناس وأنت جاهل، وأنت لا تعرف الحكومة في هذه المسألة، ولكن قبل أن تحكم اقرأ واطلع واعرف الحكم الشرعي في الشيء قبل أن تقضي بشيء فيوبقك يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (أن القضاة ثلاثة: رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق ولم يقض به فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار).
لذلك فالمؤمن إذا دعي إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعنا وأطعنا، ولا يتحاكم إلى غير شرع الله سبحانه، فلا يتحاكم إلى إنسان يقبل الرشوة، أو إنسان لا يعرف شرع الله سبحانه، أو يحكم بالهوى ويحكم بالعرف، فبعض الناس يحكمون في المسألة بالقضاء العرفي كما يزعمون، فتجدهم يقولون لمن تحاكم إليهم: سنحكم عليك أن تذبح جملاً، أو تذبح خروفاً، أو عليك دية أو ديتين أو ثلاث ديات، في أشياء لم يحكم الله عز وجل فيها بذلك، فهذا الذي يحكم بهذا كأنه يحكم مع الله سبحانه وتعالى، وكأنه يشرع شيئاً لم يقله رب العالمين ولا حكم به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك فالذي يقضي بين الناس أو يفصل في الخصومات لا بد وأن يكون على علم بشرع رب العالمين سبحانه.(98/5)
تفسير قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52] أي: أن الإنسان الذي يسمع ويطيع الله ورسوله فهو المفلح والفائز، ففي الآية الأولى ذكر السمع والطاعة في الحكم، وفي هذه الآية ذكر السمع والطاعة في جميع الأمور.
فالأولى: ((إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ)) يعني: في حال الحكم، قالوا: سمعنا وأطعنا على العين والرأس، فالذي يقوله ربنا ننفذه، وليست مقالة باللسان فقط، ولكن يقول باللسان وينفذ ذلك بالفعل، فإن كان عليه الحق دفع هذا الحق، ولم يتهرب ولم يتملص من ذلك، فحكم الله يجب على العبد أن ينفذه.
ثم عمم ربنا سبحانه في كل قضية وفي كل عمل من الأعمال أنك تطيع رب العالمين سبحانه، فقال: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) أي: في كل شيء من أمور العبادات، ومن أمور المعاملات، ومن أمور الأحوال الشخصية، ومن أمور الجنايات والديات، ومن أمور حياته ومعاشه، فهو في كل الأمور يطيع الله عز وجل فيها، ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، مع خشيته وإخلاصه لرب العالمين؛ لأن الإنسان قد يطيع في الظاهر ولكنه في باطنه لا يخشى، بل ينافق ويرائي، فلابد من هذا القيد: الطاعة مع الخشية لرب العالمين سبحانه، فهي طاعة في الظاهر وفي الباطن.
وقوله: ((وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ)) أي: يتقي غضب الله سبحانه وتعالى، ويكف عن نفسه غضب الله بطاعة الله سبحانه، فالتقوى أن يجعل وقاية وحاجزاً بينه وبين معصية الله، وبينه وبين غضب الله سبحانه.
فقوله: ((وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ)) (يتقه) هذه فيها قراءات للقراء، فيقرؤها: (ويتقْهِ) بسكون القاف حفص عن عاصم فقط، كأنها على نية الجزم؛ لأن أصلها: يتقي، ففي آخرها حرف العلة، فإذا جزمت حذفت حرف العلة فقط، وتصير القاف مكسورة، ولكن حفصاً سكن القاف، وكأنه اعتبر في هذا الأخير نية الوقف عليه، أو بنية الجزم له، كذا قال النحويون فيها.
فقراءة حفص: ((ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقْهِ فأولئك هم الفائزون))، وأما بقية القراء غير حفص عن عاصم فيقرؤنها بكسر القاف: (ويتقِه) لكن اختلفوا في الهاء، فمنهم من يختلسها، يعني: يجعلها كسرة، ومنهم من يشبعها، يعني: يجعلها كالياء فيها، فقرأ قالون ويعقوب وابن عامر بخلفه: (ويتقِهِ) بكسر القاف والهاء بعدها.
وقرأ ورش وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وكذلك أبو جعفر بالإشباع للهاء بكسر الهاء: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقِهي فأولئك هم الفائزون).
وقرأها أبو عمرو وشعبة عن عاصم -وهذه قراءة ثانية عن عاصم - وهشام وخلاد بخلفهما، وكذلك ابن وردان بسكون الهاء وبكسر القاف، فتصير قراءة هؤلاء: (ويخش الله ويتقِهْ).
فالله عز وجل حكم لهم بأنهم مفلحون، وبأنهم فائزون قد نالوا الفوز العظيم، ونالوا الدرجات العظيمة عند رب العالمين بطاعتهم له سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(98/6)
تفسير سورة النور [53 - 55]
إن أعظم ما يواجهه المؤمنون الصادقون هو ذلك الصنف المتلوث المدعو بالمنافقين، فهو ظاهره الإيمان وباطنه الكفر، ولما كان الوحي الكريم يبين للمؤمن ما ينفعه ويريه ما يضره كشف المولى سبحانه صفات هذا الطابور الخامس، ومن صفاتهم: أنهم يكثرون الحلف ويبالغون فيه أنهم إن أمروا ليخرجن، ولكن الله خبير بأعمالهم، ومطلع على قلوبهم، فيجازي كل واحد بما عمل.(99/1)
تفسير قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لإن أمرتهم ليخرجن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له,, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53].
في هذه الآيات يذكر الله عز وجل المنافقين وكيف أنهم يقسمون بالله سبحانه وتعالى ويجتهدون في أيمانهم وهم كاذبون، وقد حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعة كل حلاف مهين، فهؤلاء المنافقون كانوا يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكثرون من الحلف، والإنسان إذا وجد نفسه أنه يكذب في الكلام فإنه يؤكد كلامه باليمين حتى يظن به أنه صادق ولا يهتم أن يكذب، فإنه قد امتلأ قلبه بالنفاق، فإذا به لا يهتم بأن يعظم اليمين ويعظم ذكر الله سبحانه وتعالى.
فالمنافق في باطنه الكفر، ويظهر الإسلام بلسانه فلا يهتم أن يحلف صادقاً أو كاذباً، فيحلفون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مجتهدين بأغلظ الأيمان: إنهم لصادقون، كما ذكرهم الله عز وجل وفضحهم في سورة التوبة قال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56]، فيحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم بالله رب العالمين أنهم من المؤمنين، وربنا يكذبهم (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ} [النور:53] متى يكون هذا الكلام؟ إذا انتهت الحرب وإذا انتهى القتال، فتظهر شجاعتهم في الكلام فقط فيقولون: نحن مطيعون لما تأمرنا وسنقاتل في سبيل الله، ويجتهدون في الأيمان المغلظة، والحقيقة أنهم لن يفعلوا ذلك ولكنهم قوم يكذبون.
فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبون على الناس فإذا جاءوا يوم القيامة كذبوا على الله سبحانه وتعالى، ويحلفون بالله سبحانه إنهم من المؤمنين والله يعلم أنهم كاذبون في الدنيا، ويشهدون بالله إنهم مع المؤمنين والله يشهد أنهم لكاذبون، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1].
فكم كذبهم الله عز وجل في كتابه، وكم فضحهم في كتابه العزيز سبحانه، فهنا من ضمن ما يكذبون به يقول: ((وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم)) يعني: بالجهاد والطاعة (ليخرجن) مطيعين مجاهدين في سبيل الله، فأجاب الله عز وجل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ((قل لا تقسموا)) أي: لا تحلفوا فأنتم كذابون، ثم قال: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] وفيها معنيان: المعنى الظاهر منها والقريب: طاعتكم طاعة معروفة، يعني: قد عرفنا دأبكم وعرفنا عادتكم وكذبكم، فطاعتهم باللسان فقط، وأما الحقيقة فهي التكذيب في القلوب، وعدم فعل الذي تحلفون أنكم ستفعلونه، قال سبحانه {لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] أي: طاعتكم طاعة معروفة، فهي طاعة باللسان لا يصدقها القلب ولا تصدقها الأفعال.
والمعنى الآخر: أن الطاعة التي يريدها الله عز جل طاعة معروفة، فليست هي التي تصنعون، وإنما هي أن تنفذوا أحكام رب العالمين سبحانه، وقد بين الله عز وجل في القرآن ما هو المطلوب منكم وهو: أن تطيعوا الله، وأن تطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأن تفعلوا ما جاء في القرآن، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالطاعة ليست غائبة عنكم وليست بعيدة منكم وليست مجهولة لكم، فهي أوامر الله وأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك معروف عندكم، ولكنكم لا تفعلون.
فالطاعة التي يريدها الله عز وجل معروفة وليست مجهولة فنفذوا إن كنتم صادقين، وأما طاعتكم التي تزعمون فهي أيضاً معروفة وأنها أكاذيب، وأنكم لا تصنعون ما تقولون.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور:53] أي: خبير بما خفي في قلوبكم وما خفي من أفعالكم، فالله خبير بما تعلمون من أفعال باطنة تكتمونها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم الله سبحانه ما تعملون فيما بينكم، وما تقولونه وتخفونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الناس.(99/2)
تفسير قوله تعالى: (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول)
قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54] أي: أطيعوا الله والرسول، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله؛ لأنه يبلغ أوامر رب العالمين سبحانه.
وهنا أكد فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النور:54]، فهؤلاء فهم منافقون يحتاجون إلى أن يؤكد عليهم؛ فلعلهم إن قيل: أطيعوا الله قالوا: نطيع الله ولا نطيع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكد ربنا أنه لا بد من طاعة الله وطاعة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54]، فإن تولوا أصلها إن تتولوا، فقال هنا: قل مخاطباً لهم أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول؛ فإن تتولوا عن طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه فإنما عليه ما حمل، وعليكم ما حملتم، فهنا إدغام تاء في تاء.
فإن تولوا فإنما على الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وهذا هو الذي حمل من ربه سبحانه، أي: فإنما عليه ما حمل من تبليغ الرسالة، قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، فهذا هو المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبلغ، وأما الهداية فعلى الله، قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، فالله يهدي من يشاء من عباده، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقدر على تحويل القلوب، ولا على تغيير قناعات الناس، وإنما يأمر وينهى بأمر رب العالمين.
قال تعالى: {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} [النور:54] أي: من طاعة الله وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهو مكلف بالتبليغ وأنتم مكلفون بالتنفيذ وبالطاعة، فهو لا يحمل من أوزاركم شيئاً، وأنتم عليكم هذه الأوزار وعليكم ما حملتم.
قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54]، أكد ربنا سبحانه بهذا طاعة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] أي: تبليغ ما أمر الله عز وجل به، البلاغ المبين: هو البلاغ الواضح، وقد فعل صلوات الله وسلامه عليه، فبلغ البلاغ الواضح، وأدى الأمانة التي أمره الله عز وجل بها، وبيَّن للناس ووضح لهم وشرح لهم ما يحتاجون إليه، فما تركهم إلى أن لقي ربه سبحانه.(99/3)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)
ثم جاء وعد رب العالمين سبحانه وتعالى فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فوعد الله سبحانه النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذا الكتاب العظيم ووعد المؤمنين فقال: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))، وقيَّد وعده بالإيمان والعمل الصالح، فوعد الله عز وجل بالتمكين في الأرض للمؤمنين، وهذا وعد لا بد أن يكون ولا بد أن يحدث، فالله عز وجل لا يخلف الميعاد.
فإذا لم يحدث هذا فالمسلمون لم يأتوا بالشرط الذي ينبني عليه الجواب، والحكم الذي قاله الله سبحانه ووعده وعد مشروط فيه أن تكونوا مؤمنين، وأن تعملوا الصالحات.
فإذا كانوا مؤمنين وعملوا الصالحات -والصالحات كل ما أمر الله عز وجل به في دينه-: فأقاموا أمر دينهم، وجاهدوا عدوهم، وكانوا صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم، هادين مهديين، فالله عز جل ينجز ما وعد.
قال تعالى: ((لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم)) الفعل المضارع إذا كان قبله لام التوكيد وآخره نون التوكيد الثقيلة فتكون هذه الجملة واقعة في جواب قسم محذوف، فالتقدير هنا: والله ليستخلفنهم، فالله سبحانه يقسم أنه لابد أن ينصر هؤلاء، وليجعلنهم خلفاء في الأرض.
قال تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، فقد استخلف الذين من قبلهم من المؤمنين في الأمم التي كانت قبل أمتنا، والتي جعل الله عز جل لها نصراً على عدوها، فقد كانت أمة موسى عليه الصلاة والسلام مستضعفة في الأرض، فوعدهم الله عز وجل أن يستخلفهم ويمكن لهم، فنصرهم على فرعون وجنوده، ومكن لهم وأهلك فرعون ومن معه.
لهذا وعد الله عز وجل المؤمنين أنهم إذا نصروا الله فإن الله ينصرهم، فقال: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، ووعدهم الله عز وجل إذا أعدوا القوة واستعدوا لأعدائهم وكانوا مؤمنين صالحين أن ينصرهم وأن يستخلفهم.
قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5]، وتمكين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في الأرض إنما يكون بهذا القيد وبهذا الشرط وهو: طاعة رب العالمين، فكما جعل الذين من قبلنا يتمكنون بإيمانهم، وجعلهم أئمة بطاعتهم لرب العالمين، فكذلك أرانا سبحانه وتعالى كيف جعلهم أذلة بمعصيتهم له، فبنو إسرائيل الذين أطاعوا الله مع موسى نصرهم الله، ثم عبدوا العجل فإذا بالله عز وجل يأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، فقتلوا في غداة واحدة سبعين ألفاً منهم، فالمؤمن ينصره الله، والذي يخالف يخذله الله.
فلما أطاعوا ربهم سبحانه نجاهم وخرجوا منصورين، ولما انحرفوا عن دين رب العالمين إذا بربنا سبحانه يجعلهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، فلما رجعوا إلى الطاعة رجع الله عز وجل إليهم بالفضل، فلما عصوا ربهم رجع عليهم بالعقوبة قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78].
فالمؤمنون الذين يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم، ويتمسكون بدينهم، ويعملون الصالحات وكان عملهم خالصاً لله، وعدهم الله أن ينصرهم، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم} [النور:55] يعني: يجعلهم خلفاء، فيزيل الأمم ويجعل هؤلاء الذين يتمكنون يخلفونهم في الأرض، فيزيل حكاماً ويزيل ملوكاً ويذهب طغاة ويجعل هؤلاء هم الخلفاء في الأرض.
فأول من مكن الله عز وجل لهم من هذه الأمة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أطاعوا الله عز وجل، وأطاعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في سبيل الله، ففتحت لهم الفتوح، ومكن لهم ربنا سبحانه وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الخلافة من بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً)، فكأن ذلك هو التطبيق الحرفي لهذه الآية في هؤلاء، وليس فيهم فقط ولكن في كل من يفعل كفعلهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فالخلافة كانت ثلاثين سنة، يروي هذا الحديث أبو داود والترمذي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفسره سفينة ويقول لمن يحدثه: أمسك عليّ خلافة أبي بكر سنتان، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان ثنتا عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين، فيكون المجموع ثلاثين سنة سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه من علامة نبوته ومعجزاته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أخبر أنه ستكون خلافة على منهاج النبوة ثلاثين سنة ثم يكون ملكاً عضوضاً.
فلما تولى معاوية رضي الله عنه تحولت الخلافة إلى ملك، ولكن كان يحكم بشرع رب العالمين.
فالذين استخلفهم المؤمنون في هذا العصر العظيم في الثلاثين سنة كان فيها الحق والعدل والاتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها النصر والتمكين، ثم جاء الخلفاء من بعدهم فأقاموا دين رب العالمين وتمسكوا، وإن كان من بعدهم أقل ممن كانوا من قبل، ولكن كانوا مستمسكين بدين الله، ففتح الله لهم بلاد الأرض مشارقها ومغاربها.
ثم ترك المسلمون دين رب العالمين سبحانه فإذا بالله يذلهم وإذا بهم يتقهقرون ويتراجعون، وتتمكن منهم الأمم؛ لأنهم خالفوا ما قال الله سبحانه وتعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] يعني: بني إسرائيل ومن قبلهم ممن كانوا مؤمنين.
وهذه فيها قراءتان {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55]، وهي قراءة الجمهور.
وقراءة شعبة عن عاصم: {كَمَا اسْتُخْلفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
وقال تعالى: ((وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)) هذا وعد من الله سبحانه بتمكين دين الإسلام الذي قال فيه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وهذا أيضاً جواب للقسم والتقدير: والله ليمكنن لكم هذا الدين طالما أنتم على الإسلام وعلى الصلاح في العمل، وأنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً، قال تعالى: ((وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)) بشرط أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(99/4)
تفسير سورة النور الآية [55]
لقد وعد الله أولئك المتطلعين إلى النصر والتمكين، ونشر دين رب العالمين، والذين يريدون الاستخلاف في الأرض وتمكين دينكم فيها، وإزالة الرعب وإبداله أمناً، وعدهم بذلك بشرط أن يؤمنوا ويعملوا ويعبدوا الله حق عبادته، ويحذروا من الشرك بنوعيه، فإذا حققوا ذلك فإن الله لا يخلف الميعاد.(100/1)
تفسير قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
في هذه الآية الكريمة وعد من الله سبحانه وتعالى للذين آمنوا به سبحانه، وعملوا الصالحات التي أمروا بها بالتمكين في الأرض والاستخلاف.
قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، فهذه ثلاثة أشياء وعد الله عز وجل بها هاهنا: الاستخلاف في الأرض، فيعطيهم الله عز وجل الحكم فيحكمون بشرعه سبحانه وتعالى، فقد آمنوا وعملوا الصالحات وتربوا على العقيدة الصحيحة وعلى العمل الصالح، فاستحقوا أن يسودوا العالم، وأن يحكموا غيرهم، فوعدهم بالاستخلاف، ووعدهم بأن يمكن لهم هذا الدين العظيم الذي ارتضاه لهم.
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، والخطاب هنا لأصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [النور:55].
والمعنى: أنه سيعجل لكم هذا ما استمسكتم بدين الله، وما استمسكتم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يؤخره عنكم، وكان وعد الله الحق سبحانه وتعالى، فرأى الصحابة ذلك مباشرة، فهم أولى الناس بأن يستخلفوا، ولذلك خير القرون وأحبها إلى الله عز وجل هم قرن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه على هذا الدين العظيم.
قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
فإذا كان الله عز وجل وعد المؤمنين فالوعد عام، فإذا نص على هؤلاء فالوعد عاجل في التنفيذ: أنه يا من أنتم آمنتم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وابتليتم وتعبتم وأوذيتم في سبيل الله عز وجل سنمكن لكم، فكان الوعد من الله عز وجل، وكان التنفيذ في حياة النبي صلوات الله وسلامه عليه، والله لا يخلف الميعاد.
فأخبر هنا أنه ليستخلفنهم فكانت الخلافة للنبي صلى الله عليه وسلم، فحكم بدين رب العالمين، وجاء الخلفاء الراشدون من بعده فحكموا بشرع الله، ومكن الله عز وجل لهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وعده للمؤمنين: (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
فالآية وعد من الله عز وجل، والحديث وعد من النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث في صحيح مسلم وفيه: أن الله سيتم هذا الأمر بعدما كانوا في ضعف، وفي قلة، وفي ذلة، وفي خوف، وفي أذى من الكفار، فالله يعدهم أن سنمكن لكم وستكونون أقوياء، وسيسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله سبحانه، يعني: أنه في غاية الأمان وليس خائفاً من أحد إلا الله سبحانه وتعالى، والذئب على غنمه وهذا خوف الطبع، فإذا كان معه غنم فهو ليس خائفاً من أحد أن يسرقها؛ فبالإسلام استتب الأمن والأمان، لكنه يخاف الخوف الجبْلي الطبعي: أن الذئب يأكل الغنم.
وحدث مثل هذا الأمن في يوم من الأيام، بل وفي أعوام كثيرة طالت واستقر الأمن وحدث وعد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، وذلك لما فعلوا ما أمر الله عز وجل به، فقال: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] يعني: المؤمنين السابقين قبلهم من بني إسرائيل وغيرهم قد استخلفهم الله سبحانه، قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5].
فمنّ عليهم وجعلهم -بعدما كانوا عبيداً- سادة، وبعدما كانوا مقهورين أذلة جعلهم منصورين أعزة، والفضل بيد الله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55]، فدين الإسلام في أيام مكة لم يكن ممكناً له، فكان المشركون يؤذون المؤمنين، ويؤذون النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن لما هاجر النبي إلى المدينة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، مكن له ربه سبحانه وتعالى، أي: نصره، وجعل له المكانة في الأرض.
قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55].
وهو الخوف الذي كانوا فيه من المشركين ومن أذى الكفار، والخوف الذي كانوا فيه من غيرهم، فالله عز وجل يذكر أنه سيبدل هذا الخوف إلى الأمن والأمان بالقوة التي يعطيهم الله عز وجل، وبالعلم والعزة التي يعزهم الله عز وجل بها، بالضعف الذي يصيب أعداءهم، وكيف نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، فكان من جنود النبي صلى الله عليه وسلم التي جعلها الله عز وجل ليمكن له الرعب في قلوب المشركين.
قال تعالى: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران:151].
إذاً: فالإنسان الكافر المشرك يجعل الله عز وجل في قلبه الرعب والخوف، فإذا به يخاف من النبي صلى الله عليه وسلم، ويخاف من المؤمنين، وهذا من تمكين الله عز وجل لدينه.
والنصر له أسباب مادية، وأسباب معنوية، فمن أسبابه المادية قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] , وقال: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66].
إذاً: فالقوة المادية: هي قوة السيف، وقوة العدد.
وقوة الإيمان في قلوب المؤمنين من القوى التي يجهز المؤمنين أنفسهم بها، فالمؤمن يؤمن بالله، ويثق في نصر الله، والله يزيده إيماناً، ويزيده قوة، ويجعل قلبه ثابتاً، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فيربط على قلوب المؤمنين ويجعلهم في ثبات ولا يخافون ولا يبالون بأعدائهم.
والكافر يجعل الله عز وجل الخوف في قلبه، فأقل شيء يفزعه ويخيفه، ولذلك أخبرنا عن بني إسرائيل فقال: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14].
أي: لا يجتمعون لقتالكم وأنتم جيش وقوة، فهم يخافون منكم، إلا إذا فقدتم أسباب النصر فلم توجد قوة عندكم: لا قوة بدنية، ولا قوة عقدية، ولا قوة معنوية، فعندئذ يبتدئ الكافر يتحرش بكم.
فأهل الكتاب يخافون من المؤمنين، وقد جعل الله بأسهم بينهم شديداً طالما كان المؤمنون متمسكين بعهد الله سبحانه وبدينه، فالله يلقي في قلوب الذي كفروا الرعب، قال سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر:14].
إذاً: لما يكون عندهم حصون، وأما وجهاً لوجه فيخاف إذا كان المؤمن في قوة، وعنده جيش، وعنده سلاحه.
ولذلك ترى هؤلاء بدباباتهم وبمدافعهم يجرون وراء الصبيان الذي يحذفوهم بالحجارة في فلسطين، فهو يخاف أن يجري وراءه بحجر مثله، لكنه يجري وراءه بمدفع، فهذا يحذفه بحجرة، وهذا يرميه بالرصاص، فطالما هو في دبابته فهو متحصن بحصنه وسيقاتل، قال الله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر:14] أي: من وراء سواتر، أو من وراء جدار، لكنه يخاف من المواجهة وذلك مما جعل الله عز وجل في قلبه من رعب ومن خوف.
قال الله سبحانه للمؤمنين: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55].
فتبديل الخوف الذي أنت فيه أمناً هو من الله سبحانه، ويقلب الأمر على هؤلاء الكافرين، فالكافر مستقر في نفسه أنه سينتصر، فيزعزع الله عز وجل هذا في قلبه، ويزلزل قدمه، ويبعد عنه أسباب النصر، ويهزمه سبحانه وتعالى، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] أي: أنت أخذت بالأسباب وأنت ترمي، فعليك الرمي فقط، والذي يوصل هذا الشيء ويجعله يصيب ويجعله يقتل هو الله سبحانه وتعالى.
فالله يطمئن المؤمنين ويقول: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، فلا تخف من الكافر، واقدم عليه واقطع رقبته ويده والله معك.
هذا إذا استمسك المؤمنون بدين رب العالمين سبحانه يمكنهم وينصرهم.(100/2)
القراءات في قوله تعالى: (وليبدلنهم)
قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] هذه قراءة الجمهور: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} [النور:55].
وقراءة ابن كثير، وشعبة عن عاصم ويعقوب: ((وليبدِلنهم من بعد خوفهم أمناً)).
فيبدل الخوف الذي في القلوب أمناً وأماناً، وهذا الوعد من الله عز وجل له شروط، قال سبحانه: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55]، إذاً: فالمؤمن يعبد الله سبحانه ولا يشرك به شيئاً، وكأنه يقول: أنتم أيها المؤمنون طالما تمسكتم بدين رب العالمين، وكنتم تعبدون الله ولا تشركون به شيئاً: لا شركاً أكبر يخرجكم من الملة، ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً، فلكم الاستخلاف والنصر.
والشرك الأكبر أن يعبد الإنسان وثناً أو حجراً، أو يطلب من غير الله ما لا يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى، أو يتوكل على غير الله ولا يتوكل على الله سبحانه، فهذا من الشرك الذي يخرج صاحبه من الملة.
والشرك الأصغر كأن يقول: لولا السلاح الذي في يدي لما انتصرت، وينسى الله سبحانه وتعالى.
والشرك الخفي في قلب الإنسان كالرياء والسمعة، كأن يقول: نحن ذاهبون إلى القتال وسنعمل كذا، وكأنه هو الذي يفعل وينسى الله سبحانه وتعالى.
فإذا انتفى ذلك عن قلب الإنسان المؤمن وكان صادقاً مع الله، وأخلص لله كان الله معه ينصره سبحانه.
قال: {يَعْبُدُونَنِي} [النور:55] أي: يتوجهون بالعبادة إلي وحدي، فالمؤمن حين يجد نفسه قد ضاقت به السبل وقد اعتاد أن يقول: يا رب، ففي وقت الضيق ينصره الله سبحانه وتعالى.
وأما إذا ضاق عليه الأمر وابتلي فدعا: يا سيدي فلان، يا وليي فلان، يا فلان، فيسأل غير الله سبحانه فقد أشرك بالله، وإن زعم أنه على الإسلام.
وكذلك إذا نسي الله، ونسي التوكل على الله سبحانه، وبدأ يتوكل على الخلق، فيتوكل على فلان أن يمده بسلاح، ويتوكل على فلان أنه ينصره ويكون معه في وقت الذل، وينسى الله سبحانه وتعالى، فهنا يتخلى عنه ربه.
فالتوكل على الله: أن تجعل الله وحده وكيلك الذي يقوم بأمرك، وهو الذي يدبر أمرك.
فالإنسان المؤمن توكله على الله، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً).
فلو أن المؤمن يتوكل على الله حق التوكل ثقةً بالله سبحانه وتعالى، ويأخذ بالأسباب، فالله يكون معه، وينصره سبحانه وتعالى.
فهذا وعد من الله سبحانه، وقد جاء في حديث تميم الداري الذي رواه الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغارة والجزية.
والحديث إسناده صحيح.
قال هنا: (ليبلغن هذا الأمر)، ليبلغن: فعل مضارع مسبوق باللام المؤكدة، ومنتهي بالنون المثقلة المؤكدة، فهو جواب لقسم، كأنه يقول: والله ليبلغن هذا الأمر، يعني: هذا الدين العظيم، سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وهذا من جوامع كلمه صلوات الله وسلامه عليه، ومن محاسن التشبيه العظيم، فالإسلام يبلغ ما بلغ الليل والنهار، إذ الليل والنهار يدخلان كل البيوت، فكذلك هذا الدين العظيم لابد وأن يبلغ جميع بقاع الأرض يوماً من الأيام.
وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلوات الله وسلامه عليه، كما يأتي الليل على الجميع، ويأتي النهار على الجميع فسيأتي هذا الدين على الجميع، قال: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) المدر: الطوب، والوبر: الشعر.
فبيوت الخيام في الصحاري، وبيوت الطوب والأبنية في البلدان والقرى كلها سيدخلها هذا الدين يوماً من الأيام.
قال: (إلا أدخله الله هذا الدين) يدخله هذا الدين وإن أبى المشركون.
قال صلى الله عليه وسلم: (بعز عزيز، أو بذل ذليل) يعني: إنسان يعزه الله عز وجل بهذا الدين، أو إنسان آخر يرفض هذا الدين فيذله الله سبحانه وتعالى برفضه إياه، حتى يدخل هذا الدين كل البيوت.
قال: (عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله).
فهنا وعد من الله سبحانه وقد تحقق شيء من هذا الوعد، وجاء دين الله عز وجل ودخل الناس فيه أفواجاً، وانتشر في بقاع الأرض، ولكن بهذه الصورة التي في هذا الحديث سيكون يوماً من الأيام؛ فإن الله لا يخلف الميعاد، ولم يحدث أن الدين دخل جميع البيوت فأسلم جميع الناس، ولكن سيكون بهذا الوعد الذي في هذا الحديث يوماً من الأيام يعز الله عز وجل هذا الدين كما كان قبل ذلك وأكثر من ذلك، فيدخل الجميع فيه، وذلك حين ينزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، فيحكم الناس ليس بالتوراة ولا بالإنجيل، ولكن يحكمهم بهذا القرآن، ويكون إمام المسلمين من المسلمين، فيصلي بهم ويتأخر للمسيح عليه الصلاة والسلام حتى يتقدم، فيقول المسيح: لا إمامكم منكم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسيح عليه الصلاة والسلام ينزل فيضع الجزية -يعني: يمتنع من أخذها- فلا يقبل إلا الإسلام، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب)، فلا يكون في الدنيا إلا هذا الدين العظيم.
قال الله عز وجل:: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55] فهذا شرط، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإذا كانت حياة المؤمن ظاهراً وباطناً، قولاً وعملاً، كلها فيما يحبه الله عز وجل، استحق أن ينصره الله وأن يمكن له.
قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النور:55] أي: بعدما ذاق حلاوة الإيمان، وعرف ربه سبحانه، قال: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
والفسق هنا: الفسق الأكبر بمعنى: الخروج من دين رب العالمين سبحانه، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، فكذلك هؤلاء بعدما دخلوا في دين الله عز وجل لم ينالوا منه شيئاً كفروا بالله، ففسقوا فخرجوا عن دين الله، وخرجوا عن طاعته، فلا يضرون إلا أنفسهم، قال: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] بمعنى: الفسق الأكبر، فالكفر منه أكبر مخرج لصاحبه من الملة، ومنه أصغر.
والظلم منه ظلم أكبر، ومنه ظلم أصغر.
والفسق منه فسق أكبر وفسق أصغر، فهنا الفسق المقصود به الكفر برب العالمين، والخروج من هذا الدين.
نسأل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(100/3)
تفسير سورة النور [56 - 59]
لقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بإقامة الصلاة، وهي عبادة لله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة، وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعل الله يرحمهم بذلك.
وذكر سبحانه أحكام استئذان الأقارب بعضهم على بعض، فأمر الله المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أوقات: ألأول: من قبل صلاة الغداة، والثاني: وقت القيلولة، والثالث: بعد صلاة العشاء، وفي غير هذه الأوقات لا جناح عليهم في الطواف على بعضهم البعض.(101/1)
تفسير قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56].
لما وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يعبدون الله سبحانه ولا يشركون به شيئاً أن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم، وأن يبدل خوفهم أمناً، أمرهم بعد ذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويطيعوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ لعلهم يرحمون، فالوعد من الله عز وجل بالتمكين في الأرض، والوعد من الله سبحانه وتعالى بالرحمة في الدنيا وفي الآخرة، إذا كان المؤمنون على صلاح وعلى حسن عبادة لرب العالمين، فإذا فعلوا ذلك استحقوا الاستخلاف والتمكين، وأن يؤمنهم الله عز وجل في الدنيا، وكذلك استحقوا أن يرحمهم الله عز وجل يوم القيامة.
فهنا استحقاق الرحمة كان بما قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]، فخصص عبادات ثم عمم الطاعة، فهنا خصص العبادة البدنية والعبادة المالية بالذكر، فالعبادة البدنية: الصَّلاة، وهي أفضل العبادات البدنية، والعبادة المالية: الزكاة، فعلى صاحب المال أن يؤدي ما فرضه الله عز وجل عليه، فإذا كان عنده نصاب من أي نوع من أنواع الأموال التي فيها الزكاة وحال عليه الحول وجب عليه أن يؤدي زكاة ماله.
قوله: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))، إن إقامة الصلاة ليست مجرد الأمر بالصلاة، وإنما هي أن تستقيم فيها، ولا تتلهى عنها، ولا تسهو فيها، بل تقيم الصلاة على النحو الذي أمرك به ربك سبحانه، والذي وضحه لك النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).
وكذلك أمر في الصلاة بقوله: (اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً)، فيطمئن الإنسان في صلاته، وليكن مقبلاً على الله سبحانه فيها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع) أي: لا يظن أن يصلي غيرها، فأنت تقوم في الصلاة على الهيئة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وبالخشوع الذي أمرت به، فإذا أقمت الصلاة كما أُمرت نهتك عن الفحشاء وعن المنكر، وكذلك الزكاة تبعد عنك شح النفس الذي خلق في الإنسان.
قوله: ((وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))، وقد ذكر ربنا سبحانه في غير هذه الآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59]، وقال في آية أخرى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:132]، وقال في الآية الأخرى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فطاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله سبحانه وتعالى، فأمر وقال: ((وأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) أي: على الهيئة التي أمرتم بها، ((وَآتُوا الزَّكَاةَ)) أي: على ما فرض الله عز وجل عليكم، ((وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) أي: فيما يأمركم به عليه الصلاة والسلام، وكل ما نهاكم عنه تنزجرون عنه.
قوله: ((لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) هذا وعد من الله عز وجل، وهو لا يخلف الميعاد، فإذا قال: لعلك ترحم فيقيناً سيرحمك، لكن إذا أتيت بهذا الشرط الذي ذكره لك، فرحمة الله عز وجل عظيمة وواسعة، وأخبر عنها بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، هذا وعده سبحانه أنه يكتب هذه الرحمة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف:156 - 157] أي: بكل معروف، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] يعني: عن كل منكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
إذاً: هنا ربنا سبحانه جعل المطيعين من المؤمنين هم المرحومون وأهل الرحمة، وهم المفلحون يوم القيامة.(101/2)
تفسير قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض)
قال الله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور:57]، قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، جاءت بالخطاب وجاءت بالغائب، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ))، هي قراءة عاصم وقراءة أبي جعفر، أي: يقول هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا تظن ولا تحسب أن هؤلاء المشركين يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض.
وأما قراءة ابن عامر وقراءة حمزة: (لا يحسَبن الذين كفروا معجزين في الأرض)، وقراءة باقي القراء: (لا تحسِبَن الذين كفروا معجزين في الأرض)، ففي كل القرآن يقرأ: (تحسَب) عاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر بفتح السين، وأما باقي القراء فيقرءون (تحسِب) بالكسرة.
إذاً: أربعة يقرءونها في كل القرآن: (تحسَب) أو (يحسَب) أو (تحسبَن) أو (يحسبَن)، كلها بفتح السين، وهؤلاء هم: ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر، وأما باقي القراء فيقرءون هذه الألفاظ كلها: (تحسِب) و (يحسِب) و (تحسِبن) و (يحسِبن) بكسر السين.
قوله: (لا تحسبن) هي على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي تنصب مفعولين، فقوله: ((لا تَحْسَبَنَّ)) أي: هؤلاء الكفار، ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) أي: لا تحسب أنت، فهنا الفاعل هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: (الذين كفروا) هذا المفعول الأول، وقوله: ((مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)) هذا هو المفعول الثاني لتحسب.
والقراءة على الغائب: (لا يحسبَن) قراءة ابن عامر وقراءة حمزة وقراءة إدريس عن خلف، والمعنى: لا يحسبَن الذين كفروا أنفسهم يعجزون الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهنا قوله: أنفسهم هو المفعول الأول، و (مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) هو المفعول الثاني.
قوله: ((لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ)) أي: ومعاجزين، يقال: أعجزت الإنسان أو أعجزت الرجل أن يدركني، يعني: بحيث لا يقدر عليه ولا يقدر أن يأتي به، فهؤلاء الكفار وصل غرورهم أن يظنوا أنهم يعجزون الله عز وجل، وأن ربنا لا يقدر عليهم، فهو قال لهم: لا تظنوا هذا الشيء، فأين تذهبون من الله عز وجل والأرض أرضه، والسماء سماؤه؟ فلا ملجأ من الله إلا إليه، فلا يحسبون أنفسهم أنهم معجزون لله عز وجل، وفائتون من الله سبحانه وتعالى في الأرض.
قوله: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ)) أي: أنهم لا يفلتون من الله عز وجل، وأنهم إذا ماتوا سيجمعهم من الأرض مهما تفرقوا فيها، وانظروا إلى ذلك الإنسان الذي أمر بنيه وقال: (إذا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديداً ريحه فذروني في البر والبحر، إن الله إن يقدر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين).
فهنا الإنسان ظن أنه إذا عمل هذا الشيء فلن يفلت من الله عز وجل، فأين يذهب من الله عز وجل؟ فالأمر يسير عليه جداً سبحانه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: جامعة لما فوقها في الحياة وبعد الممات، فلما مات هذا الإنسان وذروه في البر والبحر جاء أمر الله عز وجل يوم القيامة: يا أرض هاتي ما كان فيك منه، فجمعته الأرض، ويا بحر هات ما كان فيك فاجتمع الرجل، فأحياه الله عز وجل وسأله يوم القيامة، والحديث معروف.
والمقصود أن الإنسان لا يغتر ولا يظن أنه يعجز ربه سبحانه وتعالى، فمهما هرب فالله عز وجل يأتي به، فليتأدب المرء مع ربه سبحانه، وليحسن الظن بالله عز وجل، وليفعل الطاعات، وليعلم أنه مهما هرب فإن الله آت به، ثم يكون مأوى هؤلاء الذين يهربون من الله عز وجل نار جهنم.
قال تعالى: ((وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) فهذا مصير بئيس وفظيع لهؤلاء، فبئس المكان مكان هؤلاء، وما صاروا وذهبوا إليه يوم القيامة وهو النار.(101/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم)
يأمر الله عز وجل المؤمنين بأدب من الآداب الشرعية العظيمة فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]، وهذه الآية في الاستئذان الخاص، والآية السابقة كانت في الاستئذان بعمومه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] أي: في أي بيت غير بيتك لا تدخل حتى تستأذن وتستأنس، فإذا كان في بيتك فهناك ثلاثة أحوال لا بد من الإذن فيها، فخصص هنا وقال: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) أي: العبيد الذين تملكونهم في بيوتكم، وكذلك {والَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] أي: الأطفال الصغار، والطفل متى فهم ووعى وعرف العورة واستحيا منها فإنه يؤمر بالاستئذان، ولذلك قال الزهري حين سئل عن عُمْر هذا الذي يستأذن؟ فقال: أربع سنوات، يعني في هذا السن يعرف العورة، وإذا نظر يستحي من هذا الشيء، فعلى ذلك يعلم الصبي أنه لا يفتح الباب ولا يدخل على أبيه وأمه إلا بعد أن يستأذن، فيعلَّم في هذا السن.
والصبي ليس مكلفاً ولذلك أمر الله عز وجل المؤمنين بقوله: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ)) أي: ليستأذنوكم أنتم لكن لا يأثم إن دخل دون استئذان وإنما هو تعويد حتى لا ينظر إلى شيء يتأذى به ولا يفهمه، فقد يدخل الصبي الصغير ويفتح الباب ويجد الأب يجامع الأم، فهذا منظر بالنسبة له يجعله يتحير فيه، ولعله يمرض بسببه، وكم رأينا من أصيب بعقدة نفسية في حياته من صغره بسبب أنه نظر لشيء لا يفهمه، لذلك ربنا سبحانه وتعالى يؤدب المؤمنين ويؤدب الصغار والكبار ويعلمهم أن الصغير يستأذن طالما أنه يعقل ويفهم ذلك، فإذا أراد أن يدخل باباً مغلقاً فيه الأب أو فيه الأم، أو فيه الأخ، أو فيه الأخت فإنه يستأذن في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأن هذه الأوقات هي مظنة أن يكون الإنسان فيها عارياً، فقال سبحانه: ((لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثلاث مرات)) يعني: الأطفال الصغار الذين يفهمون العورات، يستأذنون ثلاث مرات، وهنا المقصد أن يستأذنوا في الأوقات الثلاثة التي سيأتي بيانها، وليس المعنى أنه يستأذن ثلاث مرات ويقول: أأدخل؟ أأدخل؟ أأدخل؟ لا؛ لأن بقية الآية يوضح مقصد الله سبحانه وتعالى من الثلاث المرات، فقال تعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ))، فهذه هي الأوقات الثلاثة التي الغالب فيها أن الإنسان وخاصة في الحر يدخل غرفة نومه، ويخلع ثيابه، فلعله ينام وليس عليه إلا ما يستر العورة المغلظة فقط.
وإذا كان الصغير الذي هو غير مكلف ومرفوع عنه القلم ومع ذلك هو مأمور بأن يستأذن، ومأمور الولي أن يعلمه أن يستأذن فكيف بالبالغ الكبير؟! قال سبحانه وتعالى: ((مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هذه الأوقات الثلاثة أوقات قد تنكشف فيها عوراتكم وأنتم نائمون أو مستيقظون، ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) يعني: هي ثلاث عورات لكم، فهنا المبتدأ محذوف، والخبر فيها (ثلاثُ) على قراءة الجمهور، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف فقرءوا: (ثلاثَ عورات لكم) يعني: كأن هذه الأوقات أوقات عورات لكم.
فقوله: ((ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ)) أي: حرمنا على الإنسان فيها أن يفتح باباً مغلقاً في هذه الأوقات حتى يستأذن مَن بداخلها، ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ)) أي: ليس عليكم أنتم أن تفتحوا باباً في بيتكم، فيدخل بعضكم على بعض، لكن في الماضي كانت الغرف ليس لها أبواب، وإنما عليها ستور، فكان الواحد يفتح ستره ويدخل بسهولة، فالله عز وجل علم أدب الاستئذان سواء الستر موجود أو الباب مغلق، ففي غير هذه الأوقات عادة الإنسان أنه يلبس فيها ثيابه، فلا بأس أن يدخل بعضهم على بعض، إلا أن يكون الباب مغلقاً، فإذا كان الباب مغلقاً فلا أحد يفتح باباً ويدخل فيه؛ لعل إنساناً يبدل ثيابه، ولعله يكون متعرياً، فطالما أن الباب مغلق فإن عليه أن يستأذن.
إذاً: في هذه الأوقات الثلاثة قد يكون الباب مفتوحاً بالليل مثلاً وعليه ستارة، ويكون وراء الستار الرجل مع امرأته أو نحو ذلك، فنهى عن الدخول فيها دون استئذان؛ لأن هذه الأوقات مظنة انكشاف العورة.
قال سبحانه: ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ))، فهنا الخطاب في قوله (عليهم) للعبيد الذين ملكت أيمانكم، وأما الأطفال الصغار فليس عليهم إثم أصلاً، وإنما الإثم على الكبير البالغ.
وقوله: (جناح) يعني: إثم قوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: يطوف بعضكم على بعض؛ لأن العادة في بيت الإنسان أن أبواب الغرف تكون مفتوحة، ويدخل من مكان إلى مكان ويتحرك براحته في بيته، ولكن في هذه الأوقات يراعي الإنسان أن يستأذن حتى لا ينظر إلى أمه أو إلى أبيه وهما على حال لا ينبغي أن ينظر إليهما فيه.
فقوله: ((طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)) يعني: في سائر الأوقات، قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [النور:58] يعني: كهذا البيان العظيم الواضح، فالله عز وجل يوضح لكم دينكم ويوضح لكم آدابكم، فهو سبحانه لا يستحيي من الحق، فعلى ذلك هنا تأمر ابنك أن يستأذن، وتعلمه أدب الاستئذان من صغره، حتى يتعود على ذلك، فإذا كبر لا يفتح باباً مغلقاً أبداً حتى يستأذن مَن بداخل هذا المكان.
قال سبحانه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} [النور:58] أي: بما تحتاجون إليه وبما ينفعكم، {حَكِيمٌ} [النور:58] في أمره سبحانه، فكل ما يأمر به مبناه على حكمته سبحانه وتعالى.(101/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)
قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
يعني: هذا الطفل الصغير إذا كان يعود على الاستئذان، فإنه حين يبلغ الحلم من باب أولى أن يستأذن كما استأذن الكبار قبل ذلك، وإلا يكون عليه الإثم في ذلك.
قوله: ((وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ)) أي: الاحتلام، وهي علامة البلوغ، ((فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ)) يعني: البيان واضح وليس بخفي {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]، فإذا اتضح لك هذا البيان فلا يحل لك أن تفعل ما نهاك الله عز وجل عنه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(101/5)
تفسير سورة النور [58 - 60]
أمر الله النساء بالحجاب والستر؛ صوناً لهن وحفاظاً عليهن، وأباح للقواعد منهن اللاتي لا يرجون النكاح أن يضعن بعض ثيابهن رفقاً بهن، وتيسيراً عليهن، ومراعاة لكبر سنهن، لكن ذلك بشرط ألا يتبرجن بزينة، ومع ذلك فإن الستر خير حتى للعجائز، والله أعلم بخلقه وما يصلحهم.(102/1)
تفسير قوله تعالى: (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:60].
ذكر الله عز وجل آيات الاستئذان وأمر المؤمنين أن يستأذنهم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منهم؛ حفاظاً على العورات، ودعوة إلى التستر في البيوت، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الذين هم في ملك اليمين وإن كانوا يدخلون على أهل البيت إلا أنهم في هذه الثلاثة الأوقات لا بد وأن يستأذنوا.
وكذلك الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم عليهم أن يستأذنون في هذه الأوقات الثلاثة: من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأن هذه ثلاث عورات، فيضع الرجل والمرأة الثياب في هذه الأوقات؛ للنوم والراحة.
وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58] أي: في البيوت يطوف بعضكم على بعض، ويخرج هذا من مكان ويدخل في مكان آخر، ولكن هذه الأوقات لا بد من الاستئذان عند الدخول.
ثم ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الصغار إذا بلغوا الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، فقال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، إذاً: فالكبار يستأذن الرجل منهم على أبيه، وعلى أمه، ويستأذن على أخيه، وعلى أخته؛ لأنه إذا لم يستأذن فقد يفتح باباً ويرى عارياً مثلاً فيتأذى بذلك الرائي والمرئي، فأمر الله عز وجل بالاستئذان، فيعلم الصبي الصغير ويربى على ذلك، فإذا بلغ فلا يفتح باباً مغلقاً حتى يستأذن قبل الدخول.
ثم قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59]، فكرر المعنى للتأكيد أن الله عز وجل يبين آياته التي أنزلها من عنده سبحانه، ويبين أحكامها التي فيها حكمته العظيمة البالغة، وهي من علمه سبحانه، قال الله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:59].
وذكر الله عز وجل أن المرأة يجب عليها أن تستتر، وأنه لا ينظر إنسان إلى شيء منها، ثم تكلم عن القواعد من النساء، والقواعد: جمع قاعد، والقاعد من النساء: المرأة الكبير العجوز، ولا يقال: قاعدة؛ لعدم وجود المذكر فيها، وأما قولهم: الرجل قائم، والمرأة قائمة فلوجود الوصف في الرجل وفي المرأة، فيحتاج لتاء التأنيث للتفريق بينهما، ولكن القاعد تكون عن الحمل، ولا يوجد رجل قاعد عن الحمل، فكلمة قاعد هنا ليست محتاجة لتاء التأنيث، إذاً فالقاعد من النساء هي المرأة الكبيرة في السن التي لا تشتهى، ولا يرجى من وراءها حمل إذا تزوجت، والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً، قالوا: هن العجز اللواتي قعدن عن التصرف في حوائجهن، وقعدن عن الولد والمحيض؛ بسبب كبر السن.
وهذا قول أكثر أهل العلم، والمقصد أنها عجوز كبيرة لا يشتهى مثلها لزواج.
{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، فلم يقل: ((فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن)) فقط، بمعنى وضع جميع الثياب، ولكن قيد ذلك بشرط وهو: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60]، أي: لا زال هناك ثياب أخرى عليهن، فالمقصد هو التخفيف من بعض الثياب، فليس عليهن جناح أن يضعن من ثيابهن ويبقى عليهن ثياب؛ حتى لا يكن متبرجات، ولذلك قال: ((غير متبرجات بزينة))، وخص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، فلا حاجة للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لا يباح لغيرهن.
إذاً: فالمرأة الشابة البالغة إلى أن تصل إلى سن القواعد قبل ذلك يجب عليها أن تستتر، والراجح أن تستر جميعها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، فتضع الخمار فوق رأسها، وتلبس الدرع، وهو القميص الذي تلبسه النساء، ثم تجعل الجلباب ساتراً فوقها، وهو العباءة تلبسها فتتغطى من رأسها إلى رجليها.
وإذا كانت المرأة قاعداً فيجوز أن تترك العباءة التي تضعها النساء فوق الثياب، وتكتفي بالقميص والخمار الذي فوق رأسها وتستر به شعرها، فتلبس الثياب التي تستتر فيها، ولا تحتاج إلى لبس العباءة والجلباب.
قال العلماء: إن الكبيرة في السن كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، والمقصود بالدرع: القميص الذي يسمى بالجلابية، والخمار هو الغطاء الذي تستر به رأسها ومنكبها ورقبتها.
قال ابن مسعود وابن جبير: إن القاعد من النساء تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع.
وقوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:60] أي: غير مظهرات زينة، والتبرج مأخوذ من البروج، والبروج جمع برج، والبرج يطلق على القصر، ويطلق على منازل الكواكب في السماء، والبروج كأنها منازلها والقصور التي تنزل فيها، وسميت البروج لكونها مضيئة ومزينة، ولذلك جعلها الله عز وجل زينة في السماء.
فقوله: غير متبرجات، يعني: أن المرأة لا تبدوا أمام الرجال مظهرة زينتها بحيث تفتنهم بمنظرها، فغير متبرجات أي: غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحق.
إذاً كأن التبرج هو التكشف والظهور للعيون، ومنه قوله سبحانه: {بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78]، والمرأة الكبيرة لا تشتهى، فلا يجوز لها أن تزين نفسها بحيث تبدو أمام الناس في فتنة.
قيل لـ عائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! ما تقولين في الخضاب والصباغ والقرط والخلخال وخاتم الذهب؟ فقالت: يا معشر النساء! قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات، تعني: أن المرأة في بيتها تلبس الخلخال والخاتم وتتزين، ولكن الظهور بهذه الزينة أمام الرجال الأجانب ممنوع، فقالت: لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً.(102/2)
صنفان من أهل النار
إن التبرج شيء نهى الله عز وجل عنه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه أشد النهي، ففي الصحيح عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس) أي: ما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا في عهده عليه الصلاة والسلام.
الصنف الأول: هم الشُّرَط، وقوله: (قوم معهم سياط كأذناب البقر) أي: معهم كرابيج وسياط يضربون بها الناس، ويعذبوهم بها.
والصنف الثاني: (ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)، فمن الكبائر التي تقع فيها المرأة هو تبرجها وإظهار زينتها، وتعريها للناس، فهذه من أشد النسا عذاباً يوم القيامة.
يقول الإمام القرطبي: قال ابن العربي: إنما جعلهن كاسيات؛ لأن الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات؛ لأن الثوب إذا رق يصفهن.
أي: أنهن يلبسن الثوب الرقيق، وفي الزمان الماضي لم يكونوا يعرفون البنطلونات ولا الثياب المحزقة ولا الشفافة، وإنما الذي يعرفونه هو أن المرأة إما أن تلبس جلابية ثقيلة أو خفيفة، والجلابية الخفيفة هي التي يتحدث عنها ابن العربي، فتكون رقيقة تصف المرأة إذا لبستها، ولو عاش ابن العربي إلى هذا الزمان لذهل مما يراه بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الإمام القرطبي: هذا أحد التأويلين.
التأويل الثاني: أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى، أي: أنها لابسة للثوب وليس عندها تقوى، فالذي كان في زمنهم هو أن المرأة إذا خرجت عارية تكون مكشوفة وليست كاسية عارية، ففسروا الكاسية العارية بأنها كاسية بالثوب عارية من التقوى، ويستشهد له بقول الشاعر: إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا كما يحتج له بما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص، منهم ما يبلغ الثدي ومنهم ما يبلغ دون ذلك، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: ماذا أولت ذلك؟ -أي: الثوب- قال: الدين)، فكأن القرطبي رحمه الله يقول: إن هؤلاء النساء كاسيات من الثياب عاريات من الدين، وهذا الذي يمكن أن يفهم في الزمان الماضي.
يقول القرطبي: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة ظاهراً وباطناً، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك، هذا كلام القرطبي رحمه الله.
يقول: مما يقوي هذا التأويل: ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهن في باقي الحديث: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي: أن المرأة منهن تلبس طُرحة بعد أن لفت شعرها وجعلته بارزاً يظهر من تحت الخمار، ومنه ما يسمى في زماننا بالكعكة.
وما ذكر في الحديث موجود في هذه الأيام، فالمرأة تمشي متبرجة، وفوق رأسها لفات كبيرة من الشعر، وتذهب إلى الكوافير؛ حتى تتزين للناس، وتمشي كاسية تلبس ثياباً رقيقة، وتبدي ما تحتها، بل تكشف صدرها، ويدها، ورجلها، وفخذها، وتلبس البنطال الضيق الذي يرى منه كل جسمها، فمن فعلت ذلك فهي من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وهي من الملعونات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العنوهن إنهن ملعونات)، وهذا على العموم، ولا يخص واحدة دون أخرى.
فكل من فعلت ذلك فهي منحرفة بعيدة عن دين الله سبحانه، وعن شرع رب العالمين بتبرجها، وداعية إلى الفتنة والفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رءوسهن كأسنمة البخت) البخت: نوع من أنواع الجمال، عظام الأجسام، ضخام الأسنمة، فقوله: (رءوسهن كأسنمة البخت المائلة) أي: أنهن يقمن بلف شعورهن وجمعها في مكان فوق الرأس، ومن يرى ذلك يعلم أن الشعر قد لف بطريقة معينة تلفت الأنظار.
وقوله: (لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) يعني: الذي لم يدخل الجنة قد يشم رائحتها من مسيرة مئات السنين، وهذه لن تدخل الجنة ولن تشم رائحتها.(102/3)
خير النساء وشر النساء
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البيهقي عن أبي أذينة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير نسائكم الودود الولود، المواتية المواسية إذا اتقين الله)، فهي ودود فيها مودة ومحبة مع زوجها وأهلها، وولود: لها أولاد، والمواتية: المطيعة لزوجها، فهي امرأة ذات حنان ورقة وطاعة لزوجها، فهي مواتية وليست مخالفة.
وأما المرأة التي تتبنى مبدأ: خالف تعرف، فتخالف زوجها وتعارضه ولا تطيع أوامره فليست من خير النساء، بل هي من شر النساء.
والمواسية: هي التي تواسي الزوج بنفسها وبطيب كلامها، ففيها رحمة ورأفة، فهذه من خير النساء، وهذه الصفات قد توجد في المرأة المسلمة، أو قد توجد فيها الكثير من هذه الصفات، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اتقين الله)، فإذا كانت المرأة مؤمنة تتقي ربها سبحانه وتعالى فهي من خير النساء.
ثم بدأ صلى الله عليه وسلم بالمتبرجات، فالمتبرجة أشر امرأة على الأرض، فقال: (وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات) من الظهور وتحسين الخلقة، فالمرأة المعجبة بنفسها، والمهتمة بزينتها، والتي تحب أن تفتن الناس بمنظرها وجمالها: متخيلة، ويقال: الروضة متخيلة، أي: روضة نضرة، فكذلك المرأة التي تريد أن تبدي زينتها للناس، والأصل في المرأة ألا يرى جمالها إلا زوجها، وأما أن تبيح نفسها للناس -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فهذا لا يجوز، ولعلها في بيتها لا تتزين لزوجها ولا تلبس له، فإذا خرجت تزينت لغير أهلها، فهذه شر النساء (المتبرجات المتخيلات)، وهن المنافقات اللاتي قل إيمانهن.
وهذا النفاق قد يكون نفاقاً أكبر مخرجاً من الملة وذلك إذا استحلت التبرج، وزعمت أنه لا دليل على إن التبرج حرام، وأنه مسألة شخصية مزاجية، فتنكر فرضية الحجاب، وتنكر ما أمر الله عز وجل به من استتار المرأة، فهذه أنكرت ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فتكون بذلك كافرة، ونفاقها نفاق أكبر مخرج من دين رب العالمين.
وأما من اعتقدت أن التبرج حرام إلا أنها تفعله فنفاقها من النفاق العملي، والأولى والثانية لا يدخلن الجنة كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم)، فالغربان بيضاء وسوداء، وهذا فيهن كثير، لكن الغراب الأعصم صاحب المنقار الأحمر والذي رجلاه حمروان نادر في الغربان، فكذلك لا يدخل الجنة من هؤلاء إلا النادر منهن ولا حول ولا قوة إلا بالله.(102/4)
التحذير من فتنة النساء
جاء في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في هذه الأمة ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى لو كان في بني إسرائيل من يأتي أمه علانية والعياذ بالله لكان في هذه الأمة من يصنع ذلك، وانظروا إلى حال المسلمين الآن، وانظروا إلى المسلمات في تشبههن بالكافرين والكافرات، فالمرأة تتبرج ولا تبالي بدين ربها سبحانه، بل لا تعرف منه شيئاً، فلا تصلي ولا تصوم ولا تصنع شيئاً من الدين، ومن النساء من تسأل عن حكم الصلاة بالبنطلون؛ لأنها تريد أن تصلي مع الناس بالبنطلون الجنز، فتسأل عن شيء لا يجهله أحد، فالكل يعلم أن صلاتها باطلة، ولكن ذلك من الجهل بدين رب العالمين، وقد تسأل المرأة عن حكم الصلاة ورأسها مكشوف، وغير ذلك من الأسئلة التي تدل على جهل الناس بدين الله سبحانه.
فعلى المسلمين أن يتقوا الله في نسائهم ويعلموهن أمور دينهن، ولا يتركوهن لمن يعلمهن التبرج.
إن من المسلمين من يصلي وعلامة الصلاة على رأسه ولكنه يمشي مع ابنته في الشارع متبرجة، فإذا أمرته بالمعروف ونهيته عن المنكر قال لك: لا زالت صغيرة، وقد يكون عمرها عشرين سنة مثلاً، فلعلها لن تكون كبيرة في نظره إلا عندما تكون من القواعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(102/5)
تفسير سورة الفرقان [1 - 3]
بدأ الله عز وجل سورة الفرقان بتنزيهه وتقديسه عن النقائص جل وعلا، ممتناً على عباده بإنزال القرآن على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، ومذكراً لعباده بأنه المالك للخلق وحده ولم يكن له شريك في الملك، الذي أحصى كل شيء وخلقه وقدره تقديراً؛ ولذا كان العجب من أولئك الذين عبدوا غيره من أصنام وأحجار لا تنفع نفسها فكيف ستنفع غيرها؟!(103/1)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:1 - 6].
هذه السورة الخامسة والعشرون من كتاب رب العالمين سبحانه، وهي سورة الفرقان، وهي سورة من السور المكية، قيل: إلا ثلاث آيات منها فمدنية، والجمهور على أن هذه السورة مكية، قال ابن عباس: إلا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68] إلى قوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70] قالوا: فهذه مدنية، وباقي السورة كلها مكية، والسورة فيها خصائص السور المكية، ففيها: ذكر الكفار ومطاعنهم على هذا القرآن العظيم وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطعن هؤلاء في نبوته صلى الله عليه وسلم، وفيها الرد على مقالات هؤلاء وجهالاتهم.
كذلك فيها: الرد على افترائهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها ذكر صفات الله سبحانه وتعالى وعظيم قدرته، وفيها أيضاً أخلاق وصفات المؤمنين، وبيان كيف خلق الله عز وجل الإنسان والبحار والأرض، وجعل سبحانه وتعالى آيات لعباده في ذلك على ما يأتي التفصيل.
وفيها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، والسور المكية تهتم بأمر العقيدة، وذكر اليوم الآخر والجنة والنار، وفيها بيان صفات المتقين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، إلى غير ذلك من خصائص وصفات السور المكية.
والسورة آياتها سبع وسبعون آية اتفاقاً ليس هناك خلاف بين أهل العلم.(103/2)
معنى قوله: (تبارك)
بدأها الله سبحانه وتعالى بقوله: {تَبَارَكَ} [الفرقان:1]، كما بدأ غيرها بقوله: {سُبْحَانَ} [الإسراء:1]، فتبارك الله بمعنى: تقدس سبحانه، وبمعنى: تعالى الله عز وجل، وهو من البركة ومعناه: الخير العظيم، فتبارك الله بمعنى: زاد خيره وثبت ودام، فبدأ السورة بهذه الكلمة العظيمة: {تَبَارَكَ} [الفرقان:1]، أي: تقدس سبحانه، ثبت خيره، دام خيره، زاد خيره، والبركة منه، يعني: يطلب منه سبحانه وتعالى البركة التي هي نماء الخير وزيادته.(103/3)
معنى قوله: (الذي نزل الفرقان)
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1]، أي: الله سبحانه وتعالى، فذكر صفة له سبحانه وتعالى، أنه ينزل، أنه يشرع سبحانه وتعالى، فمن أفعاله أنه ينزل الفرقان على عبده، والفرقان: هذا الكتاب العظيم، وسمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين أعمال أهل الجاهلية وأعمال أهل الإسلام.(103/4)
معنى قوله: (على عبده)
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، فيه شرائع رب العالمين سبحانه من حلال وحرام وغير ذلك مما يعظ الله عز وجل به عباده، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] أي: النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه، وعبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
هذه صفته وهو يقول للناس: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)، صلوات الله وسلامه عليه، ويقول -وهو جالس على الأرض يأكل صلوات الله وسلامه عليه طعامه-: (إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، وقد وصف الله سبحانه نبيه بالعبودية في أشرف المواضع: ففي سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فشرفه بهذا الوصف، وأنه عبد لله صلوات الله وسلامه عليه، فذكره في سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فهذا مقام الإسراء، وهو مقام عظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد أسرى به ربه، ثم عرج به جبريل إلى السماء، فالله عز وجل شرفه وذكره بهذا الوصف في مقام تفضيله وتكريمه.
وفي مقام التحدي في سورة البقرة، يقول سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23]، فهو عبد نزل عليه القرآن من عند رب العالمين سبحانه، فليس ملكاً من الملائكة ولكنه بشر من البشر، وصفة العبودية صفة جميع خلق الله عز وجل، الملائكة والإنس والجن، فكل خلق الله عبيد لله رب العالمين سبحانه.
في مقام الدعوة إلى رب العالمين، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19] صلوات الله وسلامه عليه، وهنا قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] صلوات الله وسلامه عليه.
فالصفة التي يتشرف بها الإنسان هي صفة العبودية للملك الديان سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن يتشرف بأن ينسب إلى ربه؛ لأنه عبد لله سبحانه، وطبيعة الإنسان في هذه العبودية إن لم يرض طائعاً أن يكون عبداً لله كان عبداً لهواه، وعبداً للشيطان، وعبداً لأحقر خلق الله سبحانه وتعالى.
فنفس الإنسان فيها العبودية، إما أن يعبدها ويذللها لرب العالمين وهذا مقتضى لا إله إلا الله، يعني: لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له، وإما أن يأنف الإنسان ويتكبر، فإذا بالله عز وجل يجعله عبداً لأحقر خلقه فيعبد تمثالاً أو حجراً، يعبد وثناً أو شجراً، يعبد شمساً أو قمراً، يعبد غير الله سبحانه وتعالى.(103/5)
معنى قوله: (ليكون للعالمين نذيراً)
قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، لماذا نزل الفرقان على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، والضمير هنا عائد على الفرقان أو على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالفرقان: القرآن العظيم، هذا الكتاب نذير للبشر.
والنذارة: بمعنى التخويف، أي: مخوفاً ومحذراً للعالمين -عالم الإنس وعالم الجن- جميعهم من بطش الله وانتقامه، ومن غضبه على من عصاه وأشرك به، {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، فالقرآن منذر للناس، وكذلك هو مبشر للمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
كذلك النبي صلى الله عليه وسلم هو النذير البشير، قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفتح:8]، فهو شاهد على الخلق صلوات الله وسلامه عليه، ومبشر لمن أطاع بالجنة، ومنذر لمن عصى بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم النذير المبين، والقرآن نذير من عند رب العالمين قال تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، أي: منذراً.(103/6)
تفسير قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً)
قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:2]، يعني: رب العالمين سبحانه الذي له ملك السماوات والأرض، (له ملك): الذي يملك سبحانه وتعالى، و (له) هنا للملك، بمعنى: يملك كل شيء، وملك وملكوت واحد بمعنى: أن ما في السماوات وما فوقها وما تحتها، والأرض وكل شيء فوق وتحت وبين كل ذلك ملك لله سبحانه وتعالى.
فهو الذي خلق، وهو الذي ملك سبحانه وتعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:2]، وما قال: الذي ملك السماوات والأرض، وكأنها كانت لأحد ثم ملكها هو، ولكن اختص بالملك وحده لا شريك له، فلم يكن لأحد غيره سبحانه وتعالى.
وما قال: الذي ملك السماوات والأرض له، وإنما: (الذي له)، فبدأ بالجار والمجرور لبيان الاختصاص الذي له سبحانه وتعالى، فله ملك السماوات والأرض، كما قدم المفعول في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، ففرق بين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، و (نعبدك)، فمعنى نعبدك أي: قد يعبد الإنسان ربه ويعبد غيره، فيثبت شيئاً ولم ينف غيره، بخلاف: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، فأثبت العبادة له وحده لا شريك له دون غيره.
فهذه فائدة تقديم المعمول على العامل، وكذلك هنا لم يقل: (ملك السماوات والأرض له)، فقد يكون له ولغيره، ولكن الذي له وحده سبحانه وتعالى ملك السماوات والأرض.(103/7)
معنى قوله: (ولم يتخذ ولداً)
قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الفرقان:2]، حاشا له، وفيه رد على المشركين الذين يقولون: الملائكة بنات الله، ورد على اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، ورد على النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، فأخبر سبحانه أنه لم يتخذ ولداً حاشا له سبحانه، فالذي يتخذ الولد يكون محتاجاً إليه، حتى إذا كبر سنه وبلغ العجز والشيخوخة احتاج إلى الولد.
والله الحي القيوم سبحانه قائم على كل شيء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد سبحانه وتعالى، فله ملك السماوات والأرض، كيف يكون له الولد؟! وكيف تكون له الصاحبة؟! وأي حاجة به سبحانه وتعالى إلى ذلك؟! ثم من يحتاج إلى الصاحبة؟ ومن يحتاج إلى أن يكون له نسل بعد ذلك؟ ولكن الله عز وجل لا يحتاج إلى شيء، فكل شيء مفتقر إليه سبحانه، ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك.
ولم يكن له من يشاركه في تدبير ملكه حاشا له سبحانه وتعالى، بل الله مدبر لكل شيء، والوكيل على كل شيء، والقائم على كل شيء سبحانه، فليس له شريك في ملكه، ولا في خلقه، ولا في العبادة، فالله سبحانه وتعالى المعبود وحده، الخالق وحده، الملك وحده، ملك الملوك سبحانه.(103/8)
معنى قوله تعالى: (ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً)
قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فالله الخالق البارئ المصور سبحانه وتعالى، خلق كل شيء فأحسن خلقه، وقدره ودبر أمره تدبيراً محكماً سبحانه وتعالى، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3] سبحانه وتعالى.
يقدر الشيء فيعطيه قدره، فلا يكون أكثر من هذا القدر، ولا أقل من هذا القدر، ومنها ما هو عند البشر، نقول: هذا يقدر كذا، يخرص ويظن ويدبر في نفسه الشيء كيف يكون.
فالخلق والتقدير بمعنى: أنه ظن أن هذا البساط يكون طوله كذا، وعرضه كذا، فبدأ يعطيه المقاسات، ثم قصه على هذا الشيء، فالله سبحانه وتعالى المقدر الذي دبر الأمر فأعطى، لهذا يكون كذا، ويكون كذا، ويكون كذا، فلما أوجده كان على هذا الذي دبره الله عز وجل لا زاد فيه شيء ولا نقص منه شيء.
فانظر إلى قوله سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، الخالق معناه: خالق كل شيء، وموجد كل شيء سبحانه وتعالى، البارئ: الموجد أيضاً للأشياء، والمصور أي: للأشياء التي يوجد فيها أشياء معينة، كالعينين، والأذنين، والأنف، والشعر ونحوه.
ولو أتى كل اسم لوحده من هذين الاسمين فإنه يشمل معنى الخلق والتصوير، لكن لما اجتمعا مع بعض صار هناك فرق دقيق بين معاني هذه الأسماء الحسنى العظيمة لرب العالمين، فهو الخالق يعني: الذي يقدر الشيء قبل أن يوجده، هذا سيكون إنساناً، فإذا أوجده لابد وأن يكون إنساناً، وهذا سيكون حيواناً فكذلك، وهذا سيكون جماداً، وهذا سيعيش كذا ويموت في كذا وهذا في صفته كذا وكذا وكذا، فقبل أن يوجده قدره سبحانه وتعالى، فالخالق قدر الشيء، فيكون المعنى: الله عز وجل خلق الأشياء وأوجدها.
فلما قال: {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، أعطى معنى التقدير في الخلق الذي قدر سبحانه وتعالى، والبارئ: براه وأوجده بعد أن كان عدماً، والمصور: سماه سبحانه بالتصوير، فجعل له العينين والرأس والشعر، وأعطاه الصورة التي تميزه عن غيره.
فـ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، سبحانه وتعالى، فهنا أخبر أنه خلق كل شيء يعني: دبره وأوجده على حكمة منه سبحانه، فكان على التقدير الذي جعله سبحانه وتعالى عليه، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، فهو تقدير عظيم محيط بكل شيء إلى يوم يبعثون إليه سبحانه وتعالى.
فالله يقدر كل شيء حتى دخول كل إنسان الجنة أو النار إلى ما شاء رب العالمين، فهذا الإنسان يخلق في الوقت الفلاني في العصر الفلاني، وينزل في الوقت الفلاني، ويمكث في الحياة كذا وكذا، ويكون من صفاته كذا وكذا، ويكون عمله كذا وكذا، ويكون في الناس كذا وكذا، وهذه صورة نذكرها في الإنسان، وقس على ذلك ما يكون من حيوان وجان وجماد ونبات، وكل شيء يدخل في هذا التقدير بحكمة رب العالمين سبحانه.
قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، لا تحيط بهذا الشيء علماً، ما هي الأشياء يا ترى؟ كل شيء أوجده الله في الأرض حتى الحشرة الصغيرة التي في باطن الأرض، يا ترى! كم حشرة موجودة على الأرض؟! لا تعد هذه الأشياء، وكم قد مات منها وكم سيوجد بعد ذلك؟ كل شيء من هذا تقديره عند الله سبحانه، النبات وأوراق الأشجار والثمار والأشجار نفسها، وكل ما يكون على ساق، وكل ما يكون على نجم، هذا كله خلقه الله وقدره تقديراً، وقس على ذلك في كل مخلوقات الله سبحانه، فكل شيء مقدر عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فقد بدأ في بداية السورة بذكر هذا القرآن العظيم، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الاعتقاد في كتاب رب العالمين، وأنه الفرقان، وأنه شرع رب العالمين، وأنه جاء من السماء لإثبات صفة العلو لله سبحانه، فقد نزل القرآن فجاء من عند رب العالمين، فالله فوق سماواته سبحانه، ونزل الكتاب على عبده محمد صلوات الله وسلامه عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر وصفه الذي نعتقد به أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، وأنه نذير من عند الله مبين، وأنه عبد من عباد الله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم ذكر نفسه سبحانه أنه الملك، وأنه الذي لا شريك له في خلقه ولا في تقديره، ولا في ملكه، ولا في عبادته سبحانه وتعالى، لا شريك له فهو المالك الملك، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي أحكم وقدر تقديراً.(103/9)
تفسير قوله تعالى: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون)
ثم ذكر المشركين كيف عبدوا غير الله متعجباً من حالهم، أهذا الإله العظيم الذي يعبد؟ وما الذي يعبدونه من دون الله؟ قال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3]، أي: أن هذه الآلهة التي عبدوها لا تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة حيث كانت حجراً، وليس الإنسان هو الذي أوجد هذا الحجر، ولكن الله عز وجل هو الذي خلقه وأوجده، فإذا بالإنسان لا يعبد ربه ويعبد هذا الشيء المخلوق، وهذه الآلهة لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة خلقها الله عز وجل، وصنعها الإنسان فجعلها على هذه الهيئة: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان:3].
قوله: (ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً)، هذه الآلهة التي يعبدونها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً، هل يمكن للطفل الصغير أن ينفع نفسه؟ هذه الآلهة لا تعرف النفع ولا الضر، فبدأ بالضر قبل النفع؛ لأن النفع يحتاج إلى شيء من التعقل لينتفع به، ولكن الضر قد يقع للصبي فيضر نفسه، فيمسك سكينة ويقطع بها يده، وهذه الآلهة لا تعرف أن تعمل أي شيء، فهي حجر من الأحجار تضعه في مكان سيبقى في هذا المكان حتى ترجع إليه يوماً من الأيام.
فهذا الحجر الذي لا يملك أن يضر فضلاً عن أن ينفع نفسه، هل ينفعك أنت أو يضرك أنت؟ قال: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، هنا يذكر تعالى من أفعاله العظيمة سبحانه أنه الذي يميت، وأنه الذي يحيي، وأنه الذي ينشر ويبعث يوم القيامة، فهل هذه الآلهة تملك أن تحيي شيئاً؟ هل تملك أن تميت شيئاً؟ هل تملك أن تبعث من في القبور للسؤال والحشر والنشور؟ لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئاً، إذاً: كيف يعبدونها من دون الله؟ الحمد لله الذي جعلنا مسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(103/10)
تفسير سورة الفرقان [4 - 10]
لقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بظروف شديدة مع المشركين في دعوته لهم إلى الله سبحانه وتعالى، فقد واجهوه بأشد أنواع الأذى والكيد والاتهامات الباطلة، فلقد قالوا عنه: أنه مجنون وكاهن وساحر وشاعر وغيرها من التهم الباطلة، بل وقالوا عن القرآن العظيم الذي جاء به: إنه إفك وخرافة وأساطير الأولين، وإنه من قول اليهود، وإنه يعلمه إياه بشر، ثم تعنتوا في طلب الآيات من رسول الله على صدق رسالته، فطالبوه بأن يكون ملكاً، أو يأتي معه ملك، أو أن يكون غنياً، أو صاحب جنات وعيون!! وهذه الآيات تتحدث عن ذلك كله، وتبين ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد هؤلاء المشركين السفهاء، وتبين ما بهم من كفر وعناد عليهم عضب الله العزيز القوي.(104/1)
اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن، وأنه استعان بغيره على ذلك
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:4 - 10].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن تكذيب الكفار للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وتكذيبهم للقرآن العظيم، فقال تعالى حاكياً قولهم: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ))، والإفك: الكذب، فهم يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم يعلمون أنه الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، وهم الذين كانوا يلقبونه بالصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يقولون عنه ذلك، وقد كان هذا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً، حتى طمأنه ربه سبحانه، فقال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، يعني: لا يقولون عنك: إنك تغيرت فصرت كاذباً في كلامك، ولكنهم يجحدون بهذا الكلام العظيم الذي جاء من عند رب العالمين.
والجحد للشيء: التكذيب به مع المعرفة بصحته وصوابه، فالإنسان الذي يجحد الحق الذي عليه، وهو يعرف أن عليه حقاً وديناً، وعندما يأتي صاحب الدين يطالبه بحقه فينكر وهو يعلم في نفسه أن عليه ديناً لهذا المطالب، فهذا يسمى جاحداً، والظالمون والكافرون يجحدون ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً، وهم مستيقنون في أنفسهم أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لا يكذب عليه الصلاة والسلام.
فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ} [الفرقان:4]، أي: كذب، ((افْتَرَاهُ)) أي: اختلقه وألفه، ((وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ))، أي: فليس وحده قال ذلك، وإنما هناك أناس ساعدوه على أن يقول هذا الشيء؛ لأنهم وجدوا في القرآن أخباراً لا يعرفونها، ولا يعرفها إلا أهل الكتاب.
فادعوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع من أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب هم الذين علموه هذا الشيء، والمراد بقوله: ((قَوْمٌ آخَرُونَ)) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: مجموعة من الناس كـ أبي فكيهة مولى بني الحضرمي وعباس وجبر، وأناس كانوا من النصارى، فقالوا: هؤلاء هم الذين يعلمون النبي صلى الله عليه وسلم، فكذبهم سبحانه وتعالى بالحجج العقلية، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} [الفرقان:4].
أي: هؤلاء ظلمة كذابون مفترون فيما يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كنتم صادقين في قولكم هذا (فأتوا بكتاب مثله)، أي: هاتوا قرآناً مثله، كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، وكما قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، إذا كنتم تقولون ذلك، والأدوات عندكم فأنتم أهل اللغة العربية، فإذا كنتم تزعمون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه اختلق القرآن وافتراه فاختلقوا أنتم أيضاً وافتروا وأتوا بمثل هذا القرآن، وإذا كان كما تزعمون قد علمه قوم آخرون فاذهبوا إليهم وتعلموا منهم، وأتوا بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فالأدوات التي يزعمون أنه تمكن بها من الإتيان بالقرآن موجودة عندكم، فأنتم تعرفون اللغة العربية كما يعرف، وأهل الكتاب موجودون، فاذهبوا إليهم وأتوا من عندهم بمثل هذا القرآن إن كنتم صادقين، فما قدروا على ذلك أبداً، ولن يقدروا أن يقبلوا هذا التحدي ويأتوا بشيء، والذي قبل منهم هذا التحدي بدأ يخرف، ويقول كلاماً هو تخريف، فيضحك عليه الكفار قبل المسلمين عندما يسمعون ما يقول، فعندما يحاول أن يوزن سورة على مثل سورة العصر مثلاً، أو على مثل سورة الهمزة يؤلف أشياء فيسمعه الكفار ويقولون: والله إنك لتعلم أنا نعلم أنك كاذب فيما تقول، ويسخرون منه، أما أن يقبل أحد هذا التحدي، فإنه لا يستطيع ذلك، وقد قال الله سبحانه: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:4]، أي: ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وظلموا أنفسهم؛ بأن جعلوا أنفسهم من أهل النار، والعياذ بالله.
{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا} [الفرقان:4]، أي: ظلماً من القول ومن الفعل، {وَزُورًا} [الفرقان:4]، أي: بهتاناً وتزويراً، وتزوير القول هو: أن يأتي بكلام ظاهره الحسن وباطنه القبح والزور، والذي جاءوا به هو كلامهم وقولهم: إن هذا القرآن مختلق ومفترى، وقولهم للناس الذين يأتون من قبائلهم ليسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعوا منه، فنحن أعلم بهذا الرجل منكم، فهو كذاب وساحر وكاهن ومفتر، فيزورون القول على الناس، ويتهمونه زوراً وباطلاً صلوات الله وسلامه عليه.(104/2)
اتهام الكفار للقرآن بأنه أساطير الأولين
قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [الفرقان:5]، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من يكتبها له، فأخذ من أساطير الأولين، والأساطير: جمع أسطورة، والأسطورة: الخرافة، والكلام الكثير، والحكايات والأحاديث؛ فقالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه جمع هذه الأشياء، {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]، أي: تلقى عليه، أي: أن هناك أحداً يأتي له بهذه الأشياء ويكتبها له، ثم يلقيها عليه صلى الله عليه وسلم بكرة وأصيلاً، والبكرة: أول النهار، من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، والأصيل: بعد العصر وقبل الغروب، فقالوا: هذا هو الوقت الذي لا نراه فيه، بعد الفجر وقبل المغرب عندما تكون الناس منشغلة، فيأتي إليه من يعلمه فيقوله، قال: (فهي تملى)، يعني: ألفوا وزوروا الكلام؛ حتى يصدقهم من يسمعهم، قالوا: ((فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)).(104/3)
بيان سعة علم الله عز وجل
قال الله سبحانه مكذباً لهم: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان:6]، أي: الذي أنزل هذا القرآن العظيم هو الله سبحانه، فقد أنزله من السماء، من عنده سبحانه، ففيه: أن القرآن منزل من عند رب العالمين، جاء به الروح الأمين على النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ ليهدي به الخلق، قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ} [الفرقان:6]، أي: الله سبحانه الذي يعلم كل شيء، ويعلم السر قبل الجهر، فإن الناس لا يعلمون إلا الجهر، ولكن الخالق الكريم يعلم السر والجهر، كما قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6]، فهو بهذا يفتح لعباده باب التوبة ليتوبوا فهو يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم كذبهم وإفكهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عز وجل عليهم، وقد كان منهم من يكذب النبي صلى الله عليه وسلم أشد التكذيب، فلما أسلم كان من خيار الناس، كـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإنه كذب النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه ليقتله، صلوات الله وسلامه عليه، فألقى الله في قلبه الإيمان فآمن رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان من خير الناس، ومن خير أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، قال الله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:6]، ففيها: أن الله سبحانه علم من هؤلاء التكذيب، وعلم أن منهم من سيؤمن؛ ولذلك لم يحجب عنهم التوبة والمغفرة، وإنما قال: ((إنه كان غفوراً))، أي: لمن يتوب إلى الله فيغفر ويستر ذنوبه، ((رحيماً))، أي: يرحم ويتوب على من يشاء.
ثم ذكر كذبهم أيضاً فقال سبحانه: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، وهذا من ضمن التضليل عند هؤلاء، يعني: أنت رسول من عند رب العالمين، لم لمَ ينزل علينا ملكاً من السماء؟ وهم يعلمون يقيناً أن الأنبياء من قبله -صلوات الله وسلامه عليه- والرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم كانوا من البشر، ولم يكونوا ملائكة ولا جناً، وهم يعرفون ذلك ويعرفون أن سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة التي يطوفون حولها لم يكن ملكاً من الملائكة، وإنما كان بشراً وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، بل ويعرفون أن إسماعيل كان رسولاً، وكان من البشر.
فمن أين جاءوا بهذا القول، وهو أن الرسول لا بد أن يكون ملكاً من الملائكة؟ ما هذا إلا افتراء على الله عز وجل، وعلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ} [الفرقان:7]، أي: يعجبون من ذلك {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} [الفرقان:7]، يعني: أنه لا بد أن يكون الرسول ملكاً من السماء لا يأكل الطعام، حتى يكون رسولاً.
{وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، وهذا من تواضعه صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يقضي حوائجه بنفسه، فيذهب إلى السوق ويشتري ويبيع، صلى الله عليه وسلم، وكان يفعل حوائجه التي يحتاجها بنفسه عليه الصلاة والسلام، فلما لم يعجبهم هذا الشيء اجتمع كما يقول ابن إسحاق سادات منهم، ومنهم عتبة بن ربيعة وغيره، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! إن كنت تحب الرئاسة وليناك علينا)، في حديث طويل وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم يريدون أن ينتهوا من أمر نبوته صلى الله عليه وسلم بأي شيء.
فقالوا له: ماذا تريد منا؟ أتريد أن تكون الرئيس علينا؟ وإن كنت تحب المال جمعنا لك ما شئت من أموالنا، وإن كان بك لمم جمعنا لك من أموالنا وعالجناك، ونظرنا في الطب والأطباء فداويناك، فلما أبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبرهم أنه رسول من عند رب العالمين سبحانه، فإن آمنوا فهذا خير لهم، وإن لم يؤمنوا فأمرهم إلى الله سبحانه رجعوا إلى باب آخر من أبواب الاحتجاج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما بالك وأنت رسول من الرسل، تأكل الطعام؟ فما هو الذي جعلك تأكل الطعام وأنت رسول من الرسل؟ ونسوا أو تناسوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يكنى بأبي الضيفان؛ لأنه كان عندما يحب أن يأكل يجمع الضيوف ليأكلوا معه، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام ولم يكن ملكاً من الملائكة، فقالوا له: ما بالك وأنت رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، تأكل الطعام، وتقف بالأسواق؟ فعيروه بأكل الطعام؛ لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكاً، وعيروه بالمشي بالأسواق وقالوا له: إن الأكاسرة والقياصرة في بيوتهم، ويجيئ إليهم الطعام إلى قصورهم وأنت تقول: إنك رسول الله، وخيرته من خلقه، عليه الصلاة والسلام، وتذهب لتشتري طعامك من السوق، وتتعب نفسك بذلك، والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق؟ وقد كان صلى الله عليه وسلم يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم صلى الله عليه وسلم، ويذهب إلى الوفود التي تأتي إلى مكة في الحج؛ ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فلما أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول من رب العالمين، وأنه ليس ملكاً، عليه الصلاة والسلام، رفضوا ذلك فأنزل الله سبحانه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي ما من نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام إلا كانوا من البشر، فأبوكم آدم عليه السلام كان من البشر، عليه الصلاة والسلام، وكان يأكل الطعام كما تأكلوا منه أنتم، وكان كل الأنبياء والرسل يمشون في الأسواق كما يمشي النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود من الآية: لا تغتم بما قالوه يا محمد! فإنهم كذابون.(104/4)
تعنت المشركين في شروطهم للإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم(104/5)
طلبهم إنزال ملك من السماء
قال تعالى حاكياً عما اشترطوه لإيمانهم: {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، فأجابهم سبحانه في سورة الأنعام عن ذلك بقوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ} [الأنعام:8]، أي: ولو جعلناه ملكاً لجعلناه بشراً؛ لأنكم لا تطيقون أن تنظروا إلى أي ملك من الملائكة، وقد كنتم قبل ذلك لا تستغيثون بالجن، فقد كان يقول أحدكم: أعوذ برب هذا الوادي -أي: من الجن- لأنهم يخافون منهم، وكانت الجان والشياطين يضحكون عليهم، ويرهقونهم في طريقهم، فيسمعونهم أصواتاً، فيخافون من ذلك.
فكانت الجن تتلاعب بهم؛ لأنهم مشركون بالله رب العالمين، فإذا كان الجان وهم ضعفاء تخافون منهم فإنكم ستخافون من الملك من الملائكة إذا نزل عليكم، وستصدقون جبراً وكرهاً، والله لا يريد ذلك منكم، وإنما يريد أن تؤمنوا اختياراً وطوعاً، وتستشعرون أنكم تختارون هذا الدين على غيره، حتى يحاسبكم الله سبحانه تبارك وتعالى على ذلك يدخلكم الجنة، فلو جعلناه ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو أنزلنا ملكاً لجعلناه في صورة البشر، فيكون الأمر تحصيل حاصل؛ لأننا سنجعل الملك على صورة البشر، حتى لا تفزعون منه، وإذا كنا سنجعله بشراً فلا داعي لذلك؛ لأن عندكم البشر منكم، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوكم إلى رب العالمين، إذاً: فاختياركم أن يكون الرسول ملكاً ينزل من السماء ليس شيئاً وجيهاً ولا سديداً، بل هو كلام من الزور والكذب والتضليل.(104/6)
اشتراطهم نزول كنز من السماء على رسول الله
قال الله سبحانه حاكياً قولهم: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8]، وقد كانوا لا يعجبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام، ولا يعجبهم أنه يمشي في الأسواق، وقد سماه الله سبحانه وتعالى: عبداً شكوراً، صلوات الله وسلامه عليه، وكان من صفاته عند أهل الكتاب التي يعرفونه بها كما جاء في صحيح البخاري: أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق عليه الصلاة والسلام.
يعني: يمشي في الأسواق ولا يرفع صوته بالصخب فيها صلوات الله وسلامه عليه.
قال المشركون: {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ} [الفرقان:8]، أي: يريدون أن ينزل عليه من السماء كنز ينظرون إليه نازلاً من السماء؛ حتى يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم.(104/7)
اشتراطهم أن يكون لرسول الله جنة يأكل منها
ثم قال تعالى: {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8]، يعني: هلا كان لك بستان من البساتين، فلا تشتري حاجتك، وإنما تأخذها من هذا البستان؟ فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له كنزاً من الكنوز، أو يكون له بستان وجنة يأكل منها.(104/8)
اتهام الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم بالسحر
ثم قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8]، ومسحور: على وزن مفعول، وهي هنا بمعنى الفاعل، أي: ساحر فكأنهم يقصدون أنه ساحر عليه الصلاة والسلام، فقوله: ((إن تتبعون))، يعني: ما تتبعون ((إلا رجلاً مسحوراً))، أي: ساحراً متقناً للسحر، أو مسحوراً من السَّحْر، والسحر بمعنى الرئة والصدر، وكأنهم يقولون: إنكم تتبعون رجلاً له سَحْر مثله مثلنا، أي: له رئة وله صدر، يعني: أنه شخص من البشر ليس خارجاً عنهم، قال: ((إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا)).(104/9)
تخبط الكفار في شأن النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم متعجباً: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:48]، يعني: انظر لكذبهم وإفكهم وزورهم، فهم يضربون أمثالاً وهم يعرفون أنهم على الباطل فيما يقولون، قال: {فَضَلُّوا} [الإسراء:48]، أي: تاهوا عن طريق الحق، ولم يصلوا إلى شيء {فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]، أي: لا يستطيعون سبيلاً للوصول إلى الطريق القويم أو إلى حق يهتدى به، أو إلى كلام يعقل، وإنما هم يعلمون بأنهم كذابون، ولا يفهمون ما يقولون فكيف يقنعون غيرهم؟! ولذلك كان الكفار يجلسون معاً فيقول بعضهم: ماذا نقول عن هذا الرجل؟ فيقول أحدهم: قولوا: ساحر فيرد عليه آخر: نحن عاشرنا السحرة وعرفناهم، والكلام الذي يقوله ليس بسحر، فيقول الثاني: قولوا إنه كاهن فيرد عليه بعضهم: لقد عرفنا الكهان وأقاويلهم وسجعهم، وليس من سجعهم في شيء.
فيقول الثالث: نقول عنه: شاعر فيردون عليه: لقد عرفنا الشعر، وما يقوله أهل الشعر، وأهل الرجز وأهل كذا، وليس هذا بالشعر، فكان الكفار أنفسهم يقول بعضهم شيئاً، ويرد عليهم الآخرون بأن هذا ليس صحيحاً فيه، ثم يقولون في النهاية: نقول: ساحر، فإذا سئلنا: لماذا ساحر؟ قلنا: لأنه يفرق بين الأب وابنه، والمرأة وزوجها، يعني: أنه فرق الناس بهذا الدين فجعل هذا مسلماً وهذا كافراً، فنقنع الناس بهذا، إذاً: هو ساحر؛ لأنه يفرق بين الناس، فلما قالوا ذلك قال الله عز وجل عنهم: {انظُرْ} [الإسراء:48]، أي: اعجب لهؤلاء الجهلة فيما يقولون، {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الإسراء:48]، أي: الأمثال الباطلة {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الإسراء:48]، أي: لا يعرفون طريقاً إلى الحق، بل تاهوا عن طريق الرشد والصواب وطريق الله سبحانه ((فلا يستطيعون سبيلاً)).
ثم قال: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان:10]، أي: تبارك وتقدس سبحانه وتعالى، و (تبارك)، أي: كثر خيره وبركته، وثبت وزاد {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} [الفرقان:10]، وقال: (إن شاء)، ولم يقل: لو شاء؛ لأن (إن) حرف تحقيق، فالمعنى: إذا أراد فعل ذلك، وهو قادر وإذا أحببت فعلنا بك ذلك، ولم يقل: لو شاء؛ لأن لو حرف امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، فيكون المعنى: أنه لن يحصل، فلذلك قال: إن شاء ربك فعل ذلك، وقد خير الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه في ذلك، فقد جاء في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: (ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً)، وقد كان مما طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا له: إن بلادنا ضيقة، فلو دعوت ربك أن يبعد عنا هذه الجبال قليلاً، وأيضاً طلبوا منه أن يجعل لهم جبل الصفا ذهباً حتى يؤمنوا به، فلما قالوا ذلك قال: (وتفعلون؟ فقالوا: نعم، فدعا صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل، فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت صيرت لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وكانت آية النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم، ولو جاء لهم بالآيات الحسية التي طلبوها كما طلب قوم صالح الناقة، فلو كفروا بعد ذلك لجاءهم العذاب، واستأصلهم أجمعين، فلما خُير النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت جعلنا لهم الصفا ذهباً، وإن شئت فتحنا لهم باب التوبة والرحمة)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل باب التوبة والرحمة).
وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: (لا، بل أستأني بهم) أي: لا أريد الصفا ذهباً، ولكن أصبر عليهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59]، أي: أن الآيات تخويف وليست تبشيراً، وهذه هي الآيات الحسية.
وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة لما لم يستجيبوا له وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة ولم يستجيبوا نزل عليه ملك الجبال، وقال: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) وهما جبلا مكة عن شمالها ويمينها، فيهلك الجميع، فجاءه وقال له ذلك، وهو في هذا الوقت العصيب صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان كله حزن على كفر هؤلاء ومع ذلك قال: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً) قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(104/10)
تفسير سورة الفرقان [7 - 16]
لقد أضل الله المشركين لعنادهم وكفرهم وتعجبهم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشراً، ومع ذلك يرد الله عليهم بالحجج والبراهين الساطعة، ويرهبهم من دخول النار، ويرغبهم في دخول الجنة، ولا يكون ذلك إلا بالانصياع لأوامر الله، والإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.(105/1)
ذكر ما جاء في سورة الفرقان من تعجب المشركين من كون النبي صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر وما جاء من تعجيزهم له، وما جاء من رد الله تعالى عليهم
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا * تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا * بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَسْئُولاً} [الفرقان:7 - 16].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن المشركين الذين تعجبوا من كونه صلى الله عليه وسلم بشراً من البشر، وأنه يأكل الطعام، وأنه يمشي في الأسواق، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان:7]، فهم يعجبون من حاله صلوات الله وسلامه عليه، ويطلبون أن ينزل إليه من السماء ملك ليكون منذراً مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنة يأكل منها، وهذا من باب التعنت معه صلوات الله وسلامه عليه.
فهم لا يريدون أن يسمعوا له عليه الصلاة والسلام، ولا يريدون أن يتبعوه في دينه، إنما يريدون وضع العوائق والعقبات أمام دعوته صلوات الله وسلامه عليه، فهم يقولون: إذا كنت تريد أن نقبل منك، فاجعل ملكاً ينزل ويمشي معك في الأرض كي نعرف أنك صادق فنتبعك، أو ينزل عليك كنز من السماء كي نصبح أغنياء، أو يكون لك بستان كبير واسع، وتأكل من هذا البستان، وفي هذه الحالة نعرف أنك رسول حق.
وهكذا نظروا إلى أشياء مادية على وجه التعنت، وإلا فالتحدي قائم بهذا القرآن على أن يأتوا بكتاب مثله، أو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة من مثله، ولم يقدروا على ذلك، فانصرفوا عن قبول هذا التحدي، إلى وضع العقبات أمامه صلى الله عليه وسلم، وكأنهم يقولون: لا، لن نقبل منك دعوتك، إلا أن تستجيب لنا في ذلك.
قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [الفرقان:8]، أي: تتبعون رجلاً ساحراً، أو رجلاً كغيره من البشر له سحر، يعني: له رئة، يتنفس كما تتنفسون، وله صدر وبطن ويأكل الطعام، فلا ينفع ذلك في أن يكون رسولاً من الرسل عليه الصلاة والسلام.
هذا الذي قالوه مع علمهم اليقين بأن إبراهيم كان نبياً عليه الصلاة والسلام، وكان بشراً من البشر، وكان يأكل الطعام، وكان يكنى بأبي الضيفان، عليه الصلاة والسلام، فهم يعرفون ذلك، ولكن المقصد من كلامهم التعنت معه صلى الله عليه وسلم ورد ما جاء به.
فقال الله مكذباً لهم، ومعجباً له من فعلهم: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ} [الفرقان:9]، أي: أنظر إلى تعنتهم وإلى كلامهم الباطل، وإلى هذا الهراء الذي يزعمونه، قال سبحانه: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9]، أي انظر كيف ضربوا لك هذه الأمثال التي يقولونها؛ ليتوصلوا إلى الباطل وليس إلى الحق، فيا للعجب من ذلك؛ لأن الأصل في ضرب المثل: أن يضرب لتقريب المعنى، ولإحقاق الحق، أما ضرب الأمثلة لإبطال الحق، فهذا من العجب، فاعجب لهم، فإنهم يتعجبون من غير عجب، ولكن اعجب لما يقولونه من أشياء باطلة، قال تعالى: {فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا} [الفرقان:9]، أي: لا يستطيعون للوصول إلى الحق سبيلاً، أو إلى تصحيح ما يقولونه.
قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ} [الفرقان:10]، أي: كثرت بركته، تبارك وتعالى وتقدس وتمجد سبحانه وتعالى، الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك، وهذه الأشياء التي يطلبونها هي أشياء يسيرة جداً أمام الله سبحانه، لا قيمة لها، فهو سبحانه إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات وليس بستاناً واحداً فقط ولا جنة تأكل منها، بل يجعل لك جنات كثيرات، فلو كان الأمر على ذلك لجعل لك تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً، وليس بيتاً من حجر، وليس خيمة، وليس بيتاً من طوب، ولكن قصوراً عظيمة كبيرة، قال تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10].
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10]، هذه قراءة الجمهور بالإدغام على أنها مجزومة، وقراءة ابن كثير وابن عامر وشعبة عن عاصم: (ويجعلُ لك قصوراً) على الرفع والاستئناف، أي: أن الله قادر على أن يجعل لك ذلك، قال: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا} [الفرقان:10].(105/2)
ذكر حال أهل النار
ثم أمر نبيه أن اصرف تفكيرك عن ذلك، فهم قد كذبوا بالساعة فلا تهتم لكلامهم، وقد وقعوا في أعظم الكفر بالله سبحانه، ثم يجادلون في ذلك، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11]، ولم يقل: وأعتدنا لهم سعيراً، بل لهم ولغيرهم وكل من كذب بيوم القيامة أعتدنا له السعير، والسعير: النار المستعرة، يعني: شديدة التلهب والاضطرام والإيقاد والاشتعال، فهي سعير، ومنها الكلب المسعور؛ لأنه يجري في كل مكان، ويعلق في أي شيء، فهو مضطرب ويجري نفوراً، فكذلك نار جهنم ترد على أي شيء والعياذ بالله، تقدم عليه وتحرقه وتلهبه فهي مستعرة، والسعر أيضاً: الجنون، فكأنها نار ملتهبة، حتى أنها لا تقدر أن تميز هذا الذي أمامها، أهو عظيم أم حقير؟ فكل من دخل فيها استعرت عليه، والتهبت عليه وأخذته، نسأل الله العفو والعافية.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا} [الفرقان:11]، أي: حضرنا وجهزنا، {لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان:11]، وكلمة (لمن) من صيغ العموم، أي: كل من كذب بالساعة أعتدنا له عذاب السعير.
ويقول سبحانه في هذه النار: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، أي: إذا رأتهم النار من مكان على بعد خمسمائة سنة، أي: من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً، وهنا كأنه من باب الاكتفاء في قوله تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، والأصل: سماع الزفير، والزفير: صوت النفس الخارج فيسمع، والتغيظ يرى، فتقول: رأيت فلاناً متغيظاً، وسمعت له صوتاً، فالأصل في ذلك: أنهم سمعوا زفيرها، ورأوا تغيظها عليهم، فالتغيظ لا يسمع، وهذا يسمونه: الاكتفاء بالواحد عن المجموع، فالله سبحانه اكتفى بذكر ذلك، كقوله سبحانه وتعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس:71]، فالأصل أنه لا يقال: أجمعت الشركاء، وإنما أجمعت عزيمتي، أجمعت رأيي، بمعنى: عزمت على الشيء، ويقول: جمعت الشركاء، فكأن المقصد منها هنا أن يكتفي بواحد من الفعلين، أجمعوا أمركم وجمعوا شركاءكم، فاكتفى بواحد للتعبير عن الاثنين.
وكحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رغبة ورهبة إليك)، فهذا فيه الاكتفاء أيضاً، وحمل اللفظ على المجاورة، أي: رغبة إليك ورهبة منك، فاكتفى بواحد من الاثنين عن ذلك.
ومنه قول الشاعر: إذا ما الغانيات برزن يوماً وزججن الحواجب والعيونا فقوله: تزجد الحاجب أي: تطوله، لكن العيون لا تطول، فكأنه يقصد: زججن الحواجب وكحلن العيون، فاكتفى بفعل على الاثنين، فهذا من باب الاكتفاء الذي يقولونه، أو المجاورة.
من أجل ذلك قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان:12]، أي: كأنهم رأوا لها هذا التغيظ، وسمعوا صوت زفير جهنم، قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12].
فقوله سبحانه: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، وقوله سبحانه: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان:12]، فيهما دلالة على أنها رؤية حقيقية، تراهم النار حقيقة، وقد جاء في حديث عند الترمذي وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة، له عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق).
والله عز وجل يخلق ما يشاء، فإن نار جهنم يؤتى بها، ويخرج منها هذا العنق، والعنق له أذنان تسمعان، وله عينان تبصران، ولسان ينطق، فيقول هذا العنق: (إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين)، وكل هذا يوم القيامة يخطف هؤلاء إلى نار جهنم والعياذ بالله.
فيخرج من النار هذا العنق، وهو ذراع يخرج من النار، يبصر ويسمع ويتكلم ويخطف هؤلاء من الموقف، ويجعلهم في نار جهنم والعياذ بالله، وهذا حديث صحيح، وفيه أنه وكل بثلاثة: بكل جبار عنيد، أي: بكل إنسان فيه جبروت، وفيه معاندة لدين رب العالمين سبحانه، وبالمشركين ممن دعوا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين، الذين يصورون الصور، وينحتون التماثيل، ويصنعون الأصنام، والذين يرسمون فيضاهون خلق الله سبحانه، فقد وكل الله بهم هذا العنق يوم القيامة.
يقول سبحانه: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، و ((ضَيِّقًا)) [الفرقان:13]، قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وإذا ألقوا منها مكاناً ضَيْقاً مقرنين دعوا هنالك ثبوراً)، فقوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا} [الفرقان:13]، أي: أن هذا الكافر وهذا المشرك الذي يدخل النار يلقى منها في مكان ضيق.
والنار واسعة جداً والعياذ بالله، وقعرها بعيد جداً، ومع ذلك يضيق الله سبحانه وتعالى على أهل النار الأماكن التي هم فيها، فيلقى كل هؤلاء الكفار في مكان ضيق فيها، والنار لا تكتفي بذلك، بل كلما ألقي فيها فوج وسألهم خزنتها، قالت: هل من مزيد؟ فالخزنة يسألونهم ألم يأتكم نذير؟ يقولون: بلى، والنار تقول: هل من مزيد؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قط قط اكتفيت اكتفيت)، أي: لن أقول ذلك مرة أخرى.
يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، أي: أن كل إنسان مع قرينه، ومع مشاكله، ومع صاحبه، فرفيق السوء يكون مع رفيقه، والإنسان يكون مع شيطانه، ومع من كان يستهويه من الجان في نار جهنم، مقترناً معه، موثقاً مكتفاً معه، فالإنسان والقرين الاثنان في النار، {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ} [الفرقان:13]، أي: مربوطين بعضهم ببعض، قال تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13]، أي: استيقنوا من العذاب، فدعوا بالثبور، والثبور: الهلاك، أي: يدعون على أنفسهم بالموت، من أجل أن يستريحوا مما هم فيه، {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:13]، أي: هلاكاً، فيقال لهم: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:14]، أي: لا تدعو اليوم موتاً واحداً، بل ادعوا موتاً كثيراً، وادعوا ما شئتم، فليس هناك موت.(105/3)
ذكر حال أهل الجنة
قال تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15]، وهذا من جمال كتاب رب العالمين أنه عندما يذكر لنا النار، ويكون الإنسان مستشعراً غضب رب العالمين سبحانه، ويستشعر الخوف الذي قد يدفعه إلى أن يظن أنه قد ضاع وأيس من الرحمة، يفتح سبحانه باب الرحمة، ويرينا كما أن هناك نار، فهناك جنة أيضاً، فيجعل الله الإنسان بين الترغيب والترهيب، رهبه وخوفه، ثم رغبه ومناه، قال تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان:15]، أي: هل هذا الذي هم فيه خير، أم الجنة؟ قال تعالى: {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} [الفرقان:15]، أي: جنة الخلود، فأهل النار يدعون بالثبور والهلاك على أنفسهم، وأهل الجنة يلقون فيها تحية وسلاماً، حياة دائمة خالدين فيها، فهم يخلدون فيها ولا يخرجون منها.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
فقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ} [الفرقان:15]، أي: هل هذا خير، {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان:15]؟ فقد وعد الله عز وجل المتقين الذين اتقوا غضب الله، أن لهم هذه الجنة جزاءً على ما قدموا من عمل، ومصيراً يصلون إليها، فالمصير والنهاية الدخول إلى هذه الجنة، جزاءً بما كسبوا وبما عملوا من أعمال صالحة.
ولهم في هذه الجنة، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان:16]، فكلمة: (ما) من ألفاظ العموم، فكل ما يتمناه الإنسان يجده في الجنة، والله عز وجل يقول لهم: تمنوا، ماذا تريدون؟ فيتمنى أهل الجنة ويتمنون، والله عز وجل يذكرهم، وكذا وكذا، فيتمنون ويذكرهم وكذا وكذا، فيعطيهم سبحانه وتعالى، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} [الفرقان:16]، هذا الذي هم فيه ليس لزمن محدود يتمتعون به، فالله يطمئنهم، فيقول: وأنتم خالدون فيها، ولن تخرجوا منها أبداً، قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16]، أي: كان هذا الأمر على ربك سبحانه وعداً ألزم نفسه به، وأوجبه على نفسه، ولا أحد يوجب على الله عز وجل شيئاً، ولكن هو الذي أوجب على نفسه، فقال: كان هذا الأمر وعداً عليَّ، ((مَسْئُولًا))، أي: الملائكة تسأل ربها، كما قال تعالى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ُ} [غافر:8]، فالملائكة تسأل ربها سبحانه: أن يدخل المؤمنين الجنة، والمؤمنون يسألون ربهم سبحانه وتعالى، وقد عرف الله عز وجل المؤمنين جنته؛ حتى يسألوه إياها، فهذا كان وعداً من الله، فقد أمر عباده أن يطلبوا الجنة فسألوه إياها، فبشرهم وأدخلهم جنته، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(105/4)
تفسير سورة الفرقان [17 - 20]
أخبر الله عز وجل في كتابه أن الظالمين يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، وتعود صداقتهم وموالاتهم لبعضهم عداوة وكرهاً، وهكذا كل محبة وموالاة كانت لغير الله في الدنيا، بل إن هؤلاء الظلمة تتبرأ منهم معبوداتهم الباطلة التي كانوا يعبدونها في الدنيا، سواء من الأحياء أو الأموات أو الجمادات، وهنا يحيق بهم عذاب الله عز وجل، فلا ناصر لهم ولا شفيع ولا حميم ينصرهم من دون الله.(106/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا * وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:17 - 20].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن الحشر يوم القيامة، وعن جمع الناس فيها، وعن جمع المشركين مع من كانوا يعبدونه من دون الله سبحانه، وعن السؤال في هذا اليوم العظيم، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17]، أي: يحشر الخلق جميعهم، وإن كان ذكر هنا المشركين فقط، مع أنهم يحشرون مع المؤمنين يوم القيامة، وهو يذكر لنا هنا ما يكون من خلاف هؤلاء بين يدي الله عز وجل، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فكيف يكون الحال يوم القيامة وقد تبرأ الناس بعضهم من بعض؟ فالوالد يتبرأ من ابنه، والابن يقول: نفسي نفسي، والزوجة تقول: نفسي نفسي، والأنبياء يقولون: نفسي نفسي، فكل إنسان يوم القيامة يقول: نفسي نفسي.
فهنا يقول الله عز وجل لهؤلاء المشركين: كيف يكون حالكم يوم يتبرأ بعضكم من بعض؟ قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} [الفرقان:17]، وهذه قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم وأبي جعفر، ويعقوب، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} [الفرقان:17]، بالكلام على الإفراد.
وقرأ باقي القراء بنون العظمة: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ)، وهي تعظيم للخالق سبحانه وتعالى الذي يحشرهم يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17]، والحشر: الجمع، والإخراج من القبور، وضم بعضهم إلى بعض في الموقف بين يدي الله سبحانه وتعالى.
{فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]، أي: يقول الله سبحانه، وهذه قراءة الجمهور بصيغة الإفراد، وقرأ ابن عامر (فنقول) بنون التعظيم للخالق سبحانه، وله أن يقول ذلك ويتكلم عن نفسه بنون العظمة سبحانه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17].
فهنا يسأل الله سبحانه وتعالى هذه الآلهة التي عبدوها، وينطقها يوم القيامة، فينطق الحجر، وينطق الصخور، وينطق الأشجار التي كانوا يعبدونها، وينطق الإنس والجن والملائكة، وكل من عبد من دون الله سبحانه وتعالى، ويقول الله عز وجل للمسيح عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:116].
هذا المسيح عليه الصلاة والسلام، والآلهة التي عبدوها من دون الله تنطق وتتبرأ من هؤلاء عندما يسألهم سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان:17]، أي: أأنتم جعلتموهم يضلون عن سبيل الله، وعن طريق رب العالمين؟ أم هؤلاء العباد هم الذين ضلوا عن السبيل بعقولهم وببعدهم عن الله سبحانه.(106/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء)
فيكون
الجواب
{ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان:18]، أي: ننزهك يا ألله! عن ذلك.
{قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} [الفرقان:18]، أي: لا يحل لنا، ولا يجوز لنا ذلك.
{مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18].
فأنت ولينا ولا يحل لنا أن نعبد غيرك، أو أن نتخذ من دونك ولياً من الأولياء، والمعنى هنا: أنهم تبرءوا إلى الله عز وجل من كل من عبدهم من دون الله سبحانه وتعالى.
وقد قرأها الجمهور: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ} [الفرقان:18]، يعني: هذه الآلهة التي عبدت تقول لله سبحانه وتعالى: ليس من حقنا أن نتخذ أولياء نعبدهم وينصروننا، فكيف نعبد نحن؟! فإذا كنا نحن لا يحل لنا أن نعبد غيرك، فكيف يعبدوننا من دونك؟! {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [الفرقان:18]، أي: ما كان هذا الشيء ولا طلبناه، ولا أردناه ولا وافقنا عليه، قال تعالى: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]، أي: ولياً من دونك نتولاه في الدنيا حتى نضيع الآن، وقرأ أبو جعفر: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18]، يعني: أن نُعبد من دونك، على بناء الفعل للمجهول، والأصل فيها: أن نتخذ دونه أولياء، ومن جاءت زائدة لتأكيد نفي ذلك، فعلى ذلك لا يحل أن نكون معبودين من دونك يا رب العالمين! قال: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18].
أي: فنعبد من دونك، ولا يحل لنا أن نكون من دونك.
ولكن السبب أنك متعتهم وآباءهم، كما قال الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7].
فالإنسان عندما يكون فقيراً ومحتاجاً وتحيط به المصائب فإنه يدعو ويقول: يا رب! وعندما يستغني ويحس أنه صحيح معافى ينسى ربه سبحانه، فقالوا هنا: ربنا! أنت متعتهم وأغنيتهم فنسوا ذكرك، قال تعالى حاكياً قولهم: {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ} [الفرقان:18]، أي: حتى نسوا هذا القرآن، ونسوا ما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من مواعظ.
{حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18]، يعني: لا خير فيهم، نقول هذه أرض بور، يعني: لا تنبت، أي: أنك إذا وضعت فيها الماء والبذور والسماد فلا فائدة فيها، فهي أرض بور لا تنبت زرعاً، ولا ينتفع بها أحد، فكذلك كان هؤلاء بشركهم وكفرهم كالأرض البور التي لا خير فيها، فهم كانوا لا خير فيهم، فقد تمتعوا في الدنيا ونسوا الخالق سبحانه فلم يعبدوه.
{وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:18].
قال أبو الدرداء رضي الله عنه وقد أشرف على أهل حمص: يا أهل حمص! هلموا إلى أخ لكم ناصح! فلما اجتمعوا إليه قال رضي الله عنه: ما لكم لا تستحون؟! تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، إن من كان قبلكم بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً.
وهذه نصيحة عظيمة من أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، فهو يقول لأهل حمص: ما لكم لا تستحون؟ تبنون ما لا تسكنون، أي: تبنون البيوت الكثيرة، التي لا تسكنونها، والتي لا تعمرونها، وإنما تتركونها وتذهبون إلى ربكم سبحانه، وتجمعون ما لا تأكلون، أي: تجمعون وتدخرون أكثر مما تحتاجون إليه، وتتكالبون على الدنيا، كأنكم ستعيشون أبداً فيها، وتأملون ما لا تدركون، أي: تأملون أن تعيشوا أبد الآبدين، إن من كان قبلكم، أي: اتعظوا بالذين كانوا من قبلكم، فقد بنوا مشيداً، وجمعوا عبيداً، وأملوا بعيداً، أي: بنوا البناء المشيد العالي، وكذلك جمعوا من العبيد في الدنيا ما يكون لهم بهم عزة وقوة، وأملوا آمالاً بعيدة فلما جمعوا هذه الدنيا قال: فأصبح جمعهم بوراً، وآمالهم غروراً، ومساكنهم قبوراً، أي: هذا الجمع الذي جمعوه لم ينفعهم شيئاً، وإنما صار جمعهم هذا بوراً، وإن الجمع الذي ينتفع به الإنسان هو أن يجمع الأعمال الصالحة، فتكون مثمرة ويكون له أجرها عند الله سبحانه وتعالى.
وأما ما جمع من حطام الدنيا فسرعان ما يزول، أو يموت الإنسان عنه ويتركه ويذهب إلى ربه، فإذا بالآمال غرور، أي: ضائعة لم يأت منها شيء، وصارت هذه المساكن قبوراً لأصحابها نسأل الله العفو والعافية.(106/3)
تفسير قوله تعالى: (فقد كذبوكم بما تقولون)
يقول الله سبحانه وتعالى لهؤلاء: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان:19]، أي: يقول الله للمشركين الكفار: فقد كذبتكم هذه الآلهة التي عبدتموها من دون الله سبحانه، {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19].
وقوله: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة قنبل عن ابن كثير: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا يَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} [الفرقان:19]، وقوله: ((فَمَا تَسْتَطِيعُونَ)) هذه قراءة حفص فقط، وقرأ باقي القراء: ((فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)) فعلى ذلك قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، إما أنه يخاطب المؤمنين أو يخاطب الكفار، فإذا كان الخطاب للمؤمنين فيكون المعنى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، أي: هؤلاء الكفار {بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان:19]، وبما أتيتموهم من كتاب وسنة أيها المؤمنون! وإذا كان الخطاب للكفار فيكون المعنى: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ} [الفرقان:19]، يعني: هؤلاء الآلهة كذبوكم أيها الكفار! بما كنتم تقولون وتزعمون من أنهم ينفعونكم وأنهم يضرونكم، قال تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، قرأ حفص عن عاصم: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} [الفرقان:19]، يعني: يا أيها الكفار! {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، وقرأها الجمهور: (فما يستطيعون)، يعني: الآلهة لا تقدر على الصرف ولا على النصر، والصرف معناه: التحويل، فقوله تعالى: {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} [الفرقان:19]، أي: لا تستطيعون أيها الكفار صرف العذاب عن أنفسكم، ولا هذه الآلهة تقدر أن تصرفه وتزيله عنكم.
{وَلا نَصْرًا} [الفرقان:19]، أي: ولا يستطيعون نصركم في هذا اليوم، وحمايتكم من عذاب الله وبطشه سبحانه، فكذبتهم آلهتهم التي عبدوها من دون الله سبحانه، فما استطاعت أن تصرف عنهم العذاب، ولا استطاعت نصرهم على قضاء الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]، وهذا خطاب على العموم، فكل من يظلم وخاصة الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فجزاؤه كما قال الله: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان:19]، أي: ليس أي عذاب، وإنما العذاب العظيم الكبير الأليم، نسأل الله العفو والعافية.(106/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
يقول سبحانه مخاطباً رسوله صلوات الله وسلامه عليه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، هنا يطمئن الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأنك لست بدعاً من الرسل، وليس أمرك غريباً عنهم، بل كل الرسل قبلك كانوا يذهبون إلى الأسواق، ويحضرون متاعهم، ويبيعون ويشترون، وهذا ليس عيباً فيهم، ولا عيباً فيك.
قال: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الفرقان:20]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة، يعني: بالفقر، فقالوا له: أنت تذهب تعمل وتبيع، فأنت محتاج للمال مثلما نحتاج نحن إليه فبماذا فضلت علينا؟ ولماذا أنت الذي جعلت رسولاً إلينا؟ قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، وكأن المعنى: أنت تأكل وتشرب، وتتبول وتتغوط مثلنا، وقد ذكر الله ذلك عن المسيح عليه الصلاة والسلام، فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75]، أي: أنه بشر من البشر، فهو يأكل مثل البشر، وأمه كذلك، والذي يأكل يحتاج إلى أن يخرج هذا الذي أكله.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم بشر من البشر يأكل ويشرب ويحتاج أن يخرج ذلك وليس هو من الملائكة، وليس عيباً أن يكون من البشر صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ} [الفرقان:20]، وأتى بلام التوكيد ليؤكد أنه لم يخرج عن ذلك أحد فكلهم بشر، قال تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، أي: في حاجتهم، فيذهبون ويشترون ويبيعون ويتاجرون، أي: أنهم محتاجون إلى ذلك، كما قال تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، يقول: الإمام القرطبي رحمه الله: هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة.
والإنسان المؤمن يتوكل على الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن الرزق من عند الله سبحانه، وليس معنى ذلك: أن الإنسان يجلس في بيته، وينتظر أن ينزل له الرزق من السماء على أطباق يأكل منها، وإنما يخرج إلى السوق كما خرج الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والأولياء، فكانوا يذهبون يشترون ويبيعون، ويحضرون متاعهم، فهي أصل في أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله سبحانه وتعالى.
وعندما خرج أهل اليمن للحج من غير زاد وقالوا: نحن المتوكلون، فلما وصلوا إلى مكة سألوا الناس، أنزل الله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197]، أي: لا تقولوا: نحن متوكلون، ثم تسألون الناس.
فهنا يذكر الله تعالى صفة في الأنبياء وهي أنهم يكتسبون، فكان أشرف الرزق لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما كان من الغنائم في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(106/5)
تفسير سورة الفرقان الآية [20]
لقد أرسل الله عز وجل الرسل لهداية الناس، وتعبيدهم لرب العباد سبحانه وتعالى، وقد كان هؤلاء الرسل بشراً من جنس البشر، يأكلون كما يأكلون، ويشربون كما يشربون، وينامون كما ينامون، ويقضون حوائجهم ككل البشر، ولقد فتن الكفار بهؤلاء الرسل، وظنوا أن من شرط الرسول ألا يكون بشراً على طبيعتهم، جهلاً منهم بحقيقة الرسالة، ومقام النبوة، وقد رد الله على زعمهم هذا في هذه الآية الكريمة، وبين أن الرسل لا يكونون إلا بشراً، حتى يأنس بهم المرسل إليه، وحتى يتمكن الرسول من إبلاغ دعوته كما أراد الله تعالى.(107/1)
بيان كون الرسل عليهم الصلاة والسلام بشراً كبقية البشر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الفرقان أنه ما أرسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم من المرسلين إلا وحالهم أنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، فكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يعملون حوائجهم بأيديهم، وهذا من تواضعهم عليهم الصلاة والسلام، فكانوا يخرجون يبتاعون ويشترون، ويقضون حوائجهم بأنفسهم، وقد علمهم ربنا سبحانه وتعالى هذا الخلق العظيم، خلق التواضع، فعلموا الخلق ذلك، وقد قال تعالى منبهاً على ذلك: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20].
والتعبير بأنهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق إشارة إلى أنهم بشر كبقية البشر، فهم يأكلون الطعام، كما أن البشر يأكلون الطعام ويخرجونه، وكل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كذلك، وليس النبي صلى الله عليه وسلم بدعة من الرسل، عليه وعليهم الصلاة والسلام، بل الكل يستوي في ذلك، فهم سواء في أكل الطعام ثم إخراجه، وفي ذهابهم إلى الأسواق لإحضار طعامهم وشرابهم، وهذا دأب المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20]، يعني: لشراء ما يحتاجون إليه من الأسواق، ومشي الإنسان إلى السوق لشراء حاجته، قد يكون فيه أجر له، وقد يكون فيه وزر عليه، فيؤجر عندما يتعامل بما أمر عز وجل به، وعندما يبيع ويشتري بيع المؤمن للمؤمن، أو بيع المسلم للمسلم، فلا يخون ولا يغدر ولا يغش ولا يدلس ولا يغبن، فالمسلم الذي يبيع ويشتري على هذه الصورة بالعقود الصحيحة له أجر على ذلك؛ لأنه يخاف من الله سبحانه وتعالى، وأما الإنسان الذي يذهب إلى السوق للمراء والجدال مع الناس، وللاختلاط بالنساء، والنظر والتأمل فيما حرم الله سبحانه وتعالى، وليغش ويخدع ويدلس ويغبن، فإن عليه وزراً في ذلك.(107/2)
ما يقول عند دخول السوق
ودخول السوق فيه خطر عظيم جداً، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وبنى له قصراً في الجنة) هذه رواية عند الترمذي.
وفي رواية أخرى: (ورفع له ألف ألف درجة)، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.(107/3)
سبب عظم أجر هذا الذكر
فينبغي على المسلم أن يحرص على ذلك، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم أجر هذا الذكر عظيماً؛ لأنه اشتمل على عدد من مسائل الاعتقاد، وهي: أن الله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، وأنه يحي ويميت، وأنه يخلق، وأنه يرزق سبحانه وتعالى، وأن الله هو الحي الذي لا يموت سبحانه، وهو الذي بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ومسائل الاعتقاد أجرها عظيم عند الله.
وأيضاً لأن السوق مليء بالأشياء التي قد يأثم بها الإنسان، فقد ينظر إلى نساء عاريات، قد يصطدم بامرأة أو برجل أو كذا، فلا يخرج منه إلا وقد امتلأ من الآثام الكثيرة، وقد يحلف كاذباً في بيعه أو شراءه، وقد يخدع، وقد يمد يده إلى شيء من غير إذن صاحبه، وقد يفعل معاصٍ كثيرة، فلا يخرج من السوق إلا وقد وقع في كبيرة من الكبائر، أو في كثير من الصغائر؛ فلذلك يذكره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر، فإذا قاله لم توقعه نفسه في شيء من هذه الأشياء؛ لأنه ذكر الله عز وجل، وأن الله حي لا يموت، وأن الله يحي ويميت، فيتذكر أنه راجع إلى ربه عز وجل مرة أخرى حين يموت، وأنه قد أخذ عليه العهود والمواثيق أن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، وأن يفعل ما أمره الله عز وجل به، فيتذكر الإنسان أن الله حي الذي لا يموت، وأنه سيموت فيحاسبه الله سبحانه وتعالى، يتذكر أن الله على كل شيء قدير، فيخاف منه؛ لأنه ليس منه مهرب، ويتذكر أن الله سبحانه يرزق عباده، فهو الذي بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فإذا تذكر ذلك فلن يسرق، أو يمد يده إلى شيء خفية، أو يغش؛ لأنه يعلم أن الله بيده الخير، وأن خزائنه مليئة لا تغيض، وأن المعطي هو الله، فيدع ما عند الناس، ولا يأخذ مالاً إلا بطيب نفس من صاحبه.
فإذاً: على الإنسان المؤمن أن يذكر نفسه بهذا الذكر؛ حتى يتعامل مع الناس معاملة إسلامية صحيحة، فإذا دخل السوق فإنه يغض بصره، ولا ينظر إلى ما حرم الله، ولا يحسد الناس على ما أتاهم الله عز وجل من فضله سبحانه وتعالى، ولا يجادل كثيراً، ولا يماكس أو يساوم حتى يرهق الإنسان، وإنما يتخلق بالخلق الحسن، وكل ذلك يتذكره حين يقول هذا الذكر: (لا إله إلا الله)، يعني: لا أعبد إلا الله وحده لا شريك له، فعبادتي لله، فصلاتي وصيامي ودخولي السوق للبيع أو الشراء ومعاملاتي وآدابي وأخلاقي لله، وهي معاملة مع الله سبحانه، وكل هذه يتذكرها المسلم وهو يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير).
فإذا تذكر الثواب هانت عليه الدنيا، فإنه يعطى (ألف ألف حسنة، ويمحى عنه ألف ألف سيئة، وترفع له ألف ألف درجة)، وهذا شيء كثير جداً من فضل الله عز وجل، فإذا نظر إلى ذلك فإنه يحتقر الدنيا، فلم تعد لها عنده قيمة، فيعود ويسأل نفسه: لماذا يعمل كذا، ويحسد الناس على ما أتاهم الله من فضله؟ ولماذا ينظر إلى النساء الكاسيات؟ ولماذا يعمل كذا؟ فيتذكر عند ذلك جنة الله سبحانه، فتهون عليه الدنيا، فيدخل السوق ويحصل على الأجر من الله، ويحصل على ما يحتاجه من السوق ثم يخرج، وهذا فضل من الله.(107/4)
بيان أن السوق مكان معركة الشيطان
وأما غيره فإنه يدخل السوق معركة الشيطان، فقد جاء في صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته.
فالسوق معركة الشيطان، والمعركة مأخوذة من: الاعتراك، والاعتراك: مقاتلة الأبطال، فمكان معركة الشيطان داخل السوق، ينصبها هناك، ليصطاد ضحاياه، ويوقعهم في الهوى فيضلهم، فهذا يسرق، وهذا يبخس، وهذا يغش، وهذا يحتال، وهذا يماكس، وهذا يغدر، وهذا يدلس، وهذا يبيع الشيء المعيب، وهكذا فهو معركة الشيطان؛ لذلك كان سلمان يقول: لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه، فإنها معركة الشيطان.
يعني: فيها من يصطاده الشيطان ويضيعه.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن الأنبياء أنهم دخلوا الأسواق، فيجوز للمسلم أن يدخل السوق، ولكن بالنية الحسنة، ولحاجته من البيع أو الشراء، مع التزامه بالآداب الشرعية.(107/5)
بيان أن الخلق بعضهم فتنة لبعض
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20]، أي: كل خلق الله عز وجل، فقد جعل الله بعضهم لبعض فتنة، حتى المتناقضات في الدنيا، مثل الغني والفقير، فإن هذا نقيض لهذا، فالفقير فتنة للغني، والغني فتنة للفقير، فكل من الاثنين فتنة للآخر، فالفقير ينظر للغني ويقول: أعطاه الله ولم يعط، وليس بأفضل مني، فيكون فتنة له، والغني ينظر للفقير ويقول: لو كان صالحاً لأعطاه الله، وما حرمه إلا لأنه لا يستحق، والذي معي إنما هو بعقلي وذكائي وتدبري، فكل واحد منهما فتنة للآخر، وكذلك المؤمن والكافر كل منهما فتنة للآخر، فالمؤمن ينظر إلى الكافر ويرى أن الله يعطيه في الدنيا مالاً وبنين وكذا وكذا، فيكاد يتزلزل عن دينه، لولا أن الإيمان الذي في قلبه يثبته، ولولا شرع الله عز وجل الذي يقول له: لا، فنحن جعلنا هذا لك فتنة، فإياك أن تفتن بذلك، فإنما نبتليك بهذه الدنيا، فاصبر، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]، فيقول المؤمن: أصبر على هذه الدنيا.
والكافر ينظر إلى المؤمن، وإلى البلاء الذي هو فيه، وإلى الكرب والتضييق الذي عليه فيقول: لو كنت أسلمت لحصل لي هذا، فيكون فتنة له.
وكذلك الصحيح والمريض، فإن المريض ينظر إلى الصحيح فيكون فتنة له، فيتساءل لماذا هو صحيح يمشي على رجليه وأنا لا أقدر على المشي بقدمي، وإنما على عصا؟ ولماذا هو بصير وأنا أعمى لا أرى؟ ولماذا هو يسمع وأنا لا أسمع؟ فجعل بعضهم لبعض فتنة، فهذا يفتن بهذا، وهذا يفتن بهذا.
والإنسان البصير يرى أنه أحسن من المريض؛ لأنه ينظر والمريض لا ينظر.
وهكذا يبتلي الله عز وجل العباد بعضهم ببعض.
ثم أمرهم الله بالصبر على قضاء الله وقدره، فقال: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]؟ وجعل الرسل فتنة لأقوامهم، فمع أنهم هداية لأقوامهم من الضلال إلا أنهم فتنة لهم، كما قال أحد الكفار: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، يعني: ألا يوجد عظيم في القريتين -مكة والطائف- ينزل عليه القرآن غير محمد صلوات الله وسلامه عليه؟ أفلا يوجد في مكة فلان وفلان، وفي الطائف فلان وفلان؟ ثم هو فقير ليس معه شيء ومع ذلك صار نبياً ورسولاً!! فكان صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار، فامتنعوا من الدخول في دين الله عز وجل؛ لأنهم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أغناهم، ولا رئيس القبيلة التي هو فيها، ففتنوا بذلك، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20]؟ أي: تصبرون على هذه الفتن وهذا البلاء أم تكفرون؟ فالمؤمن يصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، ويعلم أن ما أصابه من مصيبة فبما كسبت يداه، وأيضاً الحكام والرعية فإن بعضهم لبعض فتنة، فالمحكوم يقول: إن الحاكم ظالم يظلمني، ويعمل كذا وكذا، والله يقول له: اصبر لأمر الله سبحانه وتعالى، وأما الحاكم فإنه يتعالى على المحكوم ويقول: أنا أحسن منه، ولم أصل إلى هذا المكان إلا بذكائي ومنزلتي، وصدق الله عندما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].
فالإنسان المسلم يصبر على قضاء الله وقدره، ويصبر عن معصية الله فلا يقع فيها، ويصبر على طاعة الله فيأتيها، فهو صابر لأمر ربه، وربنا يقول: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].
وقد روي أن الإمام المزني رحمه الله وهو من تلامذة الشافعي رضي الله عنهما أخرجته الفاقة والفقر يوماً -وقد كانوا يقولون: من طلب العلم الشرعي فلا بد أن يعانق الفقر، وقد كان أغلب العلماء رضي الله تبارك وتعالى عنهم فقراء- خرج يوماً فلم يجد ما يأكل ولا ما يشرب؛ فخرج يبحث عن رزق، فرأى رجلاً في مراكب ومواكب، وليس عنده علم، وإنما كان من الجهال، ويركب المراكب، وحوله مواكب يحمونه ويحرسونه، فلما نظر إليه سمع شخصاً يقرأ هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، وهذا من رحمة الله به، فإنه يعظه، ويقول له: اصبر فهذا المزني رحمه الله.
وروي أيضاً: أن ابن القاسم صاحب مالك تلا هذه الآية حين رأى أحد الأمراء وهو أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابراً عليه، فتلا هذه الآية: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)).
فالمؤمن حين يرى شيئاً لا يقدر عليه يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، فلا يحسد أحداً، ثم يذكر نفسه بقوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ))، ويقول: سأصبر لأمر الله سبحانه وتعالى.
أما أن يحسد المبتلى المعافى فهذه هي الفتنة، إذاً: فمعنى قوله تعالى: ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً))، أن يقوم المبتلى والفقير وصاحب الحاجة والمريض وصاحب المنزلة الضعيفة والحقيرة يحسد من هو أفضل وأعلى منه، فهذه هي الفتنة أو أن يحتقر صاحب النعمة من هو أقل منه، فهذه فتنة، فالله عز وجل يقول للجميع: (أتصبرون)، فلا بد للإنسان من أن يصبر، ويقول: إن كان الله قد أعطاني المال، فسأنفقه في الوجوه التي يريدها سبحانه وتعالى، وأعطيه لله سبحانه وتعالى، ويقول الفقير: سأصبر على هذه الحاجة التي أنا فيها؛ لأني ابتغي جنة الله سبحانه وتعالى، ((وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)).
وقد كان من الفتن التي فتن الله بها قريشاً: أنهم نظروا لهذا القرآن وعلموا أنه ليس من كلام البشر، بل من كلام الرب العظيم سبحانه، ثم نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فرأوا معه أبا ذر وعبد الله بن مسعود وعماراً وبلالاً وصهيباً وعامراً بن فهيرة وسالماً مولى أبي حذيفة وهم فقراء وبعضهم عبيد، فقالوا: إذا أسلمنا أصبحنا مثلهم، وقعدنا معهم، فلن ندخل في هذا الدين، والذين قالوا هذا القول هم أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث، وكانوا مشايخ قريش وأغنيائها ورؤسائها، فهم الذين قالوا: لن نسلم ونجلس مع هؤلاء، وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: إن أردت أن نسلم فاجعل لنا يوماً لا يقعدون فيه معنا، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابتهم، وإذا بالله عز وجل ينزل على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
أي: احذر أن تطرد هؤلاء عنك، كما يريد الكفار من إبعادهم؛ حتى يجلسوا هم، ثم نصر الله عز وجل دينه، وأذل هؤلاء الكفار، فمنهم من مات على كفره، ومنهم من أسلم بعد ذلك، فرأى فضل هؤلاء السابقين عليه، والذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10]، أي: الذين سبقوا، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، ولذلك: فإن الإنسان المؤمن يصبر إن كان ضعيفاً أو فقيراً أو محتقراً عند القوم، وليعلم أن له عند الله عز وجل ما ترفع به درجته.(107/6)
دلالة الآية على طلب الرزق
وهذه الآية أيضاً أصل في تناول الأسباب والأخذ بها، وطلب المعاش بالتجارة والصناعة والاحتراف وغير ذلك.
فالإنسان المؤمن يعمل ويكتسب بعرقه وبتعب يده، وهذا من أشرف الكسب، فيبيت وقد غفر الله عز وجل له بكسبه وتعبه، فلا يجلس فارغاً في بيته ويقول: لم أجد العمل المناسب، بل إذا وجد عملاً ولو غير مناسب أو ضعيف وهو حلال فهو أفضل له عند الله عز وجل من أن يتكفف الناس، ويمد يده إليهم، وينتظر من ينفق عليه.
ولذلك نقول لإخواننا الشباب: اجتهدوا واتعبوا واشتغلوا ولا يجلس الواحد بعد أن يتخرج من الكلية في بيته فارغاً، ويستدين أموال الناس، وإنما يعمل ولو عملاً ضعيفاً، ويتعب نفسه، والله عز وجل سيكافئه على قدر تعبه، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
فالأنبياء كانوا يتعبون، وكانوا يتوكلون على الله سبحانه، وقد قال ربنا سبحانه وتعالى عن داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، فعلمه صنعة الزرود، وصنعة الدروع، وعلم سيدنا نوحاً كيف ينجر ويصنع السفينة، والنبي صلى الله عليه وسلم تاجر وتعب، صلوات الله وسلامه عليه، وقد رعى الغنم قبل ذلك عليه الصلاة والسلام، ثم شرفه الله عز وجل بالجهاد في سبيله، وجعل رزقه تحت ظل رمحه، فالإنسان المؤمن لا يأنف من طلب الرزق طالما أنه من وجه حلال.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/7)
تفسير سورة الفرقان [21 - 26]
الكافرون دائماً يتعنتون على مر الزمان، فهم يسألون أسئلة ويطلبون مطالب من أنبيائهم على وجه التعجيز وليس للإيمان، وعلى ذلك فإن الله لا يقبل منهم عملاً صالحاً لعدم وجود شرط الإيمان فيهم، ويوم القيامة يظهر الهول، وتشتد الكربات، ويظهر الأمر جلياً أن الملك كله لله الواحد القهار.(108/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:21 - 26].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن المشركين كانوا يتنطعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون ما يستحيل عليهم أن يجاب لمثله، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:21]، فلو شاء الله عز وجل لأنزل ملائكة، ولكن حكمته سبحانه وتعالى تأبى ذلك؛ لأن معناها الإيمان جبراً وقهراً، وإذا رأى الإنسان الملائكة ماذا يملك؟ هل يقدر أن يختار؟ يرى الملائكة أمامه ثم يقول: أؤمن أو لا أؤمن، لا لن يقول ذلك، ولكن إذا رأى الملائكة لا بد أن يؤمن؛ لأنه يخاف ولا طاقة له بهؤلاء الملائكة، فلذلك من حكمة ربنا سبحانه أن يجعل للإنسان اختياراً في باب التكليف، فيكتسب الخير ويكتسب الشر ويحاسب على كسبه، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقدر الأقدار سبحانه وهو الذي يعلم أن هذا في الجنة وهذا في النار، وهو الذي يعطي للإنسان الاختيار ليختار بمشيئته الله في ذلك، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
هؤلاء الكفار الذين لا يرجون لقاء الله، أي: لا يخافون لقاءنا أو لا يؤملون ذلك، أو لا يبالون به فكله من معاني (لا يرجون)، فهم لا يرجون لقاء الله، يعني: ليس على بالهم هذا الشيء؛ لعدم وجود الإيمان باليوم الآخر في قلوبهم، وهم لا يرجون لقاء الله، بل يقولون: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، إذاً: فلا يوجد بعث بعد أن نصير تراباً، فلن نحاسب ولن نجازى وهم لا يؤملون ذلك، فلا يؤمل لقاء الله إلا هذا الذي يرجو جنة الله ويخاف من عذابه، وهؤلاء ليس على بالهم هذا الشيء فـ {لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:21]، أي: لا يخافون من لقائنا ولا يبالون بلقائنا ولا يؤملون لقاءنا، فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [الفرقان:21]، هم الكفار.
قال تعالى: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:21]، ولولا: للتحضير والحذف، يعني: هلا نزل علينا الملائكة؟ {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21]، يعني: من التطاول قولهم: حتى نرى ربنا، وكأنهم يقولون: لن نؤمن إلا بذلك، وهم الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء:90 - 92]، و (قبيلاً): مقابلة يعني: نرى الملائكة أمامنا بأعيننا، ولن نؤمن لك حتى وإن أتيتنا بهذا كله، ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: ولو أتيت بهذا كله فلا نظن أننا نصدقك.
إذاً: فالمعنى: أن الطلب لمجرد المعاندة، فيصير الأمر على ذلك أنهم لن يؤمنوا، فالله أعلم سبحانه وتعالى، وعلمه عظيم وهو الحكيم وهو القوي سبحانه القادر على كل شيء، فإذا آمنوا لن يزداد ملك الله عز وجل بهؤلاء شيئاً، ولو أنهم كفروا وعتوا عتواً كبيراً لم يخسر الله سبحانه وتعالى شيئاً، فهم مع جهلهم وغبائهم يظنون أن تعنتهم على النبي صلى الله عليه وسلم ينفعهم، ولكن ستجري عليهم أقدار الله عز وجل شاءوا أم أبوا، وفي النهاية إلى النار إن ماتوا وهم كفار.
قال ربنا سبحانه: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا} [الفرقان:21]، أي: هؤلاء المتكبرون المتجبرون لقد استكبروا في أنفسهم، والإنسان الذي يستكبر في نفسه يحس أنه أعلم من غيره وأفضل من غيره، فيقول الله عز وجل لهؤلاء المستكبرين: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]، والعتو: أعظم الظلم وأفحشه، والعتو كذلك: أشد الكفر والفساد في الأرض، والعتو هنا بمعنى: العلو على هيئة الاستكبار، فقد علو وتعاظموا في أنفسهم، واستكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم، وأفسدوا في الأرض بكفرهم وعبادتهم غير الله سبحانه وتعالى، وظلموا أنفسهم وغيرهم.(108/2)
تفسير قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين)
قال الله سبحانه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22]، أي: يرون الملائكة في أثناء قتالهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يراهم إلا الكافر وهم يضربونه على رأسه وعلى جنبه، فالكفار يرون الملائكة، يرونهم وهم يقتلونهم.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى} [الفرقان:22]، أي: لهم لا الملائكة، فلن يأتيهم وهم على كفرهم إلا بالعذاب، فيتطاولون ويطلبون رؤية الملائكة، والله عز وجل يعلم أن هؤلاء لا يطيقون ذلك، بل إذا رأى أحدهم جنياً فزع وخاف، وهم من أخوف الناس من الجن، فقد كان الواحد منهم إذا مشى في طريق يأتي الشيطان يستهويه ويضحك عليه فيفزع ويخاف، حتى إنه ليكفر بالله سبحانه ويقول: أعوذ برب هذا الوادي، يعني: بسيد هذا الوادي من الجن، فهو لم ير الملائكة، فإذا رآهم وأنزلهم الله عز وجل عليه فكيف سيميز بينهم وبين الجان؟ فهم يقولون ما لا يفهمون، وكأنهم يطلبون العذاب من الله سبحانه.
والكفار أغبياء وحمقى حتى في دعائهم على أنفسهم، فهم يقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32]، فهذا الدعاء يدل على غباء القلوب والعقول، فالإنسان يقول: يا ربِّ! إن كان هذا هو الحق فاهدني إليه، والذي يقول: يا ربِّ! عذبني، فيطلب العذاب لنفسه فهو أحمق لا يفكر.
يقول سبحانه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:22]، أي: لا توجد بشارة لهم، بل العذاب الشديد، فقد أعطاهم الله في الدنيا مالاً ويقولون: إذا رجعنا إلى الله فإنه سيعطينا كذلك، فيخدعون أنفسهم بذلك؛ لأنه لا بشارة للمجرمين، إنما البشارة للمؤمنين يوم القيامة.
والملائكة تضرب الكفار على وجوههم وعلى أدبارهم في أثناء خروج أرواحهم من أجسادهم، وتتقد قبورهم عليهم ناراً، ويوم القيامة يدخلون النار والعياذ بالله.
قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]، وهؤلاء المجرمون إذا رأوا الملائكة يضربونهم على وجوههم وأدبارهم، ومعهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا من النار أعيدوا فيها، قال لهم الملائكة: {حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]، يعني: حراماً محرماً عليكم دخول الجنة، فكلما جاءت النار وعلت بهم يودون أنهم يخرجون فتأتي المقامع من فوق رءوسهم وتردهم ثانية في نار جهنم والعياذ بالله، فالملائكة تقول: إن خروجكم من النار محرم عليكم، وممنوع دخولكم الجنة.
والحجر: الحاجز الذي يحيط بالإنسان، وسمي عقل الإنسان حجراً؛ لكونه يحجزه عن المعاصي، ويحجزه عن أن يؤذي نفسه أو يؤذي غيره، فعقل الإنسان يدفع الإنسان إلى أن يفعل الخير وأن يجتنب الضر فسمي حجراً، وكما تقول: حجراً محجوراً، كذلك الكفار يقولون ذلك، فالكافر يقول: حجراً محجوراً يعني: لا تؤذونا يا ملائكة! ولا تعذبونا، حرام عليكم أن تفعلوا بنا هذا الشيء، والملائكة تقول: حجراً محجوراً، أي: لن تخرجوا من هذا المكان، فأنتم محبوسون فيه دائماً.(108/3)
تفسير قوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، أي: قدمنا إلى ما عمل هؤلاء الكفار، ومعنى ذلك: عمدنا إلى أعمالهم التي عملوها وقدموها في الدنيا، فالكافر قد يفعل الخيرات فيبر أمه، ويصل رحمه، ويتصدق على إنسان على دينه أو على غير دينه، لكن الله عز وجل لا يدخر له أجراً للآخرة، بل يعطيه في الدنيا فقط، فقد يعطيه صحة حين يمرض ويشفيه الله سبحانه وتعالى، وقد يعطيه مالاً ويعطيه البنين بحيث لا يبقى له عند الله يوم القيامة شيء، فإذا مات وجاء يوم القيامة ضاع هذا العمل فجعله الله عز وجل {هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، والهباء: الذرة التي تراها من النافذة حين تدخل الشمس، وحين تمسك هذه الذرات بيدك لا تجد شيئاً في يدك، فهذا الهباء، أو هو غبار التراب الذي تبثه وتذروه الرياح، فكذلك هؤلاء الذين كانوا يعملون في الدنيا بالخير لا يقبل منهم؛ لأن قبول الخير مقيد بشرطه وهو الإيمان، أن يكون مؤمناً بالله سبحانه، ومؤمناً برسله عليهم الصلاة والسلام، ومؤمناً بالملائكة، ومؤمناً باليوم الآخر، ومؤمناً بالقضاء والقدر، فإذا جاء بأصول الإيمان يقبل الله منه عمله، وإذا لم يأت بأصول الإيمان لا يقبل الله منه شيئاً.(108/4)
تفسير قوله تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً)
أما أصحاب الجنة فيذكرهم ربنا سبحانه وتعالى وكأنهم صحبوا الجنة، فهم معها دائماً لا يخرجوا منها وكما أن هؤلاء أصحاب النار ملازمين للنار ملازمة الرفيق لرفيقه والصاحب لصاحبه، كذلك أصحاب الجنة يلازمونها ولا يخرجون منها أبداً، وبين الله حالهم فقال سبحانه: {خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، والمستقر: مكان القرار، فأصحاب في خير مستقر، وأهل النار في شر مستقر وهو النار، وهؤلاء في خير مقر يستقرون فيه وهو الجنة، وفي أحسن مقيل يقيل فيه الإنسان وإن كانوا لا ينامون، والمعنى: أنه مكان راحة، أي: يدخل أهل الجنة الجنة فيستريحون فيها، والله عز وجل يمتعهم بما شاء خالدين فيها أبداً، ولا نوم في الجنة.
فهنا المقيل بمعنى: الراحة، أو بمعنى: المنزل، أو بمعنى: المثوى والمأوى، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لا ينتصف النهار يوم القيامة من نهار الدنيا حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار.
يعني: يفصل الله عز وجل القضاء بين خلقه ولا يشغله شيء عن شيء، ويطيل الله عز وجل يوم القيامة على من يشاء ويخفف على من يشاء سبحانه وتعالى، فلا ينتصف النهار حتى يدخل هؤلاء الجنة ويدخل هؤلاء النار.(108/5)
تفسير قوله: (ويوم تشقق السماء بالغمام)
قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25]، أي: اذكر ذلك {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، فقبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يسبق ذلك حساب الله سبحانه وتعالى لعباده، فاذكر {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، يعني: اذكروا هذا اليوم، وليكن على بالكم، واعملوا لهذا اليوم، يوم تشقق السماء فترى فيها الغمام الذي يحجب ما وراءه، وينشق هذا الغمام وينزل منه الملائكة، يقول ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ويبدل الله سبحانه الأرض، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، إذاً: فالأرض تسع هؤلاء كلهم، ولا شك أن الأرض شيء صغير جداً بجوار السماء، فالملائكة حينما ينزلون، لا تسعهم هذه الأرض، ولكن الله عز وجل يبدلها أرضاً أخرى فتسع هؤلاء كلهم، فيأتي الملائكة وينزلون من عند رب العالمين سبحانه.
يقول ابن عباس: فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في السماء الأولى، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة.
وهذا شيء فظيع جداً وشيء مهول، فالخلق واقفون، والملائكة تنزل وتحيط بهم، والناس في فزع عظيم نسأل الله العفو والعافية، ويسأل الناس الملائكة أفيكم ربنا؟ مما يرونه من عظمة الملائكة في هذا اليوم ونزولهم من السماء، فيظنون أن فيهم الله سبحانه، ثم يأتي الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية.
يقول سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ} [الفرقان:25]، أصلها: تتشقق، فقوله: (تشَّقَّق) قراءة أبي عمرو، وأما قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف وباقي القراء: (وَيَوْمَ تَشَّقَّقُ السَّمَاءُ) بمعنى: تتشقق السماء، والمعنى: المبالغة، فالسماء يأتي أمر الله إذا بها تكشط كما يكشط الشيء من على وجه اللبن.
فقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]، يعني: تتشقق فيبدو الغمام عن الغمام، وقوله تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:25]، أي: ملائكة السماء ينزلون من السماء وأهل الأرض يسألونهم: فيكم ربنا؟ فيقولون: لا، قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، فجاءت الملائكة من السماء وأتى ربنا سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} [الفرقان:25]، يعني: أنزلهم الله سبحانه وتعالى، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (وننزِلُ الملائكة تنزيلاً)، يعني: ينزلهم الله عز وجل من السماء فيحيطون بأهل الأرض.(108/6)
تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ الحق للرحمن)
قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان:26]، فهذا يظهر الملك الحقيقي، فالإنسان في الدنيا يقول: أنا ملك وأنا مالك، أي: أملك بيتي وأملك كذا، ويقول: أنا حاكم على الناس، فإذا أتى يوم القيامة ظهرت الحقيقة، وهي أنه لا أحد يملك شيئاً، وإنما {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:26]، سبحانه وتعالى.
وفي الدنيا كذلك الملك لله سبحانه وتعالى، ولكن جعل الناس بعضهم لبعض، وسخر بعضهم لبعض، فبعضهم يملك بعضاً، وبعضهم ملوك على البعض في الدنيا، وليس هذا على الحقيقة، فالمالِكُ والملِكُ الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، فيوم القيامة يظهر ذلك جلياً، قال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا} [الفرقان:26]، أي: يوم القيامة {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان:26]، أي: يوماً شديداً شاقاً فظيعاً، يقولون: يا رب! اصرفنا ولو إلى النار، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(108/7)
تفسير سورة الفرقان [27 - 29]
يندم الإنسان يوم القيامة فلا توبة تنفعه ولا ندم، فقد كان في الدنيا يعرف الحق، ولكنه ضل وانحرف، وكان من أصدقاء السوء من يبعده عن طريق الحق ويشجعه على اتباع الباطل، وهذه الآيات من سورة الفرقان توضح ذلك.(109/1)
تفسير قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ندم العصاة والظلمة يوم القيامة وندم المجرمين يوم لا ينفع الندم، فالإنسان يندم في الدنيا وينفعه ندمه، ويتوب إلى الله وتقبل توبته، فإذا غرغرت نفس الإنسان وخرجت فلن تقبل له توبة، فذاك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
ويوم القيامة يريد الكافر أن يؤمن؛ لأنه قد رأى أمامه ما كان غيباً قبل ذلك، فلا ينفعه هذا الإيمان، وإنما ينفعه في الدنيا حين كان الإيمان بالغيب، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، فالإيمان ينفع حين يكون الأمر غيباً، أما أن يؤمن والأمر مشاهد أمامه فلا ينفعه ذلك، فيوم القيامة يكثر الندم، قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، يوم يرى المؤمن نفسه مقصراً فكيف بالفاجر؟ وكيف بالعاصي؟ وكيف بالكافر؟ المؤمن يقول: ضيعت من عمري أياماً كان من الممكن أن أفعل فيها طاعات فترتفع درجاتي، وآخذ بها ثواباً أكثر مما أنا فيه، وسمى الله عز وجل ذلك اليوم بيوم التغابن؛ لأن كل إنسان يرى أنه مغبون، والغبن في الدنيا: أن تشتري السلعة بأكثر من ثمنها، أو تبيع السلعة بأقل من ثمنها، فالإنسان يرى أنه اشترى الدنيا ودفع فيها الكثير، فضيع من وقته وضيع من جهده ودينه، فيوم القيامة يندم؛ لأنه اشترى هذه الدنيا ودفع فيها العمر الذي كان من الممكن أن يستغله في شيء أفضل من ذلك، كذلك يرى أنه باع الآخرة بثمن بخس قليل في الدنيا، باع آخرته بالمعاصي التي فعلها، وبشهوات ضاعت، وبلذات انقضت، وبأموال تركها لورثته، فذلك يوم التغابن، يوم يشعر فيه كل إنسان أنه غبن نفسه وخدعها، وخانته نفسه.
وفي هذه السورة يخبرنا الله عز وجل عن الظالمين والمجرمين والمشركين والكفرة يوم القيامة، وذلك حين يعض الظالم على يديه، فالإنسان عندما يستشعر الندم لشيء ضيعه يعض أصبعه، كذلك النادم يوم القيامة يعض يديه، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27].(109/2)
سبب نزول قوله تعالى (ويوم يعض الظالم على يديه)
قال المفسرون: هذه الآية نزلت في خصوص بعض المشركين، وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، فلا مانع من أن نعرف هؤلاء الذين نزلت في خصوصهم هذه الآية، وإن كان كل ظالم يوم القيامة يفعل ذلك: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27]، فالذي لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقتد به ولم يدخل في دينه، يعض على يديه يوم القيامة ويقول ذلك.
يقول ابن عباس وسعيد بن المسيب: إن الظالم هاهنا يراد به عقبة بن أبي معيط وخليله أمية بن خلف، فقوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، هي على عمومها، فكل إنسان صادق إنساناً من أهل السوء ومشى معه، وأحبه للدنيا يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فلا صلات فيما بينهم، ولا قرابات تنفعهم، فيندم كل إنسان على ما فرط وضيع، ويقول: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن عقبة بن أبي معيط كان خليلاً لـ أمية بن خلف، وأمية بن خلف وأبي بن خلف أخوان، وكان الثلاثة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم.
وعقبة بن أبي معيط ابنته من المؤمنات المهاجرات رضي الله عنها، واسمها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاجرت وحدها إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأبوها من رءوس الكفر، يقول ابن عباس: يراد بهذه الآية عقبة بن أبي معيط وخليله أمية بن خلف، فأما عقبة فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان عقبة في الأسارى في يوم بدر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله؛ بسبب إيذائه الشديد للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، ولو كان هذا الرجل أسلم لتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ظل على كفره فأمر بقتله صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (أأقتل دونهم؟ فقال: نعم بكفرك وعتوك)، أي: أنت كنت كافراً شديد الإفساد وشديد العتو، فقال عقبة: من للصبية؟ قال: (النار)، فقتله علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.(109/3)
مقتل أمية بن خلف في غزوة بدر
وأما خليله أمية بن خلف فقتله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وفيها قصة يرويها الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: انطلق سعداً بن معاذ معتمراً فنزل على أمية بن خلف وكنيته: أبو صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، إذ كانا صديقين أي: أن سعد بن معاذ كان صديقاً لـ أمية بن خلف، وأمية هذا كافر في مكة، وذاك أسلم وهو في المدينة رضي الله عنه، فكان سعد إذا راح إلى هنالك يطوف بالكعبة ينزل على أمية بن خلف، وكان أمية كذلك إذا جاء المدينة نزل على سعد، فلما نزل سعد في مكة قال أمية: انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت، وذلك بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإيواء الأنصار له، وكان على رأس الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان يحبه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء هم الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم ونصروه، وكونه يذهب إلى مكة فإن أهل مكة يعرفون أن هذا سعد بن معاذ الذي آوى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك ستحصل مشاكل هنالك.
لذلك نزل على أمية بن خلف صديقه، فـ أمية بن خلف قال: انتظر لا تطف حتى ينتصف النهار، فلما انتصف النهار أخذ يطوف، فبينما هو يطوف إذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يقول: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ فقال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمناً وقد آويت محمداً -صلوات الله وسلامه عليه-؟ فقال له: نعم أطوف آمناً بالبيت وقد آويناً محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وكان شجاعاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فتلاحيا بينهم، يعني: كل واحد شتم الثاني، أبو جهل شتمه، وهو رد عليه الشتمة، ولاحظ أنه وحده رضي الله عنه وأبو جهل في وسط الناس وفي وسط الكفرة الذين يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج أمية وقال لـ سعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي، فقال سعد: والله لإن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، وقد قال الله سبحانه يمن على قريش: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، أي: يذهبون إلى الشام فيتاجرون، ويذهبون إلى اليمن فيتاجرون، فجعل أمية يقول: لا ترفع صوتك على أبي الحكم فقال له: دعنا عنك، فإني سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، وكلمة يزعم هنا بمعنى: يقول وليس معناه: أنه ظن أو كذب، فقال أمية: أنت سمعت هذا من محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: نعم، فقد كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، فمهما كذب هؤلاء الملاعين النبي صلى الله عليه وسلم فإنه في قرارة أنفسهم أنه صادق؛ ولذلك قال ربنا سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، لذلك لما قال سعد لـ أمية: إن النبي صلى الله عليه وسلم زعم أنه قاتلك، قال: أنت سمعت هذا من محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، فقال أمية: والله ما يكذب محمد إذا حدث، فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ فقالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمداً يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهي كافرة وزوجها كافر، وهم الذين يقولون عنه كاذب، ويكذبونه عليه الصلاة والسلام، ولكن بينهم وبين أنفسهم هو ليس بكذاب، بل هو صادق صلى الله عليه وسلم، فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ في يوم فنادوا: تعالوا نقاتل محمداً ومن معه عليه الصلاة والسلام، فقالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ فقال: نعم، فأراد ألا يخرج؛ لأنه خاف من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتله، وقدر الله سبحانه وتعالى أن يلقاه أبو جهل ويقول له: إنك من أشراف الوادي، فاخرج معنا يوماً أو يومين، فسار معه حتى كانت نهايته بعد ذلك، وكان من المحفزين له على الخروج عقبة بن أبي معيط، ذلك الملعون الذي قال له: اخرج، وأتى بجمرة فيها بخور ووضعها أمامه وقال: اقعد إنما أنت مع النساء، فقال أمية: قبحك الله وأخذته العصبية وخرج معهم حتى يقتل هنالك.
ويخبر عبد الرحمن بن عوف فيما رواه البخاري أنه كان بينه وبين أمية مكاتبة قال: كتب أمية بن خلف بأن يحفظني في ضيعتي بمكة وأحفظه في ضيعتي في المدينة، فلما جاء يوم بدر وخرج أمية بن خلف، وقد حضر لنفسه أجود بعير في مكة ليهرب منه صلوات الله وسلامه عليه، فلما جاء إلى بدر أراد أن يهرب، وحاول عبد الرحمن بن عوف أن يحميه، فإذا بـ بلال رضي الله عنه يراه، وقد كان أمية يعذب بلالاً رضي الله عنه، فقال: أمية بن خلف رأس الكفر لا نجوت إن نجا، فنادى الأنصار فحاول عبد الرحمن بن عوف أن يحمي أمية فلم يستطع، وكان مع أمية ابنه علي بن أمية بن خلف، فقال عبد الرحمن بن عوف: فشغلتهم بابنه فقتلوه، وجاء من وراءه أمية حتى لا يقتلوه، قال عبد الرحمن بن عوف: فقلت له: ابرك ونم على الأرض، ونام فوقه عبد الرحمن بن عوف يريد أن يحميه، فإذا به تتناوشه السيوف من تحت عبد الرحمن بن عوف وجرحوا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقتلوا رأس الكفر أمية بن خلف وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(109/4)
أسر عقبة بن أبي معيط يوم بدر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله
وأما عقبة بن أبي معيط خليل أمية فله قصة أخرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في إساءته إليه، روى البخاري من حديث عمرو بن العاص وقد سأله عروة عن أشد ما آذى الكفار النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله.
أيضاً: جاء أن ابن أبي معيط وأبي بن خلف التقيا، وكان عقبة خليلاً لـ أبي بن خلف، وقد كان أبي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكاد يسلم، فصنع وليمة ودعا لها النبي صلى الله عليه وسلم فرفض النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها؛ لأنه كافر، فقال: أريد أن أسلم، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم إذا بـ عقبة بن أبي معيط يلومه ويقول له: لم تبق بيني وبينك مودة ولا محبة حتى تذهب إليه وتشتمه وترد عليه الذي قال.
وذكر في رواية أخرى أنه أمره أن يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن يدخل عليه ويشتمه، فلما كان يوم بدر أسر عقبة بن أبي معيط في الأسارى، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، بسبب أفعاله الشنيعة التي استحق بها أن يقتل وألا يعفى عنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقتله.(109/5)
مقتل أبي بن خلف على يد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد
وقد كان أبي بن خلف يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن أبياً بن خلف يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل أنا قاتله إن شاء الله)، وقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة عليه الصلاة والسلام، أما أخوه أمية فقتله الأنصار الذين كانوا مع بلال رضي الله عنه، وانطلق أبي للنبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يلتمس غفلة من النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل عليه، وكان ذلك يوم أحد، فإذا بالمسلمين يحولون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعوه)، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم رمحاً لا نصل له فرماه بها، فنزلت من تحت درعه في رقبته فخنقته، ورجع وقد خدش منه خدشاً صغيراً، فرجع إلى قومه وحملوه، وقال: قتلني محمد، فضحكوا منه فقال: بل قتلني محمد -صلى الله عليه وسلم- ووالله لو تفل علي لقتلني، وفعلاً قتل بهذه الضربة من النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: فلم يخرج كثير دم، واحتقن الدم في جوفه فجعل يخور كما يخور الثور فأقبل أصحابه حتى احتملوه، ونزلت فيه هذه الآية، وهي قول الله سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، نزلت في عقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وأبي بن خلف، ومن كان على شاكلتهم ممن عصى الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتبعوه على دينه، يقول هذا الظالم: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28].
أما القراءات في هذه الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ} [الفرقان:27]، فهذه قراءة الجمهور بإظهار الذال، وهي قراءة يعقوب وابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب، فإنهم يقرءون: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27]، أما بقية القراء فيقرءونها: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذتُّ)، بإدغام الذال في التاء، فتقرأ تاء فقط.
وقوله تعالى: {يَا وَيْلَتَا} [الفرقان:28]، وقفاً ووصلاً، والجمهور يقرءونها كذلك: {يَا وَيْلَتَا} [الفرقان:28]، ويقرأ رويس وقفاً فيها: (يا ويلتاه)، يعني: كأن الواو للندب هنا، فهو يندب حظه ويندب على نفسه، وأصلها: (يا ويلي) للويل، والويل: الهلاك والموت، وكأنه ينادي: يا هلاك احضر! تعال خذني لأموت، فعندما يدعو الإنسان على نفسه يقول: (يا ويلي) معناها: يا هلاكي احضر! ولا موت يوم القيامة.
وكل إنسان كان له خليل يدعوه إلى السوء يوم القيامة يتبرأ منه ويقول: يا ليتني ما صادقتك؛ ولذلك على المؤمن أن يحذر من رفقاء السوء.(109/6)
تفسير قوله تعالى: (لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني)
يقول الله عز وجل هنا عن هذا الإنسان حاكياً قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان:29]، أي: لقد أضلني عن كتاب الله، وعن ذكر الله، وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ جاءني هذا الذكر، وجاءتني التذكرة، وجاءتني الموعظة، فأضلني وأبعدني عن دين رب العالمين سبحانه، فقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان:29]، أي: رماني في الضلال بعد أن جاءني الذكر، يقول الله عز وجل: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، فالشيطان ضحك على الإنسان في الدنيا، وخدعه وخذله يوم القيامة وتبرأ منه، قال تعالى: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، أي: أنتم أشركتموني، ولكن أنا كافر بشرككم، فتبرأ الشيطان منهم يوم القيامة، والمسلم ينظر في هذه الآيات، فيعتبر بما يكون يوم القيامة، ويعمل من الآن، فيعبد الله عز وجل ولا يشرك به شيئاً، ويطيع الله ويطيع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفارق رفقاء السوء، فإنهم يضرونه ولا ينفعونه وقت الحاجة إليهم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(109/7)
تفسير سورة الفرقان [30 - 33]
صورة بلاغية حقيقية يصورها القرآن الكريم قبل مجيء يوم القيامة، وهي موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أمته يوم القيامة، حيث إنه يشتكي إلى الله من بعض أمته الذين هجروا القرآن فلم يتلوه ولم يعملوا به، ولم يتحاكموا إليه، ولكن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين، فهي سنة الله الكونية التي لا تتبدل، فإنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم له حكمة في كيفية نزوله، وبعد نزوله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.(110/1)
تفسير قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان:30 - 33].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ويشكو إلى ربه سبحانه وتعالى إعراض قومه، واتخاذهم هذا القرآن مهجوراً.
{وَقَالَ الرَّسُولُ} [الفرقان:30]، أي: يوم القيامة، أو أنه في الدنيا يشكو إلى ربه ما حصل، والجزاء يكون يوم القيامة، يقول: {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، أي: هجروا القرآن فجعلوه كالبيت المهجور، والبيت إما أن يكون معموراً وإما أن يكون مهجوراً، والبلد والمكان والموطن والموضع إما أن يكون هذا كله معموراً أو مهجوراً، وكذلك هؤلاء مع القرآن: إما أن يعمروا قلوبهم بذكر الله عز وجل، وبحفظ كتابه سبحانه، وبكثرة قراءة القرآن والعمل به، فيعمرون ديارهم وبيوتهم وقلوبهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه شرع رب العالمين، وإما أن يتركوه فلا يعملون به، فإذا تركوه وراءهم كذبوه ورفضوا أن يعملوا به، وعصوا الله سبحانه وتعالى فقد هجروا هذا القرآن، ومن أشد الناس جرماً من يحفظ كتاب الله ثم لا يعمل به، أو يحفظ القرآن ثم ينساه، فهذا من أشد الناس جرماً، وداخل تحت هذه الآية، والعبرة بعمومها، فالذين اتخذوا هذا القرآن مهجوراً هم المجرمون والفجار والعصاة، والإنسان الذي لا يقبل على قراءة القرآن من المسلمين فقد اتخذه مهجوراً، والذي يعلم الأحكام الشرعية الموجودة فيه ثم لا يعمل بها فقد اتخذه مهجوراً، والذي يحفظ القرآن ثم يتناساه أو يتغافل عنه حتى يتفلت من صدره فقد اتخذه مهجوراً، فيأتي الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شاكياً إلى ربه أن قومه اتخذوا هذا القرآن مهجوراً.
قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هذه قراءة الكوفيين وابن عامر أيضاً، ويقرؤها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو وروح عن يعقوب: (إن قوميَ اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) بالفتح.
ولفظ (القرآن) يقرؤها جمهور القراء بالهمزة، ويقرؤها ابن كثير المكي بدون همزة (القران).
قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، أي: هجروا هذا القرآن، فكأنهم عرفوا ما فيه ثم تركوه بعد ذلك، فاتخذوه كالشيء الخرب الذي يهجر.(110/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين)
قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]، (ذلك) اسم إشارة، (وكذلك) تشبيه بالمشار إليه، أي: كذلك جعلنا قبلك كمثل هؤلاء، فجعلنا مع كل نبي أعداء، وجعلنا لكل نبي مجرمين يعادونه، ويتركون ما جاءهم به من شريعة.
فإذاً: الذي فعل بك ليس شيئاً جديداً، بل إن سنة الأنبياء من قبلك والرسل عليهم الصلاة والسلام أن قومهم يكذبونهم، ويتخذون ما جاءهم من عند ربهم مهجوراً، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:31]، والنبي أعم من الرسول، فالأنبياء كثيرون، والرسل هم الأقل، فإذا قال: (لكل نبي)، فيدخل فيه الرسل كذلك، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ} [الفرقان:31]، كل القراء يقرءونها (نبي) ما عدا نافع، فإنه يقرؤها (نبيء) بالهمز.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31]، فالله يخلق ما يشاء، ويفعل ما يريد سبحانه وتعالى، وكان قادراً على أن يلهم الناس بأن يوحدوا الله سبحانه، وأن يصدقوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولكن مشيئة الله قضت أن يوجد المصدق والمكذب، شاء الله عز وجل ذلك، وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، فالله هو الذي يهدي، وكذلك الله هو الذي يضل، قال تعالى: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4] سبحانه وتعالى.
قوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ} [الفرقان:31]، يكفي أن الله عز وجل هو الذي يقدر وحده على أن يهدي هؤلاء، وعلى أن يضلهم، وعلى أن ينصرك ويخذل أعداءك {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، والمعنى: لا تبالي بعداوة من يعاديك، فإنهم لا يملكون لك شيئاً، وإن الله ناصرك، وقد وعده سبحانه وصدق في وعده، فقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فعصمه ربه سبحانه وتعالى حتى بلغ هذه الرسالة العظيمة.
فإذاً: الإنسان المؤمن عندما يتلو هذه الآية: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، يخاف على نفسه أن يدخل تحت هؤلاء، وأن يكون قد هجر كتاب رب العالمين، لذلك لا بد من متابعة قراءة القرآن، وحفظ القرآن ليل نهار، فيراجع ما حفظه من القرآن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن: (إنه أشد تفلتاً من البعير في عقالها)، فالجمل يتفلت بسرعة إن لم يربطه صاحبه بالعقل، وكذلك هذا القرآن العزيز، فأنت تحتاج إليه وهو ليس محتاجاً إليك، فالله عز وجل يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت:41]، فتأمل هذه اللفظة العظيمة التي وصف بها نفسه سبحانه الله العزيز الغالب القاهر فوق عباده الذي لا يغالب، والذي لا يمانع، فلم يقدر أحد أن يمنع شيئاً يريده الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، فهو العزيز سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يريد، ويحكم ما يشاء سبحانه وتعالى، وكتابه كتاب عزيز منيع الجانب، لا يقدر أحد على أن يحرف كتاب رب العالمين، وقد حاول الكفار طيلة ألف وأربعمائة سنة أن يحرفوا أو يبدلوا، أو يزعزعوا ويذبذبوا المؤمنين في كتاب ربهم فما قدروا على ذلك، وما استطاعوا إليه سبيلاً.
فالقرآن كتاب عزيز، فهو كتاب رب العالمين، المؤمن يحفظه، والله عز وجل يكون معه، ويملأ قلبه نوراً، والإنسان الذي تركه وهجره فإنه يجد ظلمة في قلبه، ويجد نفسه قريبة من المعاصي؛ فيضيع نفسه بترك هذا النور العظيم من عند رب العالمين؛ لذلك احرص على كتاب ربك سبحانه، فكتاب الله فيه الشريعة العظيمة، وفيه الهدى والنور، من تمسك به فإن نهايته إلى الجنة، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله وراءه ساقه إلى النار)، القرآن شافع عظيم يشفع للعبد يوم القيامة، وماحل مصدق، فيأتي ليجادل أشد الجدل عند الله سبحانه وتعالى عن صاحبه الذي عمل به حتى يأمر الله عز وجل بصاحبه إلى الجنة.
ولا يزال يجادل ويدافع كالمحامي الشديد الدفاع عن موكله، وكذلك القرآن يوم القيامة يدافع عن صاحبه أشد المدافعة، حتى ينزع صاحبه.
فهذا القرآن ماحل مجادل عظيم الجدل عن صاحبه، مدافع عظيم الدفاع عن صاحبه يوم القيامة، فهو ماحل مصدق، والذي يدافع في الدنيا قد يصدق وقد يكذب، لكن القرآن كتاب رب العالمين لا يوجد كلام غير هذا مصدق يوم القيامة للدفاع عن صاحبه.
والإنسان الذي يجعل القرآن إمامه يقوده إلى الجنة، والقائد دائماً في الأمام، فالذي يجعل القرآن أمامه فإنه يأخذ بيده، ويقوده إلى الجنة حتى يدخلها، فمن جعله وراءه كأنه جعله سائقاً وراءه يدفعه إلى النار والعياذ بالله! لذلك اجعل القرآن دائماً نصب عينيك، واحفظ كتاب الله، وتدبر ما فيه، كما قال ربنا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فالقرآن كتاب من عند رب العالمين، طرفه بيد الله سبحانه، وطرفه الآخر بيدك أنت، فتمسك بهذا القرآن ليقودك إلى ربك، إلى جنة الله كما جاء في حديث النبي صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك احرصوا على حفظ القرآن قبل تعلم الفقه والعقيدة والأصول، احفظ كتاب رب العالمين سبحانه، فهذا شيء عظيم جداً، فالقرآن كل حرف منه بعشر حسنات، وكل كلمة من هذا القرآن فيها أجر عظيم، وكل آية يرفعك الله عز وجل بها درجة يوم القيامة، فتكون فوق كثير من خلق الله عز وجل يوم القيامة.
القرآن إذا حفظه الإنسان يحلى والداه بتاج الإيمان يوم القيامة، وتاج الوقار، يحليان من حلي الجنة، تاج لا يقوم لنوره أحد، فكيف بصاحب القرآن يوم القيامة؟! فاحرصوا عليه ولا تتخذوه وراءكم مهجوراً: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، هجروه فلم ينظروا فيه، ولم يتأملوه، وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يبطلوا ما جاء من عند رب العالمين.
فإذاً: كفروا وكذبوا به، ثم الهجر بعد ذلك بحسبه، فهجر الإنسان العاصي يكون بترك أحكام الله عز وجل، وهجر الإنسان المسلم لكتاب ربه ألا يواظب على حفظه، وإذا حفظ منه شيئاً نسي هذا الذي يحفظه، ولا يحاول أن يراجع ما يحفظه من كتاب الله، فتكون المصاحف في البيوت معلقة للزينة، ويتركها الإنسان لا يحفظ منها شيئاً ولا يعمل بها.(110/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان:32]، الكفار يتعجبون ويعجب بعضهم بعضاً، فيقولون: {لَوْلا نُزِّلَ} [الفرقان:32]، أي: هلا نزل القرآن هذا كله مرة واحدة؟! لماذا ينزل آية آية وسورة سورة؟ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ} [الفرقان:32]، أي: على النبي صلى الله عليه وسلم: {الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
الجواب من عند رب العالمين سبحانه حيث قال: {كَذَلِكَ} [الفرقان:32]، أي: فعلنا ذلك: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، هذا فيه التثبيت لك.
تخيل لو أن القرآن نزل مرة واحدة وفيه الناسخ والمنسوخ، كيف يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يعرفون أنه سينسخ بعد ذلك؟! فلعلهم لا يعملون به، وكيف يأتي الأمر أن هذا الغذاء الذي يخلق الله عز وجل منه سكراً ورزقاً حسناً؟! الناس يأكلون ويشربون وبعد ذلك يحرم عليهم الخمور، كيف يأتي هذا مع ذاك؟ فهؤلاء قالوا: إن موسى عليه الصلاة والسلام نزلت عليه التوراة مرة واحدة، والمسيح عليه الصلاة والسلام جاءه الإنجيل مرة واحدة، فلماذا لم ينزل عليك القرآن مرة واحدة؟! فيجيب الله سبحانه وتعالى عن ذلك، بأنه لو نزل هذا القرآن مرة واحدة لما كان فيه التثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، يعني: نزلناه منجماً آية آية، وسورة سورة، وآيات من سورة وآيات من سورة أخرى لنثبت به فؤادك، والكفار يأتون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فتنزل الآيات من عند رب العالمين تجيبهم، فيثبت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، فإذاً: الله حكيم سبحانه وتعالى، تستجد لهم الحادثة من الحوادث فينزل حكم رب العالمين فيها، ويأتي عليهم شيء في القتال مع الكفار، فينزل عليهم من كتاب رب العالمين، كيف أنه ثبته في هذه الغزوة، وكيف أنه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فينزل ما يوافق كل حادثة ما يناسبها من آيات من كتاب رب العالمين سبحانه؛ تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تثبيتاً للمؤمنين، قال سبحانه: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32]، أي: قلبك {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]، أي: نزلنا هذا القرآن منجماً ومفصلاً من عند رب العالمين، ويأتي التوكيل بمعنى القراءة، أي: قرأه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة مرتلة رتيبة منتظمة، يطمئن بها قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعيها قلبه ولبه وعقله عليه الصلاة والسلام، ويحفظ ذلك.
كذلك قال ابن عباس: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32]، أنها بمعنى: رسلناه ترسيلاً، يعني: نزلناه مفرقاً، فالترتيل يأتي بمعنى القراءة، والمعنى: أن جبريل قرأه على النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بمعنى: الترسيل، والمعنى الأول هو الأشهر، والمعنى الثاني كأن تقول لشخص: على رسلك، يعني: على مهلك، فكذلك نزلنا هذا القرآن شيئاً فشيئاً، وتلوناه عليك ترتيلاً، يعني: قرأه جبريل متمهلاً متأنياً حتى تتقن وتحفظ منه ذلك، ولذلك كان القرآن عندما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعجل في حفظه عليه الصلاة والسلام، ويحرك لسانه بسرعة حتى يحفظ هذا الذي يقوله جبريل عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك نزل القرآن من عند ربه سبحانه يقول له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
فربنا العظيم سبحانه وتعالى يعلم النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم المؤمنين كيف يتعلمون العلم الشرعي، ويعلم الإنسان كيف يتعلم ويحفظ، فقال له سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، لماذا تعجل؟ افهم أولاً وتأنى وأعد ما نقوله لك ونحن سنثبته في قلبك، كذلك حين يسمع العلم لا يذهب يتكلم وهو يسمع، فلن يعقل هذا الذي يقول، ولكن يتفهم ويتدبر بقلبه وعقله، ويسمع حتى يفهم ذلك ويكون من الله عز وجل التحفيظ بعد ذلك، قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]، تتبع ما يقوله متفهماً متأنياً متأملاً واعياً، (ثم إن علينا بيانه) فنحن نعلمك، و (إن) أداة النصب والتحقيق، ومعناه: يقيناً نبين لك ذلك ونعلمك: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا} [القيامة:19]، وليس على غيرنا، بل نحن الذين سنعلمك ونفهمك ذلك، فعلينا البيان: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19].
ثم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33].
فالقرآن كثير ضرب المثال، ويحتاج إلى أمثلة ليفهم الإنسان، فالذي يجادل يضرب المثل، والكفار يضربون الأمثال للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكذبون ويضلون ويضلون، لكن الله عز وجل يضرب الأمثلة الحقة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، فيضرب لك المثل بالبعوضة، وهذه الذبابة لو اجتمعتم على أن تخلقوا مثلها لم تقدروا، ولو يجتمع الناس فيحاولون على أن يخلقوا ذبابة لما استطاعوا إلى ذلك، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، ثم يتحداهم ربنا سبحانه وتعالى بالذبابة نفسها قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالذبابة عندما تأخذ من الشخص شيئاً لا يستطيع أن يأخذه منها، والإنسان ضعيف ولكن الذبابة أضعف منه، قال تعالى: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فالمؤمن يصدق كلام رب العالمين، والكافر ينظر ثم يجرب هذا الأمر، فيأتي الكفار ينظرون إلى الذبابة إذا وقفت على قطعة سكر وأخذت منه قتلوها، ثم نظروا أين ذهب هذا السكر، فلا يجدون، الذبابة حللت السكر وأصبح شيئاً آخر، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، هذا المثال الحق من رب العالمين، والقرآن كله حق من رب العالمين.
والكفار يضربون الأمثلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: لم تكن ملكاً مثل قيصر وكسرى! لماذا لم يكن لك بيت من ذهب مثلاً؟ لماذا لا تكون لك حقول وبهائم وأنعام وجنات؟! فالله عز وجل يعجبه: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال)، بدلاً من أن ينظروا ويتأملوا في كتاب رب العالمين، وهذه الآيات العظيمة يقولون: نريد جنة وبساتين وأنهاراً، ماذا يفعل بالبستان؟ جنة رب العالمين أعظم، أما ما طلبوه في الدنيا فهذا شيء يزول، ولو جاءهم من عند رب العالمين فكذبوه لكان العذاب بعده مباشرة، ولكن رحمة الله سبحانه أن يؤخر هؤلاء لعلهم يسلمون مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، لذلك يقول: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]، من هذه الأمثلة الكاذبة الباطلة التي يقولونها، فنحن نجيؤك بما هو أفضل من ذلك بالحق من عند رب العالمين، وأحسن تفسيراً، فقد جئناك بالحق من الأمثلة من عندنا، وجئناك بالحق من كتاب رب العالمين، وما هو أحسن تفسيراً وتأويلاً ونظراً وفهماً من كتاب رب العالمين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يتدبرون كتابه كما يريد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(110/4)
تفسير سورة الفرقان [34 - 40]
يحشر الله الكافرين إلى جهنم على وجوههم يوم القيامة، فهم شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل، ويحشر المؤمنين إلى الجنة، فهم في خير مكان وأحسن مقيل، وقد أشار الله سبحانه في سورة الفرقان إلى الأمم السابقة وتكذيبهم لأنبيائهم وإهلاكه سبحانه لهم.(111/1)
تفسير قوله تعالى: (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا * وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:34 - 39]، {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات من سورة الفرقان عن قوم يحشرهم الله يوم القيامة على وجوههم، وهم الكفار الذين كذبوا بآيات الله سبحانه وكفروا بلقائه، فأخبر أن حشرهم يوم القيامة يكون كذلك: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [الفرقان:34].
فالإنسان يوم القيامة يبعثه الله عز وجل من قبره ويحشره إلى يوم القيامة، ويجمع الله عز وجل الخلق كلهم فيقفون في صعيد واحد، فإذا انتهى الحساب، يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، فأهل النار يدخلون النار على هذا الحال والعياذ بالله، إذ يحشرون على وجوههم إلى جهنم، فيدفعون ويكبون على وجوههم، فيتقون النار بوجوههم والعياذ بالله.
جاء في حديث الصحيحين من حديث أنس بن مالك: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله! يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) بلى، فالله على كل شيء قدير.
فالإنسان في الدنيا يتقي الأشياء بكفه، وسمي الكف كفاً؛ لأنه يكف بها عن نفسه، أي: يدفع بها عن نفسه، فعندما يسقط يتكئ بيده، وعندما ترميه بحجر يتقيها ويكفها بيده، أما في نار جنهم فلا يقدر على ذلك، وإنما يكف عن نفسه بوجهه، فيمشي في نار جهنم وبدلاً من المشي على رجليه يزحف على وجهه، والله على كل شيء قدير، فهؤلاء الكفار الذين كذبوا في الدنيا، وأعرضوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجادلوا بالباطل، هذا مصيرهم يوم القيامة، فهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} [المائدة:60]، يعني: هذا المكان الذي هم فيه هو شر مكان، فهو المكان الرديء الخبيث، وهو المكان الذي يستحقونه: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
وإذا كان هؤلاء شر مكاناً فإن أهل الجنة هم خير مكاناً، فإن الله عز وجل يكرمهم ويحشرهم إلى الجنة ركوباً أو مشياً، أو كما يشاء الله سبحانه وتعالى، فيدخلهم جنته بفضله وبرحمته، أما أهل النار فإن الله يقول فيهم: {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
فهم شر في المكان وأضل عن السبيل، أي: ابتعدوا عن الطريق الحق، ولم يمشوا في طريق الهدى، فتاهوا وضلوا، وكذلك أضلهم الله عز وجل عن طريق الجنة، فإذا بهم يدخلون النار، فهم أضل عن السبيل في الدنيا، وأضل يوم القيامة، فيضلون طريقهم فيذهبون إلى النار.(111/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب فدمرناهم تدميراً)
ثم يخبرنا ربنا سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:35 - 36].
هذه السورة من السور المكية، ففي السور المكية خصائص معروفة منها: تقرير أمر العقيدة، وتقرير أمر توحيد الله سبحانه وتعالى، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة والإيمان بالنار، وذكر أهل الجنة وذكر أهل النار، كذلك يقص على نبينا صلى الله عليه وسلم في السور المكية قصص المرسلين عليهم الصلاة والسلام وتكذيب أقوامهم لهم، إما بإطالة واستفاضة، وإما باختصار وتفصيل، فهنا يذكر الله عز وجل إشارات إلى ذلك، فإنك لست وحدك الذي أوذيت في الله سبحانه أو الذي كذبك قومك، بل من قبلك موسى وغيره عليهم الصلاة والسلام، قد كذبهم أقوامهم.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان:35]، أي: المعهود المعروف وهو التوراة، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، أي: جعلنا له معيناً أخاه هارون، دعا موسى ربه سبحانه أن يشد أزره بأخيه، ويجعله معه وزيراً، فاستجاب الله سبحانه وتعالى، لما قال: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:30 - 36]، فاستجاب له ربه سبحانه، وجعل معه أخاه هارون وزيراً.
قال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الفرقان:35]، أي: التوراة؛ وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان:35]، والوزير بمعنى: المعين والمساعد، أي: فجعلناه معه معيناً ومساعداً يحمل معه أثقال الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا} [الفرقان:36]، يأمر الله موسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الفرقان:36]، أي: اذهبا إلى فرعون وملئه، قال: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36].
واختصر القصة جداً هنا في هذه السورة، إشارة فقط إلى أنك إذا كذبك قومك، فليس هذا بجديد، بل هم ينتظرون ما جاء لفرعون وجنوده من عند رب العالمين سبحانه، فقد كذبوا فدمرناهم، وكذلك هؤلاء، إن كذبوا وأعرضوا فنحن نفعل بهم ذلك، أو يرحم سبحانه وتعالى ويفعل ما يشاء، قال: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان:36]، أي: إلى هؤلاء القوم فدعوهم إلى الله سبحانه، فلما كذبوا الرسل دمرناهم تدميراً، وعرفنا كيف أن الله سبحانه أغرق فرعون وجنوده في اليم فكان تدميرهم بإغراقهم وإهلاكهم، فرعون وقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، فلم ينفعه إيمانه في وقت غرقه هو ومن معه.(111/3)
تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم)
ومن قبل ذلك أول المكذبين قوم نوح، فقد كذبوا الرسل، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37].
فذكر الله أول من أهلك الله عز وجل، وآخر من أهلك الله سبحانه وتعالى قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان قوم موسى الذين كذبوا، فأغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ومن قبل ذلك أول من أهلك الله سبحانه وتعالى من القرون قوم نوح، قال: {وَقَوْمَ نُوحٍ} [الفرقان:37]، يعني: واذكر قوم نوح {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل} [الفرقان:37]، مع أن رسولهم نوح فقط، الذي جاءهم من عند رب العالمين سبحانه، فدعاهم إلى الله ليل نهار، والذي يكذب رسولاً واحدا فمعناه: أنه مكذب لجميع الرسل، فإن دعوة الرسل دعوة واحدة إلى رب العالمين سبحانه، فهم يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويدعون إلى الإيمان بالله سبحانه، ويأخذون على الأقوام العهود والمواثيق، آمنوا بالله سبحانه، فإن جاءكم رسول مصدقٌ لما معكم فآمنوا بهذا الرسول، فالإيمان بالله عز وجل مقتضاه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره، فإذا كذب الإنسان رسولاً واحداً فقد كذب بالرسالة، وكذب بكل ذلك، فلذلك جعلهم الله عز وجل مكذبين لجميع رسله، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُل} [الفرقان:37]، وقد قام فيهم نوح عليه الصلاة السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح:5]، أي: بالليل يدعوهم، وبالنهار يدعوهم، وبالسر يدعوهم، وبالجهر يدعوهم، وأمام الناس يدعوهم، وفي الخفاء يدعوهم، وهم لا يستجيبون لله سبحانه وتعالى، فاستحقوا أن يغرقهم الله سبحانه، فكأن ذكر فرعون وذكر قوم نوح المقصود منه: بيان الإغراق، فقد أغرق الله عز وجل قوم نوح وأغرق قوم فرعون، فجاء العذاب من عند رب العالمين على صورة واحدة، وإن كان هذا الإغراق لقوم نوح إغراقاً عاماً، فالإغراق لفرعون وجنوده كان خاصاً، أما قوم نوح فقد أمر الله عز وجل الأرض أن يخرج منها الماء، وأمر السماء أن ينزل منها الماء، فأغرق من على وجه الأرض، إلا من كان في السفينة مع نوح، أما فرعون فقد أغرقه الله عز وجل وجنوده في اليم كما عرفتم في قصته، قال تعالى: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان:37]، أي: جعلناهم عظة وعبرة للناس وللخلق جميعهم، فقوم نوح أغرقوا جميعهم، ولم يعش بعدهم إلا المؤمنون فقط، فالكفار جميعهم أهلكهم الله سبحانه، والمؤمنون يحدثون الذين من بعدهم، أنهم كانوا قوماً كافرين أغرقهم الله سبحانه وتعالى، فأخبروا عن ذلك إخبار صدق، فقد أخبر الله عز وجل، وأخبر نبيهم عليه الصلاة السلام، وأخبر بذلك المؤمنون، فكانت عبرة وعظة للخلق جميعهم.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ} [الفرقان:37]، أي: لجميع الناس {آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان:37]، أي: فقد جهز الله عز وجل وأعد لهم العذاب الشديد.(111/4)
تفسير قوله تعالى: وعاداً وثمود وأصحاب الرس)
وهنا يذكر لنا عاداً وثمود: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38].
يذكر الله عز وجل إشارات في هذه السورة، فنحن نرى أنه في سورة الأعراف مثلاً وفي سورة هود يطيل في ذكر قصصهم، وهنا يشير إشارات إلى هؤلاء، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: قد كذب قوم نوح فأهلكناهم، وكذب قوم موسى فأهلكناهم، وكذبت عاد فأهلكناهم، وكذبت ثمود فأهلكناهم، وكذب أصحاب الرس فأهلكناهم، وهؤلاء جميعهم يذكرهم الله سبحانه وتعالى مطمئناً للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه قادرٌ على أن يهلك هؤلاء أيضاً إذا أصروا على عنادهم وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، وثمود يجوز فيها الصرف، ويجوز عدم الصرف فيها؛ فلذلك تقرأ بقراءتين هنا: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38].
والقراءة الأخرى: (وَعَادًا وَثَمُودَّاً وَأَصْحَابَ الرَّسِّ)، بالنصب فيها والتنوين.
فقراءة حفص عن عاصم وحمزة ويعقوب أيضاً: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، وباقي القراء يقرءون: ((وَعَادًا وثموداً وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)).
فعادٌ أرسل الله عز وجل إليهم هوداً، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
ثم ذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم، وقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128 - 129].
وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم وقال لهم: إن الله عز وجل قد {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:133 - 135]، ومع ذلك لم يصدقوا، بل كذبوا رسولهم عليه الصلاة السلام، فجاء العذاب من عند رب العالمين فأهلكهم الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَثَمُودَ} [الفرقان:38]، أي: قوم صالح، فعاد كانوا في جنوب الجزيرة، يبنهم وبين اليمن، وثمود في شمال الجزيرة بينهم وبين الشام، ففي رحلة الشتاء والصيف يذهبون إلى اليمن ويذهبون إلى الشام، ويمرون على ديار ثمود، ويمرون على قوم عاد، فيعرفون هؤلاء، ويعرفون كيف أهلكهم الله سبحانه.
فقوم صالح الذين كذبوا صالحاً عليه الصلاة والسلام، دعاهم إلى الله، وتنطعوا وطلبوا آية يرونها أمامهم، وكانت الآية التي أرادوها ناقة تخرج من الجبل، فانشق الجبل وخرجت منه ناقة، والناقة معها فصيلها، وآتاهم الله عز وجل هذه الآية، بعد أن أخذ منهم العهود والمواثيق أنهم إن جاءتهم الآية يؤمنون بها، فلما رأوا الآية كادوا يؤمنون، ولكن كاد القوم بعضهم لبعض فإذا بهم يكفرون ويجحدون ويعقرون الناقة، فجاء العذاب من عند رب العالمين سبحانه، فأهلك الجميع بعدما أهلكوا الناقة، وأرادوا قتل نبيهم عليه الصلاة والسلام، فجاءهم العذاب كما عرفنا.
وقوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} [الفرقان:38]، هم قوم من الأقوام ذكرهم الله عز وجل بهذه الإشارة: أصحاب الرس، وقد ذكر كثير من المفسرين أن أصحاب الرس بمعنى: البئر، فقالوا: هم قوم أرسل الله عز وجل إليهم نبياً فدعاهم إليه، فكذبوه وأخذوه فرسوه في البئر، يعني أخذوه وحطوه في البئر، وأقفلوا عليه البئر، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، وأشار إليهم هنا أنهم أصحاب الرس، قال تعالى: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: قرون كثيرة وأمم عظيمة منهم من قصصهم على النبي ومنهم قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك، وليس كل الأنبياء ولا كل الرسل يذكرهم الله عز وجل، بل الكثيرون جداً جداً من الأنبياء والكثيرون من الرسل لم يذكرهم لنا ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، إلا عدداً محصوراً محدوداً لبيان أنه قد وعظ الخلق وأقام عليهم الحجج، وأنه أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون الأقوام إلى الله، فكذبوا رسل الله فأهلكهم سبحانه، فقوله سبحانه: {وَقُرُونًا} [الفرقان:38]، أي: أمماً {بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} [الفرقان:38] أي: بين نوح وبين النبي صلى الله عليه وسلم.(111/5)
تفسير قوله تعالى: (وكلاً ضربنا له الأمثال)
{وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:39].
يعني: لم نضرب الأمثال لكم أنتم فقط، بل كل الأمم ضربنا لهم الأمثال، ووعظناهم ونصحناهم وذكرناهم، فأبوا إلا التكذيب، قال تعالى: {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} [الفرقان:39]، أي: دمرنا تدميراً، وأهلكناهم إهلاكاً عظيماً.(111/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء)
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40]، أي: رأوا هذه القرية قرية قوم لوط وهم ذاهبون إلى الشام، فهم يرون ويعرفون أن هنا مكان قوم لوط، أهلكهم الله، وجعل مكانهم بحيرات مالحة متعفنة، ويعرف المارة هناك أن الله عز وجل أهلك قوم لوط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لتكذيبهم رسولهم عليه الصلاة والسلام، ولإتيانهم الفاحشة، فكان الرجال يقعون في الرجال، فأهلكهم الله سبحانه، وأمطر عليهم مطر السوء، وهو المطر السيئ الشديد، فليس من جنس المطر الذي نعرفه، وإنما مطر من نار جهنم، فأتتهم حجارة من السماء، فأهلكهم الله بهاِ: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26]، وهم حتى الآن يرون هذه القرية ويعرفون مكان قوم لوط الذين أهلكهم الله عز وجل بفلسطين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40].
يعني: أن الكفار كانوا لا يخافون من ربهم ولا يرجون أن يحشروا يوم القيامة؛ لذلك لا يتذكرون ولا يعترفون بالأمم السابقة، ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24].
وقد عرف هؤلاء الكفار إبراهيم النبي عليه الصلاة السلام، وعرفوا أنه أبو الأنبياء، وأنه جدهم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كذبوا محمداً صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرجوا النشور والبعث يوم القيامة، وإنما يفتخرون لأنهم في أرض إبراهيم وأن عندهم الكعبة، ويطوفون ويشركون بالله سبحانه، ولا ينتظرون النشور يوم القيامة، فقال الله عز وجل: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا} [الفرقان:40]، فيستحقون العذاب.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(111/7)
تفسير سورة الفرقان [41 - 43]
يخبر الله نبيه عن حال هؤلاء المشركين المعاندين لله ورسوله أنهم يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، ويحث بعضهم بعضاً على الصبر على الباطل، وعلى معاندة الحق ومعارضته، والصد عنه، فهؤلاء الناس من صنف من ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فأصبحوا كالأنعام لا يهتدون سبيلاً، فأنت لست وكيلاً عليهم، وإنما عليك البلاغ والحجة والبرهان.(112/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:41 - 43].
في هذه الآيات من سورة الفرقان يذكر الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه كيف أنه اتخذه المشركون هزواً يستهزئون به صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه وهم يدعونه إلى الضلال، فإذا مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم استهانوا به واستهزءوا به صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون مستهينين به: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، وكأنهم يستكثرون عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يكون رسولاً لرب العالمين.
ولذلك قالوها في موضع آخر: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فكيف ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟! لماذا لا ينزل على عروة بن مسعود بالطائف، أو ينزل على أحد من الكبار الموجودين في مكة؟! كيف نزل عليه؟! وبدءوا هم يتخيرون من عند أنفسهم لماذا لم ينزل على فلان أو فلان؟ {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، والجواب ليس من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من الله سبحانه، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، هؤلاء الجهلة الحمقى والمغفلون أهم يقسمون رحمة الله؟! {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، {اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179]، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
فالله يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، يجتبي ويصطفي ويختار من هو أهل لذلك، والله أعلم بذلك، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كان أهل الكتاب يعلمون أنه سيبعث في هذا الزمان رسول، فبعض العرب بدأ يستعد لذلك، فكان أحدهم يلقب نفسه (الراهب) ويتعبد حتى يكون هو رسول هذا القرن أو هذا الزمان، ولكن الله عز وجل يختار من يريده، فهو أعلم بقلوب عباده، فاصطفى نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
أما ذاك الراهب الذي كان في الجاهلية راهباً فكان بعد الإسلام أفسق خلق الله سبحانه وتعالى وأقذرهم، وأكثرهم معصية للنبي صلى الله عليه وسلم وكيداً له، وابنه كان من أعبد خلق الله سبحانه وتعالى، وقتل شهيداً في يوم أحد، وهو حنظلة بن عامر الراهب غسلته الملائكة بعد موته، فقد سمع الصيحة للقتال فخرج وكان معرساً بامرأته فتركها وانصرف إلى القتال في سبيل الله، فقتل شهيداً رضي الله عنه، فغسلته الملائكة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وأبوه كان يستعد لأن يكون رسولاً، وفي ظنه أنه رسول هذا الزمان، وبدأ يتعبد ويتعبد، ولكن الله لم يختره، وإنما اختار نبيه صلوات الله وسلامه عليه بذلك.
وكان الكفار إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يستهينون به ويستهزئون، فيظهرون ذلك أو يضمرونه، فأحياناً كانوا يظهرون ذلك وكان يصبر صلى الله عليه وسلم على أذاهم كثيراً، وأحياناً كان يجاريهم ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح)، فإذا بهم يخافون ويقولون: انصرف يا أبا القاسم! فما كنت جهولاً، يخافون منه صلوات الله وسلامه عليه، وأحياناً يجتمعون بشرهم فإذا بهم عندما يرونه ساجداً يسلطون أحدهم فيذهب ويأتي بسلى بعير فيجعله فوق ظهر النبي صلى الله عليه وسلم.
وجاء أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد على الأرض فوضع قدمه على رقبته، وكاد أن يقتله ويخنقه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا عقبة بن أبي معيط لما جاء إلى المدينة أسيراً في حربهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر استحق أن يقتله النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.
يقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان:41]، سواء أظهروا الاستهزاء أو أضمروه، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41]، أي: هذا الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق يبيع ويشتري مثلنا هو هذا الذي بعثه الله عز وجل رسولاً؟! قال: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان:41]، وأصلها (هزؤ) بالهمز، فقراءة النقل لـ حفص فقط، وبقية القراء يقرءونها بالهمز فيقرؤها الجميع ما عدا حمزة: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزؤاً))، وحمزة يقرؤها: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزءاً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا))، فإذا وقف عليها قال: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هزا)) وهناك قراءة أخرى في الوقف عليها لـ حمزة يقول: ((إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزْوا)) والمعنى: يسخرون منك، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا استهزاءً فيستهزئون بك ويسخرون منك، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان:41].(112/2)
تفسير قوله تعالى: (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها)
قال تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، يعني: لقد كاد يضلنا ويلهينا ويصرفنا عن عبادتنا، أي: عبادتهم الباطلة التي يقولون: إنهم سيصبرون عليها، {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} [الفرقان:42]، ليصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان:42]، الباطلة، ولولا: {أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، أي: حبسنا أنفسنا على عبادتها.
فهم يعلمون أن هذه آلهة باطلة، لا تنفع ولا تضر، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينفعهم ويضرهم، وهو الذي يرزقهم، وهو خالقهم سبحانه بشهادتهم بذلك، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87]، ومع ذلك صبر الكفار على العبادة الباطلة، أفلا يصبر المسلمون على عبادتهم الحقة؟! فهؤلاء الكفار دافعوا عن باطلهم، وقاتلوا المسلمين، وذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وفي يوم أحد، وفي يوم الأحزاب لقتال المسلمين، وهم يعلمون أنهم أهل باطل، أفلا يصبر المسلمون على دين رب العالمين وهم يعلمون أنهم على الحق، وقد وعدوا الجنة؟! الكفار يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]، أي: سنموت ونحيا في هذه الدنيا، يعني: حياة ثم موت وانتهى كل شيء؛ فلذا ما معنا إلا ما أخذناه في الدنيا من الدنيا، فهم على باطل، ويعرفون أنهم على الباطل وليسوا على الحق، فصبروا على باطلهم الذي هم عليه، وقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن أبا جهل وهو ملقى على الأرض لعنة الله عليه وعلى أمثاله قتيلاً يأتيه ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه ويصعد فوق صدره فيقول لـ ابن مسعود: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! يعني: يصغره تحقيراً له يعني: يا راعي الغنم! صعدت فوق صدري وأنت راع، يقول هذا الشيء حال سكرات الموت، ويأبى الله عز وجل له الهداية حتى وهو في موته، فتصعد روحه وهو يقول هذا الشيء.
فيقول له ابن مسعود: لقد انتقم الله منك يا عدو الله! فيقول له: وهل أنا إلا رجل قتلني بعض قومي، أي: شخص من أناس قتلهم بعض قومهم، ويموت على هذا الشيء، انظر إلى دفاعهم عن باطلهم حتى الوفاة! رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقاتل فيقول: ضربت رجلاً من المشركين بالسيف على عاتقه ضربة قال: فأخذني فخنقني، -حضنه بساعده- حتى كادت روحي أن تخرج وتزهق بذلك، ثم أردته الوفاة فمات هذا الرجل، وانطلق صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.
فانظر إلى هذا المضروب ضربة بالسيف أدركته الوفاة من هذه الضربة، ومع ذلك يصر على أن يخنق من ضربه، ولا يمن الله عز وجل عليهم بالهداية وهم أهل باطل يعلمون أنهم على الباطل، ويقول: {اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6].
وهذا دأب الكفار والمشركين في كل زمان، فيصبر بعضهم بعضاً على آلهتهم، والإنسان يفكر بعقله: ما الذي يجعلني أصبر؟! إما أن أصبر لأتجمل مع الناس، أو أصبر لكي آخذ الأجر يوم القيامة، أو أصبر ليكون جزائي في الدنيا مثلاً.
فالكفار يقولون: اصبروا، فنقول لهم: وماذا تأخذون عندما تصبرون على هذه الآلهة؟! أما في الآخرة فلا شيء لهم، وأما في الدنيا فقد يأخذون وقد لا يأخذون، قد ينتصرون فإذا انتصروا فالسادة هم السادة والضعفاء هم الضعفاء ولن يتغير شيء من حالهم، فعلى ذلك تحصيلهم في الدنيا شيء يسير حقير ليس له قيمة، أن يحصلوا على مناصب وأموال، أما المؤمن الذي يعده ربه سبحانه وتعالى أن يصبر وله الجنة، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]، أفلا يغار المسلم حين يرى هؤلاء يصبرون على باطل وهو لا يصبر على الحق الذي هو عليه؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر).
ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الواحد من هؤلاء يعمل العمل ويكون له أجر خمسين رجلاً من أصحابه، وفي رواية: (يكون له أجر خمسين شهيداً) فهذا الأجر العظيم الذي يكون للقابض على دينه كما يقبض الإنسان على الجمر، وللمتمسك بدينه، الجنة عند رب العالمين، وله وعد الله عز وجل بالعزة في الدنيا والتمكين إذا صبر على ذلك، وله إحدى الحسنين: إما النصر وإما الشهادة، وله عند الله سبحانه حبه ورضاه في الجنة والحور العين.
المسلم أمامه كل هذا الثواب، والكافر لا ثواب له فيصبر ويقول: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص:6]، يقول الله سبحانه عن هؤلاء الكافرين: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان:42]، أي: لولا أننا صبرنا على هذه الآلهة لصرفنا عنها {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، وفي كلامهم إشارة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في الدعوة، وحجته البينة القوية.
وفي الآية إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك وسيلة ولا سبيلاً للدعوة إلى الله عز وجل إلا وسلكها صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله عز وجل: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الفرقان:42]، أي: اصبروا فسترون النتيجة، {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: سوف تعلمون من أصحاب الضلال، ومن أصحاب الصراط السوي، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42]، أي: طريقاً يوصل إلى النار.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، عبدوا الآلهة من دون الله سبحانه، والآلهة أنواع، فيعبدون أصناماً وأوثاناً وأحجاراً، ويعبدون الشمس والقمر، ويعبدون النجوم والبروج، ويعبدون أشجاراً، ويعبدون الهوى من دون الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: الهوى إله يعبد من دون الله، وتلا هذه الآية: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فالهوى يدعو الإنسان إلى طاعة الشيطان والبعد عن الرحمن سبحانه، فإذا به يعبد ما يشاء، ويترك عبادة الله، ويكفر بالله، فهو عابد لهواه ولشيطانه {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، قالوا: كانت العرب إذا أحبت شيئاً عبدته من دون الله، فإذا هوى الرجل منهم شيئاً عبده من دون الله، فإذا رأى ما هو أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، فكان يأتي بحجر يراه جيداً فيقوم ينحته صنماً ويعبده من دون الله، فإذا رأى حجراً آخر أفضل من الأول نحته صنماً وترك الأول وعبد الثاني؛ فعبدوا الهوى، وعبدوا آلهة بأهوائهم الباطلة وبأكاذيبهم، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، (أَرَأَيْتَ) استفهام، وهذه الكلمة فيها قراءات، (أَرَأَيْتَ) قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر بالتسهيل، (أَرَأَيْتَ)، وقراءة ورش بالمد الطويل فيها (أَرَآيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، وقراءة الكسائي بدون مداخلة: (أَرَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))، يعني: هل علمت؟ أو هل رأيت ببصرك ما يصنعون ويعبدون من دون الله سبحانه؟ قوله: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، يعني: هذا الذي اتبع الهوى هل أنت حفيظ عليه؟! هل أنت كفيل وضامن لهذا الإنسان؟! أنت لا تملك لنفسك شيئاً فضلاً عن أن تملكه لغيرك، قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48]، {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، فإذا كان ربنا يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فغيره أولى، فلا يملك الداعي إلى الله عز وجل أن يغير قلوب الخلق، وإنما يملك أن يتكلم بالحجة والبرهان، وأن يقنع ويعلم ويرشد، ويدل على الخير، لكن التحويل من شيء إلى شيء هذا لا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم بمعنى: يدل، ولكنك: {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] أي: لا تغير ولا تحول، وإنك لا تهدي إلى صراط مستقيم، وإنما تدل الناس على طريق الخير، وتعلم الناس الخير، وتحذرهم من الشر.
أما الذي يحول القلوب من شيء إلى شيء فهو الله سبحانه وتعالى الذي يملك ذلك، ولذلك قال لهم هنا: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43]، وهذا استفهام إنكاري، والمعنى: لست عليهم حفيظاً، ولست عليهم وكيلاً، فإنما الله عز وجل هو الحفيظ والوكيل، والله هو الذي يغير القلوب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرشدنا إلى سواء السبيل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(112/3)
تفسير سورة الفرقان [43 - 47]
الذين يعبدون أهواءهم من دون الله يسمعون ولا يعون ولا يعقلون، فهم أضل من الأنعام، إذ الأنعام تعرف ربها وتسبحه وهي لا تعقل، ثم يذكِّر الله عباده بنعمه عليهم وفضله عليهم بالليل والنهار، وسورة الفرقان إحدى السور المكية التي تبين ذلك.(113/1)
تفسير قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وجعل النهار نشوراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:43 - 47].
لما عجب الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه من هؤلاء المشركين الذين اتخذوا الهوى إلهاً من دون الله سبحانه، فقال له: {أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان:43].
أي: من كان بهذا الحال لا عقل عنده، ولا يستجيب لدعوة ربه سبحانه، ولا يستجيب لما يدعوه إليه عقله وفطرته، وهو أن يعبد الذي خلقه ورزقه سبحانه، فهل أنت تكون عليه حفيظاً وكفيلاً بأن تدخله في هذا الدين؟ لا تقدر على ذلك، فإن الذي يغير القلوب ويحول الناس من حال إلى حال هو الله سبحانه وتعالى، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44].(113/2)
تفسير قوله تعالى: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون)
هؤلاء الكفار المشركون هل {تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]، أي: يسمع سمعاً ينفعه، فيعي ويفهم ويتأمل ويتدبر، حتى يتعلم، ويعلم الحق، بل إنهم يسمعون الكلام والتلاوة لكنهم لا يسمعونها سماع من يبتغي الحق.
قال: {أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]، أي: يتفكرون ويتدبرون ما جاء من عند رب العالمين، فهم كذلك لا يفعلون ذلك.
قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ} [الفرقان:44]، هي قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة وأبي جعفر: بفتح السين، وباقي القراء يقرءونها: (أم تحسِب) والمعنى واحد.
{أَنَّ أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان:44]، ولم يقل: كلهم {يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44]؛ لأن الله قد علم أن منهم من سيسمع ويعقل ويدخل في هذا الدين، وقد كان دخل منهم الكثير في دين الله سبحانه، لكن الأكثرون يسمعون ولا يعقلون، ينظرون إلى الآيات ولا يفهمون ما فيها ولا يحاولون ذلك، يقول الله سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44]، يعني: في حال سماعهم، وعدم تفكرهم، وعدم تعقلهم، إن هم إلا كالبهائم.
والأنعام خلقها الله سبحانه وتعالى ولم يجعل لها عقولاً تفهم بها كعقول الآدميين تخاطب، ولكنها عرفت ربها سبحانه فسبحته بحسب ما علمها سبحانه وتعالى، وفضل الإنسان بالعقل الذي يفهم ويعي ويتدبر ويتفكر به ومع ذلك لا يعقلون، ولا يفهمون عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأيهما خير، البهائم التي لم يعطها الله عقلاً أم هؤلاء الذين لهم عقول وهم لا يسمعون ولا يعقلون؟ قال سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] أي: أنهم أشد من الأنعام وأقبح {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
فبهيمة الأنعام إذا قدتها في طريق مرة أو مرتين عرفت طريقها، أما هؤلاء فلا يحاولون أن يفهموا ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة ما يكرره عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يقفون له بالمرصاد، ويكذبونه، ويحذرون الناس منه، حتى أن البعض من الناس كان من كثرة ما يسمع من هؤلاء يدخل إلى مكة وقد جعل أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ويأتي أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: والله ما جئتك حتى حلفت بعدد أصابعي ألا آتيك، يعني: من شدة تحذير الكفار لهؤلاء فقد كانوا يقولون للرجل لا تذهب إلى محمد ولا تستمع منه، ويحلفونه على ذلك مرة ومرتين وأكثر، فهم يصدون الناس هذا الصد الشديد عن سبيل الله وهم لا يفهمون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحاولون ذلك، فهم كالأنعام {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].
يقول مقاتل: البهائم تعرف ربها، وتهتدي إلى مراعيها، وتنقاد لأربابها التي تعقلها.
فصاحب البهيمة يجيء ليربط البهيمة فتقف له حتى يربطها، ويسوقها فتنقاد له، ومعنى أنها تنقاد لأربابها التي تعقلها أي: التي تربطها، أما هؤلاء المشركون فلا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم، وإن عرفوا ذلك وأقروا به لم يعبدوه، فلم تنفعهم المعرفة.
وقيل: لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة فهي لم تعتقد كفران ذلك، ولكن الأولى أن يقال: إن البهائم عرفت ربها سبحانه لما جعل فيها من معرفة، وأمرها سبحانه فسبحت بحمده كما أمرها سبحانه وتعالى، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
فالبهائم تعرف ربها وتسبحه سبحانه وتعالى، وإذا جاءت يوم القيامة شكت إلى ربها سبحانه سوء صنيع أربابها، وما صنعوا بها من عدم إطعامها وإشرابها، ومن إساءة معاملتها، بل ويقتص للبهائم يوم القيامة، فيقتص للجلحاء من ذات القرن، ثم يأمر الله الأنعام فتصير تراباً.
أما الإنسان الذي فهم وعقل فإنه يأتي يوم القيامة وينظر إلى الأنعام كيف يقتص لبعضها من بعض، وكيف أن الله يأمرها بأن تكون تراباً، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وهيهات أن يكون ذلك.
فقد خلقه الله لعبادته، وحذره من معصيته، وحذره من الشرك به، حذره من النار التي يخلد فيها المشركون ولا يزولون عنها، فأبى إلا أن يعصي وأن يشرك بالله، فكان جزاؤه أنه في الدنيا {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فهم في تحير في الدنيا وتخبط، ويوم القيامة في النار، والعياذ بالله.(113/3)
تفسير قوله تعالى (ألم تر إلى ربك)
يقول الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه وللمؤمنين بالتبع: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45 - 46].
السورة مكية، وفيها خصائص السور المكية من تقرير أمر العقيدة: الإيمان بالله، الإيمان بالملائكة، الإيمان برسل الله سبحانه، كما أن فيها ذكر صفات رب العالمين سبحانه وتعالى، وفيها: تقرير توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وفيها ضرب الأمثال، والحجج والبينات، وفيها الآيات التي تخاطب عقول الناس، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45]، أي: هذا الظل الذي تراه انظر كيف مده الله سبحانه وتعالى! فيكون الظل ثم يتناقص شيئاً فشيئاً، وأعلى ما يكون الظل في الليل، قال العلماء: الظل: الليل، وفرق البعض فقال: الظل ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، ثم بعد ذلك تأخذ الشمس من الظل شيئاً فشيئاً حتى تغرب فيكون الليل بعد ذلك.
أما علماء الفلك فيقولون: الظل: هو الليل، يأتي الليل فيسود الكون كله، ثم تأتي الشمس تنقص من الليل شيئاً فشيئاً فيتناقص الظل، ويبدأ وقت الظل من الزوال، فقبل صلاة الظهر تكون الشمس فوق الرءوس، ويكون الكل في شمس وفي ضياء، ثم تزول الشمس شيئاً فيبدأ الظل يكبر شيئاً فشيئاً، وكلما مالت الشمس ناحية الغروب كلما انتشر الظل إلى أن يدخل الليل فيستوعب الظلام كل الكائنات.
قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45]، أي: لو شاء الله لأثبته وجعله ليلاً، ولو شاء سبحانه لجعل الشمس دائمة، قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:71 - 72].
فالإنسان يجب عليه أن يتفكر ويسمع ويعقل آيات رب العالمين، فلو شاء سبحانه لثبتت الشمس في مكانها وبقي النهار أبداً، فمن غير الله عز وجل يأتيكم بهذا الليل الذي تستريحون فيه؟ وإذا انعكس الأمر من إله غير الله يأتيكم بنهار ويأتيكم بضياء؟ وهنا يذكر لله لنا المعنى نفسه: لو أن الله سبحانه ثبت هذا الظل فدام الظل وانتهت الشمس فمن سيأتيكم بضياء؟ ثم قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45]، فلا يعرف الظل حتى تشرق الشمس فتفرق بين هذا وذاك، ولذلك قالوا: والضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء، فلولا النهار لما عرفنا فائدة الليل، ولولا الليل لما عرفنا قيمة النهار، فالله جعل ليلاً ونهاراً، أسود وأبيض وجعل أشياء مختلفة لولا هذا الاختلاف لما تبين لنا جمال هذا الشيء الذي أوجده الله عز وجل لنا، فالإنسان في النهار يخرج إلى معاشه، ينظر، ويقرأ، ويكتب، ويرى في النور ما لا يراه في الظلام، فهو في النهار يتعب ويعمل، والجسد يحتاج إلى الراحة، ولو ظلت الشمس ثابتة فمن أين تأتي الراحة؟ إذاً: لابد من ليل، لابد من سكون حتى يستريح الإنسان، فيأتي الليل فيستشعر جمال الليل، وحين يتعب ويستريح يستشعر جمال الراحة بعد تعبه وهكذا، فجعل الله عز وجل الليل والنهار يتقلبان على الإنسان، يستريح في الليل ويعمل في النهار، ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وجعله لك آية تستظل به من الشمس، {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا} [الفرقان:45]، ثابتاً قليلاً أو كثيراً أو ظلاماً، قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان:45]، فالشمس تقبض الظل شيئاً فشيئاً حتى إذا كان قبيل الزوال زال الظل كله، ثم بعد ذلك ينتشر الظل.
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:46]، أي: ليس فجأة، ولكن الله عز وجل يجعل الإضاءة شيئاً فشيئاً، فالسماء بعد أن كانت سوداء يكون لونها بنياً ثم تبيض وتطلع الشمس شيئاً فشيئاً من رحمة رب العالمين سبحانه، ولو شاء لجعل الليل يأتي فجأة والنهار يذهب فجأة ولكنه سبحانه يقبضه شيئاً فشيئاً حتى لا ينزعج الإنسان ويتحير في ذلك، فخروج الليل من النهار والنهار من الليل يكون تدريجياً.
والزروع منها ما ينتفع بالظل ومنها ما ينتفع بالشمس، ولو دامت عليه الشمس لفسد، ولو دام عليه الظل لفسد، فجعل الله عز وجل الظل والشمس، وجعل الليل والنهار رحمة منه سبحانه.(113/4)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل لكم النهار نشوراً)
قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47].
والإنسان مخلوق ضعيف فحين تطلع الشمس يذهب فيعمل ليأتي برزقه الذي قدره الله عز وجل له، وبعد أن يعمل يجوع فإذا جاع أكل وشرب، فإذا جاء الليل نام، ولو واصل يوماً ويوماً لما استطاع الخروج واكتساب رزقه ولربما مات من ذلك، فجعل الله لنا الليل لباساً يعني: يغطي الكون كله، والإنسان يحتاج إلى ظلمة الليل في النوم، لأن نوم النهار لا يغني عن نوم الليل، فإذا نام الإنسان في النهار ساعات طويلة فإنه لا يستريح بهذا النوم، فهو يحتاج إلى الليل حتى ينام فيستريح في ظلمة الليل، ولذلك نوم الليل للإنسان أفضل بكثير من نوم النهار، فجعل لكم الليل لباساً، وجعل النوم في الليل أو النهار سباتاً، والسبات: هو الراحة والانقطاع، فالإنسان الذي أصابه أرق في النوم يصبح مريضاً، لكن إذا نام وانقطع عن هذه الدنيا فإنه يستيقظ مستريحاً، والسبات مأخوذ من السبت بمعنى: القطع، وسمي يوم السبت؛ لأن اليهود كانوا ينقطعون فيها للعمل باختيارهم، وعقوبة لهم منعهم الله من العمل في يوم السبت، فجعل النوم سباتاً أي: كأنه انقطاع عن العمل، وانقطاع عن الدنيا، والنوم سماه النبي صلى الله عليه وسلم: الموتة الصغرى، والله عز وجل قال {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فيتوفى الله الأنفس حين تموت، بقبض الأرواح، والنوم موتة صغرى يتوفى الله عز وجل فيها نفس الإنسان فيستريح الإنسان في هذا النوم ثم يرد عليه روحه حين يستيقظ، فسمي النوم لذلك بالموتة الصغرى، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور).
ولا ينام أهل الجنة في الجنة، فلما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب ذلك قال: (النوم أخو الموت)، فأهل الجنة في نعيم لا ينقطع عنهم النعيم بنوم ولا يحتاجون إلى النوم؛ لأنهم في راحة لا يتعبون ولا ينصبون فلا يحتاجون إلى النوم، فجعل الله في الدنيا للعباد النوم سباتاً رحمة منه سبحانه وتعالى، {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، والنشور بمعنى: الارتفاع، والنشر: هو الشيء المرتفع، والنشرة: رفع الشيء من شيء إلى شيء، وهنا {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، أي: يحيا الإنسان فيه، فبعدما أماته بهذا النوم، وبعدما ذهب في سبات عميق يحيه الله عز وجل فيقوم لعمله يباشره، وهذه من نعم الله التي يدل الإنسان عليها، فكأنه يقول: الذي جعل لكم الليل لباساً، وجعل النوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً ألا يستحق أن تحمدوه وتشكروه على هذه النعم وتعبدوه وحده لا إله إلا هو؟ نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(113/5)
تفسير سورة الفرقان الآية [48]
شرع سبحانه في هذه الآية وما قبلها في بيان الأدلة الدالة على وجوده سبحانه، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة، وبيان نعمه العظيمة على عباده، من نعمة الظل والضياء والشمس والليل والنهار، وكذلك إرسال الرياح التي تبشر بالمطر وتسوق السحاب من مكان إلى آخر، وهذه السحب محملة بالماء الطهور، الذي به حياة الأرض والإنسان والحيوان، وغير ذلك من النعم العظيمة.(114/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)(114/2)
معنى الطهور والفرق بينه وبين الطاهر وفوائد الماء
قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، قال: ((ماء طهوراً)) ولم يقل: ماءً طاهراً، وإنما هو طهور، والطهور متعد، أي: ليس طاهراً في نفسه فقط، وإنما هو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وهذا الفرق بين: أنزلنا من السماء ماءً طاهراً، (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)، فالماء الطهور: هو ماء طاهر، ولكن يطهر غيره، وقد يكون الماء طاهراً ولا يطهر غيره، مثل: الماء الذي خالطه شيء طاهر فأخرجه عن وصفه ماء، وعن كونه ماءً مطلقاً، فنقول: هذا ماء مخلوط بكذا ولا يصح أن أتوضأ به، ولا تصح إزالة النجاسة به، بل لابد أن يكون ماءً مطلقاً، فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً رحمةً لعباده، وقد ذكر في سورة الأنفال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
فمن فوائد إنزال الماء من السماء: أن الله عز وجل أنزل على العباد في يوم بدر ماء من السماء، فيتطهرون بهذا الماء، أيضاً من الفوائد: أن هذا الماء يستخدمونه في طعامهم وشرابهم، والماء يثبت الأرض تحت أقدامهم بعد أن كانت أرضاً رملية تتحرك وتضطرب تحتهم، فيثبتها ويهبطها بهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويذهب عن العباد رجز الشيطان وهواجسه التي تنادي عليهم أن يهربوا من أمام أعدائهم، فالله عز وجل يطهر العباد بما يشاء.
قوله: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا)) هل الماء الذي يخرج من الأرض ليس بطهور؟ لا، ليس هذا بمقصود، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعني: الماء باق على أصل خلقته، ولما سئل عن ماء البحر صلوات الله وسلامه عليه قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالماء النازل من السماء هو ماء طهور، وكذلك الماء النابع من الأرض أو الجاري فوقها أيضاً هو ماء طهور؛ لما جاء في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره للماء الطهور فيقول: المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها.
يعني: أن الماء الذي نزل من السماء ماء طاهر وطهور، حتى لو تغير لونه، والماء النابع من الأرض كذلك، إلا أن يتغير بنجاسة فيأخذ حكم الماء النجس، لكن إذا لم تغيره نجاسة، أما ما خرج من بئر أو خرج من النهر أو البحر، فهذا كله ماء طاهر، وسواء كان ملحاً أو مراً أو عذباً فكله طاهر، فعلى ذلك مياه الآبار حتى وإن تغيرت بالمجاورة بالرمال أو بالتراب الذي حولها فهي طاهرة ومطهرة، يتطهر بها الإنسان يتوضأ ويغتسل ويشرب منها، فعلى ذلك الماء الخارج من الأرض الأصل فيه أنه طاهر، لكن إذا جاءت نجاسة على هذا الماء فغيرته وأخرجته عن وصفه صار نجساً، إلا أن يكون ماءً كثيراً ولم تغيره هذه النجاسة، فهو باق على أصل طهوريته؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، أو قال: لم ينجسه شيء).
والقلتان: حوالي خمسة أمتار مكعبة من الماء؛ فإذا كان الماء بهذا الحجم فهذا كثير، فإذا وقعت فيه نجاسة يسيرة ولم تغيره فهو باق على أصل خلقته، والحديث بمنطوقه يدل على ذلك، وبمفهومه يدل على أنه لو كان أقل من هذا فوقع فيه شيء من النجاسة، فإنه يتنجس الماء بذلك.
يقول الإمام القرطبي في التفسير: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به.
المعنى من كلامه: أنه طالما هو في البئر أو في النهر ووقعت عليه أوراق أشجار فتغير الماء بشيء من الاخضرار، فهو باق على طهوريته، ويجوز الوضوء منه على ذلك، كذلك ماء بئر في صحراء إذا طارت عليه الرمال أو التراب ومن الجير ونحوه فتغير وتعكر، لكن لم يخرج عن وصفه ماء فهو طاهر، ويجوز للإنسان أن يتوضأ به ويغتسل منه وهكذا.(114/3)
حكم سؤر الإنسان المسلم والكافر
قال القرطبي: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه.
السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنسان نصرانياً عنده إناء فيه ماء فشرب منه وجاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، لكن لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز للمسلم أن يشرب باقيه أو أن يتوضأ به، ولكن يكره ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار.
قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو أن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ إناء فيه ماء وشرب من هذا الإناء، فإنه يكره الشرب من أثر هذا الإنسان.
في الماضي يتكلم في هذه المسألة من حيث الطهارة والنجاسة، فيقول: يكره ذلك باعتبار أن هذا الإنسان الذي يشرب الخمر فاسق، ولم يقل: حرام، لكن الآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر أي إنسان؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، كأن يكون مريضاً بالسل، أو بالربو، أو عنده مرض رئوي أو مرض في الفم وكذا، فيتأذى الناس بعضهم من بعض بهذا الشيء، فالإنسان يأخذ حذره في ذلك، ولا يؤذي نفسه ولا يؤذي غيره.
إذاً: كلام الفقهاء هنا في كونه نجساً أو طاهراً، وليس معنى ذلك: أنه مأمور أن يشرب أو يستحب له، لا؛ لأن مع كثرة الأمراض لابد أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من جعل الماء في العلب وإن كان بعض إخواننا يحب أن يجعلها في المسجد، فكنا نفعل هذا الشيء في الماضي، أما الآن مع كثرة الأمراض وكثرة الأوبئة وانتقال العدوى بقدر الله سبحانه وتعالى، بأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء؛ لأن الأمراض تنتقل بأسباب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك فيروس الكبد، فإنه ينتقل عن طريق اللعاب، وهناك فيروسات تنتقل عن طريق الدم، فعلى ذلك تأخذ حذرك فلا تشرب من هذه العلب الموضوعة في المساجد أو في الشوارع، وهذا لا ينافي قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، وإنما هو أخذ بالأسباب فلا نؤذي أحداً من الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن نحتاط، وهذا لا يمنع قدر الله؛ لأنه سبحانه إن شاء لك شيئاً لا قدر الله وقع وجرى، وليس معنى ذلك: أنه إذا كان قدر الله جارياً أن نتركه يجري دون الأخذ بالأسباب، لا؛ لأن الجوع والعطش من قدر الله فنحن ندفع القدر بالأخذ بالأسباب فنأكل ونشرب، فكذلك ندفع قدر المرض بالوقاية منه، وعدم الاقتراب من الأسباب المؤدية إليه، وإذا وقع ندفعه بالتداوي بالمباح، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها) فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون؛ احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري.
ثم قال: وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها.
والمعنى: أن هناك أناس مثل الصين يأكلون الكلاب والهرر وغيرها من الجيف، فهذا الإنسان لو أنه أخذ الإناء وشرب منه، فهل يجوز للمسلم أن يشرب من هذا الإناء الذي شرب منه ذلك الكافر الذي يأكل الجيف والكلاب وغير ذلك؟ هذا الشيء مؤذ، لكن الفقهاء لا يحرمون ذلك وإنما قالوا: يكره ذلك، كذلك يجوز الوضوء من ذلك الإناء، فقد قال الإمام البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني.
يعني: لما خرج عمر رضي الله تعالى عنه إلى الشام طلب ماء ليتوضأ، فقامت امرأة نصرانية فأدت لـ عمر ماء فتوضأ رضي الله تعالى عنه.
وهذا الماء شرب منه عمر رضي الله تعالى عنه، فكان ماءً عذباً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية، فقال لهذه المرأة: أيتها العجوز أسلمي تسلمي.
يعني: عندما أكرمت عمر بهذا الماء الطيب العذب فشرب منه وتوضأ رأى أن يدعوها للإسلام إكراماً لها، فقال: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أبيض، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: بعد السن أدخل في الإسلام وأغير ديني! فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد.(114/4)
حكم ولوغ الكلب في الماء الذي في الإناء
يقول الإمام القرطبي: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعاً ولا يتوضأ منها، فقد ثبت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، أو قال: (إحداهن بالتراب)، أو قال: (وعفروه الثامنة بالتراب)، فهذا بيان: أنه لا يجوز لك أن تتوضأ بماء شرب منه الكلب، هذا إذا كان ماءً قليلاً في إناء، أما إذا كان ماء في بئر فسؤر الكلب وريقه لا ينجس البئر، إنما ينجس الإناء بذلك؛ لأنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم).
أيضاً لو أن الكلب أخذ ثوبك وعضه فإنه ينجس الثوب ويغسل مرةً واحدة فقط، لكن الإناء فقط هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب فهنا أمر بغسل الإناء سبع مرات، فدل على أن هذا الماء ينجس، لكن الإمام مالك ذهب إلى أن الماء طاهر وليس نجساً، ولكن يغسل الإناء سبع مرات تعبداً، هذا قوله رحمه الله، والصواب قول الجمهور: أن هذا دليل على النجاسة.
وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب)، وهذا الحديث نص في المسألة (طهور): يعني: التطهير، ولا يكون التطهير إلا من نجاسة، فعلى ذلك يكون ريق الكلب نجساً وليس طاهراً، فإذا ولغ الكلب في الإناء فلا بد من غسل أثر الكلب فيها، فيغسل سبع مرات إحداهن بالتراب، والأفضل أن تكون الأولى بالتراب، وكأن ريق الكلب فيه شيء لا يزول إلا بالتراب، وبعض المحللين الذين حللوا المياه التي شرب منها الكلب وجدوا أنواعاً من الجراثيم لا تزول إلا بالتراب، فقالوا: التراب يزيل هذا الشيء، فسبحان الله! فقد جعل عز وجل التراب عجيباً، ويكفي أن الميت يكون دفنه في التراب، فإنه بعد ذلك يتحلل أثر الميت تماماً من هذا التراب، ولا يكون في التراب شيء منه، فالله عز وجل يخلق ما يشاء، ويخبر سبحانه وتعالى عن الشيء الحق، فالماء طهور والتراب أيضاً طهور عند عدم وجود الماء والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(114/5)
تفسير سورة الفرقان (تابع) الآية [48]
لقد خلق الله تبارك وتعالى الرياح بشراً بين يدي رحمته، تبشر الإنسان بقرب نزول المطر الذي هو مصدر الرزق بعد ذلك للإنسان، ولقد أهلك الله عز وجل بهذه الرياح قوم عاد لما طغوا وعتوا، وظنوا أنه عارض من المطر والرحمة فكان العكس من ذلك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاف من الرياح ومن الغيم إذا أبصره خشية أن يحل بالمسلمين ما حل بالمجرمين في سالف الدهر، وقد تعرض المفسر هنا لمسائل فقهية خاصة بالماء الطهور وأحكامه ولوازمه، وما إلى ذلك من الأحكام التي ينبغي على المسلم معرفتها والعلم بها.(115/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)(115/2)
الفرق بين قراءة (بشراً) (ونشراً) في المعنى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن نعمه العظيمة على عباده، فهو الذي جعل لنا الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، وهو الذي مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً، وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، فهذه بعض من آيات الله عز وجل التي يراها كل إنسان فيه عقل؛ ليعتبر ويعلم حاجته الماسة لذلك، وكيف أن الله أنعم بهذه النعم العظيمة وغيرها سبحانه وتعالى.
فمن نعمه سبحانه: الظل، وكذلك الضياء والشمس، ومن نعمه سبحانه وتعالى: تقليب الأجواء، بين حر وبرد، وفصول أربعة في السنة، وتقليب الليل والنهار بالزيادة والطول؛ ليجعله راحة ومعاشاً للإنسان، فالإنسان يتقلب في نعم الله سبحانه وتعالى بكل حال.
وهنا يذكر لنا سبحانه وتعالى من نعمه: نعمة الرياح، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان:48]، ثم قال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، فالرياح تسوق السحاب ومن ثم ينزل الماء من السماء للعباد حتى يحيي الله به الأرض الميتة، ويجعل للعباد من هذا الماء رزقاً ومن كل الثمرات.
قال: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا)، فالله يرسل الريح بشارة للعباد، فيستبشرون بما يأتي من الرياح الباردة نسبياً، فيتروحون بها ويستبشرون بعد ذلك بنزول المطر قريباً بإذنه سبحانه، فهي بشرى كما هي قراءة عاصم فقط: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها ابن عامر: (نُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه)، وقرأها حمزة والكسائي، وخلف: (نَشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) فالله يرسل الرياح بشراً ونشراً، فمن قرأها: (نُشُرًا) و (نُشْرًا) و (نَشْرًا)، فهو مأخوذ من النشور، والنشور يأتي بمعنى: القيام، وبمعنى: الإحياء بعد الموت، وبمعنى: البعث، فالله عز وجل يرسل الرياح بشارة ونشراً يبشر العباد بهذه الرياح بقرب نزول المطر من السماء، فهي بشارة من رب العالمين سبحانه، وهي نشر: ينشر الله عز وجل ويحيي بها الأرض بعد موتها، فيرسل الرياح فتأتي بالمطر من السماء، فالله عز وجل يحيي هذه الأرض وينشرها، فالرياح تحرك السحاب، ولو لم يخلق الله عز وجل الرياح لكانت السحاب تخرج مياهها من البحر أو من النهر، فتصعد إلى السماء وتنزل في نفس المكان مرةً ثانية، ولكن من رحمة الله سبحانه أن جعل ماء البحر وماء النهر يتبخران ويرتفعان إلى السماء ثم يرسل عليها الرياح فتتكون السحب وتنقلها إلى حيث يريد الله ويشاء سبحانه وتعالى، فينزل المطر على من يشاء سبحانه رزقهم ويمنعه من يشاء، فإذا نزل الماء جعله نشراً ينشر الله عز وجل ويحيي به الأرض الميتة.(115/3)
أحوال الرياح وأقسامها، وبيان وجل النبي صلى الله عليه وسلم منها
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} [الفرقان:48]، وهذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيْحَ نُشُرَاً بَيْن يَدَي رَحْمَتِه} [الفرقان:48]، وهذه من ضمن من يقرأها: (نُشراً) فذكر الله عز وجل الرياح والريح على القراءة الأخرى.
وفيه دليل: على أن الرياح والريح تتعاقبان في المعنى الواحد، ومن فرق بقوله: إن الرياح تأتي بالخير، والريح تأتي بالشر فقد جاء بتفرقه غير صحيحة؛ لأن كلمة الرياح في القرآن كله منهم من قرأها: (الرياح)، ومنهم من قرأها: (الريح)، فالله عز وجل يرسل الريح بشراً بين يدي رحمته، ويرسل الرياح أيضاً بشراً بين يدي رحمته، فالريح والرياح تأتيان بالخير، وتأتيان بما يشاء الله سبحانه، وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يحدث له شيء من الانزعاج إذا هاجت الريح فيقبل ويدبر، ويدخل ويخرج، فلما سألته السيدة عائشة رضي الله عنها عن ذلك؟ قال: (ما يؤمنني! فلقد رأى قوم السحاب في السماء فقالوا: هذا عارض ممطرنا)، وهم: قوم عاد، فما كان عارضاً ولا سحابة وإنما كانت نيراناً من السماء أهلكت القوم جميعهم، فكان إذا أمطرت السماء سر النبي صلوات الله وسلامه عليه وهدأ روعه.(115/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)
إذاً: فقد أخبر الله سبحانه أنه يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، ورحمة الله عز وجل: هي السحب والمطر الذي ينزل من السماء، والرحمة في هذه الآية خرجت مخرج الغالب، إذ أن الرياح قد تكون خالية من المطر، وقد يكون في هذه الرياح هلاك لبعض الناس، قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:48 - 49]، فأنزل من السماء ماء طهوراً، ولم يقل: ماءً طاهراً؛ لأن الطهور متعدٍ إلى غيره، فهو طاهر في نفسه مطهر لغيره، وهذا هو الفرق بين الماء الطاهر والماء الطهور، فقد يكون الماء طاهراً ولكنه لا يطهر غيره، مثل: الماء المتغير، فنقول: إن الماء الذي خالطه شيء طاهر فأخرجه عن مسمى الماء، وعن كونه ماءً مطلقاً، فإنه يسمى حينئذ: ماءً مخلوطاً بكذا ولا يجوز الوضوء به، ولا ينفع في إزالة النجاسة، بل لا بد أن يكون ماءً مطلقاً، فالله عز وجل ينزل من السماء ماءً رحمةً لعباده، وقد ذكر سبحانه في سورة الأنفال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].(115/5)
فوائد إنزال الله المطر يوم بدر على المسلمين
فمن فوائد إنزال الماء من السماء على العباد يوم بدر: قال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11]، فيتطهرون بهذا الماء، {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، فهذا من فضل رب العالمين سبحانه على عباده، فإن الماء يستعمل للشرب وللتطهر وللطعام، وليثبت الأرض من تحت أقدامهم بعد أن كانت أرضاً رملية تتحرك وتضطرب تحتهم، فهو يثبتها بهذا الماء الذي ينزل من السماء، وكذلك ليذهب عن العباد رجز الشيطان ورجسه، فهو يحث المسلمين على الفرار والهرب من أمام أعدائهم، فالله عز وجل يطهر العباد بما يشاء، {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولا يفهم من هذه الآية أن ما خرج من الماء من غير السماء كالأرض غير طهور، فليس المقصود ذلك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الماء طهور لا ينجسه شيء)، يعني: الماء الباقي على أصل خلقته، ولما سئل عن ماء البحر صلوات الله وسلامه عليه قال: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، ففهم من ذلك: أن الماء النازل من السماء أو النابع من الأرض أو الجاري فوقها ماء طهور كما جاء في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.(115/6)
حكم التطهر بالمياه النازلة من السماء والنابعة من الأرض
وهنا يذكر الإمام القرطبي في تفسيره في الماء الطهور: أن المياه المنزلة من السماء والمودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها ورياحها حتى يخالطها غيرها.
يعني: أن الماء الذي نزل من السماء طاهر وطهور، حتى لو تغير لونه؛ لأنه في الأصل ماء طاهر، وكذلك الماء النابع من الأرض، إلا أن يتغير بنجاسة فيبقى له حكم الماء النجس، لكن إذا لم تغيره نجاسة كماء البئر والنهر والبحر فهذا ماء طاهر، سواء كان مالحاً أو عذباً، فعلى ذلك: مياه الآبار حتى وإن تغيرت بالمجاورة بالرمال أو بالتراب الذي حولها فهي طاهرة مطهرة، فيتطهر بها الإنسان ويتوضأ ويغتسل ويشرب منها، فعلى ذلك: يكون الماء الخارج من الأرض طاهراً في الأصل، لكن إذا وقعت فيه نجاسة فغيرته أو أخرجته عن وصفه؛ فإن كان ماءً قليلاً تنجس، وإن كان كثيراً فهو طاهر بشرط: ألا يتغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، أو قال: لم ينجسه شيء).
والقلتان: حوالي: خمسة أمتار مكعبة من الماء؛ فإذا كان الماء بهذا الحجم فهو كثير، فإذا وقعت فيه نجاسة ولم تغيره فهو باق على أصل خلقته، والحديث بمنطوقه يدل على ذلك، أما مفهومه فيدل على أن الماء يتنجس إذا كان أقل من القلتين.(115/7)
حكم الماء المتغير بطاهر
يقول الإمام القرطبي في التفسير: الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه، فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به.
والمعنى من كلامه: أن النهر مثلاً قد يتغير إذا وقعت عليه أوراق الشجر، فقد يجعل لونه مائلاً إلى الاخضرار فهذا باقٍ على طهوريته، فهو طاهر ويجوز الوضوء منه، كذلك إذا وجد ماء بئر في صحراء وقد وقع فيه شيء من التراب من الجير ونحوه فتغير وتعكر فإنه يبقى على ذلك طاهراً، فيجوز للإنسان أن يتوضأ به ويغتسل منه وهكذا.(115/8)
حكم التطهر بسؤر الكفار أو الحيوانات الآكلة للجيف
قال القرطبي: فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء.
فلو أن هذا الماء خالطته يد إنسان بأن وضعها في هذا الماء، فهل يتنجس بذلك سواء كان مسلماً أو كافراً؟ يقول لنا هنا: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها، ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه، والمقصود من السؤر: هو ما بقي من الماء، فلو أن إنساناً نصرانياً استخدم إناء عنده فشرب منه ثم جاء مسلم وأراد أن يشرب فإنه يكره له ذلك، والمعنى: أنه لا يحرم ذلك؛ لأنك لم تستيقن النجاسة في ذلك، فيجوز أن تستخدم بقية الماء في شرب أو وضوء، ولكن يكره له ذلك، سواء كان نصرانياً أو يهودياً أو غيرهم من الكفار.
قال: وكذلك المدمن الخمر، فلو إن إنساناً شرب الخمر ثم أخذ بالشرب من هذا الإناء، فإنه يكره له ذلك ولا يحرم.
وهو يتكلم في هذه المسألة من جهة الطهارة والنجاسة، فإذا قلت: يكره ذلك، فباعتبار فسق هذا الإنسان شارب الخمر، فلا نأمن من أن يكون في فمه من أثر ذلك فيتلوث الإناء منه، لكن لما لم يستيقن من ذلك فإنه لم يقل حرام.
والآن مع وجود التحاليل الطبية وغير ذلك، نقول: إن الأفضل للإنسان ألا يشرب من أثر إنسان آخر؛ لأنه لا يدري ما يكون في فم هذا الإنسان من مرض، فقد يكون مصاباً بالسل أو الربو أو مرض رئوي أو مرض في الفم ونحو ذلك، فيؤذي نفسه بذلك، فعلى الإنسان أن يأخذ حذره من ذلك؛ لكي لا يؤذي نفسه أو غيره.
إذاً: فكلام الفقهاء هنا من جهة الطهارة والنجاسة، لكن ليس معناه: جواز الشرب منه مطلقاً، فلا بد للإنسان مع كثرة الأمراض أن يأخذ حذره من هذا الشيء، ولذلك نمنع من وضع الماء في قلل في المسجد، وإن كان بعض إخواننا يحب أن يضع قلة في المسجد، لكننا ننصح بأخذ الحيطة خصوصاً مع كثرة الأمراض والأوبئة المعدية بقدر الله سبحانه وتعالى وبأسباب ملموسة معروفة، فعلى الإنسان أن يجتنب هذا الشيء، وكذلك نمنع من قضية الماء المسبل في الشوارع، فإن الفيروسات الوبائية قد تنتقل عن طريق اللعاب ومن ثم إلى الدم، فيسبب أمراضاً خطيرة في الكبد ونحوه، فنحن ننصح بعدم الشرب من هذه المياه؛ لأنها قد تؤدي إلى أمراض كالجذام وغيره، وهو مرض معدٍ وهذا لا ينافي أن هذا من قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، لكن يجب أن نأخذ بالأسباب فلا نؤذ أحداً من الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، فهو يعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نحتاط، ولكن ليس معنى ذلك: أننا قادرون على منع قدر الله إن أراد بنا شيئاً، فقدر الله جارٍ نافذ، وليس معنى ذلك أيضاً: أن نترك الأسباب ونتوكل على الله فقط، فإننا إذا عطشنا أو جعنا أكلنا وشربنا عملاً بالأسباب، فنفس هذا الكلام يقال في المرض.
فالجوع يدفع بالأكل، والعطش بالشرب، والمرض بالوقاية منه؛ ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا نزل الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها، وإن لم تكونوا فيها فلا تدخلوها)، فنهانا أن ندخل مكاناً فيه الطاعون احتياطاً لأنفسنا، وإن كان قضاء الله عز وجل يجري.
يقول الإمام القرطبي: يكره سؤر النصراني وسائر الكفار، والمدمن الخمر، وما أكل الجيف كالكلاب وغيرها.
وقد وجد أناس -كما في الصين- يأكلون الكلاب والقطط، والمقصود: أن كلام الفقهاء في هذا دائر بين الحل والحرمة، وهنا يقول بالكراهة، أي: أن اليهودي أو النصراني أو المشرك إذا شرب من إناء فيه ماء فإنه يجوز لك أن تتوضأ منه، لكن اجتنابه أولى.
قال الإمام البخاري: وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصراني، وهذا لما جاء إلى الشام رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد كان هذا الماء من أجمل المياه التي ذاقها عمر رضي الله عنه، فقد كان ماءً عذباً جميلاً، فلما شرب منه صعب عليه حال هذه المرأة النصرانية فقال لها: أيتها العجوز! أسلمي تسلمي، فأراد أن يدعوها لأنها أعطته هذا الماء الطيب الجميل، فقال لهذه المرأة يدعوها للإسلام: أسلمي تسلمي، فقد بعث الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، فكشفت المرأة عن رأسها فإذا مثل الثغامة، يعني: أن رأسها أبيض من الشيب، والثغامة نبت أبيض الثمر مثل القطن، فقالت: عجوز كبيرة أموت الآن، يعني: أنها تستبعد بعد هذا السن أن تدخل في الإسلام وتغير دينها، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم أشهد.(115/9)
حكم الوضوء من الماء إذا ولغ فيه الكلب، وكيفية تطهيره
يقول الإمام القرطبي: فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك: يغسل الإناء سبعة ولا يتوضأ منه.
وهذا حكم صحيح، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) أو قال: (إحداهن بالتراب)، أو قال: (وعفروه الثامنة بالتراب)، فهذا بيان أنه لا يجوز لك أن تتوضأ بما شرب منه الكلب، وهذا إذا كان ماءً قليلاً في الإناء، أما إذا كان ماء بئر أو نهر فإن سؤر الكلب أو ريقه لا ينجس البئر، وإنما ينجس الإناء بذلك فيجب إراقته.
أيضاً: لو أن الكلب عض ثوبك فإنه ينجس ويجب غسله مرةً واحدة فقط، لكن الإناء فقط هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وإذا أمر بالغسل سبع مرات فهل هذا دليل على أن هذا الماء ينجس أم لا؟ فالإمام مالك: ذهب إلى أن الماء طاهر وليس نجساً، ولكنه يغسل سبع مرات تعبداً لله تعالى، فهذا قوله رحمه الله، والصواب قول الجمهور: أن هذا دليل على النجاسة، فقد ثبت في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب).
وهذا الحديث نص في المسألة، فقوله: (طهور) يعني: التطهير، فلم يطهره إلا من نجاسة، فعلى ذلك يتبين أن ريق الكلب نجس وليس طاهراً، فإذا ولغ الكلب في الإناء فلا بد من غسل أثر ريقه سبع مرات إحداهن بالتراب، والأفضل: أن تكون الأولى بالتراب، وكأن في ريق الكلب شيئاً لا يزول إلا بالتراب، وقد أثبت بعض المحللين للمياه وجود أنواع من الجراثيم في ريق الكلب لا تزول إلا بالتراب، ولذلك يدفن الميت في التراب؛ لكي يتحلل بعد فترة ويذهب أثره تماماً من هذا التراب، فلا يكون في التراب شيء منه، والتراب أيضاً يطهر في عدم وجود الماء والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(115/10)
تفسير سورة الفرقان [48 - 52]
أنعم الله عز وجل على خلقه نعماً كثيرة لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم: أنه سخر لنا ما في الكون لننتفع به، مما لا حول لنا ولا قوة عليه، ومن هذه النعم: الرياح التي تسوق السحاب بالمطر إلى حيث يشاء الله، وكذلك نعمة الماء التي لا يستغني عنها أي كائن حي، ومع تسخيره سبحانه لنا هذه النعم إلا أن أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله، ولا يقدرونه تعالى حق قدره، بل أبوا إلا الكفر والعناد والبعد عنه سبحانه.(116/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:48 - 52].
في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن بعض نعمه العظيمة على عباده سبحانه.
ومن هذه النعم: أنه أرسل الرياح سبحانه وتعالى بشراً بين يدي رحمته سبحانه، فيستبشر العبد بقدوم الرياح التي يرسلها الله عز وجل، فهي ترطب بدن الإنسان مما هو فيه من حرارة، وكذلك يجعلها سبحانه تحرك السحاب في السماء من مكان إلى مكان؛ لينزل المطر في المكان الذي أراده الله، فيحيي الله عز وجل به الأرض بعد موتها، وهذه من رحمة رب العالمين سبحانه، ويرسل الرياح فتتحرك بها السفن بفضل الله عز وجل وبرحمته، ويحرك بها ما يشاء سبحانه، ويسخرها للعباد يستخدمونها فيما يصنعونه من آلات ومحركات، فقد جعل الله عز وجل الهواء والرياح رحمة منه سبحانه، وقد يقلبها ويصيرها على قوم عذاباً من عنده والعياذ بالله، فالله على كل شيء قدير، يصرف الآيات ويقلبها، فيجعل الرحمة ويأتي بغيرها، من فضله ومن رحمته سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، والمقصود بالسماء هنا: السحاب التي في السماء، قال تعالى: {أَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، والطهور هو: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وهذا أنقى أنواع الماء، ومنه: الماء الذي ينزل من السحاب، وهذا الماء يخرج من الأرض ويكون فيه الطيب والنجس، وقد يكون مالحاً أو مراً أو كدراً، ولكنه يتبخر إلى السماء فلا يصعد إلا الماء النقي، فتتكون منه السحب، فالماء الذي في السحاب أنقى أنواع المياه مطلقاً، فإذا نزل إلى الأرض نزل ورجع إليها ماء نقياً، ولكن قد تعتريه بعض الأتربة والغبار في الجو، وأما وهو في السحاب فهو أنقى أنواع الماء، فإذا نزل على العباد نزل عليهم ماء طهوراً، أي: طاهراً في نفسه مطهراً لغيره.
قال الله سبحانه: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [الفرقان:49]، أي: هذا الماء الطهور الذي نزل من السحاب يحيي الله عز وجل به البلدة الميتة، كما قال: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، وقد قرأها الجمهور: ((ميتاً))، وقرأها أبو جعفر (ميِّتاً).
والمعنى واحد، يعني: أن الله عز وجل يحيي بهذا الماء الذي ينزل من السماء الأرض الميتة، أي: المجدبة التي لا زرع فيها، فإذا نزل الماء أحياها الله عز وجل به، فقد جعله سبحانه كالروح للأرض.
قال تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، أي: إما أنه بواسطة هذا الماء تخرج الأرض زرعها، وإما أن تكون الأرض سبخة لا زرع فيها، ولكنها تجمع هذا الماء فيشرب منه الإنسان فقد جعل الله عز وجل الماء سقياً للبشر وسقياً لكل حيوان، وجعله روحاً للأرض، ينبت الله عز وجل به النبات من فضله ورحمته.
وقوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ} [الفرقان:49]، أي: نسقي هذا الماء، وهو من أسقى الرباعي، ويأتي نسقى من الثلاثي، فيأتي من الاثنين، وفيها في القرآن في غير هذه الآية القراءتان: نَسقي ونُسقي، وأما هنا {نُسْقِيَهُ} [الفرقان:49]، ففيها قراءة واحدة فقط من الفعل الرباعي، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، يعني: هذا المطر نزل من السماء لكل حيوان، فيسقي الله عز وجل به الإنسان والحيوان.
وقوله تعالى: {مِمَّا خَلَقْنَا} [الفرقان:49]، أي: من كل ما خلقنا، فنسقي بهذا المطر {أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، أي: بشراً كثيراً، وقوله: {أَنَاسِيَّ} [الفرقان:49]، إما أن واحدها إنسي أو إنسان فيجمع على هذا الجمع، فالله سبحانه وتعالى بفضله وبرحمته يتكرم على عباده بإنزال هذا المطر، وقد يستحق الإنسان هذا المطر وقد لا يستحقه، ولكنه سبحانه لم يمنعه عنهم حتى لا يجدوا شيئاً منه؛ لأن رحمته تأبى إلا أن ينزل المطر، ولكن قد يقلله على قوم ويزيده لأقوام آخرين.
فهو سبحانه ينزل المطر من السماء، وإن لم يستحقه الإنسان استحقته البهائم، فينزل من السماء مطراً ليسقي به هذه البهائم، وينتفع الإنسان، كما قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، وقد قدمها هنا لأنها لا تذنب، وأما العباد فيذنبون فقد يستحقون المطر وقد يستحقون القحط، ولكن الأنعام لا ذنب لها فقدمها، قال تعالى: {ونُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، وقد تكفل سبحانه بالرزق لجميع هذه الأنعام التي عرفت ربها؛ لأن هذه الأنعام التي لا تذنب في حق خالقها سبحانه تستحق أن يأتيها الله عز وجل بأرزاقها، فقدمها على الناس، قال تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا} [الفرقان:49]، قال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49]، يعني: قد يُحرم الماء من يشاء سبحانه من الإنس ويسقي الكثيرين منهم، فقال: {وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان:49].(116/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا)
قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، وأقرب مذكور بهذه الآية هو المطر، أي: ولقد صرفنا هذا المطر بين الناس ليذكروا، وإن قد كان ذكر بعض المفسرين أن المقصود بقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} [الفرقان:50]، يعني: القرآن، قالوا: لأن هناك إشارة إليه في أول السورة في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وكذلك في قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:29]، وكذلك في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]، قالوا: فهذه إشارات إلى أن المقصود هنا هو: القرآن، يعني: صرفنا هذا القرآن على وجوه بالأوامر وبالنواهي، وبالتذكرة وبالعظات، وبضرب الأمثال وغير ذلك، أو: صرفنا هذا المطر الذي ننزله من السماء بوجوه التصريف، فينزل على هذه الأرض فيخرج منها الزرع والثمار، وقد ينزل في مكان آخر فلا تنتفع به الأرض، ولكن تجمعه فينتفع به الإنسان، وقد ينزل في مكان رخو فتشربه الأرض وينزل إلى المياه الجوفية، فيصرفه الله عز وجل بوجوه التصريف.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، سواء تصريف المطر كما ذكرنا، أو تصريف القرآن بالأوامر وبالنواهي وبالعظات وغير ذلك، فهذا كله للتذكرة، كما قال تعالى: {لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، أي: وليذكروا الله سبحانه وتعالى، وليعتبروا وليتذكروا وليتبصروا وليشكروا ربهم سبحانه وتعالى على نعمه، ويخافوا أن يحرمهم منها بتقصيرهم، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان:50]، هذه قراءة الجمهور، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ليذْكُروا)، أي: الله سبحانه تبارك وتعالى، ويشكروه على هذه النعم العظيمة.
قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50]، فأما البهائم فقد عرفت ربها سبحانه ولم تعصه سبحانه تبارك وتعالى، وأما الإنسان فمن الناس من يعبد الله، ومنهم من يشرك به سبحانه وتعالى؛ ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه على إثر سماء كانت من الليل: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب).
فعندما ينزل المطر من السماء فمن العباد من يكفر بالله سبحانه ويشرك به، ومنهم من يحمده سبحانه ويشكره ويوحده، فهؤلاء الشاكرون هم الذين يقولون: مطرنا بفضل الله وبرحمته، أي: جاء المطر من عنده وبرحمته سبحانه.
وأما الذين يشركون فهم الذين يقولون: جاءت النوء بكذا، ومطرنا بنوء كذا، والنوء: هو نزول القمر في منازل أو في أماكن معلومة خلال الشهر، ففي كل يوم له منزل ينزل فيه، وأيضاً الشمس في كل ثلاثة عشر يوماً تنزل في منزل من هذه المنازل، فالقمر يدور خلال الشهر كله، التسعة والعشرين أو الثلاثين يوماً خلال هذه المنازل التي في السماء، والشمس خلال السنة جميعها تدور في هذه المنازل، فقد جعل الله هذه النجوم زينة للسماء، وموعظة للعباد، ورجوماً للشياطين، وهداية للخلق، يعرفون طرقهم بها، فإذا ترك الإنسان ذلك وبدأ ينظر في النجوم ويتكلم في الحظ، وينظر في منازل القمر والنجوم ويقول: إذا القمر نزل في المنزل الفلاني فإن هذا اليوم سيكون فيه مطر، أو إذا القمر عمل كذا فسينزل المطر، وكأن النجوم هي التي تأتي بالمطر، أو كأن القمر هو الذي يأتي بالمطر، فالله عز وجل يقول: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر).
فالكافر هو الذي يقول: لما نزل القمر في المنزل الفلاني أتى لنا بالمطر، والنجم أتى بالمطر، فهذا كافر؛ لأنه نسب الفضل الذي لله عز وجل لمخلوق من مخلوقاته، وهو مسير بأمر الله لا يملك نفسه فضلاً عن أن يملك غيره، فهذا الذي يقول: مطرنا بنوء كذا أصبح كافراً بالله.
وفرق بين أن نقول: مطرنا في نوء كذا، وبين أن نقول: مطرنا بنوء كذا، فقولنا: بنوء، كأن النوء هو الذي أتى بالمطر، وكأن القمر أو النجم هو الذي أتى بالمطر، وأما قولنا: في نوء كذا، فهو بمعنى: في زمن كذا، كما نقول: مطرنا في شهر أكتوبر، أو في شهر كذا، ولا نقول: شهر أكتوبر هو الذي يأتي لنا بالمطر؛ لأن شهر أكتوبر زمن من الأزمان خلقه الله عز وجل، لا يأتي بشيء، والذي يأتي بالمطر هو الله سبحانه وتعالى.
ففرق بين مطرنا في نوء كذا، ومطرنا بنوء كذا، وإن كان الأفضل ألا تقال أصلاً؛ لأن الكثيرين من الناس لا يفرقون بين بنوء وفي نوء، فالأفضل تركها، وألا يقول الإنسان ذلك، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان:50]، أي: كفروا بالله سبحانه، إما لأنهم نسبوا هذا المطر لغير الله سبحانه قاصدين ذلك فكفروا، أو لأنهم مقلدون في الكلام لغيرهم فوقعوا في ذلك.(116/3)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً وجاهدهم به جهاداً تكبيراً)
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:51 - 52]، في هاتين الآيتين إشارة جميلة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى قدره العظيم عند رب العالمين سبحانه، فقد ذكر المطر أولاً وهو خير عميم ينزل من السماء، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان:50]، أي: يرسل المطر إلى هذه القرية وإلى غيرها وغيرها، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى كل الخلق، ففي هذه الآية إشارة جميلة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعهم، كما أن المطر رحمة لمن ينزل عليهم، فأشار سبحانه إلى المطر وإلى إرساله إلى أقوام، ومنعه على أقوام، ثم أشار إلى إرساله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الخلق جميعهم إنسهم وجنهم إلى قيام الساعة، فقال له: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ} [الفرقان:51]، أي: كما نزلنا المطر على قرى ومنعنا منه قرى فلو شئنا لفعلنا مثل ذلك وأرسلنا إلى كل قرية رسولاً، ولكن جعلناك أنت رحمة للعالمين جميعهم، فأرسلناك إلى الخلق جميعهم.
قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51]، أي: ينذرهم، ولكن جعلناك وحدك لنرفع درجاتك، وجعلناك رحمة للعالمين.
قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، وقد كان الحمل ثقيلاً على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، والمسئولية عظيمة عليه عليه الصلاة والسلام، ولكن كان الله يعينه عليها، وقد جعله وحده يدعو إلى الله، فبدأ الإسلام غريباً به وحده صلوات الله وسلامه عليه حتى هدى الله عز وجل به من شاء من خلقه، وقال له: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: أنهم يريدون أن يصرفوك عما أوحينا إليك، ويريدون إبعادك عن الدعوة إلى الله سبحانه، فاحذر أن تطيعهم في شيء.
وهذه السورة سورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في الأعوام التي كان فيها في مكة يؤذى ويضطهد ويمنعه الكفار من الدعوة إلى الله عز وجل، ويمنعون الناس من سماعه عليه الصلاة والسلام، فيقول له ربه: لا تطع هؤلاء الكافرين، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52]، أي: بهذا القرآن {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، يعني: بلغ هذا الدين العظيم، وبلغ ما أوحينا إليك من القرآن، وعلم الناس، ومهما أرادوا منعك فلا تطعهم، ولكن جاهدهم به جهاداً كبيراً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(116/4)
تفسير سورة الفرقان [51 - 53]
قدرة الله سبحانه لا حد لها، فهو سبحانه يفعل ما يشاء، وفي كل أفعاله تتجلى حكمته ورحمته وعدله، فالله قادر على أن يبعث رسلاً إلى كل بلدة ومحلة كما ينزل الغيث، ولكنه خص نبيه بأن يكون خاتم الأنبياء ورسول العالمين، ومن ثم فقد أيده بالمعجزات التي تثبت نبوته لمن رآه أو لم يره، حيث ضمنها كتابه الخالد القرآن الكريم، ومن تلك المعجزات التي تضمنها القرآن: الإخبار بحقائق علمية لم يكتشفها العلماء إلا في مطلع القرن العشرين، فسبحان الله العليم الحكيم!(117/1)
تفسير قوله تعالى: (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً برزخاً وحجراً محجوراً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا * وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:51 - 53].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قادر على أن يبعث في كل قرية وفي كل بلد منذراً، ولكنه شاء سبحانه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وحده هو الرحمة للعالمين، فكان هو المرسل من عند رب العالمين اختياراً واصطفاء واجتباءً بهذه الرسالة الكريمة إلى الخلق أجمعين، إنسهم وجنهم، ليدعوهم إلى ربه سبحانه، وكما أن الله سبحانه وتعالى ينزل المطر من السماء ليحيي به الأرض، ويصرفه في البلاد بين عباده كيف يشاء سبحانه وتعالى، فقد أنزل القرآن العظيم رحمة منه ليحيي به القلوب، فكما جعل المطر حياة للأرض، فقد جعل القرآن حياة للقلوب، وكما صرف المطر كيف يشاء في كل قرية وبلد فقد أنزل القرآن العظيم على النبي صلوات الله وسلامه عليه ليدعو به الخلق أجمعين، على أن الله قادر على أن يعدد الرسل، قال سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} [الفرقان:51]، ولكن الله أراد رفع درجة النبي صلى الله عليه وسلم فجعله وحده ليس في زمنه فقط ولكن في كل الأزمان اللاحقة لزمنه عليه الصلاة والسلام، فكان هو الرسول صلوات الله وسلامه عليه منذ بعث إلى قيام الساعة وليس بعده رسول، إلا ما يكون من نزول عيسى عليه الصلاة والسلام ليحكم بشرع النبي صلوات الله وسلامه عليه من قرآن وسنة، فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن ينزل فيكم المسيح بن مريم حكماً مقسطاً فيقتل الخنزير ويرفع الجزية، ويكسر الصليب)، وبذلك علم أن أحكام القرآن هي التي تنفذ وليس غيرها إذا نزل المسيح صلوات الله وسلامه عليه، بل قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس ويؤمهم بعد نزول المسيح رجل منهم تكرمة لهذه الأمة، فإنها لا تؤم من غيرها.
والآية تبين أن الله عز وجل اختص النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة إلى جميع الخلق وقد نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة، أو كافة)، أي: أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى انسهم وجنهم، قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم أو من جعل أيام لهم، ولغيرهم من المسلمين أياماً أخرى، أو لتمييزهم على غيرهم بل: {وَجَاهِدْهُمْ} [الفرقان:52]، والجهاد بالسيف في الأعوام المكية لم يكن قد فرض بعد، وإنما فرض جهاد السيف في المدينة، والمراد بالجهاد في الآية الجهاد بالحجة والبيان، والجهاد بالقرآن والإعلان، وهو المسمى بجهاد الدعوة وهو أن يخرج إلى الناس فيدعوهم إلى الله سبحانه ويحذرهم معصيته فإنها توجب غضبه وعقوبته، ووصف الجهاد المطلوب من النبي أن يقوم به بأنه جهاد كبير مبالغة في الحث على الدعوة إلى الله.(117/2)
التحذير من التبعية لليهود أو النصارى أو غيرهم من الكفار
وفي قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، تحذير للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من المؤمنين من التبعية للكفار وطاعتهم، إذ أن طاعتهم مضرة للنبي ومضرة لأتباع هذا الدين، كما أن طاعتهم تؤدي إلى النار والعياذ بالله، ولذا يجب على المؤمن ألا يستجيب للكافر ولا يطيعه، فإن الكافر لن يرضى عن المؤمن حتى يتبع ما هو عليه من باطل، قال تعالى في ذلك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال أيضاً: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فالمشركون أعداء للمؤمنين، والعدو لا يرضى عن عدوه، فهم لن يرضوا عن المؤمنين أبداً، وكذلك اليهود، وكذلك النصارى، إلا ما ذكر في أمر النصارى أن منهم من يتواضع حين يسمع القرآن، ويبكي خشوعاً وخضوعاً فيدخل في هذا الدين، فهؤلاء فقط ذكر الله عز وجل أن قلوبهم لينة، وأنهم يسمعون القرآن فيبكون عند سماعه ويدخلون في دين النبي صلى الله عليه وسلم، أما غير أولئك من الكفار فإنهم لن يرضوا عن المسلمين إلا أن يتابعوهم في دينهم، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فقوله سبحانه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الفرقان:52]، أي: لا تطع الكافرين ظناً منك أنهم يرضون عنك بطاعتك إياهم، بل لن يرضوا، ومهما تنازلت فستجدهم يطلبون المزيد من التنازلات.(117/3)
جهاد الدعوة والبلاغ
قال تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52]، أي: جاهدهم بهذا القرآن، والقرآن سلاح عظيم قوي قاهر؛ لأنه كلام رب العالمين سبحانه، وفي الآية أمر للنبي ولكل من يصلح له الخطاب: أن تمسك بالقرآن وجاهد به، ويعني أن تجاهد بهذا القرآن: أن تحفظ القرآن، وتعرف أحكامه، وتدعو الناس إليه، وتتخلق بما فيه من آداب عظيمة، فإنك إن كنت على هذا العلم من القرآن كنت قادراً على أن تجاهد الكفار بالبيان وحينها ينصرك الله عليهم، وقد جاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن جهاداً عظيماً، فدعاهم إليه في مكة ليل نهار ولكن لم يستجب له عليه الصلاة والسلام إلا القليل، فلما هاجر إلى المدينة ودعا إلى الله سبحانه وتعالى استجاب له الناس ودخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، وبعد أن استجاب له الناس في المدينة فرض عليه الجهاد باليد والسيف والسنان، وبذلك يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد جاهد الكفار بالدعوة باللسان، وبالسيف والسنان فنصره الله سبحانه ودخل الناس في دين الله أفواجاًً.
وإذا كان في القرآن الحجة البيان، إلا أنه ليس وحده آلة الجهاد فقد جعل الله عز وجل مع القرآن حكم الجهاد قال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، فإذا كان المسلم يحب رحمة رب العالمين سبحانه، ويحب أن يسلم في بدنه، ويأمن في نفسه ولكن الله عز وجل فرض عليه الجهاد والقتال في سبيله سبحانه وأمره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة:216]، كأمره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، وكقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، إذ أن في القتال العزة لهذا الدين، والإعزاز للإسلام والمسلمين، ولذا فالله عز وجل حين فرضه لعل بعض المسلمين لم يفهم من الآية الوجوب فقال: {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77]، فأجابهم الله سبحانه وتعالى بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77]، فلما جاهد المسلمون وجدوا حلاوة النصر، ووجدوا عزة التمكين بعد أن مكنهم الله سبحانه، وحينها أحبوا الجهاد في سبيل الله فلم يزالوا مجاهدين في سبيل الله، طالبين الشهادة والدار الآخرة حتى أعطاهم الله الآخرة والأولى، فأعطاهم الجنة في الآخرة وأعطاهم الدنيا، فصاروا هم الملوك على الدنيا يحكمون بشرع رب العالمين سبحانه، ودانت لهم الدنيا لأنهم أقاموا دين الله سبحانه، ونصروه، وأحبوا الآخرة، وأحبوا الشهادة في سبيل الله سبحانه وتعالى، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى، ففي مكة قال لنبيه: جاهدهم به أي: بالقرآن، وفي المدينة قال له وللمؤمنين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، وقال أيضاً: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وقال سبحانه: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فأمر الله عز وجل المؤمنين بقتال الكفار، والكافر طالما المؤمن يستعد له فإنه يخاف منه، أما إذا نام المسلم ونسي نفسه: فإن الكافر يتحرش به، ويعلو فوقه، ولا يتركه أبداً؛ لأن الدنيا إما أن يغلب المؤمن فيها بدين الله سبحانه فيعزه الله، وإما أن يغلب الكافر بكفره، ولذا ينبغي على الإنسان المؤمن أن يتمسك بدين الله ولا يخاف من أحد، فإنه إن هاب الكافر إستأسد عليه، كما أن المؤمن حين يترك دين ربه سبحانه فإن الله يخذله ولا ينصره؛ لأن من أسباب النصر أن يتعلم الإنسان المؤمن دين ربه وشرعه العظيم، وأن يتمسك به ويدعو إليه، ويجاهد في سبيله، فحينها ينصره الله سبحانه وتعالى.(117/4)
ملمح من إعجاز القرآن في ذكر حقائق البحار
ذكر لنا الله من آياته العظيمة فقال: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، ومثلها قوله تعالى في الآية الأخرى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، ولفظ البحرين في الآية الأولى لا يحتمل معناه إلا البحر الملح والبحر العذب، أي: البحر والنهر، وإن كانت الآية الثانية في سورة الرحمن: تحتمل الاثنين أي: البحر المالح والعذب، وتحتمل واحداً وهو البحر المالح، يقول الإمام القرطبي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:19]، أي خلا وخلط، وأرسل، وكلمة (مرج) تأتي بمعنى التراكم، وتأتي بمعنى الإختلاط، وتأتي بمعنى دخول الشيء في الشيء، فيكون معنى قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: أرسلهما فأرسل البحر المالح وأرسل البحر العذب الذي هو النهر، ومعنى: خلاه أي: تركه فانطلق النهر إلى أن صب في ماء البحر، وعلى المعنى الثالث {مَرَجَ} [الفرقان:53]، الذي هو خلط، اختلط الاثنان، ولكن سيكون المعنى: اتصالهما لم يجعل البحر يتحول إلى عذب، ولم يجعل ماء النهر يتحول إلى ملح، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان:53]، وسمي ماء النهر عذباً؛ لأن فيه عذوبة وحلاوة، وفيه فرات فهو شديد العذوبة، ذو طعم جميل، ثم وصف ماء البحر فقال سبحانه: {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، أي: شديد الملوحة، وقد يكون فيه مرارة مع الملوحة التي فيه، فالأول: شديد العذوبة وهذا شديد الملوحة.
وقد حفظ الله سبحانه ماء البحر بأن جعل الملوحة التي فيه تمنعه من التعفن، وحفظ الكائنات التي فيه بما جعل لها فيه من غذاءً، وما يسر له من تنفس، وحفظ ماء النهر بأن أجراه؛ إذ الماء العذب إذا وقف في مكانه ينتن، وجري ماء النهر يجعله عذباً فراتاً لا يتعفن ما دام جارياً، ومن حكمة الله سبحانه ورحمته بعباده أن حفظ لهم المياه بتلك الأوصاف المصاحبة لها، فلعلمه سبحانه أن ماء النهر عرضة للجراثيم، وعرضة للبكتيريا، وعرضة للأشياء التي تقع فيه، فقد حفظه الله عز وجل بالجريان، فإنه ما دام جارياً لا يتعفن؛ لأنه متغير دائماً، والنهر من المعلوم أنه عندما يصب في البحر، وعندما يصب في البحر يتبخر بفعل حرارة الشمس إلى السماء، ثم تدفعه وتحركه الرياح إلى مصب النهر، فإذا نزل المطر في أول النهر جرى النهر ليصب في البحر وهكذا تستمر دورة بين الأرض والسماء، يحفظ الله عز وجل العباد بهذه المياه وهذه الأمطار، كما يحفظ الله العيون في الآبار بهذه الصورة، إذ أن ماء العيون نابع من مياه جوفية داخلية، وقد جعل الله عز وجل المياه الجوفية على بعد كبير من سطح الأرض، بحيث تكون بعيدة عن نزول الجراثيم إليها، وبذلك يحفظها الله سبحانه وتعالى في جوف الأرض، وهذا من آيات الله العظيمة سبحانه، قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: أرسل البحرين أو جعلهما يضطربان فيختلطان، ومنها أمر مريج، قال تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5]، أي: أمر مختلط مضطرب، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا ثم شبك بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: كيف أصنع جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة).
فقوله في الحديث: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم)، أي: صار الناس أهل منكر، ولم تقدر على تغيير هذا المنكر الذي من علاماته: أن تبقى العهود كثيرة مختلطة مضطربة، لا يفي أصحاب العهود بشيء منها، وقوله: (خفت أماناتهم)، أي: كثرت فيهم الخيانات، والمعنى: إذا رأيت الناس على هذا الحال وكانوا مختلطين مضطربين لا رأي يجمعهم، ولا دين يوجههم فابتعد عنهم، ما دمت غير قادر على أن تصلح فيهم شيئاً وتخشى على نفسك أن تتغير معهم، وعجزت عن إصلاحهم، أما إذا كان المؤمن يقدر على الإصلاح فيلزمه أنه يدعو إلى الله سبحانه وتعالى لعل الناس يستجيبون له، وفي الحديث (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
فقوله في الحديث (مرجت العهود)، أي: اختلطت، وكذلك يكون معنى مرج في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، أي: جعلهما يختلطان أو يدخل هذا في ذاك، وهما كما وضعهما سبحانه: قال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، فالفرات: شديد الحلاوة أو شديد العذوبة، والأجاج: شديد الملوحة التي فيها مرارة، ثم قال سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، قال القرطبي في تفسير البرزخ: أي: حاجزاً من قدرته، فلا يغلب أحدهم على صاحبه، و (حجراً محجوراً) قال: أي: ستراً مستوراً يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، وأمر التقاء البحرين ووجود آخر لم يره الكثير من العرب وخاصة عند نزول هذه الآية، فمن البعد بمكان أن يذهب الناس إلى مصر لينظروا نهر النيل وهو يصب في البحر المتوسط مثلاً، أو غيره من الأنهار وهي تصب في البحار، ولكن الله سبحانه وتعالى يخبر عباده بهذه الآيات العظيمة العجيبة في مدلولها، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الفرقان:53]، ولم يذكر بحرين معهودين عند الناس كأن يقول مثلاً: البحر الفلاني والبحر الفلاني، بل الآية عامة في كل بحرين يلتقيان، وخصهما في هذه السورة فقال: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان:53]، وأطلق في سورة الرحمن فقال: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن:19 - 20]، فاحتمل البحر الملح والبحر العذب، واحتمل البحران المالحان.(117/5)
العلماء المتخصصون يؤكدون سبق القرآن
يقول العلماء المتخصصون في البحار: علم البحار لم يستقر كعلم حقيقي إلا في سنة ألف وثمانمائة وثلاثة وسبعين، أي: بعد اثني عشر قرناً من النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوها، يقول العلماء: في هذه السنة خرجت سفينة اسمها: (تشالنجر) وطافت حول البحار ثلاثة أعوام للدراسة، وكان هذا أول ما حدث في دراسات البحار فبدأت تدرس مياه البحار ومياه المحيطات ومياه الأنهار، ويدرس التقاء هذه بتلك والكائنات الموجودة هنا، والكائنات الموجودة هناك ودرجة الكثافة في مياه كل منها، ودرجة الملوحة ودرجة العذوبة، وما الذي يحدث إذا التقى البحر بالمحيط؟ أو التقى البحر ببحر آخر؟ أو التقى النهر بالبحر؟ وظلوا ثلاث سنوات يؤسسون علوم البحار.
وكان في هذه الباخرة أول هيئة علمية بينت أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، وأن البحار المالحة حين تلتقي لا تختلط مياهها، فماء البحر له خصائص معينة وماء المحيط لها خصائص أخرى، وإن كانا مالحين: فإن ملوحة الأول بدرجة معينة وملوحة الثاني بدرجة معينة، كما أن في البحر كائنات حية ليست موجودة في المحيط، وفي المحيط كائنات لا تعيش في البحر، كذلك الماء العذب مع الماء المالح، فإن لكل منهما كائنات حية وأسماك تعيش بداخله لا تستطيع أن تعيش في الآخر، والأعجب من ذلك أن البرزخ: وهو المنطقة التي يلتقي فيها ماء البحر مع ماء النهر، يقولون: كأن حاجزاً يحجز هذه المنطقة عن غيرها فلها كائنات حية تعيش فيها فقط فإذا خرجت منها إلى ماء النهر أو ماء البحر تموت، فإنها لا تعيش إلا في هذا البرزخ الذي قال عنه الله سبحانه: {وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53]، أي: مانعاً ممنوعاً فالداخل فيه ممنوع من الخروج منه؛ لأنه حين يخرج منه يموت.
يقول العلماء: بينت هذه الباخرة بعد الدراسات أن البحار المالحة تختلف في تركيب مياهها، ولقد أقاموا محطات ثم قاسوا النتائج من هذه المحطات ووجدوا أن البحار المالحة تختلف فيها الحرارة والكثافة، والأحياء المائية، وقابلية ذوبان الأكسجين، وفي سنة ألف وتسعمائة واثنين وأربعين، ظهرت لأول مرة نتيجة أبحاث طويلة جاءت بعد أن قامت مئات المحطات البحرية بدراسة البحار والمحيطات والأنهار، حيث وضع في كل محطة هيئة علمية مؤهلة للدراسة والبحث، وكان خلاصة هذه الأبحاث أنهم توصلوا إلى أن مياه البحار مختلفة عن بعضها فكل بحر له خصائصه التي يختلف بها عن المحيط، والمحيط له خصائصه التي يختلف بها عن منطقة التقاء البحر بالمحيط، وأنهما برغم اختلاطهما لا يغير واحد منهما الآخر.(117/6)
القرآن يشير إلى حقيقة يجهلها المفسرون
كما وجد العلماء مصداق قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:19 - 22]، فمن المعلوم عند العرب أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرج إلا من البحر المالح فقط، ولذلك كان المفسرون جميعهم عندما يتكلمون عن هذه الآية يقولون: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن:19]، أي: العذب والمالح، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، قالوا أي: من أحدهما الذي هو المالح فقط؛ لأن العرب لم يكونوا يعرفوا لؤلؤاً ومرجاناً يخرج إلا من البحر المالح فقط، لكن هذه الدراسات أثبتت أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من البحر العذب أيضاً، فقد وجدوا ذلك في نجلترا، واستراليا، وأمريكا، وهي أماكن بعيدة جداً عن العرب لا يعرفها النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ذكر القرآن في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن:22]، أن اللؤلؤ والمرجان يخرجان من كلا البحرين، فيخرجان من البحر الملح ومن البحر العذب، ولما كان المفسرون يعلمون ذلك فقد قالوا: يخرجان من البحر المالح فقط، وقالوا: إن الآية وإن جاءت على هيئة العموم في البحرين إلا أن المقصود بها الخصوص، ولكن العلماء الآن يقولون: بل يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحر العذب كما يخرج من المالح، وصدق الله العظيم حين يخبرنا بذلك قبل ألف وأربعمائة عام فيقول: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:19 - 21]، أي: بأي نعمة من نعم الله عز وجل تكذبون أيها الإنس! وأيها الجان؟! ثم يقول: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22]، وهنا في آية الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} [الفرقان:53]، فالبرزخ: المنطقة الحاجزة بين البحرين، وهي منطقة الالتقاء، والأعجب من ذلك وجود مياه جوفية عذبة تحت المحيط وتحت البحر، فإنها عندما تنفجر تلك المياه العذبة من تحت البحر يقوم أهل هذا المكان فيخرجوا من قلب مياه البحار مياه عذبة، وذكروا أن هناك حسبة يعرف بها مكان خروج المياه العذبة، كما ذكروا أيضاً: أنه برزخ مائي وفاصل مائي يفصل بين كل بحرين يلتقيان في مكان واحد سواء في محيط أو في بحر، وتمكنوا من معرفة هذا الفاصل وتحديد ماهية هذا الفاصل، وقالوا: إن هذه المياه العذبة التي تنفجر من داخل البحار أحياناً قد يحدد عمقها، إذ يحسبون ارتفاع البر عن البحر ثم يضربون المسافة الأولى في أربعين فينتج سمك هذه المياه، على أن هذه المياه تظل عذبة محتفظة بخصائصها وإن كانت خارجة من قلب البحر، ويستفاد من هذه المياه العذبة للشرب، (بينهما برزخ لا يبغيان)، فلا يطغى ماء البحر فيملح هذه المياه الجوفية، ولا هذه المياه تستطيع تغيير مياه البحر، وبذلك جعلها رحمة للعالمين.(117/7)
تفسير سورة الفرقان [53 - 57]
آيات الله الدالة على عظمته وقدرته وحكمته لا نهاية لها ولا حد، ففي البر آيات يعجز المرء عن حصرها، وفي البحر أكثر وأكثر، وليس الأمر كذلك فحسب؛ بل إن شاهد صدق النبي صلى الله عليه وسلم جلي لكل بصير، متفتق لكل عالم، فحديثه عن البحر بهذه الدقة التي عجز العلماء عن إدراكها في زمنهم يشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فعجباً لمن يعرف هذه الآيات ثم يعبد غير الله!(118/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:53 - 57].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن بديع خلقه سبحانه وتعالى وكمال قدرته سبحانه، فيقول: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:53] فذكر في هذه الآية أنه مرج البحرين، ((وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ))، والمرج بمعنى: اختلاط الشيء بالشيء الآخر، وهنا المقصد منه: إدخال هذا في ذاك من غير أن يختلط حقيقة، فماء البحر بما فيه من ملوحة، وماء النهر بما فيه من حلاوة وعذوبة لا يختلطان بحيث يطغى أحدهما بصفاته على الآخر؛ لأن الله جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً، وتقدم أن للفظ: مرج عدة معان، فهو يأتي بمعنى: أرسل، وبمعنى: خلّى سبيله، وبمعنى: خلط، والمراد منه هنا: أدخل النهر فصب في البحر وتميز الماءان كل منهما عن الآخر، بل وكذلك قد تخرج مياه جوفية من قلب البحر أو قلب المحيط وتظل محتفظة بخصائص المياه العذبة، ولا تختلط بماء البحر ولا بماء المحيط مع أنها تنبع من جوفها، وهذه آية عظيمة على قدرته سبحانه.
ومن آياته العظيمة ونعمه العميمة التي امتن بها على عباده في البحر ما ذكره سبحانه في سورة فاطر: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:12]، فجعل لنا من فضله سبحانه في هذه المياه عذبها ومالحها اللحم الطري، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماءه الحل ميتته)، فيأكل المرء مما خلق الله عز وجل في هذا البحر لحماً طرياً وليس ذلك فحسب، بل ويستخرج منه حلية يلبسها ويتزين بها، وذكرت الآية أن الحلي يستخرج من كليهما، ومعلوم أن العرب لم يكونوا يعرفون أن الحلية تستخرج إلا من البحر المالح فحسب، أما البحر العذب أو ماء النهر؛ فإنهم ما كانوا يعرفون أنه يستخرج منه لؤلؤ ومرجان وحلي، فجاء العلم بعد ذلك ليثبت للناس صدق ما قاله الله سبحانه، حين استخرجوا من مياه الأنهار اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من الحلي.
قوله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}، والبرزخ: هو المكان الذي يتوسط البحرين، ومنه مرحلة البرزخ في القبر؛ لأنها وسط بين الدنيا والآخرة، فالعباد لهم في الدنيا خصائص منها: أنهم أحياء روحاً وجسداً، وفي القبور مرحلة أخرى ينفصل فيها الجسد عن الروح حيث تذهب الروح إلى مستقرها إما في عليين وإما في سجين، وأما الجسد فهو في القبر، ويجعل الله عز وجل ما يأتي عليه من نعيم أو عذاب بما يشاء سبحانه، ثم تتبعها مرحلة ثالثة وهي مرحلة الدار الآخرة، وفيها ترجع الأرواح إلى الأجساد على هيئة أخرى غير التي كانت عليه في هذه الدنيا، إذ أنها في الدنيا كانت على الهيئة التي تفنى فيها، أما يوم القيامة فتكون على الهيئة التي تبقى، ولتخلد إما في الجنة وإما في النار، فكان القبر برزخاً أي وسطاً بين الدنيا والآخرة، وكذلك البرزخ الذي يتوسط البحر والنهر، فمع أن النهر يصب في البحر، إلا أن برزخاً يتوسط عند التقاء المائين يمنع من اختلاطهما، بل ويتميز عنهما بخصائص تجعله مخالفاً للبحر المالح والنهر العذب، كما تعيش فيه كائنات منفردة لا يمكنها العيش إلا فيه، قال تعالى: ((وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا)) [الفرقان:53]، والحجر بمعنى: المانع، ولذلك سمي العقل بالحجر؛ لأنه يمنع الإنسان من الخطأ والخطر والإثم والتعدي، وكما أن للإنسان حجر، فإن البرزخ كذلك، فيكون معنى: وحجراً محجوراً أي: مانعاً يحرم الدخول فيه والخروج منه إلا بإذن الله سبحانه وتعالى، فلا يختلط ماء البحر بحيث يغير ماء النهر الذي يصب فيه ولا العكس، فقد منع الله عز وجل بهذا البرزخ أن يختلط أحدهما بالآخر فيتغير ماء البحر أو ماء النهر، وعن الكائنات التي تعيش في المكان، يقول علماء البحار بعد دراسات دامت سنين طويلة: إن هذا البرزخ يمنع الكائنات التي في ماء البحر أن تدخل ماء النهر والعكس كذلك، كما أن في منطقة البرزخ نفسها كائنات كأنها محجور عليها في هذا المكان، فلا تخرج منه.(118/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشراً)
لما أرانا الله عز وجل بديع قدرته في المياه المالحة والعذبة والبرزخ الذي يتوسطهما وما فيه من كائنات، أرانا من بديع ما خلقه عز وجل في الإنسان، فقال معقباً بعد ذكر الماء الذي يعد أساس الكائنات، فهذه البحار مياه وهذه الأنهار مياه، وما فيها من كائنات مخلوقة من الماء، وكذلك الإنسان الذي يعيش على البر مخلوق من الماء.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان:54] خلق الله عز وجل الإنسان من ماء، وجعل أكثر ما يتركب منه الإنسان الماء، فقوله: (خلق من الماء) أي: من نطفة من ماء مهين، فجعل من هذه النطفة إنساناً، وجعل النسب، وجعل الصهر، والمراد بالنسب: هم من ينتسب إليهم الإنسان من أقربائه، فكأن النسب الأقرباء: الأب؛ الأم؛ الأخ؛ الأخت؛ الابن؛ البنت؛ الأحفاد؛ الأجداد؛ الأعمام؛ ومن الخطأ لغة وشرعاً ما نقوله عن الأنساب أنهم أقارب الزوجة، أو أقارب الزوج، والصحيح: أنهم الأصهار، والأصهار من المصاهرة، أي: كأنهم صهار، وكأن شيئين متباعدين اختلطا فانصهر أحدهما في الآخر، ومثله ما يقع في صهر المعادن، حيث يؤتى بمعدنين ثم يذابا ويخلط أحدهما بالآخر، ومنه يعلم أن الله عز وجل قد جعل النسب شيئاً والصهر شيئاً آخر، فخلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً.
يقول العلماء: إن الصهر يعني: الذي يحل نكاحهم، وأما النسب فيعني: الذين لا يحل نكاحهم، وقالوا أيضاً: اشتقاق الصهر من صهر الشيء بمعنى: خلطه، فالناس يتزوجون بينهم فيختلط الماءان من هذا ومن ذاك، ويأتي النسب بعد ذلك من الأبناء، حيث ينسبان إلى الأب وإلى الأم.
ويقال في أقارب الزوجة: أختان، ويقال في أقارب الزوج بالنسبة للزوجة: أحماء، مفردها: حمو، فيطلق الحمو على أخي الزوج وأبيه، وما يتبعهم من أقارب الزوج، والأختان والأحماء هم الأصهار، فيدخل تحت الأصهار الأحماء ويدخل تحتها الأختان، وبذلك يُعلم أن الله عز وجل خلق الإنسان وجعل له النسب وجعل له المصاهرة، وذكر الله عز وجل المحرمات من النسب والمصاهرة والرضاعة في سورة النساء فقال: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22]، ثم ذكر المحرمات من النسب فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء:23]، فذكر سبعاً من النسب، ثم قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، فذكر اثنين من الرضاعة، إذ هما ملحقان بالنسب، ثم ذكر بعد ذلك المصاهرة فقال: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ * وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء:22 - 23]، وذكر قبل ذلك: {وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]، فذكر من المحرمات بالمصاهرة أصنافاً أربعة.
فقد جعل الله عز وجل الإنسان آية من آياته سبحانه وتعالى حيث خلقه من ماء مهين، فجعل النطفة من الرجل، وجعل من المرأة ما يتم خلق الإنسان به، وهي البويضة، ثم جعل الله عز وجل النسب والصهر من ذلك، وهذا من كمال قدرته وحكمته سبحانه، قال سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} فعبر بكان التي تفيد المضي، ولكن في هذا الموضع تفيد: الماضي، والحاضر، والاستقبال، وهي الأداة الوحيدة التي تدل على ذلك في مثل هذا المعنى، ولذلك كثيراً ما يسند الله عز وجل صفاته إلى الفعل كان، كقوله سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]، وكان من الأزل، وهو الآن كذلك، ولا يزال كذلك إلى الأبد سبحانه، وبذلك عُلم أن كلمة كان هنا لا تفيد الماضي فقط، ولكن تفيد الاستمرارية من الماضي إلى الأمد البعيد وإلى ما لا نهاية، فقوله: (كان الله خبيراً بصيراً)، وقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان:54]، يدلان على أنه قادر على كل شيء، ولم يزل كذلك ولا يزال كذلك، فالله قادر على أن يخلقَ وعلى أن يرزق، وعلى كل شيء سبحانه وتعالى.(118/3)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم)
لما ذكر الله الآيات التي تدل على قدرته في خلقه سبحانه، وبين كيف يخلق لنا أشياء في غاية الكمال والجمال والإبداع، أخذ يذكر أن الإنسان وبالرغم مما يرى من آيات الله الباهرة يكفر ويعبد غير الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55]، فقوله: (ويعبدون من دون الله) أي: أن كل ما سوى الله فهو دون، فكل من يعبد من دون الله أو من الذين هم غير الله سبحانه وتعالى لا ينفعون ولا يضرون لا أنفسهم ولا غيرهم، قال تعالى: {مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ} [الفرقان:55]، وفي هذا الموضع قدم النفع على الضر وفي غيره من المواضع يقدم الضر على النفع، وهم لا يملكون لا هذا ولا ذاك، إذ الإنسان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، إلا أن يشاء الله سبحانه فيقدره على ذلك، وفي قوله: (مالا ينفعهم ولا يضرهم) تعريض أنهم يعبدون أصناماً وأوثاناً لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ثم قال: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، أي: أن الكافر يعين غيره من الكفار على هدم دين الله سبحانه وتعالى، والمظاهرة بمعنى: التقوية، والمعنى: يقوي الكافر غيره من الكفار على عصيان الله سبحانه وتعالى، ومن يظاهر على المعصية يظاهر على هدم دين الله سبحانه، ويقوي الشيطان فيما هو فيه من عناد واستكبار ويعينه على المسلمين، قال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الكافر هنا: أبو جهل لعنه الله، والمعنى: أن أبا جهل كان يستظهر بعبادة الأوثان على أولياء الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية وإن كان سبب نزولها هو أبو جهل، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن الله عز وجل قال: (وكان الكافر)، فاللام في لفظ الكافر للجنس وهي من ألفاظ العموم، ولذا فكل كافر على ذلك، فهو لا يحب المسلم ولن يرضى عنه حتى يدخل المسلم في دين هذا الكافر، فتلك إعانته الكفار والشيطان على أولياء الله عز وجل.
قوله: ((عَلَى رَبِّهِ))، أي: على الله عز وجل، والمعنى: يظاهر على هدم دينه سبحانه وتعالى، وقيل: بل الكافر هو إبليس، ولكن العبرة بالعموم، فعموم الكفار يعين بعضهم بعضاً على هدم دين الله سبحانه.
يقول الحسن في معنى (ظهيراً) أي: معيناً للشيطان على المعاصي من المظاهرة وهي: التقوية والإعانة.
هذا معنى من المعاني، والمعنى الآخر لقوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} [الفرقان:55]، أن الظهير مأخوذ من الظهر، نقول: ألقيت الشيء ورائي ظهرية، أي: لم ألتفت إليه، ومعنى: (على ربه) أي: عند ربه، والمعنى: كان مقام الكافر عند ربه مقام الذل والمهانة لا قيمة له، ولذلك يلقيه الله في نار جهنم وأمثاله، ويذكر عنهم أنه يجعلهم كالمنفيين في نارهم، قال سبحانه: {فَالْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، وليس المعنى أن الله ينسى، فالله لا ينسى شيئاً سبحانه، وقوله: ((نَنسَاكُمْ)) بمعنى: نعاملكم معاملة المنسيين فنقذفكم في نار جهنم كالمنفيين، فأنتم مطرودون من رحمة الله لا نأبه بكم، وقد ذكر الله في آيات أخر أنهم يصرخون وينادون فلا يغاثون ولا يجيبهم ربهم سبحانه، ومثل النسيان ما دل من الآيات على أن الله لا ينظر، والمعنى: لا ينظر إليهم بنظر رحمة سبحانه وتعالى، إذ الله يبصر كل شيء ويرى كل شيء سبحانه.
والقول الثالث في معنى قوله تعالى: ((وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا)) قالوا: بمعنى مظهور، أي: أن كفر الكافرين هين على الله سبحانه وتعالى، فالله لا يأبه بكفرهم شيئاً، فهو الغني سبحانه وهو القدير، فلا يضرون ربهم شيئاً وإنما يضرون أنفسهم.(118/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً)
أخبر الله نبيه بمهمته الذي كلف بها فقال له صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان:56]، أي: وظيفتك يا محمد! البشارة والنذارة فحسب، ومثله قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران:144]، فوظيفة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا أنه رسول رب العالمين عليه الصلاة والسلام، والرسول: هو صاحب الرسالة أو موصلها، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاءته رسالة من عند رب العالمين ليوصلها إلى الخلق، فأداها بأمانة صلوات الله وسلامه عليه كما أمره ربه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، أي: أنك إن تهاونت في شيء من رسالة الله عز وجل، فكأنك تهاونت بالجميع ولم تبلغ هذه الرسالة، وقد بلغ رسالة ربه سبحانه وأشهد الناس على ذلك وقال لهم: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم! قال: اللهم فاشهد)، فأشهد ربه سبحانه أنه بلغ الخلق هذه الرسالة التي مقتضاها تبشير من يطيع الله سبحانه وتعالى بالجنة، وبذلك سمي مبشراً عليه الصلاة والسلام، وهو منذر يخبرهم ويتوعدهم بالنار إذا عصوا ربهم سبحانه، فمعنى الآية: وما أرسلناك إلا مبشراً للمؤمنين ومنذراً للكافرين والعصاة.(118/5)
تفسير قوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر)
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57]، ينفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجرة على تبليغ هذه الرسالة صلوات الله وسلامه عليه، فهو مبلغ لرسالة ربه سبحانه، ورزقه على ربه سبحانه وتعالى، وقوله: ((مِنْ أَجْرٍ))، نفي أن يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من الأجر مهما كان يسيراً، ((إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا))، وهذا استثناء منقطع، أي: غير متعلق بما قبله، فالمعنى: ما أسألكم عليه من أجر، ولكن الذي أطلبه منكم أن تطيعوا الله سبحانه وتعالى، وأن تتخذوا إليه السبيل باتباع هذا الدين.
وقوله في الآية الأخرى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، استثناء منقطع أيضاً، والمعنى: لا أطلب شيئاً من أموالكم ولكن الذي أطلبه منكم أن تراعوا قرابتي، فأنتم الأقربون، فبدلاً من أن تعينونني على هذه الدعوة تعادونني؟! فغاية ما أطلب منكم أن تراعوا ما بيني وبينكم من المودة فتتركونني أبلغ رسالة ربي سبحانه ولا أطلب أموالكم، وقد عرضوا عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يعطوه من الأموال ما يشاء، أو يملكوه عليهم، أو يزوجوه خير نسائهم، فأبى إلا أن يراعوا قرابته وأن يطيعوا الله سبحانه وتعالى، فإن لم يفعلوا فليكفوا شرهم عنه حتى يبلغ دين ربه، وبلغ صلوات الله وسلامه عليه دين الله سبحانه حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً.(118/6)
تفسير سورة الفرقان [60 - 61]
آيات الله الكونية كثيرة، وكلها تدعو لعبادته والسجود له سبحانه، ومن هذه الآيات: النجوم التي في السماء والشمس والقمر، ومنها: اختلاف الليل والنهار، وقد جعلها الله خلفة لمن أراد أن يتذكر فيهما ويشكر الله في أوقاتهما.(119/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:60 - 62].
في هذه الآيات من سورة الفرقان يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى عن كفر المشركين وتعنتهم مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد علموا أنه رسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكن دفعتهم العصبية والجاهلية إلى أن يعاندوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستجيبوا له، يقول الله عز وجل عن هؤلاء أنهم إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، اسجدوا لله سبحانه، والرحمن: اسم من أسمائه سبحانه وتعالى، أي: ذو الرحمة العظيمة الواسعة سبحانه وتعالى، والرحمن والرحيم صفتان على وزن المبالغة، فالرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، فالرحمن ذو الرحمة بجميع خلقه المؤمنين والكافرين، فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فمن رحمته أن أنزل الكتب لهداية الخلق جميعهم، وأرسل الرسل لهداية الناس إلى دين رب العالمين، فهو الرحمن سبحانه، ورحمته واسعة عظيمة، يرزق المؤمن ويرزق الكافر، يعطي هذا ويعطي ذاك سبحانه وتعالى، والرحيم ذو الرحمة العظيمة المختصة بالمؤمنين، ولذلك يقول: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فهو رحمن رحيم.
فإذا قيل لهؤلاء الكافرين: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60]، يعني: أي شيء هذا؟ {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، يعني: هل نعمل بما تأمرنا به؟ ويتعنتون معه صلوات الله وسلامه عليه، ويتهمونه بأنه ينهاهم عن الشرك وأنه يقع فيه بحجج غبية تليق بأمثال هؤلاء الذين وصفهم الله بقوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، فيقولون: يأمرنا بالتوحيد وينهانا أن نشرك وهو يقول: الله الرحمن، فهو يشرك وينهانا عن الشرك! وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يقع في الشرك، ولكن غباء المشركين يدفعهم لهذا القول، مع أن الرجل منهم له اسم، وله كنية، وله لقب، ولم يقولوا: إنه ثلاثة بل هو واحد عندهم، فما الذي جعل ذلك واحداً عندهم وفهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم يشرك بالله سبحانه؟! فالله سبحانه الواحد، وهذه أسماؤه وصفاته سبحانه وتعالى لا شريك له.
فإذا قيل لهؤلاء الكفرة: {اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان:60]، أبوا ورفضوا وعاندوا وقالوا: {وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، يخاطبونه صلى الله عليه وسلم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي: (أنسجد لما يأمرنا) بالغيب، وكأنهم يخاطبون بعضهم بعضاً: هل ننفذ ما يأمرنا به هذا الرجل ونسجد لما يأمرنا؟ ثم يكذبون ويقولون: إنه يعلمه رجل في اليمامة اسمه الرحمن! فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويكذبون على الله سبحانه، قال الله سبحانه: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] يعني: لا يعتقدون أنك كذاب في أنفسهم، وهم الذين لقبوه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، ولكنهم يجحدون بآيات الله، والجحد أن يجحد الإنسان الشيء وينكره وهو يعلم وجوده، فهذا جاحد، وهو أشد من الكاذب.
يقول الله سبحانه: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، يعني: زادهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأن يسجدوا لله سبحانه، وأن يطيعوا، وأن يخضعوا، وأن يصلوا لله ويسجدوا؛ زادهم هذا الأمر نفوراً وابتعاداً عن طاعة الله سبحانه وتعالى، وبعداً عن الدين.(119/2)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً)
قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61].
فقوله: {تَبَارَكَ} [الفرقان:61]، أي: كثرت بركته، وكثر خيره، وتمجد وتعالى سبحانه، {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، يعني: جعل في السماء النجوم والكواكب والمجرات، وفيها خلق لله سبحانه أعظم من هذا الإنسان الضعيف، وهذه الكائنات التي خلقها الله سبحانه تسجد له، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فتبارك الله سبحانه الذي جعل في السماء بروجاً وهي منازل النجوم، ومنازل الكواكب.
{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61]، وهي الشمس، {وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، وهذه قراءة الجمهور: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} [الفرقان:61] على التوحيد ومعناها: الشمس، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (وجعل فيها سُرُجاً وقمراً منيراً) فليست شمساً واحدة ولكن شموس، ولكنكم لا ترون كل هذه الشموس التي خلقها الله عز وجل، فالله جعل شموساً وجعل أقماراً، وجعل مجرات فيها كواكب ونجوم وشموس، وجعل فيها ما يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل هذه الأشياء تسجد له، وتطيعه ولا تعصي الله أبداً، ولكن المشرك ينفر من طاعة الله سبحانه، ويأبى ويرفض! هذا الكون كله يطيع ربنا سبحانه، فلما ذكر الله أن الكافر أعرض ونفر وبعد عن الطاعة؛ ذكر أن الشمس والقمر والبروج كلها تطيع رب العالمين سبحانه وتعالى، فتبارك الله الذي جعل خلقه يطيعونه كما يشاء سبحانه، وإذا أبى الإنسان فقد قال لنا ربنا سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، يعني: الكثير يدخلون في دين الله عز وجل، وكثيرون آخرون لا يدخلون في دين الله ويعصون ربهم سبحانه، فالمؤمنون أطاعوا الله مع باقي خلق الله سبحانه، فصار الكون موافقاً في طاعة الله سبحانه، والمؤمن مع هذا الكون المطيع، فانظر المؤمن يسجد لله، والشمس والقمر والجبال والنجوم والبحار والأشجار كل شيء يسجد لله سبحانه ويطيعه وينفذ أمره سبحانه وتعالى.
قال: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، والبرج هو: المنزل الذي ينزل فيه القمر، وتنزل الشمس في هذه المنزلة في كل ثلاثة عشر يوماً، فهذه منازل الشمس ومنازل القمر.
قال: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، وصف القمر بأنه منير، وما قال: وقمراً مضيئاً، وفرق بين الإنارة والإضاءة: فالإضاءة تحتاج إلى إشعال وفيها احتراق، وفيها نار، أما الإنارة فلا تحتاج إلى ذلك، فالشمس تضيء والقمر ينير، فالقمر مظلم ولكن ضوء الشمس ينير الأرض ويضيء القمر؛ ولذلك قال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء:12]، فالله جعل الليل آية، وجعل النهار آية، وجعل آية النهار الشمس ترونها، وجعل آية الليل القمر، قال: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12]، يعني محا من القمر نوره، وعلماء الفلك يقولون: كان القمر يوماً من الأيام مشتعلاً متوهجاً كالشمس، قالوا ذلك الآن، وقالها قبلهم ابن عباس قبل ألف وأربعمائة سنة، قال ذلك مفسراً هذه الآية يقول: كان القمر مضيئاً كالشمس فمحا الله عز وجل النور الذي كان فيه، قال الله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12]، بينة مضيئة يراها كل ذي عينين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر آيتان من آيات الله سبحانه وتعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)، فهما يسجدان لله سبحانه، ويطيعان الله سبحانه وتعالى، فالشمس والقمر والمجرة وأصغر الأشياء وأكبر الأشياء وكل المخلوقات تطيع ربها سبحانه، والإنسان الكافر يطيع الله إذا أجبره الله سبحانه وتعالى بقضائه وقدره، وإذا جاء الاختيار فكثيرون يطيعون، وكثيرون يعصون الله سبحانه، ولن يفروا من قضائه وقدره سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله طاعة الشمس والقمر بعد ذكر نفور هؤلاء ليبين طاعة الكائنات لله سبحانه، فكل شيء في الكون يطيع ربه ويصرفه كما يشاء، والذي ينظر في آيات الله سبحانه وتعالى وفي علم الفلك وما يذكره العلماء في ذلك يعلم أن منظومة الكون كلها على نظام وقانون سنه الله عز وجل لها لا تشذ عنه أبداً، ويوافقها في ذلك المؤمنون فقط، فالمؤمن يطيع الله عز وجل ويسجد لله سبحانه وتعالى مختاراً طائعاً مريداً لذلك، والشمس والقمر والنجوم والأفلاك وكل شيء يجري لمستقر له إلى قضائه وقدره الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، وتجد الأرض تدور ولا تخرج عن مدارها أبداً، ولا تغير اتجاهها أبداً، وتدور من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، والشمس كذلك تجري، والأرض تدور على الشمس بهذه الطريقة عكس عقارب الساعة، والمجموعة الشمسية كلها تدور حول نفسها وحول المجرة بنفس هذه الطريقة، والمجرة نفسها تدور في الكون بنفس هذه الطريقة، منظومة عجيبة جداً! كل الكون من أكبر شيء إلى أصغر شيء حتى الذرة الصغيرة لها نواة حولها الإلكترونات تدور حولها عكس عقارب الساعة من الشمال إلى اليمين، مثل المجرة تدور بهذه الطريقة من الشمال إلى اليمين عكس عقارب الساعة، ويوافقهم في هذا الدوران المسلمون وهم يطوفون حول الكعبة، فهم يدورون عكس عقارب الساعة! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(119/3)
تفسير سورة الفرقان [61 - 63]
من عجيب أمر القرآن أنه دائماً يلفت المسلم إلى النظر في الكون، والتأمل فيه، واستلهام عظمة الله فيه، والعبد حين يفعل ذلك لا يملك إلا التسليم والخضوع، والسير على هدى رب العالمين، متصفاً بجميل الخلال ومحاسن العادات.(120/1)
تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي جعل في السماء بروجاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:61 - 63].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن كمال قدرته وعظيم شأنه فيقول سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، فبعد أن ذكر أن الكفار إذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن، أبوا ونفروا وازدادوا نفوراً وبعداً عن طاعة الله سبحانه، قال سبحانه عن ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، فالله سبحانه وتعالى هو العلي المتعالي العظيم الذي خيره عظيم جليل، ومعنى: تبارك، أي: كثرة بركته وكثر خيره سبحانه وتعالى، فقوله: {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، البروج: منازل الشمس ومنازل القمر، وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان:61]، سراجاً أي: شمساً.(120/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة)
قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، إن من آيات الله سبحانه أن جعل الليل لباساً، والنوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، فجعل الليل ساتراً للعباد، وجعله وقتاً للنوم يستريحون فيه، وجعله مع النهار خلفة، أي: يخلف أحدهم الآخر، فيذهب الليل ويأتي النهار، ويذهب النهار ويأتي الليل، قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62]، أي: لمن أراد أن يتذكر، وفي قوله سبحانه: {خِلْفَةً} [الفرقان:62] معان: أحدها: يخلف أحدهما الآخر، والثاني: يخالف أحدهما الآخر، فالليل مظلم، والنهار مضيء، والليل يطول، والنهار يقصر، والليل يقصر، والنهار يطول، فأحدهما يختلف مع الآخر زيادة ونقصان، ويتعاقبان دواليك ليلاً فنهاراً وهكذا، وهذه آية من آيات الله سبحانه وتعالى، وحركة الليل والنهار ناتجة عن حركة الأرض التي تدور حول نفسها، فالسطح المقابل للشمس يكون منيراً، وغير المقابل للشمس يكون مظلماً، ولا يزال دوران الأرض حتى يأتي أمر الله سبحانه وتعالى، والأرض كذلك تدور حول الشمس في مسار قدره الله سبحانه وتعالى، وقد تقدم أن كل شيء يتحرك ويدور يحركه الله عز وجل في مسار وبكتاب، فكل شيء عنده بحسبان سبحانه وتعالى، وكل شيء عنده بمقدار.
وفي قوله سبحانه: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ} [الفرقان:62] قراءات، فهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة وخلف ((لمن أراد أن يتذكر))، فيذكر من الذكر، وهو خلاف النسيان، أما التذكر، فهو من العظة، فالإنسان حين يرى ذلك يذكر الله سبحانه وتعالى ويتعظ بهذه الآيات.
وتخالف الليل والنهار كما أنه آية من آياته الباهرة فهو كذلك نعمة من نعمه الغامرة، إذ بدون تخالفهما تستحيل الحياة، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72]، فلو شاء الله لجعل الأرض ثابتة في مكانها لا تدور حول نفسها، فيظل السطح المقابل للشمس مضيئاً على الدوام، ويظل السطح المخالف لها مظلماً على الدوام، ولكن الله قلب الليل والنهار ليريكم قدرته وآياته سبحانه، فالله سبحانه وتعالى جعل لهذا الكون قوانين بحكمة وقدرة منه، منها: أنك تستطيع أن تعيش فوق هذه الأرض الدائرة الجارية المتحركة وأنت لا تشعر بحركتها، بل أنت فوق الأرض تشعر بحركة النجوم وتشعر بحركة الشمس، وتشعر بحركة القمر ولا تشعر بحركة الأرض التي أنت فوقها، كل ذلك جعله الله عز وجل لمن أراد أن يذكر فيتعظ ويعتبر، فما عليه إلا أن ينظر في الكون حوله، ويتأمل في كيفية خلق الله سبحانه له، وكيف أن الله أعطى كل شيء قدره.
قوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62]، أي: من أراد أن يتعظ وأراد أن يشكر الله سبحانه وتعالى فليتأمل في الآيات، فإنه كلما تأمل آية من آيات الله كلما ازداد شكراً لله وحمداً له على آلائه ونعمه سبحانه، وإجمال ما تقدم: أن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، فيتذكر نعم الله سبحانه، ويتعظ فيحمد ويديم شكره، فإن فاتك عمل بالليل أدركته بالنهار، وإن فاتك بالنهار أدركته بالليل، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر، إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة)، وهذا من رحمة الله سبحانه بعباده ونعمته عليهم.
جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس والحسن أن تفسير قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان:62]، أي: يخلف هذا ذاك وذاك هذا، فيخلف الليل النهار والنهار الليل، فمن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته شيء بالنهار استدركه بالليل، ويحتجون بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الدال على أن الذي له قدر من الليل يقومه، ففاته ونام ولم يقم من الليل فأدرك بالنهار في وقت الضحى لله عز وجل فصلى ما فاته أجزأه عن الليل.
وجاء في صحيح مسلم أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل)، وفي الحديث: حث على استدراك النوافل، فمن فاته شيء بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته عمل بالنهار من أعمال كان يعملها، كصلاة كان يداوم عليها أو غيرها من الطاعات، أدرك بالليل ما فاته من تطوع النهار.(120/3)
تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
يذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك صفات عباد الرحمن فيقول: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، قوله: عباد الرحمن: الرحمن اسم من أسمائه وصفة عظيمة من صفاته سبحانه وتعالى، وهو من الأسماء العظيمة التي تمتلئ بالرحمة، لما فيه من المبالغة في رحمة رب العالمين بعباده، وقد أضاف لفظ العباد إلى اسمه فسماهم: عباد الرحمن، فهم عباد له سبحانه، ولكن وصفهم بهذا الوصف العظيم الجليل يدل على أنهم قريبون من رحمة رب العالمين سبحانه، وأنهم مستحقون للرحمة، وعباد الرحمن لهم صفات يتميزون بها عن غيرهم، فهم ليسوا كالكفار حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن فنفروا، قال الله عن ذلك: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان:60]، بل هم مؤمنون عرفوا الرحمن وأحبوا ربهم سبحانه وتعالى فتقربوا إليه رجاء رحمته، فكانوا على هذه الأخلاق التي يذكرها الله عز وجل في هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة.(120/4)
عباد الرحمن يتشرفون بعبوديتهم لله سبحانه
بعد أن ذكر جهالات المشركين، وطعنهم في القرآن، وطعنهم في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، عقب بذكر عباده المؤمنين فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، فأول صفة من صفات عباد الرحمن: أنهم عباد لله سبحانه وتعالى، شرفهم بمقام العبودية، حين حرم غيرهم منه فأصبحوا من الدنائة أضل من الأنعام، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179]، فحين عبد الله أقوام وتقربوا إليه فاستحقوا أن ينسبوا إليه، نجد من خرج عن طاعته وعن عبادته فما استحق أن يكون متصفاً بعبوديته لله؛ لأنه صار عبداً لهواه وشيطانه، واستحق أن يوصف أنه كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.(120/5)
عباد الرحمن يتواضعون لغيرهم
ومن صفات عباد الرحمن: أنهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، والمشي هنا متضمن لمعنى المعيشة، أي: أن هؤلاء يعيشون فوق الأرض في سلام وتؤده وطمأنينة، فسيرهم في تواضع لله سبحانه وتعالى وتواضع للخلق، فقوله: {يَمْشُونَ} [الفرقان:63]، عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم على الأرض، كما يتضمن انتقالهم من مكان إلى مكان، فإنهم حين ينتقلون ينتقلون وفيهم هذا الخلق العظيم.
قوله: (هوناً)، الهون: مصدر من هان، تقول: هان الشيء يهون، فيمشي هيناً، والمعنى: هانت عليه نفسه؛ لأنه عبد لله سبحانه وتعالى، وما دام عبداً فعلى أي شيء يستكبر فوق الأرض؟! بل حياته في سكينة ووقار، فعباد الرحمن يمشون على الأرض حلماء متواضعين، يمشون في اقتصاد، وتؤدة، وطمأنينة، وحسن سمتٍ، قدوتهم في ذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وليس المعنى: أن المشي يكون بتمهل، إذ صفة المشي ليست داخلة في هذا الشيء، وقد تكون داخلة فيه ولكن ليست الأصل؛ لأن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك، فقد ثبت عنه أنه كان يمشي في قوة صلوات الله وسلامه عليه، وكان يمشي كأنما يتقلع، يعني: يرفع رجله ويضعها في قوة صلى الله عليه وسلم، وكان يسرع في المشي عليه الصلاة والسلام خلقة لا تكلفاً، أي: لم يكن يتكلف الإسراع من أجل أن يتعب من حوله ولكن خلقة.
يقولون: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا زال زال تقلعاً ويخطو تكفؤاً، والتكفؤ: هو الإسراع، وكأنه يندفع إلى الأمام صلوات الله وسلامه عليه، قال: ويمشي هوناً، أي: ليس في مشيته صفة الكبر، أو التعاظم على الخلق، ولكن يمشي في تؤدة صلوات الله وسلامه عليه، فالتؤدة والطمأنينة لا تنافي الإسراع في المشي، ثم قال: ذريع المشية: أي أن خطوته صلى الله عليه وسلم واسعة، فهو لا يمشي مشية الشيخ الكبير الضعيف، ولكن مشيته مشية القوي صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: كأنما ينحط من صبب، أي: أن مشية النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، كمشية النازل من فوق جبل، أو من مكان عالٍ.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان يسرع في المشي جبلاً لا تكلفاً أيضاً.
وهناك فرق بين إنسان طريقته في المشي الإسراع حين يقضي حوائجه، وبين إنسان يتكلف ذلك، إذ الناظر إلى من يتكلف الإسراع يراه كأنه يجري جرياً، والجري يدل على أنه تكلف لا خلقة، وقد كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي هيئة فيها سكون وطمأنينة مع إسراع في قضاء حوائجه صلوات الله وسلامه عليه.
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]: إنما يمشي هوناً العالم بالله سبحانه، الخائف منه سبحانه، العارف بأحكامه، يخشى عذابه وعقوبته.(120/6)
عباد الرحمن لا يردون السيئة بالسيئة
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، الصفة الثانية من صفات عباد الله: أنهم إذا خاطبهم الجاهلون، والجاهل: هو الإنسان الشرس، السيئ الخلق، المتعجرف، المتكبر، إذا خاطب هذا الجاهل المؤمن فإنه يقول: سلاماً، أي: يقول قولاً يستدعي المتاركة، وقيل: معنى سلاماً: كما قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، أي: لن نعاملكم بما تقولون.
وليس معنى ذلك: أن المؤمن يكون ضعيفاً، يفعل به الناس ما يشاءون، ويستهزئون منه وهو يتركهم، ولكن المعنى: أن فيه قوة، فإذا ترك خصمه فإنما يتركه وهو قادر عليه، وليس لكونه مستضعفاً.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير) فالإنسان المؤمن يتنازل لغيره، ولكن عن قوة وقدرة، وليس ضعفاً وقلة حيلة، بل خوفه من الله سبحانه وتعالى يجعله لا يبتدئ بالمصاخبة، وإذا بدئ بها فهو يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
قال بعض أهل العلم في تفسير قوله: {سَلامًا} [الفرقان:63]: إن سلاماً من التسلم، أي: تسلماً منك، نبرأ من فعلك ولا نفعل بك ما تفعل بنا، فنحن لا نسخط، ولا نجهل، ولا نسب، ولا نشتم، ونتقي الله عز وجل في كل مسلم، فهو مؤمن قوي، ولكن مع ذلك لا يبدأ بالعدوان، ويدفع بالتي هي أحسن، وكم من إنسان يدفع بالحسنى، فليقي الله عز وجل في قلب خصمه الحب له، قال الله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].(120/7)
تفسير سورة الفرقان [63 - 67]
أخبرنا الله عز وجل في كتابه عن صفات عباده وأوليائه في العديد من سور القرآن الكريم، من أجل أن يتخلق بها المسلم الحق، ويطبقها واقعاً في حياته؛ إذ إن الدين ليس شعاراً وكلمات تقال باللسان فقط، بل لابد أن يصحبه العمل، فليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وقد أخبر الله عز وجل أن المتصف بهذه الصفات هم عباد الرحمن، أي: هذه هي صفاتهم لمن أراد أن يكون منهم.(121/1)
تفسير تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:63 - 67].
في هذه الآيات من آخر سورة الفرقان يخبرنا الله عز وجل عن عباد من عباده ذوي صفات عظيمة جميلة اختصهم الله عز وجل بها، ووصفهم بأنهم عباد الرحمن، والرحمن من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، وهو اسم عظيم فيه الرحمة العظيمة، قال سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63]، والإنسان الهين يعني: السهل الذي فيه سكينة ووقار، فهم يمشون على الأرض مشية هينة، وفيهم تواضع وإخبات لله سبحانه وتعالى، فلا يستكبرون على الخلق، وليس المعنى أنها: مشية بطيئة، ولكن المعنى: أنهم يمشون ولا يضربون بأرجلهم، ولا يغترون ويحركون أذرعاتهم، ويقولون: نحن أقوياء وأعلى من غيرنا، ولكنهم يمشون بوقار وسكينة، وهذا لا يمنع من أن يمشوا بسرعة في حاجاتهم، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيخبرنا الله سبحانه: أن من صفاتهم: أنهم حلماء متواضعون، وأن فيهم اقتصاداً وتؤدة وسكينة، قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وليس معنى الجاهل: أنه الذي لا يعرف القراءة والكتابة، فهذا أمي، ولكن المقصود به هنا: الجاهل في خلقه، فقد يكون متعلماً إلا أن في أخلاقه نفوراً وشراسة وقسوة، وقد يكون فيه غضب، وإذا غضب لا يفهم ولا يعي ما يقول، فهؤلاء أهل الشراسة والنفور والصياح والجلبة والصخب إذا خاطبوا عباد الرحمن بصورة غير طيبة كان ردهم عليهم رداً طيباً، كما قال تعالى: {سَلامًا} [الفرقان:63]، يعني: موادعة ومتاركة وليس بيننا وبينكم شيء، ولكن نبتعد عنكم ونترككم فيما أنتم فيه، أو قالوا: سلاماً، أي: تسليم متاركة، يعني: سلام عليكم، كونوا في حالكم ونكون نحن في حالنا، مع أنهم أقوياء وهم لا يدفعون السيئة بالسيئة، ولكن يدفعون بالحسنة السيئة، ويرجون الخير ممن يدعونه إلى الله سبحانه وتعالى من الله وحده، فهم حلماء في دعوتهم إلى الله، وهم أقوياء لا يستذلهم أهل الفساد، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كما أمر الله سبحانه بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
والإنسان القوي يقدر على الانتقام من خصمه ولكنه يتواضع لله سبحانه وتعالى، ويحلم ويصبر، ولكنه لا يهين دين الله أبداً، فإذا وجد من يهينه أمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وغير هذا المنكر بما استطاع من تغيير، وأما في نفسه فإذا تعرض له إنسان أو شتمه فإنه يحلم ما لم يتعرض لدين الله سبحانه وتعالى، فإذا تعرض لدين الله فإنه يغضب لله ويدافع عن دين الله، وفي أثناء دعوته للناس إلى دين الله قد يجد منهم غلظة وقسوة في الجواب، فيصبر على ذلك، ويدعوه مرة وثانية لعله يستجيب له، فإذا لم يجد فائدة قال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55]، أي: ليس بيننا وبينكم إلا أمر الله سبحانه وتعالى يحكم بيننا، وهو في تواضعه لا يذل نفسه؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه قالوا: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق).
أي: أن الإنسان يعز نفسه، ولا يعرض نفسه للذل، ولا يتعرض لبلاء لا يطيق دفعه، ولكنه يدافع عن دين الله، ويدعو الناس إلى الخير ويصبر، وليس بمجرد أن يسيء إليه إنسان يرد الإساءة بالإساءة، ولكنه يصبر ويحلم ويدفع بالتي هي أحسن، فإذا لم يجد بداً من المتاركة تاركه، قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
فإذا تعرض لدين الله سبحانه بالإساءة، فإنه يدفع ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بما أمر به ربنا وبما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).(121/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)
ومن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، والمبيت: قضاء الليل سواء كان الإنسان نائماً أو يقظان، كما نقول: بت البارحة سهران، فهؤلاء يبيتون أي: يمضي عليهم الليل وهم قائمون لله عز وجل، فيقضون ليلهم بين القيام والسجود، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
وليس المعنى: أنهم يصلون الليل كله ولا ينامون فيه، فإن هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا على الندرة، ولم يمض الليل كله قائماً صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً، ولكنه كان يقوم كثيراً من الليل، كما أمره الله عز وجل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:2 - 4].
أي: نصف الليل، أو أقل من نصفه، أو أكثر قليلاً من نصفه، ثم قال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4].
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يصلي لله سبحانه، فيقوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه)، أي: أنه كان يقسم الليل بين قيام ونوم؛ حتى يفهم ما يقول، وحتى يواظب على ذلك، فإن أحب العمل إلى الله عز وجل أدومه وإن قل، فالمؤمن يواظب على قيام الليل، فيصلي بالليل ولو ركعتين، أو يصلي أكثر من ذلك، فيصلي كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، بحسب ما ييسر الله عز وجل له من ذلك.
فعباد الرحمن لا يصلون ليلة واحدة فقط، ولا يقومون الليل في رمضان فقط ويتركونه في غير ذلك، بل قد مدحهم الله عز وجل بالمداومة على ذلك، وبين أنهم {يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ} [الفرقان:64]، يعني: كل ليلة، فهذا دابهم وعادتهم، إلا ما شاء الله سبحانه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، أي: يراوحون بين ذلك فإنهم يقومون قياماً طويلاً، ثم يركعون ركوعاً طويلاً، ثم يسجدون سجوداً طويلاً، فالليل راحتهم، وقيام الليل جنتهم، فيقومونه لله سبحانه، ويستعينون به على طاعته سبحانه، ولذلك مدحهم الله عز وجل، وأخبر عن قيام الليل بقوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
والناشئة: القيام، يعني: فإذا كنت نائماً مستريحاً ثم قمت لتصلي فإن هذا القيام يكون فيه فهم وتدبر لمعاني آيات كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أن ما تقوله بلسانك أشد مواطئة وموافقة لما في قلبك، فتفهم بعقلك وبقلبك ما ينطق به لسانك، فيكون هناك مواطئة بين الاثنين -القلب واللسان- قال تعالى: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، أي: أقوم استقامة، وأقوم قولاً، والقيل بمعنى: القول، أي: أن ما ترتله تفهمه وتجيد نطقه؛ لأنك قد استرحت بالليل، ثم قمت في وقت نوم الناس تصلي لله سبحانه وتعالى؛ لتكون من عباد الرحمن.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجداً وقائماً.
وكأنه يقصد من صلى العشاء ثم ذهب إلى بيته فنام، ثم قام فصلى من الليل ولو ركعتين، فهذا يكتب له أجر هذه الليلة.(121/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم)
ومن صفات عباد الرحمن: أنهم يدعون ربهم سبحانه بهذا الدعاء الذي يدل على التواضع، فهم يعرفون قدر أنفسهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، والإنسان كلما ازداد عبادة كلما ازداد قرباً من الله سبحانه وتعالى، فهم يتقربون من ربهم سبحانه، ومع ذلك يخافون عذابه، ومن صفات الأنبياء والمرسلين والأولياء: أنهم يدعون ربهم سبحانه خوفاً وطمعا، ورغباً ورهباً، مع أنهم يحبون ربهم سبحانه، ويتقربون إليه، ويرجون ما عنده من خير، ويخافون ما عنده من عذاب.
فأهل التقوى يخافون على أنفسهم، وقد علموا قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فهذا قسم من الله سبحانه، ووعد ووعيد منه سبحانه، فلا بد من المرور على النار كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ} [مريم:71]، أي: ما منكم، وهذا حصر، والمعنى: أن الجميع يردون النار، والورود على الشيء: المرور إليه، فمن الناس من يمر ويدخل النار، ومنهم من يمر فوقها وينجوا، نسأل الله العفو والعافية، قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، أي: قضاءً متحتماً قد فرضه الله سبحانه عليكم، قال تعالى: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:71 - 72]، فكأنهم استشعروا ذلك، وعلموا أنهم واردون على النار فقالوا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان:65]، وكأنهم في تواضعهم يستشعر أحدهم أنه لم يتقرب إلى الله بشيء يذكر، وأن عبادته إن لم يقبلها الله عز وجل فسيكون من أهل النار، فيقول: يا رب! اصرف عني عذاب جهنم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، أي: ملازماً، وهي مأخوذة من الغريم، والغريم هو: الإنسان الذي تستلف منه، وتتدين منه، فالعادة أنه يلازمك ولا يفارقك مطالباً بحقه، فكأن النار -والعياذ بالله- عذابها يلازم أهل النار ملازمة الغريم لصاحبه، حتى ينجي الله عز وجل من يشاء بفضله وبرحمته سبحانه، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].(121/4)
تفسير قوله تعالى: (إنها ساءت مستقراً ومقاماً)
قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: أنها أسوء ما يلقاه الإنسان في حياته وفي أخراه، فأسوأ شيء يمر عليه أن يرى نار جهنم أو أن يدخلها، قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: دار قرار يستقر بها الكفار، فهي دار إقامة يقيم بها العصاة كرهاً، أي: يكرههم الله عز وجل فيدخلهم النار، فيدعون فيها ويسحبون ويلقون جزائهم في نار جهنم، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
فلما عرف عباد الرحمن قدر النار، وما فيها من مصير وعذاب أليم، دعوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان:65 - 66]، أي: أنها بئس المستقر وبئس المقام.(121/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، أي: وسطاً، فلا يسرفون أو يبذرون فيكونون من إخوان الشياطين، ولا أنهم يقصرون ويفرطون في الإمساك فيكونون بخلاء مذمومين، وإنما كما قال الله عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، أي: لا تجمع يدك إلى عنقك، -وهذا كناية عن التقتير والبخل- ولا تسرف في كل شيء فتضيع مالك وأهلك، فلا تسرف ولا تقتر، وكن وسطاً بينهما.
فكان من صفاتهم: أنهم: {إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67]، أي: لم يعطوا الكثير ويجلسون ولا شيء معهم، {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، من التقتير بمعنى: التضييق والبخل، وفيها ثلاث قراءات {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67]، وهذه قراءة الكوفيين: عاصم وحمزة والكسائي وخلف، من الفعل الثلاثي قتر، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب: ((وَلَمْ يَقْتِرُوا)).
فهاتان قراءتان من الفعل الثلاثي قتر، وقراءة من الفعل الرباعي أقتر، وهي قراءة نافع المدني وأبي جعفر المدني أيضاً، وقراءة ابن عامر الشامي: ((وَلَمْ يُقْتِرُوا))، فهذه ثلاث قراءات، والمعنى واحد وهو: أنهم لا يبخلون، بل ينفقون في ما أحب الله سبحانه وتعالى.
يقول المفسرون في ذلك: إن من أنفق في غير طاعة الله سبحانه فهو مسرف.
يعني: أن الإنفاق في معصية الله إسراف، والإمساك عن الإنفاق في طاعة الله سبحانه وتعالى بخل، فمن لا يدفع زكاة ماله، ولا ينفق النفقة الواجبة عليه، ولا يحسن إلى من أمر أن يحسن إليه فهذا مقتر، وأما من أنفق في طاعة الله سبحانه وتعالى مهما كثرت فهو محسن، وهذا هو القوام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: من أنفق مائة ألف في حقٍ فليس بصدقة.
أي: كأن يحسن إلى الناس وإلى ذوي القربى، وينفق المال الكثير في حق، فهذا ليس إسرافاً.
ولذلك لما أنفق أبو بكر الصديق ماله كله لم يعتبر ذلك إسرافاً، ولكن كان إحساناً من أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول ابن عباس: ومن أنفق درهماً في غير حقه فهو إسراف.
فمن أنفق ولو شيئاً يسيراً في باطل، كأن يشتري به سيجارة أو خمراً، أو شيئاً يعصي به الله سبحانه وتعالى، أو شيئاً حرمه الله عز وجل فهو مسرف، مع أنه قد يكون مالاً قليلاً.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: ومن منع من حق عليه فقد قتر.
أي: الذي يمنع الحق الواجب عليه، كأن يترك عياله من غير طعام ولا شراب ولا كسوة ولا سكن وينفق على الغريب فهذا إنسان مقتر.
فعباد الرحمن إذا أعطاهم الله سبحانه مالاً أنفقوه في الحق الذي أراده الله سبحانه، وينفقون النفقة الواجبة، وينفقونه إحساناً منهم، ولا ينفقون في معصية الله سبحانه، ولا يقترون، بل هم قوام أي: وسط بين ذلك.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباد الرحمن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(121/6)
تفسير سورة الفرقان [63 - 69]
لعباد الرحمن صفات تجعلهم يرتقون فيكونون أفضل خلق الله بعد رسله، فهم متواضعون خائفون من عذاب الله، قوامون بالليل، لا يشركون بالله، ولا يقتلون النفس بغير حق، ولا يزنون، وقد وعد الله المؤمنين إذا اجتنبوا الكبائر بمغفرة الصغائر، ووعد الذين يفعلون الكبائر بمضاعفة العذاب والذل يوم القيامة.(122/1)
تفسير قوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكر الله عز وجل في سورة الفرقان من صفات عباد الرحمن، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69].
ذكر الله سبحانه وتعالى عباد الرحمن وهم من أفضل خلق الله سبحانه، بل أفضل خلق الله سبحانه بعد أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، فذكر من صفاتهم أنهم متواضعون، وأنهم مقتصدون، وأنهم على سمت حسن، وأنهم غير متكبرين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فهم متواضعون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعفون عن من ظلمهم، ويحلمون على من أساء إليهم، وردهم حسن ليس قبيحاً، وردهم جميل ليس رديئاً، فإذا خاطبهم الجاهلون بسفاهتهم كان الرد منهم المتاركة، قال تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
يردون بذلك وهم أقوياء ليسوا ضعفاء، وهم لا يخافون من أهل الصخب، ومن أهل النفور، ولكنهم يتقون الله سبحانه، ويؤملون أن يهدي الله عز وجل هؤلاء، ويدفعون بالتي هي أحسن لعل الله عز وجل يهدي بهم هؤلاء.(122/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، فمن صفاتهم في العبادة: أنهم يكثرون عبادة ربهم سبحانه، فحياتهم كلها عبادة لله سبحانه، ليلهم عبادة، ونهارهم عبادة لله سبحانه، وكل أعمالهم يخلصونها لله سبحانه.
ولذلك المؤمن في حياته، وفي نومه، وفي قيامه، وفي صلاته، وفي صيامه، وفي أعماله، وفي كل شيء قد يحوله إلى عبادة لله سبحانه وتعالى، ينام وينوي الاستراحة، وينوي أن يقوم فيصلي من الليل، ولعله يقوم، ولعله لا يقوم، ويؤجر على ذلك.
فهم يخلصون أعمالهم لله سبحانه، ويجعلون من عبادتهم، ومن معاملاتهم، ومن عادتهم ما يوافق شرع الله سبحانه، فيكونون عابدين لله ليل نهار، إذا جاء الليل يبيتون النية أن يقضوا ليلهم لربهم سجداً وقياماً، فيراوحون بين القيام والركوع، والسجود والقعود، ويعبدون الله سبحانه وتعالى، وليس معناه: أنهم لا ينامون، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام بالليل عليه الصلاة والسلام، ولكن يقسم ليله صلوات الله وسلامه عليه، ينام ثم يقوم فيصلي، ثم يرجع فينام، ثم يقوم فيصلي، وهكذا.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وقد سئلت عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل: (كان يصلي أربعاً)، تذكر من حسنها ومن طولها، (ثم يصلي أربعاً)، وتذكر من حسنها وطولها صلوات الله وسلامه عليه، (ثم يوتر بثلاث)، صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقوم من الليل ويصلي ركعتين، ثم يرجع فينام حتى ينفخ، ينام صلى الله عليه وسلم نوماً متوسطاً، ثم يقوم بعد ذلك عليه الصلاة والسلام، فيصلي مرة ثانية، ثم يرجع فينام بالليل كذا مرة، ويقوم وينام عليه الصلاة والسلام، وفي كل مرة يصلي لله، فعباد الرحمن يأتسون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيقومون بالليل يصلون لله سبحانه سجداً وقياماً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، أي: ساجدين قائمين، هم يسجدون، ويقومون، وأفضل الأعمال الصلاة، وأفضل الهيئات فيها السجود لله سبحانه، والعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.(122/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم مستقراً ومقاماً)
كذلك القيام أشرف الذكر، فالمسلم يقوم ويقرأ القرآن، فهم قائمون، قارئون لكتاب الله سبحانه، ساجدون داعون ربهم، ودعاؤهم: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65 - 66]، فهم متواضعون، ويخافون على أنفسهم، لا غرور أعمالهم، بل تراهم خائفين من دخول النار مع قومهم، وصلاتهم، ومع حسن عبادتهم، ولكن الخوف من النار يغلب عليهم في دعائهم، قال تعالى: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، أي: كان ملازماً لصاحبه كملازمة الغريم، كان عذاباً دائماً شديداً فظيعاً نسأل الله العفو والعافية.
قال تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: إنها ساءت منزلة وبئس المستقر الذي يستقر به أهل النار، وبئس المقام الذي يقيم فيه أهل النار والعياذ بالله، فقوله تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:66]، أي: موضع إقامة.(122/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وهذه من صفاتهم الجميلة أنهم محسنون، وأنهم في الأمر وسط ما بين الإسراف وبين التقتير، وخير الأمور أوسطها.
فهم لا يبذرون ولا يسرفون في الإنفاق، وأيضاً: لا يضيقون ولكن بين الاثنين، فإذا جاء وقت الإحسان أنفقوا، وليس في الإحسان إسراف، فالإنسان مهما أحسن وأعطى لله عز وجل لا يقال: مسرف في ذلك، إلا أن يضيع واجباً عليه.
فهؤلاء ينفقون لله سبحانه وتعالى ويحسنون، وينفقون على أنفسهم وعلى أولادهم فلا يسرفون، ولا يقترون، وكانوا في نفقتهم بين ذلك قواماً، أو كان إنفاقهم وسطاً بين الإسراف والتقتير.(122/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر)
ومن صفاتهم أيضاً أنهم: {لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، فمن أكبر الكبائر، أن يشرك الإنسان بالله سبحانه ويقتل ويزني.
ولذلك جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي ذنب أكبر عند الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تدعو لله نداً وهو خلقك)، فأعظم ذنب يقع فيه العبد أن يشرك بالله، وأن يجعل لله الند والنظير والشبيه والمثيل، فكيف يخلقك وتعبد غيره سبحانه؟ فهذا أعظم ذنب، قال: (قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك)، مثل ما كان أهل الجاهلية يقتلون بناتهم خشية الإنفاق عليهن.
فالله عز وجل ذكر ذلك وذكر من صفات عباد الرحمن أنهم لا يفعلون ذلك أبداً، فلا يئدون بنتاً، ولا يقتلون إنساناً غريباً، ولا إنساناً آخر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قال ثم أي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك).
فمن أعظم الذنوب الزنا فهو حرام، والإنسان حين يزني بزوجة جاره فهذا أفظع ما يكون، والمفترض أن الإنسان مؤتمن على جاره، سواء كان هذا الجار مسلماً أو كان كافراً، فهناك ائتمان بين الجار وجاره، والجار أقرب الناس إلى جاره يعينه في وقت حاجته إليه، في مرض أو في جنازة أو في حاجة، فالجار يسرع إليه قبل أقربائه.
فلذلك الجار له حقوق عظيمة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، يعني: ظن النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة وصية جبريل له بالجار أن الله سينزل في آيات المواريث أن الجار من ضمن الورثة، ظن ذلك صلوات الله وسلامه عليه من كثرة الوصية به، فهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعظم الفواحش والذنوب أن الإنسان يزني بحليلة جاره، والزنا مع أي امرأة كبيرة من الكبائر ويستحق صاحبها أن يقام عليه الحد في الدنيا، ويستحق عقوبة الله في الآخرة.
ولكن إذا كان الزنا بحليلة الجار فهو أفظع وأشد والعقوبة فيه أشد، ففي الآية أخبر الله عز وجل عن هؤلاء المؤمنين أنهم لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يشركون بالله صنماً ولا وثناً، ولا يشركون حجراً ولا شجراً ولا إنساناً ولا جاناً ولا ملكاً ولا غير ذلك، بل يدعون ربهم وحده لا شريك له.
وقوله تعالى: {َلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68]، وهنا استثنى، فقتل النفس قد يكون بباطل وقد يقتل بحق؛ ولذلك استثنى الله سبحانه القتل بالحق، جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام)، وأخبر في الحديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه ثلاثة أشياء لا يحل دم المرء المسلم إلا بها.
فالإنسان يقتل نفساً بغير حق، فيستحق أن يقام عليه القصاص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النفس بالنفس)، قال: (الثيب الزاني)، أي: الإنسان المتزوج الذي يقع في الزنا يستحق الرجم، والثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة)، فالإنسان الذي ارتد بعد إسلامه إذا لم يتب ويرجع إلى الإسلام فهذا يستحق القتل.
هؤلاء الثلاثة يستحقون ذلك، فالاستثناء عائد على هؤلاء، فعباد الرحمن لا يقتلون نفساً بغير حق إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله سبحانه أو قصاصاً أو إقامة حدود الله سبحانه.
قوله تعالى: {وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، أي: لا يقعون في الزنا، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر الزنا وأنه كبيرة من الكبائر، وذكر لنا الحد الذي يكون في الزنا، فالله سبحانه يخبر عن هؤلاء أنهم لا يقعون في الكبائر، وقد وعد الله عز وجل المؤمنين الذين لا يقعون في الكبائر بمغفرة الذنوب ودخول الجنة، والكبائر كثيرة منها: الشرك بالله، السحر، قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، أكل الربا، أكل مال اليتيم، التولي يوم الزحف، قذف المحصنات الغافلات المؤمنات، عقوق الوالدين، السرقة، التولي بعد الإسلام، وارتداد أعرابي بعد الهجرة، الرشوة، أكل السحت.
فهذه كبائر إن اجتنبها الإنسان المؤمن حتى يموت، فالله عز وجل يغفر له صغائر ذنوبه، لذلك جاء في القرآن قول الله سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فجعل الله اجتناب الكبائر مكفراً لصغائر الذنوب وهذا من رحمة رب العالمين سبحانه.
وجعل للعباد مكفرات يكفر بها ذنوبهم، ومن هذه المكفرات أن الإنسان يصلي الصلوات المكتوبة، الصلاة إلى الصلاة، ورمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، والحج كلها مكفرات تكفر ذنوب العبد.
فالإنسان إذا أذنب ذنباً توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين، واستغفر الله من هذا الذنب غفر الله له هذا الذنب، وجعل من المكفرات للذنوب اجتناب الكبائر، قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، أي: صغائر ذنوبكم، {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فعباد الرحمن يجتنبون الكبائر فاستحقوا المغفرة، ويصلون ويفعلون الطاعات فاستحقوا الدرجات.(122/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ويخلد فيه مهاناً)
يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [الفرقان:68]، يعني: من الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والزنا {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، يعني: يجد العذاب الشديد من الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: {أَثَامًا} [الفرقان:68]، أي: عقوبة الإثم، وقالوا: هو واد في قعر جهنم جعله الله عز وجل للكفرة وأشباههم.
فهؤلاء الذين يقعون في هذه الكبائر يقعون في هذا الوادي في نار جهنم والعياذ بالله، أو يجدون عقوبة إثمهم.
قال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، أي: من يفعل ذلك، يعني: كل من يفعل ذلك.
قال سبحانه: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، قرئت بالسكون على الجزم عطفاً على: {يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، الذي هو جواب الشرط، فكلمة (يضاعف) معطوفة عليه فهي مجزومة، وقرئت بالرفع على الحال والاستئناف.
وقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} [الفرقان:69]، وقرئت: (يضاعفُ) وقرئت بالتضعيف: ((يضعّفْ لَهُ الْعَذَابُ))، وقرئت أيضاً: ((يُضَعَفْ لَهُ الْعَذَابُ))، فيكون هناك أربع قراءات في هذه الكلمة.
فقراءة نافع وأبي عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69].
وقراءة شعبة عن عاصم: (يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، بالرفع فيها، وقراءة ابن كثير وقراءة أبي جعفر وقراءة يعقوب: ((يُضَعَّفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)).
والقراءة الباقية وهي قراءة ابن عامر: ((يُضَعَّفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)).
أيضاً كلمة: {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فيها قراءتان: قراءة بالوصل والإشباع، {فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، وهي قراءة حفص عن عاصم وكذلك ابن كثير، كأن فيها ياء في آخرها، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69].
أما باقي القراء فيقرءونها بالكسر فقط، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فكلمة: {فِيهِ} [الفرقان:69]، نجد في المصحف أنها مسكورة وبعدها ياء مقلوبة أي في أعلى الهاء، فمعناها: أنك تقرأ بالياء.
والمعنى: أن الله عز وجل يضاعف العذاب يوم القيامة على الذين يشركون بالله، ويأتون الكبائر، ويجعلهم خالدين في نار جهنم في هذا العذاب الشديد، فهم يستحقون الهوان، ويستحقون الإهانة في نار جهنم.
وإذا استغاثوا بربهم قال لهم: اخلدوا فيها، امكثوا فيها، قال تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
فقوله تعالى: {اخْسَئُوا فِيهَا} [المؤمنون:108]، مثل ما يقال للكلب: اخسأ، فيقال لأهل النار والعياذ بالله: اخسئوا، فيعاملون معاملة الكلاب وهم في نار جهنم، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(122/7)
تفسير سورة الفرقان [70 - 71]
رحمة الله واسعة وحلمه عظيم، فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن كثير، والإنسان إذا تاب إلى الله لابد أن يعمل صالحاً حتى يبدل الله سيئاته حسنات، وأن يقلع عن الذنب فلا يعود إليه أبداً، ويرد الحقوق إلى أصحابها إن كان لهم حقوق.(123/1)
تفسير قوله تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:70 - 71].
يذكر الله سبحانه وتعالى في آخر هذه السورة الكريمة صفات عباد الرحمن، فمن صفاتهم: وأنهم {يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، ومن صفاتهم: أن نفقتهم متوسطة، فلا يسرفون ويبذرون ولا يقترون، ولكن: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، ومن صفاتهم: أنهم لا يقعون في الكبائر، فلا يشركون بالله سبحانه {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]، والله سبحانه وتعالى يحذر من الوقوع في الكبائر ويقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68]، فالذي يقع في كبيرة من الكبائر يجد العقوبة من الله سبحانه وتعالى، والآثام هنا: جمع إثم، وقد وضحه ربنا وفسره بأنه: مضاعفة العذاب، فقال تعالى: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:69]، فمن أشرك بالله سبحانه فالله لا يغفر له شركه إذا مات على الكفر بالله سبحانه، بل هو من أهل النار ويخلد في النار مهاناً، كذلك الذي يأتي كبيرة من الكبائر يستحق العذاب ويخلد في النار، ولكن خلود الموحدين الذي هو دون خلود من أشرك بالله سبحانه وتعالى، فالخلود لمن قتل النفس المؤمنة أو وقع في الزنا أو فعل الكبيرة من الكبائر دون الشرك بالله يخلد في النار إلى ما يشاء الله سبحانه وتعالى، ولكن الكافر لا يخرج أبداً من النار.
قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، فرحمة الله عظيمة وواسعة، قال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالإنسان الذي يقع في كبيرة من الكبائر دون الشرك، ثم يتوب إلى الله سبحانه، يفتح الله له باب التوبة، فيقول هنا: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70]، يعني: حتى ولو وقع في هذه الكبائر، ثم تاب إلى الله سبحانه وآمن وعمل عملاً صالحاً، إذاً: إذا كان إنساناً مشركاً ووقع في الذنوب والكبائر ثم تاب من الشرك فدخل في الإسلام، فهذه التوبة بدخوله في الإسلام، تجب ما قبلها، فتوبته في الدخول في الإسلام تجب ما كان عليه من شرك قبل ذلك، وفي الحديث: (الإسلام يجب ما قبله).
قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، والتوبة ليست مجرد قول باللسان، يقول: تبت إلى الله وهو ما زال يقع في الذنب أو يقع في الشرك، ولكن التائب من الذنب من يندم ولا يعود إلى فعله أبداً، ففي سنن ابن ماجة عن ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وليس التائب الذي يقع في الذنب ويصر عليه، ولكن التائب الذي ندم على ذنبه وأقلع عنه، واستغفر ربه سبحانه وتعالى وتاب وأناب، وأعاد الحقوق إلى أصحابها إن كانت هناك حقوق أخذها من الناس، فهذا هو التائب إلى الله سبحانه، أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم ألا يقع فيه مرة أخرى، ورد الحقوق إلى أصحابها، قال الله سبحانه مقيداً هذه التوبة: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان:70]، أي: إذا كان كافراً فتاب بأن دخل في هذا الدين، قال تعالى: {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70]، إذاً: لا بد من العمل الصالح بعد التوبة.
فالذي يعصي ربه ويقول: أستغفر الله، تبت إلى الله، وهو ما زال مواقعاً للذنب هذا لم يتب توبة حقيقية؛ لأن التوبة كما يقول ربنا سبحانه أن يتوب ويؤمن ويعمل عملاً صالحاً حتى يبدل الله سيئاته حسنات، قال سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وفضل الله عظيم، وهو الذي يملك أن يحول قلوب عباده من معصية إلى طاعة، ومن كفر إلى إيمان، فقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ} [الفرقان:70]، يعني: التائبين {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]، وتحتمل معان تحتها، يعني: بعدما تابوا إلى الله وعملوا صالحاً يلهمهم الله عز وجل الحسنات فيعملونها فيبدل ما قد كانوا اقترفوه من إساءة وفواحش وكفر إلى إيمان وإحسان وطاعة، فالله يبدل في الدنيا أعمالهم من أعمال سيئة رديئة إلى أعمال حسنة صالحة، ويقول بعض أهل العلم ومنهم الحسن: قوم يقولون: التبديل في الآخرة وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا يبدلهم الله إيماناً من الشرك، وإخلاصاً من الشك، وإحصاناً من الفجور، والجزء الثاني من كلام الحسن صحيح، وهو أن الله يبدل في الدنيا سيئات هؤلاء حسنات، ولا مانع من أن يبدل في الآخرة أيضاً كما صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)، إذاً: الإنسان يتقي الله سبحانه، وإذا وقع في السيئة فليتبعها بالحسنة، فإن الحسنة تمحو هذه السيئة، فإذا تاب العبد إلى الله وعمل صالحاً فالله يمحو العمل السيئ بهذا العمل الصالح الذي عمله، وقد جاء من فضل الله عز وجل ومن رحمته ما هو أعظم من ذلك، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة وآخر أهل النار خروجاً منها)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من عصاة الموحدين هو آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة، فهو قد دخل النار وعذب فيها، ولكن نفعه توحيده وقوله: لا إله إلا الله، إذ كان يصلي في الدنيا، ولكن وقع في معاص أوبقته، ووقع في كبائر استحق بها أن يدخل النار وأن يخلد فيها إلى ما شاء الله سبحانه، ولكن أخرجه الله عز وجل بعد ذلك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها)، فالله عز وجل يقول للملائكة بعد أن دخل هذا العبد النار وخرج منها بفضل رب العالمين سبحانه: هاتوا له كتاب أعماله واعرضوا عليه هذه الذنوب.
فهذا العبد وقع في كبائر الذنوب، ووقع في صغائر الذنوب، فاستحق النار بسبب ما وقع فيه من الذنوب، ثم أخرجه رب العالمين من النار، قال: (اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه)، فهو صاحب كبائر وصغائر، فالله عز وجل لما رحمه وأخرجه من النار وجاز الصراط أراد أن يزيده من فضله سبحانه، فقال للملائكة: (اعرضوا عليه كتاب الأعمال)، أي: اخفوا عنه الكبائر وأروه صغائر الذنوب، فنظر الرجل ولم ينكر أنه فعل هذه الذنوب، يقول: (وهو مشفق من كبار ذنوبه)، أي: خائف ألا يفضح أيضاً بكبار ذنوبه، قال: (وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة)، يعني: أنت ما كنت تستحق شيئاً من الحسنات بل استحققت النار، فأخرجناك وجاوزنا بك الصراط، والآن سنعطيك، فهذا العبد عرضت عليه صغائر الذنوب، فلما رآها خاف وأشفق أن تعرض عليه الكبائر، فإذا بالله عز وجل يستر الكبائر ويريه هذه الصغائر، ثم يقول: سنبدل مكان كل صغيرة حسنة من الحسنات، فلما رأى الرجل ذلك إذا به يطمع فيقول: يا رب! قد عملت أشياء لا أراها ها هنا، قال: (فضحك النبي صلوات الله وسلامه عليه حتى بدت نواجذه)، فقد كان مشفقاً من كبائر الذنوب، وإذا به يذكرها لما رأى أن الله يبدله.
فهذا الحديث الذي في صحيح مسلم فيه: أن الله بفضله وبكرمه يبدل يوم القيامة لبعض الناس، أو للتائبين من الناس، أو لمن يشاء من خلقه سبحانه ذنوبهم إلى حسنات ويعطيهم أجراً، وهذه الآية تدل على أن هذا الذي بدلت سيئاته حسنات قد تاب إلى الله سبحانه، والحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها)، إذاً: معناه: هذا دخل النار ومكث فيها ما شاء الله عز وجل، ثم أخرجه الله من النار وأدخله الجنة برحمته، وليدخله الجنة هو فمحتاج لحسنات، فإذا بالله يبدل صغائر ذنوبه إلى حسنات ويدخله الجنة برحمته سبحانه وتعالى.
حديث آخر رواه الطبراني بإسناد رجاله ثقات وفيه: أن رجلاً كنيته أبو طويل قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟)، فهو رجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في ذنوب كثيرة وما ترك لا حاجة ولا داجة إلا وقع فيها، والحاجة: الذنوب التي تختص بالحجيج، أي: سرقة الحجيج، وهي مصيبة من المصائب، فهو يقطع على الحجيج طريقهم، ويسرق أموالهم، ثم أدركته التوبة فتاب إلى الله سبحانه وذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟)، يعني: كأن(123/2)
تفسير سورة الفرقان [71 - 72]
من صفات عباد الرحمن: أنهم يتوبون إلى الله توبة نصوحاً، ويتبعون هذه التوبة بالعمل الصالح الذي يقربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ومن صفاتهم أيضاً: أنهم لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه، فضلاً عن العمل به، فهم ينزهون أنفسهم عن ذلك، وعن اللهو بسائر أنواعه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.(124/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الله عز وجل: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآية وما قبلها وما بعدها عن صفات عباد الرحمن، وذكر في خلال الآيات التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وقال: ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا))، والتوبة: هي الرجوع عن الذنب، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والإنسان التائب توبة نصوحاً هو الذي يندم على ذنبه الذي وقع فيه، ويعزم ألا يرجع إليه مرة أخرى، ويستغفر ربه سبحانه وتعالى من هذا الذنب، ويعيد الحقوق لأصحابها، ويستحل أصحابها مما عليه لهم، فمن تاب هذه التوبة النصوح التي أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8]، فقد تاب توبة خالصة لله سبحانه وتعالى.
قوله: ((وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا)) أي: أن التوبة ليست كلمة يقولها المرء باللسان، ولكن لا بد أن تكون عن اعتقاد في القلب، وعزم على ألا يرجع إلى المعصية، وندم على هذه المعصية التي وقع فيها، ثم يعمل صالحاً حتى يبدل الله عز وجل عمله من عمل سيئ إلى عمل حسن، فيبدل الله السيئات إلى حسنات، فهذه هي التوبة المقبولة التي يستحق بها العبد أن يكفر الله عز وجل عنه سيئاته، قال: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:71]، يعني: يتوب إلى الله توبة حقيقية، توبة خالصة، يرضى الله عز وجل عنه بها.
جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعاً: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه، فإذا تاب العبد توبة بشروطها فهذا كأنه لم يأت ذنباً، وكأنه لم يقع في الذنب، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث فقال: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فالإنسان الذي يقع في المعصية، ولكن يستدرك ذلك ويراجع نفسه، ويرجع إلى ربه سبحانه وتعالى بالتوبة، فهذا يتوب الله عليه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو داود من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يقوم فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135]).
فالإنسان المؤمن يذكر الله عز وجل، فيستغفر لذنبه الذي وقع فيه، فإذا تاب تاب الله عز وجل عليه، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح فقال: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه)، يعني: أن باب التوبة مفتوح إلى أن تظهر العلامات الكبرى للساعة، فإذا ظهرت العلامات الكبرى، والتي منها: طلوع الشمس من مغربها، وهذه من أكبر العلامات التي تدل على أن الساعة على وشك، فإذا تاب العبد قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عز وجل عليه، أما بعد طلوعها من المغرب فلا تقبل.
كذلك إذا تاب المرء قبل أن يغرغر فإن التوبة مقبولة قبل الغرغرة، يعني: قبل أن تصل الروح إلى حلق الإنسان.(124/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، فهنا شهد الزور بمعنى: أنه أتاه، أو أنه حضره ونظر إليه، ومن حضره فكأنه فعله.
فالإنسان المؤمن الذي هو من عباد الرحمن لا يشهد الزور، فإذا كان لا يحضر الزور فمن باب أولى ألا يشهد شهادة زور، فإذاً: على ذلك هنا (لا يشهدون الزور) أعم من كلمة (لا يشهد بالزور).
فشهادة الزور بأن يشهد كذباً، وتكون مرة وتكون مرات، ولكن لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه، ولا يسمعونه، ولا يكونون في مكان فيه زور، وأصل الزور: الكذب، أو الشيء المزور المزخرف، يعني: الشيء المايل من الازورار، أو من التزوير، فزور المقالة بمعنى زخرفها وزينها، وازور عن الحق بمعنى مال عن الحق، فهؤلاء لا يشهدون الشيء المائل عن الحق والشيء الباطل، يعني: لا يحضرون باطلاً ولا يشاهدونه، ولا يخوضون فيه، فهم قد نزهوا أنفسهم وأكرموا أنفسهم عن ذلك.(124/3)
أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] جاء عن المفسرين في معنى هذه الآية أقوال، ومن ذلك: ما روي عن ابن عباس أنه قال: هو أعياد المشركين.
أي: من ضمن شهادة الزور أن الإنسان يشهد ويحضر أعياد المشركين، ويوافقهم في أعيادهم.
ويقول عكرمة: لعب كان في الجاهلية.
يعني: أياماً كانوا يلعبون فيها في الجاهلية.
وقال مجاهد: يعني: الغناء.
وذلك بأن يجلس ويغني ويعزف ويسمع الموسيقى والألحان ونحو ذلك.
وقال ابن جريج: الكذب.
وقال علي بن أبي طلحة ومحمد بن علي: لا يشهدون بالزور.
وكأنها من الشهادة، وليس من المشاهدة، وكل هذا صحيح، وكله مراد.
والمعنى: أن الإنسان المؤمن ينزه نفسه أن يوجد في مكان يغضب الله عز وجل على أهل هذا المكان، فلا يحضر شهادة زور، ولا يحضر مكاناً فيه زور وفيه لغو وفيه ما ينبغي أن يطرح وأن يلغى، ولا يتكلم بمثل ذلك.(124/4)
فظاعة شهادة الزور والتحذير منها
شهادة الزور من أعظم وأفظع المنكرات، فهو هنا لم يقل: لا يشهدون بالزور، وإنما قال: ((لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ)) سواء قل أو كثر، فشهود الزور بأن يحضر مجلساً فيه لغو ولعب، وإن كان لن يعمل معهم ذلك، ولكنه لا ينكر عليهم، فهذا شهد مشهداً باطلاً لا ينبغي له أن يشهده.
فالإنسان الذي يتكلم بالكذب مصاب بمصيبة، ولذلك جاء في شهادة الزور في الصحيحين من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، أو قال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، يقول أبو بكرة: فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت)، يعني: كررها عدة مرات لتوعية الناس وتحذيرهم من قول الزور وشهادة الزور، وهناك فرق بين الاثنين، فقول الزور: أن يتكلم الإنسان من غير شهادة عند القاضي أو غيره ويكذب في الكلام، فهذا قول الزور وقول الكذب، أي: ينمق القول ويزخرفه على من معه فيدلس عليه ويكذب عليه.
أما شهادة الزور: فهي أن يكذب في الشهادة عند القاضي أو عند الحاكم في الدعاوى أمام الناس، فهنا حذر من الكذب في الكلام، وهذه شهادة الزور، قوله: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، فما زال يكررها صلوات الله وسلامه عليه بياناً أن هذا شيء فظيع، وشيء عظيم، والله عز وجل يعاقب عليه أشد العقوبة.
فشاهد الزور واقع في أكبر الكبائر؛ لأن الإثم فيها ليس على نفسه فقط، ولكن على هذا الذي شهد عليه زوراً، فقد ضيع حقه، فبدل أن يأخذ الحق بشهادة هذا، يضيع الحق منه إلى غيره.
فلذلك الإنسان الذي يحلف كذباً ليقتطع مال المسلم، هذا حلف يميناً غموساً تدخله في النار وتغمسه فيها، وتسمى: يمين الغموس، فكيف بمن يشهد بالزور حتى يضيع حق الإنسان فيأخذه غيره؟ هذا شاهد زور، فله العقوبة الأليمة عند الله سبحانه وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور).
كذلك جاء في حديث آخر في أمر الإنسان الذي يتعبد ويصوم لله سبحانه، ثم مع ذلك يتكلم بالزور، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، يعني: الإنسان الذي يقول: أنا صائم سواء كان صيام تطوع أو فريضة، وحياته كلها زور وكذب وغش وأكل لأموال الناس، نقول له: صائم عن الطعام والشراب، ومفطر على أعراض الناس، ومفطر على الزور وأكل أموال الناس، فليس لله حاجة في أن تدع طعامك وشرابك.
فالإنسان المؤمن يصلي صلاة تمنعه من الفحشاء والمنكر، ويصوم صوماً يمنعه من ذلك، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وكذلك الصوم، فقال هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
أيضاً: جاء عن عمر رضي الله عنه، أنه أتي بشاهد زور، فأوقفه أمام الناس يوماً إلى الليل؛ وقد أوقفه أمام الناس من أجل أن يفضحه أمام الناس؛ لأنه شاهد زور، ثم قال: هذا فلان يشهد بزور، فاعرفوه، ثم حبسه عمر رضي الله تعالى عنه.
وفي رواية: أنه ضربه أحد عشر سوطاً، ثم قال: لا تأسروا الناس بشهود الزور.
يعني: لا تحبسوا الناس بسبب إنسان يشهد عليهم بالزور، واتقوا الله سبحانه وتعالى في الناس، وذلك بأن تتحروا من الشاهد الحق، فمن زكاه الناس فاقبلوه، أما شاهد لا تعرف عنه شيئاً، ويأتي يشهد بالزور وتحبس الناس من أجله، فلا تفعلوا ذلك، ثم قال: فإنا لا نقبل من الشهود إلا العدل.(124/5)
معنى اللغو وأقوال المفسرين فيه
يقول الله سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، اللغو: هو الكلام اللغو وأفعال اللغو، فعباد الرحمن إذا حضروا مجالس فيها لغو، نزهوا أنفسهم وأكرموها؛ لأن الله عز وجل أعزهم بالإيمان، وبحب الله سبحانه، فهم ينزهون أسماعهم أن تسمع باطلاً، وينزهون ألسنتهم أن تنطق بباطل، وينزهون أبدانهم أن يحضروا مجالس باطل، فهنا قال: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) أي: الإنسان المؤمن يكرم نفسه فلا يهينها بالمعصية، يكرم نفسه بالطاعة، ويكرم نفسه بمصاحبه الأخيار، ولا يهين نفسه بمصاحبة الفجار والأشرار، فالإنسان المؤمن يبتعد عن أهل الزور، وعن أهل الخيانة وأهل الكذب وأهل الباطل، لا يرافقهم ولا يجالسهم، فإذا مر بمكان فوجد هذا الزور وهذا الباطل نزه نفسه وأكرمها وابتعد عن ذلك.
يقول المفسرون في ذلك: هو كل ما سقط من قول أو فعل.
يعني: الأفعال الساقطة والأقوال الساقطة، فيدخل فيه الغناء، ويدخل فيه اللهو وتدخل فيه الموسيقى ونحو ذلك، ويدخل في ذلك سفه المشركين وأذاهم للمؤمنين، وذكر النساء وغير ذلك من المنكر.
قال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا، يعني: نزهوا أنفسهم عن رد الكلام السيئ بالكلام السيئ، ولكنهم يعفون ويصفحون، قال: وإذا ذكروا النكاح كنوا عنه.
يعني: فألفاظهم ألفاظ رقيقة مهذبة، وليست ألفاظاً فاحشة، فهم لا يتكلمون إلا بالكلام الطيب لا بالكلام البذيء، يكنون عما يستقبح ولا يصرحون به.
قال المفسرون في قوله تعالى: ((وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا)) أي: معرضين منكرين لا يرضونه، ولا يمالئون عليه، ولا يجالسون أهله.
أي: مروا مرور الكرام، ينزهون أنفسهم أن يخوضوا في باطل هؤلاء، فهذا يكون قد أكرم نفسه أن يهينها بمعصية الله سبحانه وتعالى.
وقيل: المعنى: أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا وجد منكراً، فمروره بالمنكر بأن ينهى عنه، وأن يأمر بالمعروف، وإذا لم يقدر على ذلك فلا يمر به ولا يجلس معه والله أعلم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، وأن يجعلنا من عباد الرحمن.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(124/6)
تفسير سورة الفرقان [73 - 74]
من صفات عباد الرحمن: أنهم إذا ذكروا بآيات الله تذكروا، ومن صفاتهم: أنهم يدعون لأنفسهم وأهليهم بالخيرات، ويحرصون على صلاح أزواجهم وذرياتهم.(125/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الفرقان في ذكر صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:73 - 74].
هذه الآيات الكريمة من سورة الفرقان يذكر الله عز وجل فيها صفاتاً لعباد الرحمن، ومن صفات عباد الرحمن التي ذكر هنا: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، ففي هذا بيان لكيفية عبادة عباد الرحمن لربهم سبحانه وتعالى وتقربهم إليه، وكيف يستمعون النصيحة من كتاب الله ومن هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فإذا ذكروا تذكروا ولم ينسوا، إذا ذكروا بآيات الله سبحانه أقبلوا عليها بقلوبهم ووجوههم وعقولهم متفهمين متدبرين واعين متذكرين متعظين منتفعين بها، فمن صفاتهم إقبالهم على كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال الله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، وكأن الآية فيها تعريض بالذين إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صماً وعمياناً، والخرور: السقوط، ولا سقوط حقيقة، فالذين يعرضون عن آيات الله عز وجل كأنهم سقطوا سقوطاً معنوياً، فهؤلاء أعداء الله سبحانه لا يسمعون ولا يستجيبون بل يبتعدون عن سماع كتاب الله سبحانه وتعالى، وخروا عليها صماً وعمياناً، فبدل أن يقبلوا إلى الله عز وجل أعرضوا عنه، أما عباد الرحمن سبحانه فإنهم يخرون لله عز وجل مطيعين له، ساجدين له، وإذا ذكروا تذكروا.
وأولئك الذين يعرضون عن آيات الله يخرون عليها صماً وعمياناً، أي: يعرضون عن كتاب الله عز وجل، كقولك: فلان قعد يفعل كذا وكذا وليس ثم قعود، ويقال: قعد فلان يرد على فلان، وقد يرد عليه وهو قائم، وقد يرد عليه وهو ماش، ولكن المعنى: أنه توجه إليه وانتبه إليه بكليته ليرد عليه مثلاً، فهؤلاء عباد الرحمن {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان:73]، بل خروا عليها يستمعون كلام الله عز وجل وهم يعون ويفهمون ذلك، فكأنهم خروا على كتاب الله عز وجل وأقبلوا عليه فلم يعرضوا عنه، واستمعوا وانتفعوا بذلك، وذكر في آيات أخر أنهم {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109]، فهذا إقبال عباد الرحمن على الطاعة، وإذا جاءت آيات من آيات الله عز وجل فيها سجود خروا لله سجداً، فهذا خرور حقيقي، فهم مقبلون على كتاب الله سبحانه، متدبرون لما يقوله الله سبحانه، فإذا جاءت آية السجدة خروا لله عز وجل سجداً له، فخرورهم خرور القلوب وخرور الأبدان، ويخرون بقلوبهم ويقبلون ويتوجهون سجداً لربهم سبحانه، ولا يخرون صماً وعمياناً.(125/2)
تفسير قوله تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين)
قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74]، أي: يدعون {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، هذا دعاؤهم يدعون ربهم، وقد دعوا قبل ذلك فتعوذوا بالله من النار فقالوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، ودعوا فسألوا ربهم سبحانه من فضله ومن رحمته دعاء ينفعهم في الدنيا وفي الآخرة، وما أجمل هذا الدعاء! {رَبَّنَا هَبْ لَنَا} [الفرقان:74]، أعطنا من فضلك ومن كرمك، وامنحنا وهب لنا أي: اجعل {لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74].
وقوله: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:74] فيها قراءتان: قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب، فهؤلاء يقرءون: {وَذُرِّيَّاتِنَا} [الفرقان:74] على الجمع، وقراءة باقي القراء أبي عمرو وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (وذريتنا قرة أعين) على الإفراد، والذرية: هم الأبناء والأحفاد، وذرية الإنسان: ما خلق الله عز وجل من نفسه، وأصلها: من الذر، والذر: البث والنشر، فما كان من الإنسان من أولاده وأحفاده فيسمون: ذرية، فعباد الرحمن يدعون بالدعاء الذي ينتفعون به في الدنيا وفي الآخرة: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، وقرة العين من القرور أو من القر، والقر: البرد، والقرور: الاستقرار، فكأنهم أرادوا المعنيين: اجعل لنا من الأزواج ومن الذرية ما تقر به أعيننا، أي: يجعل العين فيها قرة وبرودة، والإنسان الحزين تكون دمعة حزنه حارة، وإذا بكى من الفرح كان بكاؤه بارداً، فكأنهم يقولون: ربنا أفرحنا بطاعتهم لك سبحانك، وطاعة الأزواج، وطاعة الوالدين، واجعلهم مطيعين فنفرح بهم، فنرى أولادنا يحفظون كتاب الله عز وجل، ويحافظون على شرع الله سبحانه، ويقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيفرح المؤمن بزوجته وأولاده ويسر حين ينظر إليهم، فهم يطيعون الوالدين، والزوجة تطيع زوجها طاعة لله سبحانه وتعالى، فتقر أعين عباد الرحمن بهذه الطاعة لله سبحانه وتعالى، فانتفعوا بهم في الدنيا وفي الآخرة ينتفعون بهم أيضاً، فإن حفظ الأولاد كتاب الله سبحانه وتعالى يكسى الوالدان من حلي الجنة بسبب حفظ أولادهم لكتاب الله عز وجل، وقد يكون الأولاد والذرية لهم درجات عالية رفيعة عند الله عز وجل فيشفعون في آبائهم ويرتفعون إلى درجاتهم بهذا الأمر، فالله عز وجل يجعلهم مصدر سرور لهم في الدنيا، ومصدر فرح وحبور في الآخرة.
وأيضاً الإنسان المطمئن الفرح عينه قارة، والإنسان الحزين والخائف عينه غير مستقرة ينظر شمالاً ويميناً وهو متحير، فهم يدعون الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يقر أعينهم ويجعلها قارة فرحة مستبشرة بذلك، فيقولون: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة عظيمة مباركة فقال: (اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه)، فكان أولاده وأحفاده يتجاوزن المائة.
والأولاد الكثيرون إن كانوا مطيعين لله عز وجل ينتفع الأب والأم بهم، وهذه من البركة فيهم، يقول العلماء: الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله، وإذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة، فالزوجة من صفاتها التي تعجب الإنسان أن تكون مقبولة جميلة عنده، وأن تكون عفيفة، وأن تطيعه إذا أمر، وأن تخاف أن يغضب عليها، فإن غضبه قد يكون منه غضب الله سبحانه وتعالى، وتكون فيها حوطة تحوط أهلها بالخير، تحوطهم بالحنان، وبالرأفة، وبالرحمة، وبالرعاية، وتحوط بيتها فهي راعية في مال زوجها، (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
ومن فائدة الذرية الطيبة: أنهم يعينون الوالدين على طاعة الله عز وجل، ويعينونهم في أمر الدنيا وأمر الآخرة، فإذا كان الإنسان على هذا الحال لم يحسد الناس ولم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده، واستقرت عينه، فعباد الرحمن يسألون الله عز وجل أن يجعل في أزواجهم وذريتهم ما يكفيهم وما يغنيهم عن أن ينظروا إلى الناس ويحسدوهم، فالمؤمن تسكن عينه عن الملاحظة، ولا تمتد عينه إلى ما ترى، وذلك حين قرت العين وسكنت النفس.
ثم قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، وهذا من الدعاء العظيم الجميل، وأن يكون الإنسان إماماً لأهل التقوى، وليس إماماً لعموم الناس، ولكن للمتقين، وهذه درجة رفيعة عالية جداً للإنسان، وليس معناها أن يكون إماماً في الصلاة، وكم من المتقين من لم يكن من أئمة الصلاة، كأئمة المسلمين مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام أبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين، فلم يكونوا أئمة في الصلاة، فالإمامة هنا إمامة الدين، الإمامة في الزهد، الإمامة في التقوى، الإمامة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقولون: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
جاء في الموطأ: أن عمر رضي الله عنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه: إنكم أيها الرهط! أئمة يقتدى بكم، قال هذا عمر لما رأى طلحة بن عبيد الله محرم في شملة مزخرفة أو حمراء، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه ذلك، وقال: يقولون: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ذلك، فحرج عليه ألا يلبس ذلك، وقال: إنكم أئمة يقتدى بكم.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين.
فالإنسان المؤمن يدعو أن يكون إماماً للمتقين، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، ولم يقل: أئمة؛ لأن (إماماً) هنا مصدر، فالمصدر يأتي في الإفراد وفي الجمع على هيئة واحدة، فكأن المعنى: أئمة نؤم المتقين ونكون أمامهم عند الله سبحانه ومقربين ويقتدى بنا في الدنيا ونتقدمهم يوم القيامة.
يقول القشيري: الإمامة بالدعاء لا بالدعوة.
يعني: أن الإنسان يكثر دعاء ربه سبحانه وتعالى، والتبتل بين يديه، والابتهال لله عز وجل، فيقربه الله عز وجل ويجعله إماماً يقتدى به في الخير.
وكم من إمام يؤم الناس في الصلاة ولا يقتدى به ولا يصدق له في الأمر، وكم من إنسان مغمور بين الناس ليس مشهوراً ولكن أهل التقوى ينظرون إليه أنه من أهل الزهد وأنه من أهل العفة، وأنه من أهل الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء الأئمة الذين تعرفهم ملائكة الله عز وجل وتصلي عليهم وتدعو لهم.
يقول إبراهيم النخعي: لم يطلبوا الرياسة بل دعوا أن يكونوا قدوة في الدين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: اجعلنا أئمة هدى.
وقال مكحول: اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون.
فالإنسان المؤمن يدعو ربه سبحانه أن يجعله صالحاً، وأن يجعل الناس يقتدون به، وإذا اقتدى به الناس فكل عمل طيب يعمله ويعمله الناس يكون له أجر فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
إذاً: الذي يفعل الفعلة الحسنة ويتقرب بها إلى الله ويقتدي به الناس فيها يكون له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(125/3)
تفسير سورة الفرقان [75 - 77]
بعد أن ذكر الله صفات عباده في آخر سورة الفرقان، ختم ذلك بذكر جزائهم بسبب صبرهم في هذه الدنيا، وهو جزاء لا يخطر على بال أحد، ولم تسمع به أذن، ولم تر مثله عين.(126/1)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكر الله عز وجل صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان، ثم ختم هذه السورة بقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:75 - 77].
في هذه الثلاث الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يذكر الله سبحانه وتعالى جزاء عباد الرحمن، بعد أن ذكر صفاتهم قبل ذلك، من حسن الخلق، وحسن المعاملة، والعبادة لله سبحانه، والتخلي عن الشرك بالله سبحانه، وعن كبائر الآثام والذنوب، فذكر الله عز وجل من صفاتهم في هذه السورة إحدى عشرة صفة، فذكر التواضع، وذكر الحلم، وذكر التهجد، وأنهم يقومون من الليل، وذكر خوفهم من الله سبحانه وتعالى، وذكر من تركهم الإسراف والتقتير، وذكر أنهم نزهوا أنفسهم عن أن يشركوا بالله أو أن يقعوا في الزنا، أو أن يقعوا في القتل، وذكر أنهم يتوبون إلى الله سبحانه، وذكر أنهم يجتنبون الكذب وشهود الزور، وأنهم يعفون عن المسيء، وأنهم يقبلون الموعظة، ويطيعون من يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه، وأنهم يبتهلون إلى الله داعين راغبين راهبين يرجون من الله عز وجل أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وكأنهم يستشعرون الورود فيها، فيطلبون من الله أن يصرفها عنهم، وكذلك يطلبون من الله سبحانه في دعاء جميل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، وهذا الدعاء فيه الحكمة وفيه ذكاء هؤلاء في الطلب، فهم يطلبون ما ينفعهم دنيا وأخرى، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، فتقر أعيننا وتستقر قلوبنا بذلك في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا يفرحون بما يكون عليه أزواجهم، وبما تكون عليه ذرياتهم من طاعة الله سبحانه ومن حسن الخلق ومن حسن الصورة، فيطلبون من الله عز وجل أن يرزقهم هذه الذرية الصالحة والزوجات الصالحات، وينتفعون في الدنيا بذلك، وينتفعون يوم القيامة أيضاً بالأعمال الصالحة، فالزوجة الطيبة المطيعة لله سبحانه ينتفع بها زوجها يوم القيامة، وتكون زوجته في الجنة، ومن خير نسائه في الجنة، كذلك أحدهما يشفع في الآخر، وأحدهما يرفع الآخر، كذلك الذرية الطيبة، فينتفع الإنسان المؤمن بذريته الطيبة، فيكون له أجر تلك الذرية ما وجدوا على الأرض حتى تقوم الساعة.
ثم ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:75]، فيجزيهم الله سبحانه أفضل الجزاء، وهي: الغرفة، والغرفة: الحجرة التي تكون للإنسان وهي عالية، فتطلق الغرفة على المكان العالي، خلافاً لما تعارفنا عليه، فهؤلاء لهم الغرفة عند ربهم، يعني: أعالي الجنة، الفردوس الأعلى من الجنات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، يعني: الدرجة الرفيعة، وأعلى منازل الجنة، وأفضل منازل الجنة، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا.
يقول الله سبحانه: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أي: بسبب صبرهم، فصبرهم كان سبباً في دخول هذه الغرفة وهذه الجنة، صبرهم على طاعة الله عز وجل وطاعة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وصبرهم عن المحرمات فلا يقعون فيما حرم الله، وصبرهم على القضاء والقدر، وهذه أنواع الصبر الثلاثة، فصبروا على الطاعة، ففعلوا ما أمر الله سبحانه وتعالى به، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في سبيل الله سبحانه، وأدوا العبادات التي أمر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فصاموا وصلوا وزكوا وحجوا، وفعلوا كل خير طلب منهم، فصبروا على الطاعة، والطاعة تكليف، والتكليف يكون فيه مشقة وكلفة، فهؤلاء صبروا على هذا التكليف فأطاعوا، وصبروا عن المعاصي، فانتهوا عما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك والسرقة والزنا والقتل والعقوق والمنكرات، وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وصبروا على ما ابتلاهم الله عز وجل به ليمحصهم، وليظهر إيمانهم، وليظهر تقواهم، ابتلاهم بالمصائب، وبنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وإذا بهم يصبرون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، فلا يضجرون، ولا يعترضون، ولا يتذمرون، ولكن يصبرون لأمر الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فهؤلاء بشرهم ربنا سبحانه وتعالى في الدنيا بأن لهم أجراً عند الله سبحانه، فيجزون الغرفة بما صبروا، فبصبرهم وصلوا إلى أعالي الجنات، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75]، (يُلقَّون) هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (ويَلقون فيها تحية وسلاماً) فهم يُلقون ويَلقون، والمعنى متقارب، فإذا دخلوا الجنة لقوا التحية من ملائكة الله عز وجل، بل ويحييهم ربهم بالسلام سبحانه وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، يلقون ذلك، وينادون بهذه التحية، فإذا دخلوا الجنة أفواجاً إذا بالملائكة تحييهم فتتلقاهم بالتحية والسلام.
وكلمة التحية معناها: الدعاء بالحياة، فتقول: حييت فلاناً، أحيي فلاناً، بمعنى: أدعو له بالحياة الطيبة الكريمة، فمن الذي يدعو لهم بهذه الحياة الطيبة، وبالحياة التي هي أمن وسلام دائم؟ إنهم ملائكة الله عز وجل بأمر الله سبحانه، بل ويحييهم ربنا سبحانه وتعالى، تحية من عنده مباركة طيبة، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، يلقون فيها تحية، أي: دعاء بالخلود في الجنة، بالحياة الكريمة الدائمة التي لا يزولون عنها أبداً، تسلم عليهم ملائكة الله، ويسلم عليهم ربهم سبحانه، ويسلم بعضهم على بعض، ويلهمهم ربهم في الجنة التسبيح كما يلهمون في الدنيا النفس.
والتحية: هي البقاء الدائم والملك العظيم، ويلقون فيها السلام أيضاً، أن سلمتم وأنكم تسلمون، وأنكم تعيشون في الجنة بسلام، فلا خصام في الجنة، ولا نكد فيها، ولا كدر فيها، ولا حقد ولا غل ولا قاذورات ولا نجاسات، ولا حيض ولا نفاس، ولا تفل ولا مخاط، ولا شيء في الجنة يكدر على أهل الجنة حياتهم ومعيشتهم، يأكلون ما يشاءون ولا يتخمون أبداً، بل إذا أكل الإنسان منهم، أخرج ما أكل رشحاً يرشحه، أي: عرقاً رائحته كرائحة المسك، فلا بول ولا غائط، وهذا من فضل الله ومن كرمه ورحمته سبحانه وتعالى.(126/2)
تفسير قوله تعالى: (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً)
قال الله: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:76]، هذه الجنة يخلدون فيها، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لا خوف من المستقبل، ولا حزن على الماضي، فحياتهم آمنة مستقرة، حسنت مستقراً يستقرون فيها، ومكان إقامة ينزلون فيها، ولا يخرجون منها أبداً.(126/3)
تفسير قوله: (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم)
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77]، هذا الإنسان لا يساوي شيئاً وما يعبأ به ربه سبحانه، ويعبأ من العبء: وهو الثقل، يقال: هذا يحمل عبئاً يعني: ثقلاً وكلفة وشدة ومشقة، فما الذي يشق على الله سبحانه وتعالى من هذا الإنسان الضعيف الحقير الذي كان نطفة، وكان علقة، وكان مضغة، وكان لا شيء، كان تراباً ثم صار هذا الإنسان ثم يرجع إلى التراب؟! فما الذي يكون من هذا الإنسان حتى يشق على الله سبحانه وتعالى؟ {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي) [الفرقان:77]، يعني: لا يعبأ بكم الله سبحانه وتعالى شيئاً، ويحتمل أن يكون المعنى: أي عبء يعبئه بكم ربي وتتعبونه به؟ لا شيء، فهو لا يبالي بكم سبحانه، فإذا أدخلكم الجنة أو أدخلكم النار فلا يبالي، وجنة الله رحمته سبحانه، ونار الله غضبه وعقابه وعذابه، فإن أدخل الخلق كلهم الجنة فلن ينقص شيئاً، ولن يكلف الإنسان ربه شيئاً، ولو أدخلهم كلهم النار فلا يقدرون أن يدفعونها عن أنفسهم، فما الذي يعبئه سبحانه؟ ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، يعني: لا يبالي بكم ربكم سبحانه لولا دعاؤكم إياه، وكأن الخطاب هنا لجميع الخلق، والتخصيص بالدعاء للمؤمنين أو التعميم، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه هدى هؤلاء المؤمنين، فإذا بهم يدعون الله، أي: يوحدونه سبحانه، ويطلبون منه وحده لا شريك له الخير ويسألونه، الجنة، فبدعائهم استحقوا أن يكرمهم الله سبحانه.
فالمعنى: لا يعبأ الله بالخلق جميعهم لولا دعاء هؤلاء المؤمنين، وتوحيدهم ربهم سبحانه، فاستحقوا أن يكرمهم وأن يدخلهم الجنة، ومن رحمته أنه يدعوكم إليه، وأنه لا يعذب الخلق حتى يبعث رسولاً، قال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، فالله عز وجل لا يشق عليه أن يرسل الجميع النار، ومن الذي سيعترض على الله سبحانه وتعالى؟ لكن قد قضى برحمته سبحانه أنه لا يعذب حتى يبعث رسولاً، فأنزل الكتب وبعث الرسل، وجعل من الناس الشقي والسعيد.
إذاً: المعنى: قل ما يعبأ بكم ربي -أيها الخلق- لولا أنه كتب على نفسه الرحمة، وكتب على نفسه ألا يعذب أحداً حتى يحذره، وحتى يرسل الرسل، وينذر الخلق، فما يعبأ بكم ربي لولا أنه أرسل إليكم الرسل فتدعونه سبحانه.
ومعنىً آخر وهو: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي} [الفرقان:77]، أيها المشركون! لولا أنكم تدعونه في وقت الضراء، فالمشركون كانوا يشركون بالله في السراء، فيدعون بعلاً أو يدعون اللات والعزى، فإذا وقعوا في الضراء وفي الشدة وحدوا الله وأفردوه بالعبادة، فطلبوا منه وسألوه، فالله عز وجل تركهم في الدنيا يعيشون بسبب هذا الدعاء الذي دعوا به ربهم سبحانه وتعالى، ولكن في الآخرة يكون في الجنة المؤمنون الموحدون، وفي النار المشركون العصاة.
وقوله سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77]، أي: أيها المشركون! قد كذبتم فاستحققتم العذاب، فسوف يكون هذا العذاب لزاماً، أي: ملازماً لكم لا يفارقكم أبداً، وسيكون جزاء تكذيبكم ملازماً لكم.
عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال: قد مضت البطشة والدخان واللزام.
وكأنه يقول: إن اللزام: هو العقوبة في الدنيا، وهو ما كان في يوم بدر لهؤلاء المشركين من أن الله هزمهم فعذبهم في الدنيا فصاروا إلى النار، واللفظ يحتمل أكثر من هذا المعنى، فاللزام العقوبة سواء في الدنيا أم في الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً نافعاً، وأن يجعلنا من عباد الرحمن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(126/4)
تفسير سورة الشعراء [1 - 6]
لقد أنزل الله عز وجل كتابه على نبيه واضحاً بيناً لا لبس فيه ولا غموض، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغه وتعليمه للناس، واهتم لذلك أشد الاهتمام، حتى إنه كان يحزن على إعراضهم حتى يكاد أن يهلك نفسه من شدة الحرص عليهم، ولقد أمره الله عز وجل أن يتحلى بالصبر؛ لأنه ليس عليه إلا البلاغ، وأما الهداية فليست له، وذكر سبحانه أنه لو أراد لجعل الناس مؤمنين، ولكنه لم يرد ذلك لحكمة بالغة.(127/1)
نبذة عامة عن سورة الشعراء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشعراء: بسم الله الرحمن الرحيم: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:1 - 9].
هذه هي السورة السادسة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، وهي سورة الشعراء، وهي سورة من السور المكية، وفيها خصائص السور المكية، وآياتها مائتان وست وعشرون آية حسب العد المدني الأخير والمكي والبصري، وعند الباقين الكوفيين والشاميين والمدني الأول: مائتان وسبع وعشرين آية.
وهذه السورة آياتها قصيرة، وفيها حكم عظيمة جداً، وفيها ذكر الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كعادة السور المكية، فيذكر الله عز وجل فيها الأنبياء؛ لينبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنهم قد ابتلوا من قبله، وأن ما ابتلي به ليس شيئاً جديداً، وإنما هو سنة أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام.
وفي هذه السورة تثبيت الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، وكأن الله يقول له: كما ابتلي الذين من قبلك ثم نصرهم الله فكذلك أنت، فاطمئن إلى أن نصر الله قريب.
وفيها تهديد للكفار والمشركين على ما يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع المؤمنين، وأنهم إما أن يؤمنوا وإما أن ينزل بهم العذاب والعقوبة من عند رب العالمين كما حدث مع الذين من قبلهم.(127/2)
الكلام على الحروف المقطعة
بدأت هذه السورة بالحروف المقطعة، وهي: حرف الطاء والسين والميم، {طسم} [الشعراء:1]، فهذه السورة والتي تليها والتي تليها: الشعراء والنمل والقصص تسمى بسور الطواسم، يعني: التي فيها طسم، أو التي فيها: طس، وتسمى بالطواسين.
فقوله تعالى: {طسم} [الشعراء:1] هي مثل غيرها من السور التي بدأها الله عز وجل بحروف مقطعة في أوائل السور، وما قيل في هذه السور فإنه يقال أيضاً في هذه السورة، وهو أن الله عز وجل بدأها بهذه الحروف بياناً للناس أن القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون وتنطقون بها، فأتوا بسورة من مثله، فهو تعجيز منه سبحانه لخلقه، فكأنه يقول: إن هذا القرآن ليس كلاماً أعجميعاً، ولا هو بلغة لا تعرفونها، بل هو بغلتكم أنتم، وأنتم الفحول والكبار في النطق باللغة العربية خطابة ونثراً وشعراً، فأتوا بكلام مثله، أو فأتوا بسورة من مثله، أو فأتوا بعشر سور من مثله مفتريات، فلم يقدروا على شيء.
وقيل: إن هذه الحروف المقطعة التي في أوائل السور هي مسميات للسور، فتسمى السورة بها، فيقال: سورة طسم الشعراء، والتي تليها سورة طس النمل، والتي تليها سورة طس القصص، وقيل: بل إنها أقسام يقسم الله عز وجل بها.
وقيل: بل إنها افتتاح للسور لشد انتباه الكفار؛ لأنهم لم يتعودوا على هذا الشيء، فعندما يقول: الم، فإنهم يسمعون للذي يقول، ويسمعون لهذا الكلام الغريب، فيتلوا عليهم بعد ذلك هذا القرآن العظيم، ولذلك لا يذكر في هذا القرآن العظيم فواتح للسور مثل: ألم، الر، طسم، طس، حم، وغيرها من الفواتح إلا ويذكر بعدها إشارة لهذا القرآن العظيم، كما قال تعالى في سورة البقرة: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، وكما قال في سورة آل عمران: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقال هنا: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، فكأنه يشد انتباه هؤلاء بحروف لا يفهمون معناها؛ من أجل أن يتعرفوا ما هو المقصود، فإذا سمعوا ذكر لهم ما يريده منهم هذا القرآن العظيم.
وعلماء العد يقولون: إن كل سورة يبدأها الله عز وجل بفواتح من أحرف معينة فإن هذه الحروف تكون فيها أكثر عدداً من غيرها من الحروف، فلو عددت حروف هذه السورة فستجد أن الطاء والسين والميم أكثر حروف السورة تكراراً فيها.
قال تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:1 - 2]، وفي هذه السورة كرر الله عز وجل بعض الآيات فيها مرات، فكرر قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فقد كررها ثمان مرات في هذه السورة، فلا يذكر نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا ويذكر هاتين الآيتين، فقد ذكر قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر بعده ذلك فقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
ثم ذكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم نوحاً، ثم هوداً، ثم صالحاً، ثم لوطاً، ثم شعيباً، وبعد أن يذكر كل قصة يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فيكرر ذلك لتقرير هذا الأمر والتأكيد عليه، فإن في هذه آية لمن يعتبر، ففي كل قصة من قصص الأنبياء وما فعل الله عز وجل بأقوامهم آية من الآيات، ومع ذلك لم يكونوا مؤمنين، وكذلك من جاء من بعدهم لم يؤمنوا بما جاء قبل ذلك.
وكذلك كرر الله سبحانه قوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقد ذكر ذلك في خمسة مواضع من هذه السورة: في قصة نوح، وفي قصة هود وفي قصة صالح، ولوط، وشعيب.
وكذلك كرر قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108] في قصة نوح وهود وصالح.
والمقصد من ذلك التأكيد والتقرير لماذا أرسل الله الرسل، وأنه أرسلهم لبيان شرع رب العالمين، ولهداية الناس للإيمان بربهم، وأن يطاعوا ولا يعصوا.(127/3)
تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب المبين)
وقد بدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله سبحانه: {طسم} [الشعراء:1]، فقراءها شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالإمالة للطاء، {طِسم} [الشعراء:1]، والطاء لا تمد إلا مداً طبيعياً، وتمد السين مداً طويلاً بمقدار ست حركات، وكذلك الميم.
وتدغم السين في الميم عند الجمهور، وحمزة ينطقها بنونها ولا يدغمها.
وأما أبو جعفر فكعادته في كل هذه الفواتح التي في أوائل السور فإنها يقرأها حروفاً مفرقة ولا يوصلها ببعضها؛ من أجل أن يبين أنها ليست كلمة، بل هي حروف مقطعة.
قوله تعالى: ((تِلْكَ)) إشارة للبعيد، والمقصود منها التعظيم للآيات العظيمة، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الشعراء:2] يعني: هذه الآيات العظيمة التي نتلوها عليكم هي آيات الكتاب المعهود الذي نزل من عند رب العالمين، وهي القرآن المبين المفصح عما فيه، البين الواضح الذي فيه الحجج، وفيه النور، وكلامه بيِّن ليس غامضاً، ولا يوجد فيه إشكال، بل تفهمون ما يقوله لكم.(127/4)
تفسير قوله تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين)
ثم وجه الخطاب للنبي صلوات الله وسلامه عليه مواسياً له، فقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3]، فقوله: ((بَاخِعٌ)) أي: قاتل ومهلك، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت ستقتل نفسك من أجلهم وهم لا يستحقون هذا الشيء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ربهم سبحانه وتعالى فإذا بهم يعرضون عنه ويكذبونه، فكان يحزن حزناً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، فكأنه تعالى يقول له: إذا حزنت حزناً شديداً فإنك في آخر الأمر ستقتل نفسك غماً وكمداً، ولن تبلغ هذه الرسالة، ولكن اصبر وتسلى بما جاءك من عند ربك، وصابر على ذلك، وادعهم مرة ومرتين وثلاثاً، ولا تهلك نفسك من أجلهم.
وهذه الآية كقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] أي: ستقتل نفسك عليهم؛ لكونهم لم يؤمنوا بهذا الحديث، من شدة أسفك عليهم، فهذا في سورة الكهف، وقال هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:2 - 3] أي: بسبب عدم إيمانهم، {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] أي: لو شئنا أن يؤمنوا قسراً وقهراً لأنزلنا عليهم معجزة حسية من السماء يرونها، فتكون آية من آيات رب العالمين، وعذاباً وهلاكاً عليهم، فنهلك بعضهم حتى يؤمن الباقون، فنريهم الملائكة عياناً تخويفاً لهم، فيؤمنون قهراً، ولكن لا نريد ذلك، بل نريد أن يؤمنوا وقد نظروا إلى آيات الله عز وجل المتلوة، فيعرفون ما يخبرهم به ربهم سبحانه، فيؤمنون على الغيب وليس على الشهادة؛ لأن الإيمان على الشهادة لا ينفعهم؛ لأن هذا ليس هو الإيمان بالغيب الذي يريده الله عز وجل؛ ولذلك قال: لو أردنا لأنزلنا عليهم آية بينة، ولأريناهم الجنة، ولأريناهم النار، ولأريناهم الملائكة، ولأنزلنا عليهم آيات من السماء فآمنوا قهراً وجبراً.(127/5)
تفسير قوله تعالى: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية)
فقال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ} [الشعراء:4] أي: لو أردنا لفعلنا، ولكن لا نريد ذلك، وقوله تعالى: {نُنَزِّلْ} [الشعراء:4] هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: ((نُنَزِّلْ)).
وقوله تعالى: ((عليهم)) قرأها حمزة ويعقوب: (عليهُم) في كل القرآن وقرأ الباقون: (عليهِم).
قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً} [الشعراء:4] أي: هم يكذبون بنزول القرآن من السماء، ولو أردنا وشئنا لنزلنا عليهم آية يرونها نازلة من السماء، وهي إما عذاب نعذب به بعضهم، وإما آيات ومعجزات يرونها حسية أمامهم، فلو أردنا لفعلنا، وإن كان الله قد فعل أشياء من ذلك ولم تكن للجميع، وذلك مثل مسألة انشقاق القمر، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1].(127/6)
معجزة انشقاق القمر
فقد طلب بعضهم من النبي صلى الله عليه وسلم معجزة حسية يرونها، وقالوا له: إذا كنت رسولاً فاجعل القمر ينشق، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه، وأشار صلوات الله وسلامه عليه إلى القمر، فانفلق القمر فلقتين، فكان آية من السماء، ولكن لم تكن لكل الكفار، بل كانت للبعض الذين كانوا مستيقظين في هذه الليلة، ولو كانت للجميع فكفروا لنزل عليهم العذاب من عند رب العالمين، فرأى هؤلاء ذلك ثم قالوا: إنما سحر أبصارنا بهذه الشيء، فقال بعضهم لبعض: إن كان سحر أبصارنا فإنه لم يسحر أبصار الذين يأتون من رواء الجبل، فانتظروا حتى يقدم قادم فنسأله، فجاءت القوافل من رواء الجبل وسألوهم: هل رأيتم القمر في ليلة كذا قد انشق؟ فقالوا: رأيناه انفلق ثم رجع مرة أخرى.
فهذه معجزة من معجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان البعض من المسلمين ينكرون ذلك، ويتأولون قوله تعالى في الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] أنه في يوم القيامة سيكون هذا الشيء، وأما في الدنيا فلا، ويردون الأحاديث التي جاءت في انشقاق القمر إلى أن أثبت الكفار ذلك فرجعوا إلى عقولهم، فقد ذكر الكفار: أنه لما طلعت بهم سفن الفضاء إلى القمر -وهذا نقل زغلول النجار - نظروا فيه وبحثوا فرأوا في القمر شقاً بطول القمر كله، فقالوا: هذا الشق دليل على أنه انفلق في يوم من الأيام، والتحم مرة أخرى.
قال الله عز وجل: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر ذلك، فقد جاءت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم بأنه أشار إلى القمر فانفلق، ومع ذلك لم يؤمن هؤلاء الكفار إلا لما شاء الله عز وجل لهم.
فيقول سبحانه هنا: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4]، فالإنسان المتكبر يكون رافعاً رأسه إلى أعلى؛ استكباراً على الخلق، وأما الإنسان المذلول فيكون ثانياً رقبته إلى أسفل، فالمقصود هنا بقوله تعالى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:4] أي: خضعت الأعناق وذلت بهذه الآية التي جاءت من عند رب العالمين سبحانه، فلو شئنا لفعلنا ذلك فألزمناهم الإيمان قهراً، وجعلناهم خاضعين ذليلين فيدخلون في هذا الدين، ولكن لم نرد ذلك.(127/7)
تفسير قوله تعالى: (وما يأتيهم من ذكر من ربهم الرحمن محدث)
قال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5] أي: وما يأتي هؤلاء الكفار من ذكر من عند الرحمن، ولم يقل: من الله ولكن قال: من الرحمن؛ لبيان فضله ورحمته سبحانه، ولم يقل: من الرحيم؛ لأن الرحمن صيغة مبالغة، وفيها رحمة ربنا بالعالمين كلهم المسلمين والكفار.
وأما الرحيم ففيها صيغة المبالغة في رحمة رب العالمين الخاصة بالمؤمنين، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43]، فهنا ناسب أن يذكر الرحمن لرحمته للخلق، فقد رحم خلقه، فأنزل الكتب، وأرسل الرسل لجميع الخلق، ولم يميز بعضهم عن بعض، حتى تكون حجة رب العالمين على الخلق جميعهم.
{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5]، فالقرآن كلام رب العالمين، وكلام رب العالمين صفة من صفاته ليست محدثة، بل هي صفة قديمة من صفات رب العالمين، فقد أخبر أنه يتكلم سبحانه، وقد تكلم الله عز وجل بالقرآن قبل أن يخلق السموات والأرض، فهذا القرآن كلام رب العالمين سبحانه.
وهنا يذكر أنه محدث، أي: محدث النزول، فقد نزل إلى السماء الدنيا، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: فتجدد النزول يكون باعتبار الحوادث، وإلا فهو كلام قديم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل الأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء:5] يعني: نزول هذا القرآن هو المحدث؛ لأن مجيء جبريل عليه السلام به كان بحسب الحوادث، فإذا حدثت حادثة نزل جبريل عليه السلام بآيات من كتاب الله سبحانه.
ثم قال تعالى: {إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء:5] أي: أن الكفار يعرضون عما جاء فيه.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ كَذَّبُوا} [الشعراء:6] أي: فعلوا ذلك.
{فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الشعراء:6] أي: سيأتيهم من عند رب العالمين أخبار ما كانوا به يستهزئون، فقد كانوا يستهزئون بأنك ستنتصر عليهم وسيكون ذلك، وكانوا يستهزئون بأنهم سيغلبون وسيكون ذلك، وكانوا يستهزئون بأنهم سيموتون ويبعثون، وسيكون ذلك، فهذه أنباء ما كانوا به يستهزئون، فإنه آت.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(127/8)
تفسير سورة الشعراء [1 - 13]
يخبر الله سبحانه وتعالى في أول سورة الشعراء عن آيات القرآن العظيم، ويصف القرآن بأنه بين واضح جلي، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، وهذا القرآن هو أكبر وأعظم معجزة أنزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم بين سبحانه حال المشركين المكذبين بهذا القرآن، وما دل عليه من البعث والنشور وتكذيبهم بذلك، فنبههم سبحانه إلى النظر في كيفية إخراج النبات من الأرض الميتة، لعلهم يؤمنون بأن الله قادر على أن يبعثهم مرة أخرى للجزاء والحساب.(128/1)
تفسير قوله تعالى: (طسم تلك آيات الكتاب أنباء ما كانوا به يستهزئون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الشعراء:1 - 6].
ذكرنا في الحديث السابق أن هذه السورة من السور المكية، والسور المكية لها خصائص منها: أنها تهتم بأمر العقيدة والتوحيد، وذكر ابتلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكر ما فعل الأقوام مع المرسلين، وما فعل الله عز وجل عقوبة لهؤلاء، فأنزل بهم عذابه وبطشه سبحانه وتعالى.
في هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى: ((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)) أي: هذه الآيات التي نتلوها عليك هي آيات هذا القرآن العظيم البين الواضح الحجة، الذي يفهمه من يسمعه فلا يحتاج إلى بيان، فهو بين بذاته، وهو نور وبرهان من الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: ((لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: لعلك مهلك نفسك إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن العظيم، لا، لا تهلك نفسك على آثارهم، ولا تهتم لكفرهم، ولكن عليك أن تدعوهم، فليس عليك إلا أن تبلغ رسالة رب العالمين سبحانه، أما أن يهتدوا أو لا يهتدوا فليس هذا شأنك، وإنما هو بيد الله سبحانه وتعالى.
((إِنْ نَشَأْ ننزل)) أي: لو أردنا أن نلزمهم هذا الإسلام ونلزمهم بالإيمان لجعلناه قهراً وقسراً أن يؤمنوا، ولو شئنا لنزلنا ((عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)) أي: خاشعة وذليلة، ولكن الآية التي جاءت من عند رب العالمين إلى هؤلاء هي هذا القرآن العظيم المعجز، وقد تحداهم الله عز وجل به أن يأتوا بكتاب مثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، أو أن يأتوا بسورة من مثله، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
قال سبحانه: ((وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ)) أي: ما يأتيهم من آيات ومن قرآن فإنه من عند رب العالمين، قوله: ((مُحْدَثٍ)) أي: جديد في نزوله، وقد نزل به جبريل من عند رب العالمين ليخبرهم بهذه الحادثة وهذه الواقعة، وإلا فالقرآن قديم من قبل ذلك.
قال سبحانه: ((فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)) أي: هؤلاء المشركون قد أعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كذبوه فيما جاء به من عند ربه، فيهددهم الله سبحانه بقوله: ((فسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون))، فقد كانوا يستهزئون بالموت، وبالبعث وبالنشور، وبالحساب، وبانتقام الله عز وجل منهم، وبوعده للمؤمنين أن يمكن لهم، فسيأتي نبأ هذا كله، ففي يوم من الأيام سيموتون ويرجعون إلى ربهم ويعلمون كيف كانوا يستهزئون بما هو الحق من عند رب العالمين، ولذلك قال لهم: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82].
كم ضحك الكفار مستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وكم بكوا بعد ذلك لما لقوا ربهم؟ ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قليب بدر في يوم بدر وقد ألقيت فيه جثث الكفار رءوس الكفر، وقف يناديهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) أي: هل وجدتم الآن وأنتم في هذا القليب في هذا البئر المطمور عليكم هل رأيتم ما وعد الله عز وجل من نصر الإسلام والمسلمين، ومن خذلانكم، ومن عذابكم؟! (فقال عمر: يا رسول الله! كيف يسمعون وقد بليت أجسادهم؟ فيقول له: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم)، فقد أسمعهم الله عز وجل ما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه لهم، فجاءتهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.
فهذه السورة مكية، وهي تتهدد هؤلاء الذين كذبوا رسوله وكذبوا كتابه، وفعلاً حدث بعد ذلك بهم ما أخبر الله به، وصدق الله العظيم سبحانه وتعالى.(128/2)
تفسير قوله تعالى: (أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:7]، فقد كانوا يستدلون على النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم سيصيرون جيفة وسيموتون ولا يبعثون، فقد جاء في الحديث: (أن أحد المشركين ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عظم من رأس إنسان ميت ففركه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: تزعم أن ربك يبعث هذا؟ قال: نعم يبعثه ويدخلك النار).
فربنا يقول لهؤلاء الحمقى والمغفلين: انظروا إلى النبات الذي نخلقه، فهو يخرج نضراً وفيه الثمار من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يصير يابساً جافاً، ثم يموت بعد ذلك، ويخلق الله عز وجل غيره، فهل رأيتم إلى الأرض وهي ميتة حين ينزل عليها الماء من السماء كيف تنبت من كل الثمرات؟ أليس الذي أنبتت ذلك قادراً على أن يعيدكم مرة أخرى؟! لم لا تنظرون! قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا} [الشعراء:7]، فكل نبتة تخرج من الأرض وكل حبة يجعلها الله عز وجل آية لكم، وفي كل ثمرة توجد آية للعباد.
قوله: ((كم أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)) أي: من كل صنف من الأصناف.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} فالله عز وجل هو الذي خلق ورزق، وهو الذي قدر كل شيء، وهو الذي أخرج لكم كل شيء، فهو بهذا ينبهكم على عظمته وقدرته، وأنكم لو نظرتم بعيونكم وتفكرتم بقلوبكم لعلمتم أن الذي يخلق هذا النبات: فتخرج النبتة، ثم تكون الحبة، ثم تأخذ أنت هذه الحبة وتضعها في الأرض فإذا بالله ينبتها مرة ثانية، ويخرج منها ما يشاء من فضله سبحانه قادر على إعادتكم، فهذه آيات ليل نهار يراها الإنسان أمامه، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] فقد أخرج لكم {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ} [الشعراء:7]، أي: من كل صنف ونوع من الأنواع متشابه وغير متشابهة، {كَرِيمٍ} [الشعراء:7] أي: حسن شريف.
وأصل الكرم في اللغة: الشرف، وبمعنى الفضل، فيقال: هذه نخلة كريمة، يعني: تؤتي ثمرها اللذيذة الطعم، فهي نخلة كريمة فاضلة كثيرة الثمار، ورجل كريم أي: شريف فاضل صفوح يعطي، فهنا أخرج الله لكم من النبات من كل زوج كريم، فأكرمكم الله بذلك، وأعطاكم من وفير ما خلق لكم، ألا تبعدونه سبحانه؟! قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين))، هذه الآية يكررهما الله عز وجل في القرآن عدة مرات، كلما ذكر قصة قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، فيكرر ذلك لتتدبروا في كل آية، والله عز وجل في كتابه إذا أراد أن يعظ الخلق كرر لهم ذلك، كما كرر في سورة الرحمن واحداً وثلاثين مرة قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13]، فكان كلما ذكر نعمة للإنس وللجن قال: ((فَبِأَيِّ آلاءِ)) أي: بأي نعمة من نعم الله تكذبون بها؟ وهنا يذكر لنا الآيات ويكرر كذا مرة ويقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
قوله: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ))؛ وذلك لأنهم لا يتفكرون ولا يوقنون ولا يؤمنون بأن الله وحده هو الذي يستحق العبادة، ولذلك قال لنا في الآية الأخرى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] أي: أكثر الناس من أهل الباطل، وأهل الحق قليلون، ولذلك في يوم القيامة ينادي ربنا سبحانه آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة).
وقال سبحانه هنا: ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: الأكثرون هم الذين يعرضون ويكذبون، والأقلون هم المؤمنون، فالحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان.
يقول سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9] أي: وإن كان أكثرهم كافرين فلا يحتاج إليهم ربهم سبحانه؛ لأنه الغني سبحانه، فهو مستغن عنهم وعن عبادتهم إنه العزيز القوي القاهر الذي لا يغالب أبداً سبحانه.
((وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ)) فبدأ بعزته سبحانه وتعالى واستغنائه عن خلقه، ثم عقب بذكر رحمته، وإن كان الغالب في كتابه أن يبدأ بالرحمة قبل ذكر صفات العزة والقوة، ولكن هنا لما ذكر أن أكثرهم كافرون فالمناسب ذكر عزته وقدرته وقوته سبحانه.
قوله: ((الرَّحِيمُ)) فرحمته خاصة بالمؤمنين، فيعذب الكافرين ويرحم المؤمنين.(128/3)
تفسير قوله تعالى: (وإذْ نادى ربك موسى فأرسل إلى هارون)
لقد ذكر سبحانه بعد ذلك قصة موسى صلوات الله وسلامه عليه، وقصة موسى تكررت في القرآن في مواطن كثيرة من القرآن، وموسى عليه الصلاة والسلام كان صاحب شريعة قبل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فذكر موسى وذكر محمد للتشابه، يعني: أن كليهما هذا صاحب شريعة، وهذا يدل على أن عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جاء مكملاً ومتمماً لما جاء به موسى صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وليحكمهم بالتوراة التي جاء بها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وجاء عيسى بالإنجيل وهو كتاب مواعظ وليس شريعة، لكن التوراة هي التي حكم بها المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما يذكر ربنا القرآن يقول لنا: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود:17]، أي فهناك تشابه بين القرآن وكتاب موسى، لكن القرآن أعظم كتب الله سبحانه وتعالى، وهو ناسخ لغيره من الكتب إلى قيام الساعة، وهو الذي يعمل به إلى قيام الساعة، وإذا نزل المسيح حكم بهذا القرآن العظيم.
فيقول ربنا سبحانه وتعالى هنا: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، قوله: (وإذ) أي: اذكر وقت، قوله: (وإذ نادى ربك موسى) هذه القصة قصة عجيبة جداً بطولها في القرآن، فكلما قرأت في موضع تجد فيها أشياء موجودة في مكان آخر وأشياء غير موجودة، فالإنسان في هذه القصة يجد أنها تكررت في القرآن، في سورة البقرة تجد ذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وفي سورة الأعراف، وهود، ويونس، وطه، والقصص، والشعراء، والنمل، ومع كثرة ذكر قصة موسى فإنك لا تمل من القراءة، فإنك عندما تقرأ القصة في موضع تتبين أشياء وتكتسب معرفة لم تكن تعرفها قبل ذلك، بخلاف لو أنك تقرأ قصة يكتبها إنسان مرة ومرتين وثلاثاً فإنك تمل منها، لكن القرآن لا يمل منه قارئه أبداً، فكلما قرأ يجد شيئاً جديداً لم يكن ينتبه له قبل ذلك.
إن قصة موسى ذكرت قبل ذلك مراراً في عدة سور من القرآن، وفي كل سورة يذكرها بما يناسب السورة التي ذكرت فيها، فأنت حين تقرأ القصة في سورة الأعراف تجد القصة متسلسلة معها، وكذلك عندما تقرأ القصة في سورة طه تجد القصة متسلسلة معها، وهنا في هذه السورة كذلك، فسبحان الله! ما أعظم هذا القرآن وما أجمله! فتجد القصة لا تتنافى أبداً مع السياق الكلي للسورة، فهي متسلسلة على نمط معين.
فهنا قبل ذكر القصة قال الله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:8 - 13]، فتجدها منسقة على نفس الوزن الذي عليه السورة جميعها.
فيذكر ربنا سبحانه وتعالى هنا أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره ربه {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] أي: بعدما صار رسولاً عليه الصلاة والسلام، وفي سورة القصص يذكر لنا قصته من ولادته، وكيف كان فرعون يقتل الأولاد من بني إسرائيل، وأما هنا فأراد ذكر شيء معين ألا وهو ذكر الرسالة، فنبه بها واستطرد فيها، وذكر كيف أن موسى عليه السلام أقام الحجة على فرعون، وكيف أنه وقف صلباً أمامه يجادله ويقرعه بالحجة، ولا يخاف منه؛ لأن الله قد ثبته عليه الصلاة والسلام.(128/4)
الهدف من ذكر الله قصة موسى وغيره للنبي صلى الله عليه وسلم
إن الغرض من ذكر قصة موسى عليه السلام هو تطمين النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته، أي: كما ثبتنا موسى فإننا نثبتك، وكما نصرنا موسى فسننصرك، وكما هزمنا فرعون وجنوده فسنهزم هؤلاء، فاطمئن بذلك، واقرأ هذا القرآن تزدد إيماناً ويقيناً.
قوله: {إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10] أي: نادى ربنا موسى وهو راجع من مدين متوجهاً إلى طور سيناء، فالله عز وجل جعله يرى في الظلام شجرة من بعيد فيها نار، فلما ذهب إليها وجد في هذه شجرة ناراً فأراد أن يأخذ منها قبساً، فناداه ربه سبحانه وتعالى هنا: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:12 - 14]، وأمره الله عز وجل بالتوجه إلى فرعون، فطلب موسى من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً، وهنا السياق يذكر ذلك.
((َإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) من هؤلاء؟ قال: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الشعراء:11] والظلم الذي كان فيه فرعون هو الكفر بالله سبحانه، وادعاء الربوبية مع الرب العظيم سبحانه وتعالى، بل إنكار ربوبية رب العالمين، وزعمه ذلك لنفسه، قوله: ((قَوْمَ فِرْعَوْنَ)) وهم القبط الذين كانوا في مصر، فأهل مصر كانوا يسمون بالأقباط، فأمر موسى أن يتوجه إلى فرعون وإلى أهل مصر ليدعوهم إلى الله الرب الخالق سبحانه وتعالى؛ ليعبدوه وحده لا شريك له.
قوله: ((أَلا يَتَّقُونَ)) ربهم سبحانه، قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:12 - 13]، هنا في هذه القصة اختصر أشياء، وقد ذكرها لنا في سورة طه، فذكر أنه لما جاء إلى هذه الشجرة ناداه ربه سبحانه وتعالى وقال له في خطابه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، أما هنا فذكر أن موسى لما أمره ربه أن يتوجه إلى فرعون ليدعوه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12] أي: أخاف من فرعون؛ لأنه خرج من مصر بعدما قتل القبطي وهو من أتباع فرعون، قتله موسى وخرج هارباً، وسبب قتْله لأنه كان يختصم ويتشاجر مع رجل من بني إسرائيل، وموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لم يقصد قتله، ولم يكن بعد قد نبئ ولا أرسل عليه الصلاة والسلام، بل كان رجلاً من الناس، ولكن الله عز وجل بفضله وبرحمته عفا عنه وغفر له سبحانه، وموسى أراد يخلص الإسرائيلي من القبطي فوكزه بيده وكان قوياً فقتله، فلما قتله استغفر وتاب إلى ربه سبحانه وتعالى، ثم إنه خرج هارباً من فرعون؛ لئلا يقتله بهذا الذي قتله، فقال هنا لربه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12]، وهذه قراءة الجمهور، ويقرأها نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو: ((إِنِّيَ أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ)) وقوله: (يكذبون) يقرؤها يعقوب: ((أَنْ يُكَذِّبُونِي)).
قوله: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]، فطلب من ربه سبحانه أن يجعل معه أخاه هارون نبياً، فمن الله عز وجل عليه وجعل هارون نبياً مع أخيه موسى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(128/5)
تفسير سورة الشعراء [10 - 22]
يخبر الله تعالى عما أمر به رسوله وكليمه موسى عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره وأخاه بالذهاب إلى فرعون وقومه، وكيف أنه سبحانه أيده بتحويل العصا إلى حية، ففزع موسى وخاف، وما هذا إلا ليثبته ويجعله قادراً على مواجهة المفزعات، بحيث يذهب إلى فرعون وهو مطمئن، وعنده القدرة على مواجهته ودعوته إلى عبادة الله وحده، وإطلاق بني إسرائيل من أسره وعبوديته.(129/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ * فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:10 - 21].
في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر الله سبحانه وتعالى قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد ساقها في القرآن في مواضع كثيرة، وفي كل موضع يذكر من القصة الشيء الذي يناسب هذه السورة ويناسب هذا الموضع.
فهنا يذكر قصة تكليف الله عز وجل موسى بالرسالة، وأن يتوجه إلى فرعون ليدعوه إلى الله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، وهنا لم يوضح لنا أين ناداه، لكن في سورة القصص يذكر الله سبحانه وتعالى أين ناداه، حيث يقول: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] يعني: أن موسى كان عند الطور في جبل سيناء يقال فيه: طور سِيناء وسَيناء وسينين، وهو الجبل المبارك، أو الأرض المباركة، أو المكان المبارك.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] أي: كان راجعاً هو وزوجته، {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29]، وكأنه كان في وقت برد شديد وفي ليل مظلم والمكان مخيف، فاستأنس من وحشته بنار في مكان بعيد، فتوجه إليها؛ ليأتي منها بقبس من نار، {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص:29] أي: ابقوا في هذا المكان وأنا سأتوجه وحدي إلى هذه النار، قال: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
كأنه كان تائهاً لا يعرف، فلعله يأتي من عند هذه النار بخبر عن الطريق، أو يأتي بقبس من نار يستنيرون ويستدفئون به؛ {فَلَمَّا أَتَاهَا} [القصص:30] أي: جاء إلى هذا المكان الذي فيه النار، {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30] أي: من جانب الواد الأيمن، {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30]، فإذا بشجرة فيها نار تضطرم فيها وهي خضراء، فالله عز وجل ناداه لما وصل إليها: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30].
وقال في سورة الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]، وهناك في القصص ناداه الله عز وجل: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:30 - 31].
يعني: بدأ الابتلاء من الله عز وجل لموسى والاختبار، ثم التثبيت والإخبار أنه رسول رب العالمين عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وكذا حدث مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له جبريل مباشرة: أنت رسول، وإنما ألقى في روعه ذلك، ولكن كان الاختبار في البداية والتدريب والتمرين حتى يثبت صلوات الله وسلامه عليه، فهنا موسى ذهب وتوجه وحده وترك أهله خوفاً عليهم، وليكون النداء له وحده ليسمع كلام رب العالمين وحده، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما توجه إلى ذلك المكان جاء النداء من رب العالمين، ففزع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فطمأنه ربه وقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13]، فهنا وحي من الله، ولكن قبل ذلك ثبته بأن أراه معجزة أمامه؛ ليعلم أن الذي يناديه هو ربه سبحانه، أو مناد من عند ربه سبحانه وليس شيطاناً وليس جاناً يفزعه في هذا المكان، لذلك قال له ربه سبحانه: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] أي: ارم العصا التي في يدك، {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص:31] أي: كأنها حية ألقى العصا {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31] أي: ولى فاراً ولم ينظر وراءه من شدة الفزع والخوف، {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31].
فلما أراه آية ومعجزة خاف منها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأراد الله أن يطمئنه ويثبته، ولو كانت هذه المعجزة حصلت أمام فرعون للمرة الأولى فسيخاف فرعون وموسى أيضاً، ولكن الله عز وجل أرى موسى هذه الآية في ظلمة الليل في مكان موحش وهو وحده عليه الصلاة والسلام، والعصا تتحول إلى ثعبان أمامه؛ حتى لا يفزع حين يذهب إلى فرعون ليريه هذه الآية.
ثم قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: ضع يدك في جيب قميصك، والجيب هو مكان دخول الرأس من القميص، فكان يضع يده في جيب قميصه فيخرجها بيضاء لها شعاع كالشمس في الليل، فيعجب موسى لذلك، فيطمئنه ربه سبحانه وتعالى ويقول له: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32] أي: إذا خفت فضم يدك إلى جناحك إلى جنبك يذهب عنك هذا الخوف، فذهب الخوف عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ثم قال له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص:32] ليس لك أنت؛ لأنك قد عرفت، ولكن {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32] أي: اذهب بهذه الآيات إلى فرعون وقومه.
ففي سورة القصص أطال ذكر القصة، واختصرها هنا في سورة الشعراء.(129/2)
تفسير قوله تعالى: (قوم فرعون ألا يتقون إني أخاف أن يكذبون)
{قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء:11] أي: أليس يتقون ربهم ويخافونه سبحانه وتعالى؛ لئلا ينزل بهم العذاب والنكال؟ فبعدما اطمأن موسى وعلم أن الذي يخاطبه هو الله عز وجل، ورأى المعجزات البينات، بدأ يطلب من ربه سبحانه الإعانة فقال: {رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12] أي: أخاف من فرعون ومن معه أن يكذبوني، فهو كان يعرف أنهم سيكذبونه، فقد ذكر الله لنا في سورة طه وفي سورة القصص أنه تربى في بيت فرعون، وبهذا يكون قد عرف طبيعة فرعون، وما الذي يمكن أن يجابهه به، وكذلك قد عرف الملأ من قوم فرعون وما الذي يمكن أن يواجهونه به، فلذلك بدأ بذلك وقال لربه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [الشعراء:12]، وقراءة يعقوب: ((إني أخاف أن يكذبوني)).(129/3)
تفسير قوله تعالى: (ويضيق صدري ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون)
قال الله تعالى: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13].
كأنه يقول: وإني يضيق صدري، ولذلك رفعت هنا على الاستئناف أو القطع عما قبلها، {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:13]، فقد كان في لسانه لثغة وثقل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وموسى عليه الصلاة والسلام كانت فيه حدة، وكان يغضب بسرعة، ولذلك عندما غضب على القبطي وكزه موسى عليه الصلاة والسلام فقتله.
فهنا يقول لربه: أنا أخاف من نفسي وأخاف على نفسي، فأخاف أن يكذبوني، وأيضاً أخاف أن يضيق صدري بسرعة، وأيضاً عندي لثغة في لساني فلا ينطلق لساني، فلا أستطيع الكلام معهم، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} أي: اشدد أزري بأخي هارون يكون معي، وجاء في سورة القصص قال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34] أي: يتكلم أحسن مني؛ لأن موسى كانت فيه لثغة في لسانه من صغره عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وكان سببها: أنه لما كان في بيت فرعون حمله فرعون، فإذا بموسى يشده من لحيته فيغضب فرعون ويريد قتله، فإذا بزوجة فرعون تقول له: إنه صبي لا يفهم، لكن فرعون كان مصراً على أن يقتل الصبي، فقالت له: أعطه جوهرة وأعطه جمرة وانظر أيهما سيأخذ؟ فالله عز وجل جعله يأخذ الجمرة من النار ويضعها على لسانه، فأصيب بلثغة في لسانه، حتى أصبح لا يجيد التعبير، ويثقل النطق على لسانه، ولذلك دعا ربه فكانت معجزة أخرى من معجزاته عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28]، ثم قال له ربه بعد ذلك: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36].
فهنا في هذه الآيات يقول لربه سبحانه: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء:12 - 13]، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة يعقوب: (ويضيقَ صدري ولا ينطلقَ لساني) بنصب الفعل، وكأنه عطف على أن خوفي من تكذيبهم وخوفي من أن يضيق صدري، وخوفي من ألا ينطلق لساني فلا أقدر على التبليغ، {فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} [الشعراء:13]؛ لأنه أفصح مني لساناً، وقال أيضاً: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [الشعراء:14].
قالوا: كان موسى عليه السلام أنفع أخ لأخيه في الدهر كله؛ لأنه طلب من ربه أن يجعل أخاه نبياً معصوماً؛ لأنه ما من نبي إلا وهو معصوم، وما من نبي إلا وهو في الجنة، فكان أعظم دعاء يدعوه أخ لأخيه هو هذا الذي دعاه موسى، واستجيب له في أخيه هارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فقوله: ((وَلَهُمْ)) يعني: لفرعون وقومه لهم، ((عَلَيَّ ذَنْبٌ)) أي: لهم علي قصاص، وهو أنه قتل القبطي، قال: ((فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)) أي: أن يقتصون مني؛ لأني قتلت رجلاً منهم، وقراءة يعقوب: ((فأخاف أن يقتلوني)).(129/4)
تفسير قوله تعالى: (قال كلا فاذهبا بآياتنا أن أرسل معنا بني إسرائيل)
قال الله تعالى: {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، والآيات هي: العصا واليد، فاذهبا بهذه الآيات إلى فرعون وجنوده، قال سبحانه: ((إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ))، وقال في سورة طه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أسمع ما تقولان وما يقال لكما، وأرى ما تفعلون.
وقال سبحانه: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء:16]، فأمر الله عز وجل بأن يذهبا أولاً إلى فرعون {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا} [الشعراء:16]، يعني: اذهبا إليه وقولا له: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16]، وهناك في طه أمر سبحانه أن يقولا له: {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:47] فهناك ذكر التثنية، وهنا ذكر الإفراد، وقد ذكر المفسرون أن سبب إفراد كلمة رسول: أن الأصل في ذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، فأفرد باعتباره هو الأصل الذي يبلغ، وقيل: لا، ليس هذا المقصود، بل إن الرسول يأتي بمعنى المرسل الذي يرسل، وتأتي بمعنى المصدر يعني: الرسالة، فإذا جاءت كلمة الرسول بمعنى الرسالة فلا تثنى ولا تجمع، فيكون للواحد، وللاثنين وللجمع، قالوا: وهذا مثل قول الله عز وجل عن إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فهنا جاءت أيضاً على معنى المصدر، والمعنى: أعداء لي، فلما قصد المصدر كانت الصورة واحدة، فيقول: هذا عدو لي، وهذان عدو لي، وهؤلاء عدو لي، يعني: أن العداوة بيني وبينهم قائمة، وكذلك الرسالة هنا وكأنه يقول: إنا ذووا رسالة من عند رب العالمين، ((إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).
وقيل: إنه صيغة فعول وفعيل يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع إذا قصد المصدر.
وقال تعالى: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:17] يعني: جئناك بأن ترسل معنا بني إسرائيل.
إذاً: فالغرض هو دعوة فرعون وجنوده إلى عبادة رب العالمين سبحانه، وأن يترك بني إسرائيل يخرجوا من مصر مع موسى وهارون على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.(129/5)
تفسير قوله تعالى: (قال ألم نربك فينا وليداً قال فعلتها إذاً وأنا من الضالين)
قال تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18].
انظر هنا إلى هذا الانتقال من أمر إلى آخر، فالمشهد الأول: أن موسى ما زال عند الشجرة، وأنه يخاطب ربه، وربه يأمره أنه يذهب إلى فرعون، وموسى يطلب من ربه سبحانه أن يبعث معه أخاه هارون، فأخبره الله عز وجل بأن أخاه سيكون معه، ثم وجه الاثنين: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} [طه:43 - 47]، إذاً فهذا الخطاب كان في الأول مع موسى عند الشجرة، هذا هو المشهد الأول.
المشهد الثاني: أن موسى توجه إلى أخيه وطلب من أخيه أن يكون معه؛ لأنه نبي، وجاءت المخاطبة من رب العالمين والتكليف للاثنين: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه:43] وهذا هو المشهد الثاني.
المشهد الثالث: وهما في بيت فرعون، فاختصر هذا كله في الآيات، وانتقل من مشهد إلى آخر، وهذا من حسن التخلص، وهذا من أفصح وأبلغ ما يكون في اللغة، فهذا المشهد الثالث: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء:18]، فانتقل الآن إلى داخل قصر فرعون وفرعون يرد عليهم، فلا يوجد تكرار ممل، بل انتقل مباشرة إلى ذكر رد فرعون: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18]، وكأن فرعون يمن على موسى عليه الصلاة والسلام، ويقول: أنت جئت لتدعوني وأنا الذي ربيتك وجلست عندي هنا في بيتي وفي قصري سنوات، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} [الشعراء:19] يعني: قتلت القبطي من قومي، {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:19] أي: لنعمتي عليك، ولتربيتي لك، كأنه هنا جاحد لنعمته، فهذا هو معنى الكفر الذي يقصده فرعون، وليس الكفر بالله سبحانه وتعالى.
قال موسى: {فَعَلْتُهَا} [الشعراء:20] أي: حصل مني هذا الشيء ولست كافراً، ولم أجحد نعمة، ولم أكفر بالله رب العالمين سبحانه، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] أي: ما كنت رسولاً من عند رب العالمين سبحانه، وما قصدت أن أقتل هذا الإنسان، ولكني أخطأت، فالضلال يأتي بمعنى الخطأ، ويأتي بمعنى التيه.(129/6)
تفسير قوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم أن عبدت بني إسرائيل)
قال الله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} [الشعراء:21] أي: هربت خوفاً منكم، فموسى كان خائفاً من فرعون من أن يقتله، فالله عز وجل أراه ما يفزعه، ثم بعد ذلك طمأنه سبحانه حتى يعتاد على أنه يرى المواقف المفزعة فلا يفزع ولا يخاف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء:21] أي: رسالة من عنده سبحانه، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21] أي: جعلني واحداً من رسله.
ثم قال لفرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، وهذه فيها معنيان أحدهما أجمل من الآخر: الأول: ((وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ)) كأنه إقرار بأن لك عليّ نعمة فعلاً؛ لأنك أنت الذي ربيتني عندك في البيت، و ((عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) يعني: كان بنو إسرائيل كلهم عبيداً عندك، فأنت مننت علي وأنعمت علي وربيتني ولم تجعلني كغيري.
الثاني وهو أجمل من الأول: أنه قال له ذلك تبكيتاً له، يعني: هل هذه نعمة تمنها علي أن عبدت أهلي بني إسرائيل أكثر من ثلاثمائة ألف شخص في البلد فجعلتهم كلهم عبيداً بغير ذنب أساءوه فيه إليك، فسخرتهم وأتعبتهم وشققت عليهم، ثم تمنّ علي؟! فإن كنت مننت علي بأن تركتني حياً، فقتلك لأولاد بني إسرائيل ذنب فظيع ارتكبته في حقهم، فالمنة لله عز وجل حيث نجاني منك، فأنت لم تصنع معي شيئاً إلا أنك تمن علي أن ربيتني، فلو لم تقتل أولاد بني إسرائيل وتركتني لرباني أبواي، ومن الذي رباني عندك أليست أمي التي أرضعتني؟! فكأنه يقول: أنت مننت علي وتركتني حياً، وكنت تقتل أبناء بني إسرائيل، وهل هذه نعمة أن عبدت جميع أهلي من بني إسرائيل؟ إذاً: فهو يبكت فرعون بذلك، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(129/7)
تفسير سورة الشعراء [18 - 48]
يذكر الله سبحانه وتعالى لنا قصص الأمم السابقة للعبرة والعظة، فقد ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه، وكيف أن فرعون عاند بالباطل، فلم يأت بحجة على قوله، ولم يستمع لحجج موسى عليه السلام، بل دفعها بكلام سامج، وقول بارد، ثم عندما أفحم استخدم منطق القوة، فلم ينفعه ذلك، ثم حشر وجمع السحرة أجمعين؛ لعلهم يغلبون موسى عليه السلام، لكن سرعان ما آمن هؤلاء السحرة وصاروا داعين لفرعون إلى الهدى.(130/1)
تفسير قوله تعالى: (قال فرعون وما رب العالمين إن كنتم موقنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:23 - 31].(130/2)
ذكر ما جاء من إرسال الله لموسى وهارون إلى فرعون وقومه
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما بعدها أن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وجهه ربه وأمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون، فيدعوانه إلى رب العالمين، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله عز وجل لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16] يعني: إنا ذو رسالة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه الرسالة نأمرك فيها بتوحيد الله سبحانه، وبعبادته، وأن ترسل معنا بني إسرائيل، فما كان جواب فرعون إلا أن قال: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء:18] يعني: أتيت تطلب منا هذا الآن ونحن ربيناك، ولنا عليك نعمة في يوم من الأيام، وقوله تعالى: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ} [الشعراء:19] يعني: هذه الفعلة الشنيعة من قتلك القبطي في مصر؛ فعلتها وأنت من الكافرين لنعمتنا عليك، ولتربيتنا لك، فقد قتلت رجلاً من جنودنا.
قال الله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20] يعني: وأنا لا أعرف، فقد أخطأت ولم أقصد أن أقتله، ولم أكن رسولاً بعد ولا نبي، وكنت قد ضللت وما قصدت ذلك، فقد أردت شيئاً فكان غير هذا الشيء.
فموسى أراد أن يضرب هذا الرجل فكانت الضربة فيها مقتل هذا الإنسان، قال موسى عليه الصلاة والسلام: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21]، إذاً: فقد كنت من الضالين عن أمر هذه الرسالة، وعن الحكم الشرعي في ذلك، ففررت منكم.
فالله عز وجل وهب لي بعد ذلك حكماً وجعلني رسولاً من رسله، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21].
قال تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22] يعني: أنت تمن علي بالتربية، وهل هذه نعمة أن مننت علي وعبدت باقي أهلي وجعلتهم عبيداً عندك؟! {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22]، فتمن علي أن ربيتني، وما ربيتني إلا لما ألقتني أمي في البحر بسببك أنت، فقد كنت تقتل جميع الأطفال من بني إسرائيل من الذكور، فاضطرت أمي أن تلقيني في اليم بسببك أنت، فكنت عندك في البيت بسببك أنت، ولو تركتني لرباني أبي وأمي وما احتجت إليك في شيء، فهل هذه نعمة أن مننت علي بهذا الشيء؟! فقد تركتني حياً وقتلت غيري من بني إسرائيل، فأي نعمة في ذلك؟! فقال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ هذا السؤال من فرعون كأنه يستفهم فيه عن الأجناس فيقول: وما هذا الشيء؟ وهذا مثل فعل بعض أهل الجاهلية الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: من أي شيء ربك أمن در أم ياقوت أم ذهب أم فضة؟ والأجناس خلقها الله عز وجل فهي مخلوقة، والله عز وجل تعالى وتنزه عن مشابهة خلق من خلقه سبحانه وتعالى.
فقال فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] يعني: هل هو بشر مثلنا؟ أم هو شيء آخر من حجارة أم من ذهب؟ ما هو هذا الجنس الذي تكلمنا عنه؟ فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، والجواب من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام جواب رزين وحكيم، ففرعون يسأل عن شيء على وجه التهكم، فهو الذي ادعى أمام قومه الألوهية، قال: {فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:23 - 24]، فلم يقل: أنا إلهكم فقط؛ بل قال: أنا ربكم أيضاً، فالإله هو الذي يستحق العبادة، ففرعون لم يقل: اعبدوني فقط، بل قال أيضاً: واعلموا أنني أنا صانع الأشياء، وأنا الرب، وأنا الذي أفعل ما أشاء.
والربوبية مقتضاها: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والنفع، والضر، والرفع، والوضع، فالله سبحانه وتعالى يخلق ويرزق، فإذا بفرعون لعنة الله عليه وعلى أمثاله يدعي الربوبية مع الألوهية، ويصل استخفافه بقومه إلى أن يقول لهم: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
ويسأل فرعون موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، فقال موسى مجيباً عليه: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24].
فقوله تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ} [الشعراء:24] يعني: الذي خلق هذه السموات التي لا تملك أنت أن تصنع مثلها ولا أدنى منها، ورب الأرض التي لم تخلق أنت شيئاً فيها، وأنت تزعم للناس أنك ملك مصر، وأن هذه الأنهار تجري من تحتك.
وقوله تعالى: {وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء:24] أي: ما بين السموات والأرض، فخالق هذا كله هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] أي: إن كان عندكم يقين ولم يكن في قلوبكم شك، إذ أن الله هو الذي فطر هذا كله وأبدعه وأوجده، ولا تقدرون على أن تفعلوا شيئاً من ذلك، فهذا هو الرب العظيم الذي يستحق العبادة.(130/3)
تفسير قوله تعالى: (قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين)
يقول الله عز وجل: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25].
ولو كان عنده حجة لنطق بها ولكنه ليست عنده حجة، بل هو إنسان غبي، فيستغل جهل من معه ويقول هذا الأمر، فيجادل موسى أمام الملأ ولا يرد على موسى حجته، فإن موسى يقول: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء:24] أي: خلق الشمس والقمر، وخلق كذا، وخلق كذا، ولكن فرعون لا يملك ولا يقدر أن يقول: وأنا خلقت كذا وكذا، لذلك ما كان منه إلا أنه قال لهم: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] أي: اسمعوا ما يقول، وهذا على وجه التهكم منه، ولو كان يملك حجة لقالها، ولو كان عنده جواب لرد على موسى، ولكن كان جوابه: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25].
أي: أنا ربكم الذي تعبدونني وهذا يقول لي: هناك رب ثان غيري! فقال موسى مجيباً عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فهذا الرد كلام رزين وحكيم لمن يتأمل ويفهم إن كان عنده قلب، ففرعون هذا أبوه كان فرعوناً قبله، وجده كان فرعوناً قبله، وآباؤه وأجداده ذهبوا جميعاً، ولو كانوا أرباباً كما يزعمون لعاشوا وما ماتوا، فلذلك يقول له: إن هذا الرب هو الخالق لا يموت، وآباؤك كلهم قد ماتوا قبل ذلك، فأين ذهب هؤلاء الآباء؟ فربي هو الذي خلقك وآباءك السابقين ثم أفناهم، وأنت تكون كذلك.
فقال فرعون رداً على موسى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27].
وهذه سفاهات علية القوم، وسفاهات الطبقة العالية التي لا تفهم شيئاً، ففرعون وجنده ووزراؤه عجزوا عن الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهو يسفه كلام موسى، ويقول لمن حوله من القوم: هذا رجل مجنون، قال تعالى: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، والمجنون لا أحد يتبعه، فينبغي لكم ألا تتبعوا هذا المجنون بزعم فرعون اللعين، فقال موسى مجيباً له: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28] أي: لو كان عندكم عقول لفهمتم ذلك، فربي وربكم هو الذي خلق المشرق، وخلق المغرب، وخلق ما بينهما، وأنت تقول لقومك: أنا ملك مصر، لكن بقية بلاد العالم أنت لا تملكها، ولو كنت خالقاً لملكت الدنيا كله، ولكن أنت ملك هنا في مصر فقط، وأما ربي فهو الذي خلق مصر وغيرها، وهو رب المشرق ورب المغرب وما بينهما سبحانه وتعالى، ورب كل شيء لو كنتم تعقلون ذلك، ولم يكن مع فرعون من حجة إلا أنه بدأ بالتسفيه، وتعجيب القوم من موسى، وبادعاء أنه مجنون، ولما لم يستفد من ذلك لجأ إلى القوة والبطش.(130/4)
تفسير قوله تعالى: (قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين)
قال تعالى حاكياً عن فرعون: {قَاَلَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، وذكروا عن فرعون أنه كان إذا سجن أحداً فإنه يجعله في غيابة السجون إلى أن يموت، فكان الموت أرحم عندهم من السجن، ففرعون يجعله في مكان مظلم في قعر الأرض ويتركه حتى يموت في هذا السجن، فقال لموسى متوعداً له: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ} [الشعراء:29] أي: أقسم {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29]، سنسجنك ونعذبك، وحجة ضعيف الرأي أن يهدد بالبطش.(130/5)
تفسير قوله تعالى: (قال أولو جئتك بشيء مبين فإذا هي بيضاء للناظرين)
قال موسى لفرعون: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30] يعني: بما أنك لا تعرف كيف تجيب فهل تتبعني إذا جئتك ببينة ومعجزة تدل على أني رسول من عند رب العالمين سبحانه؟ ولا يستطيع فرعون أن يمنع موسى من إتيانه بالبينة؛ لأن خلفه حاشية وملأ، قال تعالى: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31] أي: لو أنت صادق هات هذه البينة التي تدعيها.
فقوله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء:30] أي: بحجة بينة واضحة فيها البرهان، وفيها الإعجاز والتعجيز لك ولمن معك، قوله تعالى: {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31]، وهو يعلم يقيناً أنه صادق عليه الصلاة والسلام، ولكن يريد أن يحقر من أمره أمام الناس، فقال: إن كنت صادقاً فهات الذي تقوله، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} [الشعراء:45]، وقال سبحانه في سورة الأعراف: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107]، وقد أمر الله سبحانه وتعالى موسى قبل ذلك أن يلقي عصاه فإذا هي ثعبان أمامه، ويفر موسى فزعاً منها.
ولم يرسل الله موسى إلى فرعون حتى طمأنه ودربه على ذلك، قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18]، فلما: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19 - 20]، ففر موسى وفزع منها، فناداه ربه: تعال يا موسى! وخذ هذه العصا ولا تخف، وطمأنه ربه سبحانه حتى أخذ هذه العصا.
والوقت الذي ألقى فيه موسى العصا وصارت ثعباناً كان في ليل مظلم، وفي مكان موحش، وموسى خائف أيضاً، وهذا أشد ما يكون من الفزع، فإذا بالله يطمئنه في ذلك تدريباً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، حتى إذا كان أمام فرعون فإنه سيلقيها وهو مطمئن؛ لأنه جرب قبل ذلك.
فهنا ألقى عصاه وهو مطمئن بربه سبحانه، {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107]، وذكر هنا أنها: {ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:45]، وفي سورة طه قال: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20].
فقد دبت فيها الحياة وصارت ثعباناً بيناً عظيماً فظيع المنظر يسعى بين الناس، فقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء:32] أي: بيِّن أمامهم ليس سحراً وليس كذباً وليست تخيلاً لهم، ولكن صارت ثعباناً حقيقياً أمامهم.
وقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:33]، وقبل ذلك قال الله له: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل:12]، وقال هنا في سورة الشعراء: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء:33]، فكان لها شعاع كشعاع الشمس، فأدخلها في جيبه وأخرجها بيضاء والجميع يرون ذلك، فهي معجزة أمامهم.(130/6)
تفسير قوله تعالى: (قال للملأ حوله فماذا تأمرون)
قال الله تعالى حاكياً عن فرعون حين رأى هذه الآية: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، فليس هناك شيء نافع مع فرعون، فقد جادله موسى بالحجة العقلية فلم يرض بذلك، ثم بالحجة البينة المنطقية فلم يفهم، ثم بهذه الآية الحسية التي أمامه فيقول: هذا ساحر مبين، قال تعالى: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء:34]، وصدقوه، كما قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:109].
ففرعون قال ذلك، والملأ قالوا ذلك مجاملة لفرعون، فقالوا: هذا ساحر يضحك علينا ويسحرنا، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:34 - 35]، فكان فرعون يقول لقومه: إن هذا ساحر قد علم السحر ووصل فيه إلى درجة عالية جداً، وهو يريد أن يخرجكم من أرضكم؛ لكي يثوروا على موسى عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:110]، فيجعل بقوله هذا نفسه عاملاً بالشورى، فهو يطلب منهم المشورة بعد أن استبد برأيه في الرد على موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يترك أحداً يرد، وفي النهاية قال: ساحر، ثم أخذ يتواضع للناس فقال: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف:110].(130/7)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أرجه وأخاه يأتوك بكل سحار عليم)
{قَالُوا أَرْجِهِ} [الشعراء:36]، أي: أخره، من الإرجاء، وفيها قراءات: (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ) وهذه قراءة عاصم، وقراءة حمزة، ويقرؤها قالون وابن وردان بخلف عن أبي جعفر (أَرْجِهِ وَأَخَاه)، بالكسر وعدم الهمز فيها، ويقرأها ورش وابن جماز والكسائي وخلف (أَرْجِهِي وَأَخَاهُ)، بالإشباع أيضاً من غير همز.
إذاً: فالقراءات التي فيها: (أَرْجِهْ وَأَخَاه)، وهي قراءة عاصم وقراءة حمزة.
الثانية: (أَرْجِهِ وَأَخَاهُ)، وهي قراءة قالون وبخلف عن أبي جعفر.
والقراءة الثالثة: (أَرْجِهِي وَأَخَاهُ)، وهي قراءة ورش والكسائي، وابن جماز، وخلف.
وهناك قراءة رابعة: بالهمز فيها، وأيضاً سيكون فيها التسكين والكسر والإشباع، فيقرأ ابن كثير وهشام (أَرْجِئهُو وَأَخَاهُ)، من الإرجاء وهو التأخير، وهذه قراءة ابن كثير وهشام عن ابن عامر بالإشباع.
ويقرؤها البصريان: أبو عمرو ويعقوب: (أَرْجِئْهُ وَأَخَاهُ)، من غير إشباع فيها، وبالهمز مع الضم للهاء.
ويقرؤها ابن ذكوان: (أَرْجِئْهِ وَأَخَاهُ)، فهذه ست قراءات في هذه الكلمة.
قال: {أَرْجِهِ وَأَخَاهُ} [الشعراء:36]، وكل المعاني في الإرجاء أي: التأخير، أي: اصبر قليلاً حتى يأتي الذين يعرفون كيف يردون عليه.
وقوله تعالى: {فِي الْمَدَائِنِ} [الأعراف:111] أي: في مدائن مصر، فابعث إلى الجنوب وإلى الشمال وهات السحرة الموجودين عندك في البلد جميعهم.
وقوله تعالى: {حَاشِرِينَ} [الشعراء:36] يعني: جامعين، يجمعون هؤلاء السحرة، ويجمعون الناس.
قال تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:37]، فهذا ساحر وسنأتي نحن له بكل سحار، والسحار: صيغة مبالغة في ذلك.(130/8)
تفسير قوله تعالى: (فجمع السحرة لميقات يوم إن كانوا هم الغالبين)
وجاء السحرة من كل أنحاء مصر، قال تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:38] أي: في اليوم المحدد لحضور ذلك.
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ} [الشعراء:39] يعني: ففرعون هو الذي جمع السحرة وجمع الناس؛ لكي يشاهدوا هزيمة موسى بزعمهم وظنهم، ولو كان هذا إنساناً عاقلاً ما فعل ذلك؛ لأن موسى سيريه آيات لا يقدر عليها أحد من البشر، وبسبب عناده أعماه الله عز وجل عن الحجج، فقيض الله له من يشهد عليه أنه على الباطل.
قال تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]، وانظر إلى منطق الجهلة والحمقى والمغفلين، فهم لا يقولون: لعلنا نتبع الحق، أو لعلنا نتبع من يغلب، فمنطقهم مثل منطق أهل الجاهلية الذين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، والمفترض أن الإنسان العاقل يقول: يا رب إذا كان هذا حقاً فاهدني إليه وأدخلني فيه، وكذلك هؤلاء الجهلة من المفترض أن يقولوا: لعلنا نتبع الغالب، ولعلنا نتبع من ظهر الحق معه، لكنهم قالوا: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ} [الشعراء:40] أي: نحن مع هؤلاء السحرة: {إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40].(130/9)
تفسير قوله تعالى: (فلما جاء السحرة إذاً لمن المقربين)
{فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [الشعراء:41] طمعوا في عطاء فرعون؛ لأنهم لا إيمان في قلوبهم، بل هم من أكفر الناس، فقد طمعوا في القرب من فرعون، وأن يعطيهم من الأموال ومن المناصب، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] يعني: لقد أتيت بنا من البلدان كلها فهل ستدفع لنا أجرة على هذا الشيء؟ وانظروا كيف يقلب الله عز وجل القلوب، فقد أتوا أول النهار يطلبون الغنيمة والأموال فكانوا في آخر النهار من المؤمنين.
فقال فرعون لهؤلاء: نعم سأعطيكم الذي تريدون، {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فقد جئتم من بلدان بعيدة لتنصروني على هذا، فستكونون قريبين مني.
قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ إِذًا} [الشعراء:42] يعني: حين تغلبون {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42].(130/10)
تفسير قوله تعالى: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون رب موسى وهارون)
لما اجتمع السحرة مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا له متأدبين معه كما في سورة الأعراف أيضاً: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا} [الأعراف:115 - 116]، فاختصر ربنا سبحانه كلام موسى، بينما هنا يقول: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [الشعراء:43]، وقد أتوا ومعهم الحبال والعصي لكي يرموها أمام الناس، فتظهر أمامهم أنها قد صارت حيات تسعى في الأرض، وكذلك عصيهم، قال تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ} [الشعراء:44]، ودعوا بعزة فرعون فقالوا: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44]؛ لأنه ربهم بزعمهم.
{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116] وأتوا بسحر ليس هيناً، بل هو سحر عظيم، فإن الإنسان يخدع حين يرى هذا الكم الهائل من العصيان ومن الحبال وهي تتلوى على الأرض أمام أعين الناس، قال تعالى: {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] أي: يقسمون بعزة فرعون أنهم هم الغالبون؛ لأنهم رأوا العصيان كثيرة أمامهم وصارت حيات كثيرة، وموسى معه عصا واحدة.
فيأتي الأمر من الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن لا تخف، قال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، فلما جاء الأمر من الله ألقى موسى عصاه، قال تعالى: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45].
واختصر القصة هنا ربنا سبحانه وتعالى، فذكر أنهم ألقوا فألقى موسى، وبأمر الله سبحانه صارت عصاه حية تسعى وهي عصا واحدة، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} [الشعراء:45] أي: تبتلع وتلتقط كل العصي والحبال الموجودة على الأرض، وتأكلها جميعها، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45].
فقوله تعالى: {تَلْقَفُ} [الشعراء:45]، هذه قراءة حفص عن عاصم، وأما قراءة البزي عن ابن كثير: (فَإِذَا هِيَ تَّلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ)، بالإدغام، وقراءة باقي القراء: (فَإِذَا هِيَ تَلَقَّفُ مَا يَأْفِكُونَ)، يعني: تبتلع كل ما أمامها من هذه العصي وهذه الحبال، وغُلب هنالك السحرة، وعلموا أن هذا لا يكون إلا من الرب سبحانه، فخروا لله ساجدين؛ لأنهم عرفوا الحق.
فقد كانوا في أول النهار من أكفر الناس، وصاروا في آخر النهار عباداً لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَأُلْقِيَ} [الشعراء:46] أي: خروا وألقوا بأنفسهم ساجدين لله رب العالمين، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:47]، سبحانه وتعالى، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الشعراء:48]، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(130/11)
تفسير سورة الشعراء [46 - 56]
إن الله سبحانه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، فقد هدى الله سحرة فرعون بعد أن كانوا سحرة ضالين، فأصبحوا مؤمنين بالله عز وجل، وقد بين الله تعالى في سورة الشعراء طغيان فرعون وتجبره على بني إسرائيل، وكيف قام بتعذيبهم، ولنا في هذه القصة عبرة وآية.(131/1)
تفسير قوله تعالى: (فألقي السحرة ساجدين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:46 - 51].
يذكر لنا ربنا سبحانه فضله على من يشاء من عباده سبحانه، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء، فالله عز وجل أضل فرعون وقد رأى من الآيات الكثير، وقد جاءه موسى بتسع آيات بينات من عند الله سبحانه وتعالى، فيده فيها آية، والعصا فيها آية، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف:133]، وأخذهم الله بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، فكان ذلك من الله عز وجل آيات بينات لم يؤمن بها فرعون وقومه، مع أنه كلما جاءت آية قالوا متوسلين لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134]، وكل مرة يدعو موسى ربه ويكشف الله عنهم الرجس والعذاب، فيرجعون مرة أخرى إلى كفرهم وتكذبيهم، فالله يضل من يشاء حتى ولو رأوا أمامهم الآيات مفصلات بينات، ويهدي من يشاء ولو بآية واحدة من عنده سبحانه، فهؤلاء السحرة جاءوا مكذبين معترضين على موسى مناصرين لفرعون، ومع ذلك رأوا آية واحدة حين ألقى عصاه، فجعلت تلقف ما ألقوه من حبال وعصي، فخروا لله ساجدين، فهداهم الله جميعاً في ساعة واحدة.(131/2)
تفسير قوله تعالى: (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)
قال تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، لما قالوا ذلك إذا بفرعون تأخذه العزة ويقول: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، فانظروا إلى الاستكبار، فهو يريد أن يكون أمر الإيمان بالله سبحانه بإذنه هو، وهو الذي يقول: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] أي: أنه يأمرهم أن يعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، يقول لهم: آمنتهم من غير إذني ودخلتم في دينه؟ فهو قد رأى الآيات وامتنع من الإيمان، وأي إذن ينتظرونه منه وقد دخل قلوبهم الإيمان فآمنوا بالله رب العالمين سبحانه ولا يحتاج إلى إذن من أحد؟!(131/3)
تفسير قوله تعالى: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم)
قال تعالى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49]، قال فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ) أي: لموسى، {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء:49]، فالإنسان الذي لا حجة عنده يلقي بالكلام جزافاً، ويلقي بالكلام الذي لا معنى له، ففرعون يقول ذلك لهؤلاء السحرة الذين جمعهم هو، ولم يعرفوا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يجالسوه قبل ذلك، بل جمعهم فرعون من أدنى الأرض ومن أقصاها، فاجتمعوا وقالوا: ننصر فرعون، قال تعالى: {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:40]، وقال السحرة لفرعون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41]، فهم لم يعرفوا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولم يجالسوه إلا في هذه المرة، فلما رأوا الحق معه اتبعوا الحق الذي جاء من عند ربهم سبحانه وتعالى.
فقال لهم فرعون: (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ)، وهذا كلام كذب يعرف فرعون أنه كاذب فيه، فيقول: أنتم عملتم حيلة من ورائي، فهو يريد أن يداري أمام الناس، فقد جمع الناس ليعلموا أنه كذاب، فإذا به يقول: هذا كبيرهم؛ لأنه لم يستطع أن يقول شيئاً يرد به على موسى إلا الكذب.
قال تعالى: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) فمتى كان كبيرهم؟! ومتى علمهم السحر وقد أتى من بلاد الشام إلى مصر في هذه الأيام؟! يقول فرعون مهدداً لهم: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي: سنفعل بكم ما ترون.
قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:50] أي: سأقطع يد ورجل كل واحد منكم، وأصلبكم على جذوع النخل؛ لأجعلكم آية للناس.
فهذا فرعون الذي وصفه الله بأنه فرعون ذو الأوتاد، وهذه الكلمة تكررت في القرآن مرتين، فذكر الله عز وجل فرعون بهذه الصفة، وفرعون لقب لملوك مصر، واسم فرعون هذا عرفناه من كلام الذين يبحثون في التواريخ، فكل ملك من ملوك مصر يلقب بهذا اللقب: فرعون، وأما اسمه فقد ذكرنا قبل ذلك أنهم ذكروا أن اسمه: منبتاح بن رمسيس الثاني أو خليفة رمسيس الثاني، وعلماء التاريخ يبحثون في أشياء عجيبة جداً، فيصلون إلى شيء قد أثبته القرآن قبلهم، فعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر وبحثوا في الآثار المصرية استخرجوا جثث القدماء المصريين والملوك، وبعد ذلك أخرجوا اللغة الهيروغليفية التي هي لغة الفراعنة، وبدءوا يدرسونها لكي يعرفوا معانيها، وتعبوا في ذلك كثيراً.
وصعد علماء الفلك إلى القمر فاكتشفوا أن القمر قد انشق يوماً من الأيام، والله عز وجل قال في كتابه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وهم يبحثون لكي يعرفوا اسم فرعون وصفة فرعون وكيف مات فرعون، فأتوا بتصديق لما قاله الله عز وجل في كتابه سبحانه وتعالى، والمسلمون لم يكونوا يعرفون أن فرعون هذا لقبه وله اسم آخر غير ذلك، وله وصف آخر غير ذلك إلا ما جاء في القرآن، وأنه فرعون، وأنه ذو الأوتاد، فإذا بعلماء الغرب الذين يبحثون يقولون: من ملوك الفراعنة من كان اسمه كذا، وبعد ذلك بحثوا في هذا الاسم، وقالوا: هذا فرعون موسى، واسمه بي نو خيو، وكانوا يتساءلون: هل هذا اسم للفرعون أم وصف للفرعون؟ فبحثوا عن معنى الكلمة حتى وصلوا إلى أن: كلمة (بي) تعني: ذو، و (إن) أو (نو) بمعنى: أل، و (خيو) أو (إخ) أو (خي) بمعنى: أوتاد، وهذه هي الكلمة التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، وهذا الكلام ليس كلامنا، ولكنه كلام موجود على الإنترنت ذكره البعض من المسلمين عن دكتور من الذين تخصصوا في اللغة الهيروغليفية اسمه الدكتور علي فهمي خشيم، وذكر يحثاً طويلاً في هذا الشيء مؤداه في النهاية أنه فرعون ذو الأوتاد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه.
وسمي ذا الأوتاد لأنه كان يضع لخصومه أوتاداً على الأرض ويكتفهم في هذه الأوتاد، أو أنه يربطهم على فروع الأشجار، ويدق لهم مسامير ويعلقهم فيها، فهذا هو فرعون ذو الأوتاد، فاسمه الذي وصلوا إليه هو منبتاح، وأنه كان خليفة رمسيس الثاني، ووصفه ذو الأوتاد، وربنا يذكر لنا فرعون ذا الأوتاد، وذكر لنا هنا أنه كان يصلب هؤلاء السحرة على جذوع النخل أو في جذوع النخل.
إن فرعون هذا ذكر الله سبحانه أنه غرق، وقد نجى الله بدنه وألقاه على نجوى من الأرض بحيث ينظرون إليه ويعرفون أن هذا فرعون الذي أغرقه الله سبحانه، وأصحاب العلوم الحديثة يكتشفون ويقولون: إن هذه فعلاً هي جثة منبتاح، وهي جثة فرعون الذي آذى موسى، والذي خرج وراء موسى وأغرقه الله، وفعلاً غرق في البحر ولم يمكث في البحر فترة طويلة حتى خرج من البحر، وهذا بناء على تحليل جثته، ونحن لا نحتاج إلى ذلك، فالقرآن يغنينا، فقد أراهم الله الآيات التي يعلم بها من يكذبه، فقد جاء القرآن بالصدق والخبر الذي لم يصلوا إليه إلا بعد 1400 عام من نزول هذا القرآن المعجز العظيم.(131/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون أن كنا أول المؤمنين)
عندما أقسم فرعون أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم أجمعين، نرى دخول هؤلاء في الإيمان الذي لم يتعد الساعة أو الساعات القليلة، ولكن الإيمان قد استقر في القلوب، حتى إنهم ليردون على فرعون بهذا الكلام العظيم: (لا ضَيْرَ) أي: لا يضرنا، ونتخيل هنا أن هذه الكلمة تصدر من إنسان مؤمن منذ زمن بعيد قام لله وصام لله وصلى لله واستقر الإيمان في قلبه، فيقول: ليس مهماً أن أؤذى في الله سبحانه، وقد يكون الإنسان له في الإسلام فترة طويلة وبمجرد أن يؤذى يفتن، ولكن هؤلاء يتهددهم فرعون فيقولون: (لا ضير) أي: لا يهمنا هذا الشيء، لا ضرر علينا في ذلك طالما آمنا بالله سبحانه، مع أنهم لم يؤمنوا إلا قريباً.
قال الله تعالى: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) يعني: أن النهاية أننا راجعون إلى الله سبحانه وتعالى، فمتى تعلموا هذه العقيدة؟ لقد ألقى الله سبحانه في قلوبهم ذلك، فعرفوا الحق من موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: ((إِنَّا نَطْمَعُ))، في أول النهار كان يطمعون في جزاء فرعون ويقولون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا)، وفي آخر النهار يطمعون في ربهم سبحانه وتعالى وفي فضله الكريم.
قال تعالى: (أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: سابقنا وسبقنا إلى الدخول في هذا الدين قبلك وقبل غيرك، فطمعنا الآن في أن يغفر لنا ربنا خطايانا ولست أنت يا فرعون، ففرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ولكنهم الآن عرفوا من ربهم سبحانه وتعالى، فطمعوا في فضله سبحانه.
قوله: (أَنْ) يعني: لأننا.
وقوله: (كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: أول المؤمنين بربنا سبحانه.(131/5)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون)
قال ربنا سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] جاء الوحي من الله سبحانه وتعالى لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، والإسراء: هو الخروج بالليل، وهنا كأن فرعون غفل أو نسي فأذن لموسى، أو أنه أراد أن يتخلص منه ومن معه بدلاً من أن يجعل الناس يؤمنون به، وتجربته مع السحرة معروفة، فأذن لهم بالخروج مع موسى، فإذا بموسى ومن معه يخرجون، وفكر فرعون من سيخدمه بعد ذلك، ومن سيسخره في العمل بعد ذلك، وربما خرج هؤلاء ورجعوا له بجيش مرة أخرى، فلابد إذن أن نلحقهم ونردهم إلى مصر مرة ثانية.
قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى) أي: جاء الوحي من الله سبحانه لموسى: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، فطلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل، فوافق فرعون، وخرج موسى ببني إسرائيل، وكانوا قبل ذلك قد استعاروا من قوم من أقباط مصر حليهم، فأخذوا هذه الحلي وخرجوا بها، فإذا بأهل مصر يقولون: خرجوا وأخذوا ذهبنا فلن يرجع إلينا ذهبنا، وفي هذه الليلة كما يذكر المفسرون ألقى الله عز وجل الموت على من بمصر من رجالهم أو البعض من رجالهم، فإذا بهم ينشغلون في الليل ولا ينتبهون إلا عند الإشراق، والله سبحانه وتعالى يشغل من يشاء بما يشاء، ويدبر أمر من يشاء، ولكي يهرب موسى ومن معه ولا يلحقهم فرعون يريهم الله الآيات، فإذا ببعض من القوم يموتون، قالوا: ألقي الموت على أبكارهم، وعلى البعض من شبابهم، وألقي الضياع على البعض من أموالهم، والموت على البعض من حيوانهم، فإذا بهم ينشغلون في ليلتهم عن موسى ومن معه بذلك، وينتبهون في وقت الإشراق، فقال الله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير: (أن اسرِ بعبادي)، فأسرى بهمزة قطع في القراءة الأولى، وفي الأخرى بهمزة وصل في أولها.
قوله تعالى: (بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) قراءة نافع وأبي جعفر: (بعباديَ إنكم متبعون)، والباقون بالسكون: (بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ).
وفيها البشارة من الله سبحانه وتعالى لموسى بالنجاة من فرعون، أي: وفرعون سيجري وراءكم ولكن نحن سننجيكم من فرعون ومن معه.(131/6)
قوله تعالى: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وإنا لجميع حاذرون)
{فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53]، لما انتبه فرعون أن موسى خرج بمن معه إذا به يرسل ويجمع من جنوده من يحشر الناس ويجمعهم إلى فرعون قائلاً لهم: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54]، يعني: موسى ومن معه شرذمة قليلون، والعدد الذي ذكر عن موسى ومن معه أنهم كانوا ثلاثمائة ألف أو ستمائة ألف والله أعلم كم كان العدد، فثلث مليون شخص أو نصف مليون شخص عدد كبير، وعندما يقول فرعون: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) فمعنى ذلك أن فرعون أتى بأضعاف مضاعفة أكثر من هؤلاء الذين خرجوا؛ لذلك حقرهم أمام من معه، وقال: (إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ).
قال الله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] أي: أن هؤلاء القوم غاظونا.
قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56].
قوله: (وَإِنَّا) أي: مجموعة كبيرة.
قوله: (حَاذِرُونَ) قرأها ابن ذكوان والكوفيون: (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)، وقرأها باقي القراء: (وإنا لجميع حذرون)، فـ (حاذرون) بمعنى مستعدون.
و (حذرون) معناها: متيقظون منتبهون، أي: أننا منتبهون لهؤلاء وسنعرف كيف نأتي بهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(131/7)
تفسير سورة الشعراء [52 - 59]
ذكر الله عز وجل من طغيان فرعون شيئاً لم يفعله أحد من المجرمين، فقد طغى وتكبر، وقتل وشرد، ودعا إلى الرذيلة، ثم ادعى الربوبية والعياذ بالله، فأرسل الله إليه موسى بالحجج والبراهين، فلم يزده ذلك إلا علواً وتكبراً في الأرض، فأذن الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل هروباً من ظلم فرعون وبطشه، فخرج فرعون بجيشه وجنوده، وقوته وعتاده، فأهلكه الله هلاكاً عجيباً، وجعل جسده آية لمن بعده، فأخرجه الله من أرض الخير والبركة والجنان.(132/1)
حوار موسى مع فرعون صاحب الحجج الواهية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:52 - 66].
يذكر الله سبحانه في هذه الآيات وما قبلها قصة موسى النبي على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع فرعون، وكيف أنه دعاه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فأعرض فرعون وأبى إلا أن يجادل ويكذب موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ورأينا كيف أنه تناقش مع موسى من منطق القوه وليس من منطق الحجة، فناقش موسى بالقوة والغلبة وبكثرة أتباعه، وصار يستهزئ بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فذكر هنا وفي غيرها من سور القرآن أن فرعون ناقشه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال لموسى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]؟ فقال مجيباً له: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] قال لقومه: ألا تسمعون؟ قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:26 - 28].
فالكلام الذي يقوله فرعون لا حجج فيه ولا منطق، وهو كلام يفهم منه أصحاب العقول أنه لا حجة عند صاحبه، وأنه يقول كلاماً جزافاً، حيث سأل: وما رب العالمين؟! ثم قال لمن حوله يعجبهم من جواب موسى: ألا تستمعون؟! والإنسان الذي يتعجب من غير عجب يسمى بالإنسان الأحمق الذي لا يفهم، وأما الإنسان العاقل فهو الذي يفهم الكلام ويزنه فيعرف أنه حق أو باطل، وأما الأحمق الذي لا يدري ما الحجة ولا يعرف كيف يجادل فهو الذي يتعجب من حجة لا يعرف كيف يرد عليها، فهذا هو حال فرعون عندما قال لمن حوله: ألا تستمعون إلى هذا الذي يقوله هذا؟! فلما أخبرهم بأن الله هو رب السماوات ورب الأرض وما بينهما، وأنه رب المشرق والمغرب، وأن فرعون لا يملك شيئاً، وليس كما يزعم أنه ربهم الأعلى، فإذا بفرعون يقول لمن حوله في السورة الأخرى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فكأنه يقول: أنا ملك وأنا أملك، فموسى يقول: ربي ((رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا))، وأنت تقول: لك ملك مصر التي لم تخلقها ولا تقدر أن تدبر شيئاً فيها! وإنما الذي يدبر أمر ملكه هو الله الخالق وحده لا شريك له.
قال الله عن فرعون: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51 - 52]، فبدلاً من أن يلقي الكلام مدعوماً بالحجة ابتدأه بالسخرية من العيب الذي في الإنسان، وهذا هو الذي يدل على جهل صاحبه، فالإنسان الجاهل الغبي الأحمق هو الذي يترك حجة من يناظره ويبتدئ اتهامه بالعيوب الخلقية، مع أن هذا العيب قد أزاحه الله عز وجل عن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عندما لم يكن بيده شيء قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:52] أي: هذا الحقير الذي أمامكم الذي لا يكاد يبين حجته، لأن موسى قبل ذلك كان في لسانه لثغة لا يقدر على الكلام، فقال لربه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] إذاً: حتى أفصح الكلام داوي ما بلساني من عقدة، فكان قبل ذلك فيه لثغة، ففرعون يذكره بالماضي من أنه كان لا يعرف كيف يتكلم ولا ينطق بفصاحة، فيقول لقومه: أنا خير من هذا الذي لا يعرف يتكلم، ولا يجيد التعبير ولا الحديث.
فكل الذي رآه فرعون أمامه من الآيات كذبها، فالله عز وجل أخذهم {بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130]، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133]، فكل هذه الآيات ما أعجبت فرعون، وإنما يريد أسورة من ذهب تنزل عليه من السماء، {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:53 - 54] يعني: في هذا، فقد كانوا خفاف العقول فلم تعجبهم تلك الآيات مجاملة لفرعون، فأصحاب القوة يجعلون لهم من المنافقين من يجاملونهم بمثل ذلك، حتى ولو رأوا أمامهم الآيات بينات فلا يأخذون بها.
وانظر إلى الفرق بين هؤلاء وبين السحرة الذين أنعم الله عز وجل عليهم فآمنوا لما رأوا آية واحدة من الآيات، فقد رأوا العصا بيد موسى يقلبها ربها سبحانه حية تلقف ما يأفكون.(132/2)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وإنا لجميع حاذرون)
عندما خرج موسى ببني إسرائيل من مصر وذلك عندما أذن له فرعون بالخروج كان عدد بني إسرائيل ثلاثمائة ألف أو ستمائة ألف، فخرجوا من مصر فإذا بفرعون يتنبه بعد ذلك ويريد أن يعيدهم مرة أخرى إلى الذل والتسخير في مصر.
قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52] فلما خرجوا إذا بفرعون يرسل وراءه {فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53] يعني: منادين جامعين يجمعون الناس وجنود فرعون قائلين: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] وهذا يعني: أن فرعون ومن معه كانوا أكثر من ذلك بكثير، فيخبر الله عز وجل عنهم ويرينا آية من آياته العظيمة أن النصر من عنده وحده لا شريك له، قال فرعون: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56] يعني: نحن في أهبة الاستعداد حذرون متيقظون ومستعدون.(132/3)
تفسير قوله تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون كذلك وأورثناها بني إسرائيل)
قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:57 - 59].
وانظر إلى جمال القرآن حيث يقول الله: فأخرجنا فرعون ومن معه ((مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) * ((وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ)) * ((كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ))، فالنتيجة: نصرة بني إسرائيل، ولكن الذي حدث أنه فصل هذا النص بعد ذلك سبحانه، فقال: ((فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) قراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو وهشام وحفص عن عاصم وقراءة يعقوب وخلف (وعُيون) بضم العين، وباقي القراء يقرءونها (وعِيون) مثل (بُيوت) و (بِيوت).
قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} يعني: مصر، فقد كانت مليئة بالبساتين، والله عز وجل جعل فيها هذا النيل العظيم من فضله سبحانه، ونهر النيل ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، وقد جاء في ذلك عدة أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث مالك بن صعصعه أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج قال: (ورفعت لي سدرة المنتهى نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيلة) وهذه شجرة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حجمها فقال: بنبقها، أي: الثمرة كأنه قلال هجر، وهو مكان وموضع كان مشهوراً بصنع القلال العظيمة التي لا يقدر الرجل على حملها إلا بالكاد لثقلها.
ثم يقول لنا هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (في أصلها أربعة أنهار -في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار- نهران باطنان ونهران ظاهران، فسأل جبريل فقال: أما الباطنان ففي الجنة) نهران يمدان هذه الشجرة من الجنة (وأما الظاهران فالنيل والفرات) فيها نهر عظيم قدر نهر النيل ونهر الفرات، واليهود يحاولون أن يأخذوا النهرين: النيل والفرات، فيقولون: دولة اليهود من النيل إلى الفرات، فهم يعرفون أنها أنهار مباركة من عند رب العالمين سبحانه، وذكْر القصة في حديث صلى الله عليه وسلم.
فالله عز وجل قال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ} [الشعراء:57] أي: بساتين عظيمة {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:58] فهذه البلاد فيها الخيرات دائماً، ولكنها من أيام الفراعنة ينهبها الفراعنة ويأخذون الذهب، ويسرقون ما فيها من الخيرات، وما زال فيها خير حتى الآن، وانظر في سورة يوسف لما قال لملك مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] فهو جعل مصر خزائن الدنيا.
فهنا ربنا سبحانه يذكرنا بأن فيها الجنات والعيون والكنوز والزروع والمقام الكريم، وأهل التاريخ يذكرون عن هذه البلدة أنها كانت طوال عمرها فيها الجنات العظيمة، وعمرو بن العاص لما جاء إلى مصر ومعه ابنه عبد الله بن عمرو، يذكر أن الجنات كانت بحافتي النيل في الشقتين جميعاً من أسوان إلى الرشيد، ويذكر القرطبي أن بين هذه الجنات زروعاً فيها، قال: والنيل سبعة خلجان: خليج الإسكندرية -وهذا من أيام القرطبي - وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج سردوس، وخليج منف، وخليج الفيوم، وخليج المنهى، وهي متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء، أي: أنها جنات حول نهر النيل من أقصى البلاد إلى أدنى البلاد قال وكانت أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعاً بما دبروا وقدروا من قناطرها وجسورها وخلجانها، ولذلك سمي النيل إذا غلق ستة عشرة ذراعاً نيل السلطان، يعني: فإنهم يحسبون ارتفاع النيل بالذراع دائماً، فإذا وصل ارتفاع النيل إلى ستة عشر ذراعاً قالوا: إن السلطان سيفرض جباية؛ لأن الخير سيأتي كثيراً، هذا كلام القرطبي رحمه الله، وقال: وكانت أرض مصر جميعاً تروى من إصبع واحدة من سبعة عشر ذراعاً، يعني هذه الإصبع تروي أرض مصر كلها، هذا كلام القرطبي، وكان إذا غلق النيل سبعة عشر ذراعاً وزيد عليه أصبع واحد من ثمانية عشرة ذراعاً، ازداد في خراجها ألف ألف دينار، فهذا الذي يذهب إلى السلطان، فهذه من خيرات مصر وبركاتها، هذا كلام الإمام القرطبي، وذكر نحو هذا بعض العلماء.
فنهر النيل من عجائب الدنيا، وذلك أنه يزيد إذا انصبت الأمطار في جميع الأرض حتى يسيح إلى جميع أرض مصر، وتبقى البلاد كالأعلام لا يوصل إليها إلا بالمراكب، وهذا كان يحدث في الماضي، فكان نهر النيل يفيض فيملأ البلاد كلها، وكل خيراته توزع على البلاد، وكان الناس أحياناً من ارتفاع النهر يتواصلون من مكان إلى مكان عن طريق القوارب ونحوها.
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: نيل مصر سيد الأنهار.
أي: أفضل أنهار الدنيا، وهذا النهر العظيم قال عنه قيس بن الحجاج: لما افتتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له: يا أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها، قال: وما هي؟ قالوا: إذا خلت اثنتي عشرة ليلة من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر وأرضينا أبويها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، وتسمى عروس النيل، ثم نرمي بها في النيل.
وهذا من جهلهم عندما يفعلون ذلك، قال: فقال لهم عمرو رضي الله عنه: هذا لا يحل في الإسلام، فتركوا العادة فإذا بالنهر لا يجري لا كثير ولا قليل، حتى هموا بالهجرة من هذا المكان، واستمر على هذا مدة ثلاثة شهور، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص وأن الناس سيهاجرون ويتركوا المكان أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن ذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، إن هذا حرام لا يحل، وإن الإسلام يهدم ما قبله، ولا يكون هذا، وبعث إليه ببطاقة في داخلها كتابة منه وأمرهم أن يرموها في نهر النيل، وكان عمر محدثاً ملهماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما جاءت البطاقة إلى عمرو إذا فيها مكتوب: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل قبل عيد الصليب بيوم، وفيها بيان كرامة من الكرامات وآية من الآيات، فالله الواحد سبحانه هو القادر على ذلك، وليس لأحد من الخلق أن يفعل ذلك، قال: وقد تهيأ أهل مصر للجلاء، أي: كانوا جاهزين للارتحال من البلد والخروج منها؛ لأنهم لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة في النيل أصبح يوم الصليب وقد أجراه الله في ليلة واحدة ستة عشرة ذراعاً، يعني: أصبحوا في يوم عيدهم وقد جاءت آية من الآيات تبين أن الله سبحانه وحده لا شريك له هو الذي يجري النهر، فأجراه الله آية من الآيات سبحانه، وقطع الله تلك العادة عن أهل مصر من تلك السنة، قطعها بسيدنا عمر رضي الله عنه، فالله عز وجل أزال هذا الشرك، ودخل أقباط مصر في دين الإسلام لما رأوا من آيات توحيد رب العالمين سبحانه، والآن أصبحوا يعملون بعض الأشياء الموروثة من الفراعنة، فيصنعون قلادة وحروز وتمائم ويكتبون عليها شركيات ثم يرمونها في النهر ويقولون: هذا فيه بركة، فبعدما نجى الله هذا البلد من هذا الشرك، ومن هذه البلادة والغباوة التي كانوا يعتمدون فيها على الخلق دون الخالق سبحانه فإنهم يريدون أن يرجعوا إليها مرة ثانية.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ على المسلمين دينهم، وأن يعيدهم إلى سنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وإلى توحيد ربهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(132/4)
تفسير سورة الشعراء [52 - 68]
بين الله عز وجل في هذه الآيات الكريمات قصة إنجاء موسى عليه السلام وقومه من بطش الطاغية فرعون، فلما أن أذن فرعون لموسى بالخروج من مصر خرج ليلاً في قومه وبادر بالخروج؛ لأن الوحي قد جاءه بأن فرعون سينكث عهده، وفعلاً أرسل من يجمع الناس ويؤلبهم عليهم ثم اتبعوهم، وكان قدر الله تعالى أن أخرج فرعون وجنده إلى مصيرهم وهو الهلاك والغرق في البحر، فلما كادوا أن يدركوا موسى وقومه جاء الفرج وتجلت قدرة الله سبحانه عندما ضرب موسى البحر فانغلق، وصارت فيه الطرق التي سلكها مع قومه فنجوا، ثم أهلك الله تعالى فرعون وجنده.(133/1)
تفسير قوله تعالى: (وأوحينا إلى موسى أن أسرِ بعبادي وكنوز ومقام كريم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد إلا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:52 - 58].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قصة خروج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع بني إسرائيل من مصر، وكيف أهلك الله عز وجل فرعون وجنوده شر هلاك، فآتاهم العذاب من حيث لا يتوقعونه، فأمر الله عز وجل موسى أن يسير بعباده في الليل فقال: {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52].
وأخبره أن فرعون سيتبعهم، وكان موسى قد ظن أن فرعون لا يتبعه؛ لكونه أذن لهم في الخروج من مصر، فخرج ومن معه، فأوحى الله إليه بذلك؛ حتى لا يخاف، وليطمئن أن ربه سبحانه معه.
قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:53].
أي: من يجمعون الناس بعد أن تنبه فرعون لخروجهم، ويقول الجامعون: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:54 - 55].
فجمع الناس بهذه المقولة: إن بني إسرائيل عدد قليل قد خرجوا {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55 - 56].
يعني: عددهم وقوتهم لا تقارن بعددنا وقوتنا؛ فلذلك سنذهب إليهم ونرجعهم إلى هنا بقوتنا وعددنا.
قال الله عز وجل، {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:57] أي: خرج فرعون وجنوده فتركوا أرضهم وديارهم، وتوجهوا إلى البحر الأحمر متبعين لموسى عليه السلام ومن معه.
قال سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ} [الشعراء:57 - 58].
يعني: كانت لهم في هذه الديار الجنات والبساتين، وعيون الماء فضلاً عن أن لهم من الله عز وجل هذا النهر العظيم نهر النيل، والكنوز والمقام الكريم الذين كانوا يعيشون فيه، فأخرجهم الله عز وجل من هذا كله، وكنوز الأرض كثيرة موجودة في مصر، وكان الفراعنة يستغلونها، ويستخرجون الذهب ثم يصنعون منه الحلي، ويجعلونه مع الموتى في قبورهم، ويصنعون أشياء كثيرة من ذلك.
فأخبر الله عز وجل أنه أخرجهم من هذه الكنوز، ومن مقامهم الكريم الذي كانوا يقومونه في أرض مصر.
والمقام الكريم: هي المجالس، أو الأرض نفسها، أو المنابر التي كانوا يتكلمون فيها أمام الناس، والناس تذعن لهم في ذلك.
فأخرجهم الله عز وجل مما أعطاهم من نعم، وخرجوا متجبرين متكبرين جاحدين لربهم سبحانه مطاردين نبي ربهم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
قال الله سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59].
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} [القصص:5 - 6].
فكان بنو إسرائيل مستضعفين، وكانوا يتبعون موسى عليه الصلاة والسلام، فأراد الله عز وجل أن يري خلقه قدرته وقوته في أن يضع المستكبرين ويذلهم ويرفع المستضعفين ويعزهم بإيمانهم، وبنصرتهم لدين ربهم سبحانه.
فإذا به يورث هذا الذي تركه فرعون من أموال وكنوز لبني إسرائيل، فمكن لهم وأورثهم ذلك، قال: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:59].
ثم رجع لتفصيل هلاك فرعون فقال: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء:60].
يعني: فرعون اتبع موسى ومن معه في وقت شروق الشمس عند الضحى، وكان من المفترض أن أصحاب موسى قد خرجوا بالليل أن يسبقوهم ويفوتهم، لكن فرعون بما معه من خيل سريعة أدركوهم أو كادوا، فقال: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى} [الشعراء:61] وهم فزعون خائفون، {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61].
وأما موسى عليه السلام فهو مطمئن بربه سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى يطمْئِن قلوب أنبيائه وأوليائه.
قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61].
يعني: أوشكوا على أن يلحقوا بنا، فكل فريق يرى خصمه أمامه.
قال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ كَلَّا} [الشعراء:62] وهي أداة ردع وتسكيت، أي: اسكتوا ولا تتكلموا في ذلك؛ فإن الله عز وجل هو الذي ينصرنا.
{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فمن شدة الفزع كأنهم نسوا ربهم سبحانه، ولذلك لم يقل موسى: إن معنا ربنا سيهدينا، وإنما قال: إن معي، فأنا مطمئن بربي، وواثق به حتى وإن تزلزتم وتزعزعتم وشككتم، فربي سيهديني إلى الطريق.
فالله عز وجل يهدي موسى عليه السلام على ما يشاء.(133/2)
تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك الحجر)
قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63].
ذكروا أن موسى عليه الصلاة والسلام لما خرج من مصر متوجهاً إلى الشام هو ومن معه تاهوا عن الطريق، فتعجب موسى من ذلك، فسأل من معه لماذا يحدث ذلك؟ فقال علماء بني إسرائيل: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت أخذ علينا موثقاً من الله ألا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا.
فقال موسى: فأيكم يدري مكان قبره؟ -وهذا الحديث ذكره أبو يعلى والحاكم وصححه، وصححه أيضاً الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة- فقالوا: ما يعلمه إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى عليه الصلاة والسلام فقال: دليني على قبر يوسف.
قالت: لا والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، تعني: إذا أعطيتني ما أريد دللتك على مكان القبر.
فقال: وما حكمك؟ قالت: حكمي أن أكون معك في الجنة.
فكأن موسى عليه الصلاة والسلام ثقل عليه ذلك، فالجنة ليست بيده حتى يوافق على ذلك، فلما تحير موسى عليه الصلاة والسلام قال له ربه: أعطها حكمها.
فلما أعطاها ما أرادت دلتهم على المكان وكان قد غطته المياه، فاحتفروا واستخرجوا عظامه، فلما أقلوها إذا بالطريق مثل ضوء النهار.
والمقصود بالعظام جسد يوسف الصديق؛ لأن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولذلك جاء: (أن تميماً الداري قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يحمل عظامك؟!)، والمنبر لن يحمل العظام بل سيحمل الجسد كله، فالعظام تطلق على الجسد.
قال: فأوحى الله إلى موسى أن أعطها حكمها ففعل، فأتت بهم إلى بحيرة فقالت: انضبوا هذا الماء، فأنضبوه واستخرجوا عظام يوسف عليه السلام، فتبينت لهم الطريق مثل ضوء الشمس، أو مثل ضوء النهار.
وجاء في سبب ذكر هذه القصة التي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي، فطلب منه أن يأتي إليه إلى المدينة؛ حتى يكافئه على معروفه، فنزل الأعرابي ضيفاً على النبي صلى الله عليه وسلم فأكرمه، ثم قال له: حاجتك؟! يعني: سلني ما تريد.
فقال: ناقة أركبها، وأعنزاً أحلبها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعجزت أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟!)، يعني: أعجزت أن تطلب مثل ما طلبت! فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: وما عجوز بني إسرائيل، فقص عليهم هذه القصة.
فبدلاً من أن يطلب الأعرابي الآخرة طلب حاجته في الدنيا، ولكن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يخدمونه كان يقول لأحدهم: سلني، فيقول: أسألك مرافقتك في الجنة.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أعني على نفسك بكثرة السجود، يعني: أكثر من السجود، وأكثر من القيام حتى أدعو لك فتكون معي في الجنة.
والغرض أن الله سبحانه أخبر أنه أخرج بني إسرائيل من مصر وأهلك فرعون، فلما كاد فرعون أن يصل إلى موسى ومن معه إذا بالله عز وجل يوحي إلى موسى {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63].
وكان بنو إسرائيل وقتها في غاية القلق، فيسألون: أين أمرك ربك أن نسير؟ فكان يشير إلى البحر، فيأتي أحدهم يريد أن يقتحم البحر فلا يقدر، فيرجع إلى موسى، وهنا جاء الأمر من الله عز وجل أن اضرب البحر بعصاك.
وعصا موسى عصا عجيبة، كانت فيها آيات عظيمة، قال: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] يعني: حال سيرى، {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18]، أي: أضرب الشجر فتسقط الأوراق لتأكلها الأغنام، {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: لي فيها منافع أخرى.
وهذه العصا صارت حية بعد ذلك، وكانت آية لموسى وعلامة على نبوته عليه الصلاة والسلام ومعجزة له من عند ربه سبحانه، ثم كانت آية لفرعون وجنوده فلم يتعظوا ولم يعتبروا.
ثم كانت آية في مرة أخرى عندما كان موسى عليه الصلاة والسلام يغتسل وحده، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكأن ذلك كان جائزاً في شرعهم، وكانوا يقولون: إن موسى لا يغتسل معنا لأنه آدر، أي: فيه عيب في خلقته فيستحي أنه يكون معنا.
فإذا بموسى يغتسل مرة ويريد الله عز وجل أن يبرئ موسى مما يقولون فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بها، فإذا بموسى يجري وراء الحجر ويقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر.
فنظر إليه بنو إسرائيل فوجدوا أنه سليم ومن أصح الناس، فلما أخذ الحجر ضربه بعصاه فجرح الحجر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بالحجر لندباً من أثر الضرب) فكأن الحجر حين جرى صارت له الطبيعة الإنسانية، فعوقب كما يعاقب الآدمي، فكانت العصا في يد موسى يضرب بها هذا الحجر.
وهنا مرة أخرى يضرب بها جماداً وهو البحر، فهذا من عجيب آيات الله سبحانه وتعالى فلما ضرب البحر قال الله عز وجل: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63].
وقال له سبحانه: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان:24].
يعني: وقفت الأمواج في مكانها، وشقت الضربة البحر وفلقته، فإذا في البحر اثنا عشر طريقاً، لك سبط من أسباط بني إسرائيل طريق يسيرون فيه وذلك بضربة عصاه عليه الصلاة والسلام.
والله عز وجل يخبر أن البحر أصبح رهواً، أي: جامداً كأنه ثلج، وأمواج البحر كما هي ماء ولكنها واقفة في مكانها، وينضب البحر في الأماكن التي يسير فيها موسى ومن معه من بني إسرائيل: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63].
ويذكر الله لنا أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} [الشعراء:62 - 63].
فجاء الوحي وهو قوله: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} [الشعراء:63]، أي: جزء من البحر: {كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63]، أي: كالجبل العظيم.(133/3)
تفسير قوله تعالى: (وأزلفنا ثم الآخرين ثم أغرقنا الآخرين)
قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64].
يعني: قربنا فرعون ومن معه، فحين بدأ موسى وقومه الدخول في الطرق التي فتحها الله لهم في البحر أقبل فرعون وراءهم، وإذا به ينظر إلى البحر فاحتار: هل يدخل ورائهم أم يقف؟ فأخذته العزة فاقتحم وراءهم كأنه يريد أن يريهم أنه هو الذي شق البحر، قال سبحانه {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} [الشعراء:64]، يعني: قربناهم وأدخلناهم داخل البحر.
قال تعالى: {وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:65].
فكانت النجاة من رب العالمين سبحانه، فلما خرج آخر رجل من بني إسرائيل كان فرعون ومن معه قد تكاملوا في وسط البحر، وهنا جاء أمر الله سبحانه للبحر كما أمره في البداية أن ينفلق أمره أن يلتئم، فالتأم عليهم، فأغرقهم أجمعين، قال سبحانه: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} [الشعراء:66].
أي: أغرقنا هؤلاء الأبعدين: فرعون ومن معه.(133/4)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:67]، أي: في ذلك آية عظيمة وعجيبة ما كان يظن بنو إسرائيل وقوعها، فلما رأوا الآيات أمامهم كان من المفترض أن يكونوا أكثر الخلق إيماناً، فقد رأوا كيف أهلك الله عز وجل فرعون، ولكن في قلوبهم شيء؛ ولذلك قال موسى عليه السلام: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} [الشعراء:62].
يعني: أنكم في شك، وأما أنا فمعي ربي سيهديني، فهداه الله عز وجل وأنجاه وأنجى من معه.
وكذلك لما كانوا في طريقهم في البحر تشككوا أيضاً؛ لأن في البحر اثني عشر طريقاً، فكانوا يطلبون من موسى أن يروا إخوانهم، ويتساءلون: هل أخذهم فرعون أم غرقوا في البحر؟ فإذا به يتعجب من أمرهم هذا، فيضرب في كل مكان من هذه الطرق فيفتح لهم كالشبابيك، فينظر بعضهم إلى بعض.
ثم لما خرجوا بعد ذلك قالوا: إن فرعون لم يهلك مع أنهم يرون الماء يلتطم على فرعون وجنوده، وكأنه قد بقي في أذهانهم قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهذا من إجرام فرعون وعتوه وعلوه.
فإذا بالله تعالى يريهم آية أخرى من الآيات فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
فأنجى بدنه ولم يجعله يغرق أو تأكله أسمالك البحر مثلاً، ولكن قذفته الأمواج بعد ذلك على البر، فنظر بنو إسرائيل إليه.
والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يذكر فيه الله سبحانه وتعالى أنه أخرج فرعون بجسده من البحر، وأما التوراة التي فيها ذكر موسى وذكر الخروج فلا تذكر إلا أن الله أغرقه فقط وأما إخراجه فلا؛ ولذلك كان هذا سبباً لإسلام أناس من الكفار منهم الطبيب الفرنسي الجراح، موريس بوكاي الذي درس التوراة والإنجيل والقرآن وعمل مقارنة بينها وبين العلم الحديث، ثم أسلم وقال: هذا الكتاب كتاب رب العالمين سبحانه، ثم ذكر قصة فرعون ومن معه، فقال: إن الجثة لما أخذت إلى فرنسا لتحليلها أو لترميمها كشفوا عليها فوجدوا فيها آثار الموت غرقاً، وأن هيئة الجثة تدل على أن هذا ميت مات غرقاً، فقد وجدت أنسجة الجثة مليئة بالملح، وأثبتت التحاليل أيضاً: أنه قعد في البحر فترة وجيزة.
فيقول الدكتور: أظهرت أشعة إكس تكسير العظام دون تمزق الجلد واللحم.
يعني: أن عظمه من الداخل متكسر، وجلده ولحمه من الخارج غير منزوعين ولا متقطعين.
فقال أهل الطب: وهذا دليل على أن الماء ضغط عليه حتى كسر العظام الداخلية، وأما الجسد والأنسجة الخارجية فلم تتأثر، وهذا لا يكون إلا من ضغط الماء فقط.
فقالوا: إن هذا الفرعون الذي جثته عندهم هو فرعون موسى الذي أغرقه الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسمونه منبتاح.
وقد ذكره الله تعالى في سورة يونس فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، وكأن المعنى أن نخرج البدن سليماً، وفعلاً خرجت الجثة سليمة لينظر لها بنو إسرائيل.
فلعله لو نهشته أسماك البحر أو نزلت عليه صخور من البحر لم يعرفوا هيئته، ولكن الله عز وجل أخرج الجثة أمامهم ليروا أن هذا هو فرعون.
قال سبحانه: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92].(133/5)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
ثم ذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات: أنه أنجى موسى ومن معه أجمعين، وأغرق الآخرين، وعقب بالتعقيب الذي سيتكرر ثمان مرات في هذه السورة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] أي: إن في ذلك الذي سمعتم ورآه بنو إسرائيل قبل ذلك لآية عظيمة من الله سبحانه وتعالى، وحجة وبرهان عظيم على ما نقول: من قدرتنا على إهلاك الظالمين، وإنجاء المؤمنين، ولكن لم يكن أكثرهم مؤمنين، بل أكثر من في الأرض ضالون عن سبيل الله، قال سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9].
أي: العزيز الغالب القوي الذي لا يقهر، فأهلك فرعون وجنوده، والرحيم بالمؤمنين فأنجى بني إسرائيل، وكأن في ذلك إشارة لهذه الأمة أن الله عز وجل ينجي المؤمنين، ويهلك الكافرين.
وهذه السورة من السور المكية كما ذكرنا قبل ذلك، وقد نزلت في وقت كان المسلون في ضعف، وفي قلة وذلة، وكانوا يؤذون من الكفار ويعذبون، فنزلت هذه الآيات تطمئنهم أنه لن يعمل فيكم أكثر مما عمل في بني إسرائيل، وقد أنجاهم الله عز وجل، وأورثهم الأرض واستخلفهم وكذلك أنتم، فجاء وعد الله ومكن الإسلام والمسلمين.
نسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الكفر وأهله.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمين.(133/6)
تفسير سورة الشعراء [69 - 86]
لقد ذكر الله عز وجل نبيه إبراهيم عليه السلام في مواطن من القرآن ومدحه مدحاً عظيماً، وفي قصته مع قومه عبرة لمن أراد الاستقامة على دين الله وترك الشرك به سبحانه، ويتجلى أدب إبراهيم مع ربه في دعائه له، والتوجه إليه لا إلى غيره، وكذلك كان أدب الأنبياء جميعاً عليهم السلام.(134/1)
ذكر ما ورد من قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه
قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:70 - 82].
لقد ذكر الله تعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في عدة سور من كتابه العزيز، ومن هذه السور سورة الشعراء.
وسورة الشعراء من السور المكية، فهي تتميز بخصائص السور المكية، وتهتم بمحاجة الكافرين لتربية المسلمين، وتهتم بالإخبار عن صفات الله سبحانه وقدرته وقوته وعظمته، فيخبر الله سبحانه عن نفسه، ويخبر عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام كيف عاداهم الكفار، وأن أنبياءه دعوا إلى عبادة الله الواحد القهار، فنصرهم أن الله عز وجل بعدما كاد لهم الكفار، وأرادوا إيذاءهم، فجاء النصر من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وقد كان الكفار يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة كيداً عظيماً، ويمكرون به صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
فالكفار مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يوثقوه ويكتفوه ويحبسوه عليه الصلاة والسلام، أو يقتلوه، أو يخرجوه ويطردوه من مكة، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ويخبر الله في هذه الآيات وفي مثل هذه السورة المكية كيف أن الكفار تحرشوا بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وكادوا لهم كيداً عظيماً، وكيف نصر الله عز وجل أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، ونصر المؤمنين، وفي ذلك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وتصبير لهم، أي: اصبروا فإن الله ناصركم كما نصر الأنبياء من قبلكم.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء:69] أي: اتل عليهم الخبر والقصص التي قصها الله عز وجل عليك في كتابه، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} [الشعراء:69] أي: اقرأ عليهم هذه الآيات التي فيها خبر النبي إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(134/2)
فضل إبراهيم عليه السلام
إن إبراهيم هو أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو خليل الرحمن، والخليل: القريب والحبيب، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام اتخذه الله خليلاً، كما قال في كتابه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال سبحانه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114]، وقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، وما أعظم صفات إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهي صفات يذكرها الله عز وجل لنا في القرآن؛ حتى نأتسي ونقتدي بهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام فيها.
فقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولا يحتاج الله لخليل من البشر، فاختاره واصطفاه خليلاً، أي: أحب الأحبة وأقرب المقربين، فإبراهيم كان خليلاً لله سبحانه وتعالى، فـ (خليل) مأخوذ من الخلة، يقال: فلان خليل لفلان، كأنه تخللت محبته إلى قلبه، أي: دخلت المحبة في القلب واخترقته وتخللته.
فإبراهيم خليل الرحمن، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وصل إلى هذه الدرجة العظيمة فهو خليل الرحمن، كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكني خليل الله أو خليل الرحمن)، سبحانه وتعالى.
والخليل أعظم من الحبيب، فهو أقرب الأحبة، وقد كان إبراهيم خليلاً للرحمن بصبره، ولذلك قال الله عز وجل عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة} [النحل:120] أي: وحده، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد اجتمعت في إبراهيم من الصفات ما لا تجتمع إلا في أمة كاملة، واستطاع وحده أن يقوم بهذه الصفات، فقد ابتلاه الله عز وجل فصبر على هذا البلاء، فابتلاه في القريب، وابتلاه في أبيه، وابتلاه في ابنه، وابتلاه في زوجه، وابتلاه في بلده أن يهاجر من بلده إلى بلد أخرى، وفي كل ذلك يصبر راضياً محتسباً على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
يقول الحافظ في الفتح: إبراهيم بالسريانية معناها: أبٌ راحم أو أب رحيم، إذاً: فإبراهيم هو الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: والخليل: فعيل من فاعل، بمعنى: فاعل، وهو من الخلة بالضم، وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلالاً، وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في قلب إبراهيم من حب الله سبحانه وتعالى، أما إطلاقه على الله عز وجل فهو من باب المقابلة، إذاً: كأن إبراهيم الخليل تخلل حب الله عز وجل في قلبه، وامتلأ قلبه بحب الله؛ فأحبه الله سبحانه وتعالى.
وقالوا الخلة: أصلها الاستصفاء، أي: ينقيه ويختاره، وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله سبحانه وتعالى، يقول: قصر حاجته على ربه وانقطع لله سبحانه وتعالى، فهي من الخلة وهي بمعنى الحاجة أيضاً، أو بمعنى: انقطاع الحاجة إلى الله سبحانه، أو قصر الحاجة إلى الله، ولذلك مما روي: أنه لما أراد الكفار إلقاءه في النار وجاءه جبريل يسأله: ألك إلي حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، فكان قضاء الله أسرع بإبراهيم، حيث قال الله للنار: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت برداً وسلاماً عليه، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وكذلك قال الله فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120]، يعني: وحده جمع خصالاً من خصال الخير لا تجتمع إلا في أمة، فكانت في إبراهيم وحده عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، والقانت: هو الخاشع والمذعن والمطيع والمتواضع لله رب العالمين، والعابد لله قوله تعالى: {حَنِيفًا} [النحل:120] أي: ترك كل الملل الباطلة وحنف عنها، أي: مال عنها إلى دين رب العالمين، فصارت الكلمة تطلق على الاستقامة، أي: المستقيم على دين رب العالمين، وأصل كلمة الحنف: الميل، يقال: فلان حنيف بقدمه أو برجله، فكلمة حنف بمعنى: اعوجّ، ولكن إبراهيم لكونه مال عن ملل الكفار واستقام على دين الله وصف بأنه حنيف عليه الصلاة والسلام.
ومن صفاته الحسنة في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] أي: يحلم ولا يتهور ولا يتعجل عليه الصلاة والسلام، وأواه أي: كثير التأوه والخوف والبكاء من خشية الله، فكأن أصلها من (أوه) (يتأوه) أي: يبكي بصوت من خوف الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الصفات الكثيرة التي يذكرها الله لإبراهيم دليل على عظمة شأن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(134/3)
قصة إبراهيم مع قومه ودعوته لهم إلى ترك عبادة الأصنام
في هذه الآيات من سورة الشعراء يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصة إبراهيم، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:69 - 70]، لقد ولد إبراهيم بالعراق على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان أبوه هناك، وكان أهل العراق يعبدون الأصنام من دون الله سبحانه، فهاجر بعد ذلك إلى الشام، وكان أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى، فابتلي في البلدين: في العراق وفي الشام عليه الصلاة والسلام، فقام بأمر الله أحسن قيام، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:69 - 70]، فإبراهيم ينكر عليهم أن يعبدوا أصناماً من دون الله سبحانه وتعالى، وقد كان أبوه فتنة عظيمة له، فقد كان يصنع الأصنام لقومه، فأي بلاء أشد من هذا الابتلاء، وكيف يذهب إلى الناس فيقول لهم: لا تعبدوا الأصنام، فيقولون: أبوك الذي صنعها!! فهذه فتنة شديدة جداً، ومع ذلك صبر عليها إبراهيم، فقال لأبيه وقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70] أي: أي شيء هذا الذي تعبدونه من دون الله؟ وهذا سؤال استفهام إنكاري، فهو ينكر عليهم هذا الذي يعبدونه من دون الله.
قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] أي: كأنهم ظنوا أن إبراهيم يسألهم سؤال المستفهم الذي لا يعرف حقيقة الأمر فهم يوضحون له الصورة، بينما هو في الحقيقة يعرف أنها حجارة لا تنفع ولا تضر، وهو ينكر عليهم عبادتهم هذه الحجارة، ويقول: ما الذي يجعلكم تعبدون هذه الأشياء؟ هل تنفعكم هذه الأشياء؟ وكأنه يقررهم من أجل أن يعترفوا أن هذه الأصنام إنما هي حجارة وأنها أخشاب؛ إذاً: هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر بمقتضى ردهم، حيث إنه قال لقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]، قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا} [الشعراء:71] أي: أوثاناً وأحجاراً كانوا يصنعونها من ذهب ومن فضة ومن حجارة ومن خشب، وقولهم: أصناماً أي: جمادات نعبدها من دون الله سبحانه، وقد صوروها على هيئة صور، قال تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، وكلمة نظل تأتي في العمل بالنهار، وأحياناً عمل الليل والنهار، فكأنهم كانوا يعبدونها جهاراً بالنهار، ولا يستحيون من عبادتهم لها، فعبادتهم لها ليس هو في الخفاء؛ لأنهم قالوا: {نَظَلُّ لَهَا} [الشعراء:71]، أي: في الظل في النهار نعبدها، وكأن المعنى: إذا كانوا بالنهار لا يستحيون، فهم بالليل والنهار يعبدون هذه الأوثان والأصنام.
وقوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] أي: ملازمين لعبادتها، والعكوف على الشيء هو اللزوم للشيء سواء كان هذا الأمر طاعة أو معصية، فهنا عكف على الشيء بمعنى: لازم هذا الشيء، واستمر عليه.
فقال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، أي: هذه باعترافكم أصنام وجمادات، فهل تسمعكم؟(134/4)
جمال السياق وحسن التصوير في سور القرآن الكريم
انظر إلى السياق والوقف في الآيات فكله في آخره الختام بهذا الوزن، فهذه القصة ساقها الله عز وجل بسياق موافق للسورة نفسها في الوزن وفي فواصل الآيات، فيقول تعالى هنا: {مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:70 - 71]، فالسورة تتميز بالآيات والفواصل القصيرة، وتتميز بالوزن في النهاية، أي: يكون في آخرها الياء والنون، أو الواو والنون وإن كانت تأتي الياء والميم في بعضها، لكن الغالب على هذا الفاصل أن يذكر فيه ياء ونون أو واو ونون في آخرها.
فما أجمل تعبير القرآن وما أجمل تصويره! حيث إنك تجد أنه يكرر السورة في مواضع أخرى ليست بنفس المتن ونفس الفواصل، فإذا نظرنا في سورة الأنعام لوجدنا أن الله عز وجل يذكر قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الكواكب حين جاء إلى الشام ووجدهم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى.
فقد قال إبراهيم لهؤلاء: هذا ربي الذي تزعمون، وكأنهم ينتظرون الرد من إبراهيم حين قالوا له: نحن نعبد هذا الكوكب من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] أي: أنا بريء من هذا الشرك ومن هذه العبادات التي تعبدونها، قال تعالى على لسان إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].
إن سورة الأنعام فواصلها طويلة؛ فجاءت القصة بنفس الفواصل الطويلة مثلها مثل باقي السور، وكذلك يذكر الله في سورة الأنبياء قصة إبراهيم مع أبيه ومع قومه، وهي تأتي على فواصل معينة، والقصة معها على هذه الفواصل، وهذا هو تفنن القرآن العظيم، حيث إنه يذكر قصة في سورة هي نفس القصة في السورة الأخرى، لكن ليست بنفس الصيغة ونفس العبارة، فالقصة قد تكون واحدة لكنه يصيغها بصيغة تناسب سياق السورة التي هي فيها؛ لذلك فأنت عندما تقرأ القصة في كل موضع فإنك لا تمل من ذكرها، ومثل ذلك تجده في قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وغيرها من قصص الأنبياء، حيث إنها ذكرت في عدة سور.
يقول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، والأصل: أن يقول: إذ تدعونهم، ولكن مراعاة لفواصل الآيات يقول: إذ تدعون، فأنت حين تسمع صوت الآية، وتسمع وزنها فكأن لها موسيقى، قال تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:72 - 74].
إذاً: فهذه الأصنام لا تسمع، وإبراهيم يقررهم بذلك، وهو يعلم أنها لا تسمع، إذاً: فالسؤال ليس سؤالاً للاستفهام، وإنما هو سؤال للإنكار على هؤلاء، أي: هل تعترفون أنها لا تسمع؟ كما قال تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء:72]، فإذا ناديت الصنم فإنه لا يرد عليك.
وقوله تعالى: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] أي: هل يقدر أن ينفعك بشيء هذا الصنم؟ وهل يقدر أن يضرك بشيء لو فعلت به شيئاً؟
الجواب
لا يقدر أن يفعل شيئاً قال تعالى: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] أي: أن عادة الكفار أن يقولوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فبما أن آباءنا كانوا على شيء فنحن سنمشي على آثارهم، وسنهتدي بهديهم، ونقتدي بسنتهم، لذلك فالله سبحانه وتعالى هنا يعير الكفار بذلك، فأين عقول هؤلاء الذين يعلمون أن الأصنام لا تنفع ولا تضر حين يقولون: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74].
قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75 - 76] أي: كلكم على نفس العبادة أنتم والآباء، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أنّ هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله سبحانه أنتم وآباؤكم وكل معبوداتكم الباطلة أعداء لي إلا رب العالمين، فكلمة عدو هنا: بمعنى: أعداء، فكلمة (عدو) هنا اسم جنس بمعنى أعداء، والأصل أن يقول: إنهم أعداء لي إلا رب العالمين، فالكلمة تؤدي معنى الجماعة، فتأتي أحياناً للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث، فتقول: عدو، وتقصد بها الواحد، وتقصد الاثنين، وتقصد الجمع، وتقصد الرجل، وتقصد المرأة، كما هو في اللغة العربية.
وأحياناً يفرقون بين عدو وعدوة، فيقال: الرجل عدو، والمرأة عدوة، وذلك إذا كانت معادية، فقد تقول: فلان عدو لي، أي: أنا أعاديه وهو قد لا ينتبه لهذا الشيء، مثل الأصنام في قوله: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77]، فهي أصنام وجمادات لا تشعر بشيء، ولكن أنا أعاديها؛ لأنكم عبدتموها من دون الله، فتأتي كلمة عدوة بالتاء في آخرها بمعنى: أعاديها وتعاديني.
قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] الاستثناء هنا استثناء منقطع، فكأنه قال: أنتم تعبدون غير الله، فكل الذي تعبدونه من دون الله أعداء لي، والوحيد الذي أعبده هو الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء:77] أي: هذه الأصنام أعداء لي، وقوله تعالى: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: أعبده وأحبه وحده لا شريك له.
وقبل ذلك ذكر في قصة موسى في هذه السورة نفسها أنّ فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فقال تعال حاكياً عن موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24]، فقال تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:26]، فقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء:27]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:28].
لذلك فإن عادة الكفار أن يسألوا: من ربك؟ ومن عادتهم أن يعبدوا أشياء أمامهم، وأن يعبدوا أبداناً وجمادات أمامهم، فإذا قيل لهم: من ربكم؟ قالوا: هذا الصنم أو هذا الحجر أو هذا الخشب أو هذا التمثال، وهي أشياء ماثلة أمامهم؛ لذلك قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: {مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23]، أي: مصنوع من ماذا هذا الرب؟ أمن ذهب أو من فضة؟ فقال له موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء:24] أي: ربي الذي خلق كل هذه الأشياء سبحانه وتعالى.
وكذلك في قصة إبراهيم لما قال إبراهيم لقومه: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77]، فذكر لهم الرب سبحانه وتعالى، وكلمة الرب بمعنى: الذي يفعل ما لا يقدر غيره على فعله، الرب: هو المربي والفعال والصانع والخالق سبحانه وتعالى، إذاً: ربي الخالق، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، أي: خلقني وبناء على ذلك فهو أعلم بي ولذلك {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، فهل هذه الأصنام خلقتكم حتى تهديكم؟ فتعبدونها لأن آباءكم عبدوها فاتبعتم هدي آبائكم في ذلك، فمن الذي هدى آباءكم إلى ذلك؟ لقد عبدوا أصناماً من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولكني أنا عبدت الله الذي ينفعني والذي يضر سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78]، تمشي على نفس الوزن الذي قبله الياء والنون، وإن كان الأصل أن يقول: (الذي خلقني فهو يهديني)، بزيادة ياء بعد النون، وهذه قراءة يعقوب، ومثلها قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80]، أما باقي القراء فيقرءونها بغير الياء سواء وقفاً أو وصلاً.
وقوله تعالى: ((الْعَالَمِينَ)) هي جمع عوالم، أي: كل العوالم العالم العلوي والسفلي وما بينه وكل خلق الله، والرب هو يربه ويدبر أمره، فالله صانعه وخالقه ورازقه ومعطيه سبحانه وتعالى وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَنِي} [الشعراء:78] أي: أنا الذي اهتديت وليس أنتم، فأنا عبدت من خلقني، فهو الذي يستحق العبادة قوله تعالى: {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] أي: يهديني لصراطه المستقيم، أو يهديني لعبادته ويعلمني.
قال تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] أي: أن الذي يطعم هو الله، وأما أصنامكم فلا تط(134/5)
أمثلة من أدب الأنبياء مع رب العالمين
إن في القرآن مواضع تذكر أدب الأنبياء مع رب العالمين، كما في سورة الكهف في قصة موسى والخضر عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذلك أن الخضر لما سار مع موسى وأراه ثلاث آيات عجيبات قال بعد ذلك: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78]، فذكر منها قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أن الخضر نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام ولا يفعل شيئاً إلا بوحي من الله سبحانه وتعالى، فالله هو الذي أوحى إليه أن يخرق هذه السفينة؛ لأن هناك ملكاً يأخذ السفية من أهلها غصباً، والخرق شيء من العيب؛ لأنه يخربها ويفسدها؛ ولذلك قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، مع أن موسى يعرف أن هذا وحي من الله، لكن الأدب في الكلام عن الله سبحانه أن ينسب فعل العيب إلى نفسه، قال تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79].
وأما في أمر الغلام الذي قتل فقد قال له موسى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]، فقال: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف:80] أي: كان والداه صالحين، قال: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، أي: أردنا نحن، مع أن المريد أصلاً لذلك والذي أمر بذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أدب الخضر جعله ينسب إلى نفسه ذلك، فقال: فأردنا، وكأنه يقول: نحن وافَقْنَا ربنا سبحانه وتعالى في ذلك، فالله أخبرنا بالحكمة فكان هذا الصواب فأردنا ذلك؛ لأن الله يريد، فلم يقل أراد الله قتله، وإن كانت هذه هي الحقيقة، ولكنه نسب ما ظاهره قد يوهم العيب إلى نفسه، فقال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79]، وفي أمر الغلام قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81].
وقوله تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ} [الكهف:82]، فهو عمل نافع، لأنه رأى أن الجدار سيقع فقام وعدله وهذا فيه منفعة، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82]، فلما كان خيراً محضاً في الظاهر والباطن نسبه إلى الله سبحانه وتعالى؛ تأدباً مع رب العالمين سبحانه.
إذاً: فالأنبياء لما يتكلمون عن رب العالمين فإنهم يكونون في غاية الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والشر ليس إليك)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن ربه سبحانه في القرآن، فيقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فما كان من شيء إلا والله خالقه من خير وغيره، ولكن خلق الله للأشياء هو خير من الله سبحانه، فخلق المؤمن وخلق الكافر كله خير من الله عز وجل، فالله خلق المؤمن ليدخله الجنة، وخلق الكافر ليجاهده المؤمن؛ فيدخل المؤمن الجنة، فكأن الله لو لم يخلق هذا الكافر فإن المؤمن لن يصل إلى الدرجات العالية، فكان في الخلق خيراً للمؤمنين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، فكل ما خلقته فورائه خير سواء لنفسه أو لغيره.
وكذلك في سورة الكهف ذكر الله فتى موسى واسمه يوشع بن نون، فعندما نسي الحوت قال: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63]، فالذي يقدر للإنسان أن يتذكر والذي يحجب عنه ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن يوشع بن نون يقصد أنه نسي على وجه من الشر، فالشيطان تسبب في ذلك، ولم ينسب ذلك إلى الله عز وجل، وأما من حيث الخلق فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
نعود إلى الآية قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80 - 81]، أي: الذي هو قادر على الإماتة وقادر على الإحياء وحده لا شريك له، هل أصنامكم تفعل ذلك؟ فربي يفعل هذا كله.
وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، والكلام هنا عن يوم الجزاء ويوم الحساب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يطمع في رحمة ربه يوم الدين، فكيف لا يطمع غيره في ذلك؟! قال: {الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، وما كانت خطيئة إبراهيم؟ لم يذكر لنا ذنبٌ أذنبه إبراهيم إلا أنه كذب ثلاث كذبات، وهو مضطر لذلك على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الحديث أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، والظاهر أن هذه الكذبات كانت من باب التعريض، أي: أنه يعرض فيقول كلاماً ليوهم غيره، وهذا أمرٌ واضح.(134/6)
كذبات إبراهيم عليه السلام
قوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، الخطيئة: هي الذنب، وقد يطلق على الكبيرة من الذنب، فإبراهيم كأنه يستعظم الذنب في حق رب العالمين سبحانه، والنبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه أنه كذب ثلاث كذبات في حياته كلها مع كثرة البلاء الذي ابتلي به، وهذا شيء يسير جداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومع ذلك فإن إبراهيم كان يعرض في الكلام فهو معذور كما أن غيره يعذر في مثل ذلك، فالكذبة الأولى: كما قال الله عز وجل عن إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فإن إبراهيم لما حطم الأصنام قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59]، فسألوا إبراهيم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62]، قال الله تعالى على لسان إبراهيم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] أي: إن كانوا يردون ويتكلمون، فإن كبيرهم هو الذي فعل ذلك، وكأنه تقييد للشيء فقال: {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فإذا كانوا لا ينطقون إذاً فكبيرهم لا يفعل ذلك، إذاً فكأنه علق ذلك على شرط ليس موجوداً وهو {إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فقد فعله كبيرهم، ولكن أنتم تعلمون أنهم لا ينطقون إذاً لا يفعل كبيرهم ذلك.
والكذبة الثانية: كما في قوله تعالى: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وذلك لما خرج قوم إبراهيم إلى عيد لهم أرادوا أخذ إبراهيم معهم، فقال إبراهيم: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، فأظهر أنه مريض وأبطن أن يكيد كيداً في هذه الأصنام، فهو يريد أن يكسر هذه الأصنام، والإنسان قد يكون سقيماً في بدنه وقد يكون سقيماً في قلبه أو في باطنه، وهذا شيء معنوي، وكأنه مثقل بالهموم، فيقول: إني مريض من كثرة ما أرى من المنكرات، وكأن إبراهيم يقصد هذا المعنى، فيوهمهم أنه مريض مرضاً بدنياً فلا يخرج، وحقيقة هو يريد: أني مرضت معنوياً من عبادتكم لهذه الأصنام.
وأما الكذبة الثالثة: لما جاء الجبار وأخذ منه سارة سأله عنها: من هذه؟ فلو قال: زوجتي لقتله، فقال: أختي، فهذه الكذبة الثالثة التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال لـ سارة: ما على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، إذاً: فنحن إخوة في الله سبحانه وتعالى، فإبراهيم يقصد الإخوة الإيمانية لا النسب؛ لأنها زوجته.
قال تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} [الشعراء:82]، فسمى هذه الكذبات خطيئة ولم يسمها خطأً، وكأنها ذنوبٌ كبيرة وقع فيها فأرجو من الله {أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] وسواء كانت هذه الكذبات شيئاً قد وجد أو أنها لم توجد فإنه قال ذلك على سبيل رجاء رحمة رب العالمين سبحانه: {َالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وكأن الإنسان المؤمن الذي يقول ذلك يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فالذي هو مستيقن أن هناك يوماً يسمى يوم الدين ويوم الجزاء ويوم الحساب، فيطمع من ربه أن يغفر له في هذا اليوم، فيعمل لذلك؛ يستحق المغفرة منه.
ولذلك جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟)، وابن جدعان من أقرباء السيدة عائشة رضي الله عنها فهو قريب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين).
إذاً: فلا ينفعه ذلك الذي كان يفعله، وابن جدعان كان رجلاً كريماً جداً، ولذلك يذكرون عنه أنه كان يطعم الناس كما في الحديث، وكانت له جفنة عظيمة جداً يرقى إليها بسلم، أي: يصعدون إليها ليملئوها طعاماً.
يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قال العلماء: وكان ابن جدعان -واسمه عبد الله بن جدعان - كثير الإطعام، وكان قد اتخذ للضيفان جفنة يرقى إليها بسلم.
ولاحظ وجه المناسبة بين إبراهيم وبين ابن جدعان، فإبراهيم عليه السلام كان أبا الضيفان، فكان يلقب ويكنى بذلك عليه الصلاة والسلام، فكان الضيوف يأتونه فيطعمهم، وقد أتى إليه ثلاثة من الملائكة في هيئة ثلاثة من البشر، فأطعمهم عجلاً حنيذاً، وكان ابن جدعان رجلاً كريماً يطعم الضيفان، ويحضر لهم الجفنة الضخمة التي لا يرقون إليها إلا بسلم من أجل أن ينالوها، إلا إن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82]، وأما ابن جدعان فلم يقل ذلك؛ لذلك لم يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، فلو قال ذلك لنفعته هذه الكلمة، فلو أقر بربوبية الله سبحانه، وأنه وحده القادر على المغفرة، ولو أنه أقر بألوهية الله سبحانه وتعالى فعبده ودعاه -فإن الدعاء عبادة لله عز وجل- بدلاً من أن يتوجه إلى الأصنام، لنفعه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وأما إبراهيم فقد قالها ودعا ربه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83].
فهو حين قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] توجه إلى ربه سبحانه وسأله من فضله، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:83]، والحكم: هو معرفة الله سبحانه، ومعرفة حدوده وأحكامه تعالى، وأيضاً معناه: هب لي فهماً وهب لي علماً من لدنك، فهذا هو السؤال النافع، فالإنسان يسأل ربه ما ينتفع به كما سأل إبراهيم ربه، وأيضاً قالوا: من معانيها النبوة والرسالة إلى الخلق، فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] أي: اجعلني عندك مع عبادك الصالحين، وألحقني بالنبيين من قبلي في درجتهم، وليس معناه: توفني الآن وإنما معناه: إذا توفيتني فاجعلني في درجة النبيين الذين من قبلي عليه وعليهم الصلاة والسلام.
ثم قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] أي: اجعل لي ذكرى جميلة عند الآخرين، فاستجاب الله عز وجل له، فكل من جاء من الأنبياء بعده فهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكلهم يذكرون إبراهيم ويدعون له على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقد تنازع عليه اليهود والنصارى، فاليهود يقولون: كان إبراهيم يهودياً، والنصارى يقولون: كان إبراهيم نصرانياً، والمسلمون يقولون: بل كان حنيفاً مسلماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهذا الثناء الجميل كله لإبراهيم عليه السلام، وكل من جاء بعد إبراهيم يذكره بخير عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء:84] أي: اجعل كل من يأتي بعدي يذكرني بالثناء الحسن، لا يدعو أحد علي بشر، ولا أحد يتكلم عني بكلام لا يليق، فكان من جاء بعد إبراهيم يذكرونه بالثناء الحسن؛ استجابة لدعوته ربه سبحانه.
ثم قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85] أي: مع المؤمنين الذين يرثون الجنة، فهو لم يقل: اجعلني وارث جنة النعيم، بل أنا وغيري نرث جنة النعيم، فتكون لنا بعد ذلك ولا نخرج منها أبداً.
ثم قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86]، فسأل ربه أن يغفر لأبيه؛ لأنه كان من الضالين، وهذا كان قبل أن يعلم إبراهيم أن أباه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75].
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(134/7)
تفسير سورة الشعراء [69 - 104]
ذكر الله في هذه الآيات من سورة الشعراء مكانة إبراهيم عليه السلام وعلو منزلته، فلقد أنكر على أبيه وقومه عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وقد تبرأ إبراهيم عليه السلام من أبيه وقومه ومما يعبدون من دون الله تعالى، وسأل إبراهيم ربه جل شأنه أن يعطيه علم النبوة، وأن يلحقه وذريته بالصالحين، وأن يجعل من يأتون بعده من الأقوام والأمم يثنون عليه ثناءً حسناً.(135/1)
تفسير قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ إبراهيم إلا من أتى الله بقلب سليم)(135/2)
تلبية المشركين عند طوافهم بالبيت الحرام
لقد كان المشركون يلبون عندما يطوفون بالبيت، ويسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: لبيك لا شريك لك لبيك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي معهم، فلما يذكرون الشرك بالله سبحانه ويقولون: إلا شريكاً هو لك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: قط قط، أي: حسبكم ما قلتم من توحيد، ولا داعي لهذا الشرك الذي تقولونه، فكانوا يلبون بالتوحيد ثم يقرنون هذا التوحيد بالشرك بالله سبحانه، فيقولون: لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر عليهم ذلك، ويأمرهم أن يوحدوا الله وحده لا شريك له.(135/3)
مناظرة إبراهيم لقومه في عبادة الأصنام
ذكر الله عز وجل أن إبراهيم إمام الموحدين وأبا الأنبياء دعا الخلق إلى حج هذا البيت؛ لإقامة التوحيد، وألا يجعلوا لله شريكاً في ملكه وخلقه وأمره، فوجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أباه يصنع الأصنام لقومه، وقومه يعبدونها، فقال لقومه: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70]؛ حتى يقروا بألسنتهم أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] يعني: حجارة صورناها على هيئة الآدمي، أو هيئة ما فيه الروح، فقال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] أي: هل هذه الأصنام تسمع من يناديها؟ وهل هي تنفع أو تضر؟ {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] يعني: نحن نفعل كما فعل آباؤنا، {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77].
يعني: هؤلاء أعداء لي، فكل ما عبد من دون الله فأنا أتبرأ منه، وأعاديه وأظهر العداوة له، إلا الله وحده لا شريك له الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] أي: الذي يملك الخلق هو الذي يملك الأمر، فيأمر ويهدي سبحانه، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:79 - 82].
فهذا الرب هو الذي يملك الدنيا والآخرة، {رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] أي: العالم العلوي والعالم السفلي، فرب كل شيء هو الله سبحانه وهو الذي أعبده ولا أشرك به شيئاً.(135/4)
مكانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:69 - 104].
ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء قصص الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ومنها قصة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء:69].
أي: اتل على الذين تدعوهم إلى الله عز وجل، وهم يعرفون جيداً من إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو الذي بنى الكعبة التي هي شرف لهم، فيحج الناس إليها من كل مكان، ويطوفون بهذا البيت، ويعرفون أن الذي بناه هو إبراهيم ورفعه معه إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان إمام الموحدين، فقد دعا الناس إلى توحيد الله سبحانه، فليتعظوا بذلك، وليتبعوا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام الذي دعا الخلق إلى توحيد الله، ودعاهم إلى أن يحجوا هذا البيت.(135/5)
تفسير قوله تعالى: (رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين)
قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام داعياً ربه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} [الشعراء:83] أي: علماً ونبوة، فهو يسأل الله عز وجل الشيء الذي ينفعه في الدنيا والآخرة، إذاً: فالحكم هو النبوة والعلم والمعرفة بالله سبحانه، وبحدوده وأحكامه سبحانه.
قوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] يعني: اجعلني في درجة السابقين من الأنبياء وكذلك من يلي الأنبياء والمرسلين، فاجعلني معهم يوم القيامة في درجتهم العالية.
قال ابن عباس: أي: اجعلني في أهل الجنة.(135/6)
تفسير قوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)
قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84] يعني: اجعل من يأتون من بعدي يذكرونني بخير، وكأنه يقصد: ثبتني على هذا الدين ولا تضلني، واجعلني إماماً للخلق، فإذا اقتدوا بي دعوا لي، فاجعلهم يدعون لي بألسنتهم، ويصدقون ما قلت ولا يكذبونني، ويثنون علي ولا يقبحوني.
ثم قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء:85] يعني: اجعلني مع ورثة الجنة الذين يدخلونها.(135/7)
تفسير قوله تعالى: (واغفر لأبي إنه كان من الضالين إلا من أتى الله بقلب سليم)
إذاً: فكل هذه الأدعية جميلة من إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومنها: دعاؤه لأبيه، وأبوه كان من الضالين، وإبراهيم نفسه يقر بذلك: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:86] فإذا كان أبوه من الضالين وهو مصرّ على ذلك حتى يتوفاه الله على هذا الضلال، فكيف يغفر له كفره؟ فالله لا يغفر الشرك أو الكفر، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
{وَاغْفِرْ لِأَبِي} [الشعراء:86] هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وأبي عمرو: ((وَاغْفِرْ لِأَبِيَ)) بفتح الياء؛ ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ)) أي: من التائهين المتحيرين الذين تاهوا عن الهدى وذهبوا إلى الضلال.(135/8)
المنافق خب لئيم
والمنافق خب لئيم، أي: أنه يفتش وراء كل شيء، والأصل عند المنافق وعند الكافر إساءة الظن في الجميع، فجميع الناس عنده مخيفين، لذلك فهو يفتش وراء كل إنسان من أجل أن يعرف ما وراءه.
وطبيعة الإنسان تنضح على عينه، فيرى كل إنسان بما في قلبه هو، فالإنسان الذي عنده إساءة الظن في الناس، وأنهم مخيفون، فهذا لأنه هو في نفسه مخيف وليس قلبه مطمئناً، فنظرته نضحت على عينه هذا الشيء فيرى الناس أمامه كلهم على هذه الهيئة، وفي هذا خطر على الإنسان، ولذلك جاء في حديث النبي صلى أنه قال: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، أي: أنه ينظر أن كل الناس قبيحون، وأنهم هلكى، فهو أشدهم هلاكاً؛ لأنه اغتر وظن أنه هو الناجي الوحيد.
والإنسان المؤمن يحب الخير لنفسه ولجيرانه وللناس أيضاً، ويحب لهم أن يكونوا مؤمنين، وأن يكونوا مصلين، وأن يكونوا من أهل الطاعات، ولذلك فإن إبراهيم دعا أباه ودعا قومه إلى الخير، ودعاهم إلى الله عز وجل وتلطف في دعوتهم إلى ذلك، فدعا أباه فقال: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:43 - 45].
فانظر الكلام الطيب من إبراهيم لأبيه صانع الأصنام وعابد الأوثان، فيجيب أبوه بقوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ} [مريم:46] أي: ألا تعجبك الآلهة التي أعبدها، أراغب عنها؟ {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: لأرجمنك بالحجارة وأشتمك أمام الناس، وامش بعيداً عني، فهذا الجواب السفيه يصدر من أهل السفاهة، وذلك لائق بهم، وأما إبراهيم فالذي يليق به أنه حليم أواب منيب عليه الصلاة والسلام، فيحلم عن أبيه، فقال: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] أي: مهما عملت فأنا سأستغفر لك ربي؛ {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] أيْ: إنه كريم ورءوف بي عطوف علي، وحنانه عظيم بي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) يعني: قلوبهم طيبة ونقية، فلا غل فيها، وفيها التوكل على الله وتوحيد الله سبحانه كقلوب الطير.
يقول العلماء: هذه الأفئدة مثل قلوب الطير في كونها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لها بأمور الدنيا، فصاحب هذا القلب لا يفتش عن أحوال الناس، فهو يتعامل مع الناس بكرم ورأفة ورحمة، فصاحب هذا القلب السليم من أهل الجنة، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
وكلام إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام فيه جمال في السياق وحسن انصراف وتخلص من شيء والدخول في شيء ثانيٍ، ألا وهو الكلام عن الجنة وعن النار، فالكلام هنا ليس كلام إبراهيم، إنما هو كلام رب العالمين سبحانه.(135/9)
ما هو القلب السليم
والقلب السليم هو القلب الذي ليس فيه غل ولا ضغينة ولا حقد ولا شك ولا شرك بالله سبحانه، وإذا اقترف ذنوباً فإنه لا يظل مقيماً عليها، بل سرعان ما يتوب إلى الله سبحانه، والقلب السليم هو قلب المؤمن؛ فإنه سليم من الشرك والشك.
وأما قلب الكافر أو المنافق فإنه مريض؛ لأنه لا يعرف الحق، ولا يعرف الله سبحانه وتعالى، ولا يعبده حق العبادة، فعلى ذلك فإن المؤمن قلبه مطمئن بذكر الله، فهو قلب سليم وصحيح.(135/10)
الفرق بين القلب المريض والقلب السليم
وفرق بين القلب المريض والقلب السليم، فصاحب القلب السليم يعرف أن هذا حق وأن هذا باطل، لذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ لأن القلب إذا كان سليماً مال إلى الحق وعرفه ولم يتبع الهوى، وهو القلب الخالي عن البدع؛ لأن الإنسان المبتدع إذا وقع في بدعة فإنه يخرج منها إلى بدعة أخرى، إلا أن يتوب الله عز وجل عليه، فالمؤمن قلبه سليم؛ لأنه بعيد عن الشرك والنفاق والرياء والبدع والضلالات، وهو سليم من الميل إلى حظوظ الدنيا، إذاً: فالقلب السليم قلب خالص لله سبحانه وتعالى.(135/11)
تعريف ابن سيرين للقلب السليم
يقول ابن سيرين: القلب السليم: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة حق، وأن الله يبعث من في القبور، والمسلم قلبه سليم إذا لم تطمس أنواره الظلمات والمعاصي.
وجاء في الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)، فالطير يخدع سريعاً، فإذا وضعت الشبكة فإنه يقع فيها، لأنه ليست له خبرة كبيرة، فكأن هؤلاء الذين أفئدتهم مثل أفئدة الطير لا خبرة لهم في الحياة، ولا يهمهم أن يأخذوا خبرة في الحياة، فهم يتعاملون مع الناس بسلامة الصدور، ويستغل الناس منهم ذلك فيخدعونهم ويضحكون عليهم، ويغبنونهم ويدلسون عليهم، وهم يتعاملون مع الله، فيعفون عمن ظلمهم، ويجعلون أمرهم لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن غر كريم، والكافر خب لئيم.
فالمؤمن غر بمعنى: أنه قد يُضحَك عليه، ولا يحاول أنه في كل حاجة يقوم يبحث وراءها ويدقق فيها، فوقته أغلى وزمنه أغلى، فهو خائف أن الموت يدركه وهو على غير عبادة، فلا يذهب وراء الناس ووراء كل عمل يعملونه، وقد يشتمه إنسان فيقول: ما يقصدني، وكانوا يعتبرون ذلك في الجاهلية من مكارم الأخلاق، ولعل بعضهم يقول: ولقد أمر على اللئيم يسبني فأمر ثم أقول لا يعنيني أي: ولقد أمر على إنسان لئيم فيشتمني، فأتجاوز هذا اللئيم وأقول لنفسي: ما يقصدني، مع أنه يراه وهو يشتمه، فهو لا يريد أن يضيع وقتاً في عراك مع هذا الإنسان.
وكذلك الإنسان المؤمن، فهو يعلم أن الدنيا زمنها محدود، فهو من ساعة ما ولد وعمره محدود، وهو آخذ في النقصان، فهو ينقص ولا يزيد، وإذا كان الإنسان مقدر له أن يعيش ستين سنة فإنه كلما مر عام نقص من عمره، فلا يزال في التناقص لغاية النهاية.(135/12)
المؤمن غر كريم
إن المؤمن يخاف أن يضيع هذا العمر الذي قيمته عظيمة جداً ولا يتكرر، فإذا تشاجر مع هذا، ويدقق في الأمور مع هذا، ويبحث وراء هذا، فإن ذلك سيضيع عليه جزءاً من عمره، إذاً فالمؤمن لا وقت عنده لهذه الأمور، فالمؤمن غر كريم، يعني: أنه ليس له خبرة كبيرة في أمور الدنيا، وليس معناه: أنه غبي، فالمؤمن ليس غبياً، المؤمن فيه نور الإيمان، ولكنه لا يضيع وقته ويفتش وراء كل حاجة من أجل أن يحصل عليها، فهو سليم الصدر، ويتعامل مع الناس بمنطلق حسن النية وحسن الظن.
وانظروا إلى سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه كان يحب أن يعتق العبيد، فالعبد الذي يجده صالحاً مصلياً فإنه يعتقه، فكان العبيد فيهم لؤم فعندما يرون عبد الله بن عمر فإنهم يذهبون إلى المسجد للصلاة ويخشعون في الصلاة، فيعتقهم ابن عمر ويقول لمن يفعل ذلك: أنت حر لوجه الله، فلما تكرر منه ذلك قال له الناس: إنهم يخدعونك، فهم ما كانوا يعملون هذا من ورائك بل أمامك فقط، فقال ابن عمر قولته الجميلة: من خدعنا بالله انخدعنا.
ومعنى مقالة ابن عمر: إذا كان قد خدعني فإني أحب عبادته وربنا لا يخدعني، فربنا يعاملني على ما في قلبي وعلى سلامة صدري، فإذا كان هذا العبد قد خدعني فهو لم يخدع الله، فالله يعطيني أجري، وهو عليه إثمه.
فالمؤمن غر كريم يعطي، والإنسان الكريم هو الذي يسامح ويعفو ويتعامل مع الناس بكرم الخلق، وكذلك المؤمن.(135/13)
سبب استغفار إبراهيم لأبيه وهو كافر
وقال سبحانه في سورة أخرى ليبين سبب استغفار إبراهيم لأبيه وهو لا يزال على الكفر، فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة:113 - 114] يعني: لما زجره أبوه قال له: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، قال تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48].
فوعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47]، فبناء على هذا الوعد قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} [التوبة:114] أي: عن وعده إياه، فلما بين له ربه أن أباه عدو لله، تبرأ من أبيه ومن المشركين، وعبد الله وحده لا شريك له، فاستحق أن يكون خليل الله سبحانه.
قال تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].
ثم دعا ربه فقال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
فقوله تعالى: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87]، فالخزي العظيم هو خزي يوم القيامة، وقد يصيب الإنسان في الدنيا شيء من الإهانة أو الإذلال لكن ليس هو الذل ولا الخزي العظيم، فالخزي العظيم ما يكون يوم القيامة، فتكون فضيحة أمام الخلائق جميعهم ثم المصير إلى نار جهنم -والعياذ بالله- فإبراهيم عليه الصلاة والسلام سأل ربه ألا يخزيه في هذا اليوم العظيم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- يرى أباه يوم القيامة وعليه الغبرة والقترة) أي: يرى أباه يوم القيامة وعليه الذل، ووجهه منكدر مخسوف من شدة حيائه مما فعل في الدنيا من عبادته غير الله سبحانه.
وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يلقى إبراهيم أباه يوم القيامة فيقول: يا رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون، فيقول الله عز وجل: إني حرمت الجنة على الكافرين)، فإبراهيم يذكر لربه: أنت وعدتني أنك لا تخزني، وأي خزي أشد من أبي الأبعد وهو يدخل النار، ولذلك رحم الله عز وجل إبراهيم يوم القيامة ولم يخزه، فلما نظر إلى أبيه في صورته حن لأبيه، فقال الله عز وجل: (يا إبراهيم! انظر ما وراءك، فنظر إبراهيم وراءه فلما التفت إذا بأبيه يتحول إلى صورة ضبع -أي: هيئة هذا الحيوان الذي على هذه الصورة -فإبراهيم لا يخطر بباله أن هذا أبوه ملطخ بطين ودم- ثم يؤخذ بقوائمه ويلقى في النار).
فالذي أشرك بالله سبحانه لا ينفعه أن ابنه كان أباً للأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد حذره الله سبحانه وتعالى وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فأبى الرجل إلا الكفر، وقال لإبراهيم: إما أن تكون معي فيما أنا فيه وإلا اعتزلني، وإلا لأرجمنك، أي: أسبك أو أخذفك بالحجارة، فهذا كان جوابه في الدنيا، فلم يستحق يوم القيامة إلا النار، يقول الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:88] أي: لا ينتفع الإنسان بالمال ولا بالبنين يوم القيامة، إلا أن يكون هذا المال أنفقه في الدنيا في طاعة الله، أو أن يكون ربى الأبناء تربية صالحة على عبادة الله، فينفع الأبناء آباءهم يوم القيامة بشفاعة ونحوها، ولكن في البداية في الموقف العظيم الكل يفر بعضهم من بعض، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: نفسي نفسي نفسي.
ويوم القيامة لا ينفع المال، وقدِّم المال على البنين في الذكر؛ لأن نفع المال في الدنيا للإنسان لعله أكثر من نفع البنين، وكل الناس يكون معهم المال، وليس كل الناس معهم البنون، فعلى ذلك فإن الإنسان بماله يفعل ما يريد فيأكل ويشرب، ولكن ليس كل إنسان له أولاد وبنون.
فيقول هنا: هذا المال الذي كنت تتمتع به في الدنيا لا ينفعك يوم القيامة، فليس هناك رشوة، أو أخذ مال، وإنما ينفع في هذا اليوم {مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].(135/14)
تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:90 - 93].
ففي هذه الآيات انتقل الله تعالى من كلامه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} [الشعراء:69 - 70] وذكر مقالته، ثم أخبرهم عن رب العالمين، وانتقل لبيان من هو رب العالمين، فدعا إبراهيم قومه إلى ربه سبحانه، ثم دعا لأبيه، ثم جاء بعد ذلك ذكر النار والجنة، فالله عز وجل الآن يخاطبنا نحن، فهنا حصل التفات وخروج من خطاب إلى خطاب آخر، ومع ذلك تقرأ كل هذه الآيات في سياق واحد ولا تلاحظ الالتفات والخروج من موضوع إلى آخر، وفي هذا دلالة على عظمة القرآن كلام رب العالمين سبحانه.(135/15)
تفسير قوله تعالى: (وأزلفت الجنة للمتقين)
يقول ربنا سبحانه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] أي: صارت لهم قريبة منهم، وأدنيت حتى يدخلوها، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
فأهل التقوى هم الذين اتقوا المعاصي، واتقوا غضب الله سبحانه، واتقوا الذنوب والشرك بالله فصاروا من أهل الجنة، فهم أتقياء أنقياء أثرياء، قلوبهم مصابيح الدجى، نجاهم الله في الدنيا من كل غبراء مظلمة، ونجاهم يوم القيامة يوم الموقف العظيم من أن يكونوا من أهل النار، فقربهم من الجنة وقربها لهم، وأدنيت {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90].(135/16)
تفسير قوله تعالى: (وبرزت الجحيم للغاوين)
وقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ} [الشعراء:91] أي: أظهرت، وبرز الشيء ظهر وارتفع.
وانظر إلى التعبير الجميل في تقريب الجنة من المتقين، فما قال: إنهم قربوا منها، فالإكرام العظيم لأهل التقوى أن الجنة تقرّب منهم، فقد جاءت إليكم فادخلوها، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:90 - 91].
وأما الكفار فقبل أن يدخلوا النار فإن الله يريهم النار؛ من أجل أن يخافوا منها، وبعد ذلك يلقون في نار جهنم والعياذ بالله.
وقوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ} [الشعراء:91] أيْ: أُبرزت لهم، فجعلت بارزة يراها كل من ظهرت له، وسميت الجحيم؛ لأنها متقدة مستعرة وفيها اشتعال، يقال لعين الأسد: إنها جحمة؛ لأنها عين براقة مشتعلة، وعين الأسد فيها احمرار، فهي تخوف فسميت جحمة، وكذلك هذه النار -والعياذ بالله- فإنها مشتعلة.
إذاً فالجحيم هي: النار المستعرة المشتعلة.
{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:91]، غوى الإنسان أي: ضل واتبع العوى، وإنسان غاوٍ أي: إنسان ضال ترك طريق الهدى وانحاز إلى الضلال، فهو إنسان غاوٍ.
إذاً فالكفار والغاوون من أهل الكبائر وأهل المعاصي أظهرت لهم جهنم قبل أن يدخلوها، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [يس:63]، فينظرون إلى النار فيخافون ويفزعون من منظرها، وبعد ذلك يدخلونها، وانظروا إلى السياق القرآني يقول الله عز وجل: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الشعراء:91 - 93]، أين الأصنام؟ وأين الأوثان؟ وأين كبراؤكم؟ وأين الجان؟ وأين من كنتم تعبدونه من دون الله؟ والسؤال هنا ليس سؤال استفهام، وإنما هو سؤال توبيخ وتبكيت لهؤلاء، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ} [الشعراء:92 - 93] الآن {أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:93] أي: إن كانوا لا يستطيعون أن ينصروكم، فلينصروا أنفسهم {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء:93] أي: عندما رأوا النار ورأوا عذاب رب العالمين سبحانه.(135/17)
تفسير قوله تعالى: (فكبكبوا فيها هم والغاوون)
قال تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94].
فقد قلنا: إن الله عز وجل أراهم النار -والعياذ بالله- كي يخافوا ويذعروا منها، وإذا بهم يؤخذون ويكبكبون، وهذا التعبير غليظ وفيه شدة.
وتفسير كبكبوا: أي جمعوا على بعض ودحروا في نار جهنم، فوقعوا فيها، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13]، ويضربون على أقفائهم؛ من أجل أن يكبوا في نار جهنم بعضهم فوق بعض، فكل إنسان غاوٍ، أو ضال، أو بعيد عن الله سبحانه، أو استكبر عن عبادة الله، وترك طاعة الله فإنهم ينطبق عليهم، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} [الشعراء:94]، ومعهم {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95]، وجنود إبليس في الدنيا كانوا لا يرون إبليس ولا جنوده، وفي يوم القيامة يرونهم على أبشع الصور، فالإنسان يخاف من المناظر القبيحة التي أمامه، فكيف بمن سيكون صاحبه في النار من مثل هذه المناظر؟! فيجعلون جميعاً في نار جهنم: هؤلاء الغاوون {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} [الشعراء:95]، فلما دخلوا النار {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} [الشعراء:96] أي: يتخاصمون ويتشاجرون مع بعض في النار، فيكون هناك نار وعذاب وعراك وخصام.(135/18)
تفسير قوله تعالى: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين)
قال تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: لقد كنا ضالين؛ لأنكم عتمتم علينا وجعلتمونا نضل ونبتعد عن رب العالمين.
وقوله تعالى: {تَاللَّهِ} [الشعراء:97] هذا قسم بالتاء، ولا يكون إلا في لفظ الجلالة فقط ولا يجيء لغير لفظ الله.
وقوله تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: يا خسارة! فنحن كنا في ضلال مبين واضح في أيام الدنيا، فكيف عمينا عن الحق؟ {إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الشعراء:97] أي: لقد كنا في ضلال مبين.(135/19)
تفسير قوله تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين)
{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:98]، فقد نظروا إلى إبليس وجنوده، ونظروا إلى من عبدوا من دون الله فقالوا: لقد كنا في ضلال: أأنتم آلهة؟! فأين ذهبت عقولنا؟ وكيف كنا نعبدكم من دون الله؟ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98] أي: أأنتم مثل رب العالمين؟!(135/20)
تفسير قوله تعالى: (وما أضلنا إلا المجرمون)
قال تعالى: {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:99] أي: ما أضلنا إلا أهل الجرم والفجور والمعاصي، وكذلك الشياطين الذين زينوا لنا عبادة غير الله سبحانه، وزينوا لنا الشرك والكفر والمعاصي.(135/21)
تفسير قوله تعالى: (فما لنا من شافعين)
قال الله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100]، فهم يندبون حظوظهم، ويبكون على أنفسهم، ويقولون: لا يوجد من يشفع لنا، وذلك لما رأوا أهل الإيمان وأهل التوحيد يشفع بعضهم لبعض، فأهل الطاعة نفعتهم الشفاعة.
فقد دخل أناس من الموحدين النار، ونفعهم من شفع فيهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، وأهل الدين، ومن أحبهم من المؤمنين، فأخرجهم الله عز وجل من النار، فلما رأى الكفار ذلك قالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] أي: نحن ما لنا أحد يشفع لنا.(135/22)
تفسير قوله تعالى: (ولا صديق حميم)
قال تعالى: {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:101] أي لا يوجد رجل بيننا وبينه صداقة دافئة؛ لأن الحميم: هو الماء الساخن الدافئ، يعني: رجل بيننا وبينه صلة وصداقة في الدنيا تنفع الآن، فلا تنفع صداقة كلام فقط، فقد كانوا في الدنيا أصدقاء، فأهل المعاصي يصادق بعضهم بعضاً، ويقولون له في الدنيا: نحن نفديك بأرواحنا ونفديك بكذا، وهذا كلام فارغ، فلما يأتي يوم القيامة لا يجد من يقول له: أفديك بكذا، فكلهم في النار والعياذ بالله، فقالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].(135/23)
معنى الشفيع
والشافعون: هم الشفعاء، وسمي الشفيع شفيعاً؛ لأنه لا يترك صاحبه وحده، وإنما يشفعه فيكون معه اثنين بدلاً من أن يكون وحده، فتقول: تعال يا فلان اشفع لي عند فلان، يعني: كن بجانبي فنصير اثنين، ولا تتركني وحدي.(135/24)
معنى الصديق
والصديق: مأخوذ من الصدق، فهو صديقك الذي يصدقك، والذي يكون معك، وفي قلبه محبة ومودة لك فيصدقك في النصيحة، ويأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، ويكون معك في سرائك وفي ضرائك، وهو الصادق في ودادك الذي يهمه أمرك، فهذا هو الأخ في الله سبحانه.(135/25)
منافع الصديق لصديقة
والأخ في الله ينفعك في الدنيا، وينفعك في قبرك، وينفعك يوم القيامة، ففي الدنيا ينصحك ويأمرك بالمعروف وينهاك عن المنكر، وما سألته شيئاً إلا وأجابك في هذا الشيء، فإذا طلبت منه إعانة أو شيئاً آخر فهو يكون معك، فإن لم يكن معك بماله أو ببدنه فهو معك على الأقل بكلامه فيواسيك.
فإذا مت فهو الذي يشيعك إلى قبرك، ويقف على قبرك يدعو لك، ويصلي عليك، فتنتفع به وأنت في قبرك.
وإذا مت فهو يبحث عن حال عيالك وأهلك هل هم محتاجون لشيء، ففي الدنيا كانت صداقة حقيقية فنفعت، وأنت في قبرك فهو يبحث عن دينك ليقضي عنك دينك؛ حتى لا تعذب عند الله سبحانه.
فإذا كنت يوم القيامة وأدخلت النار فإن هذا الصديق الحميم الذي كان من الأتقياء ينفعك عند رب العالمين، ولا يزال يدعو ربه حتى يخرجك الله عز وجل من النار بفضله وبكرمه سبحانه، وبدعاء هذا الصديق الحميم.
ولعل هذا الأخ في الله يكون أخوه في منزلة دنيا في الجنة، وهو في منزلة عليا، فيشفع عند رب العالمين فيرفع أخاه في منزلته، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (المرء مع من أحب)، فهذا الصديق الحميم وهذا الأخ في الله ينفع أخاه في الدنيا وفي الآخرة، فلذلك فالكفار عندما يرون ذلك إذا بهم يتحسرون في وقت قد فاتهم ذلك، فلا ينفعهم البكاء، ولا تنفعهم الحسرة، ولا ينفعهم الندم، ولا ينفعهم إيمانهم فقد رأوا ما كان غيباً رأوه شهادة، فقالوا: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].(135/26)
تفسير قوله تعالى: (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)
ثم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [الشعراء:102] أي: مرة ثانية نرجع إلى الدنيا، وقد قضى الله ألا يرجع إليها لا المؤمن ولا الكافر، فالدنيا هي مرة واحدة فقط، وقال الكفار: نرجع إلى الدنيا، وقد قالها المؤمنون الشهداء لما وجدوا عظيم الثواب عند رب العالمين، فسألوا ربهم سبحانه أن يعيدهم إلى الدنيا؛ حتى يقتلوا مرات ومرات في سبيل الله سبحانه لما رأوا من عظيم الأجر عند الله سبحانه، قال تعالى على لسان الكفار: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102 - 103].
أي: إن في هذا الذي تلوناه عليكم، والذي ذكرناه لكم في هذه الآيات وغيرها موعظة وعبرة لمن كان مؤمناً، ولكن أكثر الناس ليسوا مؤمنين، فلا ينتفعون بهذه المواعظ.(135/27)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:103 - 104]، وتتكرر في نهاية الآيات في كل قصة من القصص القرآنية هذه الآية، فقد تكررت ثمان مرات، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:103 - 104]؛ ليبين لك عقب كل قصة من القصص أن هنا آية، فاعتبر إن كنت ممن يعتبر، وأكثر الناس لا يعتبرون، فكن أنت من الأقل الذين يعتبرون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:103]، فإن لم تعتبر أنت ولا غيرك فـ {إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:104]، فالله لا يحتاج إلى أحد، وهو الرب سبحانه.(135/28)
تفسير قوله تعالى: (وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ} [الشعراء:104] التأكيد باللام، والتأكيد بـ (هو) {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:104] سبحانه، فهو عزيز غالب لا يغالب سبحانه، وإذا أمر بالشيء لا يقدر أحد أن يمنعه، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2]، فهو عزيز قوي قاهر غالب سبحانه، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، ومن تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه.
نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا، وأن يجعلنا من عباده المرحومين.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(135/29)
تفسير سورة الشعراء [105 - 122]
في قصة سيدنا نوح عليه السلام من العظمة وبعث الثقة بوعد الله ما يتجلى لكل متأمل، فقد أمره الله أن يصنع سفينة في حين أن معطيات العقل قد تجعل ذلك ضرباً من الخيال؛ بسبب جهل العقل عن معرفة الغيب، فصنَع نوح السفينة، وأمر الله الأرض أن تخرج ماءها، وأمر السماء أن تنهمر بالماء، فصعد نوح على السفينة ومعه من أمره الله بحمله، وأغرق الكفار والمكذبون، وقيل الحمد لله رب العالمين.(136/1)
كيفية نشوء الشرك في قوم نوح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:105 - 122].
هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة العظيمة سورة الشعراء، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها نبياً من الأنبياء، بل هو أبو الأنبياء قبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فنوح أرسله الله عز وجل إلى قومه؛ ليدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكان آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو أبو البشر قد تعلم أولاده منه توحيد الله سبحانه وتعالى، واستقاموا على التوحيد قروناً وأزمنة طويلة، حتى جاء قوم نوح فعبدوا غير الله سبحانه وتعالى، وكان السبب في ذلك تصوير التماثيل، وصنعوا التماثيل وجعلوا ينظرون إليها ظناً منهم أنها تذكرهم السابقين، وقد كان الناس من قبلهم على التوحيد الخالص عشرة قرون أو أكثر من ذلك، وإن كان هناك معاص قبلهم لكن الشرك لم يوجد إلا في هؤلاء، وأما القرون من قبلهم فقد كانوا على التوحيد حتى جاء هؤلاء فأشركوا بالله سبحانه.(136/2)
طروء الشرك على قوم نوح وسببه
قال الله في سورة نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:23 - 24].
فقد كان سبب شركهم أن هؤلاء القوم الذين سماهم الله عز وجل كانوا أناساً صالحين، فأعجب الناس صلاحهم، فلما مات هؤلاء الصالحون قال الشيطان لهؤلاء، أو ألقى في قلوبهم أن صوروا لهم الصور، واصنعوا لهم التماثيل حتى تذكروهم، فصنعوا لهم صوراً، وصنعوا لهم تماثيل، وكانوا يأتون إلى أماكن صورهم وتماثيلهم ويقولون: هؤلاء كانوا من الصالحين، ولم يزالوا على ذلك فترة من الزمن، ثم مات هؤلاء وجاء أولادهم بعد ذلك، فقال أولادهم: إن آباءنا كانوا يتبركون بهؤلاء ويأخذون البركة منهم، ونحن نتبرك بهم كما كان يفعل آباؤنا، فذهبوا إلى هذه الصور والتماثيل يلتمسون منها البركات، ويلتمسون منها الإحسان وأشياء يزعمونها، فمضت السنون وجاء أقوام بعد ذلك فقالوا: كان آباؤنا يعبدون هؤلاء، فعبدوهم من دون الله سبحانه، فلذلك لما قالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] يذكر ابن عباس رضي الله عنه: أن هذه أسماء أناس صالحين، فما كانوا كفرة ولا مشركين، فأحب الناس أن يتذكروهم، فجعل الشيطان لهم هذه الحيلة التي وصلوا بها في النهاية إلى أن يعبدوا الصور والتماثيل؛ ولذلك حرمت صناعة التماثيل والصور في ديننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) سواء كانت الصورة تمثالاً يصنعه الإنسان أو ينحته فإنه سيأتي يوم القيامة ويقال له: انفخ فيه الروح، أو أنه يرسم ما فيه الروح بيده، فيقال له يوم القيامة: انفخ فيه الروح، فينبغي للمسلم أن يبتعد عن أن يصور صوراً أو يرسم بيده صور أشياء فيها الروح، فإن ذلك لا يجوز، وكذلك نحت التماثيل فإنه حرام في شرعنا.(136/3)
تفسير قوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين)
ذكر الله عز وجل قصة نوح هنا فقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، وسرد الآية على نفس السياق الذي وردت فيه كل القصص في هذه السورة، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، وفي كل الآيات يذكر: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} [الشعراء:106] إلا في أصحاب الأيكة فقال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:177]؛ لأن هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل في قصصهم: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ} [الشعراء:106] كانوا إخوة لذلك النبي في النسب، أو كانوا من القوم، فيقال: فلان أخو فلان يعني: من النسب، وقد يقال: فلان أخو فلان أي: من نفس القبيلة، ولا يشترط أن يكون أخاً لواحد منهم من النسب، فقد يكون من القبيلة وهو بعيد في نسبه منها، فيقال: يا أخا بني تميم، يعني: أنت من بني تميم، أو أهلك كانوا من بني تميم، فذكر الله عز وجل هنا السياق المناسب لسياق السورة، فبدأه بالقصص، وختمه أيضاً بما تختم به القصص: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9].
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فذكر المرسلين بالجمع مع أنه أرسل إلى قوم نوح عليه الصلاة والسلام رسولاً واحداً وهو نوح، ولكنه ذكر الجمع هنا؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فدعوة المرسلين دعوة واحدة، فالرسل كلهم يدعون أقوامهم أن {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فمن كذب هذا الرسول الذي يأمرهم بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، فقد كذب كل من دعا إلى ذلك.(136/4)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لهم أخوهم نوح فاتقوا الله وأطيعون)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106]، فهنا يعظهم نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو منهم وهم قومه، فدعا قومه ليلاً ونهاراً كما ذكر الله عز وجل ذلك في سورة نوح، فقال: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:5 - 9]، وكل هذا الدعاء من نوح لقومه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً كان لغاية واحدة وهي: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، ولكن لم يزدهم دعاؤه هذا إلا فراراً وعناداً وإصراراً على الكفر، كما قال: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [نوح:6 - 7] أي: يا قوم تعالوا إلى الله ليغفر لكم ذنوبكم، فيدعوهم إلى الله مخبراً لهم أن الله سيغفر لهم، ولكن كان الرد منهم ما قاله تعالى: {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، وهذه مبالغة في عدم السمع وعدم الاستماع وعدم التنبه لما يقوله نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، مع أن الأصل أن الإنسان لا يدخل أصبعه كاملاً في أذنه، وإنما يدخل الأنملة وهي طرف الأصبع، ولكن هذا على وجه المبالغة في عدم تقبلهم سماع دعوة نوح عليه السلام، وإضافة إلى عدم سماعهم للحق كانوا إذا رأوا نوحاً عليه السلام وضعوا ثيابهم على وجوههم؛ حتى لا ينظروا إليه على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7]، وقال تعالى: {وَأَصَرُّوا} [نوح:7] يعني: على كفرهم، {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] أي: استكباراً فضيعاً وشنيعاً، فإذا بهم لا يسمعون ولا يعقلون ولا يتنبهون لما يقوله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] يعني: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107]، وكل رسول من رب العالمين فهو أمين، أي: مؤتمن على شرع رب العالمين سبحانه، فقد ائتمنني ربي على هذه الشريعة حتى أبلغكم وأدعوكم وأهديكم إلى صراط الله المستقيم، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} [الشعراء:107] يعني: صاحب رسالة من الله عز وجل، قد جئت لكم بشريعة وبرسالة من الله سبحانه، وأنا مؤتمن من لدن ربي سبحانه، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:107].
وقوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:106] مفتوحة الآخرة، أي: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى.
قال بعدها: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108]، فطاعة الرسول من طاعة الله سبحانه وتعالى، أي: أطيعوني فيما جئت به تكن طاعتكم هذه طاعة لله رب العالمين، وقراءة الجمهور: {وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:108]، وقراءة يعقوب: ((وَأَطِيعُونِي)).(136/5)
تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر واتبعك الأرذلون)
قال تعالى حاكياً كلام نوح عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109].
فقد كان كل الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يقولون لأقوامهم: إننا لم نأت لنطلب أجراً على هذا الشيء، إنما الذي يأجرنا ويعطينا الأجر هو الله سبحانه، وكذلك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أمره ربه أن يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: لا أسألكم عليه أجرة تدفعونها إلي، ولكني أطلب منكم أن تبروني في الرحم التي بيني وبينكم، فإن بيني وبينكم نسباً فراعوا ذلك النسب والقربى.
فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أجرهم على الله سبحانه، ولا يسألون أحداً أجراً على شيء، ولا يقبلون صدقة من أحد أبداً، والذي يأخذونه هو ما يأخذونه بجهادهم في سبيل الله سبحانه أو بكسب أيديهم، فيعلمهم الله عز وجل صنعة يعملون بها، فيكون عيشهم إما من غنائم الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى كما كان حال نبينا عليه الصلاة والسلام، وإما أن تكون حرفة يعلمهم الله سبحانه وتعالى إياها كما علم داود وغيره عليهم الصلاة والسلام.
وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] اختلف فيها القراء، وهذه هي قراءة الجمهور، وأما قراءة ابن كثير وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب: ((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ))، والذي يمد فيهم يقرأ: (إن أجري~ إلا على رب العالمين) على حسب اختلافهم في المد والقصر.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] وهنا ناسب أن يذكر الرب سبحانه ولا يناسب أن يذكر الإله؛ لأن مقتضى أنه إلهي أن أعبده، ومقتضى أنه ربي أنه هو الذي يعطي ويرزق؛ ولذلك قال: ((إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّي))، وما قال: على إلهي، وإن كان الإله هو الرب سبحانه، لكن مقتضى ربوبية الله سبحانه أنه هو الذي يشرع، ويرسل الرسل، وأنه الذي يرزق الرسل وغيرهم من الخلق.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:110 - 111].
قوله: (أَنُؤْمِنُ) كأنهم يستنكرون ذلك، ويقولون: أنؤمن ونكون مثل هؤلاء؟ وهذا هو كلام الكفرة في كل عصر، فالمشركون قالوا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: إننا لا نجلس مع هؤلاء فتعيرنا القبائل، وقوم نوح قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: وقد اتبعك أراذل القوم، أي: السفلة من القوم، والناس الفقراء الضعفاء الذين ليسوا بسادة ولا كبراء ولا وزراء في القوم، فهؤلاء هم الذين كانوا يتبعونه، ونفس الكلام قاله المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوا صهيباً وعماراً ورأوا غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الفقراء والمساكين فقالوا: لا نجلس مع هؤلاء، فاجعل لنا يوماً وحدنا إذا أردت أن نسمع لك، فإذا بالنبي يكاد أن يستجيب لهم طمعاً في إيمانهم، ولكن الله حذر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] أي: لا تطرد هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي مخلصين له، ويريدون وجهه، {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، وقال تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52] أي: اجلس مع هؤلاء ولا تتركهم فإن حسابهم على الله، وحسابك على الله، وحساب هؤلاء الكفار على الله سبحانه، فلا أحد يحمل عن أحد من حسابه شيء.
ثم أخبر الله نبيه وخليله صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا طرد هؤلاء فإنه يكون ظالماً، وحاشا له أن يظلم، فما كان ليطردهم، ولكنه أراد أن يجعل لهؤلاء يوماً ولهؤلاء يوماً، فإذا بالله يصف ذلك بأنه طرد لهم، مع أنهم آتون ليلاً ونهاراً يتعلمون الدين فكيف يطردهم ويقدم هؤلاء ويجعل لهم يوماً بدلاً من هؤلاء، مع أن هؤلاء لعلهم لا يؤمنون؟! وكذلك قوم نوح لما قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: وقد اتبعك الأرذلون والضعفاء والذين ليس لهم من الأمر شيء، فنحن لن نجلس معهم ولن نؤمن، {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] يعني: هؤلاء الأتباع الذين من حولك ضعفاء، وليس معك جيش ولا قوة، فلن نؤمن لك ما دام معك هؤلاء.(136/6)
تفسير قوله تعالى: (قال وما علمي بما كانوا يعملون ونجني ومن معي من المؤمنين)
لقد أجاب سيدنا نوح على قومه: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:112] أي: لا تنظروا إلى الظاهر فقط، فلعل هؤلاء الضعفاء كما تزعمون لهم أعمال باطنة عظيمة يعلمها الله ويؤجرهم عليها، فلا تنظروا إلى الظاهر وتحكموا على السرائر حكمكم على الظاهر، فإن لهم أعمالاً عظيمة، ويكفي إيمانهم، فالله أعلم بما كانوا يعملون، فلم أكلف العلم بأعمال هؤلاء، وإنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
ثم يقول نوح عليه الصلاة والسلام: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113] أي: حساب هؤلاء بأعمالهم إنما هو على الرب سبحانه، وكأنه يقول: إذا كان ربنا سيحاسب الضعفاء فإنه سيحاسب الأقوياء كذلك، ولكن نوحاً كان يتلطف معهم في القول: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء:113] أي: بذلك وتفهمونه.
{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:114] أي: لا أطرد المؤمنين، وهذا هو الذي حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم منه، فسمى عدم مجالستهم طرداً لهم، فقال: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52]، وهنا نوح عليه الصلاة والسلام قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا} [الشعراء:114 - 115] يعني: ما أنا {إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء:115] أي: ليس عملي أن أقرب أناساً وأبعد أناساً، أو أرفع أقواماً وأجعل أقواماً في منزلة وآخرين، ولكن عملي أن أنذر الجميع، فمن استجاب كانت له المنزلة العظيمة يوم القيامة عند رب العالمين، ومن أعرض نال العذاب في الآخرة، وكذلك كل الرسل فإنما هم منذرون لأقوامهم، فالنبي هو البشير والنذير، فالبشير من يخبرك بما تفرح به ويسرك؛ وكذلك كان الأنبياء صلى الله عليهم وسلم أجمعين يبشرون المؤمنين بالجنة وما لهم في دار الحبور والسرور، وإما أن يكون النبي منذراً يخبرهم ويخوفهم بما ينتظر من كفر وفجر من عذاب عند رب العالمين، وهنا قال نوح: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء:115]، وما قال بشير؛ لأنهم لا يستحقون بشارة، فإنهم كفار جميعهم أجداداً وآباء وأحفاداً، فقد كان يلقن بعضهم بعضاً الكفر، ويحذر بعضهم بعضاً من الإيمان بنوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(136/7)
تهديد قوم نوح له وموقفه من ذلك
قال سيدنا نوح لربه سبحانه: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]، وذلك عندما مكث يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، إذ كان عمره طويلاً، وأما هم فكان منهم صاحب العمر الطويل ومنهم صاحب العمر القصير، فقد مات الأجداد، فجاء الآباء وماتوا، فجاء الأبناء وماتوا، فجاء الأحفاد والرسول هو نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد بذل نوح عليه الصلاة والسلام في دعاء هؤلاء الأقوام إلى ربهم سبحانه الكثير من العمر والجهد، وعندما يذكر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة فكأنه يقول له: ستأتي البشارة والنصر من الله كما نصر نوحاً، وقد صبر نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، فاصبر كما صبر الذين من قبلك من الرسل، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
قال نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} [الشعراء:115] أي: أخوفكم عذاب الله بسبب كفركم وشرككم، ((مُبِينٌ)) أي: بين واضح، وعندي الحجج والبراهين من الله.
{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، وهنا التخويف بمقتضى قوتهم، إذ قالوا: نحن أقوياء وأنت ضعيف، فقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ} [الشعراء:116] يعني: عن سب آلهتنا وعن دعوتنا إلى التوحيد الذي تدعو إليه {لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116]، والرجم يأتي في القرآن بمعان مختلفة: فقد يأتي بمعنى الرجم بالحجارة، وقد يأتي بمعنى: السب والشتم، وكل ذلك فعله الكفار مع نوح ومع غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهددوا نوحاً بالرجم بالحجارة، أي: القتل، والمرجوم هو القتيل رمياً بالحجارة، أو هددوه بأن يكون من المشتومين.
وعند ذلك قال نوح سائلاً ربه سبحانه: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء:117 - 118] أي: ائتني بالفتح من عندك، والفتح هو النصر، فانصرني عليهم، وقوِّ حجتي، وأظهر دعوتي، وذلك بعد أن شكا إلى ربه تكذيب قومه فقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا} [الشعراء:117 - 118]، ونكر كلمة الفتح، يعني: فتحاً عظيماً، {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118]، فسأل ربه أن ينجيه، وأن ينجي من معه من المؤمنين، وقد كان المؤمنون قلة مع نوح، فما آمن معه إلا قليل من قومه، بل إن امرأة نوح لم تكن على دينه وكانت كافرة، وابن نوح أيضاً كان كافراً، وامرأة نوح قد ضرب الله عز وجل بها المثل في القرآن، فقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10] أي: خانتاهما في كونهما على الكفر ولم يؤمنا بدين الله عز وجل، أو في كونهما يدلان القوم على مواضع الضعف عندهما، وليس المقصود من ذلك الخيانة في العشرة الزوجية، فالله يعصم أنبياءه من أن يكون في بيوتهم مثل ذلك.(136/8)
تفسير قوله تعالى: (فافتح بيني وبينهم فتحاً أغرقنا الباقين)
بعد أن دعا نوح ربه: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:118].
قال سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] أي: فأنجاه الله سبحانه، والفاء هنا تفيد الترتيب والتعقيب، وكأن نوحاً لما دعا الله نصره، ولكن بعد أن أمره بأخذ أسباب النصر وأسباب النجاة، فأوحى إلى نوح أن يصنع الفلك بقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]، وقال الله محذراً له: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:37]، فإذا بنوح يستجيب لأمر الله، فعلمه الله كيف يصنع السفينة، فإذا بنوح يصنعها في الصحراء بعيداً عن الناس، وعندما يمر عليه الكفار وهو يصنع سفينة في أرض لا ماء فيها يتعجبون ويسخرون منه، قال تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] أي: لم تضحكون علينا، اضحكوا على أنفسكم مما سيحدث بعد ذلك، ولكنهم لم ينتهوا، بل كلما مر عليه ملأ منهم قالوا: ماذا تصنع يا نوح؟! وأين الماء الذي ستحمل عليه هذه السفينة؟ فيضحكون ويسخرون منه، ولا يتوقعون أن الماء سيأتي من بطن الأرض، وليست السفينة هي التي سيذهب بها إلى الماء، فسبحان الله الخلاق العظيم تبارك وتعالى.
قال تعالى: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39].(136/9)
علامة بدء الغرق التي جعلها الله لنوح
لقد أمر الله سبحانه نوحاً فقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
وقد جعل الله علامة منه عز وجل لنوح، وهي أن هذا التنور الذي تشتعل فيه النار سينبعث الماء من داخله، فإذا وقع ذلك فاركب السفينة أنت ومن معك، {إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود:40] أي: وعدنا الذي وعدناك به، {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود:40] أي: إذا رأيت النار تنطفئ في التنور، ويخرج منه الماء فهذه العلامة إشارة لنزول العذاب، ولكن سننجيك أنت وأهلك المؤمنين، ونهلك هؤلاء الظالمين، فلما جاء أمر الله وفار التنور بالماء ركب نوح السفينة هو والمؤمنون معه، ونادى على ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42]، فأبى هذا الابن الكافر إلا أن يكون مع قومه، ورفض نصيحة أبيه عندما رأى الأرض تخرج كل المياه الجوفية منها، ومياه الأنهار تفيض وتلتقي مع مياه الأرض جميعها، وإذا بهؤلاء القوم يهربون إلى الجبال، وإذا الأمواج تعلو فوق الجبال وابن نوح معهم {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43]، فلم يسمع كلام أبيه ولم يستجب لكلام ربه سبحانه، وإذا به كما قال تعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] أي: أحاط به الماء فصار من المغرقين، وارتفعت السفينة وعلت، وأهلك الله عز وجل الكفار.
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء:119] أي: الموقر الممتلئ، وهو السفينة، فرجل واحد صنع سفينة وسعت هؤلاء المؤمنين معه، فسبحان الله! قال الله عز وجل لنوح: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود:40] أي: احمل أهلك، واحمل المؤمنين معك، واحمل من الدواب من كل زوجين اثنين ذكراً وأنثى، ولا قدرة لإنسان أن يصنع ذلك إلا بأن يقدره الله سبحانه وتعالى على ذلك، فهو الذي علمه، وهو الذي أعانه سبحانه وتعالى، فصنع هذه السفينة فصارت موقرة مشحونة مملوءة بالخلق وبالدواب وغيرهم.
قال تعالى: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} [الشعراء:119 - 120] يعني: بعدما أنجيناه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أغرقنا هؤلاء الباقين، فطفت السفينة فوق الماء، وأهلك الله عز وجل الكفار غرقاً، فكانوا أول الخلق على الأرض يعاقبون بمثل هذه العقوبة الصعبة الشديدة، وهي أن تنفجر المياه من تحتهم، وتنزل عليهم المياه من أبواب السماء {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:11 - 13] أي: حملنا نوحاً على سفينة مصنوعة من ألواح ومسامير، فالألواح هي الخشب، والدسر: المسامير.
والسياق في كل قصة يناسب السورة التي هو فيها، والفواصل التي هو فيها، فهنا قال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، فما قال: على فلك ولا على سفينة؛ لأن الوزن والسياق والخاتمة هنا لكل آية هو حرف الراء، فذكر فيها الفاصلة المنتهية بالراء، فلما ذكر السفينة عبر عنها بـ {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]؛ لتناسب باقي السياق الذي في الآيات.
ثم قال الله سبحانه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:13 - 14] يعني: أن العادة عندما تكون هناك سفينة والأرض تنفجر تحتها ماء، ويوجد طوفان عظيم جداً فإنها تُغرق هذه السفينة، إضافة إلى أن الأمطار التي تنزل {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر:11]، فلابد أن تغرق السفينة، ولكن الله عز وجل يخبر هنا أنه هو لذي حملها فلن تغرق هذه السفينة {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:13 - 14] أي: بحفظنا وبحراستنا وبرعايتنا، فنحن الذين حملناها، ونحن الذين حفظناها، وهذا الجزاء جزاء لمن كان كفر، أي: من كفر بنوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فإنهم كفرو به وجحدوا بما جاء به، وهناك فرق بين كَفَر وكُفر، فكفر مبني للمجهول، فنوح عليه الصلاة والسلام قد كفروا به وكذبوه وجحدوه، فهذا الجزاء هو جزاء لهذا النبي الذي كفره قومه، وأبوا أن يستمعوا له وأن يستجيبوا لدعوته.(136/10)
تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآية وإن ربك لهو العزيز الرحيم)
قال ربنا سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121]، وهذه آية عظيمة، فلو أن عندكم أفهاماً تفهم، وعقولاً تستجيب، وقلوباً تطيع رب العالمين سبحانه لكفتكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:121 - 122].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121]، وهذه التذكرة هي للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه، وهي أن الأكثرين من أهل الأرض على ضلال، وأن الأقلين هم المؤمنون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121].
وهذه السورة سورة مكية، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة والذين استجابوا له مائة من الناس تقريباً، وما زادوا على ذلك، فعندما ينظر إلى الكفار وهم ألوف والذين استجابوا له ليسوا إلا عشرات قد يحزن عليه الصلاة والسلام، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:121] أي: بل كان أكثرهم من الكفار، فلا تنظر إلى الكثرة ولكن انظر إلى نصر الله سبحانه العظيم، فهو الذي نصر الضعفاء، وهو الذي مكن لهم بعد ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:122].
فذكر كلمة (ربك) التي تعني: الربوبية؛ لأن المقام مقام ربوبية، فالفعال لما يريد هو الرب سبحانه وتعالى، والمعز لمن يشاء والمذل لمن يشاء من العبيد هو الرب سبحانه وتعالى، فيذكر تعالى أن جنابه ممتنع، ولا يقدر أحد أن يمانع أو أن يرفض ما يأمر الله عز وجل به، فيأتي أمر الله على هؤلاء كما يريد الله، فقد أمر الأرض أن تنفجر عيوناً فانفجرت عيوناً، وأمر السماء أن تنزل أمطاراً فانفتحت أبواب السماء بماء منهمر، فأغرق الكفار وأنجى المؤمنين الأبرار.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44].
وأمر الله سبحانه للشيء إنما هو كن فيكون، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] فنسب الماء إلى الأرض؛ لأن الأرض في باطنها ماء خلقه الله عز وجل، ففيها المياه الجوفية التي كان الناس لا يعرفون عنها شيئاً، فإذا بهم يعرفون الآن أن المياه الجوفية عظيمة جداً، وأن الأرض ممتلئة بالمياه الجوفية، فيأتي رزق الله عز وجل للعباد من الأرض ومن السماء، إذ ينزل لهم ماء من السماء، ويخرج لهم عيوناً من باطن الأرض.
قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود:44] يعني: ما خرج منك من ماء فابلعيه، {وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود:44] أي: لا تنزلي ماء بعد ذلك، {وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود:44]، فاستوت السفينة على جبل الجودي، وهو كما قالوا: جبل في تركيا اسمه جبل الجودي، وهم الآن يبحثون حول هذا الجبل عن سفينة نوح على نبينا وعليه الصلاة السلام، وجعلوا هذا المكان مزاراً للآثار، فالله أعلم.
فالله سبحانه ذكر أنها استوت على هذا الجبل، واسمه جبل الجودي {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود:44] أي: هلاكاً وسحقاً لكل قوم يكذبون رسل الله سبحانه، وفي هذه الآيات العظيمة كان قبلها الآيات في إنجاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإغراق فرعون وجنوده ما يبهر الألباب من عظمة قدرة الله تعالى، وفي قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأن الله أنجاه من النار فخرج وترك قومه وهاجر إلى بلاد الشام يدعو إلى ربه، فنصره ربه سبحانه بالحجة والبيان، كل ذلك يجعل المؤمن يثق بوعد الله ونصره، وهنا ذكر نوحاً وقومه، ثم يذكر بعد ذلك قصة عاد وقصة هود مع قومه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(136/11)
تفسير سورة الشعراء [123 - 140]
يذكر القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للعبرة والعظة، وما من أمة إلا وقد جاءها نذير من الله عز وجل يذكرهم بنعم الله سبحانه، ويدعوهم إلى عبادته وحده، وكم من أمم بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله العذاب من حيث لا يشعرون، ومن هؤلاء قوم عاد.(137/1)
تفسير قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين فاتقوا الله وأطيعون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:123 - 140].(137/2)
تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لجميع المرسلين
هذه قصة أخرى من القصص العظيمة التي يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة الشعراء بالسياق نفسه الذي ساقه قبل ذلك، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فذكر أن قوم عاد كذبوا المرسلين، مع أن رسولهم كان رسولاً واحداً، فقال الله عز وجل: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:123]؛ لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، فكل رسل الله عليهم الصلاة والسلام دعوتهم واحدة، فهم يدعون إلى عبادة الله، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:61]، فهم يدعون أقوامهم إلى توحيد الله، وإلى دين رب العالمين، فمن كذب واحداً منهم فيما يأمر من توحيد الله فقد كذب جميع رسل الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ} [الشعراء:123]، ذكر الله سبحانه هذه القبيلة، وذكر ثمود وذكر قبل ذلك قوم نوح، وذكر إبراهيم، والعرب يعرفون تماماً من هؤلاء، وذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وكرر ذلك في القرآن في مواطن كثيرة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك تماماً، فالله سبحانه خاطب الجميع بأنه أرسل رسلاً يعرفهم العرب ويعرفهم أهل الكتاب، فموسى عرفه أهل الكتاب، وأخبر الله عز وجل عن أشياء تفصيلية في قصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يعرفها إلا من قرأ التوراة، واطلع على كتب أهل الكتاب، وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ التوراة ولا الإنجيل، ولم يقرأ كتاباً قط، ولم يكتب صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج خارج مكة ليتعلم من أحد وإنما خروجه كان في تجارات ورحلات معلومة معدودة، فإن بعض أهل مكة خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الرحلات كان معه عمه أبو طالب، والكل يعرفون أين يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم في تجارته، وكيف يرجع، وهو لم يقابل أهل الكتاب ويجلس معهم ليستمع منهم مثلاً، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فحين يجدون تفصيلات عجيبة في هذا القرآن عن ذكر الأنبياء السابقين لا يعرفها إلا من اطلع على الكتب السابقة فإن ذلك يدل على أنه يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه من عند رب العالمين.
فقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز بين الحجاز واليمن، وقوم ثمود كانوا في شمال الحجاز بين الحجاز وبين الشام، فقد كان لقريش رحلتان، قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2]، فكانت لهم رحلة في الشتاء ورحلة في الصيف، فيتوجهون إلى الشام ويتوجهون إلى اليمن في رحلتين تتكرران دائماً، فإذا ذهبوا إلى الشام مروا على ديار ثمود، وكانوا يعرفون وعرفوا أن قوم ثمود كانوا هنا، وهنا أهلكهم الله، وحجر ثمود معروف، وإذا ذهبوا إلى اليمن مروا على ديار عاد، وعرفوا أن ديار عاد كانت هنا، وأهلكهم الله عز وجل في هذا الموطن، ويعرفون أن في هذا البلد الأمين الذي هم فيه كان إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان ابنه إسماعيل كذلك، وقد دعاهم إبراهيم ودعاهم ابنه إسماعيل إلى توحيد الله سبحانه فإذا بهم يعبدون أصناماً من دون الله، وقد رأوا ما حاق بالأمم من قبلهم، فهؤلاء قوم عاد أهلهكم الله في هذا المكان الذي عرفتم، وهؤلاء قوم ثمود أهلكهم الله عز وجل في هذا المكان الذي عرفتم.
يقول سبحانه: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ} [الشعراء:123 - 124] أي: كذبوا لما قال لهم أخوهم ورسولهم هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124]، فيخاطب قومه: ألا تتقون الله سبحانه وتعالى فتوحدونه وتؤمنون به وتعبدونه وتطيعونني فيما جئتكم به من وحي من عند رب العالمين؟ {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125]، فهو رسول يدعوهم إلى الله، ويدعوهم إلى التوحيد وإلى شرع رب العالمين سبحانه، فقال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125] يعني: مؤتمن من عند رب العالمين على هذه الرسالة، وقد عرفتم أنتم أمانتي، فما من رسول يبعثه الله عز وجل إلى قومه إلا وهم يعرفون سلفاً أنه أمين، وأنه لا يكذب، وأنه لا يقع في الفواحش ولا في الذنوب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يذكرون أقوامهم بقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء:125] أي: قد عرفتم أمانتي، فإذا لم أكن قد خنتكم قط قبل ذلك فكيف أخون الله رب العالمين سبحانه وأبلغ شيئاً لم يقله؟ وإذا لم أكن كذبت عليكم يوماً من الأيام فكيف أكذب على الله سبحانه؟! قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:126]، دعاهم ليتقوا الله، وحثهم على ذلك، وأمرهم بذلك: اتقوا الله وأطيعون، وهذه كسابقتها قراءة الجمهور: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:126]، وقراءة يعقوب وصلاً ووقفاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي).(137/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)
قال تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] أي: لا أسأل أحداً من الناس أجراً ولكن: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127]، و (إن) هنا بمعنى: (ما)، و (ما) و (إلا) من أدوات القصر، فإذا قيل: ما في الدار إلا فلان فمعناه: ليس في الدار أحدٌ إلا فلان، فإذا قال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] يعني: لا أنتظر أبداً أجراً من أحد من الخلق، وإنما أنتظر الأجر من الخالق سبحانه وحده لا شريك له، {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127]، وهذه كسابقتها أيضاً فيها قراءتان، فهذه القراءة {إِنْ أَجْرِيْ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:127] هي قراءة نافع وقراءة أبي جعفر وأبي عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم، وأما باقي القراء: شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب فيقرءون: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ)، إذاً: تقرأ بالفتح وبالسكون.(137/4)
تفسير قوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)
لقد ذكر الله عز وجل عاداً فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8]، فقوله تعالى: {إِرَمَ} [الفجر:7] هو جدهم، فعاد إرم هم أحفاد إرم، فالقبيلة أبوهم عاد وأبو عاد إرم وأبوه سام وأبوه نوح، فهو عاد بن إرم بن سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهؤلاء القوم يذكرهم نبيهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو أخوهم هود، وليس شرطاً أن يكون له أخوات من هؤلاء، ولكنه ابن من أبناء القبيلة يشترك مع هذه القبيلة في جدهم الذي هو سام بن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فيخبر ربنا سبحانه هنا أن هوداً قال لقومه: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، الريع: هو المنطقة المرتفعة أو الطريق الممتد، فهؤلاء كأنهم لفراغ أوقاتهم يلعبون ويبنون آية، والآية: هي البرج العالي الذي يكون للملك، فيطلع منه على الناس، أو أبراج يربي فيها الحمام ويلعب به، أو أبراج لمراقبة الناس حتى إذا مروا من عندها أخذوا من المارين خراجاً أو مالاً، فقال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} [الشعراء:128] الريع: هو المكان المرتفع من الأرض هذا قول، أو الطريق الواسع وهذا قول آخر، أو أنه الفج الذي بين الجبلين، أو الثنية، يعني: المرتفع الصغير من الأرض، أو المنظرة.
وذكر الله سبحانه تعالى أن هؤلاء القوم كانوا جبارين، وكانوا يبطشون بطشاً شديداً بلا رحمة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [الفجر:6] أي: الرؤية البصرية، والرؤية هنا: هي الاطلاع عن طريق ما أخبر الله عز وجل في كتابه، يعني: ألم تعلم مستيقناً كأنك ترى ذلك، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] إشارة إلى قوتهم والتعجب مما فُعِلَ بهم، وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7] أي: أولاد إرم ذات العماد، فقد كانت بيوتهم عالية جداً، ولها أعمدة عالية؛ لأن أجسامهم كانت عظيمة، وكانوا طوالاً وعراضاً، فاغتروا بقوتهم وأجسامهم حتى إنهم كانوا يبطشون بغيرهم من الخلق بتجبر وعتو، فالواحد منهم يضرب ويقتل غيره من غير سبب ومن غير ذنب، فيقول لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128] يعني: ليس لكم حاجة في بنائها، إنما هي زيادة في اللعب والعبث في ذلك، فإذا مر قوم من غير البلاد يضربونهم ويقتلونهم، ويأخذون أموالهم ويخيفون من حولهم.(137/5)
تفسير قوله تعالى: (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)
قال الله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، إذاً: بناؤهم ليسوا هم في حاجة إليه، وإنما للفخر وإظهار الجبروت على غيرهم، فالله يملي لهم ويقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فأملى لعاد، وذهب إليهم رسولهم عليه الصلاة والسلام هود يدعوهم إلى الله سبحانه ويقول لهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، والمصانع لها معانٍ وكلها مقصودة هنا، فمن معاني المصانع: الحصون المشيدة، أي: يبنون حصوناً ويشيدونها، ظناً منهم أنهم سيخلدون بهذه المصانع، ومن معاني المصانع أيضاً: القصور المشيدة، أي: تتخذون حصوناً وقصوراً، وقالوا أيضاً: من معاني المصانع: أماكن جمع الماء، أي: يحفرون في الأرض آباراً عظيمة للمياه، فالله عز وجل يخبر أنهم يفعلون هذه الأشياء وكأنهم سيخلدون إلى الأبد.
فقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] أي: ترجون بذلك الخلود والعيش دهوراً طويلة، ومن الحماقة التي نسمع عنها في هذا العصر الحديث هو محاولة بعض الجهلة المغفلين إطالة عمر الإنسان، ويجرون في ذلك أبحاثاً ويزعمون أنهم قد وصلوا في بحثهم إلى الشيء الذي يطيل عمر الإنسان أو يقصره، ونسوا أن الله هو الذي كتب على العباد أن آجال الأمة من كذا إلى كذا، ومستحيل أن تزيد هذه الآجال التي حددها الله عز وجل، ففي العصور القديمة مد الله لهم في أعمارهم، وجاءت هذه الأمة فجعل الله أعمارها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) يعني: غالب أعمار هذه الأمة على ذلك ما بين الستين إلى السبعين، والقليلون من يجاوزن ذلك إلى المائة أو إلى المائة والعشرين، وقوم عاد اتخذوا هذه المصانع يرجون بها الخلود، فيقول لهم نبيهم: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} [الشعراء:129] مؤملين أن تخلدوا ولا تموتوا أبداً، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وهذا استفهام توبيخي، يعني: تريدون أن تخلدوا، ولن يكون ذلك.(137/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين)
قال تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130]، هذه مصيبة أخرى من مصائبهم، فقد كانوا كفاراً فدعاهم هود إلى الله سبحانه وتعالى، وكانوا أهل لهو وعبث فدعاهم إلى ربهم سبحانه أن يتوبوا ويتركوا هذا اللهو والعبث، ويأتوا لعبادة رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن مصائبهم أن بطشهم كان شديداً، وأصل البطش: الإمساك، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصعقة التي تكون يوم القيامة يقول: (يصعق الناس فأكون أول من يفيق -صلوات الله وسلامه عليه- فإذا بموسى عليه الصلاة والسلام باطش بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم لم تصبه هذه الصاعقة)، فلا يدري النبي صلى الله عليه وسلم هل موسى قام قبله صلى الله عليه وسلم أم هو ليس ممن صعقوا في هذه الصاعقة، ومعنى باطش: أي بساق العرش.
ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه في عبده المؤمن: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها -أي: يمسك بها-، ورجله التي يمشي بها).
فالله عز وجل إذا أحب العبد كان له سمعه الذي يسمع به، يعني: لا يسمع إلا ما يرضي ربه سبحانه، وكان الله عز وجل معيناً لهذا الإنسان في بصره، فهو يراقب الله سبحانه وتعالى، ولا ينظر إلا إلى ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرم الله سبحانه، (ويده التي يبطش بها) كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
فالإنسان يمسك بعدوه والله يعينه ويمكنه منه سبحانه وتعالى، فهذا هو البطش.
يقول تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ} [الشعراء:130] أي: أخذتم عدوكم، {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: أمسكتم إمساكاً فيه الموت، يضرب الضربة يقتل بها غيره، فقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] أي: سطوتم بعنف على غيركم من الناس فبطشتم بهم وقتلتموهم، فالبطش من معانيه: القتل، فيقتلون غيرهم من غير جريمة، أو على شيء لا يستحق معه أن يقتل، فقالوا: هو القتل على الغضب من غير تثبت، بل بمجرد أن يغيظه يضربه ويقتله، فهذا بطش الجبارين الذين نهانا ربنا سبحانه وتعالى عن مثله، وأمر عباده أن يزينوا أمرهم بالحلم، فلا يكونون متسرعين مندفعين متهورين، ولذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولكن الله أعطاه الرقة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن فظاً ولا غليظاً ولا صخاباً في الأسواق عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] الجبار يأتي بمعانٍ، فالله الجبار القوي سبحانه وتعالى، فأخذه شديد، والجبار يأتي من الجبر، والجبر: الإصلاح، فالله يجبر ما يفسد وينكسر من خلقه، فهو يجبر خلقه سبحانه وتعالى، فإذا انكسر إنسان أقامه الله سبحانه ورأف ولطف به سبحانه وتعالى.
وأما هؤلاء فجبارون بمعنى: أنهم قساة عتاة يضربون فيقتلون، فقالوا: الجبار من الناس هو القتّال في غير حق، يعني: يقتل من غير وجه حق، قالوا: وكذلك قوله سبحانه: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [القصص:19]، يقولها لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أراد أن يبطش بالذي هو عدو له، فموسى أراد أن يمسك هذا العدو ويضربه فقال: {أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا} [القصص:19] أي: تريد أن تقتل الناس من غير وجه حق.
ومن معانيها أيضاً: الجبار: المتسلط العاتي على غيره، ومنها قول الله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45]، فليس جبار صلوات الله وسلامه عليه ولكنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(137/7)
تفسير قوله تعالى: (فاتقوا الله وأطيعون وجنات وعيون)
قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، فكررها مرة ثانية، فقد ذكرها في البداية وكررها مرة ثانية هنا، فانظروا إلى قوله: {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:124]، فحثهم على تقوى الله سبحانه وتعالى بأسلوب فيه لطف، ثم أمر: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، ثم بين أنه لا يطلب منهم أجرة في الدنيا وإنما الأجر على رب العالمين، ثم بين لهم الذنوب التي يستحقون بها عقوبة رب العالمين، ثم أمرهم مرة ثالثة بتقوى الله سبحانه، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:131]، ثم أمرهم مرة رابعة: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132].
فهذه أربع مرات يحثهم ويأمرهم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
وتقوى الله: أن تجعل حجاباً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فلا تقع في المعاصي، بل تجعل الطاعات لك رحمة يوم القيامة تنجيك من غضب الله سبحانه، فأمرهم وحثهم على أن يتقوا غضب الله عليهم، فهم جبارون ولكن الله إذا أخذهم فأخذه شديد أليم.
وأمرهم هود عليه السلام فقال: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132]، ففي الأمر الأول ذكرهم بذنوبهم، ثم ذكرهم بنعم الله سبحانه، فهل هذه هي المكافأة التي تكافئون بها ربكم سبحانه أن أعطاكم هذه النعم فتكونون جبارين مع الخلق، ولا تراعون في الناس إلاً ولا ذمة؟! فقوله تعالى: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء:132] أي: اتقوا الله الذي أعطاكم ما تعرفونه أكثر من غيركم.
ثم قال تعالى: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:133] عطاء من الله سبحانه، و {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134]، إذاً: فقد أعطاكم الأنعام من الإبل والبقر والغنم، وسخرها لكم، وأعطاكم البنين.
والجنات: هي البساتين العظيمة والكثيرة الممتلئة بالثمار، والعرب يمرون على هذه الأماكن فلا يجدون فيها بساتين ولا ثماراً، فقد كانت في يوم من الأيام فيها البساتين وفيها الثمار كما ذكر الله عز وجل لنا هنا، وسترجع مرة أخرى هذه البساتين والثمار في هذه الأماكن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستعود بلاد العرب مروجاً وأنهاراً)، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ستعود) معناها: كانت موجودة قبل ذلك وسترجع مرة ثانية، والعلماء الذين نظروا إلى كتاب الله قالوا: فعلاً في يوم من الأيام كانت هذه الأرض فيها البساتين وفيها الأنهار وفيها الثمار، وقد عرف ذلك خبراء الجيولوجيا وعلم الأرض عن طريق الحفريات، وهؤلاء العلماء أنفسهم يقولون: إنها سترجع مرة ثانية في هذه الأماكن، فستجري العيون والأنهار وسترجع فيها الثمار.
وقال تعالى: {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134] كلمة عيون في القرآن كله تقرأ بضم العين وبكسر العين: عُيون وعِيون، مثل جُيوب وجِيوب، بُيوت وبِيوت، فـ ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة والكسائي يقرءون: ((وَعِيُونٍ))، وباقي القراء ومنهم حفص عن عاصم يقرءون: {وَعُيُونٍ} [الشعراء:134].
قال تعالى: {وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134] أي: عيون مياه، والجنات: البساتين.(137/8)
تفسير قوله تعالى: (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وما نحن بمعذبين)
قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:135]، أي: إذا قابلتم هذه النعمة بكفركم بربكم سبحانه، فإذا كان قد أعطاكم النعم فإذا بكم تتفرغون للهو وللعبث، فانتظروا عقوبة رب العالمين سبحانه، وهذا الكلام ليس لهم وحدهم، بل هو لكل إنسان يعتبر بذلك، فالقرآن تذكرة، والله يقول: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9]، ويقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، فالمؤمن حين يقرأ مثل هذه القصة بقيس نفسه على هؤلاء، فهؤلاء أنعم الله عز وجل عليهم، وأعطاهم النعم وجعلهم متفرغين، ففي فراغك أنت اعبد رب العالمين سبحانه، ولا تضع وقتك في اللهو والفراغ والعبث، فإن من جرائم قوم عادٍ كما قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، فهذه من جرائم هؤلاء القوم، فاحذر أن يكون فيك مثل جرائم هؤلاء من اللهو، والعبث، وتضييع الوقت، والبعد عن عبادة الله سبحانه، والبطش بالخلق بغير سبب أو بأتفه الأسباب، احذر من ذلك فإن الله يؤاخذ على ذلك، ويفضح صاحبه كما صنع بهؤلاء القوم.
فقوله تعالى: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:135] أي: بسبب ذنوبكم ومعاصيكم، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو: (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم القيامة، أو عذاب يوم ترون فيه من الله عز وجل الآيات عليكم، فكان جوابهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136] لن نستمع لك، فقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا} [الشعراء:136] يعني: يستوي عندنا أن تنصح أو أن تسكت، {أَوَعَظْتَ} [الشعراء:136] أي: ذكرتنا {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136]، وفي كلا الحالتين لن نستجيب لما تقول، والإنسان قد يغتر بنفسه حين يجد نفسه في صحة في عافية، ويغتر بماله ويستكبر حتى على خالقه سبحانه وتعالى، وينسى أن الذي خلقه من تراب وخلقه من نطفة مذرة، وأخرجه ضعيفاً إلى هذه الحياة وصيره قوياً، سيرده مرة ثانية إلى الضعف وإلى التراب، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54].
فلا تغتر بقوتك فإن بعد القوة ضعفاً، ولا تغتر بغناك فإن بعد الغنى فقراً، ولا تغتر بأن الله مكنك فإنه سيسلب منك ما أعطاك، فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فهؤلاء القوم ل تنفعهم النصيحة ولم تردعهم الموعظة.
وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن هذه الأخلاق التي أنت عليها هي نفس الأكاذيب في الزمان الماضي، فقوله تعالى: {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن الناس السابقين من قبلك قالوا كذا وماتوا كلهم، ولم يبعث أحد منهم، {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137]، فقراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وخلف: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137]، وباقي القراء يقرءونها: (إِنْ هَذَا إِلَّا خَلْقُ الأَوَّلِينَ).
ويحتمل في قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أنه من كلام رب العالمين سبحانه فكأنه يعقب على ما قالوه، أي: هذه عادة الأولين، فالأقوام المكذبون من قبل عادتهم أنهم يكذبون الرسل ويقولون مثل هذا الكلام، فتكون كلمة {خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] بمعنى: عادة الأولين، ويكون هذا من كلام رب العالمين، أو أنه من كلامهم هم يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] أي: أن أخلاقك والكلام الذي أنت تقوله هو مثل حال الذين من قبلك، فلم يُنْتفع بكلامهم، فأنت مثلهم.
فقوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:137] الخلق: من الاختلاق وهو الكذب، أي: إن هذا إلا افتراء الأولين، فأنت مثل الكذابين الذين من قبلك، فتأتي كلمة خلق بمعنى: افتراء وكذب، فيكون من كلام هؤلاء، إذ يكذبون رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام ويقولون: أنت كذاب مفتر كما افترى الذين من قبلك.
قال تعالى: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فقد جزموا بذلك فقالوا: ليس هناك عذاب، وهذا افتراء على الله الكذب، فالكافر يكذب ولا يهتم لكذبه، فيقولون: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138] فالكافر بطبيعته يكذب على الله ويكذب على الخلق.(137/9)
تفسير قوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم لهو العزيز الرحيم)
قال الله سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ} [الشعراء:139]، والنتيجة: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139].
فقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء:139] أي: أهلكناهم هلاكاً عظيماً صعباً شديداً ما كانوا يتوقعون مثله أبداً، إذْ منع الله عنهم المطر سنين، فإذا بهم لا يجدون ماء وهم على كفرهم هذا، فأرسلوا وافد عاد الذي يضرب به المثل في الشؤم إلى الحرم؛ كي يدعو لهم ويستغيث لهم، فليس هناك أحدٌ يدعو في هذا المكان إلا أعطاه الله، فذهب وافد عاد إلى هذا المكان، وقبل أن يصل إلى الحرم مرّ على ملك من الملوك فدعاه فجلس عنده ووجد طعاماً وشراباً، فنسي قومه، فذكره هذا الملك عن طريق جاريتين تغنيان بما جاء من أجله، فذهب حتى وصل إلى الحرم، فدعا وقال: اللهم اسق عاداً.
فكل الكفار يعرفون أن الله هو الخالق، وأنه هو الرازق، فعندما يحتاجون شيئاً فإنهم يقولون: يا رب أعطنا، وأما العبادة فلا يعبدون الله سبحانه وتعالى، فهذا دعا ربه سبحانه وتعالى وقال: اللهم اسق عاداً، فأراه الله عز وجل ثلاث سحابات في السماء: سحابة بيضاء، وسحابة سوداء، وسحابة حمراء، فاختار السحابة السوداء، فنزلت على عاد فلما رأوها قالوا: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ} [الأحقاف:24] سموم وريح شديدة من عند رب العالمين، بل هو عذاب أليم من عند رب العالمين، يمطر عليهم من الجحيم، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى بما ظنوه، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:24 - 25].
فقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:25] فقد دمرت البلد على من فيها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وكانت أجسامهم طويلة كالنخيل فجاءتهم ريح شديدة فاقتلعتهم من الأرض كأنهم أعجاز نخل، قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]، فأصبح الواحد منهم كالنخلة تقتلع من الأرض وترمى فتنزل على رأسها.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139]، فقد جاءهم العذاب من حيث كانوا يتوقعون الرحمة، وجاءتهم النيران من حيث كانوا يتوقعون الماء، وجاءهم بطش الله سبحانه وهم كانوا يزعمون أنهم جبارون.
قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء:139] فهما كلمتان فقط، فكأنهم ليس لهم قيمة، فقد كذبوا فجاءهم العذاب سريعاً من عند رب العالمين.
قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139] والآية وموطن العبرة هنا ألا تغتر ولا تعجب بنفسك، ولا تطلب ما لا تقدر عليه، وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى تنفعك طاعتك، ولا تبتعد عن الله فإنك لا تدري متى يأتي بطشه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:139] أي: أن الأغلبية من الناس ليسوا على الإيمان {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140]، ختم هنا بهذا الختام الجميل الذي ختم به كل قصة من هذه القصص، فيذكر الله سبحانه أنه الرب العزيز الحكيم، وأنه الرب الفعال لما يريد سبحانه وتعالى، الخالق، الرازق، الذي يرفع والذي يضع سبحانه وتعالى، الرب الذي يشرع فيأمر وينهى سبحانه وتعالى، قال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ} [الشعراء:140] وحده لا شريك له {الْعَزِيزُ} [الشعراء:140] أي: الغالب القوي القهار الذي لا يغالب سبحانه، المنيع الجانب، فهو يقدر عليكم ولا تقدرون له على شيء، {الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] مع قوته وجبروته سبحانه وتعالى فهو العزيز الرحيم، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:140] فيخوف عباده ثم يرجيهم ويجعلهم يؤملون فضله ورحمته سبحانه.
نسأل الله من فضله ورحمته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(137/10)
تفسير سورة الشعراء [141 - 159]
لقد ذكر الله عز وجل في كتابه الكريم قصص أنبيائه ورسله للعبرة والعظة، وتسلية وتثبيتاً لرسوله وللمؤمنين، ولذلك نوع الله عز وجل القصة الواحدة من سورة إلى سورة في أسلوب عرضها، وفي أسلوب سياقها، حيث كان يهدف في كل موضع إلى إبراز بعض الحكم والعبر التي لم يذكرها في غيرها، وقصة نبي الله صالح عليه السلام مع قومه إحدى هذه القصص التي كرر الله عز وجل ذكرها في بعض السور، ونوّع في أسلوب عرضها وسياقها من سورة إلى أخرى؛ لإبراز ما اشتملت عليه من حكم وعبر، لتكون زاداً للمسلم في مواجهة ما يعترض طريق دعوته إلى الله سبحانه.(138/1)