ـ[تفسير الشيخ أحمد حطيبة]ـ
المؤلف: أحمد حطيبة
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 510 درسا](/)
تفسير سورة الأنبياء [1 - 6]
سورة الأنبياء سورة مكية سرد الله فيها قصص كثير من الأنبياء تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله في أول هذه السورة يوم القيامة محذراً الناس من أن تبغتهم الساعة وهم في غفلتهم يعمهون، كما وصف حال كفار مكة وتعنتهم وإعراضهم عن البراهين الناصعة التي أتاهم بها النبي صلى الله عليه وسلم.(1/1)
مقدمة في تفسير سورة الأنبياء وذكر فضائلها
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:1 - 6].
سورة الأنبياء هي السورة الحادية والعشرون من كتاب الله تبارك وتعالى، وهي من السور المكية التي نزلت قديماً في مكة، ولذلك كان عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول: الكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي.
فـ ابن مسعود من المهاجرين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه في مكة، فيذكر أن هذه السور من حفظه القديم لما كان في مكة.
وطالما أنها مكية فإن فيها خصائص السور المكية، من الاهتمام بأمر ترسيخ العقيدة ونفي الشرك بالله تبارك وتعالى.
وبما أن اسمها سورة الأنبياء فسيكون فيها ذكر عدد من أنبياء الله سبحانه وتعالى، فقد ذكر فيها ستة عشر نبياً من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، بالإضافة إلى ذكر مريم عليها السلام، فقد ذكر في هذه السورة موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى، ومريم عليهم الصلاة والسلام.
وهؤلاء الأنبياء ذكروا أيضاً في سورة الطور، فقد ذكر فيها موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون ويونس وزكريا ويحيى ومريم عليهم الصلاة والسلام.
كما أنهم ذكروا في سورة الأنعام وزيد عليهم إلياس واليسع، ولم يذكر ذو الكفل في الأنعام.
وذكر الله عز وجل هؤلاء الأنبياء للنبي صلوات الله وسلامه عليه ليبين له أنه ليس بدعاً من الرسل {مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فكلهم أرسلوا إلى أقوامهم، وكلهم ابتلاهم الله عز وجل ودافعوا عن دين الله، وكلهم دعوا قومهم إلى الله وكانت مواجهة قومهم لهم بالإعراض والتكذيب فنصر الله عز وجل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين على القوم الكافرين.
وقد ذكر الأنبياء للنبي صلى الله عليه وسلم هنا حتى يطمئن قلبه ويزداد رسوخاً ويعلم أنه ليس أول من أوذي صلوات الله وسلامه عليه، فيتسلى بذكر الأنبياء، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) صلوات الله وسلامه عليه.
وحين ذكر يوسف على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يقول: (رحم الله أخي يوسف! لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الداعي لأجبته إذ جاءه الرسول فقال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يترحم على سيدنا يوسف ويذكر صبره حين كان في السجن، وحين جاءه داعي الملك ليخرجه من السجن، فقال له: ارجع إلى ربك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً: إنه لو كان هو لبادر بالإجابة.
وقد ذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم سائر الأنبياء في سورة الأنعام فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:83 - 87].
وبعد أن ذكر له هؤلاء مجتمعين قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، أي: اقتد بهؤلاء.
وفي سورة الأنعام ذكر الله عز وجل نعمه على عبيده بالأنعام، والسورة أيضاً كسائر السورة المكية فيها ترسيخ أمر العقيدة وأمر الإيمان بالله سبحانه وتوحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، والأمر بالبعد عن الشرك بالله، وعن تشريع ما لم ينزل الله عز وجل به من سلطان، والبعد عن عبادة غير الله والذبح لغير الله سبحانه، على ما ذكر سبحانه في هذه السور.(1/2)
تفسير قوله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)
قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
بدأ الله هذه السورة العظيمة بقوله سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، وفيه التذكير باليوم الآخر كعادة السور المكية، فذكر اليوم الآخر حتى يستعد الإنسان للحساب.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، اقتربت القيامة، كما ذكرهم بالآخرة في مواضع من القرآن كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل:33]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف:66].
فذكر هنا أنهم ينتظرون الساعة، وطالما أن ربنا أخبر أن الساعة آتية فلا شك أنها آتية، ومهما طال عمر الإنسان فهو لا شيء إذا ما قيس بأيام يوم القيامة، قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
فالإنسان إذا عاش خمسين سنة يكون واحد على عشرين من يوم عند الله سبحانه وتعالى، وعلى ذلك فعمر الدنيا محدود وقليل وضئيل ويسير، فلما قال الله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) معناه: أن أمر الله قريب جداً وإن لم تأت الساعة الكبرى فستأتي ساعتنا نحن.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] لأن أكثر الناس على هذه الغفلة.
وقال: ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ)) كعادة السور المكية في ذكر الناس، أما في السور المدنية فإنه يذكر الذين آمنوا، وذكر الناس في السور المكية بسبب أن أكثر الناس في هذا الوقت كفار، والله سبحانه وتعالى يخاطب الجميع، أما السور المدنية لما كان فيها ذكر التشريعات، وأن هذه التشريعات لن يقوم بها إلا المؤمنون فكان يخاطب الذين آمنوا، فالمؤمن هو الذي سيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
أما في المرحلة المكية فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كفرة، وكان المؤمنون في ذلك الوقت عددهم قليل، حتى أسلم سيدنا عمر رضي الله عنه سنة ست من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوها، فكان عدد المؤمنين ما بين أربعين إلى خمسة وأربعين من الرجال وعشر من النساء، فالخطاب لن ينزل لهؤلاء الأربعين أو الخمسين، ولكنه خطاب لجميع من يدعوهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى: اقترب لجميع الناس -مؤمنهم وكافرهم- الحساب، والغالب على حال الناس الغفلة والإعراض عن ذكر الله والإعراض عن اليوم الآخر، وكثير من الناس إذا جئت تذكره بالموت، يقول: لا تذكرني بالموت فأنا أخاف من الموت، والخوف من الموت ليس كلمة يقولها الإنسان، بل حقيقة الخوف من الموت أن يعمل الإنسان ويستعد لليوم الذي يموت فيه، والذي يجيب فيه عن أسئلة الملكين في قبره.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] كان الصحابة يخافون من أن يغفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وخاصة في الأوقات الفاضلة التي يستحب فيها ذكر الله عز وجل كذكر الله بعد الفجر، وبعد العصر -يعني: طرفي النهار- والقيام في السحر، فكانوا يحبون أن يذكروا الله عز وجل في جميع أوقاتهم وخاصة في مثل هذه الأوقات.
روى الإمام مسلم عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً بعدما صلينا الغداة، -يعني: الفجر- قال: فسلمنا بالباب فأذن لنا، قال: فمكثنا بالباب هنيهة فخرجت الجارية فقالت: ألا تدخلون؟ فدخلنا، فإذا هو جالس يسبح، فقال: ما منعكم أن تدخلوا وقد أذن لكم؟ قالوا: لا إلا أنا ظننا أن بعض أهل البيت نائم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة، -يقصد نفسه- ثم أقبل يسبح.
والمعنى: أن أهل بيته لم يكونوا نائمين في هذا الوقت وهو وقت الفجر؛ لأن ابن مسعود يوقظ زوجته وعياله ليصلوا الفجر ويذكروا الله عز وجل في هذا الوقت، سواء جلس هو في المسجد أو ذهب إلى بيته يذكر الله تبارك وتعالى.
ثم أقبل يسبح، يعني: مع أن الضيوف جاءوه إلا أنه اشتغل بالتسبيح، حتى ظن أن الشمس قد طلعت فقال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ قالت: فنظرت فإذا هي لم تطلع، فأقبل يسبح حتى إذا ظن أن الشمس قد طلعت، قال: يا جارية! انظري هل طلعت؟ فنظرت فإذا هي قد طلعت، فقال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا.
يعني: أعطانا هذا اليوم نذكره فيه، والإقالة هنا بمعنى: أن ربنا سبحانه وتعالى تكرم علينا وترك لنا هذا اليوم نعيش فيه، ونأخذ بذكره أجراً وثواباً.
قال: الحمد لله الذي أقالنا يومنا ولم يهلكنا بذنوبنا.
كأنه يقصد أن كل إنسان يستحق أن يحاسبه الله ويعذبه على ذنوبه التي يفعلها، ولكن الله سبحانه يتكرم على عباده ويرجئهم ويعطيهم الفرصة ليتوبوا إليه فيتوب عليهم سبحانه وتعالى، ويذكرونه فيذكرهم ويشكرهم سبحانه.
قال: فقال رجل من القوم: قرأت المفصل البارحة.
يعني: ما بعد وقت طلوع الشمس إلى أن يصلي ابن مسعود صلاة الضحى بدأ يكلم الضيوف، فأخبره رجل منهم أنه قرأ المفصل البارحة، يعني: في قيام الليل.
والمفصل من أول قاف إلى آخر القرآن، أو من أول الحجرات إلى آخر القرآن، وهذا يعني أنه يقرأ أربعة أجزاء، وهذا شيء طيب.
فلما قال ذلك قال له ابن مسعود: أهذّاً كهذ الشعر؟ إني لأحفظ القرائن التي كان يقرؤهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر من المفصل وسورتين من آل حم.
الشاهد: أن ابن مسعود كان في هذا الوقت يذكر الله تبارك وتعالى، وأهل بيته أيضاً يذكرون الله سبحانه وتعالى في هذا الوقت، وقال لضيوفه: ظننتم بآل ابن أم عبد غفلة.
فكانوا يخافون من الغفلة وإن كان أغلب الناس في غفلة، كما ذكر الله تبارك وتعالى {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، أي: معرضون عن ذكر الله تبارك وتعالى.(1/3)
تفسير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفتأتون السحر وأنتم تبصرون)(1/4)
إعراض المشركين عن القرآن حسداً
ثم قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:2 - 3].
سمى الله القرآن النازل من عنده ذكراً؛ لأنه تذكرة للخلق، وكذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه وصفه الله عز وجل بأنه ذكر، لأنه يذكر الناس كما ذكر في سورة التغابن.
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] يعني هذا القرآن محدث في إنزاله، والقرآن كلام رب العالمين سبحانه ليس مخلوقاً، فهنا الذي حدث هو نزول القرآن من السماء إلى الأرض، وكل القرآن نزل إلى السماء الدنيا دفعة واحدة كما جاء في الأثر عن ابن عباس: أن الله عز وجل أنزل القرآن ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ونزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على حسب الحوادث.
فهنا الإحداث في القرآن معناه: أن مجيء القرآن من عند رب العالمين بحسب الحوادث التي تجد، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2] يعني: كلما جاءتهم آية من الآيات من الله عز وجل استمعوا لهذه السور وهم يلعبون، واللعب هنا بمعنى اللهو، فهم يتلهون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه ويعرضون عنه.
فحالهم {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:3] وأصلها: قلوبهم لاهية، يعني: قلوب هؤلاء القوم في لهو وفي انشغال عن الله عز وجل وعن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بما فيها من وساوس وبما فيها من هم الدنيا وبما فيها من إعراض وشرك بالله رب العالمين سبحانه.
{وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء:3] الذي أسروا النجوى هم الذين ظلموا، يعني: الكفار.
(وأسروا): كتموا فيما بينهم.
(النجوى): يتناجون فيما بينهم ويكلم أحدهم الآخر سراً: هذا ساحر هذا كذاب هذا كاهن أتانا بما يفرق بين المرء وزوجة والمرء وأبيه، فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسرون النجوى بظلمهم.
فهم أسروا النجوى قائلين: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]؟ يعني: ما هذا إلا بشر مثلكم، فكيف ينزل عليه القرآن ولا ينزل علينا، وهو مثل قولهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] يعني: بدل أن ينزل عليه كان سينزل على أحد من كبار القوم كـ الوليد بن المغيرة في مكة أو عروة بن مسعود في الطائف.
فكأنهم استكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليه ربه هذا القرآن غيرة وحسداً، والإنسان عندما يرى أن غيره أحسن منه يغار منه ويحسده، وديننا ينهانا عن ذلك، وربنا تبارك وتعالى يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه نعمة أنعم بها عليه، فقال له: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33]، يطمئنه ربه سبحانه أنهم لا يكذبونه بل هم يعرفون أنه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؛ لكنهم يجحدون بهذه الآيات، فأنت تحكم على ظاهر ما يقولون إذ يقولون: كذاب، لكن الله عز وجل مطلع على ما في القلوب، فهم مصدقون بقلوبهم لكن ألسنتهم جاحدة: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
فأسر هؤلاء النجوى فيما بينهم حسداً للنبي صلى الله عليه وسلم على ما أتاه الله عز وجل من فضله، لأن كلاً منهم كان يتمنى أن يكون هو النبي، والعرب كانت عادتهم أن يغار بعضهم من بعض، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] وكأن هذا اعتراض على الله سبحانه أن نؤتيه من فضله {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54] يعني: ليست هذه أول مرة ينزل الله فيها كتابه ولا أول مرة يؤتي إنساناً الحكمة من لدنه، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:54].
وهنا الكفرة والظلمة يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} [الأنبياء:3] يعني: كأنهم يريدون أن يرسل إليهم ملك من الملائكة، ولو جاءهم ملك لما أطاقوا ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل بين السماء والأرض على هيئته الحقيقة فزع صلوات الله وسلامه عليه وهرب إلى بيته وقال لزوجته: (زملوني زملوني دثروني دثروني).
وجبريل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقته إلا مرتين، أما سوى ذلك فكان يراه على هيئة رجل من أصحابه اسمه دحية الكلبي، فكان يأتيه في منظره وجماله وهيئته.
ومن حكمة الله أنه ما أنزل القرآن مع ملك، وإلا لكان الإيمان جبراً وقهراً وقسراً، ولكان قال قائلهم معترضاً: كيف نطيق ما يطيق الملائكة، فجبريل هذا أخذ قرى المؤتفكات ورفعها كلها إلى السماء وقلبها وأتبعها حجارة من السماء، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:8 - 9].
يعني: لو جعلناه ملكاً في صورته الحقيقية لكان الإيمان جبرياً، بينما الله عز وجل يريد الإيمان الاختياري من أجل أن يحصل التكليف، ومن ثم الحساب على هذا الاختيار يوم القيامة، وإن كان علمه وقضاؤه وقدره غالباً وسابقاً أن منهم كافراً ومنهم مؤمناً، لكن شاء أن يجعل لك اختياراً وكسباً ليحاسبك على هذا الذي كسبته يوم القيامة، وأنت تستشعر كمال هذا الاختيار فتختار الحق أو الباطل.
المقصود أن الله عز وجل لو أنزل ملكاً فإما أن ينزل الملك في صورته، وهم كانوا يخافون من العفاريت ومن الجن، حتى إنهم إذا مروا بصحراء في سفرهم قال الواحد منهم: أعوذ برب هذا الوادي، فكيف لو نزل ملك من السماء؟ لو نزل ملك لقضي الأمر ولكانوا آمنوا قهراً، وهذا لا يريده الله سبحانه وتعالى.
أما الاحتمال الثاني فهو: أن ينزل الملك على هيئة البشر {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9]، فإذا نزل على صورة إنسان لرجعوا إلى الاعتراض الأول، وهو أن الرسول بشر.(1/5)
إعراض المشركين عن الحق بدافع المكابرة
قال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3]: (الذين ظلموا) على الوصل فيها كأنها بدل من الواو في (أسروا) أي: من الذين أسروا الذين ظلموا، والفعل مضمر تقديره: يقولون، أي: الذين ظلموا يقولون: هل هذا إلا بشر مثلكم.
وهي كقول الله عز وجل: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:23 - 24] هنا الفعل مضمر تقديره: يقولون: سلام عليكم بما صبرتم.
فيجوز أن تقرأ على الوصل كما بينا، أو على الوقف: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [الأنبياء:3] ونقف ثم نقرأ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3].
ويجوز أن نقرأ: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الأنبياء:3] فنصل جميع الآية وهو الأفضل.
قال: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:3] هذا من قول الكفار، فيقول بعضهم لبعض: ما دمنا قلنا على هذا القرآن: إنه سحر، فكيف تصدقون بالسحر وأنتم تبصرون؟ يعني: وأنتم تعقلون وتعرفون أنه سحر، وهذا من التلبيس؛ لأن القائل يعلم أنه ليس سحراً وليس كذباً، ولكنهم يخادعون بعضهم، وقد عرفنا كيف كان الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهم من كبار المشركين يذهبون ليتسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن عند الكعبة، وعند رجوعهم يجمعهم الطريق فيتعاهدون على ألا يستمعوا إليه، ثم إذا بهم يرجعون من الليلة التالية وهكذا.
ومن جمال هذا القرآن وحلاوته يقول عنه الوليد بن المغيرة: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وهو الذي قال فيه ربنا سبحانه وتعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:11 - 16] يعني: كان يعرف أن هذا هو الحق، ويعترف أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، ومع ذلك يعاند النبي صلى الله عليه وسلم ويمنع الناس من الإيمان به.
وقد حصل مثل هذا من نساء المشركين حيث كن يذهبن إلى أبي بكر الصديق ويستمعن إليه وهو يصلي ويقرأ القرآن، حتى هم المشركون أن يطردوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه من البلد.
المقصود: أن القرآن له جمال وله حلاوة عظيمة عرفها المشركون وعرفها المؤمنون، فالمشركون عاندوا وجحدوا كلام رب العالمين سبحانه، فقالوا: إنه كذب وسحر من كلام البشر، وهم يعلمون أن الحق خلاف ذلك.(1/6)
تفسير قوله تعالى: (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض)
قال تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4].
يعني: أنتم تناجيتم فيما بينكم فأطلعني ربي على ما تقولون وفضحكم بذلك.
(قال ربي)، وهذه قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب.
ويقرؤها شعبة عن عاصم: (قل ربي يعلم)، وهذه أيضاً قراءة حفص عن عاصم وقراءة حمزة والكسائي وخلف.
ومعنى هذا أن الله قال للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم: إن ربي قد فضحكم، فهو يعلم ما تسرون من أقوالكم، فقال صلى الله عليه وسلم: ربي يعلم القول في السماء والأرض، فما من قول في السماء أو في الأرض إلا وقد علمه الله سبحانه، ولا يخفى عليه شيء يسمع القريب والبعيد يسمع الخفي وما هو جلي يسمع حديث الإنسان مع غيره، بل ويعلم ما لا يقوله الإنسان وإنما يكنه في قلبه.
قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنبياء:4] العليم بأمور هؤلاء وبأحوالهم تبارك وتعالى.(1/7)
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام)
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5].
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5] وأضغاث الأحلام معناها: الأحلام التي ليس لها تأويل، فالحلم إما أن يكون رؤيا حقيقة أو أضغاث أحلام.
والرؤيا ينزل بها ملك من الملائكة على الإنسان النائم، أما الضغث من الأحلام فهو الشيء الذي ليس له معنى ولا تفسير.
{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [الأنبياء:5] يعني: هذا الكلام الذي يقوله لكم هراء وليس له معنى كأضغاث الأحلام.
وهم يعرفون كذبهم في ذلك.
قال تعالى: (بل افتراه)، هنا يظهر تخبط المشركين، فهم أولاً قالوا: كلام محمد هو أضغاث أحلام، ثم رجعوا وقالوا: إنما هو قول افتراه، وهو شعر نظمه من عند نفسه، رغم أنهم أعرف الناس بأشعار العرب وأوزان الشعر، ويعرفون أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل.
قال تعالى: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5] يعني: إذا أرادنا أن نؤمن له بآية مثل عصا موسى أو يد موسى أو ناقة ثمود.(1/8)
تفسير قوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون)
قال تبارك وتعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6] يعني: الأمم السابقة لما جاءتهم الآيات لم يؤمنوا فأهلكهم الله عز وجل بتكذيبهم، فهل هؤلاء سيؤمنون؟ وقد ذهب إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه مجموعة من الكفار منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وأبو البختري والوليد بن المغيرة، فطلبوا منه آيات ذكرها الله في قوله: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:90 - 93] يعني: لو ارتقيت فلن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب مختوم من عند ربنا أنك نبي من عند رب العالمين.
فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنه إنما بعث من عند الله بهذه الرسالة، وأنه قد أبلغهم ما أرسل به إليهم؛ فإن قبلوه فهو حظهم في الدنيا والآخرة، وإن ردوه عليه صبر حتى يحكم الله بينه وبينهم.
وقد روي أن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وهو ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب، كان من أشد الناس عليه مع عمه أبي لهب، وكان معهم فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم عنهم قال له: (يا محمد! عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم)، يعني: طلبوا منك أن تأتيهم بآية من الآيات التي ذكروها فلم تجبهم، وكانوا قد طلبوا منه أن يدعو الله أن يوسع لهم الأرض بأن يزيل ما حول مكة من الجبال، وهذه كلها مطالب حقيرة تدل على قلة عقولهم، رغم أنهم يعرفون الحق الذي جاء من عند رب العالمين بشهادة ربهم عليهم: {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
فهذا الرجل مثلهم في جهلهم فيقول للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (سألوك لأنفسهم أموراً فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك، فلم تفعل)، يعني: ألم يطلبوا منك أن تسأل ربك أن يجعل لك بيتاً من زخرف، فأبيت، ثم سألوك أن تعجل لهم العذاب -وهذا من جهلهم وحماقتهم- فلم تفعل ذلك.
ثم قال له: (أما أنا فلن أؤمن بك حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر، ثم تأتي معك بصك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك رسول من عند رب العالمين).
ثم قال بعد ذلك: وايم الله لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك! لذلك قال الله عن هؤلاء: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6].
فلو أتاهم بهذه الآيات فوسع لهم الأرض -مثلاً- لقالوا: إنما هذا من سحره، وقد طلبوا منه في ليلة من الليالي أن يشق لهم القمر، فدعا ربه صلوات الله وسلامه عليه ذلك، ثم أشار بيده إلى القمر فانشق القمر نصفين، فكان نصفه قدام الجبل ونصفه الآخر وراء الجبل.
فلما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا من السحر، ثم قاموا يترقبون الواصلين إلى مكة من البوادي ليسألوهم عن رؤيتهم لانشقاق القمر، فكلما سألوا أحداً أكد لهم رؤية انشقاق القمر، ومع ذلك لم يؤمنوا.
ولو كانت هذه الآية لجميع الناس لأهلكم الله سبحانه، لقوله تعالى لنبي إسرائيل لما أنزل عليهم مائدة من السماء: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:115]، وكما أهلك الله ثمود لما جاءتهم الناقة فقتلوها.
فكان من رحمة ربنا سبحانه أن هذه الآية كانت للبعض من الناس وليست آية عامة وإلا لأهلك الجميع.
وأثبت ربنا سبحانه وتعالى هذه الآية في كتابه فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، ولعلكم سمعتم حديث الدكتور زغلول النجار في هذه المسألة، حيث قال: إنه كان يلقي محاضرة في أمريكا وأثناء ذلك قام رجل أمريكي مسلم وقال: إن قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] هي سبب إسلامي، فقد تعرفت قبل فترة على مجموعة من المسلمين فأحببت أن أتعرف على الإسلام، فأهدى إلي أحد ترجمة للمصحف، فأخذت الترجمة وأول ما فتحتها ظهرت أمامي هذه السورة: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، فتوقفت عن القراءة ولم أتقبل هذا الكلام، وبعد زمن كنت أشاهد برنامجاً تلفزيونياً فيه مقابلة مع أحد رواد الفضاء وإذا بالمذيع ينكر عليه صرف ألف مليون دولار من قبل الحكومة على مشروع من أجل وضع العلم الأمريكي فوق القمر.
فقال رائد الفضاء: إننا صعدنا إلى القمر لأهداف علمية، ويكفينا أننا أتينا للناس بمعلومة لم يكونوا ليعرفوها ولو صرفوا أكثر من هذا المبلغ لولا الصعود إلى سطح القمر، وهذه المعلومة هي أننا وجدنا شقاً طولياً يطوق القمر كالسوار فأخذنا عينات من الشق والتقطنا الصور ثم بعثنا بها إلى علماء الجيولوجيا في الأرض، فقالوا: هذا دليل على حصول انفلاق للقمر في يوم من الأيام، ثم عاد والتحم ثانية.
قال الرجل: فلما سمعت هذا الكلام عرفت أن هذا هو الحق ورجعت للقرآن مرة ثانية فأسلمت.
وهذه القصة حكاها الدكتور زغلول النجار أكرمه الله في معرض كلامه عن هذه الآية.
فالأمريكيون صرفوا ألف مليون دولار من أجل أن يثبتوا آية أثبتها الله في كتابه وجعلها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله العظيم القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/9)
تفسير سورة الأنبياء [7 - 15]
يبين الله تعالى في كتابه عناد الكافرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث ردوا دعوته بالتهم الباطلة، والأكاذيب والأراجيف، فهلا سألوا أهل العلم والمعرفة بالكتب السماوية ليعرفوهم حقيقة هذا النبي؟ ولكنهم لا يسألون إلا أهل الجهل والظلم، فضلوا بسببهم، فأصابهم ما أصاب الأمم من هلاك ودمار، وقصمهم الله عز وجل جزاء صنيعهم.(2/1)
إهلاك القرى التي تكذب المرسلين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم السلام: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:4 - 9].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات وما قبلها عن تعنت المشركين مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكيف أنهم أنكروا أن يرسل الله عز وجل بشراً رسولاً، فربنا تبارك وتعالى يرد على هؤلاء: لو جعلنا هذا الرسول الذي تريدونه ملكاً لقضي الأمر، فلو كان ملكاً كما تريدون لقضي الأمر ولم تنظروا بعد ذلك، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام:9].
فكون الرسول يكون بشراً فهذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى، لو لم يكن الرسول بشراً وكان ملكاً من الملائكة كما يريدون هم، فإذاً الملك سيبلغ الرسالة وهم من خوفهم من الملك سيستجيبون مباشرة لكلامه، وهذا غير ما أراده الله سبحانه وتعالى، فإنه أراد أن يكتسبوا أمر الإيمان ويستشعر أحدهم أنه مؤمن مكلف، وأن الله عز وجل جعل له الاختيار هل يأخذ هذا الدين فيثاب عليه أم يتولى فيعاقب عليه يوم القيامة، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]، أي: مرتهن بكسبه في اختياره لهذه الدنيا، فالله سبحانه تبارك وتعالى خلقهم، وجعل منهم مؤمناً، وجعل منهم كافراً، والله عليم حكيم سبحانه بمن يستحق أن يكون مؤمناً ومن يستحق أن يكون كافراً.
المشركون أسروا فيما بينهم هذا الكلام، فقالوا: إن هذا كاهن، وشاعر، ويتكلم بأضغاث أحلام ليس له معنى، وكذبوا في هذا الذي يقولونه على النبي صلوات الله وسلامه عليه وقد عرفوا ذلك.
ولذلك كان الكفار عندما يجلسون يتشاورون: ماذا نقول لهذه القبائل عندما تأتي؟ فيقول بعضهم لبعض: قولوا شاعر، فيرد الآخر ويقول لهم: لقد درسنا الشعر وقلناه وسمعناه فما هو بكلام الشعراء، قالوا: إذاً نقول عنه: كاهن، فهم كانوا يقترحون أشياء ويعتقدون أن ما يقولونه كذب، فهم كذابون فيما يقولون، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى قال عن هؤلاء: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} [الأنبياء:5].
قال تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:6].
يعني: هم قالوا هذا الكلام وهم يعرفون أنه كذب، فعندما يطلبون الآيات مع كذبهم وتخرصهم على النبي صلى الله عليه وسلم فأي آية يطلبون؟ وهل هناك أعظم من هذا القرآن الذي أعجبهم وعرفوا أنه حق من عند الله، ومنعهم الحسد من أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟(2/2)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم)(2/3)
محمد رسول الله ليس بدعاً من الرسل
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7].
أوحى الله عز وجل إلى الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كما أوحى إليه، فليس هو بدعاً من الرسل، {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9]، فالله عز وجل أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم كما أرسل الرسل من قبله، وأوحى إليه، فنزل عليه جبريل بالوحي من السماء كما أنزل الله عز وجل على الرسل السابقين الوحي من السماء.
أتباع الرسل السابقين منهم من آمنوا فانتفعوا بإيمانهم، ومنهم من كفروا فأصابهم العذاب، فهؤلاء الكفار {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] أي: مجيء هذا العذاب الذي وعدهم الله عز وجل به، وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، وذكر لنا سبحانه وتعالى هذا المعنى، وتكرر في مواطن القرآن، في أربعة مواطن من القرآن.
قوله: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] فيها القراءتان: {نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7]، و {يوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7].
فالوحي من الله سبحانه تبارك وتعالى إلى أنبيائه ورسله، ما أرسل قبلكم رسولاً إلا يوحي إليه، فالأنبياء لا ينطقون عن الهوى، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] أي: وحي من الله سبحانه تبارك وتعالى يوحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينطق بالقرآن والسنة، فكله من عند الله رب العالمين سبحانه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
قوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) كذلك فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر)، وقراءة ابن كثير والكسائي وخلف: (فَسلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهذه فيها معان كلها محتملة، فكأنه يريد أن يقول: يا أيها الكفار! اسألوا أهل الذكر، أي: أهل الكتب المنزلة سابقاً، وقد كان الكفار يسألون اليهود: هل هذا الرجل على حق أم لا؟ فأكثر اليهود كذابون، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، ولكن أهل العلم من اليهود الذين يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته كـ عبد الله بن سلام وغيره، عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا الحق، فكأن القرآن يقول لهم: اسألوا هؤلاء السابقين عن هذا الذي جاءكم في القرآن هل هو حق أم باطل؟ اسألوا من يقرأ التوراة والإنجيل، فهم أعلم بالأنبياء السابقين منكم، فتعرفون صدق ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: إنه أراد بأهل الذكر أهل القرآن، فيكون المعنى: اسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن.
إذاً: هذا اللفظ عام، فإذا جهلت شيئاً في هذا القرآن أو في دينك فاسأل أهل الذكر والعلم، والآيات التي في يوسف والنحل وفي سورة الأنبياء فإنها تدل على هذا المعنى.
وهنا حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لما أفتى بعض الصحابة رجلاً أصابته شجة في رأسه أن يغتسل فمات منها بسبب الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا إنما شفاء العي السؤال) وهنا يقول لنا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فالإنسان الجاهل شفاؤه السؤال، فيسأل ويتعلم ويعرف ولا يفتي نفسه، ولا يستفتي جاهلاً فيضيعه كما فعل الناس بهذا الرجل المشجوج.(2/4)
سؤال أهل الذكر والحذر من اتباع الجهلة
قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} [الأنبياء:7] يعني: أشخاصاً من البشر، وليسوا ملائكة، {نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
يقول الإمام القرطبي: لم يختلف العلماء في أن العامة عليهم تقليد علمائهم، والمعنى: أن الإنسان العامي إذا جهل شيئاً من أمر الدين يسأل عالماً من العلماء، لكن لا يذهب ليبحث عن العلماء ويقعد ليرجح بينهم، وإنما يسأل من يطمئن إلى علمه ثم يعمل به ويلزمه تقليده في ذلك إذا سأله، فلا يرجح بين أقوال العلماء، فهو ليس عنده مقدرة على الترجيح، واحتج العلماء بقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
كذلك أجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بتمييزه، يعني: في أمر القبلة، ولا يجوز له أن يتجه أي اتجاه، وإنما عليه السؤال.
كذلك الإنسان الذي ينزل في بلد ولا يعرف اتجاه القبلة فيها ليس من حقه أن يصلي في أي مكان، ولكن يجب عليه أن يسأل، قال الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]، فلو فرضنا أنه صلى إلى أي اتجاه من غير أن يسأل ومن دون اجتهاد منه فصلاته باطلة، فلا بد أن يسأل، ولا يصلي إلى جهة يشك فيها، ولكن إن جهل ولم تتبين له الجهة ولم يجد من يسأله يجتهد قدر المستطاع، وصلاته صحيحة حتى ولو صلى عكس اتجاه القبلة.
كذلك لم يختلف العلماء في أن الإنسان العامي الجاهل لا يجوز له أن يفتي نفسه ولا يفتي غيره، فلابد أن يسأل ويتبع ما قيل له في ذلك.
وكثير من الناس تجد أنه تنزل به النازلة فإذا به يفتي لنفسه في الحال، ويقول لك: أنا اجتهدت وعملت، فنقول: في أي شيء اجتهدت وأنت لم تطلع لا على الكتاب وتفسيره، ولا على السنة وشروحها، ولم تعرف الفقه ولم تقرأ فيه؟! وما أكثر من يجتهد كذباً من الناس! بعض الجهلة من الناس يدخل مسجداً من المساجد وإذا به يقول: الإمام يخطئ، فيقوم يصلي ركعة خامسة مثلاً أو ينسى فيصلي ثلاث ركعات ويسلم، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء، فتجد بعض الناس إذا نسي الإمام ركعة من الركعات يقول: أعيدوا الصلاة، والأمر لا يحتاج إلى إعادة صلاة، ولكن نسي فصلى ثلاث ركعات، إذاً بقيت ركعة فيصليها ويسجد للسهو، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام، فقد سها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين في صلاة رباعية وسلم منها صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل كان يلقب بـ ذي اليدين: (يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال له: لم أنس ولم تقصر، ثم نظر إلى الصحابة وقال: أكذلك؟ قالوا: نعم) مع أن من الصحابة من خرج من المسجد، ولكن بقي الأكثرون، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وصلى الركعتين الباقيتين، ثم سجد سجود السهو وانتهى الأمر.
ونسي صلوات الله وسلامه عليه التشهد الأوسط فقام صلى الله عليه وسلم وأكمل صلاته، ثم سجد للسهو ولم يحدث شيء.
وقام إلى الخامسة في صلاته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الرباعية خمس ركعات، وسجد السهو ولم يحدث شيء.
فالحقيقة إذا سألت أهل العلم أجابوك فكان الأمر سهلاً، أما إذا استفتى الجهال بعضهم بعضاً فما أسهل ما يصعب على أنفسهم أمر دين الله سبحانه تبارك وتعالى، لكن قد يعيد الصلاة مرة ومرتين وثلاثاً لجهله في ذلك.
وقد يأتي إنسان عنده سلس بول ويستفي جاهلاً، فيقول له: أعد الصلاة إذا أحسست بقطرة الماء قد خرجت منك وسط الصلاة، فيخرج من الصلاة ليتوضأ مرة ثانية، ثم يرجع يصلي فإذا به تنزل منه قطرة ماء مرة أخرى، فيخرج ليعيد الصلاة، وهذا بسبب جهله وبجهل من استفتاه، مع أن الدين ليس فيه ذلك، فإذا توضأت للصلاة فصل، حتى ولو نزلت هذه القطرة وأنت في الصلاة، فصلاتك صحيحة، بل ويجوز لك أن تصلي بعدها النافلة وأنت على حالك هذه طالما أنك مريض بسلس البول.
فلا يفتي في هذه المسائل إلا أهل الذكر والعلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف:109].
فأرسل الله سبحانه تبارك وتعالى رسلاً بوحي من السماء ليعلموا الناس، حتى يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الخلق ما علمه الله سبحانه، فقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43 - 44]، فإن كنت لا تعرف الكتب المنزلة ولا الحجج التي جاءت من عند الله، فاسأل أهل الذكر ولا تستكبر عن السؤال.
وهنا قال لنا سبحانه تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فلا تستكبر ولا تأنف من السؤال إن كنت جاهلاً، أو اقرأ وارجع إلى كتب أهل العلم وستعرف الحكم الشرعي.(2/5)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلناهم جسداً لا يأكلون الطعام)
قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء:8].
ما جعلنا هؤلاء الرسل عليهم صلوات الله وسلامه جسداً لا يحتاجون إلى الطعام، بل هم يأكلون ويشربون، ولم يكن هؤلاء الرسل خالدين، بل جعلهم أجساداً وجعل فيها أرواحاً، وجعلهم يحتاجون إلى الطعام والشراب وإلى إخراج ذلك في بول وغائط ونحو ذلك، فيعتريهم ما يعتري المخلوق من أعراض الدنيا، من برد وحر، ومرض وتعب ونصب، فمثلهم كمثل غيرهم من الخلق، فالله عز وجل يخبر عن هؤلاء الرسل أنهم بشر من البشر.(2/6)
تفسير قوله تعالى: (ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء)
قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9].
وعدناهم بالنصر فنصرناهم كما وعدناهم، وإن كانوا قبل أن ينصروا قد ابتلوا ابتلاءً شديداً، وأوذوا في الله عز وجل أذىً شديداً، ثم صدقهم الله عز وجل بعد ذلك.
وقد أخبر الله تعالى في سورة يوسف فقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، أي: أن الرسل يئسوا من إيمان قومهم، دعوا قومهم ولا أحد يجيب، وقد يلبث فيهم النبي فترة طويلة يدعوهم إلى الله فلا يستجيبون، كما فعل سيدنا نوح، فلبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة، قال تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] وقال الله عز وجل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أي: عدد قليل من قومه، فيأتي الأنبياء يوم القيامة، النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الجماعة، والنبي ومع الرجل الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فهذه هي دعوة الأنبياء لأقوامهم، فهم بشر يدعون بشراً قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، ولكن يأتي النبي بما يدل على نبوته، فيأتي بالمعجزة من عند رب العالمين سبحانه، فالله عز وجل قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
ففي الدنيا ويوم القيامة ينصرهم الله عز وجل، ولكن قد يتأخر هذا النصر لحكمة من الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم وعد بأنه ينتصر على المشركين، وقد مكث في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعوهم إلى الله تعالى، وقد خرج عليهم مرة فآذوه وصبر، ثم خرج مرة أخرى فآذوه إيذاءً شديداً فصبر، ثم خرج في المرة الثالثة فوقف على الكفار منهم أبو جهل وغيره فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ والله لقد جئتكم بالذبح).
قال هذا وكان مستضعفاً ومعه القليل من المؤمنين، والأكثرون هم الكفار، ومع ذلك يقف لهم بكل شجاعة ويقول: (والله لقد جئتكم بالذبح) يعني: جئتكم بالسيف من أجل أن أقطع رقابكم، وفعلاً كان هؤلاء ممن قتلوا في يوم بدر، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلى المدينة جاء نصر الله في يوم بدر، لما قتل هؤلاء المشركون وألقوا في قليب بدر، وقف النبي صلى الله عليه وسلم على القليب ينادي على أهل القليب: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة!) وينادي على أبي جهل وغيرهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟) كانوا قد استأخروا النصر الذي يدعيه محمد، وتطاولوا على النبي صلى الله عليه وسلم.
ويقول لنا ربنا: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ} [يوسف:110] وهذه لها معان منها: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، أو حتى إذا استيأس أتباع الرسل من أمر النصر ومن أمر هؤلاء الكفار أنهم لا يؤمنون، أو استيأس الكفار من كلام الرسل من أنكم تقولون لنا كلاماً وتعدوننا ثم لا يحصل.
{جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] ينجي الله سبحانه تبارك وتعالى من يشاء من عباده، وهنا قراءتان: {فَنُجِّيَ} [يوسف:110]، و (فََنُنْجي مَنْ نَشَاءُ) بنون العظمة.
الله عز وجل ينجي من يشاء من عباده، ولا مانع من أن يقتل كثير من المؤمنين، فالله عز وجل ما قال ننجي المؤمنين جميعاً، ولكن قال: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] فمنهم من نجا ومنهم من أخذه الموت أو استشهد في سبيل الله عز وجل.
{وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] الغرض أن الله سبحانه تبارك وتعالى وعد الرسل، ولا بد أن يتحقق وعد الله سبحانه الذي وعد به المرسلين.
قال تعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} [الأنبياء:9] فأنجى الرسل وأنجى من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، وأهلك من يشاء، فمن هؤلاء الذين ماتوا الكفار، ومنهم المؤمنون الذين ماتوا، فالمؤمنون شهداء، والكفار في نار جهنم خالدين فيها.
قال سبحانه: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9].
يعني الذين أسرفوا على أنفسهم، وضيعوا دنياهم وأخراهم.(2/7)
تفسير قوله تعالى: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم)
ثم قال: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] فنكر الكتاب لتعظيمه أي: أنزلنا إليكم كتاباً عظيماً فيه ذكركم، أي: فيه شرفكم، فتتشرفون بهذا الكتاب الذي هو بلسان عربي مبين.
فقال: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] وهنا الذكر بمعنى الشرف، أي: أنزلنا عليكم كتاباً باللغة العربية ليكون شرفاً لكم على غيركم من الأمم.
فمن المفترض أنه إن جاءنا كتاب يشرفنا بلغتنا أن نفرح بهذا الكتاب، ونفرح بهذه المنزلة التي أنزلنا الله عز وجل إياها، ولكنهم غاروا على النبي صلى الله عليه وسلم وحسدوه.
قال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10] أين عقولكم؟ هل تتركون هذا القرآن حتى يأخذ به الأعاجم؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان هذا العلم في الثريا لناله رجال من هؤلاء)، يعني: أمثال سلمان الفارسي وغيره رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد نال العجم أشياء كثيرة ما نالها العرب، حتى إنه يأتي الخليفة في زمن من الأزمنة ويسأل: من العالم في أرض مصر؟ فيقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في أرض الشام؟ يقولون: فلان، فيقول: عربي أم أعجمي؟ قالوا: أعجمي، من العالم في المدينة ومكة في كذا في كذا حتى قالوا له: عالم عربي، فقال: لقد كادت روحي أن تزهق حتى ذكرتم عالماً واحداً.
المقصود: أن القرآن ذكر للعرب وشرف لهم وتذكرة لهم، فالمفترض أن يعقلوا ما فيه فيعملون به، فيدفعهم إلى التقدم والرقي، ويدفعهم إلى أن يسودوا غيرهم من الأمم، ولكنهم تركوه وراءهم ظهرياً فعاقبهم الله سبحانه بما هم فيه.
قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه شرفكم، فهذا هو المعنى الأوجز في هذه الآية ورجحه الكثير من المفسرين كـ الطبري وغيره.
وقيل: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه ذكر أمر دينكم، يعني: الأحكام الشرعية ونحوها.
أو {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] فيه ذكر ما تصيرون إليه يوم القيامة من جنة أو نار.
{أو فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] بمعنى: فيه حديثكم الذي تنسجونه فيما بينكم وتسرونه، فيذكره الله عز وجل لنبيه ويدافع عن دينه وعن نبيه صلى الله عليه وسلم، ويفضح هؤلاء المتكلمين.
وقيل: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] بمعنى: فيه مكارم الأخلاق، ولا شك أن هذا كله في هذا القرآن العظيم.
ولكن أوجه المعاني {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء:10] أي: فيه الشرف لكم بما يحمل من مكارم الأخلاق، وبما يحمل من إعجاز وتعجيز لخلق الله عز وجل.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القرآن حجة لك أو عليك) هذا القرآن العظيم الذي هو شرف لك إما أن تأخذه فيكون حجة لك، وإما أن تتركه وراءك فيكون حجة عليك.
وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها).
فالغرض بيان أن هذا القرآن إما حجة لك وإما حجة عليك، قال تعالى: {كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:10].(2/8)
تفسير قوله تعالى: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)
ثم ذكر الأمم السابقة فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء:11].
(كم) فيه إشارة إلى أن الأمم الذين قصمناهم كثير، فإذا قصم الشيء فلا رجوع، ولا ينفع التصليح فيه، فقد قصمهم الله سبحانه تبارك وتعالى وأبادهم وأهلكهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40]، ومنهم من سلط الله عز وجل عليه عباده المؤمنين، أو الكفار يسلطون على المسلمين العصاة.
ولما تسبب اليهود في قتل يحيى بن زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام سلط الله على أرضهم بختنصر، الكافر فأبادهم، وهذا من تسليط الله عز وجل على العصاة، فيسلط عليهم المؤمنين، وقد يسلط عليهم الكفار فيقتلونهم ويبيدونهم.
إذاً: الإنسان المستقيم على التوحيد والذي يعرف حدود الله ويطيع ربه، فإن الله يكون معه وينصره، والإنسان الذي عرف الدين وتركه وراءه ظهرياً استحق أن يقصمه الله سواء بآية من الآيات من السماء أو على يد مؤمن أو على يد كافر، قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء:11] يعني: كثيرين، فهناك قرى ظالمة أشركوا بالله عز وجل فأهلكهم الله، وبعدما أبادهم أنشأ قوماً آخرين.(2/9)
تفسير قوله تعالى: (فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون حتى جعلناهم حصيداً خامدين)
ثم رجع لمثل هؤلاء الذين قصمهم، قال: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12].
أي: القوم المشركون لما جاء عذاب الله بواحدة من هذه الصور التي ذكرناها فـ {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12] فإذا بالملائكة تنادي عليهم: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:13] أي: ارجعوا مرة أخرى، على وجه السخرية، وإلا فأين سيسير؟ لن يفلت من الله سبحانه فتسخر منه الملائكة قائلة: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13].
كنتم أنتم مالكين كل الديار ثم ركضتم تاركين البساتين والحقول والأنهار والأموال، فارجعوا لعلنا نسألكم عن هذا المال فتعطون زكاة أموالكم.
فكانت السخرية منهم في وقت نزول العذاب عليهم، قيل لهم: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:13] لا تسرعوا، وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، وأصل الركض الضرب بالرجل أو الضرب على الشيء، ومنه ركض فرسه، بمعنى: أنه ضرب برجليه على جانبي الفرس من أجل أن يجري الفرس، ويقول لنا هنا: {لا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:13] فالمكان الذي كنتم أعزة فيه، والمكان الذي فيه أموالكم وأخذتم فيه من زخارف الدنيا وزينتها، ارجعوا {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13] أي: عما نزل بكم من العقوبة، واسألوا الأمم من قبلكم كيف أهلكهم الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقيل: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء:13] أي: أن تؤمنوا مرة ثانية، فيطلب منكم الإيمان، وإذا نزل العذاب لا ينفع الإيمان، فكأن كلام الملائكة سخرية من هؤلاء، فكما كانوا يسخرون من الرسل سخرت منهم الملائكة في وقت نزول العذاب، وكأنهم سمعوا هذا النداء: {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا} [الأنبياء:13]، فبحثوا عمن يقول هذا الكلام فلما لم يروا أحداً علموا أنه خطاب من السماء، وعلموا أن الملائكة تناديهم فأيقنوا بالعذاب، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14].
وهذا نداء، كأنه يقول: الويل لي والهلاك، ينادي على نفسه بالهلاك، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14]، اعترفوا في وقت لا ينفعهم فيه الاعتراف، وندموا حين لا ينفع الندم، فانتهى أمر الله سبحانه، وجاء العذاب من عند ربنا فما قدروا على شيء، فقولهم: {يَا وَيْلَنَا} [الأنبياء:14] لا ينفعهم بشيء.
قال تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء:15].
أي: حصدناهم جميعاً كالزروع أو الثمار التي تجنى وتحصد، فخمدت أنفاسهم، وضاعوا بتضييعهم رسل ربهم وبتضييعهم كتب الله سبحانه تبارك وتعالى، ففيها عظة عظيمة لكل إنسان مؤمن، أنه إذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع كتاب الله الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن معه في الدنيا ومعه يوم القيامة، فانتفع هذا الإنسان، وإذا جعل القرآن وراء ظهره دفعه إلى نار جهنم، ففي الدنيا يسلط الله عز وجل عليهم من يشاء من مؤمنين أو كفار فيبيدونهم في الدنيا، ويوم القيامة يعذبهم الله العذاب الأكبر.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/10)
تفسير سورة الأنبياء [16 - 24]
يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والعدل والقسط، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً، وينكر سبحانه على من اتخذ من دونه آلهة، وأخبر أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات والأرض، فتقدس سبحانه عن الشريك وعن كل نقص وعيب، وتعالى عما يفترون ويأفكون علواً كبيراً.(3/1)
تفسير قوله تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما لاعباً، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] وقال سبحانه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
أي: خلق الله عز وجل هذا كله وجعله آيات بينات معجزات لمن يعقل ويتفكر، أي: لأصحاب الألباب والقلوب السليمة والعقول المستقيمة.
وأولو الألباب يتفكرون ويقولون: سبحانك ما خلقت هذا باطلاً، فيعرف الإنسان أن هذه السماوات العظيمة وما فيها من الأفلاك العظيمة الكثيرة الواسعة، وهذه الأرض وما خلق الله عز وجل فيها، مستحيل أن يخلق هذا بهذه الدقة، وبهذا النظام العظيم لعباً ولهواً وعبثاً، حاشا لله سبحانه وتعالى وهو العليم الحكيم الحليم سبحانه.
والسماوات هذه التي لا نرى منها إلا السماء الدنيا، ولا نرى السماء كسماء حقيقة، وإنما نرى النجوم التي فيها؛ لأن السماء بعيدة عنها جداً، فدلنا الله عز وجل بهذه الأشياء القريبة إلينا، أن ننظر فيها ونتفكر فيها.
وما علاك وكان فوقك فهو سماؤك، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، أي: أنزله من السحاب الذي فوقنا لا من السماء حقيقة.
فالمتفكر في هذه السماوات يجدها سبع سماوات طباقاً، ما بين السماء والسماء خمسمائة عام، وسمك السماء الواحدة خمسمائة عام، والله سبحانه وتعالى جعل لنا السماء الدنيا لنتفكر فيها، وجعل النجوم مصابيح وحفظاً، ولنتدبر في خلق النجوم، وفي خلق الشمس، وفي خلق القمر، وفي خلق الأرض، من خلق هذه الأشياء؟ إنه الله سبحانه وتعالى الذي أحاط بكل شيء علماً، يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما فوق ذلك وما تحت ذلك، ولا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى.
فهذه الشمس هي أقرب الكواكب من هذه النجوم إلينا، هذه الشمس يصل إلينا ضوءها خلال ثمان دقائق، والمسافة التي بيننا وبينها حوالي مائة وخمسين مليون كيلو متراً، والضوء يقطع مائة وخمسين مليون كيلو متراً في حوالي ثمان دقائق وثلث دقيقة، هذا في الشمس، فيا ترى النجوم التي فوقها كم المسافة بيننا وبين هذه النجوم؟ يقولون: إن ضوء بعض النجوم يصل إلينا في حوالي أربع سنوات، فكم تكون المسافة بيننا وبين النجوم؟ فنحن عندما ننظر إلى النجم يكون النجم قد تحرك من مكانه، ولا نرى الموقع الذي هو فيه الآن، وهذه النجوم كم عددها؟ أيضاً هذه المجرة التي نحن فيها يسمونها مجرة درب التبانة، وهذه الأرض بما فيها هي جزء من هذه المجرة، فكم عدد المجرات، يقولون: ألف مليون مجرة، فهذه المجرة التي نحن فيها هي واحدة من ألف مليون مجرة، فكم في هذه المجرات من كوكب وشمس وقمر ونجم؟ أعداد كثيرة جداً، يذكر العلماء أنها تحوي أكثر من مائة ألف مليون نجم في المجرة الواحدة، فإذا قلنا: كم في الأرض من مخلوقات: من أشجار وأنهار وبحار وجبال وطير وحشرات وإنسان وجان وملائكة؟ أحصى الله عز وجل كل شيء عدداً، وباقي هذه الكواكب والنجوم أحصى كل ما فيها من خلق لا نعلمه ويعلمه هو سبحانه وتعالى.
هذا في السماء الدنيا، أما السماوات السبع التي تكلم ربنا عنها فيا ترى كم فيها من المخلوقات؟! فالله خلق هذا كله ويعلم ما فيه ويحصي كل شيء عدداً، فهل خلق ذلك لعباً ولهواً وغفلة؟ قال تعالى حاكياً عن عباده المؤمنين: {رَبنْا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
هذا الذي ينبغي أن يقوله الإنسان، لذلك أمرنا بأن نتفكر في المخلوقات، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله).
أي: تفكروا في نعم الله عز وجل عليكم، وفيما خلق لكم من أشياء وتفضل وأنعم بها عليكم، تفكروا في هذه الآلاء وفي هذه النعم، ولا تتفكروا في الله، من الذي يتفكر بالله ويحيط بالله عز وجل علماً؟! تفكر في آلاء الله؛ حتى تستدل على قدرة الله العظيمة الباهرة، وتعرف حقارة المخلوق كيف أنه يرى هذه النعم العظيمة، ويرى هذه الآيات الباهرة والقدرة القاهرة، ويرى في هذا الكون العظيم آيات رب العالمين، ومع ذلك يكفر بالله ويشرك بالله، فقال الله عز وجل لنا هنا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الأنبياء:16].(3/2)
تفسير قوله تعالى: (لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا)
قال الله تعالى: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:17].
(لو) حرف يدل على امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط أفضل، يعني: لا يحصل ولا يكون، ولكن على افتراض أنه يكون.
فقال هنا: (لَوْ أَرَدْنَا) ولم يقل: إن أردنا؛ لأن (إن) شرطية تفيد أنه ممكن أن يحدث هذا الشيء، أما (لو) فتفيد أنه مستحيل أن يحصل هذا الشيء، ولكن قال ذلك على افتراض وقوعه، وحاشا له سبحانه وتعالى.
فقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) قال أكثر المفسرين إن معنى اللهو هنا الزوجة، وهي لغة من لغات العرب، ففي لغة اليمن تسمي الزوجة لهواً وتوصف بذلك، يقول امرؤ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي هذه امرأة اسمها بسباسة، يقول: هل زعمت هذه المراة أني كبرت في السن وأني لا أحسن التزوج؟ فقوله: وأن لا يحسن اللهو، معناه: الزواج، فهنا قالوا: معنى ذلك أن الله عز وجل يقول: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} [الأنبياء:17]، أي: أن يتخذ زوجة وصاحبة وأن يتخذ ولداً وحاشا له سبحانه.
{لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} [الأنبياء:17] لو أردنا أن نتخذ ولداً لاتخذناه من الملائكة على طريق التبني، فأنت أيها الإنسان الحقير الضعيف، يا من خلقت من نطفة مذرة، ومن تراب ومن طين، تأتي وتنسب لله الولد.
فربنا سبحانه وتعالى يذكر أنه مستحيل أن يكون له الولد وأن تكون له صاحبة، إنما الولد يكون للمخلوق الذي يحتاج إلى أن يمتد عمره، فابنه يكمل له ما بدأه، الله خلق الإنسان ليعمر الأرض، وعمارتها تحتاج إلى عمر طويل جداً، والإنسان ليس له هذا الأمر، فإذا أردنا أن تدوم عمارة الأرض فلابد من التناسل، وهنا لضعفه وعجزه واحتياجه احتاج للولد، وقبل ذلك احتاج للصاحبة، فخلق الله عز وجل له الأنثى ليكون منها الولد، فيخلفه الولد عندما يموت وهكذا.
إذاً: فهنا للضعف والعجز احتاجوا أن يكون لهم الولد والصاحبة؛ حتى يستمر الجنس البشري في إعمار هذه الأرض، وليعبد الله سبحانه وتعالى.
أما الله سبحانه وتعالى فحاشا أن يكون له ولد أو تكون له صاحبه؛ لأنه الباقي أبداً سبحانه وتعالى، ولأن حياته حياة دائمة أزلية دائمة سرمدية لا بداية لها ولا نهاية، وهو القادر على كل شيء، القاهر لكل شيء، فلا حاجة به إلى صاحبة أو إلى ولد، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.
فإذاً: قوله سبحانه: (لَوْ أَرَدْنَا) وهذا لا يكون، (أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ من لدنا) من عندنا من الملائكة، وليس منكم أنتم يا أهل الشرك ويا أهل الأرض، (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ).
وهنا بدأ بلو، والمعنى: أنه لا يكون ذلك، وقال المفسرون: (إن) هنا بمعنى (ما) التي تأتي للجحود، والمعنى وما كنا فاعلين ذلك أبداً، وهذا لا يكون منه سبحانه وتعالى.
وهذا مثل قول الله عز وجل: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23]، يعني: ما أنت إلا نذير، وكقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] أي: قل ما كان للرحمن ولد، وأنا أول العابدين لله سبحانه وتعالى، و (إن) احتمل في معناها أن تكون شرطية، يعني: أني أفترض المستحيل؛ لو كان للرحمن ولد فأنا أول من يعبده، وهذا لا يكون لله عز وجل، فأنا أعبد الله وحده وأنفي وجود الولد له سبحانه وتعالى.(3/3)
تفسير قوله تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه)
قال الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
الله عز وجل يقذف الحق، والحق كلمات الله عز وجل، وأوامر الله، وتشريع الله سبحانه، والقرآن العظيم هو الحق من رب العالمين، وهو المواعظ والتشريعات التي جاءت من عند رب العالمين، يقذفها ويلقيها على باطل هؤلاء فتحرق صواعقها ما هم فيه من باطل، وما هم فيه من هزل، وما هم فيه من شرك بالله سبحانه وتعالى.
قوله: (فَيَدْمَغُهُ) أي: يهلكه ويمحقه ويذله ويزيله.
قوله: (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) أي: إذا هو زاهق مهلك مبعد، (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي: للمشركين، فهؤلاء يحذرهم الله عز وجل ويخبرهم بمآلهم إن أصروا على باطلهم، ويقول لهم: (ولكم الويل) أي: العقوبة في نار جهنم، (مما تصفون) أي: مما تدعون لله عز وجل من الصاحبة والولد، وتتخذون أصناماً تقربكم إلى الله بزعمكم الباطل.(3/4)
تفسير قوله تعالى: (وله من في السموات والأرض يسبحون الليل والنهار لا يفترون)
قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء:19].
وقال تعالى: {َمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص:27]، أي: خلق السماوات فهو يملكها بما فيها.
وقال هنا: (وَلَهُ مَنْ) (من) للعاقل، أي: له كل من يعقل في السماوات وكل من يعقل في الأرضين، وهنا غلب العقلاء وإلا فهو يملك سبحانه من يعقل ومن لا يعقل.
وأحياناً يذكر ما في السماوات وأحياناً يذكر من في السماوات والأرض، فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ) اللام هنا تفيد الملك، فهو سبحانه يملك من في السماوات والأرض، كما تقول: هذا الكتاب لي وأنا أملكه.
فقوله: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: أن الله سبحانه وتعالى يملك الخلائق كلها ويعلم أفعالهم وما يقولون.
ثم قال: (وَمَنْ عِنْدَهُ) هنا تفضيل للملائكة على البشر؛ لأن البشر فيهم من يعصون وفيهم من يطيعون، أما الملائكة الذين عند الله فهم لا يعصون الله سبحانه وتعالى ما أمره.
فهذه الآية مما يحتج بها على أن الملائكة أفضل من البشر، وخلق الله عز وجل البشر من طين، وخلق الملائكة من نور، ففضلهم بخلقتهم، وإن كان قد خلق الله من البشر من هو أفضل من الملائكة، وأقرب إلى الله عز وجل من الملائكة، وهو نبينا صلوات الله وسلامه عليه، لقد ارتفع جبريل إلى أقصى سدرة المنتهى وما استطاع أن يجاوز، ونبينا صلى الله عليه وسلم رفعه الله عز وجل وجاوز به ما شاء سبحانه وتعالى.
فإذا كان سبحانه قد فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الملائكة فلا مانع من أن يفضل غيره من الأنبياء على الملائكة، ولكن ليس معنى ذلك أن نفضل جنس البشر على الملائكة؛ لأن الملائكة جنس لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أما البشر ففيهم من يطيع ويعصي، فجنس الملائكة أفضل، ولكن هناك آحاد من البشر فضلهم الله عز وجل على الملائكة.
فهؤلاء الملائكة الذين عند رب العالمين سبحانه لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، فهم يعبدون الله عز وجل ولا ينقطعون إعياءً، ولا يصيبهم الملل والسآمة والتعب والمرض، إنما يعبدون الله عز وجل إلى ما يشاء الله سبحانه، فهم منذ خلقهم الله عز وجل مستمرون على عبادته سبحانه، فمنهم من هم قائمون يذكرون الله، ومنهم من هم راكعون يسبحون الله، ومنهم من هم ساجدون لله، وذلك إلى أن تقوم الساعة، ومع ذلك يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وهم الذين لم يعصوا ربهم سبحانه وتعالى أبداً.
قوله: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) منه: حسر نظر الإنسان حسوراً أي: كلَّ وانقطع من طول المدى، فهذا هو الاستحسار، وتقول: إن البعير أحسر، بمعنى أعيا وتعب من كثرة المشي، فالملائكة لا يتعبون ولا ينقطعون عن عبادة ربهم سبحانه.
قوله: (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي: لا يستنكفون ولا يستكبرون عن عبادة الله ولا يملون.
قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أي: يسبحون الله تعالى الليل والنهار، وينزهون الله سبحانه وتعالى، فيقولون: سبحان الله.
قوله: (لا يفترون) يعتري الإنسان فتور فهو يريد أن يستريح قليلاً، فتراه يترك ما هو فيه، والإنسان إذا أكثر من الذكر والكلام تعب لسانه، أما الملائكة فلا يتعبون من ذلك، ولذلك قال رجل من التابعين وهو عبد الله بن الحارث: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام، فقلت له: أرأيت قول الله تعالى للملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: من بني عبد المطلب، قال: فقبل رأسي ثم قال: يا بني! إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟! كذلك أهل الجنة يتفضل الله عز وجل عليهم ويكافئهم بأن يلهمهم التسبيح كما يلهمهم النفس.
فإذاً: إذا كان الإنسان يأكل ويشرب ويتنفس ولا يحس أنه يتنفس، فكذلك التسبيح والذكر بالنسبة للملائكة وأهل الجنة، فأهل الجنة يلهمون التسبيح فلا يشغلهم شيء عن هذا.(3/5)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون)
قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21].
معنى هذه الآية سيكرر مرتين، فهنا يقول لنا: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) وبعد هذا يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [الأنبياء:24]، يعني: هل اتخذوا آلهة من الأرض يحيون الموتى؟ قل هاتوا حججكم العقلية أو النقلية التي تثبت ذلك.
فكأنه يكرر ويقول أولاً: انظروا بعقولكم، هل ترون غير ما ذكرنا؟ الأمر الثاني: هاتوا أدلة على ما تقولون في ذلك، فقال سبحانه وتعالى: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يعني: هذه الآلهة التي صنعتموها من حجارة ومن رمال ومن تراب ومن عجوة ومن غيرها؛ هل هذه الآلهة تنشر وتخلق وتحيي بعد الإماتة؟ هذا دليل عقلي، فأنت فكر وانظر ماذا تعبد من دون الله؟ وهذا سيدنا إبراهيم لما كسر الأصنام وناظر قومه صلوات الله وسلامه عليه قالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:59 - 61] أي: يشهدون عليه أنه فعل هذا الشيء، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63] هذا دليل عقلي (اسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ).
فهنا رجعوا إلى عقولهم، {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64]، أي: في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، يعني: أقاموا الحجة على أنفسهم واعترفوا بعجز آلهتهم.
فقال لهم إبراهيم: فكما أنها لا تنطق وتكسرت فكيف تعبدونها من دون الله؟ هذه هي الحجة العقلية، فهنا قال لهم الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} [الأنبياء:21].(3/6)
تفسير قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:22].
قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ) أي: لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله سبحانه وتعالى لَفَسَدَتَا، وهذا يسمونه: دليل التمانع، يعني: أنتم تقولون: إن هناك آلهة غير الله، نقول: لو كانت هذه الآلهة موجودة فإنها ستأمر وتنهى، وستخلق، وستحيي، وستميت، كذلك سيكون هناك إله يريد أن يخلق والثاني لا يريد الخلق، إله يريد أن يخلق كوكباً والثاني لا يريده، فهنا سيتعارض الإله الأول مع الإله الثاني، وبالتالي تخترب السماوات وتخترب الأرض، فهل خربت السماوات والأرض؟
الجواب
لم تخرب، فعدم وجود هذا الخراب والفساد دليل على عدم وجود أكثر من إله، فهو إله واحد ينظم أمر الكون كله، ويدبر أمر الخلق كلهم وهو الله سبحانه لا شريك له.
قال: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا) أي: في السماوات والأرضين، (آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فلما لم تفسدا دل ذلك على أنه لا إله إلا الله سبحانه وتعالى.
(فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي: أنه تعالى سبح نفسه لنسبحه سبحانه ولننزهه عن الشرك وعن أن يكون معه إله، أو تكون له صاحبة، وعن أن يكون له الولد.
قوله: (فسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ) هذا يدل على عظمة رب العرش، ما السماوات السبع والأرضين السبع، وكل وهذه المسافات الشاسعة ليست في جنب كرسي الله عز وجل إلا كحلقة مرمية في فلاة، وهذا الكرسي الذي خلقه الله عز وجل ما هو بجوار عرش الرحمن الذي استوى عليه سبحانه إلا كحلقة في فلاة، فكيف يكون هذا العرش؟ إنه عرش عظيم، فالله عز وجل رب هذا العرش الذي خلقه لا يحتاج إليه، وهو مستغن عنه وعما دونه، وهو سبحانه منزه عما يصفونه وعما يقولونه.(3/7)
تفسير قوله تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)
قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
قوله: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)) يعني: لا يسأله أحد من الخلق: لم فعلت هذا الشيء؟ فمن سأل الله عن شيء لم فعلته؟ فقد رد حكم الله، كأنه يرفض أن ربنا يقول له: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فيقول: لا، أنا سأسأل، وهذا الذي يسأل ويتعنت ويعترض على قضاء الله وقدره مصيره النار.
قال: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وهنا تظهر عظمة ربنا سبحانه وتعالى، فقد أمر بالإيمان بالقضاء والقدر، الذي أذل به الرقاب، وأعجز عن معرفته جميع خلقه، لا أحد يعرف شيئاً عن قضاء الله وقدره، حتى يحقق الله عز وجل ما يريده، فالمؤمن يؤمن بالقضاء والقدر.
قوله: (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) لم تفعلون هذا الشيء؟ أي: إذا فعل الله الشيء فلا أحد يقدر أن يسأل الله سبحانه وتعالى على ما فعل، أما هم فيسألون ويجازون على ما فعلوا من خير أو شر؛ لأن الملك لله وهو الإله الحق سبحانه وتعالى.
ذهب رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكأنه من القدرية الذين يتكلمون في القضاء والقدر، فقال له: يا أمير المؤمنين، أيحب ربنا أن يعصى؟ هذا سؤال مغلف، فهو أراد أن يقول: لماذا ربنا ترك عباده يعصونه؟ وكأنه يريد أن يقول: طالما أن ربنا تركهم يعصونه فهو يريد هذا، وهم مثابون حتى في المعصية التي يفعلونها، فالرجل سأل علياً رضي الله عنه وقال: أيحب ربنا أن يعصى؟ فماذا أجاب عليه رضي الله عنه؟ قال له: أفيعصى ربنا قهراً؟ هنا سؤال بسؤال والجواب واضح فيه.
وأيضاً: ربنا سبحانه وتعالى خلق الكفر وخلق الإيمان، فهل خلق الكفر لأنه يحبه؟
الجواب
لا، الله يكره الكفر ولكن أراده، والإرادة يدخل فيها ما يحبه وما لا يحبه، فخلق المؤمن ويحب المؤمنين، وخلق الكافر ويبغض الكافرين.
فالله عز وجل خلق الكفر وخلق الإيمان، وخلق المعصية وخلق الطاعة، وخلق الخير وخلق الشر، الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، وهو في خلقه محمود على ما يخلق سبحانه وتعالى، وفي كل شيء من خلقه آية من آياته سبحانه وتعالى، ووجودها حتمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى أرادها.
فهذا الرجل سأل علياً رضي الله عنه: أيحب ربنا أن يعصى؟ فقال له علي رضي الله عنه: أفيعصى ربنا قهراً؟ يعني: ربنا لا يعصيه أحد غصباً عنه، ولا يغلبه أحد، لكن ربنا أراد أن توجد هذه المعصية، وأراد أن يوجد الكفر وأن يوجد الإيمان، ولكن القدرية يقولون: نحن نخلق أفعالنا.
فقال له الرجل: أرأيت إن منعني الله الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إلي أم أساء؟ يعني: يقول له: إذا كان ربنا هو الذي منعني الهدى وجعلني ضالاً، فلماذا يعذبني؟ كذلك إن أعطاني الردى والضلال والكفر وأهلكني أأحسن إلي أم أساء؟ حاشا لله سبحانه وتعالى! فكان جواب علي رضي الله عنه أن قال: إن منعك حقك فقد أساء، وإن منعك فضله فهو له يؤتيه من يشاء سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي يجادل ويضيع وقته سيلاقي من يجيبه كما أجاب علي رضي الله تعالى عنه هذا الإنسان وغيره، ولكن على الإنسان المؤمن أن يعرف أن العمر محسوب، وأن القضاء والقدر مكتوب، وأنه مأمور أن يؤمن بذلك ولا يقع في الذنوب، ولا يضيع وقته في الجدل ويقول: لماذا ربنا خلق؟ لماذا ربنا فعل؟ لا يسأل عن ذلك، فهنا الآية الدامغة المانعة من المحادة: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].(3/8)
تفسير قوله تعالى: (أم اتخذوا من دون الله آلهة)
قال الله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:24].
لقد كرر مرة ثانية: هل اتخذوا من دونه آلهة؟ الأول دليل عقلي، فقال لهم: استدلوا بعقولكم، أما الآن فهاتوا دليلاً نقلياً على ما تقولون، أين النصوص التي في أيديكم أن ربنا أمركم أن تعبدوا هذه الآلهة؟ فهم كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] نقول لهم: من الذي أمركم بهذا الشيء، إذا كنتم تعبدون الله سبحانه فالله نهاكم عن الشرك، وإذا كنتم تزعمون أنه أمركم بالشرك فهاتوا برهانكم وهاتوا الدليل على ما تقولونه؟ قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي: من دون الله سبحانه وتعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) أي: دليلكم.
(هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) يعني: هذه الكتب السابقة هل أمرتكم بهذا الشيء، وهل فيها هذا الشيء الذي ادعيتموه.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي: أكثرهم معرضون عن الحق، فهم لا يحاولون أن يتعلموا هذا الحق.(3/9)
الأسئلة(3/10)
حكم من قصر في عمل أدى إلى وفاة شخص
السؤال
كنت أعمل في شركة تقوم بمد مواسير تحت الأرض، وأنا مسئول عن حفر خندق في الأرض؛ لأني مهندس أعرف الطول والعرض، ففي مرة من المرات أثناء حفر خندق لم أنتبه إلى الأطوال اللازمة، فدخل أحد العمال في الخندق فسقط عليه فمات، فماذا يجب علي؟
الجواب
لا فرق بين كونه لم يأخذ الأطوال اللازمة، سواء كان إهمالاً أو تكاسلاً أو ظناً منه أن الأرض صلبة، فعليك الكفارة، وهي صيام شهرين متتابعين، والدية على عاقلتك، إلا إذا قامت الشركة بدفع هذه الدية.(3/11)
حكم من احتلم وأنزل أثناء الصيام
السؤال
نمت بعد صلاة الفجر وأنا صائم فرأيت منياً بعد استيقاظي من النوم، فما الحكم؟
الجواب
عليك أن تغتسل فقط، وليس عليك قضاء هذا اليوم.(3/12)
حكم من فقد ماله في بيت غيره
السؤال
ذهبت إلى منزل خالي وكان معي في حقيبتي مال خاص بي بالدولار والريال، وعندما نزلت من منزل خالي ذهبت إلى مكة للصرافة لتحويلها إلى عملة مصرية، فلم أجد المبلغ وأصابتني صدمة شديدة استمرت ثلاثة أيام، وبعد ثلاث سنوات قال لي خالي: إن الولد كان عمره اثنتي عشرة سنة وهو غير مكلف، وهو الذي سرق المال، فما عليه؟
الجواب
طالما أنك نسيت المال في بيت خالك ومشيت صار لقطة في هذا البيت، والذي يجدها يصير هذا المال أمانة عنده، ويلزمه أن يردها إلى صاحبها، فإذا كان خالك قد لقي المال أو امرأة خالك أو أحد كبير صار هذا المال لقطة، وهذا الذي لقيه مسئول عن هذه الأمانة ويلزمه أن يردها إليك.
لكن هذا الطفل الصغير هو الذي أخذ المال، وظل ثلاث سنين لا أحد يعرف، فهذا أمر لا يتخيل، كيف يأخذ طفل صغير خمسة عشر ألف ريال وثمانمائة دولار ولا أحد في البيت يعرف؟ وبعد ثلاث سنين أرسل يقول: أنا عرفت الآن أن الولد أخذ المال، إذاً: عليه أن يبحث أين ذهب بهذا المال، وهذا المال دين في عنق هذا الغلام، الذي كان عمره اثنتي عشرة سنة، فإذا كان الأب أو الأم مفرطين في ذلك، وقد وجدا هذا المال في يده وسكتا عنه، فهما مسئولان عن غرامة هذا المال.(3/13)
حكم الائتمام بالمسبوق
السؤال
ذهب شخص إلى المسجد فوجد الجماعة قد انتهت، فهل له أن يأتم بمسبوق؟
الجواب
نعم يجوز أن يأتم بمسبوق، والجمهور على جواز الجماعة الثانية، والجماعة الأولى هي الأصل، فالإنسان المسلم يحرص على الأولى؛ لأن الأجر والثواب العظيم في الجماعة الأولى، والجماعة الثانية هي جماعة ولكن ليست في الفضل كالجماعة الأولى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، وآمر رجلاً أن يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام يتخلفون عن صلاة الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم)، فهنا لو كان الأمر أنهم لم يتخلفوا عن صلاة الجماعة، لكان من السهل أن يقولوا: نحن نصلي جماعة ثانية في بيوتنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم وما سألهم حتى يعذرهم بل قال: (فأحرق عليهم بيوتهم).
فإذاً: الجماعة الأولى هي الأصل أن تصليها وتحافظ عليها.
وإذا حصل لك عذر وأتيت المسجد وقد انتهوا من الصلاة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا جئت إلى المسجد فأدركته فلك الأجر، فإذا جئت فوجدتهم قد صلوا بعضاً وبقي بعضاً فصليت معهم فلك مثله، فإن أتيت وقد انتهوا فصليت وحدك فلك أجر الجماعة بنيتك، طالما أنك حريص على الجماعة الأولى.
لكن لا تظل تتخلف عن الجماعة الأولى بزعم إنك ستصلي جماعة ثانية، وتضيعها وتقول: هي هي، فليست هي هي، والأصل هي الجماعة الأولى، ولذلك ذكر بعض الأئمة مثل الإمام الشافعي رحمه الله وغيره أنه إذا كان المسجد له إمام راتب ومؤذن فلا تجوز فيه الجماعة الثانية، ومن تأخر عنه فليصل وحده منفرداً.
إذاً: نحرص على الجماعة الأولى حتى نصليها، فإذا كان لعذر وجئنا للمسجد ووجدنا جماعة ثانية جاز لنا أن نصلي معها، وإذا لم نجد جاز لنا أن نصلي فرادى، ولك الأجر بالنية على ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(3/14)
تفسير سورة الأنبياء [25 - 32]
على المسلم أن يقرأ القرآن ويتدبر معاني الآيات التي يقرؤها وما فيها من البيان والحكمة والموعظة، فإن هذا القرآن العظيم فيه من الأسرار والمعجزات ما لا يحصر، بل هي في تجدد وظهور إلى أن تقوم الساعة، فكلما تقدم الزمان زاد اكتشاف ما في هذا القرآن من المعجزات.(4/1)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه)(4/2)
الهدف الأسمى من إرسال الرسل هو الدعوة إلى التوحيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:25 - 32].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه لم يرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلا بأهم شيء خلق الله عز وجل الخلق من أجله، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
فقوله: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، هذه هي دعوة المرسلين لقومهم؛ يدعونهم إلى توحيد الألوهية، فقد كانوا يعرفون توحيد الربوبية، أي أن الله هو الرب سبحانه، الذي يخلق، والذي يرزق، والذي ينفع، والذي يضر، والذي يعز، والذي يذل، الذي بيده أقدار الخلق، كانوا يعرفون أنه الله ولكنهم كانوا لا يفردون الله بالعبادة، بل كانوا في الغالب يعبدون غير الله من الأصنام أو الملائكة أو الجن أو البشر، وقد ينصب بعضهم نفسه إلهاً على الناس ليعبدوه من دون الله.
فربنا سبحانه ما أرسل من رسول إلا بهذه الدعوة، وهي أن يدعو الخلق إلى لا إله إلا الله، يدعوهم ليكونوا مسلمين لله رب العالمين سبحانه وتعالى، فمن عهد آدم عليه السلام والأنبياء يدعون إلى دين الإسلام، أي: الاستسلام لله سبحانه وتعالى بأن يسلم العبد نفسه لربه يتصرف فيه كما يشاء، يأمره بما يشاء، يشرع له ما يشاء، فهو الذي بيده مقاليد خلقه جميعهم.
فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} [الأنبياء:25]، إلا بهذه الدعوة، {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [الأنبياء:25]، وقراءة الجمهور: (إلا يوحى إليه)، وحفص قرأها: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [الأنبياء:25]، أي: الله سبحانه وتعالى يوحي إليه.
والوحي من الله عز وجل، وهو العلم الذي ينزله على نبي من أنبيائه سبحانه وتعالى وصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذلك بأن يرسل رسولاً من السماء، أو يلقي في روع النبي الأمر، وهذا الأمر أو الوحي هو: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فاعبدني وأمر قومك أن يعبدوني.(4/3)
معنى لا إله إلا الله
{أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
كلمة (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تقول: لا معبود إلا الله؛ لأن هناك معبودات كثيرة تعبد من دون الله، ولا يصلح أن تقول: لا رب إلا الله؛ لأنه لم يرسل الرسل من أجل أن يقولوا لا رب إلا الله؛ لأن أغلب الخلق يعرفون أنه لا رب إلا الله، إنما أرسلوا من أجل أن يدعوا إلى لا إله إلا الله.
ومقتضى الربوبية هي أفعاله هو سبحانه وتعالى، والتي لا يشاركه غيره فيها، أي: أنه هو الرب، الخالق، الرازق، المحيي، المميت سبحانه وتعالى، ومقتضى الألوهية أفعال من خلقه تتوجه إليه سبحانه وتعالى، فلذلك أرسل إليهم الرسل حتى يعبدوه وحده سبحانه وتعالى ويتركوا عبادة غيره، فكل الشرائع جاءت بذلك، وإن اختلفت شرائع المرسلين في الأحكام من الحلال والحرام، وفي كيفية بعض العبادات، أما في التوحيد فلا يوجد اختلاف أبداً، فإنه سبحانه وتعالى ما أنزل كتاباً ولا أرسل رسولاً إلا ليدعو إلى توحيده سبحانه بأن يعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً.
إذاً: كلمة (لا إله إلا الله) معناها: لا معبود يعبد حقاً إلا الله وحده لا شريك له، قال سبحانه: {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، أي: فأمرهم سبحانه أن يعبدوه، وهذه أيضاً فيها قراءتان عند الوقف عليها، فالجمهور يقفون بالنون، أما يعقوب فوقف عليها بالياء {فَاعْبُدُونِي} [الأنبياء:25].(4/4)
تفسير قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً)
قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [الأنبياء:26]، الذين قالوا ذلك هم المشركون.
وقيل: نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله، فادعوا أن الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناث، وكذبوا في ذلك، وادعوا أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى.
وهؤلاء ما أعجب جهلهم! لأن الواحد منهم يأنف أن تكون له بنت، كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58]، ويأخذ الأنثى ليئدها ويدسها في التراب، ثم ينسبها لأعظم الخالقين سبحانه وتعالى {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، يقول: إن الله خلق الملائكة واتخذها إناثاً، وإن الملائكة بنات الله من صاحبة الله حاش لله سبحانه وتعالى.
فزعم هؤلاء الكفار أن الملائكة بنات الله، لذلك كانوا يعبدونهم طمعاً في شفاعتهم لهم، ثم جاء اليهود وطوائف من الناس فقالوا: إن الله عز وجل خاتن إلى الجن، والملائكة من الجن، ومعنى خاتن أي: اتخذهم أصهاراً وله زوجة من هؤلاء وله أولاد! وحاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له ذلك.
قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} [الأنبياء:26]، سبح نفسه سبحانه وتعالى، و (سبحان) مصدر من الفعل: أسبح، تقول: أسبحه تسبيحاً، وأصلها: أبرئ الله سبحانه من كل سوء ومن كل نقص ومن كل عيب، وهذا معنى التمجيد، أي: أنه لا يمس بسوء سبحانه وتعالى، ولا يعتريه سوء أو نقص حاش له سبحانه.
ومن معاني كلمة (سبحان): الخفة والإسراع إلى الشيء، وأصلها من سبح، ومنها السباحة، يقال: فلان يسبح، أي: يعوم في البحر بخفة، فقولك: سبحان الله، معناه: أسارع خفيفاً إلى طاعة الله سبحانه وتعالى، يعني: لا أتثاقل عن طاعته وعن عبادته سبحانه وتعالى.
و (سبحان) أيضاً كلمة تعجب من القول عندما يكون شنيعاً وعظيماً فيقول: سبحان الله! على وجه التعجب من هذا القول.
وقد تأتي بمعنى السبح أي: النفس، فيقول الإنسان: أنت أعلم بما في سبحانك، يعني: أنت أعلم بما في نفسك.
إذاً: فسبحان الله معناها: أنزه الله سبحانه وتعالى وأقدسه وأسارع في طاعته سبحانه.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
أي: هؤلاء ليسوا أولاده، بل هم عباده سبحانه، إذاً: الملائكة عباد الله وهم ليسوا من الجن؛ لأن الملائكة خلقهم الله عز وجل من نور، والجان خلقهم الله عز وجل من مارج من نار، فهناك فرق بين خلق الجن وخلق الملائكة، وإن كان إبليس قد عبد الله عز وجل في الماضي، أي أنه وصل في العبادة إلى درجة عظيمة حتى صار يعبد الله مع الملائكة، لكن أصله من النار، وعلم الله منذ خلقه ماذا سيحدث له وكيف يكون مصيره.
قال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26 - 27]، قال عنهم: عباد، ولم يقل: عبيد، مع أن كلاً منهما مأخوذ من العبودية، ولكن العباد يكون الغالب فيهم الطاعة، أما العبيد فكأن فيها شيئاً من التحقير، فلو قال: عبيد، فهم عبيد له سبحانه وتعالى يملكهم، ولكنه شرفهم وكرمهم، فقال عنهم: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} [الأنبياء:27].
أي: لا يجرؤ ملك من ملائكة الله أن يتكلم قبل أن يأذن الله عز وجل له، أو أن ينزل من السماء إلى الأرض قبل أن يأذن الله عز وجل له.
{وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27].
إذاً: لا ينطقون إلا بما أذن الله عز وجل لهم، ولا يسبقونه بالقول أبداً، ويعملون مطيعين لأوامر الله عز وجل.(4/5)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
وفي سورة مريم قال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (لم لا تزورنا أكثر مما تزورنا)، فأنزل الله سبحانه وتعالى في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
أي: إذا أخر الله عنك جبريل فليس هذا بنسيان، ولكن الله عز وجل لحكمة يؤخره، ولحكمة وتشريع يرسله.
ويقول: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} [مريم:64] فالملائكة يقولون: الله يملكنا وما أمامنا وما خلفنا، وكل ما حولنا يملكه الله سبحانه وتعالى، وهنا أخبر عن العلم، أن الله يعلم ما بين أيديهم، أي ما هو أمامهم، وما خلفهم، يعلم كل شيء في نفوس الملائكة، في أقوالهم وفي أفعالهم، ولا يجرءون على الشفاعة إلا لمن رضي الله عز وجل له ذلك، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فتشفع الملائكة يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل يشفع من يشاء من خلقه، فيشفع عباد الله المؤمنين وكذلك الملائكة وغيرهم.
فيشفعون بإذن الله عز وجل {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، أي: لهم أن يشفعوا لمن ارتضى أن يشفعوا له، وليس لهم أن يشفعوا لكل أحد.
ثم قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، الملائكة المطيعون يخشون الله سبحانه وتعالى، وهم من خشيته في غاية الشفقة والخوف، مع أنهم مطيعون لله فلا يعصون الله سبحانه وتعالى أبداً، {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28].
إذاً: أحرى بالإنسان الذي هو كثير العصيان لله عز وجل أن يكون فيه هذه الخشية، فالملائكة لا يعصون الله سبحانه وتعالى ويفعلون ما يؤمرون، وهم مع ذلك في غاية الخوف من الله سبحانه وتعالى، فلم لا يخاف الإنسان من ربه سبحانه وتعالى؟(4/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه)
قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29]، وحاش لهم أن يقولوا ذلك، ولكن الغرض أن هؤلاء زعموا أن الملائكة بنات لله، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} [مريم:88]، فربنا يقول: لو قال الملائكة ذلك، لكنت سأعذبهم عذاباً عظيماً.
{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، يكون جزاؤه أن يدخله ناراً مشتعلة، ناراً حامية، نار جهنم تتجهم لمن يدخل فيها، فهي نار مظلمة فيها الجهومة، وفيها الغلظة والشدة، وفيها النار مستعرة.
{فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ} [الأنبياء:29]، أي: كهذا الجزاء الفظيع، {نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29]، كل ظالم، كل مشرك يشرك بالله عز وجل ندخله نار جهنم.(4/7)
تفسير قوله تعالى: (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما)(4/8)
المعنى الأول لفتق السماوات والأرض
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].
هنا آية من آيات الله في الكون العظيم حولنا، ولا شك أن الله سبحانه حين يقول: {أَوَلَمْ يَرَ} [الأنبياء:30]، إذاً هؤلاء يرون، ولذلك فإنه سيعذبهم؛ لأنهم لم ينظروا في هذا الكون حتى يعرفوا قدرة الله الباهرة، وعظمته القاهرة سبحانه وتعالى، كيف دبر أمر هذا الكون.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:30]، إذاً: هنا الخطاب للكفار، فهم يرون منذ أن كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الذين يأتون من بعدهم يرون حتى تقوم الساعة، وكل يرى آيات الله عز وجل، ويعلم أن هذا الحق من عند الله رب العالمين سبحانه وتعالى.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30].
قال المفسرون في معناها: الرتق: السد، الشيء المسدود الملصق بعضه على بعض.
والفتق: هو انفتاح اللصق.
إذاً: هنا كأنه شيء مغلق مسدود ففتق أي: فتح، والصحابة فهموها كذلك، يقول ابن عباس رضي الله عنه وغيره: كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء، وما أجمل تفسير ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه! وكأنه ينظر إلى أشياء لا يراها غيره.
ابن عباس يقول: إن السماوات والأرض كانتا ملتزقتين في بعض وربنا فتقها، ولكن الكفار هل كانوا يرون ذلك؟ هل رأوا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ثم افتتقا عن بعضهما؟ لا شك أنهم في الماضي لم يروا ذلك، ولكن الله يقول: {أَوَلَمْ يَرَ} [الأنبياء:30]، إذاً هناك شيء هم يرونه أمامهم، والله عز وجل يقول: انظروا إلى حكمة الله فيه، لذلك جاء عن ابن عباس وعن عكرمة وابن زيد وغيرهم قالوا: إن السماوات رتقها الله عز وجل بالمطر، كانت لا تمطر فأنزل منها المطر، أي: كأن السماء في جفاف ومن ثم أنزل المطر فحصل هذا الفك.
والأرض كانت لا تنبت فنزل المطر عليها فإذا بها تتفتق وتتصدع وتتشقق وجذور النبات يدخل فيها وتطلع الأشجار، فتفتقت الأرض بهذا النبات، وهذا هو ما يراه هؤلاء، فهم يرون أمامهم البذرة توضع في الأرض ثم ينزل المطر فتنمو البذرة وتتصدع الأرض حولها، فيرون أمامهم هذه الآية: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30].
وهذا تفسير صحيح أن {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، أي: فتق الأرض بذلك، وفتق السماء بنزول المطر منها، وهذه آية من الله سبحانه وتعالى يراها هؤلاء، يرون السحابة صافية ليس فيها شيء، ثم يتجمع فيها الماء إلى أن تظلم، ثم تبدأ تتفتق وينزل منها المطر، إذاً {كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30]، أي: سحابة مغلقة، وبعد هذا انفتحت ونزل منها المطر، هذا الذي يراه الكفار دائماً في الماضي وفي الحاضر.(4/9)
المعنى الثاني لفتق السماوات والأرض
وهنا معنى آخر وهو معنى صحيح، ولكنه أكتشف بعد ذلك، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} [الأنبياء:30].
يقول علماء الفلك: إن الكون كله كان شيئاً واحداً مقفولاً -السماوات والأرض والنجوم، كلها كانت شيئاً واحداً- وحصل انفجار عظيم يوماً من الأيام الذي هو بدء الخلق، فالله عز وجل فتق ذلك وتطايرت النجوم فذهب كل نجم إلى مكانه، والكون لا زال يتسع كما أخبر الله عز وجل بذلك.
هذا الكلام لم يقله المسلمون وإنما قاله الكفار، والله يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، فالكفار رأوا ذلك، والمسلمون سمعوا كلام هؤلاء وأخذوا هذا الشيء، فقالوا: هذا موجود في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، وابن عباس لم ير ذلك ولم يبحث في الفلك، وقال ذلك منذ ألف وأربعمائة سنة، يقول ابن عباس: كانت السماوات ملتصقة بالأرض، يعني: النجوم والكواكب والشمس والأرض كانت كلها ملتصقة مع بعضها وربنا سبحانه وتعالى فتق ذلك، وأبعد بعضها عن بعض.
إذاً: معنى الآية {أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، أي: باعدنا بينهما، انفصلت كل مجرة إلى مكانها، فإن الكون فيه مجرات كثيرة جداً تبلغ أكثر من مائة ألف مليون مجرة، والمجرة الواحدة فيها أكثر من مائة ألف مليون كوكب ونجم مثل هذه الشمس التي نراها، فكل هذا كان شيئاً واحداً، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض، وفتق بعضها عن بعض، ثم رفع السماء على الأرض، وكان عرشه على الماء، ثم استوى فوق سماواته سبحانه وتعالى.
{أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، فجعل النجوم تدور في أفلاكها، وكذلك الأرض لها فلك معين تدور فيه، والمجموعة الشمسية كلها تدور بطريقة معينة، فالله عز وجل يصنع ما يشاء في خلقه سبحانه وتعالى.
هذا خلق الله، الذي قال لهؤلاء الكفار: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، انفتق الكون، ومن ثم ربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47]، أي: بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، إذاً: انفتقت الكواكب عن هذه الأرض وسنوسع هذا الكون، وأصحاب الفلك يقولون: إن الكون فعلاً يتسع اتساعاً عظيماً جداً، وإن كل كوكب يدور حول نفسه ويدور حول مركزه، مثل كواكب المجموعة الشمسية، فالشمس تدور وتجري في هذا الفلك كما يشاء الله عز وجل، والأرض وكواكب المجموعة الشمسية تدور كل واحدة حول نفسها ومن ثم تلف حول الشمس في مدار معين.
فقد قال ربنا: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، أي: في فلك يدورون، كما سيأتي كلام الله عز وجل بعد ذلك.(4/10)
آية الماء وأهميته في الحياة
ثم قال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
فالله سبحانه وتعالى يبين هنا حقيقة علمية من قبل ألف وأربعمائة سنة، والآن علماء الطبيعة وعلماء الطب وغيرهم يقررون هذا ويقولون: إن كل شيء مخلوق من الماء.
فالماء هو الأصل في كل شيء، ففي جسم الإنسان قالوا: إن الماء يشكل أكثر من تسعين بالمائة من الجسم، وهكذا بقية الأحياء الحية؛ منها ما يشكل الماء فيه تسعين بالمائة من حجه، ومنها ما يشكل الماء فيه ستين بالمائة وأخرى خمسين بالمائة، وهكذا.
فالله عز وجل خلق من الماء كل شيء فيه حياة، ونحن لم نر هذا الخلق، ولكن من العلماء من بحث عن ذلك فتوصلوا إلى هذه الحقيقة، وهي أن أصل الحياة هذا الماء، ولذا قال تعالى بعد ذلك: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30].(4/11)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ} [الأنبياء:31].
أي: جعل الجبال العظيمة رواسي تثبت الأرض بسبب ثقلها، وقال عنها في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:6 - 7]، أي: جعل الجبال أوتاداً تثبت الأرض، مثل الأوتاد التي تعمل للخيمة من أجل تثبيتها، حيث يجعل أكثره تحت الأرض وقليل منه خارج الأرض لتربط إليه حبال الخيمة، فالله سبحانه وتعالى جعل الجبال ثقيلة راسية وجعلها أوتاداً تثبت سطح الأرض.
وكانوا في الماضي يقولون: إن الجبال هي مرتفعات من الأرض، والآن قالوا: إن التعبير كلام خاطئ، فالجبال ليست مرتفعة من الأرض فقط، بل إن الجبال لها جذور تحت الأرض، وهذه الجذور أطول بكثير من الجبل الظاهر لنا فوق سطح الأرض، فأربعة أخماس طول الجبل تحت الأرض، والخمس فقط هو الذي فوق الأرض.
فالجبال رواسي من أجل أن تثبت قشرة الأرض، هذه القشرة التي سمكها ما بين ثلاثين إلى مائة وستين كيلو متر، ثم تحتها الحرارة شديدة جداً والمعادن ذائبة، وتوجد في باطن الأرض المياه الجوفية وغيرها، وكأن قشرة الأرض عائمة على سوائل تحتها، فلو تركها الله سبحانه وتعالى هكذا فإنها مع دورانها حول نفسها، من اليمين إلى اليسار، أي: عكس عقارب الساعة، ومع دورانها حول الشمس؛ فإن القشرة الخارجية سوف تميل وتضطرب مثل المركب الذي فوق البحر، ولذلك جعل الله عز وجل الجبال أوتاداً تربط قشرة الأرض فلا تميل الأرض ولا تهتز ولا تضطرب.
فالله عز وجل سماها هنا (رواسي) وذكر هناك أنها أوتاد على الأرض.
قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل:15]، يعني: لئلا تميل بكم قشرة الأرض التي أنتم فوقها فلا تستطيعون العيش عليها.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31].
بعد أن ذكر الجبال وأنها رواسي، قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} [الأنبياء:31]، يعني: في هذه الجبال {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، والفج: هو الطريق الواسع الذي بين جبلين، فإذا كان طريقاً ضيقاً فهو الشعب.
فقال هنا: {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:31]، أي: جعل هذه الطرق بين الجبال مسلوكة وليست مغلقة، فإنه سبحانه وتعالى لو جعل الأرض كلها جبالاً لكان السفر والتنقل صعباً على الإنسان، ولكن الله برحمته سبحانه جعل من خلال هذه الجبال فجاجاً، أي: الطرق الواسعة التي يمكنكم أن تسيروا فيها فتبلغوا أماكنكم.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، لو تخيلت أن الأرض كلها جبال، من الأمام والخلف، وعن اليمين واليسار، فإنك لن تستطيع أن تحدد مكانك وأنت تسير، ولكن يجعل الله الجبال ويجعل الشعب الصغير بينها، ويجعل الفجاج، أي: السبل الكبيرة، حتى نستطيع تحديد الأماكن ونهتدي إلى الوصول إلى ما نريد، {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء:31]، يعني: في السير من خلال هذه السبل.(4/12)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32].
السماء سقف محفوظ، يعني: من أن يقع ويسقط على الأرض، وهذا صحيح.
والسماء هو كل ما علاك وأظلك، من نجوم وأقمار وكواكب وغيرها، والسماء الدنيا عالية لا يمكن الوصول إليها، وقد زينها الله سبحانه وتعالى بمصابيح، وهي النجوم، إذاً فكل ما هو موجود في هذه السماء يعتبر سماء بالنسبة لنا، والله عز وجل يمسك هذا بقدرته سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41]، وإن هنا بمعنى: ما النافية، {إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر:41]، يعني: ما أمسكهما، أي: لا يقدر على إمساكهما أحد من بعده سبحانه وتعالى.
فهنا جعل السماء سقفاً محفوظاً قالوا: محفوظاً من أن يقع ويسقط على الأرض، هذا معنى.
وقيل: محفوظاً بالنجوم من الشياطين، يعني: حفظ السماء بالنجوم من الشياطين الذين يسترقون السمع، وهذا المعنى صحيح أيضاً، قال في آية أخرى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر:17].
وقيل: محفوظاً من الهدم والنقض، ومن أن يبلغه أحد بحيلة، أي: لا أحد يستطيع أن يصل السماء ويسترق السمع فيها.
أما قول من قال: إننا وصلنا إلى القمر، فنقول: القمر ضاحية من ضواحي الأرض، فأما السماء فإن بيننا وبين أقرب النجوم إلينا مسافة أربع سنوات ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة كاملة، والضوء يقطع حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة، فإذا أردنا أن نعرف هذه المسافة فنضرب ثلاثمائة ألف كيلو متراً في ستين ثانية نحصل على المسافة خلال دقيقة، ثم نضرب هذه المسافة في ستين دقيقة فنحصل على المسافة خلال ساعة، ثم نضربها في أربعة وعشرين ساعة فنحصل على المسافة خلال يوم، ثم نضرب هذه المسافة في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً فنحصل على المسافة خلال سنة، فسبحان الله العظيم! فالغرض أن الله عز وجل جعل هذه السماء سقفاً محفوظاً، فلا يقدر أحد أن يصل إلى السماء التي فيها أمر الله عز وجل لا بحيلة ولا بغيرها، فلا يصلها إلا من شاء سبحانه وتعالى.
وقيل: سقفاً محفوظاً فلا يحتاج إلى عمد يرفع عليها.
وقيل: ((مَحْفُوظًا))، أي: مرفوعاً، وقيل: محفوظاً من الشرك ومن المعاصي.
كذلك الغلاف الجوي للأرض وهو ما حول الأرض؛ جعله الله سبحانه وتعالى حافظاً لما تحته، فقد حفظ جو الأرض من مصائب كثيرة جداً، منها الإشعاعات التي تأتي من الكواكب التي حول الأرض، ومنها الحجارة الكثيرة التي تنتج من اصطدام المذنبات بالشمس أو بغيرها من الكواكب، حيث يتجه بعضها نحو الأرض فيدخل الغلاف الجوي للأرض ويقوم بإذابتها وحفظ سطح الأرض، وهذه الحجارة كثيرة جداً تقدر بالملايين في اللحظات القليلة.
فالله سبحانه وتعالى من فضله وكرمه جعل احتراقها بسبب سرعتها، فهي تجري بسرعة عظيمة تصل إلى حوالي أربعة وسبعين ألف كيلو متر في الساعة الواحدة، وبعضها يشاء الله عز وجل أن تدخل إلى الغلاف الجوي، فإذا دخلت فإن الهواء يقوم بتقليل سرعتها، وربما بعد ذلك يقوم بإحراقها، أو يصل بعضها إلى الأرض ويعمل حفراً كبيرة، وقد بلغ عدد هذه الحفر أكثر من مائة وعشرين حفرة.
فالله عز وجل يجعل هذه تخترق الغلاف الجوي؛ ليرينا آية من آياته، وهي أنه لو شاء لجعل هذه الملايين من الحجارة كلها تخترق الغلاف الجوي وتنزل على الأرض، ولجعل الإشعاعات الضارة التي تخرج من الشمس تخترق الغلاف الجوي كذلك وتدخل علينا فتؤذينا، ولكن الله سبحانه جعل حولنا سقفاً محفوظاً يحفظ هذه الأرض وهو الغلاف الجوي حولها.
قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر هذه الآيات: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، هم عن آيات الليل والنهار، عن آيات خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الكون معرضون، أي: معرضون عن الله وعن معرفة الله؛ لذلك فهم لم يعرفوا الله جل وعلا، ولم يقوموا بعبادته سبحانه وتعالى، بل أعرضوا عن عبادته فاحتاجوا أن يرسل إليهم رسلاً يدعونهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/13)
تفسير سورة الأنبياء [33 - 37]
كتب الله الموت على كل مخلوق، فجميع الخلائق مرجعها إلى الله، وذلك في يوم الوعيد، حيث يري الله الكافرين جزاء تكذيبهم، ويدخلهم النار فلا يجدون لهم ناصراً، ويبهتون بدخولها فلا يستطيعون ردها ولا يبعدون عنها.(5/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:33 - 40].
أخبر الله سبحانه وتعالى عن آياته الكونية العظيمة حتى يتدبر فيها الخلق، فقال أولاً: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30]، فتق الله عز وجل السماوات بأن فتق السحاب وأنزل الأمطار، وفتق الأرض فأخرج منها الأشجار، وجعلها آية للخلق، وقد بدت هذه الآية بوضوح في هذا الزمان كما ذكرنا، فقد ذكر العلماء أن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ثم فرق الله سبحانه وتعالى بينها وفصل بينها.
ثم ذكر الله آية خلق السماوات والأرض والجبال التي جعلها في الأرض لئلا تميد بهم، وجعل السماء سقفاً محفوظاً، وهذه من آيات الله تبارك وتعالى حتى يتفكر الإنسان المخلوق الضعيف، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] أنت أيها الإنسان الضعيف المخلوق من تراب، هل أنت أقوى أو هذه السماوات وهذه الأرض وهذه الجبال؟ فلم تتطاول على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب ربك؟ لِمَ لا تؤمن به؟ ثم قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنبياء:33]، لو شاء الله عز وجل لجعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، ولو شاء لجعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة، فمن يعكس هذا ويأتيكم بالأمر الآخر؟ لا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فخلق الله هذه الأرض وجعلها راحة للعباد، يستريحون عليها، وجعلها مهاداً وفراشاً، وجعل لهم وسائل الراحة فيها، فإن عبدوا الله عز وجل استراحت قلوبهم، وأنزل عليهم البركات من السماء والأرض كما قال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وسبل الراحة يسرها الله عز وجل لخلقه، فالراحة القلبية هي أهم شيء، ولن يستريح قلب الإنسان أبداً وهو بعيد عن الله، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وخلق الله عز وجل لك ما تستريح به من أرض من سماء من جبال من ثمار من أشجار من أنهار من بحار، خلق لك أشياء كثيرة، ولو أنك عبدت الله لجعل لك فيها رزقاً حسناً عظيماً، وأنزل عليك البركات من السماء ومن الأرض، فانظر إلى آيات الله وقدرته العظيمة، ومنحه الكريمة التي يعطيها لعباده، وتدبر في آيات الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33]، {وَهُوَ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:9 - 10].
فجعل النوم سباتاً تستغرقون فيه فتنسى الدنيا، وتنسى المشاغل، وهذا من فضل الله عز وجل، ولو أصاب الإنسان الأرق لعرف فضل الله عز وجل عليه في النوم، ولعرف قدر النوم، فمن يحرم من النوم كيف يكون حاله؟ سيذهب عقله من شدة احتياجه إلى النوم، وعدم قدرته عليه، فاحمد ربك سبحانه أنك إذا أويت إلى فراشك، ووضعت رأسك عليه، فمن نعمة الله عز وجل أن جعل النوم سباتاً.
وقال الله: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، ولذلك كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم من نومه فيقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)، فجعل الله الليل لباساً، وجعل النوم سباتاً، وجعل النهار نشوراً، جعل النهار ضياءً تبحث فيه عن رزقك، وجعل الليل مظلماً حتى تستريح من عناء النهار، وحتى يستر الله سبحانه تبارك وتعالى على عباده.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الأنبياء:33]، جعل سبحانه آيتين: آية الليل، وآية النهار، فلا الليل سابق النهار، ولا الشمس تسبق القمر وتدركه، كل في فلك يسبحون، أي: يدورون، الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلكه الذي خلقه الله عز وجل له لحكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول العلماء: أول ما خلق الله عز وجل هذه الأرض، كانت تدور بطريقة معينة، تدور عكس عقرب الساعة تدور الأرض وهي في مكانها حول نفسها في محور، وتدور حول الشمس في فلك.
قالوا: وكان الليل أربع ساعات والنهار أربع ساعات، ولم يزل دوران الأرض حول نفسها ودورانها حول الشمس يتباطأ حتى وصلت إلى ما نحن عليه: الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، يزيد الليل فينقص النهار، ويزيد النهار فينقص الليل.
وتظل الأرض على هذا الحال حتى يأتي أمر الله عز وجل وتطلع الشمس من مغربها.
يقولون: والقمر يدور حول الأرض بطريقة معينة وبعد معين، وفي كل سنة يبعد القمر عن الأرض (3سم)، ويظل يبعد حتى يأتي أمر الله عز وجل، حيث يدخل القمر في جاذبية الشمس فيجتمعان كما قال الله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة:9] وحينئذ تقوم الساعة.
ويقول هؤلاء العلماء: الأرض تدور بطريقة معينة، وتباطأت بعدما كان الدوران سريعاً أربع ساعات ليل، وأربع ساعات نهار، فوصل الأمر إلى الحال الذي نحن عليه الآن، وستظل تبطئ من دورانها إلى غاية أنها لا تقدر أن تدور من اليمين إلى الشمال عكس عقرب الساعة، وسيأتي عليها ساعة تكون في دورانها معكوسة، قالوا: وإذا انعكست تطلع الشمس من المغرب ولا تطلع من المشرق، وهذا هو الذي قاله لنا النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن علامات الساعة أن الشمس تطلع من مغربها، فهذا أمر الله سبحانه وتعالى الذي يقول لنا: تدبروا في هذا الكون، وهذا كلام الكفار الذين قالوا ذلك ويصدقون ما في كتاب رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33]، وحسب ما يريده سبحانه تكون الدورة سريعة أو بطيئة، تطلع الشمس من مشرقها أو تطلع من مغربها، فأمر الله عز وجل لابد أن يكون، فهو خالق ذلك، وهو المتحكم فيه، وهو المدبر لأمره سبحانه.
{كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء:33] الفلك هي الخشبة التي في المغزل، والقمر تابع للأرض يدور حولها، والأرض والقمر كلاهما يدوران حول الشمس، والكواكب التسعة التي في المجموعة الشمسية كلها تجري حول الشمس، وكل كوكب في فلك معين جعله الله سبحانه وتعالى له، لا هذا يخرج من فلكه ولا هذا يخرج من فلكه، كل له مدار لا يصطدم بالثاني.
هؤلاء التسعة الكواكب التي تدور حول الشمس قال العلماء: اكتشفنا كوكباً عاشراً أيضاً، وهو يدور حول الشمس، لكن ما رأيناه، إنما الحسابات الرياضية دلت على وجود كوكب عاشر يدور حول الشمس، وهذا الكوكب الذي اكتشفوه بالعمليات الحسابية يدور في مدار بيضاوي أو حلزوني حول الشمس، ويدور في مدار لا يصطدم مع الأرض أو القمر، والمجرة كلها تتحرك في هذا الكون، والله عز وجل يدير هذا كله، ويقول لك: انظر في السماء وتعجب من خلق الله عز وجل.(5/2)
تفسير قوله تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد)
قال الله لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34].
الكفار طلبوا أن يكون الرسول المبعوث إليهم خالداً لا يموت، وكان الكفار يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم: {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30]، هذا شاعر سيموت في يوم من الأيام وننتهي منه ومن دعوته، فالله عز وجل يجيبهم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] يعني: لو مُت الآن فسيحفظ الله دينه، ونور الله لا يطفئه أحد، فالله عز وجل متم نوره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32]، {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
لم نجعل لبشر من قبلك الخلد، مات الرسل ورسالاتهم باقية.
{أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، لو مت فهل هم سيخلدون؟! كلكم تموتون: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، ورسالة الله عز وجل باقية، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وحملها من بعده فهم يبلغونها حتى تقوم الساعة.
وقراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَفَإِينْ مِتَّ} [الأنبياء:34]، وباقي القراء وهم ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر يقرءون: ((أفإن مُت))، والمعنى واحد.(5/3)
تفسير قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت)
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35].
كل ما جعل الله عز وجل فيه روحاً لابد أن يذوق الموت، الإنسان والحيوان والجان، كل ما فيه أرواح خلقها الله عز وجل لابد وأن يميتها ويذيقها هذا الموت، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35].
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
((وَنَبْلُوكُمْ)) أي: نختبركم، فيبتلي الله عز وجل الإنسان بالمصائب التي يراها شروراً، ويبتليه بالكفار وهم أشرار، ويبتليه بالفجار وهم أشرار، ونبلوكم أيضاً بالخير، نمتحنكم، نفتح عليكم الدنيا، نعطيكم من المال، نعطيكم من البنين، نعطيكم من المناصب، نعطيكم من زهرة الدنيا، وهذا بلاء من الله عز وجل.
فالإنسان حين يرى ذلك من الخير أو من الشر عليه أن يصبر لأمر الله سبحانه، وينظر في نفسه، ويحرص أن ينجح في هذا الامتحان، فلينفق المال في الحلال، ينفق على نفسه، على أهله، على ولده، ينفق على الفقراء والمساكين وأقربائه، ينفق كما أمر الله عز وجل في وجوه الإنفاق الشرعية، أما من رسب في الامتحان فإنه يتجه إلى الحرام، يريد أن ينمي ماله بالحرام، يدخل الأموال في الربا، يدخل في المبايعات الخاطئة، يدخل في الرشا، يدخل في الأشياء التي يحرمها الله سبحانه تبارك وتعالى.
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] كله بلاء من الله عز وجل، والمؤمن ينتفع بالنصيحة، فإذا به ينجح في الامتحان، وإذا جاءه الخير رضي بفضل الله وحمد الله سبحانه، وفعل به ما يرضي ربه سبحانه، وإذا جاءته المصائب والأقدار، وجاءته الشرور يصبر لأمر الله، ولا يخرج عن قوله أبداً، ولا يعترض على أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.
الإنسان المؤمن يعلم قول الله سبحانه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فإذا ابتلاك الله عز وجل بشيء لا تقول: لماذا؟ فالله لا يسأل عن شيء، ولكن تسأل الله عز وجل وتقول: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، ولكن الله عز وجل أعلم بالخير.
أم سلمة لما مات زوجها أبو سلمة وكان من أفاضل الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت لا ترى أحداً أفضل منه، وما كان على بالها أبداً أن تكون زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، فلما مات زوجها وبكت عليه، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (قولي: اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، فالسيدة أم سلمة فكرت في عقلها: ومن خير من أبي سلمة؟ في نظرها أنه لا يوجد أحسن منه، ولاشك أنه يوجد أفضل من أبي سلمة، فـ أبو بكر الصديق أفضل منه، وعمر بن الخطاب أفضل منه، وكذلك عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الجميع صلوات الله وسلامه عليه، فهي فكرت وقالت: من خير من أبي سلمة؟! ولكن قالت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، فأخلف عليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان هو الخيرة لها رضي الله تبارك وتعالى عنها، وصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
قال الله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، على الإنسان إذا جاءته الفتنة أن ينظر في أمر نفسه، وينظر في أمر الله عز وجل، ما الذي يريده الله عز وجل منه، فيصبر على الشر، يصبر على البلاء، وإذا كانت الفتنة بالمال أو البنين أو النساء فينظر ما الذي يرضي ربه فيصنعه، وما يغضب الله فيبتعد عنه.
قال: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، هذا تهديد وتخويف من الله عز وجل، يعني: مهما أعطيناك من أمور الدنيا، فأنت راجع إلينا، فانظر بِمَ سترجع إلينا هل أنت متضجر على أمر الله سبحانه؟ هل أنت معترض على قضاء الله وقدره؟ أو أنك راضٍ بقضاء الله، صابر لأمر الله سبحانه تبارك وتعالى؟ فإذا جاءت فتنة المال والبنين فاعمل بما يرضي ربك سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35]، هذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ((وإلينا تَرجِعون)).(5/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً)
قال الله: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36].
كان الكفار حين يرون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يستهزئون به، ويسخرون منه صلوات الله وسلامه عليه، ومرة سجد عند الكعبة صلوات الله وسلامه عليه فوضع بعض السفهاء سلا بعير -كرش بعير مذبوح- فوق ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، وبقوا يستهزئون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه حتى أخرجه الله سبحانه وتعالى من بين أظهرهم، وهاجر إلى المدينة، وعز الله عز وجل الإسلام وجنده بعد ذلك.
قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الأنبياء:36]، (هُزُواً) هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، ((هزواً)) من غير همز، وغيره من القراء يهمزون، وحمزة سيقرؤها كبقية القراء ((هزءاً)) في الوصل، وإذا وقف عليها قال: ((إلاهزاً)) أو إلا ((هزواً)).
{إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36]، يستهزئون به، قائلين: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] يعني: أهذا الذي يسفه آلهتكم، وآلهتهم سفيهة، وهم أدرى الناس بذلك، ويعرفون مدى ما هم فيه من سفاهة، وما آلهتهم عليه من حقارة، ومع ذلك يعصون النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يؤمنون بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:36] كأنهم يريدون أن يكرموا الآلهة، وكان لهم مع آلهتهم مواقف عجيبة جداً، فهم الذين صنعوا هذه الآلهة ومع ذلك يعبدونها، يصنعها المشرك من حجر ثم يقعد يعبد هذا الإله الذي صنعه، فالشيطان طمس على عقل هذا الإنسان، فلا يتفكر في الذي يصنعه، فكانوا يعبدون الأصنام بدلاً من عبادة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
لما هاجر مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه إلى المدينة، وكان يدعو أهل المدينة، قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما من بيت إلا ودخله الإسلام بسبب وجود مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فكان ممن أسلم على يد مصعب بن عمير رضي الله تبارك وتعالى عنه معاذ بن عمرو بن الجموح وعمرو بن الجموح، وكان عمرو سيد بني سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان له صنم يعبده من دون الله اسمه مناة، فمر عمرو بن الجموح على مصعب، وقال: ما هذا الذي جئتمونا به؟ فقال له مصعب: إن شئت جئناك فأسمعناك القرآن، فذهب إليه وأسمعه صدراً من سورة يوسف عليه السلام، فـ عمرو بن الجموح لما سمع ذلك وكان سيداً في قومه قال: إن لنا مؤامرة في قومنا، يعني: نستشير قومنا، فدخل على صنمه مناة وقال له: يا مناة! تعلم والله ما يريد القوم غيرك، فهل عندك من نكير؟ وخلع سيفه وأعطاه، وقال له: دافع عن نفسك فهؤلاء يريدون بك شراً.
أي عقل هذا العقل؟! التمثال هو الذي صنعه من حجر، فكيف يعبده من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، ويقول له: خذ هذا السيف ودافع به عن نفسك! وخرج وترك السيف معه، فدخل ابنه معاذ بن عمرو بن الجموح وأخذ السيف من الصنم، فلما رجع وجد الصنم قد أخذ منه السيف، فعجب لذلك وقال: أين السيف الذي كان معك؟ ويحك إن العنزة لتمنع استها، ثم أوصى أهله بالصنم، وخرج لأمر من أموره، فأخذ ابنه ومجموعة من الفتيان الصنم وربطوه بكلب ميت، ورموا به مع الصنم بين القاذورات، فلما جاء عمرو بن الجموح نظر إليه وهو مرمي مع كلب ميت بين النجاسة فقال: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لمثواك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن يعني عرفنا الآن أنك لا تنفع أن تكون إلهاً، وجمع قومه وقال لهم: ألستم على ما أنا عليه؟ فقالوا له: نعم، أنت سيدنا، قال: فإني آمنت بما أنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، فتابعه قومه فأسلموا.
هذا الرجل العظيم كان أعرج وفي يوم أحد خرج أولاده يقاتلون، وقالوا: نحن نغني عنك، فقال: لا، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصم أولاده، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن قتلت أأطأ بعرجتي هذه الجنة؟ قال: نعم) فقاتل في سبيل الله حتى قتل في ذلك اليوم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والمقصود بيان كيف أن هؤلاء الكفار كانوا يعبدون الأصنام، وهم يعرفون أنها لا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك لنفسها شيئاً! فهذا هو العجب، وليس العجب مما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معنى لتعجبهم من ذلك وقولهم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فالكفر يطمس نور العقول، ويجعل الإنسان ينظر للشيء على خلاف منظره، ويفتن الإنسان بجهله وكفره وحماقته.
وكان رجل من المشركين سادناً لصنم القبيلة التي هو منها وهي بنو سليم، وفي يوم من الأيام وجد ثعلبين صعدا إلى رأس الصنم وبالا عليه، فقال: أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب فكسر الصنم وقال لقومه: هذا ليس إلهاً، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن: (فسأله: ما اسمك؟ فقال: غاوي، فقال: بل أنت راشد)، كان اسمه غاوي بن عبد العزى فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه راشد بن عبد ربه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنعام:10]، يعني: يا رسولنا عندما يستهزئ بك قومك، فأنت لست بدعاً من الرسل، ولكن أنت مثل الرسل الذين من قبلك، وهنا قال: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} [الأنبياء:36] أي: بآيات رب العالمين يكفرون.(5/5)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل)
قال الله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37].
خلق الله عز وجل الإنسان من ضعف، فهو ضعيف وفي طبيعته أوصاف من الأوصاف التي أمر أن يقاوم هذه الأوصاف التي فيه، ففي طبيعته الشح والبخل، وأمره بالإنفاق، ولو لم تكن في طبيعة الإنسان الشح لما أمر أن ينفق أصلاً، وخلق الله في قلب الإنسان شهوة حب المال، وحب النساء، وحب البنين، وأمره أن يقاوم ذلك ويهذبه، فيحب ما أمر الله عز وجل به، فيتزوج ويأتي امرأته في حلال، وحرم عليه الزنا، وحرم عليه الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالشريعة جاءت لتهذب الإنسان.
ومن ضمن ما فُطر عليه الإنسان العجلة، قال الله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ففي طبيعة الإنسان التسرع والاندفاع، وأمر بالحلم وعدم الطيش وعدم التهور، وأمر أن يمسك نفسه، ففي مسند أبي يعلى بسند حسن من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التأني من الله والعجلة من الشيطان، وما من أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحمد).
وفي قصة أشج عبد القيس لما وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأصحابه عندما قدموا المدينة أسرعوا لينظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلوا من الرحال وأقبلوا على النبي صلى الله عليه وسلم مسرعين، لكن هذا الرجل تأخر قليلاً، فخلع ثياب السفر، وتنظف ولبس ثياباً نظيفة، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، يعني: عندك حلم، وعندك أناة، فهذان خلقان يحبهما الله عز وجل من العبد: أن يكون حليماً متأنياً.
قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] المعنى: ما كان يستعجل به الكفار من قولهم: ربنا آتنا قطنا، آتنا العذاب الذي تتوعدنا به! كقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال:32].
قال الله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] اصبروا، انظروا آيات الله عز وجل في الكون، وانظروا آيات الله عز وجل التي ينزلها على من يكفر وكيف يعذبه، {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37].
فعلى الإنسان ألا يتعجل، فهو مأمور بمقاومة العجلة، لكن ليس التأني في كل شيء، فأمور الخير يأمرنا الله عز وجل أن نسابق ونسارع إليها، وقد جاء في سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة)، فعلى الإنسان أن يكون حليماً متأنياً في كل شيء إلا في عمل الآخرة، فلا يؤجل عمل الآخرة، إذا جاء وقت الصلاة يقوم يصلي، إذا جاء وقت العمل يقوم يعمل، إذا جاء وقت أمر بمعروف أو نهي عن المنكر، فلا يسوف، ولذلك قال الله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]، فتسعى إلى الصلاة بمعنى تهتم بذلك وتتوجه كما أمرت، وليس المعنى أن تجري، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجري إلى الصلاة فقال: (إذا أتيتم إلى الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا).
وفي الآية الأخرى قال الله عز وجل: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء:11]، فالإنسان متعجل يريد الخير سريعاً، يريد المكسب السريع، يريد الدنيا بسرعة، من العجلة الشيطان، فالإنسان الذي يريد المكسب السريع يدله الشيطان على الربا، ويدله على الرشوة، ويدله على السرقة، ويدله على أكل مال اليتيم، ويدله على أكل الحرام، ويدله على الشرور، فلا تعجل ورزقك سيأتي، ولكن سارع للخيرات كما أمرك الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يعييننا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى حبه سبحانه تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(5/6)
تفسير سورة الأنبياء [37 - 47]
أخبر الله عز وجل في العديد من آياته في القرآن عن بعض مشاهد يوم القيامة، وما يكون فيها من أهوال فظيعة، لا يقدر الإنسان على تحملها؛ وذلك من أجل أن يستعد الإنسان لذلك اليوم، ويعمل له، ويأخذ أهبته لملاقاته بما يستطيع من أعمال صالحة.(6/1)
تفسير قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم السلام: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون * قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ * بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ * قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ * وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:37 - 47].
يخبرنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى هنا عن خلق الإنسان، وكيف أنه خلق ضعيفاً، وفيه التهور والعجلة والاندفاع والطيش.
قال تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، أي: في تركيبه وخلقه، ففيه تهور واندفاع وعجلة إلى الشيء.
وعندما أمرنا الله سبحانه أن نكون حلماء، وأن يكون عندنا صبر، كان لابد أن يجعل في النفس ما يدافع ذلك فلو أن طبيعة الإنسان الحلم لما أمره الله عز وجل بالحلم، ولو أن طبيعة الإنسان لا توجد فيها شهوة لما نهاه الله عز وجل عن الزنى.
فطبيعة الإنسان ركبت فيه الشهوة الغضبية فتجده يندفع، وركبت فيها الشهوة الجنسية فيحب أن يتزوج أو أن يقع في الحرام، والله عز وجل يريد تهذيب شهوات الإنسان، فأمره إذا غضب أن يكون غضبه لله سبحانه وتعالى، وإذا سارع واستعجل أن تكون مسارعته في الخير وليس في الشر.
وأما التهور والاندفاع إلى الحرام فقد هذبها الله في الإنسان وقال له: أنت مخلوق من عجل، أي: فيك عجلة وتهور واندفاع وطيش، فهذبها بالتعلم وبالتحلم.
والإنسان لن يكون حليماً بين يوم وليلة، ولكن بالتأني شيئاً فشيئاً، وبفضل الله عز وجل عليه يصبح صبوراً حليماً.(6/2)
بيان فضل التأني والحلم
فربنا يخبرنا عن خلق الإنسان أنه خلق عجولاً.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان).
فإذا كان العبد متأنياً فهذه هبة من الله عز وجل، والعجلة من الشيطان ومن وسوسته، فإنه يظل وراء الإنسان إلى أن يجعله متهوراً ومتعجلاً، فيندفع في القول الذي لا يريد أن يقوله ويقع في الحرام.
وفي الحديث: (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من غضب الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً).
وقد يندفع الإنسان في الكلام فيقع في الكفر والعياذ بالله، وقد يندفع فيطلق امرأته مع اندفاعه، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالحلم وقال: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37].
فتصبر.
وهذه الآية يرد فيها الله سبحانه وتعالى على الكفار الذين كانوا يتعجلون العذاب، ويقولون: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16]، ويقولون: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
فجهلهم وطيشهم دفعهم لتعجل الانتقام، وتعجل العذاب من عند الله.(6/3)
وعيد الله للمشركين تحقق في بدر
فقال لهم الله: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} [الأنبياء:37] أي: لا تستعجلوا، فترون هذه الآيات.
وكان من آياته العظيمة ما حدث لهم في يوم بدر، فقد جاءوا بعددهم وعُددهم، وجاءوا بحدهم وحديدهم؛ لمحاربة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والإجهاز على هذا الدين.
فلما جاءوا وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم لشيء آخر، ولم يفكر أنهم سيأتون بهذا العدد.
وكان قد خرج لأخذ عير قريش، فلما وصل إلى أرض بدر علم أن قريشاً قد تجهزت وخرجت للقائه صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلث عدد الكفار، فكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً.
وأما العُدد التي كانت معهم فقد كانت عُدد تكفيهم لأخذ القافلة فقط، وليس لمقاومة جيش، فإذا بهم يجدون أنفسهم فجأة أمام هؤلاء، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيهم، فأجابه هؤلاء الصحابة الأفاضل وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم، وأنهم سيثبتون، وقالوا له: إنك لو أمرتنا أن نمشي حتى نأتي برك الغماد لأتيناها ولا نعصيك في أمرك.
وقالوا له: امض لأمر الله ونحن معك.
وقد أراهم الله سبحانه تبارك وتعالى الآيات العظيمة، فإن الكفار وفيهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وغيرهم من كبار الكفار، جاءوا ومعهم جنود الكفر في زهو وفي غرور يريدون أن يستأصلوا شأفة الإسلام والمسلمين.
فلما قدموا إلى بدر أراهم الله عز وجل آياته العظيمة، فقد كانت الملائكة تنزل من السماء ويراها الكفار تقاتل مع المؤمنين فقد كان المؤمن يرفع سيفه ليضرب به رأس الكافر فيسبقه سوط الملك في ضربه، فتخضر عين الكافر من ضربة الملك عليها قبل أن يصل إليها سيف الإنسان المسلم، فأرى الله عز وجل آياته للفريقين، للمؤمنين ليثبتوا، وللكفار ليريهم الذي كانوا يتعجلونه.
(ولذلك وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى بدر من المشركين ونادى عليهم، فنادى على أبي جهل وعلى الوليد بن عتبة وعلى عتبة بن ربيعة وعلى شيبة بن ربيعة، وقال لهم: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم؟ حقاً؟! فقال له عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما تسمع من أجساد قد جيفت -يعني: صاروا جيفاً في القليب، فقال: والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لي منهم)، يعني: هم يسمعون أكثر مما تسمعوني؛ فقد عرفوا الحق من عند الله سبحانه، وأراهم آية من آياته.
فقال لهم الله في هذه السورة المكية: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37]، أي: فعلى ماذا تستعجلون؟ فكان حتفهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية، وقتل كبرائهم من مشيخة قريش الكفرة.
وفي قوله تعالى: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء:37] قراءتان، قرأها الجمهور بنون مكسورة في آخرها، فإذا وصلوها قرءوها: {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الأنبياء:37 - 38].
وقرأها يعقوب في الوقف والوصل بالياء في آخرها (فلا تستعجلوني)، يعني: لا تعجلوا عليّ بالطلب، فإني قد أمرت، وما أردته فهو كائن وحاصل بكم.(6/4)
تفسير قوله تعالى: (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين)
قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنبياء:38].
أي: متى يوم القيامة؟ فالسؤال الذي دائماً كان يسأله الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين قولهم: أنتم تخوفونا بيوم القيامة، والخروج من القبور، والعرض على ربنا، فلماذا لم يأت؟ ومتى هذا الوعد؟ وخاصة عندما قال الله لهم في سورة النحل وهي مكية: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1].
فيقولون: أين هذا الذي أتى؟ فما جاء هو ولا غيره.(6/5)
تفسير قوله تعالى: (ولو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار)
قال الله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء:39].
وفي هذه الآية شرط، ولم يأتي بجوابه؛ لنتخيله نحن.
قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39]، ولو علموا فمستحيل أن يتمنوا ذلك اليوم، ولخافوا وذعروا وارتعبوا ولآمنوا.
وهذا هو الجواب الذي سيكون لهذا الشرط، أي: لو يعلمون ذلك لآمنوا.
فلو علموا علم اليقين ورأوا هذا الشيء أمامهم ماثلاً يوم القيامة ورأوا العذاب لقالوا: آمنا، ويندمون ولا ينفعهم ندمهم.
قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} [الأنبياء:39].
ويكفون من كف الشيء، يعني: يستخدم كفه في صده وكفه، ومنه: يتكفف الناس، ويستكف الناس، يعني: يطلب من الناس بكفه.
فالإنسان عندما تأتي عليه مصيبة أو تأتي عليه نار أو يأتي عليه شيء فإنه يدفعه ويكفه بيده قال تعالى عن أهل النار: ((حين لا يكفون عن وجوههم عن النار))؛ لأن أيديهم فيها السلاسل والأغلال.
فعندما تأتي النار على وجوههم لا يقدرون على صدها ومنعها عن أنفسهم شيئاً.
ففي الدنيا يطفئ الإنسان النار بيده، وأما في يوم القيامة فلا يقدر على ذلك، قال تعالى: {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39].
وذكر الوجوه والظهور؛ لأنهم كانوا يكلحون بوجوههم للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نظروا إليه نظروا إليه بغضب، ويكلحون في وجهه، ثم يعترضون عليه ويعطونه ظهورهم، فلا يؤمنون ولا يصدقون.
فقد كان الكافر عندما يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقابله بوجه عبوس، فيوم القيامة تأكل النار وجه هذا الإنسان الذي عبس به للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم ظهره، واتخذ هذا القرآن مهجوراً، وجعله وراءه ظهرياً.
فهم بدلاً من أن يعطوه وجهاً حسناً، ويطلبون العلم منه، ويتعلمون هذا الدين العظيم أعرضوا، فكان جزاؤهم أن النار تأكل وجوههم وظهورهم وأبدانهم.
قال الله سبحانه: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء:39].
فلا هو يقدر أن يكف النار عن نفسه بيده، ولا أحد من الناس يغيثه وينصره ويأخذ ما به من نار وغيرها.
فيوم القيامة يصرخ هذا الإنسان، ولا أحد يجيره وينصره من الله سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: {لا يَكُفُّونَ} [الأنبياء:39]، أي: لا يستطيع هو أن يزيل هذه النار، ولا أحد ينصره.
قال تعالى: ((بَلْ تَأْتِيهِمْ))، أي: الساعة {بَغْتَةً} [الأنبياء:40]، وإن لم تكن القيامة فستأتيهم ساعتهم بغتة.
وساعة الكافر وقت خروج روحه، فيرى ملائكة الجحيم، سود الوجوه، ومعهم مسوح من النار، وحنوط من النار، وأكفان من النار، ويقولون: اخرجي يا روح الكافر.
فيرتعد هذا الإنسان الكافر فتتفرق الروح في جسده من شدة الرعب، فينتزعها الملك كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتتمزق وتتقطع منه العروق والعصب، كما يشبهها النبي صلى الله عليه وسلم بانتزاع السفود الذي هو مليء بالشوك من الصوف المبلول.
فإذا جاءت ساعتهم ((بغتة))، أي: فجأة {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء:40] أي: تصدمهم الساعة حين تأتيهم.
والبهت: الشيء المفاجئ الذي يدهش ويحير الإنسان، فيجلس محتاراً لا يعرف رأسه من رجليه.
فكذلك هؤلاء تأتيهم الساعة، أي: يوم القيامة.
أو تأتيهم الساعة يعني: يومهم وميقاتهم وموعدهم وموتهم، فإذا بهم مبهوتون متحيرون لا يقدرون أن يعملوا شيئاً، كالإنسان المبهوت يجلس متحيراً، فاتحاً فاه لا يعرف يتكلم بشيء، ولا يقدر أن يدفع عن نفسه، فكذلك هؤلاء تأتيهم الساعة فجأة من حيث لا يحتسبون ولا يظنون.
{فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: فلا يستطيعون رد الساعة.
{وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [الأنبياء:40]، أي: لا يمهلون، فلا يوجد تأخير ولا إمهال ولا توبة ولا غيرها.(6/6)
تفسير قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك)
قال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41].
يعني: إن الاستهزاء ليس أمراً جديداً، فاصبر ولا تكن عجولاً كعجلة هؤلاء ولا تطلب من ربك سبحانه ما لم يأتِ الآن، ولكنه سيأتي بعد ذلك.
فقال له ربه: لقد استهزئ بمن قبلك من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فاستهزأ بهم أقوامهم فكانت النتيجة ((فحاق))، يعني: نزل بهم نزول إحاطة، وقد يمكن لشخص إذا أتى له شيء من العذاب أن يهرب، وأما هذا فلا؛ لأنه أحاط به العذاب ودار به فلم يستطع أن يهرب منه.
قال تعالى: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنبياء:41]، أي: بالذين سخروا من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأنبياء:41].
كما قال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فهم سخروا واستهزءوا من وجود البعث والنار والعذاب، فيقول لهم: هذا الذي كنتم تسخرون منه وتستهزئون به قد أحاط بكم فلا تقدرون على الفرار منه.(6/7)
تفسير قوله تعالى: (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن)
قال تعالى آمراً نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يقول لهؤلاء المشركين: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42].
والكلاءة: الحفظ والحراسة.
يعني: من يحرسكم فيمنعكم من الله عز وجل ليلاً أو نهاراً، ومن ينصركم ويدافع عنكم إذا جاء أمر الله سبحانه؟ قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ} [الأنبياء:42] أي: من يحفظكم ويحرسكم ويصونكم من بأس الله وقوته وقدرته سبحانه تبارك وتعالى؟ {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنبياء:42].
فلا يستطيع أحد أن يحميكم من الله عز وجل في أي وقت من ليل أو من نهار.
قال تعالى: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:42]، أي: بل هم عن هذا القرآن الذي فيه ذكر الله عز وجل وفيه التذكرة بآياته عز وجل، ((معرضون))، أي: قد أعطوه ظهورهم، فلذلك أكلتها النار يوم القيامة، {حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء:39].(6/8)
تفسير قوله تعالى: (أم لهم آلهة تمنعم من دوننا)
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأنبياء:43].
أي: أضرب عن هذا، بل ألهم آلهة؟ فـ (أم) هي المنقطعة التي تقدر بـ (هل) أو (بالهمزة)، و (بل)، فيكون المعنى: بل ألهم آلهة من دون الله عز وجل ينصرونهم ويحفظونهم ويمنعونهم؟ وهل هذه الآلهة (الأصنام) إذا نزل عذاب الله تستطيع أن تدافع عنهم؟ وهم أعلم الناس بأن الأصنام لا تدفع عن نفسها فضلاً عن أن تدفع عن غيرها فهل لهم آلهة تمنعهم من بطشنا، وتدفع عنهم عذابنا؟ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43].
أي: لا الآلهة تستطيع أن تنصر نفسها، ولا هؤلاء الكفار يقدرون أن ينصروا أنفسهم، {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43]، أي: ولا هم منا يمنعون ويجدون من يصحبهم فيرفق بهم، ويجيرهم من الله سبحانه تبارك وتعالى.
فكأن المصاحبة هنا مثل الإنسان عندما يخاف من قوم يهرب منهم، وعندما يحب أن يرجع إليهم يأتي بشخص معه يصحبه ويدخل معه، فيدخل في جوار فلان الذي أجاره، فيكون معنى قوله: {وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء:43] لا يجيرهم أحد من عذابنا.(6/9)
تفسير قوله تعالى: (بل متعنا هؤلاء وآباءهم)
قال الله سبحانه: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44].
يعني: كأن الذي جعلهم يستكبرون ويتعالون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين هو أنهم متعوا، أي: أعطاهم الله عز وجل في الدنيا المال والبنين، وأعطاهم من فضله ومن كرمه سبحانه، فإذا بهم يتطاولون على ربهم سبحانه وعلى رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أي: إننا متعناهم وبسطنا لهم من الرزق هم وآبائهم حتى اغتروا بهذه الدنيا.
كما قال تعالى: {حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44]، يعني: طالت أعمارهم في النعمة، وعمروا السنين الطويلة في النعم.
وقد قال تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:1 - 2].
فقوله: {لِإِيلافِ} [قريش:1]، أي: ألفوا ذلك.
وقد كانوا يذهبون صيفاً إلى الشام وشتاءً إلى اليمن، ويأتون برزقهم الذي ساقه الله عز وجل إليهم، وهم أهل الحرم، وقد أمنهم ربنا سبحانه وتعالى وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].
فجعلهم في أمان، وجعل لأهل الحرم مكانة وسط العرب، وجعل لهم رحلتين، يأتون فيهما بالأرزاق يميناً وشمالاً من اليمن ومن الشام، وأمنهم وأعطاهم الثمرات، وجعل بلدهم بلداً آمناً يجبى إليه من كل الثمرات، كما قال تعالى: {رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} [القصص:57].
وأراد منهم أن تكون النتيجة كما قال: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فكان جزاء إحسان الله أن عبدوا غيره سبحانه وتعالى، فمتعهم وأعطاهم وقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
وقال سبحانه هنا: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} [الأنبياء:44]، أي: في النعمة.
وقالوا: نحن كنا في نعمة وكذلك آباؤنا، فافتخروا بذلك.
وأوصلهم افتخارهم أن وصلوا إلى المقابر يفتخرون بعظام الموتى.
قال الله عز وجل: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
والتكاثر: المفاخرة والافتخار، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، فتلهوا بذلك، وقالوا: نحن أكثر عدداً منكم، وانظروا إلى آباءنا الذين ماتوا كانوا أكثر من آبائكم، وقبيلتنا أكبر من قبيلتكم.
قال تعالى: ((حتى طال عليهم العمر))، أي: في الفخر في نعمة الله، وظنوا أن الذي أعطى النعمة لا يأخذها، فجحدوا نعم الله عز وجل واستكبروا على خلق الله سبحانه.(6/10)
تفسير قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون)
قال الله سبحانه: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44].
وكأنه هنا يذكر الكفار بقدرة الله سبحانه على تبديل الأحوال، من حال إلى حال آخر، وهم يرون تنازع الفرس والروم على الأرض، وهما أكبر بلدين موجودين وأكبر إمبراطوريتين.
قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:2 - 4].
والله عز وجل يأتي بجنود من مكان فيغلبون الجنود الذين في المكان الآخر، وتصبح الأرض التي في يد الأول بيد الثاني، فتقصر الأرض من جهة وتطول من جهة، أفلم يرَ الكفار مثل ذلك، بأن الله يأتي الأرض فينقصها من أطرافها؟ فقد يكون الإنسان يملك ممالك كثيرة فيأتي عليه جيش من أعدائه فيأخذ نصف ما بيده أو أكثر، فتضيع مملكته أو كثير منها، وتصير من حق الآخر.
فإذا كانت الدنيا دول تدول وتضطرب وتتغير مرة مع هؤلاء، ومرة مع هؤلاء، فمن الذي يعصمكم أنتم من الله؟ فقد تطاولتم وكنتم في النعم، أفلا تخافون أن يأخذ الله عز وجل منكم هذه النعم؟ فكأنه يذكرهم بالنظر إلى ما حولهم، من أن الأرض قد يملكها إنسان ثم فجأة يأخذها غيره، والعرب كانوا يعرفون ذلك حين يغير بعضهم على بعض، وتغير القبيلة على قبيلة ثانية وتأخذ ما بأيديهم، ثم ترجع الثانية تغير عليهم وتسترد ما أخذوه، فتكون الأموال بأيديهم ثم فجأة تصير إلى آخرين، ثم فجأة ترجع إليهم، فتكون الدنيا دولاً فلا يغتر الإنسان بالدنيا التي معه.
وهذا معنى من المعاني الواردة في الآية، فكأن معنى: {نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41].
أي: بالقتل والسلب والغصب وأخذ أموال البعض وإعطائها للبعض الآخر.
فهذه آية كانوا يرونها أمامهم.
وقالوا: إن من معاني هذه الآية: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44].
إن الأرض كلها كفر، ثم ظهر الإسلام، وبدأ الإسلام غريباً، ثم زاد الإسلام وزاد جنوده، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جاء الجهاد في سبيل الله سبحانه وانتصر المسلمون على الكفار، وفتحت الأرض أمامهم، فزادت أرض المسلمين وقلت أرض الكافرين، ثم فتح المسلمون مكة، وفتحوا ما حولها من البلدان، ودانت لهم الحجاز جميعها، ثم توجهوا إلى الشام فاتحين، ثم توجهوا إلى الجنوب وإلى الشرق وإلى الغرب، وفتح الله عز وجل من فضله ومن كرمه على المسلمين؛ فأصحاب هذا القول يرون أن الآية نزلت في مكة قبل الفتوحات.
والقرآن صالح لكل زمان ومكان، والله عز وجل يأتينا بالمعنى الذي يفهم في وقت على معنى، وهو معنى صحيح، ثم يجد الأمر، ويجد أمراً أمامه، فيقول للكفار الموجودين: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، فيجدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن البقاع التي في أيدي المسلمين تزيد، والتي في أيدي الكفار تقل، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن يأتي أمر الله سبحانه، ولا يترك الله عز وجل بيت حجر ولا مدر إلا ويدخله هذا الدين العظيم، وهذا معنى من المعاني.(6/11)
الإعجاز العلمي في قوله تعالى: (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)
وعلماء الفلك لهم معنى آخر إضافة إلى ذلك، وهو ليس إلغاء لهذا المعنى؛ لأن المعنى الذي ذكروه هو معنى عُرف الآن، ولم يكن معروفاً من قبل ألف وأربعمائة سنة، فهم الآن حين يكتشفون شيئاً، فهذا دليل على أن هذا القرآن العظيم معجز، فهو في كل وقت يفهم على معنى صحيح موجود فيه، ولا يأتي معنى يلغي معنى آخر، فلا يكون المعنى الذي اكتشفه العلم الآن يلغي المعنى القديم، وإنما المعنى القديم على ما هو موجود، وهو معنى صحيح.
فعلماء الفلك يقولون في قوله تعالى: {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الأنبياء:44]، إن الأرض يحدث لها انكماش دوري، فعندما تنفجر البراكين في داخل الأرض تخرج الغازات من داخلها، وتخرج المواد الموجودة في داخل الأرض، فيصير مكان البركان فارغاً في الداخل فتنكمش الأرض على نفسها.
وهذا كلام الدكتور زغلول النجار، وكلامه جميل جداً في هذه الآيات الكونية، ففي كلامه أشياء عظيمة جداً وجميلة، وتفسيرات جميلة.
وإن كنا نقول: إنه ليس معنى كون هذا التفسير صحيحاً أنه يلغي التفسير الماضي؛ لأنه لا يمكن أن تكون الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة ماضية تفسر هذه الآية على معنى خطأ لا يفهمونه من القرآن، ولكن هي معان صحيحة، وإنما يضاف معنى إلى معنى، ويظهر الله عز وجل ما يجد من أشياء.
فيذكر لنا أن الأرض تنكمش على نفسها باستمرار، فنقصانها من أطرافها يكون في انكماشها.
ويذكر أنهم اكتشفوا: أن هذه الأرض كان حجمها ألفي مرة قدر حجمها الآن.
فهي تنكمش على نفسها شيئاً فشيئاً؛ بسبب البراكين والزلازل وما يخرج منها، فتنكمش الأرض على نفسها بذلك، فهذا معنى من المعاني التي يذكرها علماء الفلك في ذلك.
ومن المعاني التي يذكرها علماء الفلك في الآية أنهم يقولون: عوامل التعرية تأكل من قمم الجبال، من الهواء وغيره، وتنزل فيه منخفضات وترفع فيه أخرى، ويقولون: إن وزن العمود الصخري وهذا كلام الدكتور زغلول أيضاً، من مركز الأرض إلى أي نقطة على سطح الأرض لابد أن يكون مستوياً في كتلته مع كل عمود على أطراف الأرض جميعها.
فإذا جاءت عوامل التعرية وأخذت من فوق الجبال ونزلت على المنخفضات، فإنه يحصل نوع من عدم التساوي.
يقول: ولو طغى الأمر على ذلك مع دوران الأرض حول نفسها، ودورانها حول الشمس فإن القوة الطاردة المركزية تطير الأشياء التي هي أثقل وزناً حتى تعود الأرض إلى ما كانت عليه ويجعل الله عز وجل شيئاً آخر عوضاً عما ذهب بسبب عوامل التعرية، وهي البراكين التي تخرج من الأرض، فتعيد التوازن إلى سطح الأرض مرة ثانية، فهذا إنقاص للأرض من مرتفعات، وإعلاء لمنخفضات غيرها، فيتغير الأمر، وتتساوى كل الأعمدة الصخرية التي في الأرض.
وهذا معنى من المعاني التي يذكرها علماء الفلك.
ثم يقول الله عز وجل: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]؟ يعني: إذا رأوا أننا نصنع ذلك بالجبال، ونصنع ذلك بالبراكين التي لا يقدرون أن يقاوموها، ونصنع ذلك بالأرض فنجعلها دولاً للناس مرة في يد فلان ومرة في غيره، أفهم يغلبوننا؟ وهم قد أشركوا بالله تبارك وتعالى، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً، وهو الذي يملك هذه القدرة العظيمة، أفهو الذي يغلب؟ قال تعالى: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الأنبياء:44]؟
و
الجواب
مستحيل أن يكونوا هم الغالبين، وقد رأينا كيف صنع ما صنع بهؤلاء المتكبرين.(6/12)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)
ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45].
أي: بهذا القرآن، الذي جاء بالمواعظ، وجاء فيه التهديد والوعيد، وجاء فيه التشريع من رب العالمين، وجاء فيه التذكرة بقصص الأولين، وما يكون من أمر الساعة.
قال تعالى: {إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45].
يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء صمت آذانهم فلا يسمعون، ولن ينتفعوا بهذا الدعاء الذي تقوله.
يقول تعالى: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} [الأنبياء:45]، أي: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء، فهم مثل الأصم، ومهما ناديت الأصم من قريب أو من بعيد لا يسمعك، وكذلك هؤلاء في آذانهم وقر، فلا يسمعون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم سمع إجابة.
وهذه قراءة الجمهور: {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} [الأنبياء:45].
وقرأ ابن عامر: (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون)، يعني: أنت لا تسمع الأصم.
والصم: جمع الأصم.
فلا تسمع هؤلاء الذين لا يسمعون ولا ينتبهون إليك، طالما أن الله غلف على قلوبهم، فهم لا يفقهون ولا يفهمون.(6/13)
تفسير قوله تعالى: (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك)
قال تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ} [الأنبياء:46].
والنفخة الشيء اليسير، ومنها نفحة المسك.
فلو أن شيئاً من عذاب الله عز وجل مس هؤلاء لصرخوا وقالوا: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46]، أي: لئن مسهم شيء يسير من عذاب الله؛ ليقولون معترفين بظلمهم: {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:46].
ولكن قولهم هذا لا يقولونه إلا عندما يأتيهم العذاب، وإذا جاءهم العذاب لا ينفعهم هذا القول مهما ندموا ومهما تابوا.(6/14)
تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47].
ويوم القيامة يعرض ويظهر ما كان خفياً في الدنيا.
وأعمال العباد التي كانت معنوية صارت مجسدة حقيقية يوم القيامة، وتوضع فوق الميزان، وكل إنسان له ميزانه، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، أي: الموازين العادلة، والموازين جمع ميزان.
والقسط مصدر، ولذلك يوصف به المفرد، فيقال: الميزان القسط، ويوصف به المثنى، فيقال: الميزانان القسط، ويوصف به الجمع فيقال: الموازين القسط؛ لأن القسط مصدر، فيوصف به في الإفراد والتثنية والجمع بنفس الصورة.
قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [الأنبياء:47].
وحبة الخردل أقل الحبوب وزناً.
قرأها نافع وأبو جعفر (وإن كان مثقالُ)، وقرأها الجمهور: ((وإن كان مثقالَ حبة))، أي: وإن كان عملك مثقال حبة.
وعلى القراءة الأخرى: (إن كان مثقالُ حبة من خردل) يكون المعنى: وإن وجد مثقال حبة من خردل.
{أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، فهذه أقل الأعمال لا يضيعها الله عز وجل، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
قال سبحانه هنا: {أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، أي: أحضرناها في يوم القيامة.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وأنت لن تقدر أن تحسب ما يحسبه الله سبحانه، ولا أن تعد ما يعده الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، أي: نحسب عليكم أعماركم وأعمالكم وأقوالكم ونواياكم، ونحسب عليكم كل ما صنعتم ونحاسبكم ونجازيكم عليه الآن.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/15)
تفسير سورة الأنبياء [47 - 63]
ذكر الله عز وجل قصص الأنبياء والرسل في القرآن العظيم للعظة والاعتبار، والتفكر في آيات الله وسننه في المكذبين لرسله، وحتى يتعظ المؤمن فيصبر في سبيل الله كما صبر الأنبياء والمرسلون، ومن هؤلاء الأنبياء موسى وهارون وإبراهيم عليه الصلاة والسلام.(7/1)
تفسير قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:47 - 64].
يخبرنا الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن وضع الموازين بالقسط ليوم القيامة، وكل إنسان له ميزان يوزن عليه عمله يوم القيامة، ولذلك جمعها هنا، وذكر أنها الموازين القسط، أي: الموازين العادلة، وقال: إن وضع الميزان القسط يكون في يوم القيامة.
يعني: إن الموازين العادلة تكون يوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئاً، والنكرة هنا تفيد العموم، أي: إنه لا تظلم نفس من أعمالها ولو شيئاً يسيراً، حتى وإن كان هذا الشيء مثقال حبة من خردل، والخردلة أصغر الحبوب على الإطلاق.
قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47]، أي: جئنا بها يوم القيامة، حسنة كانت أو سئية.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: نحسب عليكم ما تفعلونه، ونحاسبكم به يوم القيامة.
وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قعد بين يدي النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: يا رسول الله، إن لي مماليك يكذبونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم؟ أي: إن هذا الرجل عنده مماليك فيهم الشرور، فهم يكذبون ويخونون ويعصون سيدهم، وهو يرد ذلك بأن يشتمهم ويضربهم، فهو يسأل عن أمره معهم يوم القيامة، فالرجل خائف من الحساب؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم)، يعني: يوم القيامة.
قال: (فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل).
إذاً: فالإنسان الذي يملك مملوكاً ليس مصرحاً له أن يعمل فيه ما يريد، وسيحاسب يوم القيامة على ما عمل فيه، وعلى قدر ما صنع في هذا المملوك الذي يملكه.
وكذلك الحيوان الذي يملكه الإنسان إذا ضربه بقسوة وشدة، فيوم القيامة يأخذ الله عز وجل هذا الإنسان، ويحاسبه على ما صنعه بالحيوان، بل إن الحيوانات يقتص الله عز وجل لبعضها من بعض، فيقتص للجلحاء من ذات القرن يوم القيامة.
فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للرجل، تنحى الرجل فجعل يبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما تقرءون كتاب الله؟ أما قرأت هذه الآية: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47]، فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم أحرار)، فتخلص منهم بهذه الصورة، وحررهم لله عز وجل، وكان من الممكن أن يبيعهم ويأخذ ثمنهم، ولكن الرجل خاف من الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، ولم يعلم هل الشتم والضرب أكثر أم الذي فعلوه أكثر؟ فحررهم وتخلص من أمرهم.
فعلى الإنسان الذي ينظر في غده، ويخشى من حساب يوم القيامة، فيحاسب نفسه على كل عمل عمله، فيوم القيامة توضع الموازين بالقسط، فلا رشوة ولا مجاملة لأحد، ولكن إن كان العمل صالحاً نجا، وإن كان سيئاً هلك، فعلى الإنسان أن ينظر في أعماله، فإنه سيحاسب عليها يوم القيامة.
وكم من إنسان يضحك ويلعب ويلهو، وينسى الموقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، وأنه سيسأل عن مثقال الذرة.
قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
فقد ينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً؛ لأن هذه الكلمة تغضب الله تبارك وتعالى.
وقد ينسى الإنسان فيمزح بكلمة ويظن أنها سهلة، وهي عند الله عظيمة، وهذه السيدة عائشة تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا، تشير بأنها قصيرة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) يعني: أنها كلمة في غاية المهانة والقذارة، لو مزجت بماء البحر -الذي هو الطهور ماؤه الحل ميتته- لمزجته أي: لخلطت ماء البحر وأفسدته، ولو أن الإنسان اطلع على الغيب لرأى هول ما يقوله ويقع فيه من آثام وشرور، فليحاسب الإنسان نفسه على ما يقول، وعلى ما يظن، وعلى ما ينوي، وعلى ما يفعل.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء:47] أي: حفظناها يوم القيامة.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] أي: وكفى بنا حاسبين على الإنسان يوم القيامة.
وعندما يعترض المنافق على ربه سبحانه ويأبى ألا يشهد عليه أحد إلا من نفسه، ينطق الله عز وجل جل أعضاءه فتنطق أعضاؤه بما كان يصنع في الدنيا، فتنطق اليدان والرجلان، وتنطق جميع حواسه فإذا به يدعو على نفسه وعلى أعضائه يقول: سحقاً لكن فعنكن كنت أناضل، أي: كنت أدافع عنكن، فسحقاً لكن.(7/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48].
ذكر هنا موسى، وقد ذكر ربه كثيراً، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون، ولكن منهم من قص الله عز وجل علينا قصته، كالمسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ومنهم من لم يقصه الله عز وجل لنا.
فبين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم أنبياء كثيرون من بني إسرائيل، وقد كانت طبيعة بني إسرائيل أنهم لا ينقادون لأحد إلا أن يكون نبياً من عند الله عز وجل يوجههم ويهديهم، فهم مثل الخراف الضالة يحتاجون إلى الراعي دائماً، ولذلك لما جاء المسيح عليه الصلاة والسلام قال: (إنما بعثت إلى خراف بني إسرائيل الضالة).
وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم رسولاً لكل الأمم، للإنس والجن صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فموسى تكرر ذكره باعتباره صاحب شريعة، والقرآن شريعة عظيمة، بل أعظم شرائع رب العالمين، وأعظم كتب رب العالمين، وهو المهيمن على ما قبله، والشاهد على ما قبله، والناسخ لكل ما قبله.
وقد أوتي موسى الكتاب، وأوتي التوراة، فكانت أعظم الكتب في حينه، ثم بعد ذلك ظل من بعده من أنبياء بني إسرائيل يحكمون به، حتى بعث المسيح عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فنسخ الله عز وجل بالإنجيل بعض ما في التوراة فأحل أشياء كانت حرمت عليهم، وجاء بأشياء من عند الله سبحانه وتعالى، وجاء بالإنجيل كتاب مواعظ يعظ الخلق به.
فالكتاب الذي يشبه القرآن ككتاب تشريع هو التوراة، فقد كانت التوراة كتاب تشريع، ولذلك كثيراً ما يذكر موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قدوة للنبي صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان صاحب شريعة مثلما أنت صاحب شريعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على الرسل، وجعل القرآن مهيمناً على كل الكتب السابقة.
وموسى ذكر في القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، ولصبره على بني إسرائيل يدعوهم إلى الله عز وجل، فقد صبر عليهم كثيراً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتدي به، وإذا أوذي يقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] فذكر هنا موسى وهارون، والتوراة إنما نزلت على موسى، وهارون أمر بأن يحكم بها، وكان نبياً مع موسى.
والفرق بين النبي والرسول: أن النبي يوحى إليه من عند الله عز وجل، ومكلم بالوحي من الله تبارك وتعالى، ومأمور بالتوحيد وتبليغه للناس، وأن ينصح الخلق، ولكن ليست معه رسالة خاصة يدعو الناس إليها.
فكان موسى صاحب رسالة وهي: التوراة، وأما هارون فكان يحكم بالتوراة التي نزلت على موسى، فإذاً: هو ليس صاحب رسالة، ولكنه نبي من عند الله، ويوحى إليه من الله تبارك وتعالى، ومعين لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء:48] والفرقان: التوراة، وسميت فرقاناً لأن الله عز وجل فرق بها بين الحق والباطل.
فقد كانت التوراة كتاب تشريع من عند رب العالمين، وتبين لهم الحلال من الحرام، والخطأ من الصواب، وما يفعل وما يترك.
وذكر في الآية: (الفرقان) أي: نصرناه بالتوراة على فرعون وجنوده.
قالوا: لأن الله عز وجل ذكر بعد ذلك: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] فيكون المعنى: آتيناه النصر، وآتيناه الكتاب من عند رب العالمين.
فعلى هذا القول: يكون الفرقان هو نفسه الضياء، وهو نفسه الذكر من عند رب العالمين.
يعني: التوراة هي فارقة بين الحق والباطل، وهي ضياء من عند رب العالمين، وهي ذكر من عنده سبحانه.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48]، وذكراً أي: تذكرة للمتقين.
وقد وصف التوراة هنا بأنها ضياء، والضياء فيه نور ولكن فيه إحراق، وفيه شدة، فقد وضعت عليهم الآصار بتعنتهم، والقرآن وصفه الله عز وجل بأنه نور من عنده سبحانه وتعالى، والقرآن وضع عنا هذه الآصار، وما جعل علينا في الدين من حرج، ولكن في شرع بني إسرائيل كان عليهم الآصار وعليهم الأغلال، حتى إن الرجل إذا بال وسقطت قطرة من بوله على ثيابه لم يؤمر بغسله فقط، وإنما كان يؤمر بقرض جسمه الذي أصابه البول بالمقراض.
فلما جاء أحد بني إسرائيل ونهاهم عن ذلك عذب، ورآه النبي صلى الله عليه وسلم في نار جهنم وهو يعذب في النار؛ لأنه نهى بني إسرائيل عن شرع ربنا تبارك وتعالى، فكان عليهم الآصار والأغلال، التي وضعها ربنا سبحانه وتعالى عليهم.
قال سبحانه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] فما كان على الأمم السابقة من آصار وقيود وأغلال هذا كله مرفوع عنا، وليس في شريعتنا ذلك، فشريعتنا نور من رب العالمين، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
قال تعالى: {وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] يعني: الذي إن يتذكر بأحكام رب العالمين هو التقي.(7/3)
تفسير قوله تعالى: (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون)
قال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49].
فهؤلاء هم الذين تنفعهم الذكرى، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] فإذاً: الذكرى لا تنفع أي أحد، وإنما الإنسان المؤمن.
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} [الأعلى:9 - 11].
فلا يتذكر بمواعظ الله عز وجل إلا الإنسان التقي الذي يخاف من الله، ولا يجتنب التذكرة، ويجتنب الموعظة ولا ينتفع بها إلا الإنسان الشقي، {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12].
فهنا يخبرنا سبحانه عن هؤلاء المتقين الذين ينتفعون بالتذكرة، وهم الذين يخشون ربهم بالغيب، ويذكرون الله عز وجل ويخافون منه تبارك وتعالى.
ويذكرون بالساعة فيشفقون منها، فيذكرون الله عز وجل في غيبتهم عن الناس فلا ينتهكون محارم الله تبارك وتعالى، وكذلك إذا غابوا عن أعين الناس، فلم يرهم أحد استحيوا أن يقعوا في المعاصي، وخافوا أن ينتهكوا حدود الله وحرماته سبحانه وتعالى.
إذاً: فهم في حال حضورهم مع الناس أو غيبتهم عنهم لا يعصون الله سبحانه، ويخافونه سبحانه، والله غيب لم يروه، ولكن عرفوه من آياته وصفاته سبحانه وتعالى، فخافوا منه، فهم يخشون ربهم بالغيب، وهم من الساعة مشفقون، وهم من يوم القيامة خائفون وجلون، وإذا ذكروا بالساعة يبكون ويدعون ربهم سبحانه أن ينجيهم من هول الموقف يوم القيامة.
قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} [الأنبياء:50] أي: وهذا القرآن العظيم مثل التوراة، فكما كانت التوراة فرقاناً بين الحق والباطل، كذلك هذا القرآن فرقان من رب العالمين، يفرق به بين الحق والباطل، وهو الذكر المبارك، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء:50] أي: ما جاء من عندك، ولا تكلمت أنت به من عند نفسك، ولكنه نزل من عند رب العالمين من السماء، فهذا ذكر مبارك، أي: فيه الخير، وفيه البركة، وفيه الثبوت، فهو ثابت لا يزول أبداً.
قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ} [الأنبياء:50]، أي: يا معشر العرب، ويا معشر من جاءكم هذا القرآن أفأنتم له منكرون؟ أفتنكرون هذا القرآن العظيم وقد تحداكم ربنا سبحانه بما فيه فلم تقدروا على سورة من مثله، وهو معجز لكم، لا تقدرون على الإتيان بمثله؟ ثم شرع يذكر لنا من قصص الأنبياء على نبينا وعليهم الصلاة السلام.(7/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا إبراهيم رشده)
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51].
وقد ذكر قبل ذلك موسى وهارون ولقد ذكر لنا في هذه السورة الكريمة ستة عشر نبياً بأسمائهم، وذكر فيها السيدة مريم أيضاً، والراجح أنها ليست نبية، وإن كان ربنا أوحى إليها وألهمها، ولكنها ليست نبية، وإنما هي صديقة عليها السلام.
وقد ذكر الله عز وجل في سورة الأنعام سبعة عشر نبياً قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام:83 - 84] وذكر سبعة عشر نبياً بإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وفي هذه السورة ذكر سيدنا إبراهيم ثالث بني، بعد أن ذكر قبله موسى وهارون، وإبراهيم بمعنى: الأب الرحيم بلغتهم، وكان يلقب بأبي الضيفان؛ لأنه كان إذا جاءه ضيف أكرمه كرماً عظيماً نافعاً، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء:51] والرشد: الصلاح وحسن الخلق.
فإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل رشده من قبل موسى وهارون، وإن كان الله عز وجل قد ذكر موسى وهارون قبله في هذه السورة، ولكن إبراهيم من قبلهم، وهو وأبوهم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فآتاه الله عز وجل الرشد، فقيل: بمعنى النبوة، وقيل: بمعنى الصلاح، أي: أصلحناه قبل أن يكون نبياً عليه الصلاة والسلام.
فكان يجادل ويناظر الناس بعبادتهم لغير الله سبحانه ثم أكرمناه بالنبوة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51] أي: كنا عالمين أنه أهل لذلك، وأنه مستحق لهذا الصلاح الذي جعلناه فيه، وصالح للنبوة عليه الصلاة والسلام.(7/5)
تفسير قوله تعالى: (إذ قال لأبيه وقومه)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} [مريم:42] أي: اذكر حين قال لأبيه ذلك.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] وقد كان أبوه يصنع التماثيل لقومه.
وقد كان إبراهيم عليه السلام في محن عظيمةً، وقد ابتلي بكل من حوله عليه الصلاة والسلام، فقد ابتلى في نفسه وفي أبيه وفي ابنه وفي زوجه وفي القوم الذين هم معه، ثم هاجر إلى قوم آخرين ليبتلى فيهم بلاءً عظيماً، وكل هذا البلاء في ذات الله سبحانه وتعالى، ولذلك رفعه ربنا درجةً عظيمة جداً صلوات الله وسلامه عليه، فقربه وجعله خليلاً له.
والخليل: الحبيب القريب، فهو أقرب الأحبة.
فجعله الله عز وجل له خليلاً، واتخذ محمداً خليلاً، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} [الأنبياء:52] واسم أبيه آزر، كما قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:74 - 75].
وقد كان أبو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقومه في العراق، وبعد ذلك هاجر إلى الشام، وكان أهل العراق عباد أوثان، يعبدون التماثيل من دون الله عز وجل، وكان أهل الشام يعبدون الكواكب من دون الله، فناظرهم إبراهيم على ذلك.
وكان إبراهيم في كل موطن يصبر صبراً عظيماً، فقد صبر مع أبيه فناظره وجادله ودعاه إلى ربه سبحانه، وفي النهاية قال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47]، فناظر أباه باللطف، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45].
ففي كل دعوة يدعوه بقوله: يا أبت، تحنناً وتقرباً لأبيه وتلطفاً معه، لعل أباه يستجيب، فما كان من الأب إلا أن نهره؛ لأنه صانع التماثيل لقومه، فلما يئس منه إبراهيم: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] وتركه، وقال: لن أتركك من دعوتي، وسأدعو ربي سبحانه تبارك وتعالى لعله يستجيب لي، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، أي: مكرماً لي، فلعله يستجيب لي.
ودعا قومه إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] والتمثال: اسم موضوع لما مثل، وهو الذي يصنعه الإنسان على هيئة الشيء ومثاله، فيقال: مثلت الشيء بمعنى: أني مثلته بشيء آخر، وجعلته مثله، فكانوا يصنعون التماثيل، ويعبدونها من دون الله سبحانه، وكانت هذه التماثيل على هيئة أشخاص.(7/6)
تفسير قوله تعالى: (قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين)
قال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] أي: ملازمون لعبادتها، ومستديمون ومقيمون عليها {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] وهكذا الإنسان الذي ليس عنده حجة يقول: إن أباه كان يفعل هذا الشيء.
فهم قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] أي: فنحن نعمل مثل آبائنا، وكأنهم كانوا يظنون أن آباءهم أفضل منهم، فكانوا يعملون ما يعمله آباؤهم من غير تفكير.
{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54]، أي: لا أنتم ولا آباؤكم على هدى، وكلكم في ضلال مبين، وفي خسران وجرم عظيم.
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55]، أي: هل هذا جد أم أنك تمزح معنا وتعلب؟ {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] ربكم الحقيقي المستحق للعبادة هو الذي خلق السماوات والأرض.
(الَّذِي فَطَرَهُنَّ): أي: أوجدهن على غير مثال سابق، وابتدأ خلقهن ولم يكنَّ قبل ذلك.
وفطر الشيء أي: ابتدع خلقه، والله عز وجل خلق السماوات والأرض من العدم، وبدأ خلقهن تبارك وتعالى.
{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56]، أي: أنا أشهد بقدرة الله سبحانه، وأنه رب السماوات والأرض، وأنه يستحق أن يعبد وحده.
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، يعني أنه لم يكتف بالإنكار بلسانه، وإنما أنكر أيضاً بيده، ويقسم {وَتَاللَّهِ} [الأنبياء:57]، وتاء القسم تختص بالله عز وجل وحده، ولا يوجد قسم بالتاء يكون لغير الله تبارك وتعالى، فهي مختصة به وحده لا شريك له، وأما الواو فتدخل على الاسم الظاهر، والباء يقسم بها في الظاهر والمضمر.
قال الله سبحانه هنا على لسان إبراهيم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ} [الأنبياء:57] يعني: لأمكرن ولأصنعن بهم شيئاً حتى أريكم أن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يعبدوا.
فقال: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57]، أي: عندما تذهبون إلى العيد، فهناك سأتوجه إلى الأصنام وأكيد بها.(7/7)
تفسير قوله تعالى: (فجعلهم جذاذاً)
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58].
قال المفسرون: كان لهم عيد في كل سنة يخرجون فيه خارج المدينة للعب والمرح، ويرجعون بعد ذلك إلى أصنامهم، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام انتظر ذلك، فقوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] أي: بعد أن تخرجوا للعيد سأتجه إلى الأصنام لأحطمها، وكأنهم أرادوا من إبراهيم أن يخرج معهم إلى عيدهم؛ لعله يهتدي بحسب ظنهم وزعمهم، فلما شدوا عليه أن يخرج معهم قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] أي: أنا مريض لا أقدر على أن أخرج معكم، فذهبوا وتركوه فتوجه إلى أصنامهم، {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء:58]، أي: كسرهم قطعاً، وهذه قراء الجمهور، وقراءة الكسائي: (فجعلهم جِذَاذاً)، بمعنى: كسراً وحطاماً.
{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} [الأنبياء:58] وقد كانت الأصنام مرتبة، فالصنم الأكبر أولاً وبعده الأصغر فالأصغر فالأصغر، وكان القوم لما أرادوا أن يخرجوا أتوا بأطعمتهم إلى هذه الأصنام، من أجل أن تبارك لهم فيها بزعمهم، وتركوا طعامهم عند الأصنام حتى يرجعوا ليأكلوه بعد أن تحل فيه البركة بزعمهم.
وذكر الطبري وابن أبي حاتم عن السدي قال: رجع إبراهيم عليه السلام إلى آلهتهم فإذا هي في بهو عظيم، أي: فناء عظيم أو في صالة عظيمة، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه، بعضها إلى جانب بعض، وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي الأصنام يظنون أنها ستبارك لهم فيه، وقالوا: إذا رجعنا وجدنا الآلهة بركت في طعامنا فأكلنا.
فلما نظر إليهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] يكلم الأصنام ويسخر منها، أي: هم قد وضعوا لكم الأكل من أجل تأكلوا.
{مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ} [الصافات:92]، أي: لماذا لا تتكلمون ولا تردون، {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] فكسر رءوسهم بيمينه، وترك الكبير، وعلق فيه الفأس.
قال تعالى: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:58] أي: يتعظون ويقولون: إن هذا الكبير هو الذي كسر الصغار من أجل أن يبقى هو وحده الإله.
فلما رجعوا من العيد ورأوا الأصنام {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59] أي: من الذي عمل هذا بآلهتنا {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:59].
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] وكأن إبراهيم قال لهم: إني سقيم وسأرجع، وكأنه جهر وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] وظن أنهم لم يسمعوه، وقد سمعه بعض ضعفائهم، أو بعض من كانوا حوله، فشهدوا عليه {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] أي: شاباً يقال له إبراهيم قالوا: كان عمره ستاً وعشرين سنة في هذا الوقت.
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء:61]، يعني: كأن الملك -وهو النمرود - يريد أن يحقق العدالة، فقال: هاتوه وأتوا بالشهود أمام الناس لعل الناس يشهدون عليه، من أجل ألا نظلمه ولا نعاقبه من غير شهادة، فيشهدون بأنهم رأوه وهو يكسر الأصنام.
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:61] أي: أمام الناس يرونه، لعلهم يشهدون عليه.(7/8)
تفسير قوله تعالى: (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا)
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] وهذا سؤال تحقق هنا: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62]؟ فكان
الجواب
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] أي: انظروا إلى الفأس أين هو؟ فالصنم الكبير هو الذي عمل هذا العمل.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].
وكأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعلق شيئاً على شيء، وهذا من معاريض الكلام، ومن التورية في الكلام، وهو أن يأتي بكلمة لها معنيان: معنى قريب، ومعنىً بعيد؛ فكأن إبراهيم يقصد في الكلام: إن نطق هؤلاء فهذا هو الفاعل ولكن هؤلاء لا ينطقون، فليس هذا هو الفاعل.
فكأنه يقول لهم: من الذي يفعل هذا؟ وهؤلاء لا ينطقون، فهل هذا هو الذي يصنع ذلك؟ فإن نطق فهو الفاعل.
هذا قول من الأقوال التي ذكروها في هذه الآية.
وقال الكسائي: إنه يوقف هنا: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء:63]، ثم يستأنف: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فكأنه يقول: بل فعله من فعله، وكبيرهم هذا.
وهذا من باب التعريض في الكلام، فهم سيفهمون بأنه فعله كبيرهم هذا، وأنه لا يقصد شيئاً آخر غير ذلك.
وهو يقصد: فعل ذلك من فعل، وسكت ثم قال: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، أي: اسألوا هؤلاء التماثيل، واسألوا هذا الكبير إن كانوا ينطقون {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63].
وجاء في الأثر عن عمر رضي الله عنه: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب.
يعني إن الإنسان إذا اضطر إلى شيء كما اضطر إبراهيم فله أن يعرض بدلاً من أن يكذب، ففرق بين الكذب، وهو أن يتكلم عن الشيء الخطأ وهو يقصد ما يقول، وبين التورية، وهي أن يتكلم بالشيء ويقصد لازمه، فيتكلم بشيء له معنيان ولا يقصد معناه الصريح وإنما يقصد المعنى الآخر البعيد الذي لا يستحضره السامع، فيظن المعنى الخاطئ.
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كذباً، قال صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وواحدة في شأن سارة).
وفي رواية قال: (لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء قط إلا في ثلاث، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله لـ سارة: أختي، وقوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)) [الأنبياء:63]) إذاً: فإبراهيم كذب ثلاث مرات.
والراجح أن هذه الثلاث المرات من التعريض في الكلام ولم يقصد الكذب المحض.
والكذب ثلاث مرات في حياته كلها شيء قليل جداً، وهن في ذات الله عز وجل، وقد قال الحديث: إنهن كن في ذات الله سبحانه، ولم يكذب لنفسه، ولما كان هذا النبي عليه الصلاة والسلام مرتبته عند الله مرتبة عظيمة جداً، فإنه لما كذب ثلاث مرات كأنه نزل عن هذه المرتبة قليلاً، فتقدم عليه نبينا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لم يكذب أبداً صلوات الله وسلامه عليه.
وعندما يؤتى إلى إبراهيم يوم القيامة، ويقال له: اشفع لنا أنت خليل الرحمن، يقول: (أنا خليل ومن ورائي خليل، ويذكر كذباته الثلاث).
ويخاف من ذلك يوم القيامة.
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يعرض على شيء لا من كذب ولا غيره، ولا ينطق إلا بحق، سواء في جده أو في هزله صلى الله عليه وسلم، حتى في ضحكه مع الناس، فكان لا ينطق إلا بالحق، صلى الله عليه وسلم.
فلذلك يوم القيامة يتقدم ويقول: (أنا لها، أنا لها) صلوات الله وسلامه عليه.
ومقام النبوة مقام عظيم جداً، فعندما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم صلى الله عليه وسلم النبي إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]) يعني: أنه مريض، فكأنه يقول: قلبي سقيم ومريض مما أراكم عليه من الشرك، فعدت كذبة.
(وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]) وتأويل هذا: بل فعله كبيرهم إن كان يفعل ذلك فهو الذي فعل، ولكن كأنه لا يفعل، فليس هو، أو بل فعله من فعله وكبيرهم هذا، يعرض في ذلك.
وعلى كل سميت هذه الكذبة الثانية.
(وواحدة في شأن سارة)، ولم يجعل هذه في ذات الله، وإن كانت حقيقتها أنها أيضاً في الله عز وجل، لأنه له فيها نصيباً؛ فإنه لما جاء مع سارة إلى مصر وكان يحكمها جبار من الجبابرة قيل له: إنه دخل رجل اسمه إبراهيم ومعه امرأة هي من أجمل الخلق ومن أجمل نساء الناس، وكانت سارة من أجمل النساء؛ فسأله الجبار: من هذه؟ فلو قال امرأتي لقتله، فلذلك عرض إبراهيم في الكلام وقال: أختي، وقال لها: (إني قلت له: إنك أختي، فلا تكذبيني، أو فلا تكذبينني)، من أجل أن يحمي نفسه من القتل لعله يبلغ رسالة الله سبحانه وتعالى، وقد عدت هذه كذبة، وإن كان مضطراً إليها.
ومن الممكن أن يقال: هذه أيضاً في الله عز وجل، وإنها بلاء ابتلي بها في الله، ولكن إبراهيم لعظيم منزلته عدت عليه هذه الثلاث كذبات.
وقد يصنع الأنبياء والمرسلون أشياء قد تكون إحساناً من غيرهم، ولكنهم قد يلامون على هذا الشيء، فجعلت هذه ثلاث كذبات لإبراهيم من هذا الباب.
وقيل: بل وأخرى رابعة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر، وهي قوله: هذا ربي، لما ناظر أهل عبادة الكواكب، فإنه فلما جن عليه الليل ورأى كوكباً قال: هذا ربي، وإن كان إبراهيم يقصد إن هذا ربي في زعمكم، أي: أنكم تزعمون أن هذا ربي.
وقد كتبت عليه هذه من ضمن الكذبات، وإن كان قالها وقت المناظرة لهؤلاء.
يقول العلماء: الكذب: هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يقل هذا من باب الكذب، وإنما قاله من باب التعريض، أي: أنه يذكر الكلمة التي تحتمل أكثر من معنى، ويقصد معنى بعيداً والسامع يظن المعنى القريب.
والغرض: أنه قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/9)
تفسير سورة الأنبياء [52 - 77]
لقد جعل الله تعالى إبراهيم عليه السلام أمة لتوفيته بمراتب العبودية لربه، وقد ابتلي إبراهيم في ذات الله بلاء شديداً فصبر وصابر وجاهد فأفلح، وقد أقام الحجة على قومه عبدة الأوثان بأبرع أسلوب، وجعلهم يعملون فساد أمرهم، لكن الكفر يعمي البصائر، فنكسوا وعاندوا وأبوا إلا الكفر والنار، وتحريق إمام الأبرار، وهيهات هيهات أن يغلبوا من كان الله عضده ونصيره.(8/1)
حجة المشركين قديماً وحديثاً
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:64 - 70].
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات وما قبلها قصة إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - مع أبيه وقومه وهم يعكفون على التماثيل والأصنام، فأنكر عليهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] قالوا محتجين بغيرهم من المشركين، - أي: بصنيع الآباء -: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:53 - 54] وكأنهم حين يقولون: وجدنا آباءنا، قد أتوا بحجة في نظرهم، وهي أن الآباء خير من الأبناء، فكأنهم يقولون: آباؤنا خير منا يفهمون ما لا نفهم، فنحن نقلدهم، فكان جواب إبراهيم: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54].
ونفس الجواب كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، عند قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فيقول لهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:24].
قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه يسب الآلهة ويسفه الآباء ويفرق بين المرء وأقربائه، صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أنهم يرفضون هذا الدين.
فالمشركون كانوا يعظمون الآباء، ولذلك ذهب رجل من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحتج عليه، فيقول له: أسألك بالله أأنت خير أم عبد المطلب؟ يعني: يريد أن يحرجه في الكلام، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم! وكأن الرجل يريد عند سؤاله ذلك أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أبي خير مني؛ لأن عادتهم إذا سئل أحدهم: أنت أحسن أو أبوك؟ أن يقول: أبي، فإن ظفر بهذا الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم سيقول له: أبوك كان يعبد الأصنام وأنت لا تعبدها، أفأنت أحسن من أبيك؟ فيريد أن يلزمه بما ليس لازماً له، فلذلك لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً عن هذا الهراء الذي يقول.
فالمشركون ليست عندهم حجة عقلية ولا نقلية، فلذلك كان احتجاجهم {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [الزخرف:23]، فنحن نقلد آباءنا وآباؤنا خير منا، فلذلك يجيبهم إبراهيم بهذا
الجواب
{ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54].
ثم قال الله عن المشركين: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] أي: هل أنت تتكلم جاداً أو مازحاً؟ {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] أي: الذي فطر وخلق السماوات والأرض وابتدعهن وأنشأهن ولم يكن موجودات قبل ذلك، فالله تبارك وتعالى هو الذي فطرهن وأنا أشهد بأنه هو الرب الواحد لا شريك له.(8/2)
كيد إبراهيم للأصنام
ثم قال لهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] قالها إبراهيم في نفسه ولكن سمعها البعض الذين شهدوا عليه بعد ذلك.
قوله: {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء:57] أي: حين تخرجون إلى عيدكم.
فخرجوا إلى عيدهم وجعلوا الطعام تحت الأصنام لتبركها بزعمهم فإذا بإبراهيم يتوجه إلى هذه الأصنام فيخاطبهن: ما لكم لا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} [الصافات:93 - 94] أي: فأقبلوا على إبراهيم مسرعين إليه، لما جعل هذه الأصنام جذاذاً إلا كبيراً لهم على ما ذكرنا.
فسألوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فأجاب من سمع إبراهيم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء:60 - 61] أي: أتوا بإبراهيم عليه السلام وسألوه: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63].
فعرض بالكلام الذي فهموا منه أن الذي فعل ذلك هو كبيرهم، وكأنه يقول لهم: هل الكبير يفعل هذا الشيء في الأصنام الصغيرة؟ والمعنى: أنه تعليق بالمستحيل، أي: أن هذا الكبير لو كان ينطق لكان هو الذي فعل ذلك، والحال: أنه لا ينطق، فيكون ليس هو الذي فعل هذا.
أو على تفسير الكسائي ووقفه: (بل فعله، كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون)، وهنا كأنه يرى الوقف على قوله: (بل فعله) يعني: فعله من فعله، أو الذي فعله فعله، فاسألوا الكبير إن كانوا ينطقون، وهم لا ينطقون، فحيرتهم هذه الكلمة من إبراهيم عليه السلام.
وقوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنبياء:64] أي: كأنهم استاءوا قليلاً من عدم تكلم آلهتهم، وكيف تُعبد هذه الأصنام، فرجعوا إلى أنفسهم ثم قالوا فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64] أي: نحن الذين ظلمنا وأخطأنا بترك هذه الأصنام - التي لا تقدر أن تدافع عن نفسها - من غير حراسة لها، فهنا كأنهم يشهدون على أنفسهم بأنهم على باطل، وكأنهم يقولون: لم تعبدون هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ وقوله تعالى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] يعني: بعدما استاءوا قليلاً لأن أصنامهم لا تستطيع حراسة نفسها، فكأنهم قالوا: كان المفروض أن نحرسها نحن، ومعنى: (نكسوا): قلبوا.
وقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65] كأن المعنى: هذه الأصنام لا تنطق وأنت تعرف ذلك ونحن أيضاً نعرفه، يعني: لست وحدك الذي تعرف ذلك، ولكن نكسوا على رءوسهم كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كأن العقول ذهبت فلا يفهم أصحابها ما يقولون فيجادلون فيما لا يفهمون؛ لأنه لا عاقل يقول هذا الكلام، فهم يقولون لإبراهيم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ)، إذاً: فطالما أنها لا تنطق لماذا تعبدونها من دون الله سبحانه؟! فنكسوا على رءوسهم فإذا بهم لا يفهمون.(8/3)
تفسير قوله تعالى: (قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً)
وقوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء:66].
يعني: إذا كانت هذه الأصنام لا تنطق ولا نفعت نفسها أفتنفعكم أنتم؟! ولو بشيء بسيط.
وقوله: ((مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا)) (شَيْئًا): نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء، بمعنى: أقل الأشياء وأحقرها لا تقدر أن تنفعكم به.
وقوله: {وَلا يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء:66] أيضاً شيئاً.
وقوله: {أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء:67] كلمة أف يقولها الإنسان الذي يشم رائحة منتنة، فكأن المعنى: أف من هذا الشيء الذي تعبدونه.
وفي قوله تعالى: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] ثلاث قراءات هذه أولها، وثانيها: ((أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [الأنبياء:67]، وثالثها: ((أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)) فكأنه متأفف ضجر منهم ومن نتنهم وخبثهم في عبادتهم غير الله تبارك وتعالى.
قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:67] أي: أين ذهبت عقولكم؟!(8/4)
تفسير قوله تعالى: (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم)(8/5)
لجوء الجبابرة إلى القوة عندما تغلبهم الحجة
وقوله تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68].
هنا منطق القوة لا منطق العقل، ودائماً من كان على الكفر عندما يغلب لا يعرف النقاش، وإنما يقوم في النهاية ليرد بالقوة.
والمعنى: انصروا الآلهة بإحراقه يعني: انتصروا لآلهتكم ولو بأشنع طريقة، وهي قتل إبراهيم عليه السلام.
فقاموا يجمعون لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام الحطب لإحراقه وأحضروا له حاجات يحرقونه فيها.
روى الطبري فيما ذكر عن السدي قال: فلما رجعوا جمعوا لإبراهيم الحطب، حتى إن المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأخروه حتى جمعوا له حطباً كثيراً لكي يحرقوه حريقاً مضنياً، والمقصود من هذا كله قتلة شنيعة لإبراهيم عليه السلام، لكي لا يقول أحد آخر مثلما يقول إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فأخروا إبراهيم حتى جمعوا هذه الأحطاب، فلما جمعوا له وأكثروا من الحطب وأرادوا إحراقه، هنا ظهرت القدرة الربانية، فكل الكون يريد أن يطفئ هذه النار عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.(8/6)
الاعتماد على الله وحده
وإبراهيم لا يستنصر إلا بالله سبحانه وتعالى، روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار).
ولاحظ قوله: (حين ألقي في النار) فإنهم لم يستطيعوا أن يقربوه إلى النار ثم يدفعوه فيها؛ لأنها ليست ناراً بسيطة، فلو اقتربوا منها لاحترقوا.
فدلهم الشيطان على المنجنيق، وأول ما صنع المنجنيق في هذا الوقت، والمنجنيق: آلة رافعة، فوضعوا فيها إبراهيم عليه السلام وألقته في الجو ليقع في النار.
قال ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه البخاري: (وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]).
فهذه الكلمة كلمة عظيمة، والكون كله يريد أن يدافع عن إبراهيم عليه السلام، السماوات والأرض والدواب والملك المسئول عن المطر، والملائكة التي بين السماء والأرض، فكلهم يريدون الدفع عن إبراهيم عليه السلام، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن ماجة عن عائشة مرفوعاً: (لم تبق يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا دابة واحدة وهي الوزغ، فإنها كانت تنفخ عليه) وهي نوع من الأبراص، لكنها نوع سام.
ولذلك كان يقتلها النبي صلى الله عليه وسلم ويسميها الفويسقة ويأمر بقتلها، يقول ابن عباس: (إلا الوزع كانت تنفخ عليه؛ فلذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها).
وقالوا: كان عمر إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ستاً وعشرين سنة، صلوات الله وسلامه عليه.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل.
هذه الكلمة العظيمة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين، وقال تعالى: {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129].
ومعنى: حسبي، أي: كافيّ، وكأنها جواب من إبراهيم عليه السلام على الكون كله، وكأنه يقول لإبراهيم: ندافع عنك، والجواب من إبراهيم: لا، الله سبحانه وتعالى هو الذي يكفيني وحده فقط، فأنجاه الله تبارك وتعالى.
فإذا بإبراهيم حين يلقى في النار يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، يريد نصر الله السريع له.(8/7)
زوال خاصية الإحراق في النار بأمر الله
كأن الملائكة تنتظر للنصرة بأمر الله، إما بأن يفتحوا خزائن السماء للمطر ليطفئ النار أو بغير ذلك، لكن هناك ما هو أعجل من ذلك بكثير، فالنار نفسها تتحول إلى شيء آخر، بقوله سبحانه: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
فالنار التي هي محرقة صارت برداً وسلاماً، وأصبحت ناراً من حيث المنظر فقط، مثلما فعل مع سيدنا موسى حين أتى للشجرة، وهي شجرة يانعة مزهرة ناظرة وفيها نار، فلا النار تحرق الشجرة ولا الشجرة تطفئ النار، فأخذ قبساً منها فإذا بها نور لا نار.
كذلك هذه النار يحولها الله عز وجل شيئاً آخر، ففي نظر الناس هي نار لكنها كانت على إبراهيم برداً وسلاماً.
ولو قال الله: كوني برداً على إبراهيم، لتألم إبراهيم من شدة بردها، ولكن قال: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] أي: كوني برداً وكوني سلاماً على إبراهيم، فكانت أحلى أيام عمره هي تلك المدة التي مكثها في النار المأمورة.
وقوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] أي: أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم وأن يحرقوه بأفظع وأشنع طريقة، وهي هذه النيران المجتمعة لرجل واحد، فإذا بالله عز وجل ينجي إبراهيم ويقول للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] ويجعل هؤلاء هم الأخسرين، أي: أشد الناس خسراناً، بدخولهم نار جهنم والعياذ بالله، كما قال الله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70].
قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71].
أي: أرض البركة، أرض الشام، وهي أرض المحشر، الأرض التي فيها بيت المقدس، وبارك الله عز وجل فيها وجعل فيها المسجد الأقصى، نسأل الله عز وجل أن يحرره من دنس اليهود والمشركين، فجعلها الله أرضاً مقدسة، وفيها الأنبياء، فجعلهم من أرض الشام.
فأمر الله إبراهيم أن يهاجر إلى أرض أخرى، وكان في العراق عليه الصلاة والسلام، فهاجر منها إلى الشام بأمر الله عز وجل.
قوله: {وَلُوطًا} [الأنبياء:71] ولوط هو ابن هاران، وهاران هو أخو إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلوط ابن أخيه، فيصير إبراهيم عم لوط عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فتوجها إلى الشام، ولكن كل منهما في مكان، فإبراهيم نبي في مكان ولوط نبي في مكان آخر.
قوله: {إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] أي: فيها بركة من الله عز وجل، في زرعها وثمارها؛ لذلك فهي كثيرة الخصب، ففيها البساتين، وفيها الحقول الخصْبة الكثيرة، وفيها الثمار والأنهار، وبورك فيها أيضاً لأنها موطن الأنبياء، فأكثرهم منها.
والبركة معناها: ثبوت الخير، وأصلها من بروك البعير، يقال: برك البعير، إذا نزل على الأرض وثبت عليها، فالبركة الخير الثابت الدائم.(8/8)
تفسير قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة)
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72].
الزمن بعيد ما بين القصة الآنفة وبين ((وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)) فإبراهيم رزق ذلك بعدما جاوز الثمانين أو التسعين سنة عليه الصلاة والسلام، فما بين إلقائه في النار وبين وهبة الله عز وجل له إسحاق ويعقوب ستون سنة أو قريب منها.
وهب الله له إسحاق بدعوته، وقبل إسحاق كان إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن إسماعيل كان ابناً له من أمة، أي: ليس من زوجة، من هاجر، وكانت أمة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وزوجته بها سارة، وسارة كانت أجمل نساء العالمين عليها السلام، فرزق منها بعد ذلك إسحاق، وبعد ذلك جاء من إسحاق يعقوب فيصير حفيداً لإبراهيم؛ لذا قال الله في يعقوب: نافلة، فهو سأل الله عز وجل أن يرزقه الولد، فرزقه إسماعيل ورزقه من زوجته على الكبر إسحاق، وأعطاه من غير سؤال يعقوب ((نَافِلَةً))، يعني: ابناً لإسحاق، ويعقوب هو إسرائيل، ومن إسرائيل جاء كل الأنبياء الذين بعده إلا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فجاء من الفرع الآخر لإبراهيم وهو إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء:72] أي: أنبياء لله عز وجل، فوصفهم بالصلاح، وهم أحق الخلق بأن يكونوا من الصالحين.
فكأن الله يقول: جعلنا فيهم الصلاح عامدين، لطاعة رب العالمين، فخلق فيهم القدرة على الطاعة وكل ما يكتسبونه بعد ذلك فهو بتوفيق الله سبحانه.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] معنى: أئمة، أي: رؤساء في الخير، والمعنى: جعلناهم أئمة يقتدى بهم في أعمال الخير الصلاح.
وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] أي: أوحى الله عز وجل إليهم عن طريق إنزال الملائكة كيف يعملون الخيرات، وكيف يصلون لله رب العالمين، وكيف يزكون، ووصفهم بقوله: ((وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)) معناه: في غاية الخشوع وغاية التقرب إلى رب العالمين سبحانه.(8/9)
تفسير قوله تعالى: (ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً)
وقوله تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:74].
انظر إلى جمال القرآن، فهذا انتقال من شيء إلى شيء، فانتقل أولاً من قصة موسى وهارون إلى قصة إبراهيم، ومنها إلى قصة لوط، ثم يذكر نوحاً بعد ذلك، فينتقل من قصة لأخرى بطريقة.
والانتقال بهذه الصورة من قصة إلى قصة أخرى يسمى في علم البلاغة: حسن التخلص، فينتقل من قصة إلى أخرى من غير أن يقول مثلاً: مشهد جديد، وإنما هي كلها متصلة ببعضها، ويخرج من شيء إلى شيء من غير أن تشعر أنك خرجت ودخلت في شيء آخر.
سيدنا لوط عليه السلام هاجر مع إبراهيم من ديار العراق إلى الشام، وكان في طرف الروم يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، وكانت سبع قرى في سدوم يدعوهم لوط عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:74] الحكم: النبوة، فيحكم بين الناس بأمر الله سبحانه وتعالى، وآتاه الله علماً ومعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم صحيحاً مستقيماً.
وقوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] هنا ذكر الله عن الأنبياء أشياء مختصرة، وقد طول الله قصة سيدنا لوط على نبينا وعليه الصلاة والسلام في الحجر، وكذا في سورة هود وسورة العنكبوت، وذكره بصورة متوسطة في الأعراف، أما في هذه السورة فذكرت بصورة مختصرة، وفي النجم إشارة بسيطة إليها في قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55].
فهنا ذكرها في هذه الإشارة؛ لأن القرآن يطيل في مواضع ويقصر في مواضع ويشير في أخرى، فهنا يقول الله لنا: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء:74] والخبائث: هي إتيان الذكران من العالمين، وذكر الله في الشعراء أنه قال لهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166].
وكان جوابهم على لوط: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء:167 - 168] أي: أنا مبغض لهذا العمل الكريه الذي تفعلونه.
ثم قال: {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [الشعراء:169] فأنجاه الله عز وجل بما دبره له وذكره في سورة الحجر وفي هود قبل ذلك.
قال سبحانه وتعالى هنا: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء:74] السوء في طباعهم، فهم فسقة خرجوا عن الدين وعن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وأصل الفسق: الخروج، مثلما تقول: فسقت الرطبة، يعني: خرجت البلحة من قشرتها، فهؤلاء فسقوا، أي: خرجوا عن طاعة الله رب العالمين، فأصبحوا كما أخبر الله بقوله: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53] المؤتفكات هي قرى قوم لوط، يعني: من كانوا أصحاب الإثم والبعد عن الله سبحانه وتعالى، والجريمة الفظيعة التي لم تعمل في الأرض قبل هؤلاء القوم هي إتيان الذكران من العالمين.
ولفظ: (أَهْوَى) يشعر بأنه من فوق إلى تحت؛ لأن جبريل رفعها إلى السماء، ثم قلبها على من فيها، وأتبعهم ربهم سبحانه بحجارة من سجيل منضود، وصفها الله بقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
فأهلكهم بهذه الصورة، أي: رفعوا إلى السماء وقلبت بهم أرضهم وأتبعوا بحجارة من نار جهنم، والعياذ بالله.
لكن لوطاً ومن معه نجاهم الله عز وجل برحمته سبحانه، كما قال الله: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:75].
(إنه) هنا بمعنى: (لأن)، فأتى الحكم وبعده التعليل، فيكون المعنى: أنجيناه لأنه من الصالحين.
أو: أنجيناه بصلاحه عليه الصلاة والسلام، ويوم القيامة ندخله برحمتنا في جنتنا، ونجعله من أهل الشفاعة الذين يشفعون لمن يشاء الله عز وجل.
أو معنى: ((أَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا)) أي: وفقناه في الدنيا، فوهبناه النبوة، ويوم القيامة نجعله في الجنة.(8/10)
تفسير قوله تعالى: (ونوحاً إذ نادى من قبل)
ثم ذكر نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا سابع نبي يذكر في هذه السورة.
قال الله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] أي: من قبل لوط ومن قبل إبراهيم، بل نوح هو قبل الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام وبعد آدم.
وقوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] أي: أن نوحاً دعا قومه ليل نهار، قال ربنا سبحانه وتعالى على لسانه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:5 - 7] ولم يقل: جعلوا أناملهم في آذانهم؛ لتصوير مبالغتهم في إعراضهم وعدم إرادتهم السماع.
ثم قال: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح:7] أي: غطوا وجوههم بثيابهم.
وقال: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7] يعني: لا يريدون أن يسمعوه، وأصروا على كفرهم وبعدهم عن الله، واستكبروا استكباراً عظيماً.
قال الله سبحانه هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:76] أي: بعدما دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يقل: قد كفروا فنتركهم، بل صبر فيهم واستمر ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية لما كان الآباء يوصون الأبناء بالكفر وعدم الإيمان، ثم الأبناء يوصون من بعدهم، وهكذا، دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] أي: لا تذر على الأرض أحداً من أهلها، لماذا؟ قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27] أي: ألف سنة إلا خمسين وأنا أدعوهم إلى الله عز وجل وكل الأجيال تنشأ على هذا الفجور والكفر.
وقد فصل الله سبحانه وتعالى أمر نوح في سورة الأعراف وأطال في سورة نوح، وكيف أنه جعل له علامة لقرب أجلهم، تحول التنور، أي: إذا خرج ماؤه فهي علامة على مجيء أمر الله، فاركب السفينة، وعلمه الله صنعها وأنجاه عز وجل بها قال الله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40].
ويأتي الطوفان فيغرق جميع من على الأرض، انفتحت أبواب السماء، وانفتح ما في الأرض من آبار وغيرها، وانطبق ماء السماء على ماء الأرض فأغرق الله سبحانه وتعالى الكفار جميعهم.
وقوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء:76] أي: أهله المؤمنون؛ لأن من أهله ابنه ولم ينج كما قال الله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45] قال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فأهله هنا من معه من المؤمنين.
فنجاه الله وأهله من الكرب العظيم بالدعوة إليه عز وجل والصبر عليها، وفي النهاية كتب له ومن معه النجاة من انفجار الأرض ماء، وتفتيح أبواب السماء بالماء، فهو كرب فظيع جداً، وهو في سفينة، فهو يشعر بكرب من هؤلاء الكفار ومن الجو المحيط به، وفي النهاية ترسو السفينة على الجودي بأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء:77] أي: نصرناه على القوم؛ لأن (على) تفيد الاستعلاء، ولكن (من) هنا بمعنى (على)، أو يكون الفعل (نصر) مضمناً معنى (انتقم) فتبقى (من) على معناها، فكأن المعنى هنا: (انتقمنا من الذين كفروا) فهو نصر عظيم من الله سبحانه وتعالى، وهو انتقام شديد نزل بهم، ففي الدنيا أغرقوا وفي الآخرة سيحرقون.
وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء:77] لو قال هنا: أغرقناهم، فيحتمل أن ينجوا أحد، ولكن (أغرقناهم أجمعين) فيه تأكيد أن الجميع غرقوا في الماء، فلم يبق أحد منهم.
ثم ذكر بعد ذلك قصة داود وسليمان، كما سيأتي إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/11)
تفسير سورة الأنبياء [78 - 80]
ذكر الله سبحانه وتعالى قصة داود وسليمان إذ حكما في قضية الغنم التي أكلت العنب، وبين سبحانه أن سليمان كان حكمه أرفق بسبب ما حباه سبحانه من الفهم، وقد أخبر سبحانه أنه آتى داود وسليمان علماً وحكماً كانا من خلاله يقضيان بين الناس، إلا أنه أعطى سليمان في مسائل الحكم ما لم يعط داود، كما أنه سبحانه جعل الجبال والطير تسبح مع داود، وعلمه صنعة الدروع التي تقي الناس بأسهم.(9/1)
تفسير قوله تعالى: (وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:78 - 80].
يذكر الله عز وجل لنا في هذه الآيات ذكراً عن داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهذه السورة مذكور فيها ستة عشر نبياً.
الثامن والتاسع على ترتيب السورة هما داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78]، وهما منصوبان بفعل محذوف مقدر، تقديره: واذكر سليمان وداود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، حين كانا يحكمان في الحرث، قيل: كان كرماً -أي عنباً- عناقيده مدلاة.
{إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء:78]، وهم رعاة الغنم، فقد دخلت غنمهم في الليل في هذا المكان وتناولت الزرع فنفشته أي: رعت فيه، فأكلت عناقيد العنب بالليل، فمعنى: نفشت أي: رعت في الليل، وأصل النفش هو الرعي للإبل أو للغنم بالليل.
قال سبحانه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] يعني: ناظرين للحاكم وللمحكوم، فالذي حكم داود وسليمان، والمحكوم عليهم هم الخصوم.
وداود هو الأب، وسليمان ابنه عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وداود ملك ونبي وسليمان ملك ونبي عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكن في هذه القصة إشارة إلى أن داود كان كبيراً، وسليمان كان صغيراً، والله سبحانه وتعالى علم الاثنين فجعل هذا نبياً وهذا نبياً، وأعطى لكل منهما حكماً وفهماً، وفي هذه القصة أمر واضح، وهو أن سليمان فهم ما لم يفهمه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: الاثنين على علم وعلى حكم من الله عز وجل، ولكن فهمنا سليمان هذه المسألة وغيرها من المسائل، وجعلناه يفهم ويستوعب ما لم يفهمه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.(9/2)
تفسير قوله تعالى: (ففهمناها سليمان)(9/3)
اجتهاد الأنبياء في الحكم
قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] والتفهيم فضل من الله يعطيه الإنسان فيشعر أن الخطأ في كذا والصواب في كذا.
فهما نبيان اجتهدا، والنبي إذا اجتهد يكون مأجوراً في اجتهاده، وهل يمكن أن يجتهد النبي ويخطئ؟ نقول: يمكن أن يجتهد ويخطئ، لكنه إذا أخطأ لا يقر على الخطأ، وهذا هو الفرق بين الحاكم وبين النبي.
والوحي مستحيل أن يقع الخطأ ولا يصححه، والنبي لا يقع في الكبائر، والراجح أنهم مبتعدون عن الصغائر لا يقعون فيها، ولكن قد يكل الله عز وجل حكم مسألة لاجتهاد نبي من الأنبياء، ويترك له أن يحكم فيها، فقد يخطئ وقد يصيب، لكن الفرق بينه وبين غيره أنه إذا أخطأ لا يقر على خطئه، بل ينزل عليه الوحي يصوب له ما أخطأ فيه.
فمن هذا الباب كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين أصحابه، ويقول: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع)، فهو صلى الله عليه وسلم يقضي في المسألة بالبينة وبالشهود، وهذا هو المطلوب منه شرعاً، ولكن إذا أخطأ الشهود أو كذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل يعلمه ذلك، ولم ينزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في كل قضاء قضاه بين اثنين لحكمة من رب العالمين سبحانه، وهي أنه لو كان كل قضاء يقضيه بين الناس ينزل عليه فيه الوحي، فكيف سيصنع الخليفة الذي سيأتي من بعده إذا أراد أن يقضي بين الناس؟ لاشك أنه سيخاف أن يخطئ في الحكم وسيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً وكان الوحي ينزل عليه، فحتى لا يقع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي بنحو مما يسمع، فيسمع من الشهود طالما أنهم ثقات، والخطأ في النهاية هم الذين سيتحملونه.
فالأنبياء يقضون بين الخلق، وقد ينزل الوحي فيبين من هو صاحب الحق، مثل الرجل الذي ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاختصم مع رجل آخر، وسأله النبي صلى الله عليه وسلم فأقسم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء، فنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن هذا حلف كاذباً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعط الرجل ماله وقد غفر الله لك بتوحيدك) أي: أن هذا الإنسان حين قال في حلفه: والله الذي لا إله إلا هو استحضر عظمة الله عز وجل وتوحيده فكان هذا الحكم خاصاً بهذا الرجل فقط، أو كان قبل أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم الحكم الجديد وهو أن اليمين الغموس صاحبها في النار.
فهذه قضية من القضايا التي حلف فيها رجل كاذباً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل الوحي يخبره أنه كاذب.
لكن هل في كل قضية من قضاياه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي؟ لا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذ أو فليذر).
وحتى لا يساء الظن في داود يقول الله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: أن الاثنين على علم عظيم لا تعلمه أنت، فلا تنكر عليهما شيئاً مما صنعوا.
فقد آتينا سليمان فهماً أعظم في هذه المسألة، ففهم ما لم يفهمه داود عليه الصلاة والسلام، فكان حكمه أرفع من حكم داود.(9/4)
حكم داود وسليمان في الغنم التي نفشت في الزرع
والقصة أن الخصوم جاءوا إلى داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، أحدهم يشكو أنه صاحب زرع والبعض الآخر كانوا أصحاب أغنام وقد تركوا الغنم ترعى بالليل فاقتحمت البستان فأكلت العنب الموجود فيه.
فكان حكم داود عليه الصلاة والسلام أن الغنم لصاحب البستان.
فلما خرج الخصوم على سليمان عليه الصلاة والسلام سألهم عن الحكم، فقالوا: كذا، فقال: لعل الحكم غير هذا، فانصرفوا معي، فانصرفوا معه فذهب إلى أبيه فقال: يا نبي الله -هذا خطاب الابن لأبيه- إنك حكمت بكذا وكذا -ما قال له إن هذا الحكم خطأ- ولكن قال: وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع، قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وأصوافها ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه.
إن حكم سليمان عليه الصلاة والسلام كان أرفق، وحكم داود لم يكن خطأً، ولكن التسديد من الله عز وجل كان لسليمان، فحين وجد داود أن الزرع الذي أكلته الغنم قيمته تساوي قيمة الغنم، حكم بأن الغنم لصاحب البستان فيكون حكمه صحيحاً، وحكم سليمان عليه الصلاة والسلام كان أرفق من حيث إن أصحاب الغنم ليس عندهم من المال غيرها، فحتى لا يكونوا بغير مال حكم بأخذ الغنم منهم فترة معينة، ينتفع بها أصحاب الزرع، حتى إذا زرع أصحابها البستان ونما الكرم أخذ أصحاب الغنم أغنامهم وأصحاب البستان بستانهم، فكان حكمه أرفق من حكم داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقال داود: (وفقت يا بني، لا يقطع الله فهمك) أو كما ذكر.
وهذا مروي عن ابن مسعود وعن مجاهد وعن غيرهم، فيكون الحكم شرعياً، حكم به نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ولما كان الحكم الآخر أرفق نقض الحكم الأول، فحكم به داود عليه السلام.(9/5)
حكم داود وسليمان بين المرأتين اللتين أكل الذئب ولد إحداهما
وهل هذه القصة هي الوحيدة؟ لا، فقد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه حصل مثل هذا، قضية يحكم فيها داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام بحكم مما اجتهد فيه، ويحكم سليمان بحكمه الصائب في ذلك.
من ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك أنت).
كل واحدة منهما لا تعرف هل أخذ الذئب ولدها أم ولد صاحبتها لكن الخوف من الزوج حمل كل واحدة على أخذ الذي نجا من الذئب لتعود به إلى زوجها، فتحاكمتا إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقضى به للكبرى.
ولا يجوز أن تسيء الظن بداود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وتظن أنه قضى به للكبرى لأجل كبرها، بل إنه اجتهد واستفرغ وسعه في الاجتهاد في القضية حتى وصل في النهاية إلى أن هذا الولد ابن للكبرى.
المرأة الكبرى أخذت الولد وانطلقت به فمرت على سليمان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فخرجتا على سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، قالت الصغرى: يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى).
إذاً: الله سبحانه آتى سليمان فهماً لم يؤته لداود في مسائل الحكم.(9/6)
حكم داود سليمان في المرأة التي شهد عليها بالزنا زوراً
ويوجد قضية ثالثة من هذه القضايا ذكرها الحافظ ابن كثير نقلاً عن ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس: (أن امرأة حسناء كانت في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت، فاغتاظوا منها لأنها لم توافقهم على الزنا والعياذ بالله، فشهدوا عليها عند داود أن كلبها يزني بها، فلما شهد الأربعة وهم من كبار القوم، وظن أنهم صادقون أخذ بكلام الأربعة وأقام عليها الحد فرجمها، فماتت المرأة مظلومة، قال: ثم لما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان.
فقد كان صغيراً وقت حدوث هذه القضية، فقعد مع أطفال صغار معه، واستحضر هذه القضية وعملها لعبة يلعبها أمام داود.
فانتصب سليمان حاكماً، وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت كلبها من نفسها، فقال سليمان: فرقوا بينهم، أي: فرقوا بين الشهود الموجودين: فسألهم: ما كان لون الكلب؟ فسأل الأول: فقال: كان لونه كذا.
وسأل الثاني: ما كان لون كلبها؟ قال كذا، ثم الثالث ثم الربع، فاختلف الأربعة، فكل واحد ذكر لوناً، فتنبه داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لذلك وأتى بالأربعة الشهود وفرق بينهم، وسألهم عن لون الكلب فكل واحد ذكر لوناً، فأمر بقتلهم جميعاً، لأنهم تسببوا في قتل المرأة.
وقد استفاد من هذه الآية بعض الحكام حكماً احتج به على الكفار، فإن الوليد هدم كنسية دمشق فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كنت مصيباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان أبوك مصيباً فقد أخطأت، يعني: يريد منه أن يقع في أبيه فلو قال له: أبي كان مخطئاً سيشنع عليه، وإن قال: أنا المخطئ، سيقول له: كان أحق بالملك رجلاً آخر غيرك.
فأجابه الوليد وأرسل إليه بهذه الآية: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79]، قال: كان داود وسليمان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام قد حكما في هذه القضية، فالله سبحانه وتعالى قال: {َكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، أي: هذا حكم بحكم وبعلم، وذاك حكم بحكم وبعلم، ولكن الله عز وجل زاد الآخر فهماً على الأول فاحتج بهذه الآيات على ملك الروم.
فالنبي له أن يجتهد ولكن لا يقر على خطأ، فإذا أخطأ نزل الوحي يبين الخطأ، لكن غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا كذلك، فالإنسان لا يجوز له أن يجتهد إلا وهو أهل للاجتهاد، ففي الحديث عن بريدة رضي الله عنه وهو عند أبي داود وهو صحيح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به)، أي: أنه عرف الحق من علمه ومن اجتهاده فقضى بهذا الحق الذي عرفه، فهو في الجنة.
الثاني: قال: (ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار)، أي: هو عارف وعالم بالحق ولكنه قضى بغير الحق، فهو في النار.
الثالث: قال: (ورجل قضى للناس على جهل)، ولم يذكر أصاب أم أخطأ، فكأن الذي يقضي بجهل سواء أصاب أم أخطأ هو في النار، لأنه ليس من حقه الاجتهاد، وليس من حقه القضاء، وليس من حقه أن يفتي في الأحكام وهو لا يعرف هذه الأحكام.
والحق واحد، يعرفه الإنسان ويقضي به، فإن فعل ذلك استحق أن يكون من أهل الجنة.(9/7)
أقول العلماء في تعدد الحق في المسألة الاجتهادية
اختلف العلماء في مسائل الاجتهاد، هل الحق في المسألة واحد، أو ممكن أن يتعدد فنقول كل مجتهد مصيب؟ والراجح أن الحق واحد، إذ لا يعقل أن يجتهد اثنان في مسألة فيقول واحد هي حلال والثاني يقول هي حرام ويكون الحق مع الاثنين، فتكون حلالاً وحراماً في الوقت نفسه، لا يكون هذا الشيء.
ولكن المجتهد الذي يصيب يؤجر أجرين: أجراً على اجتهاده وأجراً على إصابته، والمجتهد الذي يخطئ يؤجر أجراً واحداً على أنه اجتهد في هذا الأمر حتى وإن أخطأ.
ولذلك في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران) يعني: دخلت القضية إلى الحاكم فحكم فيها باجتهاده وكأن في الحديث تقديماً وتأخيراً.
ومعنى (اجتهد) استفرغ الوسع وبذل الجهد في ذلك فوصل إلى شيء معين وقناعة معينة فحكم بهذا الشيء، فيكون له أجران إذا أصاب، (وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر).
أما العلماء الذين قالوا: كل مجتهد مصيب، فقد احتجوا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح قال: فإنه لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب جاءه جبريل فقال: وضعت السلاح، فوالله ما وضعنا سلاحنا، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس وقال: (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)، فاجتهد الصحابة في ذلك، فالبعض قالوا إنه أراد الاستعجال، فنصلي ونسرع، والفريق الثاني قالوا: قصد أن الصلاة ستكون هنالك، فلم يصلوا العصر حتى وصلوا بني قريظة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وعرف الأمر فلم يلم أحداً من الفريقين ولم يخطئ واحداً من الاثنين صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: لو كان أحد الفريقين مخطئاً لبين له صلى الله عليه وسلم.
وقال الفريق الآخر: لعله إنما سكت صلى الله عليه وسلم عن تعيين المخطئين؛ لأنهم غير آثمين، والوقت الآن ليس وقت تعنيف أو تأنيب، فطالما أنه اجتهد فأصاب له أجران، أو اجتهد فأخطأ فله أجر، فيكون أحد الفريقين مخطئاً، ولكن الجميع مأجور، لذلك استغنى النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكره: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) ولم يعنف واحداً من الفريقين.
والأرجح: أن المجتهد إذا اجتهد فأخطأ -طالما أنه من أهل الاجتهاد- فله أجر وإن كان مخطئاً، وإذا كان يجتهد ويصيب فله أجران: أجر على الإصابة وأجر على الاجتهاد.
وهذه القضية التي قضى فيها سليمان وداود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام لو حصلت في شريعتنا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار).
جبار أي: هدر، والعجماء: البهيمة.
وفي الحديث: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالليل، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهله).
ففرق بين الليل وبين النهار، والكلام على الحقول والبساتين المفتوحة؛ لأن صاحب الماشية لو ظل يحرسها بالليل والنهار لن يستطيع أن يتفرغ لبقية أعماله أبداً، ولكن صاحب الماشية يذهب في النهار إلى حقله وماشيته معه، وجاره في حقله وماشيته معه، فلو فرضنا أن ماشية الآخر جاءت إلى حقلك فإنك ستردها بالنهار، لكن في الليل إذا اعتدت ماشية الغير على مزرعتك فإن صاحبها يغرم.
أما بالنهار فيلزم صاحب كل مزرعة أن يحرس مزرعته حتى لا تدخل فيها ماشية الآخر، إلا إن تعمد صاحب الماشية بأن قادها ودخل بها البستان فإنه يضمن ليلاً أو نهاراً، لكن إذا كان بالليل لزمه أن يضعها في الحظيرة ويقفل عليها بحيث لا تهجم على مزرعة غيره، وإذا فرط في الليل أو لم يفرط فإن عليه الضمان.
قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:79] فالله سبحانه وتعالى أعطى سليمان الفهم، وأعطى داود الحكم والعلم، وأعطاه أيضاً الصوت الجميل الذي تسمعه الجبال فتردد معه التسبيح، وأيضاً الطير فقد كان داود عليه الصلاة والسلام يمر بالجبال مسبحاً فتداوله بالتسبيح، وأي إنسان يرفع صوته فإن صدى الجبال يردد معه، فهل سيكون مثل داود؟ لا؛ لأن الجبال تسبح حقيقة معه عليه الصلاة والسلام، فهو يسبح وجمال صوته وعظمة الخشوع الذي هو فيه تجعل الجبال تخشع وتردد معه تسبيح الله سبحانه وتعالى.
مع أن الجبال صامتة جامدة، ولكن {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، فكل شيء يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نسمع ولا نفقه تسبيحهم.
وإنما كانت الجبال تردد مع داود بأمر الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ:10]، ومعنى (أوبي معه) أي: رجعي معه هذا التسبيح.
والطير كلمت سليمان وسبحت مع داود، فأعطى الله سبحانه كلاً منهما من فضله ومن هبته سبحانه وتعالى.
وقال هنا: يسبحن أي: يصلين معه، كذلك يسبحن بصوت يسمعه داود.(9/8)
تفسير قوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس)
قال: سبحانه: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80].
واللبوس عند العرب بمعنى عدة الحرب، وقد اختصه الله عز وجل بصنع الدروع: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11]، فهو سبحانه وتعالى عليم وبصير بهم، فقال له: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11]، فقد كانت الدروع صفائح من حديد يلبسها الإنسان، لكنه جعلها حلقاً، ليسهل لبسها على الإنسان.
قال: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11]، والسابغ هو الساتر للبدن كله، وجعله يصنعها من حلقات كأنها سلسلة، يضع الحلقة على الحلقة، ويضع المسمار بينهما، قال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:11] أي: اجعل المسمار على قدر الحلقة، لتبقى الحركة في الدرع نفسه، وهو عبارة عن حلقات متصلة، بين كل حلقة وحلقة مسمار يصل الحلق بعضها ببعض، فإذا لبسها الإنسان في الحرب استطاع أن يتحرك وأن يصبر على الكر والفر وأن يدافع عن نفسه.
{لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} [الأنبياء:80]، الضمير راجع إلى هذه اللبوس، فتعلم الناس منه صناعة الدروع.
قال: {لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء:80]، وهذه قراءة ابن عامر وأبي جعفر وحفص عن عاصم.
القراءة الثانية قراءة شعبة عن عاصم وهي قراءة رويس عن يعقوب: (لِنحصنكم من بأسكم) بنون الجماعة التي تدل على التعظيم، وهي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، أي: حتى نحفظكم ونحرزكم من بأسكم، ومن حربكم ومن قتالكم.
وباقي القراء يقرءون: ((لِيُحْصِنَكُمْ)) أي: ليحصنكم بها من بأسكم فتتقون بها السيوف والرماح ونحو ذلك، فتعلمتم بعد هذه الدروع وطورتم فيها، فهل شكرتم الله سبحانه وتعالى الذي أنعم عليكم بذلك؟ قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80] ولم يكن داود وحده من الأنبياء صاحب صنعة، بل كثير من الأنبياء كانت لهم حرف، وقد أخبر الله عز وجل عن أنبيائه أنه يرزقهم سبحانه، ولا يجعل رزقهم على أحد أبداً؛ فلا أحد يتكفل لهم بطعام ولا شراب إلا هو سبحانه، ولذلك جعل رزق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، فرزقه صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله، فله خمس المغنم صلوات الله وسلامه عليه، أما الفيء فأمره إليه صلوات الله وسلامه عليه يقسمه كيف يشاء.
فداود عليه الصلاة والسلام كان يصنع الدروع، وأيضاً كان يصنع الخوص ويبيعه وهو ملك، ولا يأخذ من أكل المملكة شيئاً عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً كان آدم عليه الصلاة والسلام يعمل بيده ويحرث ويزرع الأرض ويأكل من كسب يده عليه الصلاة والسلام.
ونوح كان نجاراً عليه الصلاة والسلام، ولقمان الحكيم كان خياطاً، وطالوت كان دباغاً، ثم جعله الله عز وجل رئيساً على بني إسرائيل وقائداً لهم.(9/9)
تفسير سورة الأنبياء [81 - 82]
لقد أكثر الله عز وجل في القرآن من ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، وذلك ليقتدي بهم المسلم في دعوته، ومنهجه، ومقارعة الباطل وأهله، وليستلهم منها الدروس والعبر، وليعلم كيف عاش أنبياء الله تعالى، وصبروا حتى أتاهم نصر الله.(10/1)
ضرورة التأسي بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ * وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:81 - 84].
ذكر الله تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها نبذاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فذكر من قصصهم في هذه السورة التي سميت باسمهم ما يزيد المؤمن إيماناً، ويجعله يرى أمامه أسوة وقدوة حسنة في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فيقتدي بهم في أفعالهم ودعوتهم وقيامهم وصبرهم على المحن التي ابتلاهم الله عز وجل بها، ويتعلم منهم كيف كانوا يأتمرون في أقوالهم بأمر الله سبحانه وبشريعته.
ونتعلم من هؤلاء الأنبياء عدم الاعتماد على أحد إلا على الله سبحانه وتعالى، في مطعمنا ومشربنا وملبسنا، فهو الذي يرزقنا.
وقد كانوا عليهم السلام أصحاب حرف وصناعات، حتى أن داود عليه الصلاة والسلام وهو نبي يحكم بشرع الله سبحانه وتعالى كان لا يأكل إلا من عمل يده، وليس هو وحده، ولكن كل أنبياء الله عز وجل كانت لهم حرف يحترفونها، ويأكلون ويشربون من هذه الحرف، ومن ما عملت أيديهم.
وقد ذكر الله عز وجل داود عليه الصلاة والسلام هنا: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
وما من أحد إلا ويعلمه الله عز وجل شيئاً يصلح له، ويكون فيه معاشه ورزقه.
فمن الناس من لا يستفيد مما علمه الله سبحانه، فيترك العمل ويسأل الناس، ويستسهل أن يأخذ رزقه من الحرام.
وما من مخلوق إلا وقد قسم له الله عز وجل رزقه، ولا بد أن يأتيه هذا الرزق، فعلى الإنسان المؤمن أن يبحث عن وظيفته بالطرق الحلال، ولا يقل قد ضيق الله عز وجل علي، ويتوجه إلى الحرام؛ فإن رزقك مقسوم، وكسبك معلوم، ولن يزداد شيئاً على ما قسمه الله عز وجل، فابحث عن الحلال تجد الحلال، ويرزقك الله سبحانه تبارك وتعالى، وائتس بهؤلاء الأنبياء الذين كانوا لا تلهيهم صنعتهم ولا كسبهم الرزق عن الدعوة إلى الله عز وجل، ولا تشغلهم عن المرتبة العظيمة التي هم فيها، وهي مرتبة النبوة.
وقد كان داود عليه السلام يصنع الدروع في قومه -كما ذكر القرآن- وكان يصنع الخوص، ويبيع ذلك، وكان يأكل من عمل يده، وهو ملك على قومه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عمله الجهاد في سبيل الله سبحانه، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي).
فكان أشرف الرزق له صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، وكان له خمس الفيء وخمس الغنيمة، ومع ذلك فقد كان لا يأخذ شيئاً لنفسه صلى الله عليه وسلم، إلا قدر ما يكفيه صلوات الله وسلامه عليه، ويكون الباقي للمسلمين.
وكان يقول: (ليس لي من أموالكم ولا مثل هذه)، يأخذ من جنب البعير شعرة، ولا يستقلها صلى الله عليه وسلم، قال: (إلا الخمس، والخمس مردود عليكم) يعني: حتى الخمس الذي سيكون نصيبه صلى الله عليه وسلم من الفيء كان يأخذ منه ما يكفيه هو وأهله صلى الله عليه وسلم، ويرد الباقي على المسلمين، وعلى الزوار والأضياف والفقراء والمحتاجين.(10/2)
تفسير قوله تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة)(10/3)
تسخير الله الريح لسليمان عليه السلام
قال الله عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
فسخر الله عز وجل له الريح عاصفةً، تجري بأمره.
والعاصفة الشديدة التي تجري بسرعة شديدة جداً.
وأصل العصف: التبن، وهو القشر الذي يبقى بعد أن ينزع الحب، فعندما تشتد الريح يطير هذا العصف والقشور، فسميت الريح العاصف؛ لأنها تطير بمثل ذلك فلا يبقى، فريح عاصفة أي: شديدة الوقوع.
فسخرها الله عز وجل لنبيه سليمان لما سأله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:35 - 39].
أي: أمسك هذا أو امنن وأعط من شئت فلن نسألك عن هذا الذي كنت سألته.
وقد جعل له الله عز وجل ملكاً لا يكون لأحد من بعده، ومن آداب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أمسك شيطاناً تسلط عليه في الصلاة، خنقه وأراد أن يربطه في سارية المسجد ليصبح يلعب به الصبيان، قال صلى الله عليه وسلم: (فذكرت دعوة أخي سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فتركته).(10/4)
تعليم الله لسليمان لغات الطير والحيوان
فلما طلب عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده سخر له الله عز وجل جنوداً عظيمة جداً، من الإنس والجن والطير والدواب، لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، وأفهمه لغاتها، حتى إنه سمع من النملة عندما قالت: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فسمع دعاءها، وفهم كلامها، قال تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19].
وهذا يذكره الله عز وجل من سير هؤلاء عليهم الصلاة والسلام حتى نتبع هؤلاء في حمدهم لربهم وشكرهم له سبحانه، وحتى نعلم أن الأنبياء منهم من ابتلي بالخير فحمد وشكر، منهم من ابتلي بالضر فصبر وأجر، فكل له الأجر عند الله سبحانه.
فسليمان عليه السلام أعطاه الله عز وجل الريح، قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} [الأنبياء:81]، أي: شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء:81]، كما قال تعالى: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36]، أي: تسير بالسحاب وتحمله إلى حيث أراد، فتجري الريح رخاءً حيث أصاب.(10/5)
شكر الله عند حدوث النعم
وعندما أعطاه الله ذلك، ونظر في هذا الملك العظيم؛ حتى إنه ليسمع كلام النملة ودعاءها قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي} [النمل:19]، أي: حفزني وادفعني واجعل في ما يهيجني لحسن الدعاء، وحسن الطلب.
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] وهذه ليست دعوة سليمان وحده، وإنما هي دعوة الصالحين من المؤمنين، فإنهم يدعون: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
فذكر الله عز وجل دعوة سليمان في النمل، وذكر دعوة المؤمن الصالح في الأحقاف، والمؤمن يتعلم من هؤلاء الأنبياء كيف يشكر النعم.
والله عز وجل ما شيء أحب إليه من الحمد، فيحب من عباده أن يحمدوه، فإذا أعطي أحد نعمة فليحمده ويشكره، فإن حمده وشكره أحب إليه من هذه النعمة التي أعطاها لهذا العبد.
فذكر الله الأنبياء ما أعطاهم وما ابتلاهم حتى نأتسي ونقتدي بهم، فإذا أنعم الله عز وجل على أحدهم بالخير وجده حامداً شاكراً، وإذا ابتلاه بالشر وجده شاكراً صابراً لله تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، والأرض التي باركنا فيها أرض الشام، تجري إليها الريح بأمر سليمان عليه الصلاة والسلام، وإلى حيث شاء الله عز وجل من هذه الأرض أو إليها.
{وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، أي: عالمين بتدبير هذا الكون كله، وكيف دبرنا لسليمان أمره، وكيف سخرنا له هذه الريح؟ فنحن نعلم أمر الريح وأمر سليمان، وأمر كل شيء.
((وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ)) وليس بسليمان وحده، ولا بالريح وحدها، ولكن كنا بكل شيء عالمين.(10/6)
تسخير الشياطين لسليمان عليه السلام
قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82].
يغوصون يعني: تحت الماء في البحار، والغواص: الإنسان الذي ينزل في أعماق البحر، حتى يأتي بالدر وبالجوهر وباللؤلؤ من داخل البحار فلم يسخر الإنس للغوص، ولكنه سخر الجن لذلك قال: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} [الأنبياء:82].
وقال: (منهم)؛ لأنها ليست المهنة الوحيدة للشياطين عند سليمان؛ وإنما {وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} [الأنبياء:82]، فمنهم من هو في عمل عال، ومنهم منهم في أعمال حقيرة.
قال: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء:82] أي: لا يقدرون أن يهربوا من سليمان، ولا يرفضون له طلباً من مطالبه، وإنما هم مسخرون له، كما قال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:37]، من فوق وتحت، يفعلون له ما يشاء من سلاح وحصون وقصور، ويصنعون له التماثيل، وينحتون له القدور والجواب فسخرهم له يصنعون ذلك، ومنهم من يغوص في البحر، فيأتيه بما يريد من درر ولؤلؤ وغيره.(10/7)
إيتاء الله لسليمان علم الفراسة
وكذلك وهب الله داود وسليمان وآتاهما ما قال تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فسخر مع داود الجبال يسبحن، وسخر له الجمادات، وسخر لسليمان هذا الذي ذكره سبحانه وتعالى في هذه الآية.
وأعطاه الله من علم النبوة الفراسة، وهي علم عظيم من الله عز وجل.
والإنسان صاحب الفراسة يتفرس في الشيء، أي: يتوسم وينظر إليه فيكشف ما وراء ذلك من أشياء، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، والمعنى: أن ناساً اختصهم الله بهذا العلم من أنواع العلوم، وهو علم الفراسة.
والفِراسة بالكسر والفَراسة بالفتح، فمعناها بالكسر النظر والتثبت ودقة النظر، والتعرف على الأحوال، والتأمل في الشيء، وتوقع ما يكون هذا الشيء.
وأما الفَراسة: فهي ركوب الخيل والفرس.
فمعنى: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم)، يعني: ينظرون في الشيء، ويتوقعون وراءه شيئاً، فيكون على النحو الذي توقعوه، ولقد اختص الله عز وجل بها سليمان عليه السلام فأعطاه منها الكمال، وأعطى غيره من الخلق دون ذلك، وربنا سبحانه وتعالى يعطي كل إنسان ما يصلح له.
وعلم الفراسة علم عظيم جداً، وأصله موهبة من الله، وليس من اكتساب الإنسان، وإنما الإنسان يتعلم العلوم الشرعية، ولكن في النهاية هذا من الله للإنسان، فقد يكون على شيء من أمر الفراسة قد يزيد وقد يقل.(10/8)
فراسة عمر رضي الله عنه
وقد كان سيدنا عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه له تفرسات عجيبة جداً، فكان ينظر في الأشياء ويتوقعها، فتكون على النحو الذي يتوقعه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فروي عنه أنه رأى رجلاً وهو يسير، فقال عمر رضي الله عنه: هذا كاهنهم.
وفي رواية قال: لست ذا رأي إن لم يكن هذا الرجل في الكهانة، يعني: كان كاهناً في الجاهلية.
وقال: علي بالرجل! فأتوا به، فسأله عمر: هل كنت كاهناً؟ فقال الرجل: ما رأيت استقبل مسلم بشر من ذلك، يعني: أنا رجل مسلم، وتستقبلني بهذا الشيء.
فلما ألح عليه عمر قال: نعم.
كنت كاهناً في الجاهلية.
ومن فراسته التي تفرد بها عن الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله عز وجل القرآن: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125]).
ولم ينزلها الله من أجل أن عمر قالها، فالقرآن قد نزل إلى السماء الدنيا قبل عمر وقبل غيره، ولكن الغرض أن عمر وافق القرآن، وإلا فقد قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] والزبور هو كتاب داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والذكر: القرآن أي: قد كتبنا ذلك في القرآن، وأثبتناه في الزبور قبل أن نخلق الأنبياء، فقد كتبنا: أن الأرض سيرثها عبادي الصالحون.
إذاً: فالقرآن كان موجوداً قبل وجود النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود عمر، وقبل وجود غيره.
وإنما عمر رأى ذلك فوافق ما هو مكتوب عند الله عز وجل في كتابه.
أيضاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن) فنساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن دون حجاب، ولم ينههن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه لا ينهى إلا أن يأتي إليه الوحي، فلما طلب عمر ذلك نزلت الآية على ما قاله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وأنزل الله عز وجل في ذلك آيات الحجاب، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] إلى آخر الآيات.
وأيضاً قال عمر لنساء النبي صلى الله عليه وسلم حين أغضبن النبي صلى الله عليه وسلم: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم:5]، ونزل القرآن بما قاله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وشاوره النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى في يوم بدر، وشاور أبا بكر وغيره، فرأوا أنه لا يقتلهم، وإنما يأخذ منهم مالاً ليستعينوا به على جهادهم، ونزل القرآن يوافق عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].(10/9)
الفراسة لا تستلزم العصمة
فالغرض أن عمر كان من أعظم الناس فراسة رضي الله عنه تبارك وتعالى عنه، وليس معنى ذلك أن ما يقوله أو يحدث به كله صواب، أو أنه إذا رأى رأياً فلا يشور أحداً.
وإنما المعنى: أن الله عز وجل يرينا بعض آياته في بعض من خلقه.
فإن عمر رضي الله عنه جاءته امرأة تشكو زوجها، فقالت: هو من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى الصباح، ويصوم النهار حتى المساء.
ثم أدركها الحياء فقال لها عمر بن الخطاب: قد أحسنت الثناء.
ولم تذهب المرأة فـ عمر الذي هو صاحب الفراسة العظيمة، لم يفهم مقصدها، وإنما فهمه كعب بن سوار فقال لـ عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لقد أبلغت الشكوى إليك، أي: شكت شكوى كبيرة وعظيمة، فقال: علي بزوجها، فجاء زوجها فقال لـ كعب: اقض بينهما، فقال: أقضي وأنت شاهد؟ قال: إنك قد فطنت لما لم أفطن له من حاجتها.
فقال: إن الله عز وجل يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ثم قال لزوجها: صم ثلاثة أيام، وأفطر عندها يوماً -يعني: كأنك متزوج أربع نسوة؛ فإذا كنت متزوجاً أربع نسوة فمن حقها أن تجعل لها كل أربعة أيام يوماً، فصم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوماً- وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة.
أي: كأنك متزوج أربع نساء.
فقال عمر رضي الله عنه: لا أدري من أي أمرك أعجب، من فهمك شكواها، أم من قضائك بينها وبين زوجها، اذهب إلى البصرة فاقض بين أهلها.
فجعله قاضياً لأهل البصرة.
فلم يكن علم الفراسة مختصاً بـ عمر وحده ولا بـ كعب وحده، ولكن الله عز وجل قسم من ذلك العلم لمن يشاء من خلقه، فجعل لهم نصيباً.(10/10)
فراسة عثمان بن عفان رضي الله عنه
هذا عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه ينظر إلى أحد الصحابة ويقول: يأتي أحدكم وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال أنس رضي الله عنه: أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: لا.
ولكنه شيء يجعله الله عز وجل في قلب المؤمن، فكان كما قال.(10/11)
فراسة علي رضي الله عنه
وعلي بن أبي طالب كان له من ذلك أيضاً شيء عجيب رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ومن ذلك: أن رجلين من قريش دفعا إلى امرأة مائة دينار، وقالا: لا تدفعيها إلى أحد دون صاحبه.
ولبثا حولاً، فجاء أحدهما فقال: إن صاحبي قد مات، فادفعي إليّ الدنانير، فرفضت المرأة وقالت: إنكما قلتما: لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه، فلست بدافعتها إليك، فاستعان عليها بأهلها وجيرانها، فأعطته.
ثم ظهر الثاني بعد كذا وقال لها: ادفعي إلي الدنانير.
فقالت: إن صاحبك قد أخذها، فقال: أولم نأمرك ألا تدفعيها لأحد دون صاحبه؟ فرفعها لـ عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فأراد عمر أن يقضي عليها، فلما كاد يقضي عليها قالت له: ارفعنا إلى علي رضي الله عنه، فرفعهما إلى علي رضي الله عنه، فعرف علي أنهما مكرا بها من أجل أن يأخذوا منها مائتي دينار بدلاً من مائة دينار، فقال لها علي رضي الله عنه: أليس قد قلتما! لا تدفعيها إلى أحد منا دون صاحبه؟ فقالا: بلى.
قال: فاذهب فائت بصاحبك! فبطلت حيلتهما.(10/12)
فراسة إياس بن معاوية
ومن أصحاب الفراسة الذي كانوا مشهورين بذلك أحد القضاة وهو إياس بن معاوية بن قرة إياس المزني رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان له من ذلك حظ عظيم جداً، وكان الناس يذهبون يتعلمون من إياس وكان أبوه معاوية بن قرة صحابياً، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان إياس مشهوراً بالفراسة، وكانوا يتعلمون منه ذلك، وهذا العلم هبة من الله، فمن أراده فليتعلم العلوم الشرعية؛ ليفتح الله عليه في ذلك.
ومن قضاء إياس الذي كان الناس يعجبون منه: أن رجلاً استودع رجلاً مالاً، ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى إياساً فأخبره، فقال له إياس: انصرف حتى أنظر في أمرك، واكتم أمرك، ولا تعلمه أنك أتيتني، ثم عد إلي بعد يومين.
فدعا إياس هذا الرجل، وقال له: إني قد حضر إلي مال كثير، وأريد أن أودعه عندك، فاذهب وجهز له بيتاً فذهب الرجل وجهز له بيتاً، وبعد يومين جاء الرجل الأول إلى إياس، فقال له إياس: اذهب إليه وقل له: أعطني مالي وإلا شكوتك للقاضي.
فأعطاه ماله، ثم ذهب إلى إياس يطلب منه المال، فزجره وانتهره، وقال له: لا تقربني يا خائن!.
وقصة أخرى عجيبة لـ إياس بن معاوية في ذلك: جاءت أربع نسوة إلى مجلسه، فقال إياس: أما إحداهن فحامل، والأخرى مرضع، والثالثة ثيب، والرابعة بكر! فتعجبوا من أمره، وسألوا فكن كما قال: فسألوه كيف عرف ذلك وهن متحجبات؟ فقال: أما الحامل فكانت تكلمني وترفع ثوبها عن بطنها، أي: مع ثقل الحجاب.
وأما المرضع فكانت تمسك بثديها، فعرفت أنها مرضع.
وأما الثيب: فكانت تكلمني وعيني في عينها.
وأما البكر فكانت تكلمني وعينها في الأرض.
يعني: المرأة الثيب عندها جراءة ليست عند المرأة البكر، فاكتشف الأربع من مجرد الكلام معه.
وقصة أخرى عجيبة من قصصه رضي الله عنه: أن رجلاً استودع غيره مالاً، فجحده هذا الإنسان، فرفعه إلى إياس، فسأله: أين أعطيته هذا المال؟ فقال: في البرية، في الصحراء فقال: أين هو؟ قال: عند الشجرة الفلانية.
فسأل إياس غريمة: أتعرف مكان الشجرة؟ فقال: لا.
فقال إياس للمدعي: اذهب إليها فعلك دفنت المال عندها، فلعلك إن رأيتها تذكرت أين وضعت المال.
فذهب الرجل فجلس إياس مع المدعي عليه ينظر في القضايا، ثم سأل المدعى عليه: أتراه وصل إلى الشجرة؟ فقال: لا.
إن المسافة بعيدة.
فأخذه وقرره بما عليه من مال.(10/13)
فراسة الخليفة العباسي المعتضد
وممن كان يضرب به المثل في الفراسة المعتضد أحد خلفاء بني العباس، فقد كانت له عجائب في الفراسة، فكان يتفرس في الشيء فيكون على النحو الذي رآه.
ومما يذكرون عنه: أنه كان جالساً يشاهد الصناع، فرأى فيهم عبداً أسود منكر الخلقة، شديد المرح، يعمل ضعف ما يعمل الصناع، فيبني بناء ثم يجلس ينظر إلى العمال.
فقال لبعض جلسائه: أي شيء يقع لكم في أمره؟ أي: ما رأيكم في هذا الشيء، فقالوا: من هذا حتى تصرف إليه نظرك؟ قال: لقد رأيت فيه أنه لا يخرج من حالين، فإما أن يكون معه دنانير قد ظفر بها أو أنه يتستر بالعمل من أجل أن يسرق.
فدعاه، ودعا بالضراب فضربه، وحلف له إن لم يصدقه أن يضرب عنقه، فلما هدده اعترف الرجل وقال: لي الأمان؟ فقال: نعم إلا فيما يجب عليك بالشرع، وهذا من ذكائه، فقال: كنت أعمل في الآجر -أي: في الطوب- فاجتاز رجل في وسطه هيمان، فجاء إلى مكان فجلس فيه، فحل الهيمان وأخرج منه دنانير، فقتلته، ثم حملته على كتفي، فطرحته في الفرن، فأحرقته، ثم أخرجت عظامه، فطرحتها في دجلة.
فأنفذ المعتضد من أحضر الدنانير وإذا مكتوب عليها، فلان بن فلان، فعرف صاحبه، فجاء بامرأته، فقالت: هذا زوجي، ولي منه هذا الطفل، خرج وقت كذا وكذا، ومعه ألف دينار، فغاب إلى الآن، فسلمها الدنانير، وأمرها أن تعتد من زوجها، وأمر بضرب عنق هذا الأسود، ثم حرقه كما حرق صاحبه.(10/14)
فراسة الخليفة العباسي المنصور
والخليفة العباسي المنصور أيضاً كان له مثل ذلك؛ فقد جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة، فكسب فيها مالاً، فدفع هذا المال إلى امرأته، ثم طلبه من المرأة، فذكرت أنه سرق من البيت.
فإذا بـ المنصور يسأله أسئلة غريبة: هل لها ولد من غيرك؟ قال: لا.
فدعا المنصور بقارورة فيها طيب له رائحة نفاذة، لا نظير له في البلد، ثم قال للرجل: خذ هذا الطيب لعله يذهب همك، فأخذه، فجعل المنصور أربعة من الناس على أبواب المدينة، كل واحد على باب المدينة، وأمرهم إن شموا رائحته على أحد غير هذا الرجل أن يأتوا به، وقد تخيل أن المرأة لها عشيق آخر تحبه، وأنها خانت زوجها وسرقته من أجل هذا العشيق.
وإذا كانت قد أخذت المال وأعطته العشيق فمن باب أولى أن تعطيه الطيب، فكان كما ظن المنصور، فأخذ العشيق، وأعاد المال لصاحبه.
ودخل شريك مرة على المهدي فقال للخادم: هات عوداً للقاضي، وشريك القاضي كان من أعدل القضاة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولما دخل على الخليفة أراد الخليفة أن يكرمه، فقال للخادم: هات عوداً للقاضي.
فذهب وأتى بعود الطرب ووضعه في حجر القاضي، فقال: ما هذا؟ فاستحيا الخليفة وقال: هذا العود أخذه صاحب العسكر البارحة فأحببت أن يكون كسره على يديك! فتخلص من هذا الشيء بهذه الحيلة؛ حتى لا ينتشر خبره عند الناس.
وهناك أشياء كثيرة من هذا القبيل.
فالغرض: أن علم الفراسة هبة من الله سبحانه وتعالى، يهبها للإنسان كما وهبها لسليمان، ووهبها لغيره من الناس، كـ عمر بن الخطاب وعثمان رضي الله عنه وعلي، وغيرهم من الناس، والله سبحانه وتعالى يهب لعباده ما يشاء من فضله.
والمفروض ألا يحسد الإنسان أخاه إذا وجد نعمةً عنده دونه؛ فإن ربنا نهانا عن الحسد، والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك، وربنا أمرنا أن نتعوذ من شر حاسد إذا حسد، وقد علمنا من خيار الأنبياء كيف أعطى الله الأب شيئاً، وأعطى الابن شيئاً آخر، فلم يحسد أحدهما الآخر على النعمة، ولكن شكرا الله سبحانه تبارك وتعالى على النعم، وسليمان شكر الله عز وجل على النعمة عليه وعلى والديه، قال تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/15)
تفسير سورة الأنبياء [83 - 85]
قص الله عز وجل علينا في كتابه قصص أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك قص علينا نبينا صلى الله عليه وسلم قصصهم لتكون زاداً لنا في عبادتنا لله عز وجل، وفي الدعوة إليه، وفي الاقتداء بهم، فقد كانوا صلوات الله وسلامه عليهم لا تبطرهم النعم، ولا تيئسهم المصائب والابتلاءات، بل كانوا صابرين لأمر الله في جميع أمورهم وأحوالهم، ومن هؤلاء الأنبياء الذين قص الله علينا قصصهم أيوب عليه السلام، فقد ابتلي في جسده وماله وولده وأهله، فصبر لأمر الله، فرفعه الله في الدنيا والآخرة.(11/1)
تفسير قوله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر)(11/2)
حال أيوب عليه السلام قبل البلاء
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:83 - 85].
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات جملة من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام؛ حتى نتأسى بهم ونتبع هداهم، كما قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، أي: اقتد بهدي هؤلاء، واتبعهم في صبرهم وفي تبليغهم دعوة ربهم سبحانه وتعالى.
ومنهم أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو العاشر من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذين ذكروا في هذه السورة.
قال الله سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
فذكره هنا في الأنبياء، وذكره أيضاً في سورة ص فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:41 - 43].
فذكر لنا سبحانه في هاتين السورتين شيئاً من قصة أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه شيئاً من قصة أيوب عليه السلام، وذكر أهل الكتاب شيئاً من قصص أيوب عليه السلام، والله عز وجل لم يفصل قصته، وإنما أراد أن يرينا البلاء الذي ابتلي به هذا النبي، وواضح من الآيات أن البلاء كان شديداً.
ومما ذكر عن أيوب عليه الصلاة والسلام أنه كان بين إبراهيم وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد كان غنياً أعطاه الله عز وجل في أرض الشام أرضاً عظيمة جداً، وأعطاه بساتين، وأعطاه من الأنعام ومن الخيرات شيئاً كثيراً، وأعطاه الكثير من الأبناء، فقيل: كان له ثلاثة وعشرون ولداً، والله أعلم، وهذا مذكور عن ابن عباس وغيره، وكانت له زوجة صالحة طيبة، فكان في رغد عظيم جداً؛ فقد جعله الله سبحانه تبارك وتعالى نبياً وجعله ملكاً في ما هو فيه من أشياء.(11/3)
بلاء أيوب عليه السلام
قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
أي: لقد مسني أعظم الضر وأشد ما يكون من البلاء الذي لا يصبر على مثله، ولكن نبي الله عليه الصلاة والسلام صبر لأمر الله تبارك وتعالى.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وكذا رواه أبو نعيم في الحلية وذكره الشيخ الألباني رحمة الله عليه في السلسلة الصحيحة: (إن نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة).
وأيوب كان قد بلغ من العمر سبعين سنة وهو على العبادة وعلى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وابتلي في هذا السن، فبعد أن صار شيخاً ابتلاه الله سبحانه وتعالى لينظر كيف يصبر؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لبث به بلاؤه ثمانية عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد)، يعني: ابتعد عنه القريب، أي: الأهل، والبعيد: الجار والأصحاب.
قال: (فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان).(11/4)
سنة الله في ابتلاء المؤمنين
عندما ينزل البلاء تقع فتنة شديدة، والناس ينظرون لهذا المبتلى على أنه قد فعل شيئاً، وينسون أن الله عز وجل يبتلي عباده الصالحين.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة قلل له من البلاء).
فيبتلى الرجل على قدر دينه، فلا تقل عن المبتلى إنه كان يعمل شيئاً ما، فقد يكون هذا المبتلى من الصالحين، وله عند الله درجة عالية لن يبلغها عمله، فيبتليه الله عز وجل حتى يرتفع إلى هذه الدرجة.
إذاً فلا تشمت بإنسان مبتلى، وإذا مررت به فقل في نفسك: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى كثيراً من خلقه، وفضلني على كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تتمثل بأبيات وتقول: إذا ما الدهر جر على أناس كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا فلا تشمت بأحد أبداً، فقد يأتي البلاء على إنسان وتشمت به والبلاء ينتظرك بعده، فلا تشمت بإنسان نزل به البلاء، والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بما يشاء.
قال صلى الله عليه وسلم: (فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين) فبدأ هذا الإنسان يتشكك في الأمر، وإلا فهو يرى أيوب أمامه، وهو نبي من أنبياء الله عليه الصلاة والسلام، ومن الصابرين، وهو معصوم لا يكذب ولا يقع في خطيئة، فكونه يسيء الظن فيه هكذا هذا أمر صعب.
قال: (تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به، فلما راحا إلى أيوب عليه الصلاة والسلام لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما تقولان غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق)، يعني: كان يعمل هذا وهو عمل صالح عظيم، فلا يسيء أحد الظن أبداً في نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
ولما قال له الرجل ذلك قال: لا أدري ما تقولان؟ ولكن أعرف من حال نفسي أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، أي: يتشاتمان ويتنازعان في الشيء، وكل منهما يحلف أنه حقه، ولا يمكن أن يكون ملكهما معاً، فعندما أرجع إلى بيتي أكفر عن المسيء في ذلك، ولا يلزمه أن يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام.(11/5)
صبر زوجة أيوب معه في بلائه
قال: (وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكته امرأته بيده حتى يبلغ)، وهذا من أعظم صبر هذه المرأة، فقد صبرت مع أيوب صبراً عظيماً، وصبر هو أيضاً صبراً يضرب به المثل عليه الصلاة والسلام، وهو نبي وحق له ذلك.
وأما المرأة فليست نبية، ومع ذلك صبرت مع أيوب عليه الصلاة والسلام صبراً عظيماً قل أن تصبره امرأة مع زوجها، فكانت تخرج معه إلى حاجته، وتمسكه بيده حتى يبلغ.(11/6)
معافاة الله لأيوب من بلائه
قال (فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحى الله إلى أيوب أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، قال: فاستبطأته فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان) أي: قد كشف الله عز وجل عنه هذا البلاء العظيم الذي كان عليه.
قال: (فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك رأيت نبي الله هذا المبتلى) أي: لم تعرفه؛ لأنه منذ ثماني عشرة سنة في البلاء والآن زال عنه هذا كله فلم تعرفه، فسألته: أتعرف أيوب هذا النبي المبتلى عليه الصلاة والسلام؟ ثم قالت: (والله على ذلك ما رأيت أشبه به منك إذا كان صحيحاً.
فقال: فإني هو عليه الصلاة والسلام) فقد شفاه الله سبحانه وتعالى مما كان به، وعوضه ما أخذ منه تبارك وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان له أندران) والأندر: الخزانة فيها الحبوب والتمر وغيره، قال: (كان له أندران، أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض) فأعطاه ذهباً وفضة على هذا الصبر، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فدرجته عظيمة ومرتبته عظيمة وأجره عظيم على صبره عليه الصلاة والسلام.
وقد جاء أنهم كانوا يقولون له: سل ربك أن يشفيك فيقول: (عافاني الله سبحانه وتعالى سبعين سنة أفلا أصبر سبعين مثلها؟)، يعني: إذا كان منّ علي بصحة وبعافية وبمال وبولد سبعين سنة، أفلا أصبر سبعين سنة مثلها؟(11/7)
بيان أن من الأدب عدم نسبة الشر إلى الله
قال الله تبارك وتعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83].
وهذا فيه غاية الأدب، فهو لم يقل: مسستني بضر، أو أنزلت بي الضر، والله عز وجل هو الذي يخلق الخير والسقم والبلاء.
والله سبحانه وتعالى ينزل على عبده ما يشاء سبحانه، ولكن من الأدب مع الله أن ينسب العبد النعمة والخير إليه سبحانه، وهو الفاعل لكل شيء سبحانه، فيقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخير بيديك، والشر ليس إليك) فالخير من عند الله سبحانه، وهو الذي خلق الخير وغيره، ولكن الأدب مع الله سبحانه أن ينسب العبد البلاء إلى نفسه، كما قال إبراهيم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80] وهو الذي أمرضه، ولكنه تأدب مع الله سبحانه وتعالى، فقال: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] فلم ينسبه إلى الله، وإن كان الله عز وجل هو الذي يشفيه، وهو الذي يمرضه سبحانه وتعالى.
وهنا سيدنا أيوب عليه الصلاة والسلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] وهذه قراءة الجمهور.
وقرأها حمزة: (أني مسنيْ الضر وأنت أرحم الراحمين).
فبعد ثماني عشرة سنة طلب من ربه سبحانه أن يكشف عنه البلاء.
مما جاء في الآثار: أن أصحاب أيوب عليه الصلاة والسلام جاءوا إليه فقالوا له: ذلك أنك أذنبت ذنباً لا يعلمه إلا الله عز وجل، قال: فكان أشد ما كان عليه سوء الظن، فسجد لله عز وجل ونادى ربه وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فكشف الله عز وجل عنه ذلك.(11/8)
تفسير قوله تعالى: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر)(11/9)
رد الله على أيوب أهله بعد كشف ضره
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84]، أي: فكشفنا كل ما به من ضر، ولم نترك منه شيئاً.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84]، أي: بعد أن أخذهم منه، وكأن الله عز وجل أخذ أولاده الثلاثة والعشرين كما ذكر ابن عباس، ثم ردهم عليه ربه سبحانه، فقيل: ردهم بعدما أماتهم، فأحياهم له، وقيل: إنه أعطاه أجرهم وأعطاه بدلاً منهم، ولعله يكون كذلك، ولم يذكر لنا سبحانه وتعالى الأمر، ولكن الله على كل شيء قدير، فهو قادر على إحيائهم له بعد موتهم، كما ذكر لنا في بني إسرائيل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] أي: أنهم وجدوا الطاعون ينزل في الناس، فخافوا وهربوا لعلهم ينجون من الطاعون.
فلما هربوا وخرجوا قال لهم الله عز وجل: موتوا! فماتوا جميعهم، ثم أحياهم بعد ذلك، والله على كل شيء قدير.
فقد يفعل ذلك آية، فيميت الإنسان قبل أجله ثم يبعثه لأجله المعلوم عند الله عز وجل، وقد يكون إحياء الله لأولاد أيوب من هذا الباب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84].
ولعل المعنى: آتيناه أجر أهله، أي: صبره على أهله، فيكون بتقدير محذوف هنا: وأعطيناه في الدنيا مثلهم، ويوم القيامة يجد الجميع في جنة الخلد معه.
ومما جاء أن إبليس ذهب إليه ليوسوس إليه فما قدر عليه، فسأل الله عز وجل أن يسلطه عليه فأراد الله أن يري الملائكة والخلق كيف يصبر هذا الإنسان فابتلاه، وقد قال في سورة ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص:41] وكأنه يذكر أن الشر من الشيطان تسلط عليه، أو أنت سلطت علي هذا الشيطان ففعل بي ما فعل وابتلاني في أصدقائي فوسوس لهم فأساءوا الظن في، وابتلاني في امرأتي فأنا أسأت الظن فيها، فمسني الشيطان بنصب وعذاب.
فقال الله عز وجل: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] والركض: الضرب بالرجل، ومنه ركض فرسه، يعني: ركب عليه وضرب برجليه على جنبيه حتى يجري، فهنا قال: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] أي: على الأرض، فنبعت له عين ماء من الأرض فاغتسل منها وشرب فأبرأه الله تبارك وتعالى فصار أحسن مما كان.
قال تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84].
هنا ذكر رحمة من عندنا، وقال في ص: {رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص:43].
وهنا قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: تذكرة للعابدين، أي: لكل العباد الذين يعبدون الله سبحانه، ويعلمون أن الله يبتلي العبد بالخير وبالضر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35].
فالله عز وجل يبتلي عبده بما يشاء، فإذا أعطاه المال فهذا بلاء من الله عز وجل فليحمد ربه سبحانه، وليؤد الحقوق التي أمر بأدائها، وإذا ابتلاه الله عز وجل بالمرض فليعلم أن هذا من عند الله ولا يكشفه إلا الله سبحانه، وليدع بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء: (أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك، شفاءً لا يغادر سقماً).(11/10)
حلف أيوب أن يضرب زوجته وبره في ذلك
قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
وكأنه حصل شيء بينه وبين امرأته، فقيل: إن المرأة جاءها الشيطان فوسوس إليها بشيء، وقال لها: اطلبي من أيوب كذا فإذا فعله فإن الله تبارك وتعالى يشفيه، فطلبت منه ذلك، فقيل: إنه أمرها بشيء من الشرك تطلبه من أيوب، فلما طلبته أقسم أيوب أن يضربها مائة جلدة على ذلك، وقيل غير ذلك.
فالمقصود: أنه أقسم على شيء فعلته هذه المرأة الصالحة الصابرة أن يضربها مائة جلدة، والله عز وجل أرحم الراحمين يقول له: ما ذنبها، وقد جلست معك هذه السنين الطويلة صابرة؟ وفي النهاية لو فرضنا أنها أخطأت في شيء فالله غفور رحيم كريم سبحانه.
فأمر أيوب: أن أوف بيمينك، ولكن اضربها ضربة واحدة.
قال تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44] والضغث العثكول من النخل، وهو القنو المدلى الذي فيه البلح، فأمره أن يأخذ قنواً منه فيه مائة خوصة فيضرب بها المرأة ضربة واحدة، ليبر بقسمه، وجعل له الله عز وجل هذا المخرج، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
قال تعالى: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص:44] ثم مدحه الله سبحانه بقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] وقال سبحانه هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:84] أي: نادى فاستجبنا له.(11/11)
شدة تضرع أيوب ودعائه لربه
قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء:83] والنداء أشد الدعاء.
فدعا ربه سبحانه وناجاه متوسلاً إلى ربه سبحانه فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وهذا من الجمال في
السؤال
{ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء:83] والأصل أن يقول: ارفع عني الذي أنا فيه، ولكنه قال: رحمتك عظيمة وأنت أعلم ما الذي أريده، فتلطف في سؤاله ربه تبارك وتعالى، فقال: {أََنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] أي: فلتسعني رحمتك.
فاستجاب له الله عز وجل سريعاً، قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) [الأنبياء:84] وكان قد تباطأ عن الدعاء سنوات، واستحيا من ربه الذي أكرمه بالخير كثيراً، وقال: أفلا أصبر كثيراً على هذا الذي ابتلاني به؟ فلما نادى ربه قال: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84] أي: آتيناه الأجر على أهله الذين ماتوا، أو أحيا الله سبحانه أهله، والله أعلم بذلك.(11/12)
نعمة الله على أيوب بعد شفائه
قال تعالى: ((وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)) أولاداً آخرين.
قال تعالى: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:84] فرحمناه وكشفنا ما به وأعطيناه، ورحمنا زوجته فأمرناه ألا يحنث وأن يضربها ضربة واحدة.
قال تعالى: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] أي: حتى يتذكر كل إنسان عابد لله سبحانه رحمة رب العالمين الواسعة، وأنه الذي يستجيب لمن يدعوه كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62].
لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه عن أيوب: (إن أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام بينما كان يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثوه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟) يعني: ألم أعطك أندر ذهب وأندر فضة، وحاشا لأيوب أن يكون طماعاً، وهو نبي معصوم، وإنما هو أدب الأنبياء.
وقد قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) ولو أن إنساناً ذهب إلى إنسان غني وكبير وأعطاه شيئاً من الصدقة فقال له: لا أريد، لكان ردها قبيحاً، وحينئذ يشعر المعطي بالضيق لرفضه، وكلما ازداد قدره ومقامه كان الرفض أوجع له.
ولله عز وجل المثل الأعلى، ولا شيء يناله سبحانه وتعالى من عبده، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، فلما أنزل الله على أيوب هذا الجراد من الذهب ابتلاء له، ونظراً لما يصنع قبل صدقة ربه عليه، فسأله الله ممتحناً له ومختبراً: (ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال: بلى؛ ولكن لا غنى لي عن بركتك).
فهنا منه تأدب في الأخذ وتأدب في الجواب صلوات الله وسلامه عليه، فذكره الله عز وجل في هذه الآيات وفي غيرها.(11/13)
تفسير قوله تعالى: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل)(11/14)
بيان مدح الله لإسماعيل بصدق الوعد
قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86].
وقد كان أيوب صابراً، قال تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44] أي: كثير الأوبة إلى الله عز وجل، وقد كان الأنبياء مثله، ولكنه أشدهم بلاءً في جسده وفي ماله وفي ولده.
قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ} [الأنبياء:85] وهو ابن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وقد كان نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام.
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] أي: كان يعد الوعد ويصدق في وعده، وقد وعد شخصاً أن يلقاه في المكان الفلاني بعد ثلاث، فانتظر بعد ثلاث ولم يأت الرجل إلا بعد ثلاث ليال، فقال له: لقد شققت علي! وصبر.
وليس مطلوباً من الناس أن يكونوا على مثل هذا الوعد العظيم والوفاء، ولكن يذكر ربنا لنا هؤلاء لنقتدي بهم في الوفاء بالوعد، وكثير منا اليوم يعد ولا يفي بوعده، فالواجب الوفاء بالوعد.
وقد جاء مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن رجلاً وعده قبل الإسلام أن يأتيه في المكان الفلاني، فانتظره النبي صلى الله عليه وسلم وبات في مكانه ينتظر الرجل حتى ظهر الرجل بعد ذلك وقال: لقد شققت علي، فإسماعيل فعل ذلك، واقتدى به النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى عن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55] وأنت قبل أن تدعو الناس ادع أهلك، وأولى الناس أن تنقذهم من النار أهلك، وقد قال الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
إذاً: إسماعيل كان صادق الوعد عليه الصلاة والسلام، وكان رسولاً نبياً، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عمله عند ربه مرضياً، وذكر هنا أنه من الصابرين، وأي صبر أعظم من صبر إسماعيل عليه الصلاة والسلام حين أخذه أبوه ليذبحه.(11/15)
قصة إتيان إبراهيم عليه السلام بأهله إلى مكة وتركهم فيها
وقد ولد إسماعيل من هاجر، فلما ولد لها غارت سارة من هاجر، فأخذ إبراهيم بوحي من الله عز وجل هاجر وابنها إسماعيل بعيداً عن سارة وذهب بهما إلى مكة.
وكانت سارة في الشام.
وقد كانت مكة صحراء لا طعام فيها، ولا ماء، وعندما وصل بهما إلى مكة ترك بها جراباً من تمر وسقاء فيه ماء، وتركها هناك عند موضع البيت، ولم يكن البيت في ذلك الوقت موجوداً، وترك ابنه الوحيد الذي جاء له بعد أكثر من ثمانين سنة في هذا المكان مع أمه.
فقالت هاجر: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في هذا المكان الذي لا أنيس به ولا جليس؟ فسكت إبراهيم وكأن الأمر شديداً على نفسه، ولكنه ينفذ أمر الله عز وجل ووحيه، فانطلق وتركها، فقالت: إلى من تتركنا؟ وفي النهاية قالت: إلى الله؟ قال: نعم.
قالت: إذاً فلا يضيعنا.
وذهب إبراهيم حتى إذا كان وراء أكمة، أي: ثنية، وقد كان متجلداً أمامها وأمام ولده الصغير حتى لا يتسخطان أمر الله، فلما توارى خلف الأكمة ظهر حنانه عليه الصلاة والسلام ودعا ربه متوسلاً إليه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:37 - 38].
فدعا عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه، وترك ابنه، فشب هذا الولد، وكان أبوه يأتيه بين الحين والحين ينظر إليه ويرجع، وصبر الولد وشب.(11/16)
قصة بناء إبراهيم للبيت مع ابنه إسماعيل وقصة الذبح
فأتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوماً وقال لإسماعيل: (إن الله أمرني بأمر، قال: فامض إلى ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأفعل.
قال: أمرني أن أرفع القواعد من البيت، فأعانه إسماعيل فرفعا القواعد من البيت، ثم رجع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله عز وجل.
وبعد فترة أوحى الله إليه رؤيا منامية: أن اذبح ولدك، وقد كان إبراهيم في كل حين ينظر إلى ابنه بأنه لم يربه وتركه في هذا المكان، فذهب إليه وقال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فلم يقل له: هذه أضغاث أحلام وهرب منه، فهو يعلم أن أباه نبي من عند الله سبحانه، وأن هذا وحي من الله.
فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] أي: أصبر لذلك.
وعندما أراد أن يذبحه طلب منه إسماعيل أن يلقيه على وجهه حتى لا ينظر إليه وهو يذبحه.
فلما كاد أن يذبحه نزل أمر الله عز وجل: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:104 - 107].
فكان بلاءً بيناً عظيماً للإثنين، لإبراهيم عليه الصلاة والسلام وابنه إسماعيل، فكان إسماعيل صابراً، فذكره الله عز وجل من الصابرين.
وكذلك إدريس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكذلك ذو الكفل قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].
فكل واحد من هؤلاء صبر لأوامر الله عز وجل، فمدحهم الله تبارك وتعالى.
وقد رفع الله إدريس مكاناً علياً في السماء الرابعة، وقد قيل إنه كان قبل نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: بل كان بعده، فالله أعلم.
فالغرض: أنه ابتلاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فصبر لأمر الله سبحانه، فرفعه الله بصبره مكاناً علياً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/17)
تفسير سورة الأنبياء [85 - 91]
يذكر الله سبحانه جملة من الأنبياء ويذكر صفاتهم ودعوتهم لقومهم وصبرهم وحلمهم عليهم، كل ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يقتدي بهم في ذلك، حتى إذا واجه من قومه الإعراض والإيذاء يصبر عليهم ويستمر في دعوتهم حتى يؤمنوا، أو يجاهدهم ويقاتلهم.(12/1)
قصص إسماعيل وإدريس وذا الكفل
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:85 - 86].(12/2)
قصة إسماعيل عليه السلام
ذكر الله عز وجل في سورة الأنبياء جملة من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، لنتعظ بذكرهم ونتأسى بفعلهم وصبرهم وجهادهم، فذكر بعضهم في هذه الآيات، قال تعالى: ((وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)).
أول هؤلاء الأنبياء هو إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وذكرنا بالأمس شيئاً من قصته، وكيف صبر لأمر الله سبحانه بالذبح، حتى نجاه الله سبحانه وتعالى، وفداه بذبح عظيم، وكيف أنه أعان أباه في بناء الكعبة، ودعوا ربهما سبحانه وتعالى، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، وكيف أنه صبر على أهله، فكان يأمرهم بالصلاة والزكاة، وكان من الخاشعين لربه العالمين.(12/3)
قصة إدريس عليه السلام
إدريس عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، ورسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله عز وجل هنا أنه من الصابرين ومن الصالحين، ((وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)).
فوصفهم بالصلاح ووصفهم بالصبر، وإدريس النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: كان قبل نوح على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وقيل: بل كان بعد نوح عليه الصلاة والسلام والله أعلم.
وقالوا: كان إدريس أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبسها، ونظر في علم النجوم وعلم الحساب، وسير النجوم وغير ذلك.
فربنا سبحانه وتعالى ذكر أنه رفعه مكاناً علياً، رفعه بصبره ورفعه بصلاحه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة معراجه أنه رآه في السماء الرابعة، فرفعه الله مكاناً علياً.(12/4)
قصة ذي الكفل والأقوال في نبوته وعدمها
قوله: ((وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)) اختلفوا في ذي الكفل هل كان نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أم كان رجلاً من الصالحين، فالبعض يقول: هو نبي من الأنبياء باعتباره ذكر مع هؤلاء الأنبياء في هذه السورة.
والذي يقول: ليس من الأنبياء وإنما كان رجلاً صالحاً، وإنه تكفل لنبي من الأنبياء بشيء فوفى بما طلب منه، باعتبار ما جاء في حديث الترمذي وإسناده ضعيف: (كان الكفل لا يتورع من ذنب عمله، فأتته امرأة ولما ذكرته بالله تركها)، إلى آخر الحديث، ويشبه هذه القصة ما ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الثلاثة الذي آواهم المطر إلى غار في الجبل، ومنهم رجل وقف من امرأة موقف الرجل من زوجته فذكرته بالله فتركها وترك لها الدنانير التي كان قد أعطاها.
فذكر في الترمذي أن اسمه الكفل، وفي الآية هنا، ذو الكفل، وقلنا: إن هذا الحديث الذي في سنن الترمذي إسناده ضعيف، فلا يصح أن يفسر به هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، وهنا كونه يذكر أنه من أهل الصلاح ومن أهل الصبر ينافي أن يكون هذا من أهل الفساد وأنه لا يتورع من ذنب، ثم فجأة يثني عليه بذلك، لعل هذا يكون بعيداً، والأقرب أنه كان نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو أنه تكفل لنبي من الأنبياء بأمر الأمة من بعده، فقد جاء في الرواية: (أن نبياً من أنبياء الله عز وجل في بني إسرائيل، لما كبر في سنه طلب من قومه من يقوم لي في هذا الأمر، أو من يكفل لي أمر الناس، بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب -يعني: من أجل أن يكون حاكماً وقاضياً على قومه- فقام شاب فقال: أنا، فقال: اجلس -كأنه استصغر أمره، كيف يكون حاكماً على هؤلاء القوم وهو صغير؟ - فسكت وكرر في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث، وكل مرة يقوم هذا الرجل فاستخلفه، فقام وتكفل بذلك).
وكان من العباد قبل أن يتولى الحكم على قومه، فلما تولى الحكم لم ينس العبادة، من صيام وقيام ليل، وقام بالأمر الذي تكفل به خير قيام.
كذلك كان يقوم على أمر الناس ولا يغضب، وهذا أمر صعب جداً، لا يقوم به إلا نبي من الأنبياء، حتى إن الشيطان أراد أن يخرجه عن حده وعن قوله فيغضبه فلم يقدر عليه، فجاءه في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم، في وقت القيلولة، جاء الشيطان في صورة إنسان مظلوم يطلب الحكم له، فقال: أنا رجل مظلوم، وطلب منه أن يأتي معه لينصره على خصمه، فأرسل معه رجلاً فرفض، وأصر إلا أن يأتي معه، فخرج معه فلما أخذ بيده وانطلق إذا به يفر ويهرب منه، وإنما أراد أن يجعله يغضب؛ لأنه أزعجه وقت نومه، لكنه لم يغضب، وعرف أنه الشيطان.
ومدحه الله عز وجل في هذه السورة بأنه من الصابرين، والصبر لم يكن مرة واحدة يصبر فيها، ولكن واضح من الآية أنهم صبروا صبراً عظيماً وصبراً طويلاً فقال: ((كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)) أي: كل واحد اختصه الله عز وجل بمهام قام بها وأداها على أكمل الوجوه، وصبر لأمر الله حتى توفاه الله سبحانه.
قال سبحانه: ((وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا))، ورحمة الله سبحانه وتعالى جنته، فرحمهم الله عز وجل ورضي عنهم وأدخلهم جنته سبحانه، ثم قال: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء:86]، وإن هنا سببية معناها: لأنهم من الصالحين.(12/5)
تفسير قوله تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضباً وكذلك ننجي المؤمنين)(12/6)
حكم التفضيل بين الأنبياء
قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
وذا النون هو سيدنا يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذو من الأسماء الستة بمعنى صاحب، يعني: صاحب النون، والنون الحوت الضخم الكبير، فذو النون هو صاحب الحوت، وصاحب الحوت هو يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ذكر الله تعالى هنا يونس عليه السلام فقال: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) وذكره الله عز وجل في سورة الصافات فقال: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:139 - 144].
وذكره أيضاً في قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48 - 50].
هذا كله في سيدنا يونس بن متى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى قصته، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه ذكره في الحديث، وقال: (لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن متى)، عليه الصلاة والسلام.
وفي الحديث الآخر: (لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى).
وفيه رواية ثالثة: قال: (ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى)، وفي رواية: (لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا أفضل من يونس بن متى).
هذا من تواضع النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإلا فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، وهو سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك قال ذلك تواضعاً؛ حتى إذا قرأ الإنسان هذه الآيات في كتاب الله عز وجل لا يستهين بسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام، ولا يظن أنه لو كان مكانه لفعل أفضل مما فعله، أو يفاضل بين الأنبياء على وجه التحقير للبعض منهم، كأن يقول: لو كان نبينا صلى الله عليه وسلم مكانه كان كذا وكذا، فالرسول صلى الله عليه وسلم سد الباب، بل يتواضع صلوات الله وسلامه عليه ويهضم نفسه صلى الله عليه وسلم ويقول: (رحم الله أخي يوسف لو لبثت في السجن كما لبث ثم جاءني الداعي لبادرت) فهو يهضم نفسه صلى الله عليه وسلم ويقول: إن سيدنا يوسف كان على صبر عظيم جداً، فهو مع أنه كان في السجن ويأتيه الداعي ويقول: تعال كلم الملك، فيقول له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو كنت مكانه لما قلت هذا الشيء، ولخرجت مباشرة؛ لأن السجن بلاء شديد.(12/7)
قصة يونس عليه السلام مع قومه
من قصة سيدنا يونس عليه السلام ما ذكر الله عز وجل هنا: ((وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا)) يعني: غضبان لله سبحانه وتعالى، قالوا: مغاضباً لأجل ربه؛ لأن قومه عصوا ربهم سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى بعثه إلى أهل نينوى وهي بلدة من أرض الموصل في العراق، فدعاهم إلى الله فترة طويلة فلم يستجيبوا له وكذبوه، فوعدهم بنزول العذاب في وقت معين، وخرج عنهم مغاضباً لهم، ولكن خروجه هنا كان بغير إذن من الله سبحانه، يقول سبحانه: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))، يعني: نضيق عليه.
وهنا قراءة الجمهور، ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))، وقراءة يعقوب: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ)) أي: أن لن يضيق عليه في أمر دعوته إلى الله عز وجل، فخرج بغير إذن من ربه، وهنا تعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج مهاجراً من بلده مع إيذاء الكفار له حتى يأتي الإذن من الله سبحانه وتعالى.
فيونس عليه الصلاة والسلام خرج مغاضباً لقومه، فلما رأوا آثار العذاب، وأن العذاب آت من عند الله عز وجل، ويونس عليه السلام قد خرج وتركهم خضعوا وتضرعوا لربهم سبحانه وتعالى، قال ربنا سبحانه: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
فقوله: ((فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا)) أي: هلا كانت قرية آمنت فانتفعت بإيمانها قبل أن يأتي العذاب، إلا قوم يونس لما رأوا العذاب نفعهم الإيمان قبل أن ينزل العذاب؛ لأنهم خشعوا لله وتضرعوا لله سبحانه وتعالى، وعرفوا أن نبيهم صادق، فالله عز وجل ذكر أنهم الوحيدون الذين كشف عنهم العذاب قبل أن ينزل عليهم، فرحمهم الله وكشف عنهم العذاب.(12/8)
إلقاء يونس في اليم
ولما ذهب يونس من عند قومه ركب السفينة فلجت بهم وخافوا أن يغرقوا فتساءلوا فيما بينهم، فقال أحدهم: إن معنا عبداً آبقاً من ربه، وإنها لا تسير حتى يلقى في البحر، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقالوا: والله لا نلقيك، فاقترعوا مرة ثانية وثالثة وفي كل مرة تقع القرعة عليه، فألقى بنفسه في البحر، قال الله عز وجل: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:139 - 140]، أي: المملوء، {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141] يعني: ساهم في القرعة، فهم لما وجدوه نبياً معهم ويقول لهم: ارموني في البحر، بعد أن وقعت القرعة عليه، رفضوا إلقاءه في البحر حتى كرروا القرعة ثلاثة مرات، فألقى بنفسه في البحر، فالله سبحانه وتعالى سلط حوتاً يلتقمه، {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:142] أي: وهو آثم؛ لأنه عمل عملاً يلام عليه، ولو كان غيره لما كان يلام على ذلك، لو أن أحد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ذهب إلى قوم يدعوهم فرفضوا أن يقبلوا دعوته فخرج من عندهم إلى غيرهم كان مثاباً على ذلك ومأجوراً، لكن هذا نبي من أنبياء الله، والأنبياء مراتبهم عالية، وقد يكون الشيء من غيرهم حسنة ويكون منهم سيئة، ولذلك قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ لأن درجات هؤلاء المقربين عالية، فقد يكون منهم الشيء يعد عند الله عز وجل إساءة ويكون من غيرهم إحساناً وليس إساءة.
فهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لامه الله عز وجل؛ لأنه خرج بغير إذنه عز وجل.
قال تعالى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:142 - 144] أي: لبقي في بطن الحوت إلى قيام الساعة، ولكن الله عز وجل رحمه بتسبيحه؛ لأنه كان كثير التسبيح وكثير الصلاة وكثير الذكر لله سبحانه وتعالى، فنفعه ذلك، {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:145 - 146].
وهنا يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى أنه نادى في الظلمات؛ لأن الحوت يكون في أعماق البحر، وأعماق البحر تكون مظلمة، والجزء من البحر الذي فيه نور هو مقدار خمسين أو مائة متر من سطح البحر، وتحت ذلك ظلمات البحر.(12/9)
دعاء يونس في بطن الحوت
{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87]، أي: دخل بطن الحوت وهو مظلم، وهو في جوف البحر المظلم، وجاء عليه الليل المظلم، ظلمات بعضها فوق بعض، ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، هذا نداؤه ودعوته التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (دعاء ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له)، هذا دعاء عظيم جداً؛ لأن فيه توحيد الله سبحانه وتعالى، وفيه الاعتراف بالتقصير والذنب، وأن الإنسان ظالم لنفسه وظالم لغيره.
فلما قال هذا استجاب الله عز وجل له، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء:88] أي: مباشرة، ألهمه الله عز وجل ما يقول فاستجاب له سبحانه، قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] هنا ما قال: (فاستجبنا له فنجيناه من الغم) وإنما قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاه} [الأنبياء:88] لأنه لو قال: (فنجيناه) لكان المعنى: أننا استجبنا ولكن أبطأنا في نجاته، ولكن لما قال: (ونجيناه) أي: استجبنا له وحالاً كانت النجاة من الله عز وجل، فهذه الكلمة لها شأن عظيم عند الله عز وجل، فهو عندما قالها أنجاه الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، وهذا تفضل الله عز وجل وكرمه على عباده، فقوله: ((وَكَذَلِكَ)) أي: وهذا الإنجاء ليس مختصاً بيونس عليه السلام، بل كل إنسان مؤمن يرجع إلى ربه ويستغيث بربه ويقول ذلك ننجيه كذلك من البلاء ومن الكرب.
قوله: {وَكَذَلِكَ نُنْجِيَ} [الأنبياء:88]، بصيغة المضارعة، وهذه قراءة الجمهور.
وقراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ((وَكَذَلِكَ ُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ))، على صيغة الماضي.
والمعنى: أن الله عز وجل نجى المؤمنين من قبل ومن بعد، فكما نجى الله عز وجل يونس نجى غيره.
إن قصة ذي النون على نبينا وعليه الصلاة والسلام يذكرها لنا ربنا سبحانه وتعالى، فيخشى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان يسيء الظن، فقال: (لا تفضلوني عليه، أو لا يقل أحدكم: أنا خير من يونس) فلا ينبغي لك أن تقول على نفسك ولا على النبي إنه أفضل من يونس، والمعنى لا تقل: لو كنت مكانه كنت عملت كذا، أو تقول: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم مكانه كان عمل كذا، هذا لا ينبغي لأحد أن يقوله، ولا أن يخير بين الأنبياء على وجه التحقير للبعض الآخر.
ورد في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يستجيب الله له في البلاء فليكثر من الدعاء في الرخاء)، يعني: إذا كنت تريد أن يستجيب الله لك الدعاء عندما ينزل بك كرب، فأكثر من الدعاء، وعود الملائكة سماع صوتك باستمرار، حتى تقول: يا رب يا رب، ففي وقت الكرب ينفعك ذلك، فسيدنا يونس عليه الصلاة والسلام كان كل يوم يصعد إلى السماء منه تسبيح وصلاة وأعمال صالحة، والملائكة اعتادوا على ذلك، فلما حبس في بطن الحوت إذا به يقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، والملائكة تسمع صوتاً بعيداً فيقولون: يا ربنا صوت غريب من مكان بعيد، يقول: أما تعرفونه ذاك عبدي يونس، فيقولون: يونس الذي لم يزل يصعد إليك منه عمل متقبل، فالله عز وجل يلهمه أن يقول هذا الدعاء لينجيه بفضله سبحانه وتعالى.(12/10)
نجاة يونس من بطن الحوت وإرساله إلى مائة ألف أو يزيدون
قال تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] (فنبذناه) أي: ألقيناه، فالله عز وجل أوحى إلى الحوت بالتقامه، فما أن ألقى بنفسه في البحر حتى التقمه وابتلعه، ويوحي الله إلى الحوت أنه ليس رزقاً لك، وإنما أنت سجن فقط، فيكون سجناً له فلا يتأذى فيه، ويسبح لربه ويصلي له وهو في جوف الحوت.
قوله: (وهو سقيم) أي: مريض.
ثم قال: {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات:146]، ألقاه الحوت في العراء على الشاطئ، ليس هناك شيء يظله، وهو محتاج للطعام والشراب، فالله عز وجل أنبت عليه شجرة من يقطين، واليقطين هو القرع، فإذا بهذه الشجرة تظله، ويأكل من قرعها.
ثم قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، فالله عز وجل من عليه وتركه نبياً، بل وأرسله إلى قوم آخرين، {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148] وهنا ربنا سبحانه وتعالى قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] أي: كما نجينا يونس على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(12/11)
تفسير قوله تعالى: (وزكريا إذ نادى ربه وكانوا لنا خاشعين)
قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
وزكريا نبي من أنبياء بني إسرائيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أبو يحيى النبي عليه الصلاة والسلام، وزكريا هو الذي كفل مريم عليها السلام، وولده يحيى هو ابن خالة المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فكان زكريا زوج أخت مريم ومريم أم المسيح ويحيى هو ابن أختها، فهما أبناء خالة.
قوله تعالى: ((وَزَكَرِيَّا)) تقرأ بالمد وبالقصر، وقراءة القصر هي قراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف، كلهم يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّا))، وباقي القراء يقرءونها: ((وَزَكَرِيَّاء))، بالمد فيها، وستكون منصوبة، (زكرياءَ) يعني: اذكر زكرياء.
وهؤلاء الذين يقرءونها (زكرياء) لهم قراءتان فيها: الأولى: قراءة ابن عامر وشعبة: ((وَزَكَرِيَّاء إِذْ))، وباقي القراء في الهمزة الأولى يحققونها والهمزة الثانية يسهلونها، فيقول: ((وَزَكَرِيَّاء اِذْ نَادَى رَبَّهُ)) مثلما نقرأ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44]، فهذه القراءات التي فيها.
قال تعالى: ((وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)) أي: نادى ربه مناجياً داعياً: لا تذرني فرداً، وذكرها الله عز وجل في سورة مريم، كما قدمنا قبل ذلك أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6] فقال: ((يَرِثُنِي))، وذكرنا أن الإرث الذي يقصده هنا هو ميراث النبوة، أي: يكون نبياً مثلي، فيرث العلم الشرعي، وإلا فالأنبياء أبعد الناس عن طلب المال أو عن جمع المال من أجل أن يرثهم أولادهم هذا المال، وإنما رأى أن من حوله من الأولياء والعصبات من قومه وأهله لا يصلحون لحمل ميراث النبوة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه نادى ربه هنا وقال: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [الأنبياء:89] أي: أنا أدعو إليك فإذا مت انقطعت الدعوة بموتي.
{وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] أي: أنت الذي ترث الأرض ومن عليها، وأنت الذي ترث أمري، وأنت الذي تبعث من بعدي من يدعو القوم، ولكن اجعل لي ولداً يرثني في أمر النبوة والدعوة إليك.
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: بعدما كبر وشاخ في سنه استجبنا له ووهبنا له هذا الغلام يحيى.
{وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:90] أي: أن زوجة زكريا كانت عاقراً لا تلد فأصلح الله أمرها، وإذا بها تلد ويكون منها هذا الغلام، فالمعنى: أنا استجبنا له وأصلحنا زوجته فجعلناها تلد وجعلناها أهلاً لذلك، ووهبنا له يحيى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90]، يعني: لكونهم كانوا من الصالحين، ما هي أفعالهم؟ {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] هذه صفات عظيمة لهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم ويذكر صفاتهم حتى يتأسى بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم القوم أحوالهم.
قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] العجلة مذمومة إلا أن تكون في الخير وفي المسابقة والمسارعة إلى الخيرات، فليسرع الإنسان لعله لا يدري هل يعيش إلى أن يعمل الخير أو يموت قبله؟! فأي عمل من أعمال الخير بادر إليه وسابق إليه وسارع إليه، فالخير كله من عند الله سبحانه وتعالى، فسارع قبل أن يفوت عليك الخير أو تتبدل نيتك.
وقوله: ((وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)) الرغب: شدة الرغبة فيما عند الله سبحانه، والطمع في كرمه وثوابه ورحمته سبحانه وتعالى، ترجو ما عنده، والرهب: الخوف منه سبحانه وتعالى.
وكمال العبادة لا يكون إلا بكمال الحب لله عز وجل وكمال الذل بين يديه سبحانه وتعالى.
فهؤلاء الأنبياء كانوا يدعون ربهم راغبين فيما عنده، سائليه جنته سبحانه وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (ماذا تقول في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ)، يعني: لا أستطيع أن أدعو بما تدعو به أنت ومعاذ، ولكن أطلب منه الجنة وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: (حولهما ندندن) أي: دعاؤنا كله حول دخول الجنة والنجاة من النار.
فهنا قال: {يَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90] فلا يجوز للإنسان أن يقول: إني أدعو ربي محبة ولا أخاف منه، وإلا فربنا سبحانه قد خوفنا في كتابه بأنه شديد العقاب سبحانه، وأنه عزيز ذو انتقام سبحانه وتعالى، ولم يذكر ذلك إلا ليرغبنا في جنته ويرهبنا من عذابه وبطشه وانتقامه، فالعبد المؤمن من كمال عبادته لله سبحانه أن يحب الله ويرغب فيما عنده، وأن يخاف الله سبحانه وتعالى، ويحذر من ناره سبحانه ونقمته وعذابه سبحانه.
إذاً: أعظم العبادة ما كانت على الرغبة والرهبة؛ لأن الرغبة وحدها تدفعه في النهاية لأن يكون مرجئاً، وسيترك العمل في النهاية ولا يعمل، وكذلك الإنسان الذي يعبد الله عز وجل بالخوف وحده يصل في النهاية إلى اليأس ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الله عز وجل يرغب ويرهب عباده، فهو ما ذكر الجنة إلا لكي تطلبوا من الله عز وجل هذه الجنة، وذكر النار ليخوفكم منها وتتعوذوا بالله عز وجل منها ومن شرها ومن سمومها وجحيمها.
وقوله: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] أي: كانوا خاشعين لرب العالمين سبحانه، يدعون ربهم سبحانه ويخشعون ويتواضعون ويذلون أنفسهم لربهم سبحانه وتعالى.(12/12)
تفسير قوله تعالى: (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها)
قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
يعني: اذكر هذه التي أحصنت فرجها، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91] وذكر في سورة آل عمران وفي سورة مريم تفصيلاً طويلاً في ذلك، وهنا أشار إشارة: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91].
فهناك ذكر أنها كانت صغيرة السن ونذرتها أمها لخدمة بيت المقدس، فقامت بذلك على أتم التمام وأكمل الكمال وخدمت في بيت الله، وكانت طاهرة مطهرة عليها السلام، فطهرها الله سبحانه وجعلها سيدة نساء العالمين، وجعل لها في الجنة منزلة عظيمة جداً، وجعلها آية للخلق.
قال تعالى: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء:91] أي: طُهرَتْ وطَهَرَتْ نفسها ولم تقع في دنس أبداً.
{فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي: أرسلنا جبريل روح القدس فنفخ نفخة من روح الله عز وجل، فجبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها نفخة، فقام روح القدس بهذه النفخة.
قوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء:91]، شرف الله هذه الروح بإضافتها إليه عز وجل، فهذه روح الله سبحانه، كما يقال: هذه أرض الله، هذه سماء الله، وهذا بيت الله، والمسيح روح الله، أي: روح خلقها الله عز وجل وشرفها بإضافتها إليه.
وذكر هنا: ((فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا)) [الأنبياء:91] وهناك ذكر ((فَنَفَخْنَا فِيهِ)) [التحريم:12].
قوله: {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91].
أي: جعلناها آية وجعلنا ابنها أيضاً آية، فهو سبحانه جعلهما من أعظم الآيات، {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:91] وذلك أنها حملت بابنها من غير أب، فجعلناها آية كما كان آدم قبل ذلك آية من غير أب ولا أم، وكما كانت حواء آية من ذكر ليست من أنثى، فجعلنا المسيح ابن مريم آية أن جاء من أنثى ليس من ذكر، والله على كل شيء قدير، يخلق ما يشاء، خلق آدم من تراب لا ذكر ولا أنثى، فأوجده سبحانه وتعالى، وأوجد حواء من ذكر فقط، وأوجد المسيح عيسى ابن مريم من أنثى فقط، ويخلق ما يشاء سبحانه وهو على كل شيء قدير.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/13)
تفسير سورة الأنبياء [92 - 96]
إن دين الأنبياء واحد وهو الإسلام، ودعوتهم واحدة، فكلهم يدعون إلى عبادة الله سبحانه وتوحيده، ولكن الناس عبدوا مع الله غيره فصاروا فرقاً وأحزاباً، كل يعبد من دن الله ما يريد، فالذي يعبد الله وحده ويعمل الصالحات محفوظ عمله عند الله، وإذا أراد الله إهلاك قرية لا يقبل منها توبة، ولا رجوع لها إلى الدنيا مرة أخرى، وإن من علامات الساعة التي ذكرها الله تعالى خروج يأجوج ومأجوج، فإذا خرجوا فقد اقترب موعد قيام الساعة.(13/1)
تفسير قوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ * وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ * حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:92 - 96].
ذكر الله سبحانه وتعالى لنا ذكراً عن بعض أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام في الآيات السابقة، فذكر أسماء سبعة عشر من الأنبياء وأولادهم، ومنهم السيدة مريم عليها السلام، ومنهم ذو الكفل على أنه كان نبياً أو كان عبداً صالحاً.
بعد أن ذكر هؤلاء الأنبياء قال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] إشارة إلى الأنبياء ومن تبعهم من الأقوام على دين الله سبحانه وتعالى، فالجميع أمة واحدة، ومجتمعون على شيء واحد، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى.
فدين الله هو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده، والذي قال فيه سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فالله سبحانه سمانا المسلمين، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أسلم نفسه وبدنه ووجهه لله، فوصفنا الله بوصف إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وصار اسماً اختاره الله عز وجل لهذه الأمة أمة الإسلام، وإن كان دينه سبحانه هو دين الإسلام قبل ذلك، كما كان نوح إذ قال لربه: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
قال ابن عباس: الأمة بمعنى: الدين، وقال: هو دين الإسلام، فقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] يعني: هذا دينكم الذي جاءكم هو دين هؤلاء الأنبياء من قبلكم، وهو دين الإسلام، فذكر الله عز وجل الأنبياء من لدن نوح إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، أي: هذا دينكم، وحاله أنه دين واحد من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، الرب واحد والدين واحد، فكيف يتوجه العباد لغير رب العالمين سبحانه بالعبادة.
وقوله تعالى: {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] الجميع يقفون عليها بالسكون، ما عدا يعقوب يقف عليها بالياء: (وأنا ربكم فاعبدوني) وإذا وصلها أيضاً يصلها بالياء يقول: (فاعبدوني * وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93].(13/2)
تفسير قوله تعالى: (وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون)
فإذا كان الدين واحداً والرب واحداً، فالذي يخالف هذا الدين يستحق أن يعذبه الله سبحانه.
وأخبر عن هؤلاء أنهم {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء:93]، أي تقطعوا هذا الدين فمنهم من عبد الله سبحانه وتعالى وهم أهل الإسلام الذين تابعوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة أو ادعى على الله سبحانه وتعالى أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً.
فقوله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} [المؤمنون:53] أي: قطعوا وفرقوا دينهم فصاروا شيعاً، ومنهم من فرق الدين، فذهب لعبادة الأصنام أو عبد الملائكة، أو ادعى على الله سبحانه وتعالى كذباً أن له الصاحبة وأن له الولد، وعبد من دون الله عز وجل ما لم ينزل به سلطاناً.
قال تعالى: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء:93] هؤلاء الذين زعموا أنهم يعبدون غير الله سبحانه لن يرجعوا إلى هذا الغير، وإنما يرجعون إلى الله سبحانه.
فكل هؤلاء أفراداً وجماعات يرجعون إلى الله ليجازيهم ويحاسبهم، فهم فريقان إما أهل الأعمال الصالحة والتوحيد، وإما أهل الشرك والكفر.(13/3)
تفسير قوله تعالى: (فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه)
قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94].
هذا قيد، فقد يفعل الرجل من الكفار عملاً صالحاً، ولكن لا يقبل منه؛ لأنه ليس مؤمناً، فشرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [الأنبياء:94] للتبعيض لم يقل: من يعمل الصالحات؛ لأنه قليلٌ من يعمل كل الصالحات، بل لعله من التكليف بما لا يطاق، أن كل إنسان يعمل كل الأعمال الصالحة، ولكن الله عز وجل تكرم على العباد فجعل الإنسان يعمل من الصالحات، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الأنبياء:94] أي: عمل أعمالاً صالحة وكان مؤمناً فهذا لا كفران لسعيه.
قال تعالى: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] الكفران بمعنى: الستر، وبمعنى: التضييع، وبمعنى: الجحد، ومنه الكافر، سمي كافراً لكونه جحد فقال: لا يوجد إله، فكأنه غطى على هذه المعلومة ولم يخرجها ولم يقل بها.
والكافر أيضاً: الزارع، وهو الفلاح الذي يضع البذرة في الأرض ويغطي عليها التراب، فهذا كفرها أي: غطاها بالتراب لكي تظهر بعد ذلك.
فهذا يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، فهؤلاء زراع وهؤلاء زراع، ولكن عبر في الثاني بالكفار؛ لأن المقصود: أنه زارع، ولكنه من هؤلاء الكفرة، فيعجب الزراع المؤمنين الذين زرع الله عز وجل في قلوبهم الإيمان فنبت أعمالاً صالحة، فتغيظ منهم الكفرة الذين كفروا ربهم، فستروا أمر الله عز وجل، وكأنهم قالوا: لا إله، وعبدوا مع الله عز وجل آلهة أخرى، وجحدوا نعم الله عز وجل، فوجهوا العبادة لغير الله سبحانه، فهؤلاء الكفار مصيرهم النار، والمؤمنون لا كفران لسعيهم، يعني: لن نضيعه، ولن نستره، ولن نغطيه، ولكن نظهره يوم القيامة في كتاب، وسنجزيهم عليه أعظم الثواب.
وقوله تعالى: {لِسَعْيِهِ} [الأنبياء:94] أي: ما سعاه، وما تعب فيه، واجتهد وعمل الصالحات.
قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] يطمئن الخلق أن لا شيء يضيع عندنا، فالله عز وجل لا ينسى شيئاً ولكن يطمئنك، ستجد صحيفتك يوم القيامة، وكل أعمالك موجودة في هذه الصحيفة، فيوم القيامة لا يضيع شيء مما عملته.
ويفهم من هذه الآية أن الذين يعملون السيئات سيكون عقابهم شديداً، وعذابهم أليماً، وتظهر أعمالهم التي عملوها، ولا شيء يضيعه الله سبحانه وتعالى، بل كل شيء يُكتب في كتاب.(13/4)
تفسير قوله تعالى: (وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون)
قال الله سبحانه: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95].
أي: يحرم عليهم أن يرجعوا، فإذا أهلكناهم لن نرجعهم مرة أخرى إلى الدنيا.
قرئت: (حرام) وهذه قراءة الجمهور، وقرئت: (وحرم على قرية) وهي بنفس المعنى، مثل: حلال وحل، حرام وحرم.
فالجمهور يقرءونها: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ} [الأنبياء:95]، وأما شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف يقرءون: (وحرم على قرية) أي: هذا محرم عليهم، إذا جاءهم العذاب فأهلكناهم فلا رجوع إلى هذه الدنيا.
إذاً: على هذا المعنى فإن قوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] كأن (لا) بمعنى: (ما) الموصولة، وكأنه حرام رجوعهم، فيكون حراماً رجوع هؤلاء الناس إلى هذه الدنيا مرة ثانية.
وهم يتمنون الرجوع عند الله سبحانه وتعالى ويقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] لكن الله يقول: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] فحرام بمعنى: وجب ولزم عدم رجوعهم إلى الدنيا.
وهناك معنى آخر اختاره ابن عباس رضي الله عنه وهو: لا يرجعون بالتوبة، يعني: حظرنا عليهم التوبة، فالله عز وجل لا يقبل التوبة في موضعين: إذا جاء العذاب من عند الله سبحانه وعاينه الكفار فلا يقبل توبتهم.
والحالة الثانية: عند الغرغرة وخروج نفس الإنسان، وكأن المعنى على هذا: أنه حرمنا ومنعنا قبول التوبة من هؤلاء في هذا الحين، حين يرون العذاب.
قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} [يونس:98] لم يحصل ذلك.
{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا} [يونس:98] أحسوا بأنه سيأتي العذاب بمغادرة الرسول المكان فتابوا إلى الله عز وجل قبل أن يعاينوا العذاب.
قال الله تعالى: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:98] هذه القرية الوحيدة التي حذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام العذاب، ثم ترك القرية وركب البحر وخرج عنهم، فإذا بهم يستيقنون أن العذاب سيأتي مادام أن النبي عليه الصلاة والسلام تركهم، فتابوا إلى الله فقبل الله عز وجل منهم.
فهذه هي القرية الوحيدة التي قبل منهم، فإذا جاء العذاب من عند الله على قرية منع عنهم قبول التوبة، فالتوبة لا تقبل إلا من الإنسان الذي يعرف أن هذا غيب، فهو لا يرى الجنة ولا يرى النار ولا يرى الله سبحانه وتعالى، ولكنه مستيقن بذلك في قلبه، فتاب خائفاً من الله، راجياً رحمته، مرعوباً ومرهوباً من ناره، هذا هو الذي تقبل منه التوبة.
فقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95] أي: أنهم لا يتوبون، فقد منعنا عنهم التوبة في ذلك، أو منعنا القبول للتوبة حين يعاينون العذاب.(13/5)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج)(13/6)
من أخبار ذي القرنين
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] قبيلتان من أعظم القبائل التي خلقها الله سبحانه وتعالى، وهم قبيلتان من بني آدم، وقدمنا ذكرهم في سورة الكهف.
وجاء في حديث طويل في صحيح مسلم ذكر هؤلاء الناس، وذكرت قصتهم في سورة الكهف.
قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القرنين} [الكهف:83] وذو القرنين عبد من عباد الله الصالحين مكن له ربه في الأرض، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84] يعني: يصل إلى أي مكان في الأرض يريد الله أن يصل إليه فيسبب له الأسباب، فقد وصل إلى مشرق الشمس وإلى مغرب الشمس بتيسير من الله سبحانه.
واتبع ذو القرنين الأسباب حتى وصل إلى قوم لم يجعل الله لهم من دون الشمس سبباً أو ستراً، والله على كل شيء قدير، يجعل لأناس عقولاً يفكرون فيكون بينهم وبين الشمس ستر، ويجعل لغيرهم من الناس قلة حيلة، فلا يعرفون أن يستتروا من الشمس بشيء، فهؤلاء لا بيوت لهم يستترون بها من الشمس.
قال تعالى: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف:89] فـ ذو القرنين وصل إلى مطلع الشمس ووصل إلى مغرب الشمس، ثم أتى إلى قوم {لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93] والقراءة الأخرى: (لا يكادون يُفقِهون قولا) يعني: لا يعرفون أن يتكلموا بكلام يفهم منهم، وهم أنفسهم لا يفهمون ما يقال، يعني: لسانه غير لسانهم، فلا يفهم منهم ما يقولون، فهم يتكلمون بلغة غريبة عليه فلا يكادون يُفقِهونه أو يفهمونه ما يريدون أن يقولوه، والغرض: أنهم أفهموه أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، قال الله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف:94] أي: ندفع لك ضريبة وتضع بيننا وبينهم سداً.
قال تعالى: {قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف:95] أي: لن أنتظر ضرائبكم، فالله قد أعطاني خيراً عظيماً، لكن أعينوني بما عندكم من آلات، قال تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96] أي: رفع الحديد بين الجبلين وجعل حديداً وفوقه نحاساً، فجعل سداً عظيماً بينه وبين هؤلاء وأفرغ عليه من القطر، أي: النحاس، حتى لا يخرج هؤلاء القوم، فحبسهم الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يقفزوا من فوقه، قال تعالى: {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] أي: لم يستطيعوا أن يخرقوا فيه خرقاً يخرجوا منه؛ لأن هذا أمر الله سبحانه وتعالى.
فلما حبسهم {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] فهذا أمرٌ مؤقت إلى أن تأتي علامات الساعة، فمن علامات الساعة أن يخرجوا من هذا المكان.
قال تعالى: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98] أي: لا بد أن يقع ذلك.
هنا قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ} [الأنبياء:96] قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر وأبي جعفر ويعقوب: (حتى إذا فُتِّحت).
وقوله تعالى: {يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} [الأنبياء:96] هذه قراءة عاصم فقط، وباقي القراء يقرءون: (ياجوج وماجوج).(13/7)
كثرة عدد يأجوج ومأجوج
قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] المعنى: من كل مكان مشرف ومرتفع، فكأنهم من كل مكان يخرجون على الناس لكثرة عددهم.
وسبحان الله لا أحد يعرف أين هم الآن، فقد حجبهم الله من أيام ذي القرنين، لكنهم موجودون يقيناً، فالله عز وجل هو الذي أخبر بذلك، والله لا يخبرنا بشيء لا يكون أبداً سبحانه وتعالى، فهم موجودون، ولكنّ الإنسان جاهل، ومع ذلك يدعي أنه عرف كل شيء في الكون، وهو بجهله يعلم في نفسه أنه لم يعرف كل شيء، ولكن يتعالم ويتعالى.
فهم يتكلمون مثلاً عن مثلث برمودا، فأمريكا لم تعرف ما هو سر هذا المثلث، فلا طائرة تصل إليه إلا اختفت، فقد أرسلوا سرباً من الطائرات للبحث عن طائرة ضاعت هناك، فلم تعد الطائرة ولم يعد السرب، فأرسلوا سفناً إلى تلك الأماكن فلم تعد تلك السفن، ويكتمون ذلك ويقولون: مكان مجهول من الأرض لا نعرف ما فيه، فهنا يعجزهم الله عز وجل فلا يعرفون ما هناك، ولا يعرفون أين اختفت الطائرات من سنة سبع وأربعين حتى الآن.
فإذا أخبرنا الله عز وجل أن هناك مكاناً في الأرض فيه سد موجود ووراءه هؤلاء القوم وأنهم كثرة كاثرة، فلا يقول الإنسان: أين هم؟ قد طفنا الأرض كلها، فأنت لم تعرف كل شيء في الأرض، فإن في الأرض أماكن لا يعرف الإنسان ما هو الشيء الموجود فيها، فالله سبحانه أخبرنا أنه سترهم خلال هذه الفترة، وأخبر عنهم أنهم سيخرجون ومن كل حدب ينسلون.
والنسل يعني: الإيجاد السريع، أي: يخرج بسرعة، فكأن هؤلاء في وقت خروجهم يفتح الله السد الذي حبسهم به فيخرجون إلى الناس، وهو السد الذي بناه عليهم ذو القرنين، فهم في كل يوم يحاولون خرق هذا السد ولكنهم لا يستطيعون، ولكن في كل يوم يفتحون منه شيئاً، فيقول كبيرهم في آخر هذا اليوم: غداً نفتحه فنخرج على الناس ولا يستثني بقول: إن شاء الله، فيعود السد كما كان وتغلق تلك الفتحة فيقومون في الصباح فيجدون السد قد أغلق، وهكذا حتى يأتي وعد الله، فيقول كبيرهم: غداً إن شاء الله نفتحه، فتبقى الفتحة كما هي، فإذا جاء الصباح أكلموا فتحه وخرجوا على الخلق، فيأكلون ما في الأرض من نبات، ويشربون ما في الأرض من مياه، ويهلكون أهل الأرض.(13/8)
فتح ردم يأجوج ومأجوج
روى البخاري ومسلم من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ يوماً من نومه وهو يقول: (لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وضم إصبعيه السبابة والإبهام، فكأنها عدد العشرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن يأجوج ومأجوج فتحوا اليوم من ردمهم كهذا، إذاً: سيستطيعون أن يفتحوا الباقي ويأتي أمرهم ويأتي شرهم.
قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وعقد سفيان بيده عشراً- قالت أي السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها- قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟) يعني: يخرج هؤلاء ويأتي الشر ويأتي البلاء حتى لو كان فينا الصالحون (قال: نعم إذا كثر الخبث)، فقد يكون الصالحون كثيرين وأهل المعاصي موجودين، ولكن الصالحين لا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
إذاً: فأهل الصلاح تغافلوا عن أهل المعاصي وكثر أهل المعاصي، ولم يقدر لهم أحد على شيء، فيأتي عذاب الله سبحانه وتعالى والفتنة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] فالبلاء يأتي على الجميع، وهؤلاء يخرجون على الجميع.(13/9)
حديث الدجال آخر الزمان
في حديث رواه مسلم عن النواس بن سمعان (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما جئنا إليه عرف ذلك فينا، قال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت -يعني: ذكرت من أمره الذي أفزعنا وخوفنا منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم) يعني: كأنه يوصي ربه سبحانه وتعالى بأن يخلفه على كل مسلم، ويطلب ذلك من ربه سبحانه وتعالى.
ثم ذكر لهم صفاته وكيف يعتصمون منه، قال: (إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن).
فقوله: (شاب قطط) يعني: شعره جعد وقوله: (عينه طافئة) وفي رواية: (طافية)، كأنه أعور.
قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) ولذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ الآيات العشر الأول من سورة الكهف، وعشر آيات أخيرة من سورة الكهف.
قال: (إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! فاثبتوا.
قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم)، يعني: سيعيش في الأرض أربعين يوماً، ولكن من هذه الأربعين يوم كسنة حقيقية، ولذلك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم (قالوا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا، اقدروا له قدره) معناه: أن الشمس تطلع وتغرب فيكون هذا اليوم ثلاثمائة وستين يوماً تمر على العباد أو أقل من ذلك فقال: (اقدروا له)، أي: تحدد وقتك بالزمن ما بين الفجر والظهر وما بين الظهر والعصر، وما بين العصر والمغرب، يعني: تحسب أوقات الصلاة بالساعات.
قال: (قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح) يعني: كالريح تأتي شديدة، وقليل يأتي منها الغيث، فهذا كالغيث الذي استدبرته الريح.
قال: (فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر).
أي: يأتي على قوم من الناس يفتنهم فيقول: أنا ربكم، فيؤمنون به، فعندما يؤمنون به، يأمر السماء أن أمطري، فينزل المطر عليهم، ويأمر الأرض أن أخرجي الحب وتنبت لهم، وتصير الإبل والبقر والغنم أعظم ما تكون في السمن، ويذهب الدجال إلى أناس آخرين فيكفرون به، قال: (ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم).
وهذه فتنة عظيمة لهؤلاء المؤمنين الصالحين، فإذا بأرضهم بعد أن كانت تنبت تكون يابسة، ولا مطر ينزل عليهم.
قال: (ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل) أي: مثل ذكور النحل، فتتبعه الذهب والفضة وكنوز الأرض.
قال: (ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل) وهذا أفضل أهل الأرض إيماناً في ذلك الحين ومن أعظم الشهداء، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوه ثم يطلب منه أن يؤمن به فيرفض أن يؤمن به، فيضربه بالسيف فيقطعه نصفين ويمشي بين شقيه لكي يخيف الناس.
قال: (ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك، فيسأله: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة بأنك المسيح الكذاب الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)، فيريد أن يقتله مرة ثانية فلا يسلط عليه، يعني: هو لن يقتل إلا رجلاً واحداً يقتله مرة ويحييه مرة، ولا يسلط عليه بعد ذلك؛ لأن الله يخزيه أمامهم.
قال: (فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين) يعني: يلبس ثوبين، قال: (واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) يعني: كأنه خارج من حمام، ما زال يتصبب عرقه مثل الجوهر واللؤلؤ، وهيئة الإنسان النظيف الخارج من الحمام يتساقط منه ماؤه، فهذا المسيح صلوات الله وسلامه عليه يخرج على الناس على هذه الصورة.
قال: (فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه)، فالله يفعل ما يشاء، فالإنسان يشم رائحة نفس المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ويموت، ونفسه يصل إلى منتهى طرفه، فهذا شيء عجيب من أمر الله، أنه يهلك الكفار الموجودين بأنفاس المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ونفسه يصل إلى حيث ينتهي طرفه.
قال: (حتى يدركه بباب لد) أي: في مكان اسمه لد قال: (فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم) يعني: الناس الذين عصمهم الله من الدجال، يأتون المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فيربت عليهم ويمسح على وجوههم ويحدثهم صلوات الله وسلامه عليه بدرجاتهم في الجنة.(13/10)
خروج يأجوج ومأجوج وإفسادهم ونهايتهم
قال: (فبينما هو كذلك) وهذا هو الجزء المقصود من الآية، قال: (إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: يخرج يأجوج ومأجوج.
إذاً: المسيح الدجال يخرج أولاً، ثم يقتله المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج.
قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96] يعني: يخرجون سراعاً من كل جبل ومن كل مكان، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية في فلسطين فيشربون ما فيها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ويمر آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار).
إذاً: المسيح لن يسلط على يأجوج ومأجوج، فإذا بهم يختبئون ويحصرون في مكان إلى أن يكون رأس الثور الذي يشتريه الناس بدراهم قليلة يساوي مائة دينار، أي: يساوي نصف كيلو من الذهب، من قلة الطعام ومن قلة الزاد، قال: (فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيدعون ربهم سبحانه وتعالى فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم) فبعدما يفسدون في الأرض ويظنون أنهم قد أهلكوا من على الأرض، ولا يوجد على الأرض إلا المؤمنون الذين اختبئوا مع المسيح عليه الصلاة والسلام، فإذا بيأجوج ومأجوج يقولون: نهلك من في السماء، فيوجهون نشابهم إلى السماء فيفتنهم الله، وينزل إليهم رماحهم مخضبة دماً.
فيقولون: إذاً أهلكنا من في السماء.
فبينما هم على ذلك يدعو المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام ربه، فإذا بالله عز وجل يهلك هؤلاء بأحقر ما يكون، فيرسل عليهم سبحانه وتعالى النغف، وهي دود تكون في أنوف الإبل والأغنام، يرسلها على هؤلاء في أقفائهم فتأكلهم هذه الدود.
وانظروا إلى الإنسان المتكبر كيف يحقره الله سبحانه وتعالى ويسلط عليه أضعف خلقه، فهذه الديدان الصغيرة التي تكون في أنوف الإبل لا تؤذيها، فتكون في هؤلاء فتؤذيهم وتهلكهم، قال: (فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم).
فإن أعداد هؤلاء القوم تملأ الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يدفنهم، فقد ملئوا الأرض نتناً؛ بسبب أبدانهم الميتة، قال: (فيرغب نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلى الله، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت) فالله عز وجل يخلق ما يشاء، يرسل طيراً مثل أعناق البخت، والبخت: نوعٌ من أنواع الإبل.
قال: (فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله) تنزل الطيور من السماء تأخذهم وترميهم حيث شاء سبحانه.
أما آثارهم على الأرض قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة).
العصابة: المجموعة من الناس عشرة فما دونهم، كل عشرة يأكلون رمانة واحدة لبركتها.
(ويستظلون بقحفها) أي: هذه الرمانة يستظل بها عشرة أفراد.
قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] أي: لو أنهم آمنوا لفتحت عليهم بركات السماء، يعني: المطر، وبركات الأرض، يعني: الثمار.
قال: (ويبارك في الرسل -يعني: اللبن- حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس) يعني: الجماعة من الناس، واللقحة: اللبون، قال: (واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس) والفخذ من الناس: الذين هم جماعة أقل من القبيلة، يعني: غنمة واحدة تكفي مجموعة كبيرة، والبقرة تكفي قبيلة كاملة، والواحدة من الإبل تكفي عدداً ضخماً من الناس بحليبها.
قال صلى الله عليه وسلم: (فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة).
فالله كريم ورحيم سبحانه وتعالى، يريد أن يقبض هؤلاء العباد الذين صبروا بريح طيبة يشمونها، فيموتون، قال: (فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم)، ريح طيبة من عند الله سبحانه وتعالى تأخذهم تحت آباطهم، أو ريح طيبة بمعنى: نسيم عليل طيب تأتي كل إنسان تحت إبطه فيموت.
أما الكفار ما زالوا أحياء، فهم الذين سيبقون عليها، قال: (ويبقى شرار الخلق، يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة).
وفي الحديث الآخر: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) هم هؤلاء الذين لا يقال فيهم: الله الله، ولا يعرفون الله، فإذا ذكر أحد الله يقولون: قد كان يقال ذلك، فهؤلاء يتهارجون، ويهرج بمعنى: يجامع، فالرجل يأتي المرأة ويزني بها في الشارع أمام الناس، ويفعلون ذلك مثل الحمير، هؤلاء شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/11)
تفسير سورة الأنبياء [97 - 103]
أنزل الله عز وجل كتابه الكريم لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وبين لهم في كتابه ما ينتظرهم من ثواب إن أطاعوه سبحانه، وما ينتظرهم من عقاب وعذاب إن أعرضوا عنه وكفروا به وقد امتلأ القرآن الكريم بالآيات التي تتحدث عن يوم القيامة وأهوالها، وعن الجنة والنار، وعن الحساب، وعن كل ما يحدث في ذلك اليوم العسير، وكذلك وردت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تتكلم عن ذلك، وهذه الآيات من سورة الأنبياء تتكلم عن أهوال يوم القيامة، وعن نعيم الجنة وعذاب النار.(14/1)
لا رجوع للقرى التي كتب الله إهلاكها ولا قبول لتوبتهم عند نزول العذاب
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:97 - 103].
أخبر الله سبحانه وتعالى في بداية هذه الآيات أنه حرم على قرية أهلكها أن يرجعوا إليها، أي: لا يرجعون إلى الدنيا بعد إهلاكهم، وإنما يبعثون يوم القيامة فيحاسبون.
أو: أنه إذا جاءهم العذاب ورأوه معاينة فقد حرم الله عز وجل في هذه الحالة قبول التوبة منهم، قال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]، أي: لا تقبل منهم التوبة فيرجعون بها.
ثم ذكر علامة من علامات الساعة فقال: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، أي: تخرج هاتان القبيلتان من كل حدب، والحدب: المكان المرتفع من الأرض، والمحدب منها، كالتلال والجبال والكثبان فيخرجون من وراء هذا كله، ومن كل مكان يسرعون في الأرض إفساداً وإتلافاً وخراباً.(14/2)
تفسير قوله تعالى: (واقترب الوعد الحق)
قال سبحانه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97].
يعني: خروج العلامات الكبرى للقيامة كـ المسيح الدجال، ويأجوج ومأجوج، ونزول المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وغير ذلك من العلامات العشر الكبرى للساعة، وعندها تقترب الساعة ويحين وقتها.
قال تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97]، أي: اقتربت القيامة.
(فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وشخص البصر بمعنى: حملق إلى الشيء، أي: نظر إليه من غير أن تطرف عيناه.
وهذا فيه بيان مدى الرعب الذي يكون فيه الإنسان، فإنه يفتح عينيه ولا يغلقهما ولا تطرفان ولا ترمشان، وإنما هما شاخصتان، وحالهم أنهم قائلون: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الأنبياء:97]، أي: كنا في غفلة عن يوم القيامة وعن التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد رأوا ما كانوا قبل ذلك ينكرونه ويتغافلون عنه.
قال تعالى: (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: من يوم القيامة، ويقولون: (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ).
فيكون الجواب لهم: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فعندما تقوم الساعة ويخرجون من قبورهم للجمع للموقف العظيم بين يدي رب العالمين يقفون {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:43]، أي: قائمين بين يدي الله تبارك وتعالى.
وهو هنا يذكر حالهم ويبين مدى الذل الذي هم فيه، فيقول: (مُهْطِعِينَ)، أي: مسرعين إلى الموقف العظيم، فالكل يتجه إلى مكان واحد ولا يتيه أحد منهم عنه، قال تعالى: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) وقنع برأسه أي: وضع الرأس ورفع بصره إلى مكانه، فالرأس موضوع من الذل، والبصر ينظر إلى مكان شاخص في هذا المكان من الهول ولا يقدر على أن يطبق بصره.(14/3)
تفسير قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم)
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].
والحصب: الحجارة، فهم من حصب جهنم التي وقودها الناس والحجارة والعياذ بالله.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لما أنزل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، شق على كفار قريش؛ لأن قوله: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) يعني: هم وأصنامهم وكل ما يعبدون من دون الله حجارة في نار جهنم، فقالوا: شتم آلهتنا وذهبوا إلى ابن الزبعرى من كبرائهم فقالوا له: كذا، وسفه آلهتنا وشتمنا فقال هذا الرجل: لو حضرته لرددت عليه.
أي: ظن في نفسه أنه سيقول شيئاً ويرد على النبي صلى الله عليه وسلم بها.
فقالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، واليهود تبعد عزيراً، أفهما من حصب جهنم؟! يعني: أنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] فعلى ذلك المسيح في النار وعزير في النار، فأعجبت مقالته قريشاً وفرحوا بها ورأوا أنهم غلبوا النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوا أصواتهم، وقالوا: خصم محمد! فأنزل الله عز وجل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
يعني: المسيح عليه الصلاة والسلام وعزيراً، قد سبقت لهما من الله الحسنى، وليسا داخلين في هذه الآية.
وأنزل الله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] أي: يصرخون ويصخبون ويقولون: خصمنا محمداً وغلبناه.
قال تعالى: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]، أي: قوم شديد والخصومة بالباطل من غير أن يفهموا ما يقولون، وكأنهم كانوا يقولون: خصمنا محمداً وغلبناه، {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58]، أي: آلهتنا خير أم المسيح خير؟ وأنت تقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم} [الأنبياء:98]، أي: فيكون الكل في النار، فكذلك المسيح في النار، فقال الله عز وجل لهم في هذه الآية: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، أي: قال لهم: لا تفرحوا بهذا الشيء، فإن المسيح عليه الصلاة والسلام وعزيراً ممن سبقت لهم منا الحسنى، فلا يردون ولا يدخلون النار مع من يدخل.
قال سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، يعني: داخلون في هذه النار مع الآلهة التي عبدتموها من دون الله تبارك وتعالى.(14/4)
تفسير قوله تعالى: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها)
قال تعالى: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء:99]، أي: ليس من المعقول أن الإله يدخل النار.
قال سبحانه: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:99] وكل: أي: العابد والمعبود، فالذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى آلهة باطلة وهم واردون النار مع من عبدهم، فالكل محبوسون فيها ولا يخرجون منها، وهم فيها خالدون.
قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] والزفير: خروج النفس.
والمعنى: تشبيه هؤلاء في نار جهنم بالحمير، فالحمار عندما ينهق يخرج زفيراً وزعيقاً ويأخذ شهيقاً، فكذلك هؤلاء عند بكائهم وصراخهم في النار كهيئة الحمير، وأما الصور فهي بشعة والنار مظلمة سوداء ملتهبة مستعرة على أهلها متجهمة لهم، وهم فيها يصرخون ولا يستجيب لهم أحد أو يجيرهم، فيستغيثون ولا يغيثهم أحد.
قال تعالى: {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]، أي: لا يسمعون شيئاً؛ لأنهم يحشرهم الله عز وجل عمياً وبكماً وصماً، فلا يسمعون إلا صوت العذاب الذي نزل بهم وأصوات أهل النار.
فمعنى قوله: (لا يسمعون)، أي: لا يسمعون شيئاً؛ لقوله سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97].
وقيل: (لا يسمعون)، أي: لا يسمعون ما يسرهم، وإنما يسمعون صراخ أهل النار، وأصوات الملائكة الموكلة بعذابهم والعياذ بالله.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار)، والعياذ بالله.
فأهل النار هذا حالهم؛ يصرخون في البداية ويسألون الله عز وجل، قائلين: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيجيبهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وعندما يقول لهم ذلك ييئسون من الخروج.
يقول ابن مسعود: (هؤلاء الباقون في نار جهنم والعياذ بالله يجعلون في توابيت من نار، وتجعل التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره)، أي: كل واحد منهم يرى نفسه هو وحده الذي يعذب ولا يرى غيره والعياذ بالله، ولا يسمع إلا صوت نفسه في هذا العذاب.(14/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، وهم أهل الإيمان الذين أحسنوا، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26].
وقد قدر لهم سبحانه بفضله وكرمه عندما خلقهم أن يكونوا في الجنة، فقد سبقت لهم من ربهم الحسنى، فأرشدهم وهداهم ووفقهم فعبدوه وماتوا على الإسلام، فكانت لهم الحسنى وزيادة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، أي: عن النار.
قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102].
فالنار لها حس، والحس والحسيس بمعنى: الحركة التي تسمع، فكأن نار جهنم وهي مشتعلة ومستعرة لها صوت اللهب في حركته واستعاره، وهذا هو حسيس النار، فالمؤمنون لا يسمعون حسيسها، فقد أنجاهم الله عز وجل منها، وأبعدهم عنها، بعد أن مروا فوق الصراط.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102] فيقال لأهل الجنة: (إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً).
فأهل الجنة يعيشون في خلود بلا موت، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح، ويوضع على قنطرة بين الجنة والنار وينادى: يا أهل الجنة! فيشرئبون، - أي: يطلعون - وينادى: يا أهل النار! فيشرئبون، فيقال: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، نعرفه هو الموت، فيأمر بذبحه بين الجنة والنار).
فييئس أهل النار من الرحمة فلا موت ولا خروج من النار، وأما أهل الجنة فيفرحون، فهم لن يخرجوا من الجنة، وليس هناك موت مرة أخرى، فقد ماتوا الموتتين، أما الأولى فعندما كانوا عدماً، ثم خلقهم سبحانه وتعالى فأحياهم الحياة الأولى، ثم أماتهم الموتة الثانية، وهي الموتة التي أدخلتهم في قبورهم، ثم أحياهم للبعث والنشور، وهذه الحياة الثانية فلا يوجد موت بعد ذلك، وإنما هي حياة دائمة أبداً.
قال تعالى: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102]، أي: فيما اشتهوا من طعام الجنة ومن ثمارها ومن خمرها ومن لبنها ومن مائها ومن عسلها ومن نعيمها، ومن الحور العين، ومما شاءوا من قصور وبساتين، فلهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.(14/6)
تفسير قوله تعالى: (لا يحزنهم الفزع الأكبر)(14/7)
معنى نفي حزن المؤمنين من الفزع الأكبر
قال تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103].
أي: لا يخافون من الفزع الأكبر، وهو أهوال يوم القيامة وقيل: هو الوقت الذي يأمر فيه الله بالعباد إلى النار.
وقد جاء في الحديث أن الله يقول يوم القيامة: (يا آدم أخرج بعث النار فيقول: كم يا رب؟! فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحد إلى الجنة، فذاك يوم يجعل الولدان شيباً)، أي: تشيب الرءوس من هوله، فمن الواحد الذي سينجو من كل ألف؟ فهذا هو الفزع الأكبر في يوم القيامة.
وقيل: الفزع الأكبر: إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار.
وقيل: هو: القطيعة والفراق، أي: عندما يفترقون، فمنهم إلى الجنة ومنهم إلى النار، فأهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى لا يفزعون ولا يخافون، فقد طمأنهم الله عز وجل بما صنع بهم من رحمة.
وقوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:103] هذه قراءة الجمهور.
وقراءة أبي جعفر: (لا يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) من الفعل الرباعي أحزن، وباقي القراء يقرءونها من الفعل الثلاثي حزن.
قال تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103] أي: وهم داخلون الجنة، يقولون: (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) فيطمئنهم الله عز وجل ويبشرهم، كما قال تعالى: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف:13].
وتتلقاهم الملائكة بالتحية وبالسلام وبالإكرام ويقولون: أبشروا، {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] وهي من الوعد لا من الوعيد، فقد وعدكم الله عز وجل بحسن الجزاء وبحسن اللقاء وبحسن المثوبة.(14/8)
يوم القيامة يتبع كل أناس معبودهم
وقد وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وما يكون فيها من أهوال، وما يكون في الجنة من نعيم في حديث طويل رواه إسحاق بن رهويه في مسنده وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والطبراني والآجري في الشريعة والدارقطني والحاكم وصححه.
وكذلك رواه ابن مردويه والبيهقي وصححه الشيخ الألباني رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام، فينادي مناد: يا أيها الناس! ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى؟ أليس ذلك من ربكم عدلاً؟! قالوا: بلى).
والمعنى: أن ربنا يوم القيامة يأتي بفصل القضاء بين العباد ثم يقول لخلقه: ألا يرضى كل من كان يعبد شيئاً في الدنيا ويتولاه أن يتبع هذا الذي كان يعبده ويتولاه؟ أليس هذا عدلاً من ربكم؟ فيقولون: بلى.
قال: (فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا، ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا).
فكل من كان يعبد إلهاً في الدنيا يتبعه يوم القيامة.
قال: (فيمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى)، أي: شيطان على هيئة عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويتبعونه إلى النار.
قال: (ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر).
فكل معبود كانوا يعبدونه من دون الله يمثل لهم يوم القيامة، فالذي كان يعبد الحجر يتبع هذا الحجر ويمشي وراءه حتى يدخل معه النار، ومن كان يعبد الشجر يمثل له هذا الشجر فيتبعه إلى النار، ومن كان يعبد العجول والبهائم وغيرها تمثل له يوم القيامة فيتبعها إلى النار، ومن كان يعبد المسيح والعزير عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام يمثل له شياطين في هيئة هؤلاء فيتبعونه إلى النار.(14/9)
موقف المؤمنين يوم القيامة وسجودهم لربهم
قال صلى الله عليه وسلم: (ويبقى أهل الإسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟!)، أي: يأتيهم الله عز وجل في صورة غير الصورة التي يعرفون، والله يفعل ما يشاء تبارك وتعالى، وهذا من الغيب الذي نؤمن به كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فيقولون: إن لنا رباً ما رأيناه بعد، فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه) والعلامة هي التي جاءت في الآية: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم:42]، فالعلامة أن يكشف عن ساق.
(قال: وما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق.
فيكشف عند ذلك فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً)، أي: المؤمنون الذين كانوا يصلون لله عز وجل يسجدون مختارين راغبين راهبين لرب العالمين، فيخرون سجداً لله ويوفقهم الله عز وجل ويعينهم على ذلك، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
قال: (ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون)، أي: تصير ظهورهم كأذناب البقر يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون السجود،؛ لأن ظهورهم تصبح طبقة واحدة، وهؤلاء هم المنافقون.
قال: (ثم يؤمرون فيرفعون رءوسهم -أي: المؤمنون- فيعطون نورهم على قدر أعمالهم)، أي: بعد أن سجدوا لله عز وجل يعطون النور، ويعطى كل أحد من المسلمين نوراً بقدر عمله.
قال صلى الله عليه وسلم: (فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام).
فيعطون النور يوم القيامة حتى يمروا في ظلماتها، وحتى يمروا فوق الصراط على ظهر جهنم إلى الجنة.(14/10)
المرور على الصراط
قال: (فيمرون على الصراط، والصراط كحدّ السيف دحض مزلة).
والصراط: جسر مضروب على ظهر جنهم مثل الشعرة، وحده كحد السيف، وهو (دحض مزلة)، أي: يزل الذي يمشي فوقه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فيقال لهم: انجوا على قدر نوركم)، أي: مروا على قدر نوركم.
قال: (فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب)، أي: مثل الكوكب الدري اللامع في السماء عندما ينقض سريعاً.
قال: (ومنهم من يمر كالطرف)، أي: مثل أن تغمض عينيك وتفتحهما.
قال: (ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الرجل ويرمل رملاً، ويمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه يجر يداً ويعلق يداً)، أي: كأنه يحبو على يديه؛ لأنه خائف أن ينزلق ويسقط من فوق الصراط.
قال: (ويجر رجلاً ويعلق رجلاً)، أي: تكون إحدى رجليه على الصراط والأخرى معلقة خارج الصراط، ويد يمسك بها والثانية معلقة.
قال: (وتصيب جوانبه النار، فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منك بعد الذي أرانا، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحداً من العالمين)، أي: هؤلاء المتأخرون عندما يمرون والله أعلم كم سيأخذون من السنين ومن العمر حتى يمروا فوق الصراط الذي على ظهر جهنم بهذه الصورة، فهم يمشون مرة ويكبون مرة، وتلفحهم النار أخرى، وتخطفهم الكلاليب من حول النار، فمن الناس من هو ناج مسلم، ومنهم من هو مخدوش ومن هو مكردس في النار، أي: يقع في نار جهنم والعياذ بالله.
قال: (فينطلقون إلى ضحضاح عند باب الجنة فيغتسلون فيعود إليهم ريح أهل الجنة وألوانهم) وذكر لنا هؤلاء الذين هم آخر من يدخل الجنة لكي نتخيل ما ينالون، وعليه كم سينال السابقون؟ قال: (ويرون من خلل باب الجنة -وهو يصفق- منزلاً في أدنى الجنة فيقولون: ربنا! أعطنا ذلك المنزل)، فبعد أن نجوا من النار بدءوا يطلبون أن يقتربوا من الجنة.
قال: (فيقول لهم: أتسألون الجنة وقد نجيتكم من النار؟ فيقولون: ربنا! أعطنا هذا الباب لا نسمع حسيسها)، يعني: اجعل هذا الباب الذي هو باب الجنة حائلاً بيننا وبين النار؛ لكي لا نسمع حسيس النار ولا نسمع صوتها، فكأنهم إلى هذا الحين وهم يسمعون صوت النار التي أنجاهم الله عز وجل منها.
قال: (فيقول لهم: لعلكم إن أُعْطِيتُمُوهُ أن تسألوا غيره؟ فيقولون: لا وعزتك لا نسأل غيره، وأي منزل يكون أحسن منه؟ قال: فيدخلون الجنة، ويرفع لهم منزل أمام ذلك).
في حديث آخر قال: (إنهم قبل مجيئهم عند الجنة يمثل لهم شجرة فينظرون إليها، فيقول أحدهم: رب أدنني من هذه الشجرة أكل من ثمرتها وأشرب من مائها وأستظل بظلها، فيقول له ربه سبحانه: لعلي إن أعطيتك أن تسألني غيرها، فيقول: لا يا رب! وعزتك لا أسألك غيرها؟ وربنا سبحانه يعلم أنه لا يطيق ما يراه - فيغفر له سبحانه وتعالى ويسامحه ويعفو عنه - فيقربه منها، فإذا مكث تحتها مثل له أخرى أفضل منها وأبعد منها، فينظر فترة ثم يقول: يا رب! أدنني من هذه، فيقول له سبحانه: يا ابن آدم! ما أغدرك؟ ألم تعطني العهود والمواثيق ألا تسألني غيرها؟! فيقول: يا رب! لا أسألك غيرها، وعزتك لا أسألك غيرها، فيدنيه منها سبحانه تبارك وتعالى ويأخذ عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها، فإذا بالعبد يطلب غيرها، والله سبحانه يريد أن يعطيه وإنما مثل له ذلك؛ ليريه فضله تبارك وتعالى وكرمه عليه).
وقال في هذا الحديث: (ويرفع لهم منزل أمام ذلك كأن الذي رأوا قبل ذلك حلم عنده، فيقولون: ربنا أعطنا ذلك المنزل، فيقول: لعلكم إن أعطيتموه أن تسألوا غيره؟! فيقولون: لا وعزتك! لا نسأل غيره، وأي منزل أحسن منه؟ فيعطونه، ثم يرفع لهم أمام ذلك منزل آخر كأن الذي رأوا قبل ذلك حلم عند هذا الذي رأوا، فيقولون: ربنا! أعطنا ذلك المنزل فيقول: لعلكم إن أعطيتموه أن تسألوا غيره؟! فيقولون: لا وعزتك! لا نسأل غيره، وأي منزل أحسن منه؟ ثم يسكتون)، أي: يستحون من ربهم سبحانه.
قال: (فيقول لهم: ما لكم لا تسألون؟! فيقولون: ربنا قد سألناك حتى استحيينا).(14/11)
أدنى أهل الجنة منزلة
قال: (فيقال لهم: ألا ترضون أن أعطيكم مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟! فيقولون: أتستهزئ بنا وأنت رب العالمين؟).
قال مسروق: فلما بلغ عبد الله بن مسعود راوي الحديث هذا المكان من الحديث ما بلغه إلا ضاحكاً، وكلما يذكر هذا الحديث يضحك عندما يصل إلى هذا المكان، فقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث مراراً، فما يبلغ هذا المكان من الحديث إلا ضاحكاً، حتى تبدو لهواته)، يعني: يبدو آخر ضرس من أضراسه.
قال: (فيقول: لا، ولكني على ذلك قادر فاسألوني، فيقولون: ربنا ألحقنا بالناس، فيقال لهم: الحقوا الناس؛ قال: فينطلقون يرملون في الجنة حتى يبدو لرجل منهم في الجنة قصراً من درة مجوفة، فيخر ساجداً، فيقال له: ارفع رأسك، فيرفع رأسه ويقول: رأيت ربي.
فيقال: إنما هذا منزل من منازلك.
فينطلق ويستقبله رجل، فيتهيأ للسجود فيقال له: مالك؟! فيقول: رأيت ملكاً.
فيقال له: إنما ذلك قهرمان من قهارمتك).
وهو قد ظنه ملكاً من ملوك الجنة، فيقال له: هذا خادم من خدمك الذين يخدمونك في الجنة.
قال: (عبد من عبيدك، فيأتيه فيقول له: إنما أنا قهرمان من قهارمتك على هذا القصر، تحت يدي ألف قهرمان كلهم على ما أنا عليه، فينطلق به عند ذلك حتى يفتح له القصر، وهي درة مجوفة سقائفها وأغلالها وأبوابها ومفاتيحها منها، فيفتح له القصر فيستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء سبعون ذراعاً، فيها ستون باباً كل باب يفضي إلى جوهرة على غير لون صاحبتها، في كل جوهرة سرر وأدراج ونصائف، أو قال: ووصائف، فيدخل فإذا هو بحوراء عيناء عليها سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء حللها، كبدها مرآته وكبده مرآتها، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفاً عما كانا قبل ذلك، فتقول: لقد ازددت في عيني سبعين ضعفاً، ويقول لها مثل ذلك.
قال: فيشرف ببصره على ملكه مسيرة مائة عام) وهذا الرجل من أواخر من يدخل الجنة.
ولما سمع عمر بن الخطاب هذا الحديث الذي يحدث به عبد الله بن مسعود قال لـ كعب الأحبار وقد كان أولاً يهودياً من كبرائهم وعلمائهم ثم أسلم: يا كعب! ألا تسمع إلى ما يحدثنا ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له، فكيف بأعلاهم؟! فقال كعب: يا أمير المؤمنين! ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه داراً بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها، جبريل ولا غيره من الملائكة، ثم قرأ الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17].
قال: وخلق دون ذلك جنتين فزينهما بما شاء، وجعل فيهما ما ذكر من الحرير والسندس والإستبرق، وأراهما من شاء من خلقه من الملائكة، فمن كان كتابه في عليين نزل تلك الدار، فإذا ركب الرجل من أهل عليين في ملكه لم يبق خيمة من خيام الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، حتى إنهم ليستنشقون ريحه ويقولون: واها لهذه الريح الطيبة، ويقولون: لقد أشرف علينا اليوم رجل من أهل عليين، قال عمر: ويحك يا كعب إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها)، يعني: إن قلوبنا اشتاقت للجنة، وسنجلس نحلم بها ولا نعمل شيئاً لها، فاقبضها وذكرنا بغيرها.(14/12)
أهوال النار
فقال كعب: (يا أمير المؤمنين! إن لجهنم زفرة ما من ملك ولا نبي إلا يخر لركبته، حتى يقول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا: رب! نفسي نفسي، وحتى لو كان عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أن لن تنجو منها).
أي: لا تغتر بما سمعت عن الجنة، فاسمع ما في النار فهو أشد، فعلى الإنسان المؤمن أن يدعو ربه رغباً ورهباً كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيرغب في الجنة فيسمع أحاديثها فتتوق نفسه فيعمل، ويتذكر النار فيهرب ويخاف منها، ويسمع ما جاء فيها من وعيد فيحذر على نفسه، فهو بين الخوف والرجاء يعبد ربه سبحانه خائفاً من بطشه ومن عذابه راجياً رحمة الله.(14/13)
تفسير سورة الأنبياء [104 - 112]
لقد كتب الله أن العاقبة للمتقين، وأنه يورث الأرض عباده الصالحين، وقد امتن على البشرية بأن أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وأوحى إليه لينذر الناس ويدعوهم إلى دين الله، فإن أجابوا أفلحوا، وإن أعرضوا فالحكم لله وهو المستعان على ما يصفون.(15/1)
عقوبة أهل النار
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:104 - 112].
هذه هي الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة، سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يخبرنا فيها ربنا تبارك وتعالى عما يكون يوم القيامة من عقوبة لأهل النار، ومن ثواب لأهل الجنة.
فأما المشركون الذين عبدوا غير الله فقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه: جعلهم حطباً لجهنم، فقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98] أي: وقود لها، كما قال تعالى: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24]، والمقصود بالناس هنا الكفرة المشركون، والحجارة أي: التي كانوا يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى، {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:98 - 100].
فهؤلاء هم أهل النار الذين يخلدون في نار جهنم، والعياذ بالله.
{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} [هود:106] أي: أصوات كنهيق الحمير، {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100]، أي: لا يسمعون كلاماً يطمئنهم أو يريحهم، أو كلاماً فيه رحمة، فلا يسمعون إلا صوت العذاب، ولا يسمعون إلا لهيب النار، وصوت حركتها وحسيسها.(15/2)
ثواب أهل الجنة
وأما المؤمنون الذين من الله عز وجل عليهم، وسبقت لهم من ربهم سبحانه وتعالى الحسنى، فقد قال تعالى عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء:101]، أي: وعدهم الله عز وجل بالجنة، وخلقهم حين خلقهم وهو يعلم أنهم لهذه الجنة صائرون، فقد قال تعالى مخبراً عن جزائهم: {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، أي: عن النار مبعدون.
{لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102] أي: صوتها، وحس الحركة: لهيبها.
{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء:102 - 103]، أي: لا يحزنهم يوم القيامة، ولا يحزنهم تفرق الناس، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق شقي وفريق سعيد، فلا يحزنون يوم القيامة فقد طمأنهم الله سبحانه.
{وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]، فيستبشرون بكلام الملائكة لهم، ويستبشرون بهذا اليوم، حيث إنهم صائرون إلى الجنة.(15/3)
تفسير قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب)
يوم القيامة قال سبحانه وتعالى مخبراً عنه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
فقوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ} [الأنبياء:104]، مثل قوله تعالى: {وَالسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، سبحانه وتعالى.
فتخيل هذه السماوات التي خلقها الله تبارك وتعالى ولم نر منها إلا الشيء اليسير من هذه النجوم والكواكب، والأجرام المواجهة للأرض، فكم يكون حجمها؟! إن حجمها عظيم لا يتخيل، وجميعها يطويها الله تبارك وتعالى، فيطوي السماوات كلها بيمينه.
وقوله تعالى: {كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، فالسجل هو جلدة الكتاب وما بداخلها، فهو الكتاب نفسه، فكأنه يقول: الصفحات نطويها، ويغلق الكتاب على ما فيه.
فيطويها كلها ويقفلها على بعضها، ويضم بعضها إلى بعض سبحانه وتعالى، قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، وهذه قراءة الجمهور.
وقرأ أبو جعفر: ((يوم تطوى السماء كطي السجل للكتاب)).
وأما قراءة: {لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104]، فهي قراءة حفص عن عاصم، وحمزة والكسائي وخلف، وأما باقي القراء فقرءوا: ((للكتاب)).
والمعنى: أنك كما تطوي الكتاب وتغلقه، فيضم بعضها إلى بعض، وهذا الكلام الذي يقوله علماء الفلك اليوم، فهم يقولون: إن الكون كله كان شيئاً واحداً، ثم انفجر انفجاراً عظيماً، فلا يزال يتباعد، ويوسع الله عز وجل السماوات والأجرام، ويبعد بعضها عن بعض إلى درجة معينة، هذا هو كلام علماء الفلك، ولا يهمنا كلامهم بشيء، إلا أنه قد قاله الله عز وجل من قبل.
فقد أخبر سبحانه أنه خلق السماوات والأرضين، وأنه سيجمعهم مرة ثانية، هؤلاء علماء الفلك الكفار يقولون: إن السماوات والأرض سيرجعن وينضم بعضهن إلى بعض، وقد أخبر سبحانه وتعالى بهذه الحقيقة وأنه سيوسع هذا الكون كما قال سبحانه: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، فهو يوسع الكون لدرجة معينة حسب كلام علماء الفلك، وسيصل إلى أن سرعة الاتساع تقل وتقل، حتى يصبح الكون هو القوة الطاردة المركزية التي تبتعد لبعيد، وتصبح قوة الشد بين الكواكب مع بعضها متساوية، ثم لابد في النهاية من أن تزيد واحدة على الأخرى، وهنا يبتدئ الاقتراب حتى تنكمش كلها في الأرض، وهنا تطوى السماوات والأرضون، وكل شيء يطوى مرة أخرى.
لا يهمنا نحن المسلمين ما وصلوا إليه، ولكن الذي يهمنا أن هذا الكلام قد قاله الله عز وجل قبل أن يعرفوا شيئاً من ذلك، فقد أخبر الله عز وجل أنه يعيد الخلق مرة ثانية، كما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، لقد طوى الجميع، وبدل السموات والأرضين بما يشاء سبحانه وتعالى، وهذه كقوله تعالى في هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ} [الأنبياء:104]، أي: بدأنا الخلق الأول، وسنعيده مرة ثانية، فنعيد السموات، ونعيد الأرض غير هذه الأرض، فتكون الجنات، ويكون ما لا نراه الآن، فيظهره الله عز وجل بعد ذلك، كما قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].
{وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، وأول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم تلا هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]) والحديث رواه مسلم، ولفظه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بموعظة، فقال: يا أيها الناس! إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلاً) يعني: مثلما خلق الإنسان، وخرج إلى الدنيا حافياً عارياً غير مختون، كذلك يحشر يوم القيامة على هذه الصورة.
قال: (وتلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104]، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام).(15/4)
تفسير قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر)
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
يخبر تعالى هنا أنه وعد وكتب عنده في الكتب السماوية: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، ولابد من أن يكون هذا الشيء.
وقد اختلف المفسرون هنا في المراد بهذه الأرض، فبعضهم ذكر أنها هذه الأرض التي في الدنيا، يعني: أن الله عز وجل يفتح لدينه، فإذا بالناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وتفتح الأرض لدين الإسلام، ولا يبقى بيت مدر ولا حجر إلا دخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر وأهله.
ولذلك قال هنا: {وَعْدًا عَلَيْنَا} [الأنبياء:104]، إذاً: هنا الأرض مثلما كانت مكة للمؤمنين مع نبينا عليه الصلاة والسلام، وكان وعداً من الله عز وجل أن يجعل المستضعفين هم الذين يمكنون في الأرض، فكذلك جعل لهذه الأمة التمكين يوماً من الأيام.
فإذا اقتربت الساعة، ونزل المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لم يبق على الأرض دين إلا الإسلام، فالمسيح عليه السلام لا يقبل الجزية من نصراني أو يهودي، ولا يقبل إلا الإسلام فقط، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ولا يكون إلا دين الله عز وجل الذي هو دين الإسلام فقط، وهو الذي يحكم به المسيح صلوات الله وسلامه عليه.
ثم بعد ذلك يرسل الله عز وجل ريحاً، فتقبض أرواح المؤمنين جميعاً، ولا يبقى إلا شرار الخلق، فيرجعون إلى الكفر مرة ثانية، ولا يعرفون لهم إلهاً حتى يفنيهم الله، وعليهم تقوم الساعة.
فالمقصود أن الله عز وجل وعد المؤمنين بأنه سيورثهم هذه الأرض بالفتوحات والنصر منه تبارك وتعالى كما يشاء.
والمعنى الآخر: أن المقصود بالأرض في الآية الجنة، يعني: أن الله عز وجل كتب أنه يورث هذه الجنة لعباده الصالحين، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105] والزبور هنا معناه: المزبور، وهو المكتوب، فالزبور هنا بمعنى: الكتاب، وهو الصحيفة أو الصحف التي نزلت على داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقيل: إن الزبور كل الكتب السماوية، والزبر: الكتب.
وفي هذه الآية قراءتان: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} [الأنبياء:105]، هذه قراءة الجمهور.
وقرأ حمزة وخلف: ((ولقد كتبنا في الزبور)).
الزبور إما جمع زبر بمعنى: صحيفة أو مكتوب، أو جمع زبر بمعنى: كتاب، أو جمع زبور بمعنى: كتاب.
فعلى ذلك قالوا في قوله تعالى: {فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، الذكر: أم الكتاب الذي هو عند الله عز وجل، وهو: أصل الكتاب في اللوح المحفوظ الذي عند الله، فنسخ من هذا اللوح المحفوظ إلى الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء والمرسلين، وهي التوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم، والقرآن العظيم، وزبور داود، فكتب الله عز وجل في اللوح المحفوظ، ونسخ من اللوح المحفوظ في هذه الكتب السماوية: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
وقيل: بل معنى الزبور: زبور داود، وإن القرآن كتب من قبلها، قالوا: فالذكر المقصود به هنا القرآن، ولذلك قالوا: إن المقصود بقوله تعالى هنا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء:105]، أي: من بعدما كتبنا ذلك في القرآن والزبور وأنزلنا هذه الكتب: أن الأرض بوعد من الله عز وجل يورثها عباده الصالحين، فقال: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {وعِبَادِيَ} [الأنبياء:105] فيها قراءتان: قراءة الجمهور: (عباديَ الصالحون)، بالفتح.
وقراءة حمزة: (عباديْ الصالحون)، بالسكون.
فإذا وقف عليها فـ يعقوب يقف: ((عِبَادِيَ الصَّالِحُونَه)) بهاء السكت.(15/5)
تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً)
قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ.
فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.(15/6)
بيان إرسال الرسول رحمة للعالمين
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فهو رحمة لرب العالمين، والعالمين: جميع العالم من الإنس والجن، فهم جميع الخلق، والله عز وجل أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق جميعهم، فهو رحمة للإنس والجن وللمؤمنين والكافرين والدواب، ورحمة للدواب، ورحمة لخلق الله عز وجل جميعاً.
ويكفي النظر في تشريعه الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه للتعرف على هذه الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسل رحمة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فما كان الله ليعذبهم، ولا يستحق العذاب غير الكفار، وإنما قال له: أنت أمان لهؤلاء الكفار، فلن نعذبهم مادمت فيهم، فكان رحمة لهم، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يخسف بهم الأرض، ولم يرسل عليهم حاصباً من السماء، ولم يغرقهم ولم يرسل عليهم الطوفان، أو الجراد، أو القمل، أو الضفادع، أو الدم، والله على كل شيء قدير، فكان رحمة بذلك.
ولما آذوه أشد الأذى صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وسلامه عليه، فإذا بالله يمنع عنهم المطر، وتجدب الأرض، ويشتد عليهم الحر، فإذا بهم يتعبون، ويجوعون، ولا يجدون ما يأكلون حتى أكلوا كل شيء، فقد أكلوا من أوراق الأشجار، وجلود الحيوانات والبهائم الميتة، فلما اشتد عليهم ذلك ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، إلا سأل ربه أن يكشف عنهم ما هم فيه، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
فنسي ما كانوا يفعلونه به وبأصحابه، ودعا ربه أن يرفع عنهم ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: عائدون للكفر والتكذيب مرة ثانية، وسترجعون إلينا يوم القيامة فنجازيكم، فكان رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
ولما فتحت مكة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة.
أي: هذا يوم الالتحام، ويوم الحرب والقتل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال سعد بن عبادة فقال: (بل اليوم يوم المرحمة) صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رحمة للعالمين.
وفي شرعه العظيم منعنا من الأذى، وأمرنا أن نقتل أنواعاً من الدواب، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم)، فما أمرنا أن نقتل إلا شيئاً مؤذياً، (الفأرة، والكلب العقور، والحدأة، والغراب، والحية)، هذه التي تؤذي الناس أمرنا بقتلها، وأما غير ذلك فلم يأمرنا بقتلها، بل إنه نهى عن قتل النمل إن كان لا يؤذي، ونهى عن قتل النحل، ونهى عن قتل الشيء الذي لا يؤذي، فلا تقتل ما لا يؤذيك، فإذا صار مؤذياً فحينها يقتل للأذى والضرر الذي فيه، فكان رحمة صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أخبرنا أن من أسباب إنزال الله عز وجل للمطر من السماء على أهل الأرض ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وقد جاء لهم بهذا الدين العظيم الذي فيه الإيمان، فيؤمنون به فتنزل عليهم البركات من السماء والأرض، كما حدث أن فتح الله عز وجل الفتوح العظيمة، فكان الإسلام يفتح كل بيت فيأتي الله عز وجل بالرزق العظيم لعباده الصالحين.
وكان رحمة للخلق صلوات الله وسلامه عليه في أخلاقه الحسنة، فكان الأسوة العظيمة، والقدوة الطيبة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.
فقد عرفه المؤمنون وعرفه الكفار، فكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يأتمنونه ولم يعرفوا منه غدراً قط ولا خيانة صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين).
وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي.
وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب).
وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث.
(خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له.
قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة.
(ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة.
قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا.
فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا.
فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين.
(قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب).
فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
وهو رحمة حتى إذا شتم إنساناً، أو لعن إنساناً، وكان هذا الإنسان لا يستحق هذا الشتم وهذه اللعنة فكأنما يطهره بذلك، وكأنما يدعو له بالرحمة، فعندما يقول لإنسان: اذهب لعنك الله، فكأنه يقول: اذهب رحمك الله، كأنه يدعو له بذلك.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو)، وفي رواية لـ مسلم: (فخلوا به صلى الله عليه وسلم)، فكأنهما ضايقا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قعد معه، قالت: (فسبهما ولعنهما وأخرجهما).
والمفترض أن الضيف عندما يأتي في بيت المضيف أن يحسن في الكلام، ويراعي أدب المكان، ويراعي مع من يتكلم، فكونه يطردهم من البيت ليس من عادته صلى الله عليه وسلم، ولكن لابد أن يكونا قد قالا قولاً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سبهما ولعنهما وأخرجهما.
قالت عائشة فقلت: (يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هؤلاء)، أي: كل إنسان قد يصاب بشيء من الخير إلا هؤلاء فإنهم لم يخرجوا بخير أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعلها له زكاةً وأجراً).
يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان أن يسكت بدل(15/7)
تفسير قوله تعالى: (إن في هذا لبلاغاً)
قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ.
فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.(15/8)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
قال تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، هنا يخبر سبحانه وتعالى بأنه قد أبلغ، فقال: {بَلاغٌ} [إبراهيم:52]، يعني: هذا بلاغ من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهذا كقوله تعالى: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]، فقد أبلغنا أعظم البلاغ.
فقوله تعالى: {إِنَّ فِي هَذَا} [الأنبياء:106]، أي: الذي آتيناكم به فيه البلاغ العظيم من رب العالمين، وهو ليس لأي أحد، وإنما: {لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:106]، أي: لمن يعبد الله ويعرف حق الله سبحانه، ويتقرب إلى ربه، فهذا فيه البلاغ له، وفيه التذكرة والموعظة.(15/9)
وجه كون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للكفار
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فهو رحمة لرب العالمين، والعالمين: جميع العالم من الإنس والجن، فهم جميع الخلق، والله عز وجل أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه رحمة للخلق جميعهم، فهو رحمة للإنس والجن وللمؤمنين والكافرين والدواب، ورحمة للدواب، ورحمة لخلق الله عز وجل جميعاً.
ويكفي النظر في تشريعه الذي جاء به صلوات الله وسلامه عليه للتعرف على هذه الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقد أرسل رحمة، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فما كان الله ليعذبهم، ولا يستحق العذاب غير الكفار، وإنما قال له: أنت أمان لهؤلاء الكفار، فلن نعذبهم مادمت فيهم، فكان رحمة لهم، صلوات الله وسلامه عليه، فلم يخسف بهم الأرض، ولم يرسل عليهم حاصباً من السماء، ولم يغرقهم ولم يرسل عليهم الطوفان، أو الجراد، أو القمل، أو الضفادع، أو الدم، والله على كل شيء قدير، فكان رحمة بذلك.
ولما آذوه أشد الأذى صلى الله عليه وسلم دعا ربه قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) وسلامه عليه، فإذا بالله يمنع عنهم المطر، وتجدب الأرض، ويشتد عليهم الحر، فإذا بهم يتعبون، ويجوعون، ولا يجدون ما يأكلون حتى أكلوا كل شيء، فقد أكلوا من أوراق الأشجار، وجلود الحيوانات والبهائم الميتة، فلما اشتد عليهم ذلك ذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم وناشدوه بالله وبالرحم الذي بينهم وبينه، إلا سأل ربه أن يكشف عنهم ما هم فيه، فهو رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
فنسي ما كانوا يفعلونه به وبأصحابه، ودعا ربه أن يرفع عنهم ذلك، قال سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: عائدون للكفر والتكذيب مرة ثانية، وسترجعون إلينا يوم القيامة فنجازيكم، فكان رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.
ولما فتحت مكة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: اليوم يوم الملحمة.
أي: هذا يوم الالتحام، ويوم الحرب والقتل، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ما قال سعد بن عبادة فقال: (بل اليوم يوم المرحمة) صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان رحمة للعالمين.
وفي شرعه العظيم منعنا من الأذى، وأمرنا أن نقتل أنواعاً من الدواب، وقال صلى الله عليه وسلم: (خمس يقتلن في الحل والحرم)، فما أمرنا أن نقتل إلا شيئاً مؤذياً، (الفأرة، والكلب العقور، والحدأة، والغراب، والحية)، هذه التي تؤذي الناس أمرنا بقتلها، وأما غير ذلك فلم يأمرنا بقتلها، بل إنه نهى عن قتل النمل إن كان لا يؤذي، ونهى عن قتل النحل، ونهى عن قتل الشيء الذي لا يؤذي، فلا تقتل ما لا يؤذيك، فإذا صار مؤذياً فحينها يقتل للأذى والضرر الذي فيه، فكان رحمة صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أخبرنا أن من أسباب إنزال الله عز وجل للمطر من السماء على أهل الأرض ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
وقد جاء لهم بهذا الدين العظيم الذي فيه الإيمان، فيؤمنون به فتنزل عليهم البركات من السماء والأرض، كما حدث أن فتح الله عز وجل الفتوح العظيمة، فكان الإسلام يفتح كل بيت فيأتي الله عز وجل بالرزق العظيم لعباده الصالحين.
وكان رحمة للخلق صلوات الله وسلامه عليه في أخلاقه الحسنة، فكان الأسوة العظيمة، والقدوة الطيبة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.
فقد عرفه المؤمنون وعرفه الكفار، فكانوا يقولون عنه صلى الله عليه وسلم: الصادق الأمين، وكانوا يأتمنونه ولم يعرفوا منه غدراً قط ولا خيانة صلوات الله وسلامه عليه.(15/10)
معرفة أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين
فقد كان يقول: (لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين).
وقد عرفه أهل الكتاب بصفة الرحمة، فقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي.
وهو حديث صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب).
وقد من الله على قريش برحلة إلى الشام ورحلة إلى اليمن، في الشتاء والصيف، فقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]، فأخذه عمه أبو طالب في قافلة قريش المتوجهة إلى الشام، فلما وصلوا إلى أطراف الشام في تجارة والنبي صلى الله عليه وسلم صغير معهم، فإذا بالراهب الذي في ذلك المكان ينزل إليهم، وذلك كما في الحديث.
(خرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم، ولا يلتفت، فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ - أي: كيف عرفت هذا الشيء؟ - قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً) فرأى ذلك هذا الراهب، وهي آية من آيات الله عز وجل له.
قال الراهب: (ولا يسجد الشجر والحجر إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة) أي: أنه أخذه وفحصه ورأى كتفه، فوجد فيه خاتم النبوة مثل التفاحة وهي: غدة من اللحم على ظهره صلى الله عليه وسلم في أسفل غضروف الكتف، مثل التفاحة.
(ثم رجع فصنع لهم طعاماً، إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتاهم به كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الإبل، فقال: أرسلوا إليه، قال: فأقبل وعليه غمامة تظله من حر الشمس)، فكان يمشي صلى الله عليه وسلم وفوقه سحابة تظل رأسه صلوات الله وسلامه عليه، وذلك قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، يعني: قبل أن يبلغ سن النبوة الذي هو سن الأربعين سنة.
قال: (فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس، مال فيء الشجرة عليه، فقال الراهب: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه)، فهم لم يروا الشجر يسجد، ولكن الراهب رآه، وأخبرهم بذلك، وخوفاً من أنهم لا يصدقونه أخبرهم بعلامة في كتفه، فكان المفروض أن يصدقوه، ثم أخبرهم أن ظل الشجرة عندما جلس مال إلى الجهة الأخرى، فالمفروض أن هؤلاء أول من يصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة، فيقتلونه، فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأننا علمنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه أناس)، يعني: أنهم كانوا مستعدين لوجود نبي الله سبحانه، فأناس من الرهبان يعرفون أن هناك نبياً، وهم ينتظرون حتى يؤمنوا به، وأناس آخرون ينتظرونه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء الروم بعثوا في كل طريق من طرق الشام مجموعة من الجنود لقتل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قالوا: (وإنا قد أخبرنا خبره وبعثنا إلى طريقك هذا.
فقال لهم الراهب: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟ قالوا: إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا.
فقال لهم الراهب: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقدره أتقدرون على رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه)، أي: بايعوا على أن لا تؤذوه، وأترككم تتعبدون معي هنا، فبايعوه ومكثوا معه في الطريق، فكان أماناً للنبي صلوات الله وسلامه عليه من رب العالمين.
(قال الراهب: أنشدكم بالله، أيكم وليه؟ قالوا: أبا طالب، فلم يزل يناشد أبا طالب حتى رده أبو طالب).
فهل يحتاج إلى مناشدة وقد رأى مثل هذه الآيات؟ نلاحظ أن أبا طالب مات كافراً، ولم يمت مسلماً، وهو قد دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم ورأى من الآيات ما رأى، ومع ذلك قضى الله عز وجل أن يموت كافراً، فالغرض أنهم ردوا النبي صلى الله عليه وسلم.
والشاهد من الحديث هو قول الراهب: هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه.(15/11)
شتم النبي ودعاؤه على إنسان ينقلب رحمة وتطهيراً
وهو رحمة حتى إذا شتم إنساناً، أو لعن إنساناً، وكان هذا الإنسان لا يستحق هذا الشتم وهذه اللعنة فكأنما يطهره بذلك، وكأنما يدعو له بالرحمة، فعندما يقول لإنسان: اذهب لعنك الله، فكأنه يقول: اذهب رحمك الله، كأنه يدعو له بذلك.
ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو)، وفي رواية لـ مسلم: (فخلوا به صلى الله عليه وسلم)، فكأنهما ضايقا النبي صلى الله عليه وسلم عندما قعد معه، قالت: (فسبهما ولعنهما وأخرجهما).
والمفترض أن الضيف عندما يأتي في بيت المضيف أن يحسن في الكلام، ويراعي أدب المكان، ويراعي مع من يتكلم، فكونه يطردهم من البيت ليس من عادته صلى الله عليه وسلم، ولكن لابد أن يكونا قد قالا قولاً شديداً للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سبهما ولعنهما وأخرجهما.
قالت عائشة فقلت: (يا رسول الله! من أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هؤلاء)، أي: كل إنسان قد يصاب بشيء من الخير إلا هؤلاء فإنهم لم يخرجوا بخير أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك؟ قالت: قلت: لعنتهما وسببتهما، فقال صلى الله عليه وسلم: أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعلها له زكاةً وأجراً).
يقول العلماء رحمهم الله تعالى: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان أن يسكت بدلاً من أن يلعن، ولكنه هنا كأنه خير بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن تؤذي هؤلاء وتعاقبهم، أو نحن نعاقبهم، فكأنه إن تركهم فإن الله سيعاقبهم عقاباً شديداً بنار جهنم، أو يعاقبهم بهذا الكلام الذي قاله صلى الله عليه وسلم.
فمن رحمته صلى الله عليه وسلم أن اختار الأهون، وهو أنه يشتمهما ويسبهما على ما شارط ربه عليه إن كانا لا يستحقان السب أو اللعن، فيكون كأنه يدعو لهما صلى الله عليه وسلم، ولا يؤخرهما لعقوبة رب العالمين، فهذه رحمته.(15/12)
سب النبي ولعنه وقت الغضب يكون صلاة يوم القيامة
ومن الأحاديث الكثيرة التي جاءت مخبرة أنه رحمة من رب العالمين: ما رواه أبو داود عن عمرو بن أبي قرة وذكر: أن حذيفة رضي الله عنه كان بالمدائن، فكان يذكر أشياء قالها صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق أناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان رضي الله عنه فيذكرون له قول حذيفة، فيقول سلمان: حذيفة أعلم بما يقول.
فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له: قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك، فأتى حذيفة سلمان.
ومعنى الرواية: أن حذيفة وهو في المدائن يكلم الناس ويقول لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرة لعن أبا فلان، ومرة قال لفلان كذا، ويذكر أشياء وقعت، فكانوا يذهبون إلى سلمان ويخبرونه بقول حذيفة، فـ سلمان يقول: حذيفة أعلم، لا يقول: صدق، ولا يقول: كذب، فكأن حذيفة غضب لهذا الشيء.
فذهب يعاتب سلمان، وسلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه فقيه، وعالم عظيم، وقد مدحه النبي صلوات الله وسلامه عليه، بقوله: (سلمان منا أهل البيت)، فقد أوتي علماً من عند رب العالمين.
فلما ذهب حذيفة إلى سلمان يعاتبه: لماذا لا تقول لهم إني صادق فيما أقول؟ فقال سلمان: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لأناس من أصحابه، والمعنى: أنه إذا غضب لعله يلعن أناساً، ولكن هذه اللعنة مشروطة بشرط بينه وبين رب العالمين، فأنت لا تدري هل هذا مستحق للعن أو ليس مستحقاً له.
يقول سلمان رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغضب، فيقول في الغضب لأناس من أصحابه، ويرضى فيقول في الرضا لأناس من أصحابه، أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال، ورجالاً بغض رجال! أي: أنت عندما تحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم شكر أبا فلان أو لعنه فأنت ستجعل الناس يكرهون هذا الإنسان ويكرهون ابنه، فاترك هذا الأمر، ولا تحدث بهذا الشيء.
ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: (أيما رجل من أمتي سببته سبة، أو لعنته لعنة في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة).
ثم قال سلمان رضي الله عنه: والله لتنتهين أو لأكتبن إلى عمر.
أي: ليس كل شيء تسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سب فلاناً أو لعن فلاناً تبلغه للناس، فيكرهون الناس على حسب هذا، فلا تبلغ هذه الأشياء، وإذا بلغتها فلا تذكر اسم هذا الإنسان، حتى لا يكره الناس بعضهم بعضاً.
وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، وما كذب حذيفة رضي الله عنه، فقد كان صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين، ولكن أراد سلمان أن لا تتفكك الأمة بهذا الكلام، ولذلك نهاه رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال له: سنبعث لـ عمر ونكتب له رضي الله عنه، فالغرض بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.(15/13)
تفسير قوله تعالى: (قل إنما يوحى إلي إلهكم إله واحد)
قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء:108].
أي: فهذا الوحي الذي جئتكم هو: أن تعبدوا الإله الواحد سبحانه الذي كنتم تتعجبون منه، وتقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فقال: أنا جئتكم بذلك لأن تعبدوا إلهاً واحداً لا شريك له.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء:108]، أي: هل تسلمون لرب العالمين أنفسكم ووجوهكم وقلوبكم وأعمالكم، فتكون خالصة له سبحانه، فإذا أسلموا فهو خير لهم، وأما: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء:109] يعني: أعلمتكم على سواء.
وكلمة: (على سواء) هنا معناها: أن ما أجهر به مثل ما أخفيه، فهما سواء، بمعنى: لا أقول لكم شيئاً وأخفي عنكم غيره، فلا أغدر ولا أخلف ولا أكذب، وإنما الذي أقوله بلساني هو في قلبي، فقد آذنتكم وأعلمتكم علماً نستوي نحن وأنتم فيه، ونستوي في العلم أن مرجعنا إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا مودة بيننا وبينكم.
قال تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109]، (إن) بمعنى ما، أي: ما أدري.
{أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} [الأنبياء:109]، أي: يوم القيامة الذي أنتم تستعجلون به، لا أدري هل هو قريب أم بعيد؟ وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء:110].
أي: إن الله تبارك وتعالى يعلم الجهر وما تنطقون به، ويعلم ما تكتمون.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأنبياء:111].
{وَإِنْ أَدْرِي} [الأنبياء:109]: لعله عائد على الإمهال، أي: إن الله أمهلكم ولا أدري أقريب أم بعيد هذا الإمهال! فلعل ذلك يكون اختباراً لكم وفتنة وامتحاناً ومتاعاً تمتعون به في هذه الدنيا، حتى يأتيكم الأجل.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112].
أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم داعياً ربه، كما قال المرسلون قبل ذلك، فإنهم سألوا ربهم سبحانه وتعالى فقالوا: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89].
كذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: قل ذلك، ولذلك قرأ الجمهور: ((قل رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ)).
وقرأ حفص وحده عن عاصم من القراء: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112].
والقراءتان في الآية لهما معنيان، فكأنه قال له ربه: قل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: {رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ} [الأنبياء:112].
وقرأ الجمهور: ((ربِّ)).
وقرأ أبو جعفر: ((ربُّ احكم بالحق))، يعني: يا رب! احكم بالحق.
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112] يعني: يا رب! افتح بيننا وبينهم، وأظهر حكمك في هؤلاء، وربنا تبارك وتعالى هو الرحمن، ومن رحمة رب العالمين أن أرسل محمداً صلوات الله وسلامه عليه، وأمهل هؤلاء لعلهم يؤمنون، ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقد آمن كثير من هؤلاء الذين كانوا من أشد الناس على النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]، أي: نستعين برب العالمين على ما تقولون من أقوال شركية، وعلى ما تفترون على الله من الكذب، وعلى ما تتهمون به النبي صلى الله عليه وسلم، من قولكم: كاهن وساحر ومجنون وكذاب وغير ذلك، فهو المستعان سبحانه وتعالى على ما تقولون، وما تصفون.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً نافعاً، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يتقبل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(15/14)
تفسير سورة الحج [1 - 4]
ذكّر الله عباده بأهوال يوم القيامة، وذكر ما سيصيبهم من الفزع والخوف الشديد في ذلك اليوم، حتى إنهم يكونون كالسكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.(16/1)
بين يدي سورة الحج
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:1 - 4].
هذه هي السورة الثانية والعشرون من كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة الحج، والتسمية لما ذكر فيها من أمر المناسك.
هذه السورة: آياتها أربع وسبعون آية على العد الشامي، وخمس وسبعون آية على العد البصري، وست وسبعون آية على العد المدني، واختلاف العد هو للاختلاف في أماكن الوقوف على رءوس الآية.
قيل: إنها مكية إلا ثلاث آيات، وقيل: بل هي مدنية إلا أربع آيات، والراجح أنها مكية مدنية، بعض آياتها نزلت في مكة، وبعض آياتها نزلت في المدينة.
هذه السورة ميزت على غيرها من السور بأن فيها سجدتي تلاوة، سجدة في أولها، وسجدة في آخرها، فمن قرأها فليسجد السجدة الأولى وليسجد السجدة الثانية، وجاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في إسناده ضعف أنه قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين، من لم يسجدهما فلا يقرأهما) وينبغي لمن قرأ السجدة في القرآن كله أن يسجد استحباباً وليس على سبيل الوجوب.
ذكر الغزنوي أن هذه السورة من أعاجيب السور في أمر نزولها، وما اشتملت عليه من أحكام ومن حكم، فقال: نزلت ليلاً ونهاراً، يعني: فيها آيات نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وآيات أخرى نزلت عليه بالنهار، سفراً وحضراً، يعني: نزل بعضها وهو مسافر صلى الله عليه وسلم، ونزل بعضها وهو مقيم صلى الله عليه وسلم بالمدينة، مكياً ومدنياً يعني: فيها آيات مكية وآيات مدنية، فمن المكي فيها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:1]، ومن المدني فيها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، فإن من سمات السور المدنية النداء بقوله: (يا أيها الذين آمنوا).
قال: سلمياً وحربياً، يعني فيها آيات السلم وفيها آيات الحرب، قال: ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً.
هذه السورة بدأها الله سبحانه تبارك وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الحج:1] وهذه الجملة من سمات السور المكية التي نزلت في العهد المكي، خلال الثلاث عشرة سنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.(16/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم)
قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج:1] النداء للخلق جميعهم بأن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى، بأن يجعلوا وقاية دون غضب الله، ووقاية دون عذاب الله، فالوقاية بالعمل الصالح، اتق الله أي: اعمل عملاً صالحاً، تقي به نفسك من غضب الله ومن عذابه سبحانه تبارك وتعالى.
روى الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فنزلت عليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] فقال: (أتدرون أي يوم ذلك؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم: ذاك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار.
قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قاربوا وسددوا).
وفي رواية أخرى: (فيئس القوم حتى ما أبدوا بضاحكة) يعني: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعوا أن من كل ألف يدخل النار تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد يدخل الجنة، يئسوا من هذا الواحد الذي سيدخل الجنة؟ فما أبدوا بضاحكة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (اعملوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده! إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج) يعني: يوم القيامة هاتان القبيلتان عددهما سيكون عظيماً جداً جداً؛ فإذا كانوا مع قوم كثروه يعني: من كثرة عددهم، قال: (ومن مات كافراً من بني آدم وبني إبليس، فسري عن القوم بعض الذي يجدون، فقال: اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده! ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة) الحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وله روايتان، وهذه الرواية الثانية الذي ذكرناها صححها الشيخ الألباني رحمة الله عليه.
وقوله هنا: (ما أنتم في الناس إلا كالشامة) أي: العلامة (في جنب البعير) المعنى: مثل الشامة التي تكون في جنب البعير أو الرقمة التي تكون في ساعد الحمار إذا قيست لباقي الجسم، فأنتم بالنسبة للخلق جميعهم بهذه النسبة، فهذا مما يسر المؤمنين، ويجعلهم يطمئنون.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك) وهذا يوم القيامة، ثم يقول: (أخرج بعث النار؟ قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)، يعني: أخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: (فذاك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) ففي يوم القيامة عندما يسمع الناس أن من كل ألف واحد يدخل الجنة: يشيب الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
قال: (فاشتد ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله! أينا ذلك الرجل؟ فقال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل).(16/3)
وقت الزلزلة ومعناها
قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} [الحج:1] زلزلة الساعة واضح من الأحاديث أنها تكون يوم القيامة، وقد اختلف المفسرون هل هذه الزلزلة تكون بعد البعث من القبور أو تكون قبل ذلك؟ وهناك زلازل تكون من علامات قيام الساعة، يكون خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وزلزلة تفزع الناس، فبعض العلماء ذكر أنها الزلزلة التي هي إحدى أشراط الساعة، لكن الحديث وضح أنها تكون في يوم القيامة من الخوف من إخراج بعث النار، ولعل هذا هو المناسب للآيات؛ لأن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، فهي الخوف من عذاب الله عز وجل، وهذا الذي سيكون يوم القيامة، فكل مرضعة تذهب عن رضيعها الذي ترضعه، وتضع كل ذات حمل حملها، فهذا يكون يوم القيامة والله أعلم.
قال: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] الزلزلة بمعنى: الرجفة والاهتزاز، ففي يوم القيامة يكون الخوف الشديد الذي يجعل الإنسان يضطرب ويتزلزل من مكانه ويتحرك، فأصل الزلزلة الحركة العنيفة، ففي يوم القيامة يكون اضطراب النفوس واضطراب أقدامهم من الخوف من بعث النار.(16/4)
تفسير قوله تعالى: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت)
قال تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
قوله: (يوم ترونها تذهل) يعني: هذه الزلزلة تشاهدونها، والذهول هو الغفلة عما أمام الإنسان، وكأنه لا يرى هذا الشيء، فهو ذاهل عنه، مثل من يأخذ شيئاً ثم يبحث عنه وهو في يده، فيوم القيامة تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وما قال: كل إنسان عما حمل، فالإنسان يوم القيامة لا يحمل شيئاً معه، فهو يخرج من قبره عرياناً حافي القدمين كما ولدته أمه.
وفي الدنيا لا يمكن أن امرأة ترضع طفلها وتذهل عنه، ولكن يوم القيامة من شدة الكرب ومن الهول، ومن الفزع؛ تذهل كل مرضعة عما أرضعت، والمرضع لا يوجد فيها المذكر والمؤنث، فهي امرأة ترضع، لكن الشيء الذي يحتمل أن يفعله الرجل وتفعله الأنثى يوجد فيه المذكر والمؤنث، مثل: هذا قائم، وهذه قائمة، هذا جالس، وهذه جالسة، فالذهن يذهب أن المرضع هي المرأة الذي ترضع، فلا يوجد رجل يرضع، فلا يحتاج هذا الاسم إلى تاء التأنيث، فلما جاء هنا بتاء التأنيث فقالوا: هو لزيادة معنى، وهذا المعنى: أن المرأة الذي ترضع اسمها مرضع، وحال إرضاعها تسمى مرضعة، فذكر أن هذه المرأة التي تحن على صبيها تذهل عنه في ذلك اليوم.(16/5)
معنى قوله تعالى (وتضع كل ذات حمل حملها)
قوله تعالى: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2] يعني المرأة لو ماتت وهي حاملة، تحشر يوم القيامة على حال وفاتها وفي بطنها جنينها، فهذا الجنين يصعق من شدة الموقف العظيم! وقوله: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أي: مما يدرك الناس من الخوف والفزع يصيرون كالسكارى، كأنهم قد شربوا خمراً، فذهبت عقولهم، وهم لم تذهب عقولهم بالخمر، وإنما من شدة الموقف ومن الرعب الشديد من أنه سيدخل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون.
وقوله: (وترى الناس سكارى) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (وترى الناس سَكْرى) بالإمالة.
وسكرى وسكارى جمع: سكران، فالمعنى: تراهم في غاية من الخوف والفزع حتى كأن عقولهم قد طاشت منهم، وكأنك تظن أنهم شربوا خمراً، وهم لم يشربوا خمراً، فترى الناس سكارى وليسوا بسكارى من الخمر، وإنما من شدة الخوف والوجل، ولكن عذاب الله شديد.(16/6)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد)
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3].
قالوا: نزلت هذه الآية المكية في النضر بن الحارث، وكان من كبراء مكة، وكان شديد الخصومة للنبي صلى الله عليه وسلم، يجادل بالباطل، ويناظر على الباطل الذي يقوله، كان يجادل بجهل، لا معه أثر من علم، ولا معه عقل حتى يأتي بحجة بينة، فيقوم يقول كلامه ويصدقه الكفار على ذلك.
وإن كانت الآية نزلت في هذا الرجل بخصوصه، ولكن تشمل غيره بعموم اللفظ.
قال الله: (ومن الناس) أي: يوجد من الناس من يجادل وهو لا يعرف شيئاً، يجادل بالباطل، وهذا ذم شديد لمن يجادل في الدين أو في غيره بغير علم، فليجادل الإنسان بعلم في حق، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بترك الجدل وقال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً) إلا أن يكون لنصرة دين الله سبحانه تبارك وتعالى، وللرد على كافر أو مبتدع.
هذا الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد تراباً، وقال: أتزعم أن ربك يعيد هذه العظام وقد رمت وبليت؟! فالله عز وجل يثبت حماقة هذا الإنسان وجهله وجداله بالباطل وبغير علم فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] فهنا الإنسان الذي يجادل بغير علم يتبع الشيطان المريد المتمرد العاتي العاصي لربه، الخارج عن طاعة رب العالمين سبحانه.(16/7)
تفسير قوله تعالى: (كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله)
قال الله: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] (كتب عليه) أي: على هذا الشيطان (أنه من تولاه) أي: من يتولى الشيطان من دون الله عز وجل، (فأنه يضله) أي: الشيطان يضل صاحبه، {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] والسعير من أسماء النار والعياذ بالله، يقال: سعر النار، وسعر الحرب يسعَرهما ويسَعِرهما بمعنى: يوقد ويهيج، فكأن عذاب السعير النار الهائجة، النار المشتعلة التي هي في غاية الاشتعال، ومنه قوله: {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:24] السعر: الجنون، فالمجنون يطيش ويفعل أي شيء، فهذه النار نار مستعرة ملتهبة، فيها اشتعال واستعار شديد، ومنه السعار أي العطش، ومنه الحر الشديد، ومنه: الساعور أي الفرن، ويقال لمن يرمي بالرمح: رمي السعر بمعنى: رمي شديد إذا دخل في شيء خزقه، وأمات من دخل فيه، ويقال: فرس مسعر ومساعر بمعنى: ما يهدأ عندما يهيج.
هذه صورة النار وهي مشتعلة متوقدة متهيجة، والإنسان حين يرى هذه النار ويؤتى بها يوم القيامة {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/8)
تفسير سورة الحج [3 - 5]
لقد ذم الله في كتابه من كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى، معرضاً عما أنزل الله على أنبيائه، متبعاً في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن، وهذا حل أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق المتبعين للباطل، الذين يجادلون في الله بغير علم صحيح، ويتبعون كل شيطان مريد.(17/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3].
أخبرنا الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3] أي: من الناس من يجادل في أمر الله سبحانه، وفي أمر دين رب العالمين، وفي أمر خلق الله سبحانه وتعالى؛ كـ النضر بن الحارث الذي أنكر أن يحيي الله عز وجل الموتى بعد أن يصيروا تراباً وعظاماً، فربنا يخبر عن هذا وأمثاله، أنهم يجادلون بغير علم، ولو أنهم تعلموا لعرفوا الحق في ذلك، ولو أنهم نظروا في هذا الكون واطلعوا على كتب الله سبحانه لوجدوا الموافقة بين الكون وهو كتاب الله الذي ينظر الإنسان إليه في كل يوم في آياته، وبين ما نزل من عند الله من السماء وهو كتاب الله القرآن العظيم الذي إذا قرأه وتأمل الواقع عرف الحق وتعلم ما يكون من أمر ربه سبحانه، ولكن العجيب ممن يجادل بجهل ويتكلم بغير علم ويرد كلام النبي صلوات الله وسلامه عليه، فيعجبنا الله عز وجل من أمثال هؤلاء الذين يجادلون بغير علم.
فالذي ينبغي على الإنسان المؤمن ألا يعرض نفسه أبداً لأمر الجدل، إلا في الدفاع عن دين الله سبحانه إن احتاج إلى ذلك، وإذا جادل لا يجادل إلا بعلم، يقول الله عز وجل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] أي: إذا جادلت إنساناً لتدعوه إلى الحق فينبغي أن تتعلم ما هو الحق قبل أن تجادل، ولذلك قالوا: إن الإنسان الذي لا يتعلم ويتكلم بغير علم، يرى هذا الإنسان في لغط مضل أو غلط مذل، فهذا الإنسان الجاهل حين يجادل إما أنه كثير اللغط الذي يؤدي به إلى الضلال، أو أنه يظن نفسه عالماً فيتكلم في أشياء لا يفهمها ولا يعرفها أمام من يعلم، فيذلونه بجهله ويقولون له: إنك جاهل ولست بفاهم، ما هذا الذي تقوله؟! إذاً: على الإنسان المؤمن أن يتعلم العلم الشرعي قبل أن يتكلم في دين الله سبحانه وتعالى، ولا يكون كأمثال هؤلاء الجهلة بأمر ربهم سبحانه وتعالى، فكفروا وأشركوا وجادلوا بالباطل.
وهذا الذي يجادل بالباطل يأخذ الشيطان بناصيته يوم القيامة إلى نار جهنم والعياذ بالله، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4] أي: الله عز وجل كتب وقدر أنه من يتولى الشيطان من دون الله سبحانه فإن الشيطان يضله، وهنا الذي يهدي والذي يضل هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أسباب الهداية وأسباب الضلالة يجعلها الله عز وجل على يد من يشاء سبحانه، فالشيطان خلقه الله عز وجل بصفاته، وقد علم أنه يضل عباده ويبعدهم عن أمر دينه، ويدفعهم إلى المعصية، ويسول لهم الشبهات ويزين لهم الشهوات، ويصرفهم إلى المنكرات، فهذه أسباب.
فالله عز وجل يقدر فهو يهدي ويضل بتقديره سبحانه وتعالى، والشيطان يضل العباد ويبعدهم عن طاعة الله كسبب من الأسباب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] قوله: ((ولو شاء)) أي: هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، فهو إذا قضى بالهداية لا يمكن أن يكون العكس، وإذا قضى بالضلالة لن يكون العكس، وورد في الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) فهذا ينقلب ويعمل بعمل أهل النار، وذاك ينقلب فيعمل بعمل أهل الجنة كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالشيطان يضل الإنسان الذي يطيعه والذي يعصي الله سبحانه، ويأخذ به إلى طريق عذاب السعير والعياذ بالله.(17/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
أمرنا سبحانه أن نتدبر فيما حولنا في هذا الكون، نتدبر في خلقتنا كيف خلقنا الله سبحانه وتعالى، وقال في كتابه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] هذا جهل الإنسان حين يجادل ويقول: من الذي سيحيي هذه العظام بعدما صارت رميماً؟ نقول: أنت نسيت من الذي خلقها أول مرة، الذي خلقها أول مرة هو الذي يعيدها مرة ثانية، فلم لم تتعجب من الخلق الأول وتتعجب من الإعادة؟! وهل الإعادة أصعب من بدء الخلق؟ فالله سبحانه بدأ الخلق وكان عدماً، فجعله تراباً وماء ثم جعله إنساناً، ثم فني هذا الإنسان ورجع للتراب، فهل الذي خلقه من العدم غير قادر على أن يركبه مرة ثانية من هذا التراب الذي صار إليه؟! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
والخطاب هنا في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) خطاب قرآن مكي؛ لأن في مكة كان الكفار أكثر من المسلمين، وكان الخطاب لهؤلاء أمة الدعوة، فهو يدعوهم ويقول: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ))، أما في المدينة فقد كان الخطاب للمؤمنين؛ لأن المدينة امتلأت بالمؤمنين، فكان الخطاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104].
هنا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5]، الريب: هو الشك، أي: أن الله عز وجل يحييكم ويبعثكم بعدما أماتكم.
قوله: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، قال: (فإنا) جاء بنون العظمة هنا، فالخلق عظيم، وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، فهو أتى بنون العظمة تعظيماً لنفسه وشأنه وقدرته سبحانه وتعالى، ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ)) أي: هو الذي تفرد بالخلق والأمر سبحانه لا شريك له، فجمع بين الاثنين فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] أي: هو الذي تفرد بأن يخلق سبحانه، وهو الذي تفرد بأن يشرع لهذا المخلوق، وبأن يدله على الطريق الصحيح الذي يسلكه إلى جنة رب العالمين وإلى رضاه.(17/3)
مراحل خلق الإنسان
قال الله تعالى: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، هذا بدء الخلق، فقد خلق آدم من هذا التراب، وتركيب جسم الإنسان كتركيب التراب الموجود في الأرض، وعناصره موجودة في جسم الإنسان، فهذا أصل خلقته، لذلك يموت الإنسان ويتحلل ويرجع إلى هذا التراب مرة ثانية.
قال: ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: بعد ذلك كان الخلق من النطفة، ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) هذه مراحل خلق الإنسان جاءت في كتاب الله عز وجل بترتيب عظيم بديع، يقول العلماء: إنه أعظم ما يدل على الخلق ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الترتيب كيف عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن قد تعلم الطب ولا تعلم التشريح من أجل أن يعرف هذه المراحل الموجودة في رحم المرأة، تأتي النطفة من الرجل إلى رحم المرأة، وهذه النطفة يمضي عليها فترة فتتحول إلى علقة، ويمضي عليها فترة فتتحول إلى مضغة، والمضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين الله سبحانه وتعالى لنا.
فذكر لنا هنا سبحانه وتعالى أن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق الله عز وجل الإنسان وجعله نطفة في قرار مكين، قال عز وجل: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] عندما يقرأ الإنسان هذه الآية وغيرها ويقرأ كلام علماء أوروبا وأمريكا في أمر مراحل الجنين وخلق الجنين واعتراف هؤلاء بأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ذكر الترتيب الصحيح بهذا النحو، فيقول المؤمن: صدق الله العظيم الذي يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
قوله ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) النطفة معناها: الماء القليل، ينطف الشيء يعني: يسيل منه الماء القليل، فسميت بذلك لقلتها، أيضاً قد تطلق على الماء الكثير، ولكن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً دائماً، فيقولون: إن النطف معناه القطر، وليلة نطوفة، أي: دائمة القطر، فهي ليلة ممطرة، لكن الأصل أن النطفة الشيء اليسير من الماء وهو المني.
قال لنا هنا: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5] هذه المراحل توجد بين كل مرحلة فترة زمنية، ولذلك عبر عنها بـ (ثم) التي تفيد التراخي.
إذاً: النطفة تمكث فترة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات)، فهنا خلق الإنسان في رحم الأم يبدأ من النطفة التي يمضي عليها أربعون في أربعين في أربعين، حتى ينفخ فيها الروح بعد ذلك.
قال سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)) العلقة: هي القطعة من الدم التي تكون مثل الدودة، فهي معلقة في رحم المرأة، وبعد ذلك تكون مرحلة المضغة، والمضغة كما هو واضح من تسميتها كأنها الشيء الممضوغ، كأنها قطعة لحم ممضوغة، ولذلك بعض علماء الأمريكان لما سأله بعض المسلمين وهو الشيخ الزنداني عن هذه المرحلة: ماذا تسميها؟ وما الوصف الدقيق لها؟ فمكث يفكر ثم قال: لبانة، فاللبانة ممضوغة، فقال الشيخ الزنداني: القرآن ذكر ذلك! فتعجب الرجل جداً كيف أن القرآن ذكر المضغة؛ لأن هذا أدق وصف توصف به هذه المرحلة مرحلة المضغة التي سماها الرجل لبانة ممضوغة، بحيث يكون هيئة الجنين في بطن أمه كقطعة لحم ممضوغة، قال: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))، فهذه المضغة إما أن يقضي الله عز وجل بتخليقها فتصير إنساناً، وإما أن يقضي بنزولها فتنزل ولا تكون شيئاً، فمن قدر الله عز وجل له أن ينمو عبر عنه بأن المضغة التي يكون منها تكون مخلقة، أما من قدر الله عز وجل أنه لا يموت فعبر عنه بأن المضغة تكون غير مخلقة، وعلماء الطب الحديث يقولون: فعلاً المضغة مخلقة وغير مخلقة؛ لأن فيها من الخلايا ما هو قابل لأن ينمو الآن فينمو، ومنها ما هو غير قابل للنمو الآن، وسيأتي على الإنسان وقت يحتاج إلى خلايا، هذه خلية في المضغة هي أصل من أصول خلايا الجلد، وهذه أصل من أصول خلايا العظم، وهذه أصل من أصول خلايا الدم، فلما يحتاج إليها في يوم من الأيام تخلق، وإذا لم يحتج إليها تبقى على ما هي، فكأن بداخل المضغة ما هو مخلق وما هو غير مخلق كما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكره علماء التحليل وعلماء الطب الآن في زماننا، فهنا انظر قال تعالى عنهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] أي: هؤلاء عرفوا هذه الآيات وعرفوا كلام الله عز وجل وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومع ذلك هم أبعد ما يكونون عن ربهم سبحانه! قال: ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) أي: نبين القدرة العظيمة من الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق.
قال تعالى: ((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ما شاء الله عز وجل أن ينمو في الرحم كان، فهو يعلم {مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
(يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد)، غاض الرحم انكمش ثم نزل ما فيه على هيئة الحيض أو على هيئة السقط، أو ازداد الرحم في النمو حتى أصبح بداخله جنيناً فمكث تسعة أشهر أو أقل من ذلك، ثم نزل طفلاً بعد ذلك.
((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أما ما لم يشأه الله أسقطه.(17/4)
مراحل حياة الإنسان بعد خروجه من بطن أمه
قال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج:5]، بعد ذلك مرحلة الطفولية، وهي من ساعة نزول الإنسان إلى هذه الدنيا إلى قبل بلوغه، فهو في مرحلة طفوليته.
قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج:5] أي: تصل إلى الرشاد والشدة والقوة في حال البلوغ.
قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5] أي: حين ينزل الإنسان طفلاً قد يتوفى في هذه المرحلة، ومنهم من يبقى إلى أن يصل إلى أرذل العمر، كما ذكر لنا في سورة غافر، ((وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)).
إذاً: الإنسان قد يموت وهو في بطن أمه، وقد يموت حين يولد، وقد يموت بعد ذلك، وقد يعيش أمداً طويلاً ويصل إلى أرذل العمر، فهو ينمو حتى يصل إلى أقصى شيء وأكمله، ثم يبدأ ينزل حتى يصل كما كان طفلاً، فهو في هذه المرحلة يصير شيخاً كبيراً، ويرد إلى أرذل العمر، العمر الطويل الرذيل، الذي معه يذهب عقل الإنسان، يصل إلى مرحلة التخريف، إلا أن يحفظه الله سبحانه وتعالى بحفظه لدينه، وبحفظه لكتاب الله سبحانه وتعالى ولسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فمرحلة الشيخوخة الإنسان ينسى فيها كثيراً، بعدما كان يحفظ كثيراً ينسى كثيراً، وبعدما كان يجيد النطق والتكلم تسقط أسنانه ويثقل لسانه ولا يقدر على التكلم بعد ذلك، وفرق بين الطفل الصغير الذي يكون بهذه الصفة، صفة الضعف وصفة اللثغة وصفة عدم القدرة، وبين الشيخ الكبير، فهذا الطفل الصغير محبوب لدى أهله ويحمل ويقبل، ويكون الإنسان فرحاً به، أما هذا الشيخ الكبير فيقولون: متى سيموت هذا الإنسان؟! قال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل:70] يعني: الإنسان الذي سيعيش ألف سنة، ماذا ستعلم عندما تعيش ألف سنة؟! إن لم تعلم من هو خالقك، وإن لم تتعلم كيف تعبد هذا الخالق، فكأنك لم تتعلم شيئاً في هذه الدنيا، فيظل الإنسان مهما وصل إلى العلم فإنه سيصل إلى هذه الشيخوخة التي سينسى فيها ما تعلم قبل ذلك، انظروا هنا هل يستطيع الإنسان أن يأتي بالشيخ الذي بدأ ينسى وبدأ يخرف ويرجعه مرة ثانية كما كان في حالة الكمال العقلي؟! هاهم يحاولون في هذا الشيخ، لكن لم يصلوا إلى شيء، انظروا إلى رئيس أمريكا ريغان الذي كان رئيس أمريكا وماذا عمل في العالم كله، أصابه مرض (زهيمر) فلا يعرف زوجته ولا أولاده، ولا يعرف شيئاً مما حوله، ذهب عقل هذا الإنسان بمرض أصابه من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يتأمل الإنسان أنه مهما وصل إلى شيء من كمال قدرة وكمال قوة وكمال فهم وعلم، فإنه في النهاية يصل إلى هذا المنحنى الصعب الذي لا يعلم بعد علم شيئاً.
هذا مثال ذكره لنا ربنا سبحانه لنعرف قدرة الله سبحانه.
قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} [الحج:5] هذا مثال قريب من المثال السابق، وهو إحياء الإنسان ونمو الإنسان كإحياء الزرع ونموه، فنحن كل يوم نرى إنساناً يولد وإنساناً يموت، ونرى الأرض كيف أنها تكون هامدة جامدة يابسة فعندما ينزل عليها الماء من السماء تحيا بفضل الله سبحانه.
قال: ((فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ)) أي: هذه الأرض اهتزت بنمو النبات فوقها، ((وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ))؛ لنرى قدرة الله الذي خلق هذا وجعله ينمو، ثم أماته وهو في دورة قصيرة سنة أو دونها، فنرى الحياة والموت في الأرض لنتعظ من ذلك، ونرى حياة الإنسان وموته؛ لنعلم أنه ليس أحد يبقى على الدنيا، قال عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/5)
تفسير سورة الحج [5 - 10]
ذكر الله تعالى لنا آية من آياته، وهي إحياء الأرض بعد موتها، وفي ذلك دليل على أن الله هو الحق، وأنه قادر على إحياء الموتى، وأن الساعة آتية لا محالة، ويذكر الله سبحانه جدال الكافرين في ذلك وإنكارهم للبعث، وإيذاءهم للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يثبت لهم حقيقة البعث بالأدلة العقلية والنقلية، ومع ذلك لا يؤمنون ولا يصدقون.(18/1)
تفسير قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:5 - 10].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى من آياته خلقه سبحانه وتعالى الإنسان، وكيف أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وكان قبل ذلك تراباً، ثم جعله مضغة، ثم جعله بعد ذلك جنيناً في بطن أمه، وأقره ما يشاء سبحانه وتعالى، ثم أخرجه طفلاً ثم بلغ الأشد، فمراحل تكوين الإنسان التي يراها كل إنسان، يرى كيف يكون حملاً في بطن أمه، ثم يزداد هذا الحمل شيئاً فشيئاًَ، ثم ينزل هذا الجنين من بطن أمه طفلاً، ومنهم من ينزل حياً، ومنهم من ينزل ميتاً، ومنهم من يبلغ أشده ويتوفى، ومنهم من يبلغ إلى أرذل العمر.
يقول سبحانه وتعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5]، ترى أرضاً جامدة، وأرضاً هامدة، وأرضاً يابسة جافة ينزل عليها الماء من السماء، فإذا بالله عز وجل يحييها بما أودع فيها سبحانه وتعالى من أسرار خلقه في بذور النبات، وفي جذوره وسيقانه، وإذا بهذه الأرض تنبت وتربو وتعلو، وينتفخ باطن الأرض بما فيها من بذور ومن نبات ومن جذور، وبدأت تعلو هذه الأرض.
وقوله تعالى: {وَرَبَتْ} [الحج:5] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (وربأت) بمعنى ارتفعت الأرض، وهنا حصل فيها اهتزاز بما كبر بداخلها من بذور، وبما نمى بداخلها من جذور، وعلت الأرض فانتفخت وربت.
وقال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] فترى أمامك الأرض الواحدة والماء الواحد الذي نزل من السماء، وإذا بالله يخرج من هذه الأرض فواكه شتى مشتبهاً وغير متشابه، والخلاق سبحانه تبارك وتعالى ينوع للخلق ما يشاء سبحانه، والإنسان يتفكر في ذلك، كيف أن الله خلق له ذلك ليتفكه به، وجعل له قوتاً من هذه الأرض، أفلا يشكر الله سبحانه وتعالى، ويعرف هذه الآيات، ويعرف أن خالقها هو الله وحده، المعبود وحده لا شريك له؟! فقوله تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، زوج هنا بمعنى: لون أو صنف، أي: أصناف بهيجة تعجب الناظرين، فيطعمها الإنسان فيجد الطعم اللذيذ من كل الطعوم، جعلها الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، فلو كان شيئاً واحداً لمل الإنسان من هذا الشيء، ولكن جعل الله له من كل لون ومن كل صنف، فيأكل ويستمتع بما أخرج الله سبحانه وتعالى ويشكر ربه سبحانه.(18/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6] أي: الله الحق وما سواه باطل، الله الحق وحده لا شريك له، الموجود سبحانه وتعالى، وغيره يوجد فترة ويفقد بعد ذلك ويصير عدماً، الله الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء سبحانه وتعالى، لا أول له ولا آخر له، فالله سبحانه وتعالى واجد الوجود وهو الحق سبحانه وتعالى، وما سواه باطل، وما يزول فهو باطل، وما يقوم بغيره فهو باطل، فالإنسان لم يقم بنفسه، ولم يخلق نفسه، ولكن الله هو الذي خلقه وأوجده، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد، وأعطاه القوة والحياة، فعاش الإنسان بما أعطاه الله سبحانه وتعالى، فهو ليعيش يحتاج إلى ربه سبحانه، والله هو الحي لا يحتاج إلى أحد.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج:6] وحده لا شريك له، وكل شيء يحتاج إلى الله الحق سبحانه، فما سواه باطل.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج:6] وزعم الكفار أننا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ولن نعيش مرة ثانية، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6] فالله يقول: هو الحق؛ ولأنه الحق فهو وحده القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.(18/3)
تفسير قوله تعالى: (وأن الساعة آتية لا ريب فيها)
قال الله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [الحج:7] هذا عطف على اللفظ الذي قبله، ذلك بأن الله هو الحق، وذلك لتعلموا أن الساعة قادمة وآتية ولا شك في مجيئها.
وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] بقدرته الباهرة وبعظمته القاهرة، يبعث من في القبور مرة ثانية للحساب والثواب والعقاب.(18/4)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم)
قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8]، والآية نزلت في سبب، والعبرة بعموم اللفظ نفسه، والسبب هو النضر بن الحارث، هذا الرجل الذي كان يجادل في الله سبحانه وتعالى بلا علم ولا هداية إلى الحق، ولا كتاب من عند رب العالمين سبحانه، لا علم عنده فهو جاهل، وليس معه هدى فهو ضال، وليس معه كتاب من عند الله فهو مخترع مبتدع كذاب، فلا يسمع لمثل هذا الإنسان إلا من هو أجهل منه، ولا يسمع لمثل هذا الإنسان إلا من هو بعيد عن الحق، ومن هو أضل منه، والكفار يسمعون له.(18/5)
ذكر ما جاء من جدال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وما نزل فيهم من آيات
جلس النبي صلى الله عليه وسلم مرة يدعوهم إلى الله سبحانه، وإذا بهم يتشاورون للرد عليه صلى الله عليه وسلم وتعجيزه، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:90 - 93] ومع كل هذا يقولون: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه} [الإسراء:93]، والجواب {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء:93]، فأنا بشر أوحى الله سبحانه وتعالى إلي بهذه الرسالة، فأنا مبلغ عن رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه.
قال لهم ذلك وردوا عليه بأنهم لن يؤمنوا له صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ أبي جهل لعنة الله عليه يقوم ويقول للكفار: يا معشر قريش! إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له غداً بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه -يعني: شدخت وكسرت به رأسه- فأسلموني بعد ذلك أو امنعوني؛ فقالوا له: نحن معك، ولما أصبح أخذ الحجر، وسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يتوجه إليه بحجر ما يطيق حمله، فكاد يهوي به، فإذا به يفزع، وتتيبس يداه، ولم يستطع إلقاء الحجر فجرى فزعاً من النبي صلوات الله وسلامه عليه! فإذا بالكفار يتعجبون فسألوه عما حدث فقال: لما دنوت منه -صلوات الله وسلامه عليه- عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل خصرته ولا أنيابه، وما رأيتُ مثله فحلاً قط، فهم بي أن يأكلني! فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الفحل هو جبريل نزل على هذه الصورة، ففزع أبو جهل وابتعد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما علم النضر بن الحارث بذلك قال: يا معشر قريش! إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة، قد كان غلاماً حدثاً، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: كاهن ولا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم، وكان هذا الرجل من شياطين قريش لعنة الله عليه، وكان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كما ذكرنا قدم الحيرة ببلاد الفرس، وسمع منهم الأساطير من قصص رستم واسكنديار، فكان كلما جلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس يدعوهم إلى الله عز وجل، جلس هذا الخبيث يحدثهم بقصص رستم واسكنديار، وبعد ذلك يقول لقريش: يا معشر قريش! أنا والله أحسن حديثاً منه، فهلموا إلي فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسكنديار، يحكي لهم قصص وخرافات، وهو الذي تبجح وقال: سأنزل مثلما أنزل الله، وقيل: إنه نزل فيه ثمان آيات، وقيل: أكثر من ذلك.
وقد قال الله سبحانه وتعالى في شأنه: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15].
ولما تحيرت قريش في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نبعث لليهود، وكانوا يسكنون قريبين منهم في مكان اسمه زفر، فقالوا: نبعث لهم ونسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فأرسلوا إليهم النضر بن الحارث ومعه عقبة بن أبي معيط، إلى أحبار يهود زفر، فسألاهم عن النبي صلى الله عليه وسلم هل هو حق أم باطل؟ فإذا بحبر منهم يقول: سلوه عن ثلاثة أشياء، إذا أخبركم بها فهو نبي، وإن لم يخبركم بها فليس بنبي: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه، وسلوه عن الروح.
وقدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو كنت نبياً حقاً فأخبرنا عن هذه الأشياء الثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم: غداً سأخبركم، فلبث خمسة عشر يوماً لم ينزل عليه الوحي تأديباً له صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله، ثم نزلت الآيات من سورة الكهف في ذلك، وأخبرهم ربنا سبحانه وتعالى عن أمر الروح، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].
وكان النضر بن الحارث ممن يجادل النبي صلى الله عليه وسلم بالباطل، وجلس مع النبي مرة فأفحمه النبي صلى الله عليه وسلم بكلام وتلا قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] فلما قال ذلك بهتوا كلهم وقاموا، وذهب النضر إلى عبد الله بن الزبعرى وقال له: إنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، وكان الوليد بن المغيرة بين القوم فقال: لم يستطع أحد أن يرد عليه؟! فالتفت إلى ابن الزبعرى فقال: لو كنت موجوداً لرددت عليه، وقلت له: إذا كنا وما نعبد حصب جهنم، فإننا نعبد الملائكة، فهل الملائكة تدخل النار؟ والنصارى يعبدون عيسى، فهل عيسى سيدخل النار؟ فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذلك له صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].
إذاً: يفهم من هذه الآيات أن الذي يدخل النار من رضي بهذه العبادة دون من لم يرض بها، وعيسى والملائكة لم يرضوا بهذه العبادة من دون الله عز وجل، وقد قتل النضر بن الحارث صبراً في يوم بدر، فقد كان من أسرى يوم بدر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقتل، والذي قتله هو علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه.(18/6)
ذم الجدال بغير علم
فقول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:8] هذا الرجل منهم، وكل من جادل في الله بغير علم يدخل تحت هذه الآية.
وقوله تعالى: {وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] أي: ليس معه بينة من عند رب العالمين من آية أو وحي، وقوله تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] العطف: جانب رقبة الإنسان، يعني: يعوج رقبته لا يريد أن يسمع الحق، فهو مستكبر عنه.
إذاً: من صفات الإنسان المستكبر أنه حين يتكلم يعوج رأسه ويكلم الناس من علو كأنه أفضل منهم، وهي صفة موجودة في الكفرة وفي بعض المسلمين أيضاً، وكل هذا من جهل الإنسان بنفسه، وجهله بحقارة نفسه وأن أصله من تراب، وجهله بربه العظيم الذي أمره أن يتواضع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تواضع لله رفعه) وأبى الله سبحانه للمتكبر إلا أن يضعه، فالمتكبر يستشعر أن الذي معه ليس مع غيره، فهو يتعالى على غيره، ويتكبر حتى ينكس الله رأسه، فاحذر من الكبر واحذر من الغرور واحذر من ثني الرقبة.(18/7)
تفسير قوله تعالى: (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله)
قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج:9] أي: لاوٍ جانبه، معرض عن سماع الحق، وقوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] فيه قراءتان، فقراءة الجمهور: {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9]، من الفعل الرباعي أَضَلَّ، أضل غيره يعني: دعا غيره للضلالة، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب: (ليَضِل عن سبيل الله) من الفعل الثلاثي ضلَّ بمعنى هو ضال في نفسه، متجه إلى غير الحق، متبع الهوى بعيد عن الله سبحانه.
إذاً: هو ضال مضل، ضال في نفسه مضل لغيره، ومعنى ليَضِل: ليزداد ضلالة وبعداً عن الله عز وجل، وليُضِلَّ: ليجعل غيره يبتعدون عن دين ربهم سبحانه.
وقوله تعالى: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] أي: كل إنسان متكبر لا بد أن يخزيه الله في الدنيا، وليس شرطاً أن يكون حالاً وسريعاً، فإن الله يقول: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، يملي ربنا سبحانه وتعالى للمتكبر حتى يقصمه، فقوله: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [الحج:9] أي: يخزيه الله ويحقره ويضله.
وقوله تعالى: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9] أي: عذاب الدنيا، ويوم القيامة نار جهنم والعياذ بالله.(18/8)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد)
ويقال له: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]، واليد أداة الكسب للإنسان، وإن كان قد يكتسب السيئات بلسانه وبغيره، ولكن أكثر ما يكتسب به الإثم بيديه، فقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج:10]، ولا يظلم ربك أحداً، فاحذر من غضب الله سبحانه، واحذر أن تظلم نفسك فلا تلومن يوم القيامة إلا نفسك.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/9)
تفسير سورة الحج [11 - 15]
يخبر الله عز وجل عن صنف من الناس قلوبهم مريضة، وحياتهم تعيسة، لا ينظرون إلا إلى المادة فيعبدونها ويركعون لها من دون الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء ما دخلوا في دين الله إلا للتجربة، فإن صلحت أحوالهم من أموال وزوجات وأولاد قالوا: هذا دين حسن، وإن ابتلاهم الله عز وجل انقلبوا على أعقابهم وارتدوا عن دين الله سبحانه وتعالى، فعبدوا من دون الله ما يضرهم ولا ينفعهم، وعبدوا من دون الله من كان بعيداً منهم لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً.(19/1)
تفسير قوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:11 - 14].
يذكر لنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها أصنافاً من الكفار الذين يعبدون غير الله سبحانه تبارك وتعالى، فمنهم من يجادل في الله بغير علم ولا هدىً ولا كتاب منير، فهو مستكبر ثاني عطفه؛ ليضل عن سبيل الله، فأخبر الله سبحانه أن هذا الإنسان المستكبر جزاؤه أن يخزيه الله عز وجل في الدنيا، وأنه يوم القيامة يذيقه عذاب الحريق.
وكان من هؤلاء وهو سبب نزول هذه الآية: النضر بن الحارث، فأذله الله عز وجل في الدنيا وأخزاه، وقتل صبراً في يوم بدر، ويوم القيامة له عذاب الحريق، وكذلك من كان مثله من يصد عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يظهر أنه ليس من عند الله سبحانه، وأنه ليس الحق، فهذا الرجل كان يجادل بالباطل، ويجلس إلى الناس يحدثهم بالقصص والخرافات، ويقول: هذا أحسن حديثاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل على ذلك حتى قصمه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه صورة أخرى من صور هؤلاء الذين يدخلون في دين الله وهم على حرف: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة:109] فهو لما دخل في هذا الدين، وجاءه رزق وفير، والله أنعم عليه في هذه الدنيا، فهو يقول: هذا الدين دين جيد، ويستمر عليه، فإذا أصيب بشيء من البلاء قال: هذا الدين ليس جيداً، وينصرف عن هذا الدين راجعاً إلى الشرك والعياذ بالله! ومن الناس -من هذا الصنف- من يعبد الله على حرف، يعني: دخل في الدين وهو متوجس يأخذ في التفكير: أدخل أو لا أدخل؟! أدخل وأنظر! فهو على حرف، ليس ثابتاً على هذا الدين، ولكنه متزعزع، متزلزل، متشكك، يجرب تجربة! الدين ليس محلاً للتجربة، لكنه يجرب فإذا أعجبه استمر، وإذا لم يعجبه رجع عنه، لم ينزل دين الله عز وجل بذلك، ولكن المؤمن يدخل في دين الله واثقاً في الله سبحانه تبارك وتعالى، مقتنعاً بهذا الدين، قد امتلأ قلبه بالإيمان، فهو على يقين من أن الله واحد لا شريك له، وعلى يقين من أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مبلغ عن رب العالمين سبحانه، وعلى يقين من أن هذه الشريعة هي منهج الحياة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهو على يقين بأنه سيحاسب يوم القيامة على عمله.
أما هذا المتزلزل المتزعزع -الذي هو على حرف- فإن وجد خيراً استمر، وإن وجد ضيراً انقلب على عقبيه، هذه صورته.
يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11]، ومعنى (حرف) أي: على وجه واحد، أو على آخر الشيء مثل حرف المكان أي: آخره، والواقف على الحرف: إما أنه يبعد ويقع، وإما أنه يستمر على ما هو فيه، فهذا على تشكك في عقيدته، ومتزلزل في إيمانه.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] قال ابن عباس: يريد شيبة بن ربيعة وكان قد أسلم قبل أن يظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظهور هنا بمعنى: الغلبة، فكان في مكة والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين قلة، ولم يكن لهم دور، دخل الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما جاء من شريعة، فإذا بهذا الرجل يرجع ولا يريد ذلك.
وقيل: إنه رجل من اليهود دخل في الدين وبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فلما أسلم ابتلاه الله عز وجل، فذهب بصره وماله، يعني: عمي الرجل وذهب ماله، فتشاءم بالإسلام، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقلني، فقال له: (إن الإسلام لا يقال)، والإقالة أن يبيع الإنسان بيعة ثم يرجع في كلامه، فظن أنه هكذا في الإسلام، فقال: إني رجعت في كلامي لا أريد، فقال له: (إن الإسلام لا يقال، فقال: إني لم أصب في ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي وولدي، فقال له: يا يهودي! إن الإسلام يسبك الرجال، كما تسبك النار خبث الحديد) فنزلت هذه الآية، والحديث في إسناده ضعف، ولكنه من ضمن الصور التي فيها أن البعض كان يسلم، ويبتليه الله سبحانه تبارك وتعالى سواء كان هذا اليهودي أو غيره فيرتد عن الإسلام.
كذلك جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أنه قال: (كان الرجل يقدم المدينة، فإذا ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله، قال: هذا دين صالح)، فهو يدخل في الدين تجربة.
فالدين لا يصلح فيه هذا الشيء، فإما أن يثبت هذا الشخص، وإما أن يكون مزعزعاً فلا يصلح في هذا الدين، ولا يتسمى بمسمى الإسلام إلا أن يكون على شهادة أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه.
فكان الرجل من هؤلاء الأعراب يدخل في هذا الدين ليجرب وينظر، فإذا حملت زوجته وأتت بولد كان هذا الدين جيداً، وإذا نتجت الخيل وكثرت كان ديناً جيداً، وإلا فإنه يرجع عن هذا الدين ويقول: إن هذا دين سوء، ولذلك الله أخبر عن هؤلاء الأعراب فقال: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] فإذا كانوا يدخلون الدين من أجل أن يجربوه فهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً، فليس في قلوبهم من الإيمان شيء إلا التسمية بأنه مسلم فقط، لكن الحقيقة أنه ليس في قلوبهم إسلام، ولذلك أخبر الله عز وجل عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، إسلام باللسان فقط، لا يوجد إيمان: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، الإيمان إذا دخل القلب وانفتح انشرح صدر الإنسان بهذا الإسلام، ويكون في سبيل دين الله عز وجل مستعداً أن يترك ماله وولده، ويترك كل شيء ابتغاء مرضاة الله عز وجل، أما الذي يريد الدنيا والآخرة، فيبتغي في الدنيا المال والولد، ويريد زهرة الدنيا مع الآخرة، فهذا لا يكون، أين التضحية؟! وعلى أي شيء سيدخل الجنة؟ لا بد أن الإنسان يبذل في الدنيا ويصبر فيها، يقول الله سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
فالإنسان يظفر بالجنة ويدخلها بالصبر على المكاره، وبقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهؤلاء هم الذين يعلمون أن مصيرهم إلى الله عز وجل، وأن الله سيحاسبهم يوم القيامة، فيبتغون رضا الله سبحانه.
أما الإنسان الذي يريد الخير في الدنيا والآخرة، فلا يمكن، قال الله سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تريد أن تقول: أنا مؤمن من غير أن تصاب بشيء في الدنيا لا في المال ولا في الولد ولا في النفس؟! لا يصلح الإسلام إلا بشيء من البلاء.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] (حرف الشيء) طرفه وشفيره وحده، والمعنى: يعبدون الله على وجه واحد وهو السراء، ولا يريدون ضراء.
ولو عبدوا الله على الشكر في السراء، والصبر في الضراء، لما عبدوا الله على حرف، فالإنسان في وقت السراء يشكر الله ويحمده سبحانه، ووقت الضراء يصبر وينتظر الفرج من الله سبحانه، فهذا هو الذي يعبد الله على حق.(19/2)
معنى قوله تعالى: (فإن أصابه خير اطمأن به)
قال تعالى: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] يعني: ثبت على الدين، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} [الحج:11] يعني: أصابته في ماله وبدنه وولده، انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، فالإنسان الذي يرتد ويرجع إلى الكفر لن يضر الله شيئاً، إنما هو الخاسر الخسران المبين، ففي الدنيا الله عز وجل يعطي الإنسان الهدى من فضله ورحمته، وهذا أعظم مكسب، ولذلك أهل الجنة يقولون عند دخولهم الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:43]، فهنا أهل الجنة عرفوا نعمة الله عز وجل، ونعمة الإسلام، ووفق العبد للعبادة في الدنيا وابتلاه في الدنيا فصبر، فكان بتوفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى أن أعطاه في الدنيا فحمد ربه، وعندما يأتي يوم القيامة يقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا.
أما هؤلاء الكفار الذين ارتدوا على أعقابهم فقد خسروا الهدى في الدنيا، وخسروا طريق الله فلم يعرفوه، أو ارتدوا عن طريق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالكافر قلبه مظلم، يعيش في شك وحيرة، ويعيش في ضلال وتيه، فلا تفرح بمظهر الإنسان الكافر صاحب الغنى والمال والثروة، فقلبه فيه خواء، ضيع عمره في الرقص واللعب والموسيقى والأغاني، وهو يستشعر أن قلبه لا يوجد فيه شيء، هو مستشعر أنه ضائع تائه، ولذلك أعلى معدلات الانتحار تكون عند هؤلاء الكفار، يأخذ أحدهم من الدنيا ولا يشبع، فهو يحس أنه محتاج إلى شيء لكنه لا يعرفه، ما هو هذا الشيء الذي يحتاج إليه؟! وفي النهاية يضيع ويهلك نفسه منتحراً يائساً من الدنيا، وتجد كثيرين من هؤلاء معهم من الأموال الشيء الكثير، ولكن لا يستشعرون بالسعادة التي يستشعرها المؤمن الفقير.
فالمؤمن الفقير راض عن الله سبحانه تبارك وتعالى، إن أعطاه حمده، وإن منعه صبر وانتظر أن يدخل الجنة قبل الأغنياء يوم القيامة، في قلبه ما يدفعه إلى حب الله سبحانه، وينتظر الجزاء من الله سبحانه تبارك وتعالى، قلبه معلق بالله، وممتلئ إيماناً، أما الكافر فقلبه فارغ.
فذلك الكافر يخسر الدنيا مهما أعطي فيها من مال وبنين وغير ذلك، وانظروا إلى التفكك الأسري عند الكفار، يعيش الكافر ويكبر ابنه فيحس أنه ليس بابنه، فابنه بعدما يبلغ لا يستطيع أن يبقيه في البيت، يخرج ابنه خارج البيت، فلا يوجد بينهم ترابط أسري، والدين هو الذي يوجب ذلك، فعندما يكبر الأب يذهب إلى دار المسنين، لا يقبل الابن أن يكون أبوه معه في البيت، ولا أمه تكون معه في البيت، كل واحد يعيش لوحده! لا يوجد ترابط بينهم! فالذي يجمع ويؤلف هو دين الله سبحانه تبارك وتعالى، يجعل في القلب حب الأب للابن، وحب الابن لأبيه، والطاعة بين الابن لأبيه، والمحبة من الأب لابنه، فيجمع الناس، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، أما هؤلاء فأهم شيء عندهم الدنيا، فيحصل على الدنيا ولا يتدخل في أنه ينفع ابنه أو يضره! هنا الله سبحانه تبارك وتعالى يخبر عن هؤلاء الكفار أنهم خسروا الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] أي: الواضح البين، فهؤلاء ما استفادوا بأن دعوا الأصنام شيئاً، يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، فهذا الصنم الذي يعبده من دون الله، وهذه الآلهة الباطلة التي يعبدها من دون الله، لا تضر ولا تنفع، بل ضررها أقرب من نفعها، فالكافر يدعو الوثن والصنم ويتقرب إليه، ويطلب منه أن ينصره، وترك ربه سبحانه فتخلى عنه ربه وتركه، فخسر الدنيا قبل الآخرة، فنصر الله سبحانه وولايته ليست مع هذا الإنسان، فهو يدعو الصنم، والله يقول: (أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) فهذا الذي يدعو غير الله أين النفع الذي سينفعه الصنم؟! لا يملك لنفسه شيئاً فضلاً عن غيره، وخسر في الدنيا ولاية الله سبحانه، وخسر الآخرة فكان في النار عياذاً بالله.(19/3)
تفسير قوله تعالى: (يدعو من دون الله ما لا يضره ولا ينفعه)
قال سبحانه: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [الحج:12] الكافر ضال تائه حائر، لا يعرف أين الحق، فهو في ضلال بعيد عن الحق، بعد وتاه في ضلاله، يقال: فلان دخل في الصحراء وتاه في أولها، أي: بعد فيها، فتيئس من هذا الإنسان فلا يوجد فيه أمل، فهو قد ضاع فيها.
فهذا الذي يدعو الصنم والوثن في ضلال بعيد، لا يرجى لمثل هذا الإنسان وهو على هذه الحال خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، فضلاله بعيد.(19/4)
تفسير قوله تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه)
قال تعالى: {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج:13] ضرر هذا الوثن الذي يعبد أقرب من نفعه إن كان له نفع، ولكن الضرر في الدنيا أن يتخلى الله عنه سبحانه تبارك وتعالى، وسيزيده ضلالاً على ضلاله، فلا يهديه سبحانه تبارك وتعالى، وفي الآخرة له نار جنهم.
{لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:13] المولى: النصير والقريب كابن العم وغيره، فإذا كان يستنصر بهذا المولى وبهذا الوثن من دون الله فبئس ما يستنصر به! كذلك يوم القيامة يتبرأ بعضهم من بعض، فقال: (ولبئس العشير) المعاشر والصاحب والقريب، فالإنسان الذي يتقرب إلى غير الله سبحانه، ويترك ربه، فبئس ما تقرب به، وبئس ما تقرب إليه!(19/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار)
ثم يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين، وكيف يعاملهم الله بفضله وبرحمته سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14].
الكفار كانوا ينظرون إلى هذه الدنيا على أنها: طالما الله يعطينا في الدنيا فسيعطينا في الآخرة، فيقيسون الآخرة على الدنيا، وأنتم يا فقراء المسلمين! الله لن يعطيكم، فكيف سيعطيكم الآخرة إذا كان لن يعطيكم في الدنيا، فنحن أعطانا المال والبنين، فالله يحبنا، إذاً نحن أفضل، فسيعطينا يوم القيامة أكثر، فيخبر الله عز وجل أن هذا الشيء وهم، فإن الله أعطاكم ليس لأنه يحبكم، وليس لأن يرفعكم على الخلق، بل ليملي لكم، فإن كيده متين سبحانه.
قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:14] فالمؤمنون الصابرون يستحقون الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، جنات وبساتين عظيمة (تجري من تحتها الأنهار) أي: تجري في أرضها الأنهار، أنهار من لبن، وأنهار من عسل، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء، لا يكدرها شيء.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14] أي: يعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، ويدخل النار من يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، والكفار لا يعجبهم أن المؤمنين يدخلون الجنة وينصرهم الله عز وجل، بل يغضبون، فنقول لهم: اضربوا برءوسكم على الحائط، واشنقوا أنفسكم، وافعلوا ما تشاءون، فهل هذا يغني عنكم أم لا يغني؟!(19/6)
تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة)
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] أي: يعتقد أن الله لا ينصر دينه، ولا ينصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا ينصر المؤمنين، ويظن: أن الله طالما أعطاني المال إذاً أنا الذي أستحق النصر وأنتم لا تستحقون، فالذي يظن هذا الشيء ماذا يعمل؟ قال الله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] إذا كان يستطيع أن يصعد إلى السماء ويمنع نصر الله فليفعل، ويذهب لينظر هل هذا الشيء ينفع؟! {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] هل يذهب هذا الكيد أنه يصعد إلى السماء بطائرة أو بصاروخ، ويمنع نصر الله عن المؤمنين.
وقالوا أيضاً: فليمدد بسبب إلى السماء طالما أنه مغتاظ من أن الله ينصر المؤمنين وينشر دينه سبحانه، اربط حبلاً في سقفك، واخنق به نفسك، وانزل ميتاً على الأرض، وانظر هل هذا الذي تعمله سيذهب غيظك أم لا يذهب غيظك؟! والمعنى: موتوا بغيظكم، واقتلوا أنفسكم، فلن ينصر الله سبحانه إلا دينه وأهل الحق مهما فعل الكافرون.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ} [الحج:15] الهاء هنا عائدة على النبي صلى الله عليه وسلم، أو عائدة على دين الله سبحانه، أو على المؤمنين، وهذا وعد من الله عز وجل أن ينصر هذا الدين، ولكن النصر له أسباب، فربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، إن الله ينصر هذا الدين بأسباب قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، أعدوا للكفار ما استطعتم من قوة، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ويقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
إذاً: المؤمن يتوكل على الله، والله يقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ويأمرهم أن يأخذوا بالأسباب، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
إذاً: عليك أن تأخذ بأسباب النصر بأن تتقوى، وتكون جيشاً للدفاع عن هذا الدين، حتى تستطيع أن ترد على هؤلاء الكفار، فيكون القلب فيه الإيمان والتوكل على الله سبحانه، والعقيدة الصحيحة أن ينصر دين الله، وليس أن ينصر الأرض والوطن والعروبة، ولا أن ينصر إفريقيا أو غيرها، وإنما ينصر دين الله بالأخذ بالأسباب، فكيف ينصر دين الله من هو جاهل بدين الله سبحانه وتعالى؟! كيف ينصر دين الله من هو مشرك بالله يستغيث بالأولياء والصالحين ويترك ربه سبحانه تبارك وتعالى؟! وإذا كان المؤمن على عقيدة صحيحة أخذ بأسباب النصر الدينية والدنيوية، وهنا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] فمن ترك نصرة دين الله سبحانه، ولم يأخذ بهذه الأسباب التي ذكرها الله؛ فلا يستحق أن ينصره الله.
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه، وأن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يخذل الكفر والمشركين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(19/7)
تفسير سورة الحج [15 - 22]
إن الله ناصر رسوله، ومتم نوره، وسينتقم الله يوم القيامة من كل من أعرض عنه ولم يتبع النور الذي جاء به، ويهينه الله ويحق عليه عذابه؛ لأنه أعرض عن عبادته وتوحيده، ولم يسجد لله كما يسجد له من في سماواته وأرضه، وقد أخبرنا الله في كتابه بصور فضيعة من أنواع العذاب الذي سيلقاه من كفر به وكذب بآياته.(20/1)
تفسير قوله تعالى: (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:15 - 18].
أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى أنه ينصر عبده صلوات الله وسلامه عليه فقال: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15].
كأنه ييئس الكفار من أن يطمسوا نور الله سبحانه ويطفئوه، فالله عز وجل متم نوره سبحانه تبارك وتعالى، ولو كره الكافرون، فإن كرهوا واغتاظوا من أن الله ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينصر دينه قال: (فليمدد) أي: المغتاظ منهم بحبل إلى السماء: {ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15].
يعني فليذهب فيقتل نفسه فيمت غيظاً وحنقاً، فهل يذهب هذا الذي صنعه بنفسه ما يغيظ؟ لن يذهبه ولكنه في الدنيا يخنق نفسه، ويتحول إلى غضب الله سبحانه تبارك وتعالى وعذاب رب العالمين.
والمعنى الآخر: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني يحاول الصعود إلى السماء وينظر هل يقدر أن يمنع نصر الله الذي ينزل من السماء على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولينظر هل يقدر أن يمنع هذا القرآن من النزول من السماء؟ قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] يعني كل ما يكيده وكل ما يصنعه للحيلولة دون نصر النبي صلى الله عليه وسلم ودون إبلاغه صلى الله عليه وسلم، فليحاول الصعود إلى السماء، وينظر هل يقدر أن يمنع نصر الله الذي ينزل من السماء على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولينظر هل يقدر أن يمنع هذا القرآن من النزول من السماء؟ قال: {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] لا يقدر أن يمنع نصر الله سبحانه، ولا أن يمنع نزول القرآن من السماء، حتى ولو خنق نفسه!(20/2)
تفسير قوله تعالى: (وكذلك أنزلناه آيات بينات)
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحج:16] أي: كهذا الإنزال، وهذا الذي تسمعونه يتلى عليكم أنزلنا من السماء آيات هذا القرآن العظيم آيات بينة واضحة فيها الهدى وفيها الرحمة وفيها الشفاء.
{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج:16]، فالهدى هدى الله سبحانه تبارك وتعالى، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي بفضله، ويضل من يشاء ويبتلي عدلاً، فيضل من يشاء بعدله، ويهدي من يشاء بفضله، ولا يملك أحداً من الله شيئاً سبحانه تبارك وتعالى، فأنزل الله عز وجل هذا القرآن آيات بينات واضحة ومع ذلك تعمى على من يعمي الله سبحانه تبارك وتعالى قلبه، فالإنسان الأعمى لا يرى هذا الشيء البين الواضح الذي يراه الإنسان المبصر، فربنا سبحانه يخبر أن الهدى هداه، وأنه يهدي من يريد، ويهدي من يشاء سبحانه تبارك وتعالى، فمن لم يهده الله سبحانه مهما جمعت له الآيات ومهما وضحت له الحجج، فلا سبيل للهدى لهذا الإنسان، فإن الله يهدي من يريد.(20/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا)
قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الحج:17] هؤلاء هم المسلمون والكفار، فذكر المؤمنين وذكر المناوئين لهم الذين هادوا يعني اليهود، والصابئين الذين عبدوا النجوم من دون الله سبحانه تبارك وتعالى فصبئوا وخرجوا عن دين رب العالمين سبحانه، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين (والصابين).
والنصارى هم الذين عبدوا المسيح من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، والمجوس هم الذين عبدوا النيران من دون الله سبحانه، والذين أشركوا هم الذين عبدوا الأوثان، وكل من زعم لنفسه إلهاً ادعاه وعبده من دون الله عز وجل؛ كل منهم يزعم أنه على صواب ويخطئ غيره، فالله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ} [الحج:17] أي يقضي ويفتح بينهم يوم القيامة، ويقضي سبحانه بين هؤلاء يوم القيامة، وإن ظنوا في الدنيا أنهم على شيء، ولكن يوم القيامة تظهر الحقائق وأنهم ليسوا على شيء بل كانوا على ديانات باطلة إلا الذين آمنوا.
قال الله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج:17] يشهد عليهم يوم القيامة، فقد أحصى عليهم كل شيء فعله، وكل شيء قالوه، وكل شيء زعموه واعتقدوه، فالله عز وجل يوم القيامة كفى به شهيداً على هؤلاء، أحصى أعمالهم وسيجازيهم ويحاسبهم عليها يوم القيامة.(20/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض)
قال سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18].
لما ذكر الله الذين اختلفوا في عبادة رب العالمين، ناسب أن يذكر أن هنالك من لم يختلف في عبادة ربه سبحانه تبارك وتعالى، وعبدوه، وما يكون هؤلاء الكفرة بجوار هذه الأشياء العظيمة؟ {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات:27 - 28].
فالله سبحانه تبارك وتعالى خلق السماوات وخلق كل ما فيها، وهم أكثر من البشر بكثير، وأقوى منهم بكثير، وكلهم يسجد لله طائعاً ويعبد ربه سبحانه ويسبح بحمد ربه، قال الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44]، فالذين كفروا بالله سبحانه لا قيمة لهم، إنهم قوم في الأرض، والأرض كلها ما تساوي ذرة في ملكوت الله سبحانه تبارك وتعالى! الرؤيا هنا رؤية قلبية، يعني: ألا يعتقد قلبك وعقلك ذلك، فأنت ترى تسخير الله سبحانه تبارك وتعالى لهذه الأشياء، فهي مسخرة بقدرة الله سبحانه، فهي متحركة بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى، النجوم والكواكب والشموس والأقمار كلها خلقها الله، وخلق لها مساراتها التي تسير فيها طائعة أو كارهة، تسير في هذا المسار، فالله عز وجل خلق السماوات والأرض وقال لهما: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، قالتا: أتينا طائعين، ولسنا كارهين لعبادته، ولسنا مكرهين على ذلك، ولكننا أتينا طائعين.
فربنا يقول للخلق: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} [الحج:18] سجوداً حقيقياً، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تسجد تحت عرش الرحمن حتى يأذن لها سبحانه فتطلع من مشرقها، ثم يوم القيامة لا يؤذن لها فتطلع من مغربها، فكل شيء يسجد لله مطيعاً وكارهاً، فالسجود بمعنى الطاعة، والسجود بمعنى العبادة لله، فيسجد له كل شيء من الخلق.
قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ} [الحج:18] من في السماوات من ملائكة ومن خلق يعلمه الله سبحانه: {وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج:18] كل من في الأرض من الإنسان والجان والحيوان والدواب والحشرات والجماد والنبات، فلما سجدوا لرب العالمين عاملهم معاملة العقلاء؛ لأنهم يسجدون ويسبحون؛ فلذلك قال: (من) وما قال: (ما) قال هنا: (من في السماوات ومن في الأرض)، وإن كان فيها الجمادات.
قال: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] نصص على هذه لأن من الخلق من عبد الشمس من دون الله سبحانه، ومنهم من عبد القمر من دون الله، ومنهم من عبد الكواكب من دون الله، فقال: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ} [الحج:18] كل هذه تسجد لرب العالمين مطيعة له سبحانه تبارك وتعالى.
قال: {وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18] الجبل يسجد لرب العالمين، والكافر يأخذ حجراً من الجبل يعبده من دون الله سبحانه! والشجر يسجد لرب العالمين، وذاك يأتي بشجرة يغطيها ويعبدها ويقول: هذه الإله من دون الله سبحانه تبارك وتعالى! فهذه الكائنات كلها أعقل من الكافر الذي لا يعبد ربه سبحانه.
قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] كل ما يدب على الأرض وكثير من الناس، كثيرون منهم، وأما الأكثر فكما قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، فالأقل المؤمنون، والأكثر الكفرة، فالمؤمنون كثيرون وهم يعبدون الله ويسجدون له سبحانه، وغيرهم حق عليهم العذاب، وهم الأكثر الذين عبدوا غير الله سبحانه.(20/5)
معنى قوله تعالى (ومن يهن الله فما له من مكرم)
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] إذا أهان الله خلقاً من خلقه فمن يكرم هذا الخلق؟ من أمر الله عز وجل به إلى النار لا أحد ينجيه من غضب الله الجبار، من أمر الله عز وجل به أن يعذب وأن يهان فمن يقدر يرفع عنه ذلك؟ من يهنه الله سبحانه فلن تجد من يكرمه.
وأي أهانة أعظم من أن يدخله الله جهنم، فإذا سألوا ربهم العفو وإذا سألوا ربهم الخروج، عاملهم معاملة الكلاب فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، وهذه كلمة تقال زجراً للكلب، وتقال لأهل النار والعياذ بالله.
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، لما ذكر الله أن من يهن الله فما له من مكرم، فالإنسان ليس له أن يقول أي كلمة يوم القيامة، ليس لك شيء عند رب العالمين سبحانه، ليس لك إلا عملك، فإذا صلح العمل أصلح الله حالك، وأصلح طريقك إلى الجنة، وإذا فسد العمل كان الإنسان في النار والعياذ بالله، والله يفعل ما يشاء سبحانه تبارك وتعالى ولا اعتراض على فعله، ومن يعترض فماذا ينفعه هذا الاعتراض على رب العالمين، فقد قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فإذا اعترض فله نار جهنم وله الهوان يوم القيامة.(20/6)
تفسير قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم)
قال سبحانه: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] المؤمنون والكفار، والعبرة بعموم اللفظ وإن كان سبب النزول سبب خاص.
يذكر الإمام البخاري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، هؤلاء فريق مع فريق آخر من الكفار وهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وذلك في يوم بدر حين خرج هؤلاء الكفار وطلبوا من المؤمنين من يخرج إليهم للمبارزة، فخرج إليهم من المؤمنين علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وكلهم من آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه، فاقتتلوا فجرح عبيدة بن الحارث وقتل الثلاثة الكفار لعنة الله عليهم، قال علي بن أبي طالب: أنا أول من يجثو للخصومة يوم القيامة، ويذكر أن هذه الآية نزلت في هذا الفريق من المؤمنين، وهذا الفريق من الكفار، والعبرة بعموم اللفظ، فهي نزلت فيهم وفي غيرهم من كل من خاصم من الكفار، فيوم القيامة يفصل الله عز وجل بينهم.
قال الله: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19] هذا فريق من المؤمنين اختصم مع فريق من الكفار، والخصومة في من هو المعبود الحق؟ وما هو الدين الحق؟ والكفار تعصبوا لرأيهم، ولم ينظروا بعقولهم إلى هذا الدين الحق الذي جاء من عند رب العالمين، فيوم القيامة يفصل الله ويقضي بينهم.(20/7)
صور من عذاب النار
قال الله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20].
الكفار في الدنيا علوا واستكبروا ورفضوا دين الله سبحانه، وجادلوا بالباطل، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:39]، فإذا جمعهم الله يوم القيامة يكون مصيرهم كما قال الله: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19].
قطعت لهم كما يفصل للإنسان ثوب من القماش على مقاسه، فهم فصلت لهم ثياب من نار جهنم على قدر أحجامهم يوم القيامة.
قال الله: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] الحميم السائل الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، ولا يقاس به سائل في الدنيا أبداً، وأصل الحميم الماء الساخن، ولكن لن يجدوا مثل هذا الماء في نار جهنم، وإنما سوائل ساخنة ملتهبة بقدر عظمة النار وشدة لهيبها، وهذا الحميم يحصل به أنه يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولو أن إنساناً انصب عليه ماء مغلي في الدنيا فإنه يحرق الجلد الخارجي منه، أما هذا يصب من فوق الرأس فيصهر ما بداخل الإنسان {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:20]، يصهر به ما في بطونهم من أمعاء ومن معدة وغيرها والعياذ بالله! يصهر يعني يذاب ما في بطونهم والجلود من الداخل والخارج، وبدأ بالداخل لأنه غير متوقع، فالعادة أن الشيء الحار يحرق الإنسان من الخارج، أما من الداخل فلا يحرقه، لكن هذا يكون يوم القيامة والعياذ بالله.
ومع هذا لا يموتون، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، عذاب لا يرفع عن هؤلاء والعياذ بالله.(20/8)
تفسير قوله تعالى: (ولهم مقامع من حديد)
قال الله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21] المقامع جمع مقمعة، وهي آلة من حديد يساق بها الفيل، وهي معكوفة الرأس، يضرب بها على الفيل من أجل أن يمشي، فهؤلاء في نار جهنم يعاملون معاملة الحيوان، فيضربون بهذه المقامع، وكأنها مرزبة من حديد يضرب بها هذا الإنسان على رأسه، كلما أرادوا أن يخرجوا من نار جنهم يعادون فيها مرة أخرى، ولهم مقامع من حديد، قالوا: والمقامع أيضاً السياط، وأصلها من أقمعت الرجل بمعنى ضربته حتى أذل وأهين بهذا الضرب.(20/9)
تفسير قوله تعالى: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها)
قال سبحانه: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22] يريدون أن يفروا من النار، وتأتي عليهم النار مثل أمواج البحر، ترفعهم إلى أعلاها فيظنون أنه يمكن أن يهربوا من أعلى النار، فإذا ارتفعوا إذا بالملائكة تضربهم على رءوسهم بهذه المقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من النار من شدة غمهم أعيدوا فيها بهذا الضرب المخزي ويقال لهم: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:22] ذوقوا هذا العذاب خالدين فيه أبداً، ويقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182].
والإنسان المؤمن عندما يستشعر ذلك، ويدخل قلبه الإيمان؛ يخاف من رب العالمين، ويخاف من هذا اليوم، وما يؤمنه أنه يدخل النار وقد قال الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]؟! فهذه آيات مهولة مخيفة تزعج الإنسان وتجعله يخاف من رب العالمين، والمطلوب هو الخوف من الله، الخوف الذي يدفع الإنسان لطاعة الله سبحانه، ويمنعه من المعصية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على طاعته، وأن يجنبنا معصيته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(20/10)
تفسير سورة الحج [23 - 24]
وعد الله المؤمنين بجنات تجري من تحتها الأنهار، وأنه سوف يحليهم فيها بأنواع الحلي من ذهب ولؤلؤ، ويلبسهم من الحرير، والفضل والمنة لله إذ هداهم في الدنيا إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراطه المستقيم، فله الحمد كله، فهو الحميد في أسمائه وصفاته وأفعاله.(21/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:23 - 24].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى عن حال أهل النار وكيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعذبهم العذاب الأليم فقال: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج:19 - 20]، فذكر ما يكونون فيه من عذاب مقيم؛ فقد استكبر الكفار في الدنيا ورفضوا قبول الحق الذي جاء من عند رب العالمين، وتجبروا على الخلق فاستحقوا نار جهنم؛ ولذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار فقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والمساكين، فقضى الله عز وجل بينهما فقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها) يعني الله سبحانه تبارك وتعالى وعد أن يملأ هذه ويملأ هذه، فالنار مكان المتكبرين فهذا عذابهم، يصب من فوق رءوسهم الحميم، وتقطع لهم ثياب من نار، ويصهر بهذا الحميم ما في بطونهم والجلود، ويذكر في الآية الأخرى أنه يأمر بالكافر أن يسلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً كما قال: {فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، فالإنسان الكافر في نار جهنم يكون كاللحم المشوي في السيخ، وكما يقال: سلكت الخرز في الخيط بمعنى أدخل الخيط في جوف الخرز، وكذلك الكافر يؤتى بسلسلة طولها سبعون ذراعاً على قدر طول هذا الإنسان وأكثر فيسلك فيها فتدخل من فيه وتخرج من دبره، ويعلق في نار جهنم كالشيء المشوي! وجاء في سنن الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان) قال الترمذي: حسن صحيح، هذا حال الكافر، أما المؤمن فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:23]، فربنا سبحانه وتعالى عندما يخوف الإنسان بالنار يرجي الناس بجنته حتى يتوب على من يشاء، ومن تاب تاب الله عليه وأدخله جنته.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]، حق على الله سبحانه تبارك وتعالى أن يدخل المؤمنين بفضله وبرحمته جنات تجري من تحتها الأنهار بشرط أن يكونوا آمنوا وأن يكونوا عملوا الصالحات، والإيمان ليس هو مجرد قول باللسان، ولا يقين في القلب، ولكن لابد من العمل الصالح.
قال: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} [الحج:23] أي: بساتين عظيمة {تَجْرِي} [الحج:23] أي: تجري في أرضها الأنهار، وهي أنهار من ماء وأنهار من عسل وأنهار من خمر وأنهار من لبن.
قال: {يُحَلَّوْنَ} [الحج:23] أي هؤلاء أهل الجنة يحليهم ويزينهم ربهم سبحانه بما تركوه في الدنيا تواضعاً لرب العالمين سبحانه.
{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الحج:23] فهم ملوك في الجنة.
والأساور جمع أسورة، وهو ما يزين به المعصم، تتزين به النساء، وقد يتزين به ملوك الكفار في الدنيا، فربنا سبحانه وتعالى يحلي أهل الجنة، بهذه الأساور، وهي أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ وأساور من فضة، فذكر هذا هنا في سورة الحج، وقال في سورة فاطر: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [فاطر:33]، وقال في سورة الإنسان: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:21]، فهذه من أنواع الحلي التي يلبسها أهل الجنة.
وهنا في هذه الآية قال سبحانه: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج:23] ولؤلؤاً بالنصب قراءة نافع وأبي جعفر وعاصم ويعقوب، وباقي القراء يقرءونها بالجر (ولؤلؤٍ)، والمعنى يحلون فيها من أساور من ذهب، ويحلون لؤلؤاً على النصب، وعلى الجر المعنى: يحلون فيها من أساور هذه الأساور من ذهب ومن اللؤلؤ.
وهؤلاء الذين يقرءونها بالجر وبالنصب لهم وجهان في الهمز، فيقرأ أبو جعفر وشعبة عن عاصم (ولولؤاً)، ولـ أبي عمرو في الهمزة الأولى وحمزة (ولولؤ) على خلاف بين حمزة وهشام في الهمزة الثانية، فيقرآنها في الوقف: (ولولو)، وإن كان هشام ليس له في الأولى إلا الهمز.(21/2)
معنى قوله تعالى: (ولباسهم فيها حرير)
قال سبحانه تبارك وتعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] لباس أهل الجنة فيها الحرير، وهو أرفع ما يتحلى به الإنسان في الدنيا، وهو نتاج دودة القز، هذا هو الحرير الطبيعي في الدنيا، أما الحرير الصناعي فلا يحرم، وإنما التحريم للرجال في الحرير الطبيعي، وقد جعله الله عز وجل لأهل الجنة، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من يلبس الحرير في الدنيا أو الذهب في الدنيا أو يشرب الخمر في الدنيا يحرم من ذلك يوم القيامة)، والعلماء اختلفوا في معنى يحرم عليه يوم القيامة، هل هو بمعنى أنه يدخل النار؟ لاشك أنه يدخل النار إذا مات على ذلك ولم يتب منه، فيدخله الله عز وجل النار، فإذا دخل الجنة هل يصير محروماً من ذلك؟ هذا محتمل، وقد رجح الإمام القرطبي في التفسير أنه يحرم منه فيدخل النار ويعذب، فإذا خرج من النار ودخل الجنة يحرم من ذلك أيضاً! وهذا يجعل المؤمن يخاف من هذه المحرمات، مثل أن يلبس خاتم ذهب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في إصبعه!)، وفي الحديث الذي رواه الحاكم وابن عساكر من حديث أبي هريرة وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة، ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم يشرب فيها في الآخرة)، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة وآنية أهل الجنة) يعني الذي يريد أن يقلد في الدنيا أهل الجنة يحرم من ذلك يوم القيامة سواء بمعنى أنه يدخل النار فيحرم منها أو إذا دخل الجنة حرمه الله عز وجل من ذلك على خلاف بين العلماء في حرمانه منها إذا دخل الجنة، فالبعض يقول: من دخل الجنة لا يحرم من شيء، والبعض يقول: الجنة درجات، فرجل في درجة عالية، والثاني في درجة دونه، ولا يتمنى ما عند غيره، ويرى أنه في مكان عظيم، ولكنه محروم مما هو أعلى منه، والله عز وجل يجعله يرضى بذلك، وكذلك الذي كان يلبس الحرير لا يشتهيه في الجنة، فهو محروم منه، ولكن غيره يراه أنه قد حرم مما يتمتعون به في الجنة، والله أعلم.(21/3)
تفسير قوله تعالى: (وهدوا إلى الطيب من القول)
قال الله عن أهل الجنة: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] الله العظيم هو الذي هداهم إلى أن نطقوا بالطيب من القول، والطيب من القول هو قول لا إله إلا الله، وأطيب القول وأعظم القول كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى، فهدى الله عز وجل المؤمنين لقراءة كتاب الله وحفظ كلام رب العالمين سبحانه، وأن يقولوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم به من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وغير ذلك من الأذكار، فهداهم الله للكلام الطيب من أمر بمعروف ونهي عن منكر، والصلاة وغير ذلك من ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى.
ففي الدنيا هداهم إلى الطيب من القول، وأيضاً هداهم إلى البشارات الحسنة، فبشرهم الله عز وجل بما جاء في كتابه سبحانه وما جاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبشرهم برؤى منامية يرونها فيستبشرون بذلك من طيب القول.
وهدوا أيضاً إلى صراط الحميد في الآخرة، فيهديهم الله عز وجل إلى الصراط المستقيم فيمرون على الصراط سريعاً، ويدخلون جنة رب العالمين نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم ومعهم.
قال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج:24] قالوا: يعني إلى طريق الجنة، فهداهم الله في الدنيا بالعمل وبالقول الصالح، وكذلك في الآخرة هداهم إلى طريق الجنة ولم يضلهم عنه.(21/4)
نعيم أهل الجنة
أهل الجنة يمتعون كما في قوله سبحانه: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23]، ومن أين تجيء هذه الثياب؟ في الجنة أشجار تنبت لهم الثياب، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبري في تفسيره وابن حبان وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)، فربنا بكرمه وبفضله لا يحوجهم إلى أن كل واحد يفصل له الثياب، بل تخرج لهم الثياب من شجرة في الجنة مسيرة فروعها وظلها مائة عام، فينتقي ما يشاء ويلبس ما يريد، وفضل الله عظيم سبحانه تبارك وتعالى.
وجاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟!)، وكل واحد يظن أنه قد أعطي ما لم يعط أحد من أهل الجنة، وهذا من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى، ففي الدنيا كل إنسان يعطيه الله عز وجل شيئاً يكون في قلبه النظر والتشوف إلى غيره سواء حسده أو لم يحسده، فيرى غيره أفضل منه مكانة، ويتمنى مكانة ذلك، ولكن أهل الجنة كل رضي بمنزلته، فيرون من هو أعظم منهم فيغبطونه على ما هو فيه من نعيم عظيم ولكن يرضون بما هم فيه من النعيم.
(فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال سبحانه: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) فهذا أعظم ما يعطاه أهل الجنة، فقد يعطى الإنسان نعيماً ولكن يخاف أن الله يغضب عليه، ويخاف أن يحرم من ذلك، ولكن إذا أمنه الله وأعطاه الأمان وأنه لن يغضب عليه أبداً تمت النعمة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً) فذلك قول الله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف:72 - 73].(21/5)
أهل الجنة وأهل النار
في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث عياض بن حمار وهو حديث طويل وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأهل الجنة ثلاثة) يعني ثلاثة أصناف، قال: (ذو سلطان مقصد) أي: كان له سلطان وملك وسلطة على من تحته ويعدل في ذلك، فيتصدق على عباد الله، ويوفقه الله عز وجل لطاعة الله عز وجل وطاعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من أهل الجنة.
قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم) فهذا من أهل الجنة، ملأ الله عز وجل قلبه رحمه لقرابته، فهو رحيم بالمؤمنين عكس الإنسان القاسي الغليظ القلب، فأهل الجنة الرحماء، وجاء في الحديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
قال: (وعفيف متعفف ذو عيال) من أهل الجنة رجل عفيف لا يسأل الناس شيئاً، وهو متعفف عما في أيدي الناس، لا ينظر إليهم ولا يحسدهم فيما أعطاهم الله عز وجل، وإن كان ذا عيال كثير، فهو عفيف قنوع راض بما أعطاه سبحانه تبارك وتعالى، وهذا المفلح الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من رزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه) كفافاً أي على قدره، وقنعه الله بما آتاه، هؤلاء الثلاثة من أهل الجنة.
ثم ذكر أهل النار في الحديث نفسه فقال: (وأهل النار خمسة) يعني أهل النار خمسة أصناف، منهم (الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني إمعات الناس، ليس عندهم عقول، فهم تافهون يمشي أحدهم بين الناس همه أن يضحك مع الناس، ولا يهمه أمر دين، يعيش للدنيا غير ملتفت للدين، لا إلى صلاة ولا إلى صوم ولا إلى عبادة ربه سبحانه، فهذا إنسان لا عقل له ويلحق بالبهائم.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) غير مسئول عن أحد، فهو إنسان غبي أحمق لا يفكر، ولو كان له الولد يموت فإنه يدعو له ابنه، أو يعيش فيعمل ابنه العمل الصالح فيؤجر على هذا العمل الصالح، ولا يزال يؤجر من أعمال ذريته لأنه كان سبباً في وجودهم، لكن هذا لا زبر له، أي ليس له عقل، فهو فرح لأنه يعيش لوحده، ينافق ويداهن ويأكل من باب الحلال وبالحرام، ليس على باله جنة ولا نار، فهؤلاء لا زبر لهم أي لا عقول لهم تردعهم عن منكراتهم.
قال: (الذين هم فيكم تبع) فقنعوا بذلك (لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني لا يبتغون مالاً حلالاً، وطعامه في الدنيا من الحرام.
قال: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه) خفى بمعنى ظهر يعني مجرد ما يظهر له شيء من مطامع الدنيا يسرقه ويأخذه، فالخائن من أهل النار.
قال: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك) يريك أنه صديقك وحبيبك، وهو يخادعك في أهلك وفي مالك فاحذر هؤلاء.
ثم ذكر البخل أو الكذب كأن الراوي شك هل الرابع البخيل أو الكذاب، فهم من أهل النار.
ثم ذكر الشنظير، وهو الفاحش البذيء الذي يتكلم بالفحش، فهو من أهل النار والعياذ بالله.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(21/6)
تفسير سورة الحج الآية [25]
لقد رفع الله قدر وشأن بيته الحرام، فأضافه إلى نفسه، وذكره في كتابه، وجعل له حرمة إلى يوم القيامة، وتوعد من أراد الإلحاد في بيته الحرام بالقتال والمعاصي بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وقد أمر الله إبراهيم ببناء بيته الحرام، ودعوة الناس إليه ليطوفوا حوله، ويقوموا بمناسك الحج والعمرة، طاعة لله وامتثالاً لأمره سبحانه.(22/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم المسجد الحرام، وأنه جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فالناس يستوون في أمر المسجد الحرام، وليس أحد أحق من أحد بشيء فيه، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به، سواء في المسجد الحرام أو في المناسك في الحج أو في العمرة، حتى ينتقل من هذا المكان، والكل سواء في تعظيم الحرمة وقضاء النسك، ويستوي في ذلك الحاضر الذي هو موجود، أو الباد وهو الذي يأتي من البادية أو القرى، أو يأتي من مكان بعيد إلى هذا البيت الحرام.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، خبر (إن) في هذه الآية مقدم وتقديره: لهم عذاب أليم، أو: إن الذين كفروا قد خسروا خسراناً مبيناً، ويلاحظ أن الله لم يذكر الخبر في هذه الآية هنا فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، أي: جزاء الذي يفعل ذلك العذاب من الله عز وجل وهو معلوم، فاكتفى بذكر ذلك ولم يذكر الخبر؛ لأنه معلوم.(22/2)
فضل البيت الحرام
ذكر الله عن المسجد الحرام أنه مسجد وأنه حرام، فهو أعظم بيوت الله سبحانه وتعالى وهو مكان السجود، فيسجد فيه المؤمن لله عز وجل مطيعاً له، عابداً له، يذل نفسه في عبادة ربه سبحانه.
وهذا المسجد يحرم على الناس أن يلحدوا فيه، ويحرم عليهم أن يعصوا ربهم سبحانه وتعالى فيه، وهو أعظم المساجد، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة في غيره من المساجد، فأجره عظيم، ولذلك فالذي يلحد فيه ذنبه عظيم.(22/3)
خطر الاستهانة بالبيت الحرام
قال سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ} [الحج:25]، قوله: (ومن يرد) أي: أصبح يريد، وجزمت كلمة يرد هنا بحذف حرف العلة، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، أي: من يريد في المسجد الحرام أن يلحد فيه ظالماً، والإلحاد: هو الميل والزيغ والبعد عن الحق.
ومن صور الذي يلحد في المسجد الحرام أن يظلم نفسه ويظلم غيره، أو يقع في الشرك بالله سبحانه، أو في الكبائر والفواحش والذنوب، فالله عز وجل يتوعد هذا الملحد بالعذاب الأليم، حيث قال: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس إلى الله ثلاثة)، يعني: أبغض العصاة إلى الله رب العالمين ثلاثة، (ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، فهؤلاء أبغض الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وأبغض العصاة: هو من يلحد في الحرم، يعني: يقع في الفواحش، أو يقع في كبائر الذنوب، أو يريد الظلم فيه، وكذلك الإنسان الذي يشرك بالله سبحانه وتعالى، فهؤلاء هم أبغض الناس إلى الله عز وجل.
وقوله: (ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية) أي: بعد أن دخل في الإسلام عاد يعمل ما كان يعمله أهل الجاهلية ويعتقدونه من شرك، وكهانة، وعرافة، وسحر، وأشياء كانوا يفعلونها في الجاهلية، فكذلك الذي يريد أن يرجع إلى دعوى الجاهلية، ويتعصب بعصبية الجاهلية، ويدعي دعوى الجاهلية، فهو من أبغض الناس إلى الله عز وجل.
وذلك أن من سنن الجاهلية أن الإنسان إذا قتل إنساناً أتى أهل القتيل فقتلوا القاتل، وقتلوا معه من هو أعظم منه من قبيلته، فيأخذون بدم الواحد دماء أناس مظلومين لم يفعلوا شيئاً، ولعلهم يتركون القاتل احتقاراً له ويقتلون أكبر رجل في قبيلته، إذ لعلهم يحتقرون القاتل ويقتلون زعيم القبيلة مثلاً، فهذا هو الذي يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وما كان يصنعه أهل الجاهلية من محاسبة غير الظالم، فيأخذون مظلوماً بذنب إنسان ظالم.
قال: (ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريقه)، وهو الذي يقتل إنساناً من غير حق أو سبب، أو هو من يقتل غير القاتل، أو يقتل الإنسان المظلوم.
فهؤلاء أبغض الناس إلى الله عز وجل، ولهم العذاب الأليم عند الله رب العالمين سبحانه.(22/4)
ذكر أقوال الصحابة في معنى الإلحاد
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قلنا: الإلحاد: هو الزيغ والميل عن طاعة الله سبحانه، والدخول في المعاصي وأعظمها الشرك بالله سبحانه، وجاء عن الصحابة في تفسير (من يرد فيه بإلحاد) تفسيرات كلها تعود لهذا المعنى، فيقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] قال: الشرك، وهذا نوع من أنواع الإلحاد في البيت الحرام، والشرك سواء في المسجد الحرام أم في غيره فهو لا يغفره الله عز وجل إلا أن يتوب العبد ويراجع التوحيد، فالذي يذهب للمسجد الحرام ويدعو غير الله عز وجل يستحق هذه العقوبة الشديدة.
قال عطاء: الشرك والقتل، يعني: الذي يلحد في الحرم هو الذي يقتل مظلوماً أو يشرك بالله عز وجل، وقيل: بل معناه صيد الحمام، وقطع شجر الحرم، ودخول الإنسان غير محرم، وهذه كلها من المعاصي التي قد يفعلها الإنسان، فيذهب مسافراً إلى مكة ثم يدخل الحرم بغير حج ولا عمرة، وكأنه يستهين بهذا المكان الذي شرفه الله سبحانه وعظمه، ولا يرى عليه لله عز وجل حقاً أن يدخل هذا المكان محرماً.
ومثله الذي يستهين فيصيد حمام الحرم أو يقطع شجرة مستهيناً بالعقوبة في ذلك المكان، فصيد الحمام وقطع الشجر في ذلك المكان من الإلحاد بظلم، فكيف بالإنسان الذي يظلم أخاه المؤمن؟! قال ابن عمر رضي الله عنهما: كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله، وبلى والله.
فكلام ابن عمر يدل على أنه بمعنى اللغو في الكلام، فالمقام العظيم في المسجد الحرام يمنع الإنسان أن يتكلم باللغو أو بغير ما ينبغي عليه.
ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنه يجعل لنفسه فسطاطين، أي: خيمتين، خيمة في الحل وخيمة في الحرم، فإذا أراد أن يأتي أهله ويتكلم معهم في أمور الدنيا ذهب إلى الخيمة التي في الحل، وإذا أراد العبادة ذهب إلى الحرم، ولا يخلط بين هذه وتلك، وهذا من ورع ابن عمر رضي الله عنه.
ومثله أيضاً عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان له فسطاطان: أحدهما في الحل، والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أحب أن يؤدب عياله أدبهم في الخيمة التي في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في خيمة الحرم، فقيل له: لماذا تفعل هذا الشيء؟ فقال عبد الله بن عمرو: إنا كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول: كلا والله، وبلى والله، يعني: المنازعة في الكلام، فخاف عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم من الوقوع في ذلك في الحرم.(22/5)
الأدلة على أن الهم بالسيئة والعزم عليها سيئة وإن لم يعلمها
قال العلماء: المعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فالحسنات تكون عظيمة ومضاعفة، وكذلك السيئات، ومن ذلك ما ذكره الله عز وجل بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج:25]، وليس الوعيد على الذي يفعل فقط، بل الذي يريد أن يفعل الإلحاد في الحرم، فالله عز وجل يذيقه من عذاب أليم.
وهنا يقول العلماء: هناك فرق بين الخاطر في رأس الإنسان ثم يكف عن ذلك ولا يفعل، وبين أنه يريد أن يفعل الخطأ ويعزم عليه ثم يقدم فيمنعه قضاء الله وقدره سبحانه وتعالى، فالذي يهم ثم يمتنع لأنه يخاف من الله فهذا تكتب له السيئة حسنة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى.
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك) أي: بين الله عز وجل ذلك، يقول: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإذا هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة)، وانظر إلى قوله: (هم بسيئة ولم يعملها) أي: لم يعملها خوفاً من الله عز وجل، وهنا فرق بين أنه امتنع من السيئة لأنه خاف من الله سبحانه فتكتب له حسنة كاملة، وبين أنه امتنع منها لعجزه فتحسر على كونه لم يفعلها، فهذا يؤاخذ على هذا الهم وعلى الإرادة بالفعل، فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة).
والحديث هذا ذكر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه، وكان اللفظ المسوق هنا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء في رواية أخرى في صحيح البخاري أن الله عز وجل قال: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه -يعني يقول للملائكة- حتى يعملها).
وجاء من حديث أبي هريرة: (إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)، فلاحظ هنا أنه قال: (إذا ترك السيئة من أجلي) فهذا تكتب له هذه السيئة التي كاد أن يفعلها حسنة.
وجاء حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي ورواه الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً تحفظوه) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن ثلاثة أشياء ويقسم عليهن، ويحدثنا حديثاً ويأمرنا أن نحفظ هذا الحديث صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ما نقص مال عبد من صدقة) أي: إذا تصدقت فإن المال لا ينقص أبداً من الصدقة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نحتاج أن يقسم لنا فهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، بمعنى: أن أي إنسان بدأ يفتح على نفسه باب السؤال ويمد يده للناس، فإن الله عز وجل يفتح عليه باب الفقر، حتى وإن جمع أموالاً كثيرة وكنزها من سؤال الناس، إذ يملأ الله قلبه فقراً، فلا يزال يشعر بالفقر عمره أبداً، حتى يأخذه الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزاً)، أي: ما من عبد يظلم مظلمة ويعفو عنها ويصبر إلا فتح الله له باب عز، وزاده عزاً إلى عزه سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأحدثكم حديثاً تحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر) أي: يعيش فيها أربع أصناف من الناس، قال: (عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل) أي: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فبعلمه يعمل في ماله فيتقي ربه في هذا المال، ويصل به رحمه بهذا المال، ويعلم لله فيه حقه من زكاة ونحوها، فهذا بأفضل المنازل؛ إذ جمع الله له علماً ومالاً وطاعة لله.
قال: (وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء) أي: أن هذا الفقير لم يؤت مالاً، ولكن تمنى أن يؤتيه الله عز وجل مالاً فيعمل كهذا.
الرجل الأول صاحب العلم والمال والتقوى، فأجرهما سواء.
قال: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله تعالى فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل)، وهذا رجل جاهل ليس على علم، ومعه مال كثير يسرف به، فلا يترك شيئاً من حرام إلا وبذل فيه هذا المال، فهو يصرف ماله في كل شيء، ويريد بذلك أن يحصل على الدنيا، ويستمتع فيها، فبجهله يظن أن الأولى والأخرى هي هذه الدنيا، فلذلك ينفق ماله في الملاذ والحرام ولا يهمه شيء، فليس عنده علم، وليس عنده ورع يمنعه من معصية الله عز وجل، فهذا بأخبث المنازل وشرها وهي نار جهنم والعياذ بالله.
قال: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً)، وهذا جاهل آخر لكنه فقير (فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته ووزرهما سواء)، فالعلم يشرف بأهله، والجهل قبيح بأهله، وانظر إلى الإنسان العالم الذي عرف لله حقه، فلما أعطاه المال عمل بطاعة الله في هذا المال، فلما منعه صبر على هذا الأمر وتمنى الخير، فالتمني تجارة مع الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل هو الذي منعه من المال، وعلم الله أنه لو أعطاه المال لعمل كهذا الذي عمله، فمنعه المال وأعطاه الأجر، وهذا فضل الله سبحانه وتعالى، بل ويجعل الإنسان الفقير يوم القيامة يدخل الجنة قبل الغني بخمسمائة عام، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء سبحانه تبارك وتعالى.
وهذا الرجل الرابع رجل مسكين، حرمه الله عز وجل المال في الدنيا وهو جاهل، فبجهله لم ينظر إلى أمر الله عز وجل وطاعته، وإنما نظر إلى الدنيا، ونظر إلى مال ذاك الإنسان الجاهل، فلقد أتعب نفسه بنفسه، وأشقى نفسه بعقله وبجهله، فهو ينظر إلى الدنيا أنها كل شيء، ويتمنى أن معه مالاً فيعمل به كذا وكذا من المعاصي، فهو يتمنى المعاصي، والله يكتب عليه السيئات بتمنيه لهذه المعاصي، فهو بأخبث المنازل عند الله عز وجل كهذا الإنسان الجاهل صاحب المال.
فهذا هو الفرق بين من خطر بباله أنه يفعل معصية ثم تراجع عن ذلك خوفاً من الله؛ فتكتب له حسنة، وبين من أراد فعل معصية ثم لم يفعلها ونسي أمرها، فهذا لا حسنة له ولا سيئة، وآخر أراد فعل معصية ومنع من هذه المعصية، فإذا به يتحسر على فوات هذه المعصية، كمن أراد أن يسرق شيئاً فوجد الباب مقفلاً، فرجع حزيناً، وصار يتمنى معرفته لفتح الأقفال، فالتمني موجود في قلبه، ولو تمكن لفعل، فهذا كالذي يفعله.
ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقالوا هذا القاتل، فما بال المقتول؟! فقال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه).
فحرصه على قتل صاحبه وإن كان لم يقتله جعله في النار مع صاحبه القاتل.
فهذا مما يؤيد أن الإصرار على المعصية معصية، ومن ذلك قول الله سبحانه: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، فالمؤمنون إذا حدثتهم أنفسهم بالفاحشة أو المعصية تراجعوا خوفاً من الله عز وجل، ولم يصروا على هذا الأمر، وسواء فعلوا أو لم يفعلوا فالله عز وجل يعفوا ويغفر لهم.
ومن ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19]، فهؤلاء أحبوا ولم يعملوا، فهم يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفواحش بين الناس، ومع ذلك لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف إذا فعلوا وأباحوا الفواحش للناس؟! ومن ذلك قول الله عز وجل: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، والظن هو فعل العقل، فالإنسان يفكر في الشيء بعقله، ولم يحقق شيئاً من ذلك، فقال الله عز وجل: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12]، فإن الظن منه الكثير ومنه القليل، والقليل من الظن غالباً يكون في الخير، والكثير منه يكون ظن سوء، وعلينا أن نجتنب هذا الظن السيء، فإذا رأيت من أخيك شيئاً فاحمله على المحمل الحسن، فإذا لم تفعل وظننت ظن السوء فإن الله يقول: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] أي: إن بعضاً من هذا الظن الذي ظننته في أخيك تأثم عليه وتعاقب عليه عند الله عز وجل.
والغرض من هذا كله بيان ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الإنسان إذا هم بسيئة كتبت عليه هذه السيئة إن كان همه بعزم، ويعلم الله عز وجل أنه لو تركه في ذلك لأتى الفاحشة وفعلها.
ولذلك نقول: قول الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] يدل على عظمة الحرم وقدره، فالإنسان الذي يفعل المعصية فيه يأثم إثماً عظيماً، والذي يريد أن يفعل المعصية ويعلم الله عز وجل من قلبه أنه يريد فعلها ويصر عليها فهذا داخل في قوله تعالى: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، فقيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
والحديث نفسه رواه أبو داود وذكره عن عبيد بن عمير(22/6)
تفسير سورة الحج (تابع) الآية [25]
ذكر الله تعالى أن المسجد الحرام يستوي فيه الحاضر والبادي، فلا فضل لأحد منا على الآخر إلا بالتقوى، وقد اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام هنا، واختلفوا في جواز بيع دور مكة وإيجارها، ومعرفة هذا الخلاف من المهمات.(23/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن الكفار الذين يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ثم نتطرق بعد ذلك للمسجد الحرام ومناسك الحج، وكيف أنه أمر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يؤذن في الناس بالحج ليأتوا بيت الله الحرام يحجون مطيعين لله رب العالمين خاشعين مخبتين.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، هنا ذكر الذين كفروا ووصفهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام، وجوابه خبر محذوف مقدر، كأنه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج:25]، هؤلاء الذين يصدون عن سبيل الله وعن المسجد الحرام قد خسروا الخسران المبين، قد أهلكهم الله وجعلهم في خسار، فكأن الخبر محذوف ومقدر، ومعلوم أنهم قد خسروا الدنيا والآخرة بهذا الذي فعلوا.
فهم كفروا بالله سبحانه وتعالى وصدوا عن المسجد الحرام، ولم يزالوا على ذلك بهذا الصد عن بيت الله الحرام، وقلنا: إن هذه السورة فيها المكي وفيها المدني، وهنا صدوا عن المسجد الحرام، أي: صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في عام الحديبية، وهذه الآية مدنية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الحج:25]، وكانت الحديبية في سنة ست للهجرة في ذي القعدة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً ومعه أصحابه، فلما وصلوا إلى هذا المكان عند ماء الحديبية إذا بالكفار يتحزبون عليهم ويمنعونهم من دخول الحرم.
فأخبر الله عز وجل عن هؤلاء الكفار الذين صدوا عن سبيل الله، وهنا أخبر بالفعل المضارع {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} [الحج:25]، فكأنها ليست المرة الوحيدة التي صدوا فيها عن سبيل الله، وإن كانت أشهر المرات التي صدوا فيها ما حدث في يوم الحديبية، حيث صدوا المؤمنين، وكانوا ألفاً وأربعمائة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو ألفاً وخمسمائة.
فمنعوهم من دخول الحرم ومنعوهم من العمرة، وهذا فعل قبيح من هؤلاء الذين كانوا في الجاهلية لا يمنعون أحداً يأتي البيت، فإذا بهم يمنعون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الاعتمار، ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم بغير عمرة في هذا العام، ويقاضي الكفار فيحدث بينهم الاتفاق على أنه يرجع ويأتي في العام القادم، ففعل الكفار كان فيه الوبال عليهم، وكان فيه التعجيل بالعقوبة وبهزيمتهم، حيث صدوا عن المسجد الحرام، وعادة الله سبحانه وتعالى في كل إنسان يصد عن الحرم، ويمنع المؤمنين من عبادة ربهم سبحانه وإتيان بيت الله الحرام أن يقهرهم ويذلهم، ونظرنا ماذا عمل في أبرهة وجنوده لما حاولوا هدم الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5].
وانظر إلى جهد النبي صلى الله عليه وسلم كيف جاهد هؤلاء ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكانت بينه وبينهم المواقف حتى صدوا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه عن الاعتمار، فكانت الهزيمة عليهم بعدها بعامين في فتح مكة، وكان الفتح في رمضان في العام التاسع، والحديبية في ذي القعدة من العام السادس، وعمرة القضاء في العام السابع، فكان صلح الحديبية وما حدث فيها فتحاً من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإن كان ظاهرها الهزيمة، ومن العجب أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرجعه من الحديبية أنزل الله عز وجل عليه سورة الفتح وفيها: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1].
فالمسلمون راجعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فهم في غاية الكآبة والحزن والشعور بالهزيمة والمرارة، فقد وصلوا إلى قرب الكعبة ولم يدخلوا، ورجعوا بشروط مجحفة فرضها عليهم الكفار؛ وأنزل الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فإذا بـ عمر يتعجب ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أو فتح هذا؟! وفعلاً كان فتحاً عظيماً من الله عز وجل، إذ كان من شروط صلح الحديبية أن الكفار قالوا: من أتاك منا مسلماً ترجعه إلينا، والذي يأتي إلينا من عندك مرتداً كافراً لا يرجع إليك، وأن ترجع هذا العام ولا تدخل مكة إلا في العام المقبل، والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه جاءوا من المدينة إلى مكة منهم الماشي على رجليه، ومنهم من يركب على جمل، وأخذوا أياماً وليالي حتى وصلوا إلى هنالك، فلما كان بينهم وبين الكعبة ساعات إذا بهم يردونهم ويرجع النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه! فالكفار لما استكبروا وعلوا في مكان ينبغي على كل إنسان أن يتواضع فيه لله سبحانه وتعالى، إذا بالله يذلهم بعده بعامين، وتفتح هذه البلدة، وكل منهم يهرب إلى بيته، ولا يقدرون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه، ولم يخرج إلا النساء يضربن الخيول بالخمر، ولذلك قال حسان بن ثابت رضي الله عنه: يبارين الأعنة مسرجات تثير النقع مطلعها كداء عدمنا خيلنا إن لم تروها تلطمن بالخمر النساءُ هذا حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول: عدمت بنيتي إذا لم ترونا ونحن ندخل عليكم من أعلى مكان في أصعب مكان في مكة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا قال حسان؟ قالوا: قال: عدمتُ بنيتي إن لم تروها تثير النقع مطلعها كداء.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم من أصعب مكان في مكة) فكون الجيش يدخل من أصعب مكان معناه: الذل بل وغاية الذل لأهل البلد، إذ إن الجبال لم تمنعهم من الدخول ولا هم منعوهم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم من المكان الذي قاله حسان رضي الله تبارك وتعالى عنه.
الغرض: أنه كان الفتح من الله عز وجل بالحديبية، وقد كان فيها شروط وهدنة لمدة عشر سنوات، فلم ينتظروا سنتين حتى نقضوا العهد، فإذا بالله عز وجل يفتح للنبي صلى الله عليه وسلم هذا البلد الحرام، ويصير داراً للإيمان ويأنس إليه أهل الإيمان إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.
ومن الحديبية إلى فتح مكة بدأ يحصل نوع من الذهاب والمجيء من الكفار، إذ كانوا يأتون إلى المدينة فيطلعون على هذا الدين فيدخلون في الدين شيئاً فشيئاً، ويسبب الله عز وجل الأسباب، فقد خرج أبو جندل وأبو بصير من عند الكفار وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأراد النبي صلى الله عليه وسلم رد أبي جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، وفعلاً رجع أبو جندل إلى أبيه ثم هرب من عندهم ولم يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يرده مرة ثانية، وأصبح قاطع طريق في مكان بين مكة والمدينة، يقطع الطريق على الكفار حتى استجار الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وراضوه بأن يأخذ كل من يأتي إليه من مكة، لفعل هذا الرجل رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ويدخل في هذين العامين في الإسلام أكثر ممن دخلوا فيه في السنوات الماضية، إذ دخل في خلال العامين من الحديبية حتى فتح مكة أضعاف من دخل خلال السنوات التسعة عشر الماضية، فقال الله عز وجل: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، فكان الفتح من الله سبحانه وتعالى، وبعد هذا في رمضان من العام الثامن فتحت مكة لما نقض الكفار عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوا أناساً من خزاعة.
قال الله عز وجل هنا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:25]، يعني: صدوا ولم يزالوا يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، يصدون الناس عن {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، المسجد الحرام جعله الله عز وجل للناس سواء، العاكف فيه أي: الملازم والمقيم في المسجد الحرام، أي: أهل البلد.
قوله تعالى: {وَالْبَادِ} [الحج:25] أي: الذي أتى من البدو من خارج مكة، والكل سواء، لا يوجد لأحد على أحد فضل في ذلك، فالجميع يستوون في تعظيم حرمات هذا المكان وفي قضاء النسك، فليس أهل مكة أحق من غيرهم في أداء النسك، فالآتي إليهم أيضاً من حقه ذلك، ولا يمنع من أداء المناسك.
قال الله سبحانه: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً} [الحج:25]، هذه قراءة حفص عن عاصم فقط، (سواءً) بالنصب، والمعنى: أنه بجعلنا إياه ذلك يستوي فيه الجميع.
وباقي القراء ومنهم أيضاً شعبة عن عاصم: (سواء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) فعلى النصب تصير مفعولاً لجعلناه، وعلى الرفع يعني: العاكف والباد سواء في ذلك فهي خبر مقدم، فرفعت على ذلك، أي: يستوي المقيم فيه مع الذي يأتي إليه، فالجميع يعظمون هذا المكان، والجميع من حقهم أداء المناسك التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، وليس أحد أحق من الآخر.(23/2)
اختلاف العلماء في بيع دور مكة
كان الصحابة يعظمون هذا المكان فكان أهل مكة في أيام المناسك يفتحون دورهم للناس، ويدخل الضيف ويمكث عندهم ما شاء الله، فقد كانوا في أيام الحج وأيام العمرات يخلعون أبواب الدور، وكان عمر بن الخطاب يرى ذلك وقد يأمرهم بذلك حتى جاء رجل من المؤمنين وجعل الباب على داره، فأنكر عليه عمر رضي الله عنه فاعتذر عن ذلك بأن هؤلاء الضيوف يأتون ومعهم أمتعتهم، وقد كثرت السرقة لأمتعة الضيوف، فجعل الباب على داره ليحمي هؤلاء الضيوف الذين يأتون إلى الحرم.
والراجح أن هذا ليس واجباً عليهم، فلا يجب على المقيم أن يخلع باب بيته، أو أن يدخل الضيوف عنده في البيت عنوة وقهراً عليه، ولكنهم عرفوا حق هذا المكان وحرمته وأن الناس سواء فيه، فاحترموا من يأتي إلى بيت الله الحرام، ففتحوا بيوتهم لاستقبال الحجيج والضيوف لهذا المكان العظيم.
وبعض العلماء يرون أن دور مكة يستوي فيها الجميع، وهذا مذهب مالك، فقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25]، فيه قولان لأهل العلم: القول الأول: مذهب مالك أنه يستوي فيه الحرم والمسجد، والدور كلها من الحرم، وهو قول ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه.
القول الثاني: قول الجمهور أن المسجد الحرام هو مكان المسجد فقط، واحتج له ابن خزيمة بأنه لو كان الحرم المقصود به مكة كلها لجاز لمالك البيت أن يؤجر بيته، أو أنه يملّك هذا البيت لغيره.
ويقول ابن خزيمة أيضاً: لو كان المراد من قوله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25] جميع الحرم، وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر، ولا التغوط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن، والمعنى: أنه لو كانت مكة كلها هي المسجد الحرام إذاً: حكمها حكم المساجد لا يجوز أن يُجعل فيها مرحاض أو مكان للنجاسة، ولكن المسجد شيء وباقي الحرم شيء آخر.
يقول الحافظ ابن حجر: القول بأن المراد بالمسجد الحرام الحرم كله ورد عن ابن عباس وعطاء ومجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنهم، والأسانيد بذلك كلها إليهم ضعيفة، فضعف ما أسند إليهم من أن المسجد الحرام هو الحرم كله، قال: المسجد الحرام هو مكان المسجد، ومكان المسجد كلما اتسع فهو المسجد، فإذا وسع في المسجد ما دخل فيه من الحرم صار مسجداً وله حكم المسجد الحرام.
وهل بيوت مكة مثل غيرها من البيوت يجوز بيعها وشراؤها وتأجيرها أم أنه يستخدم البيت إذا كان محتاجاً له ولا يجوز له أن يبيعه؟ يقول الإمام القرطبي: هذا الخلاف ينبني على أصلين، أحدهما: أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم هي للناس؟ والثاني: هل فتح مكة كان عنوة أم كان فتح مكة صلحاً؟ الراجح: أن مكة فتحت بالوجهين عنوة في أول الدخول، ثم صلحاً مع أهلها بعد ذلك، وبنى العلماء على ذلك أنها إذا فتحت عنوة فهي ملك للغانمين، وإذاً: أهلها تركهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، لكن كنوع من المنة عليهم أن يمكثوا فيها، ولكن الأرض ليست ملكهم، إذاً: ليس من حق أحد في مكة أن يبيع داره، ولكن يسكنها طالما هو محتاج إليها، فإن لم يحتج إليها بعد ذلك يتركها لغيره من غير بيع.
وهذا قول مالك، والإمام القرطبي يرجح هذا القول هنا ويقول: الصحيح ما قاله مالك، وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة، قال أبو عبيد: ولا نعلم أن مكة يشبهها شيء من البلاد، وذكر عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، والمعنى: إذا كان محتاجاً للبيت جلس فيه، وإن لم يكن محتاجاً إليه تركه لغيره.
وجاء في حديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها، وقال: من أكل من أجر بيوت مكة شيئاً فإنما يأكل ناراً).
والراجح أن هذه الأحاديث ضعيفة لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن بعضها من أقوال الصحابة، وليس من قول النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في حديث عن عائشة قالت: (قلت: يا رسول الله! ألا أبني لك في منى بناء يظلك من الشمس؟ فقال: لا، إنما هو مناخ من سبق إليه)، وهذا صحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن منى مناخ من سبق إليه، يعني: منى لا تُملك، لأنها من أماكن المشاعر وأماكن العبادة، فهي مكان المناسك والذاهب إليها إذا ثبت في مكان فالمكان من حقه حتى يخرج منه، لكن الكلام هنا ليس في منى، الكلام في بيوت مكة هل يملكها أصحابها أم لا يملكها أصحابها؟ فالإمام القرطبي يأخذ بقول مالك في أن مكة ومنى حكمها واحد.
وذهب الإمام الشافعي إلى أن بيوت مكة ملك لأصحابها، فالذي يجلس في بيته يملك بيته، وإذا أحب ترك البيت وباع، واحتج بقول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40]، فالله نسب الديار إليهم، فلو لم يكونوا مالكيها ما نسب الديار إليهم.
وجاء في فتح مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فنسب الدار إلى صاحبها.
وجاء أيضاً في صحيح البخاري أن أسامة بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (أين تنزل في دارك غداً في مكة؟) يعني: عندما نصل إلى مكة غداً ستنزل في أي دار من ديارك؟ فقد كان له دار صلى الله عليه وسلم، وهاجر وتركها صلى الله عليه وسلم فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟)، عقيل هو عقيل بن أبي طالب، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم كان عقيل وطالب كافرين، وأخوهم علي بن أبي طالب، وكذلك أخوهم جعفر كانا مسلمين، فـ أبو طالب لما توفي ورثه الكافران عقيل وطالب، فأخذوا الديار وبيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي عاش فيه وباعا الجميع، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما لم يتركا شيئاً له، فهنا لولا أن البيوت ملك لأصحابها لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما سئل: (أين تنزل غداً من دارك؟)، ولذلك الصواب في هذه المسألة مذهب الشافعي، أن أهل مكة يملكون بيوتهم، ويجوز لكل منهم أن يبيع داره وأن يسكنها وأن يؤجرها، وأما ما جاء من الأحاديث في النهي عن ذلك فلم يصح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(23/3)
تفسير سورة الحج [26 - 28]
القرآن الكريم مليء بالقصص والعبر، وبذكر أخبار الأنبياء والسابقين، ومن ذلك قصة بناء إبراهيم البيت الحرام، ودعوته الناس لحج بيت الله الحرام، وقد وعده الله بإجابة كثير من الناس دعوته، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويتموا مناسك الحج كما أمرهم الله.(24/1)
تفسير قوله تعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:26 - 29].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات كيف أنه أوحى لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بمكان البيت، وعلمه مكان البيت، حتى يبني بيتاً لله سبحانه، فلا يشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى شيئاً.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26]، والتبوء بالمكان بمعنى: النزول بالمكان، أي: أنزلناه في مكان أو هيأنا له مكاناً لنزوله، فكأن المعنى هنا: أرشدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لمكان البيت، والبيت كان أصله موجوداً، ولكن الرياح كانت قد طمسته بالتراب فلم يكن يعرف مكان البيت، فدل الله سبحانه تبارك وتعالى إبراهيم على مكان البيت، وأمره أن يبني بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، فرفع إبراهيم القواعد من البيت بأمر ربه سبحانه تبارك وتعالى.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26] أي: أريناه أصل البيت ليبينه، وكان أصل البيت قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمره الله سبحانه تبارك وتعالى ببنيان البيت، فجاء إلى موضع البيت، وجعل يبحث عن موضع هذا البيت حتى يبنيه لله عز وجل، فبعث الله سبحانه تبارك وتعالى ريحاً أطارت التراب، وكشفت له عن أصل البيت وأساس البيت، الذي كان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما قيل.
فرتب إبراهيم قواعد البيت ورفع البيت كما أمره سبحانه تبارك وتعالى، واستعان بابنه إسماعيل، وقال له: إن الله أمرني أن أبني بيته، قال: فأطع ربك.
قال: وتعينني؟ قال: وأعينك.
فرفع الاثنان القواعد من البيت قائلين لربهما سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
وقد بني البيت في مكان ليس فيه ناس، ولم يحج أحد إلى هذا البيت في هذا الزمان الذي فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إلى أن رفع القواعد من البيت ثم نادى في الناس بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله بنى بيتاً فحجوا.
قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ} [الحج:26] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر وقراءة أبي عمرو: ((وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)) أي: قائلين له: لا تشرك بي شيئاً.
أي: ارفع القواعد من البيت في هذا المكان لعبادة الله، وحتى يوحد الله سبحانه تبارك وتعالى وحده لا شريك له، {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، قيل: هي مخاطبة لإبراهيم، وهو الراجح، وهذا قول جمهور المفسرين.
وقيل: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، مخاطبة للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
والراجح أن الخطاب هنا لإبراهيم، وليس فيه ذكر للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26].
ولم يكن هناك طائفين ولا قائمين ولا ركع ولا سجود في ذلك الزمان والمكان، إلى أن رفع إبراهيم القواعد من البيت، فهيئ المكان لمن يأتي للعبادة في هذا المكان بأمر الله سبحانه وتعالى.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، هذه قراءة نافع وأبي جعفر وهشام وحفص عن عاصم: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26]، وباقي القراء: ((وَطَهِّرْ بَيْتِيْ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)) يعني: بالسكون دون الفتح.
والطائفون هم الذين يطوفون بهذا البيت بعدما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيطهر البيت من النجاسات، يطهره من الشرك والإلحاد بالله سبحانه تبارك وتعالى، من أجل أن يكون للعبادة.
ومن عهد إبراهيم إلى أن تقوم الساعة فهناك من يطوف بالبيت، ويعبد الله سبحانه، ولا يشرك به شيئاً، إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26]، الطائف: هو الذي يطوف حول البيت، والقائم: هو الواقف في مكانه، سواء في صلاة أو في دعاء أو في غير ذلك.
{وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، القيام والركوع والسجود من هيئات الصلاة، فطهر بيتي لمن يطوف بالبيت، والطواف بالبيت صلاة، {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26]، وهذه هي هيئات الصلاة المعروفة.
فالله سبحانه تبارك وتعالى أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت وبناء هذا البيت العتيق، فكم لإبراهيم عليه السلام من الفضل والثواب، فإن الناس من عهده وهم يطوفون بالبيت، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم جاءت فترة من الفترات جاء فيها مشركو العرب فتركوا التوحيد، وأشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، فجاء النبي صلوات الله وسلامه عليه ليطمس هذا الشرك بالله، ويظهر نور الله سبحانه تبارك وتعالى، ويرجع الناس إلى التوحيد مرة ثانية.
وقد ذكر هنا: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج:26]، وذكر في سورة البقرة: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125]، فالطائف الذي يطوف بالبيت، والعاكف يعني: الملازم للبيت، لعبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] أي: المصلين.(24/2)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27].
أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذن، والأذان بمعنى: الإعلام، ومنه الأذان الشرعي المعروف، وهو: الإعلام بألفاظ معروفة، ولكن هنا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} [الحج:27] يعني: قم فناد، فبعد أن انتهى إبراهيم من رفع القواعد من البيت وهو يدعو ربه سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، أمر أن يؤذن وينادي، وليس في هذه الأماكن أحد، إلا قليل من الناس، وأما باقي الناس فهم في البلاد وفي البحار وفي كل مكان بعيد، ومع ذلك فقد أستمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر ربه، فأذن في الناس.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ يعني: أنا في هذا المكان فلمن أؤذن، ومن سيسمع صوتي، ويأتي إلي؟ فقال: أذن وعلي البلاغ.
إذاً: فقد كان إبراهيم سبباً من الأسباب فقط، فالله يقول له: عليك الأذان فقط، وليس عليك النتيجة.
قال ابن عباس: فصعد إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام جبل أبي قبيس في مكة ونادى: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأسمع الله عز وجل الناس، والعادة أن الإنسان عندما يتكلم لا يسمعه إلا الحاضر، ولكن إبراهيم أسمع الحاضر والغائب أيضاً، وأسمع من لم يوجد؛ لأن الذي أوصل صوته إليهم هو: الله سبحانه تبارك وتعالى، وإنما كان إبراهيم سبباً فقط، وهذا كما قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] عندما أخذ كفاً من حصى ورماه في وجوه الكفار، وقال: (شاهت الوجوه)، فإذا بالله يعمي أبصار هؤلاء فلا يرون، وكف الحصى لا يكفي لإصابتهم أجمعين، ولكنه رمى وكانت النتيجة من الله سبحانه تبارك وتعالى.
وفي يوم بدر والمؤمنون يقاتلون الكفار عندما رفع أحد المؤمنين سيفه ليقتل الكافر سقطت رقبة الكافر قبل أن يضربه المسلم، والذي فعل ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلم يكلفنا الله إلا الأخذ بالأسباب، وأما النتيجة فهي منه سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك فعندما أذن إبراهيم، أجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ممن كتب الله عز وجل له الحج تفضلاً منه سبحانه وتعالى، فردوا على إبراهيم قائلين: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، يعني: من أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين حج مرتين، وهكذا.(24/3)
فضائل إبراهيم عليه السلام
وقد أخذت سنة التلبية من فعل إبراهيم عليه السلام، فهو خليل رب العالمين، ومعنى الخليل: أقرب حبيب، وأحب حبيب.
وقد وصل إلى هذه الدرجة بطاعته لربه سبحانه، وبتوحيده له، وبأمره للناس بالمعروف ونهيه عن المنكر، وبمحاجته لأهل الأصنام، وبإفراده لله سبحانه تبارك وتعالى بالمحبة العظيمة، والتي تنطمس بجوارها أي محبة.
وقد اختبره الله سبحانه تبارك وتعالى في أبوه، هل سيحب أباه وإلا ربه سبحانه تبارك وتعالى، وقد كان أبوه يعصي الله، ويصنع الأصنام، فأمره إبراهيم بالمعروف ونهاه عن المنكر، وأمره بالتوحيد، قائلاً له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم:43]، {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:45].
فأبي أبوه أن يدخل في دينه، وأن يطيعه وقال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:46 - 47] أي: سأدعو لك ربي، {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] واعتزل إبراهيم أباه، واعتزل عباد الأصنام، وفر بدينه إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، وأقبل على قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى رب العالمين، فلم يهتم ألا يستجيبوا له، وأن يطردوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكنه أصر على الدعوة إلى ربه سبحانه.
واختبره ربه في ابنه إسماعيل، وكان بكره وابنه الوحيد، فأمره بذبح ابنه عليه الصلاة والسلام، فإذا به يستجيب ولا يتردد، ويذهب إلى ابنه ويقول له: إن الله أمرني أن أذبحك، فقال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
فهذه سنن عظيمة وعجيبة في طاعة الله وتفويض الأمر إليه، والاستسلام والتسليم بين يديه سبحانه وتعالى.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما كان يرفع القواعد من البيت كان يساعده ابنه إسماعيل فقط، وقد كان إسماعيل يذهب فيأتيه بالحجارة، وإبراهيم يرفع القواعد من البيت، وهما يدعوان ربهما: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
ومن المستحيل أن يكون هذا العمل لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذي يعمل عملاً لغير الله فإنه يعمله في مكان يراه الناس فيه، وإبراهيم معصوم من ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو يرفع القواعد من البيت ولا أحد معه إلا ابنه، وربه سبحانه شاهد عليه وهو يرفع ويتوسل إلى الله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
فيتعلم المؤمن من هذا ألا يغتر بعمله أبداً، فإذا كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم من الذنوب، والذي يستحيل في حقه أن يرائي أحداً، ولا أحد موجود حتى يطلع على ما يقوله إبراهيم ويفعله، ومع ذلك يدعو ربه سبحانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، فإذاً: لا تمن بعملك على الله سبحانه وتعالى، وإذا عملت عملاً فارجو من ربك أن يقبل منك هذا العمل، وإذا تقبله منك فهو الذي قال لنا في كتابه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فإذا تقبل عمل إنسان فهذا دليل على أن هذا الإنسان تقي، وإذا كان تقياً وقاه الله عز وجل النار.(24/4)
معنى قوله تعالى: (يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر)
عندما رفع إبراهيم القواعد من البيت أمره ربه سبحانه بقوله: {أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27]، سأل ربه سبحانه وتعالى: وما يبلغ صوتي؟ يعني: أنا سأفعل وأستجيب ولكن من سيسمعني؟ ومن سيصله صوتي؟ فأخبره الله عز وجل: أذن أنت وأنا أبلغ هذا الشيء، فوصل إلى أسماع من شاء الله عز وجل أن يحجوا هذا البيت، فلبوا ربهم سبحانه وحجوا بيته.
ومعنى (أذن) أي: أعلن وناد على الناس في الحج، فيستجيبون لك، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وقد تحقق وعد الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن الناس في قلوبهم شوق إلى حج بيت الله سبحانه، فكلما تذكروا البيت فإن من استطاع منهم ذهب وحج لله عز وجل، فإذا ذهب كان {مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125]، والمثابة: الشوق والرجوع والتكرار، فكلما ذهب إلى البيت اشتاق إليه أكثر، وكلما رجع من حج أو من عمرة اشتاق أن يرجع إليه مرة ثانية وثالثة، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: على أرجلهم مترجلين مشاة.
{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] الضامر: البعير المهزول، يقال: ضمر الشيء بمعنى: أهزله، ومنه تضمير الخيل، فقد كانوا يعدون الخيل للجهاد وللكر والفر، ولذلك كانوا يضمرونها، فيعزل الخليل تماماً ويلبسه الصوف ثم يجعله يجري حتى يعرق فيخفف شحمه فيضمر، فهذا تضمير الخيل، والضمور بمعنى: الهزال، فقوله تعالى: (وعلى كل ضامر) معناه: أن الناس يأتوك من أماكن بعيدة حتى يكون الجمل الذي يركبه صاحبه هزيلاً ضعيفاً، فيكون المعنى: وعلى كل بعير ضامر هزيل مهزول من طول السفر.
إذاً: فقوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} [الحج:27]، كأنه تشريف لهذا البعير المركوب، فهو شرف للبعير الذي رُكب وأتى بصاحبه إلى بيت الله الحرام.
قال: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] يعني: هذه الإبل أتت من كل فج عميق بأصحابها ليحجوا بيت الله سبحانه.
والفج: الطريق الواسع، والعميق: البعيد، والمعنى: يأتون من طرق بعيدة وبلاد بعيدة شاسعة؛ ليحجوا بيت الله الحرام.(24/5)
تفسير قوله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم)
هؤلاء الذين يأتون بيت الله الحرام قال عنهم سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، إذاً: فهم أتوا إلى بيت الله الحرام ليحضروا منافع لهم، وهي منافع دنيوية ومنافع أخروية، فهم عندما أتوا لعبادة الله أكرمهم الله في الدنيا والآخرة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب)، وهذه المعاملة من الله إكراماً منه لعباده، فأنت عندما أنفقت مالك وأتعبت نفسك فإن الله يتقبل منك ذلك الإنفاق، وزيادة على ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة).
فيغفر الذنوب، ويزيد في المال، ويرجع الحاج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي: يرجع وليس عليه ذنوب كما ولد لا ذنوب عليه.
فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] قالوا: إنها منافع دنيوية وأخروية، أما الأخروية فهي: أنهم يشهدون المناسك: عرفات، والمشعر الحرام، ومنى وغير ذلك، ويعبدون الله سبحانه، وتكون لهم المغفرة من الله، فيحضرون لينتفعوا بعبادتهم.
وأما المنافع الدنيوية فإنه يشتري أشياء، ويبيع أشياء ويتاجر، فليس عليهم جناح أن يبتغوا فضلاً من ربهم في أيام الحج، وليس عليهم جناح أن يبيعوا وأن يشتروا.(24/6)
الأمر برفع الصوت في التلبية
قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، أي إنهم يذكرون الله سبحانه تبارك وتعالى في كل موطن من المواطن، ويكبرون ويلبون، ويستحب للحاج أن يرفع صوته بالتلبية، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن جبريل أتاه وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) أي: لبيك اللهم لبيك، ومعنى لبيك أي: أنا مستجيب لك، ومقيم على طاعتك، ومقبل إليك.(24/7)
الأيام المعلومات
قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28].
ذكر الله الأيام المعلومة والأيام المعدودة، فذكر هنا المعلومة، وفي البقرة ذكر المعدودة، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فالأيام المعدودات: هي أيام التشريق ويوم النحر، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، وقد يدخل معها أيضاً الأيام المعدودات، فيكون المعنى: أن العادة أن الناس يذهبون إلى المناسك من أول ذي الحجة أو قبلها في أشهر الحج، فيذكرون الله مسبحين وملبين ومكبرين ومتقربين إليه سبحانه وتعالى.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر من شهر ذي الحجة، وهي أعظم أيام السنة؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.
قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد، إلا أن يخرج رجل بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك شيء) يعني: يستشهد في سبيل الله، ويؤخذ ماله.
فلنحرص على حسن العبادة في الأيام المعلومات، وهي من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم العاشر منه.
وجاء عن ابن عباس أيضاً أنه قال: الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
فكأن الوارد عن ابن عباس: أن الأيام المعلومة تبدأ من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام العيد، فهي أيام معلومة ومعدودة.
إذاً: الأيام المعدودة التي ذكرها الله عز وجل في سورة البقرة هي أيام العيد: يوم العيد وثلاثة أيام التشريق، ويوم العيد هو: يوم الحج الأكبر، وفيه أعظم المناسك في الحج، فسماه الله عز وجل يوم الحج الأكبر.(24/8)
معنى قوله تعالى: (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)
قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] أي: كأنهم يجهزون بهيمة الأنعام في هذا الوقت من أجل أن يذبحوها في يوم العيد، ويكبرون الله سبحانه وتعالى، ويقولون: اللهم هذا منك ولك، ويقولون عند الذبح: {قل إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فإذا رأوا هذه الذبائح حمدوا ربهم سبحانه، وكبروا عليها، قال سبحانه: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28].
إذاً: ففي أول الأيام من ذي الحجة يرى الحاج بهيمة الأنعام فيكبر ربه في هذه الأيام المعدودة، ثم يذبح هذه الأنعام مكبراً لله، ومسمياً لله عز وجل عليها.
والبهيمة هي: كل ذات قوائم أربع، فكل دابة لها أربع قوائم تسمى بهيمة، حتى لو كانت من دواب الماء إذا كانت تمشي على أربع فتسمى بهيمة.
وكذلك كل حي لا يميز يقال عنه: بهيم وبهيمة، والحي الذي ليس في عقله تفكير ولا يجيد النطق يسمى بهيمة.
والمقصود من البهيمة هنا: الأنعام التي هذه صفتها، والأنعام تطلق على الإبل، والبقر ويدخل فيها الجواميس، والأغنام ويدخل فيها الماعز، فكل هذه تسمى بهيمة الأنعام، سواءً كانت ذكوراً أو إناثاً، فيذكرون اسم الله عز وجل عليها وهم ينحرونها، سواء نحروها هدياً أو نذراً أو أضحية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(24/9)
تفسير سورة الحج [27 - 28]
لقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج، وتكفل بتبليغ ندائه هذا إلى أرجاء الأرض، فكان فرضاً على الناس أن يحجوا بيت الله الحرام، ليشهدوا منافع لهم دنيوية: من تحصيل الرزق والمعاش، وأخروية: وهي ما أعده الله عز وجل للحجاج من واسع فضله، وجميل عفوه وكرمه.(25/1)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27 - 29].
فقد أمر الله عز وجل إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يبني البيت ويرفع قواعده فرفعها، وأمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس ويعلمهم: بأن تعالوا إلى بيت الله عز وجل لتحجوا، فقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] وهذا وعد من الله عز وجل فافعل ذلك؛ واعلم أنهم سوف يستجيبون ويأتون، قال: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أي: مشياً على أقدامهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27]، أي: راكب على جمل أو ناقة قد هزلت من طول السفر ومشقته.
قال: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ} [الحج:27] أي: الإبل، فالتأنيث يعود عليها، {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، فهو شرف لها؛ لأنها حملت صاحبها وذهبت به إلى بيت الله الحرام ليحج.
{يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:27]، الفج: هو الطريق الواسع، والعميق: البعيد بعداً شاسعاً، {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28]، فيذهب الحجيج أو المعتمرون إلى بيت الله الحرام ليحجوا وليعتمروا، و {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] أي: في الدنيا وفي الآخرة.
ومن منافع الآخرة: المغفرة من الله سبحانه، وتكفير السيئات، ورفع الدرجات، أما منافع الدنيا فهي ما يكون من تجارة وبيع وشراء ومكاسب ونحو ذلك، فيشهدون منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة بسبب الحج والعمرة.
قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، وهذا من أول دخول شهر ذي الحجة إلى الانتهاء من المناسك جميعها، فيذكرون الله سبحانه وتعالى ملبين ومكبرين، ويذكرون الله عز وجل على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فيذكرون اسم الله رافعين أصواتهم بالتلبية والتكبير، {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28]، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودات الأربعة داخلة فيها أيضاً، فهم يذكرون اسم الله عز وجل في هذه الأيام جميعاً، سواء الأيام المعلومة أو الأيام المعدودة.
فالمعلومة: العشر من ذي الحجة، والمعدودة الأربعة بما فيها العيد وأيام التشريق، وقد يصدق بيان الأيام المعلومة: أنها جميع الأيام من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام المناسك.
قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، وبهيمة الأنعام: هي التي خلقها الله عز وجل لعباده، فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143]، ثم ذكر أن من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ويقصد بالاثنين: الذكر والأنثى، ففي الإبل: الجمل والناقة، وفي البقر: البقرة والعجل، وكذلك الجواميس فإنها داخلة فيها ذكوراً وإناثاً، وفي الغنم: التيس والماعز، فهذه ثمانية أزواج أنزلها الله عز وجل للعباد وجعلها من بهيمة الأنعام التي يأكلونها، والتي منها يحصل الهدي إلى البيت والأضحية.
قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، والبهيم: هو الأعجم الذين لا ينطق ولا يميز، فقالوا: البهيمة هي ذوات الأربعة الأرجل، فخرج منها ما كان ذا أربع أرجل ولكنه لا يثبت في الهدي: كالحمار الوحشي والغزلان.
إذاً: فبهيمة الأنعام: هي التي ذكرها ربنا سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر من الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.(25/2)
أنواع الهدي وجواز الأكل من هدي التطوع
ثم قال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28] هذا الأمر من الله عز وجل لعباده يفيد النفع لهم، قال: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، فهو تفضل من الله تعالى، ولو شاء سبحانه لأمر بإخراجه كله في سبيله سبحانه وتعالى، ولأخرج للفقراء والمساكين، لكن الله سبحانه تكرم على هؤلاء الذين حجوا وقطعوا المسافات الطويلة حتى وصلوا إلى هنالك، بأن يأكلوا من هديهم دونما حرج، والأمر هنا: أمر إرشاد، وليس أمر وجوب، فيجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع، لكن الهدي الواجب عليه غير ما ذكرناه: كجزاء الصيد مثلاً، كأن يقتل إنسان صيداً في الحرم، أو يكون قد أحصر، أو كانت عليه فدية: كإزالة الأذى بالترفه ونحوه، أو كان عليه هدي بالنذر، فهذه من الواجبات التي لا يجوز له أن يأكل من هديه فيها، فإذا نذر هدياً لبيت الله الحرام ذبحه ولا يجوز له أن يأكل منه.
فإذا كان قد قتل صيداً في الحرم وذبح هدياً فلا يجوز له أن يأكل منه، وإذا ترفه بإزالة أذى كحلق رأسه في أثناء الإحرام أو وضع طيب ونحو ذلك وكان عليه الهدي فيه فلا يجوز له أن يأكل منه، وإنما يجوز له أن يأكل من هدي التمتع، أو هدي القران، أو هدي التطوع.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وهذا في القران، فقد قرن في الأمرين بين الأكل والإطعام، وقد فرق العلماء بين الأمرين: فإطعام الفقراء فرض؛ لأن المقصد من الذبح: هو سد جوع هؤلاء وحاجتهم، لكن يجوز لك أن تأكل منه أيضاً؛ فقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من هديه بعد أن نحر مائة ناقة صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع، فنحر بيده الكريمة نحو ثلاثة وستين وأكمل الباقي علي رضي الله تعالى عنه، فأخذ من كل واحدة منها قطعة من اللحم ووضعها جميعاً في القدر وأكل منها صلوات الله وسلامه عليه، فكونه أكل منها يبين لنا أنه يجوز لك أن تأكل من ذلك.
قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وهنا يقول الأصوليون: إن دلالة الاقتران دلالة ضعيفة، يعني: أنه إذا اقترن أمران أحدهما للوجوب والآخر للاستحباب فإنه لا يقال حينئذ: إن الاثنين للاستحباب أو للقران، ولكن: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، فأهل العلم يقولون: إن لك أن تأكل أو تترك؛ لأن الأكل ليس فرضاً أو أمراً تعبدياً، ولكن العبادة إطعام: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، أي: الذي من أجله شرع الهدي، {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
والبائس الفقير: هو الإنسان الذي ناله البؤس والفقر الشديد، يقال: بئس يبؤس بأساً إذا افتقر، فإذا افتقر الإنسان صار بائساً، وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة من الدهر أو مصيبة من المصائب، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في سعد بن خولة الذي كان قد هاجر من مكة إلى المدينة ثم ذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ومات بها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب لأصحابه المهاجرين الموت في غير المكان الذي هاجروا منه، فما كان للمهاجرين الموت في مكة؛ لكي تكتب لهم الحسنات من مكان هجرتهم إلى مكان موتهم في غيرها من البلدان، فالنبي صلى الله عليه وسلم حزن لفوات هذا الأجر عليه رضي الله عنه فقال: (ولكن البائس سعد بن خولة) يعني: أنه ضاع منه بعض الأجر، فالشاهد: أن الله سبحانه وتعالى قد أمر بذبح الهدي.(25/3)
الوقت المختار في ذبح الأضحية
العلماء يذكرون لنا وقت الذبح في الأضحية فيقولون: إذا كان الهدي مختصاً بالكعبة فلا يذبحه إلا في الحرم، وأما إذا كان هدياً تطوعاً فله ذبحه في أي وقت شاء، يعني: أن الإنسان إذا ذهب إلى العمرة ومعه الهدي فله أن يذبحه في الوقت الذي يعتمر فيه، لكن هدي القران أو هدي التمتع لا يذبح إلا في يوم النحر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله سبحانه وتعالى، أما وقت النحر: فيكون يوم النحر، على خلاف بين العلماء في جوازه قبل هذا الوقت أو لا في هدي المتمتع بالعمرة إلى الحج؟ والراجح: أنه لا ينحر إلا في يوم النحر، فلذلك سمي بيوم النحر؛ ولأن الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان أكثرهم متمتعاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أن أحداً منهم نحر قبل يوم النحر، فلو كان يجوز أن ينحر قبل يوم النحر لفعله الصحابة ولو البعض ولأقره النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما ذبح هديه قبل يوم النحر، فعلى ذلك: يكون وقت الذبح لهدي التمتع أو القران في يوم النحر والأيام بعده، أما الأضحية: فإنها تكون في يوم النحر وما بعده من أيام التشريق، ففي أي يوم سيكون النحر للأضحية؟ يقول العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم نحر يوم النحر بالمدينة، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم).
وقد وضحت هذه الرواية روايات أخرى: وهو أنهم نحروا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه نحر بعد الصلاة، فإذا جاءت رواية أنهم نحروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت الرواية الأخرى بأنهم نحروا قبل الصلاة فالمعنى واحد، وهو أنهم نحروا قبل الصلاة، أي: قبل نحر النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأمرهم أن يعيدوا صلوات الله وسلامه عليه، وبين لهم أن من نحر قبل الصلاة فهي شاة لحم، أي: ليس فيها أجر الأضحية، ومن نحر بعد الصلاة فهي أضحية مقبولة.
إذاً: فالنحر هنا يكون من بعد صلاة العيد، أما إذا لم يستطع الإنسان أن يصلي العيد لعذر ما: كاختلاف أوقات الصلاة في البلد الواحد أو نحوه، وأراد أن ينحر فعليه أن ينحر بعد أول صلاة عيد أو بعد مضي وقت صلاة العيد، فيذبح الإنسان الذي لم يستطع أن يشهد الصلاة، فقد جاء عن البراء بن عازب في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا يوم العيد أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا)، وفي حديث آخر: (من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم).(25/4)
عدد أيام النحر واختلاف العلماء فيها
العلماء اختلفوا في عدد أيام النحر، فالأكثر على أنها: ثلاثة أيام، العيد ويومان بعده، والراجح من حيث الدليل: أنه يجوز النحر في أربعة أيام، في يوم العيد وفي أيام التشريق الثلاثة.
وممن قال بأن أيام النحر ثلاثة أيام فقط: الإمام مالك، والإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد، وعند الشافعي: أربعة أيام، وإن كان الأفضل عنده ثلاثة أيام ابتداءً من العيد، وقد استدل القائلون بذلك ببعض الآثار عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن النحر في يوم العيد ويومين بعده، لكنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه قال: (كل أيام التشريق ذبح)، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرفات كلها موقف)، ففي الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم المناسك، فيقول: (عرفات كلها موقف)، وقد وقف في مكان معين، فلا يشترط على الناس كلهم الوقوف في نفس المكان الذي وقف فيه صلى الله عليه وسلم، ولكن في كل عرفة، قال: (وارفعوا عن عرنة)، وهو مكان هنالك اسمه: عرنة قبل عرفة، وليس من عرفات، قال: (وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن بطن محسر، وكل فجاج منى منحر) يعني: أن النحر في أي مكان من منى، وليس له مكان معين.
قال: (وكل أيام التشريق ذبح)، وهذا الشاهد من الحديث: وهو أن أيام التشريق الثلاثة بعد العيد كلها ذبح بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا ألا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، والمقصود: أن بعض العلماء قالوا بجواز النحر بعد العيد، والصواب: أن النحر يكون في الأربعة الأيام من العيد، فيوم النحر منها، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذبح فيها وقال: (كل أيام التشريق ذبح)، فدل على أن غيرها لا يدخل فيها.(25/5)
حكم ذبح الأضحية في الليل
الذبح يكون في أيام العيد سواء الأضحية أو الهدي، أما أن يذبح في الليل فأكثر العلماء على كراهة ذلك، وإن كان الراجح فيها: أنه يجوز الذبح والنحر في الليل والنهار، والذين كرهوا ذلك قالوا: إن الذبح بالليل مظنة إخفاء اللحم عن الفقراء، فيصير كالذي يجز أرضه في الليل لكي يمنع الزكاة عن الفقراء، ويمنعهم أن يطلبوا منه شيئاً، كما قال الله سبحانه وتعالى عن أصحاب الجنة: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17 - 18]، فأقسموا على جز أرضهم في الليل؛ لكي لا يسألهم الفقراء شيئاً في الصباح، فالذين كرهوا الذبح في الليل عللوا ذلك: بأن الليل مظنة الإخفاء عن الفقراء بخلاف النهار فإن الفقير يرى اللحم فيطالب بحظه منه.
والراجح في هذه المسألة: أنه يجوز الذبح في الليل إذا كانت نيته أن يوزع على الفقراء، أما إذا كانت نيته الاستخفاء من الفقراء فتبقى المسألة هنا على الكراهة.(25/6)
حكم أكل صاحب الكفارات من دماء كفاراته
قال تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:28]، قلنا: إن الأمر فيه على الندب، {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28].
وهنا يذكر الإمام القرطبي: أن دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها، فإذا فرضنا أن إنساناً عليه كفارة نذر مثلاً فذبح هذا الشيء الذي نذره ثم وزعه على الفقراء، وبعد ذلك أكل منها هو، فهنا لا يجوز له أن يأكل منها، فإن أكل منها لزمه أن يشتري لحمة بالقدر الذي أكله ليخرجه للفقراء والمساكين، وهذه مسألة يكثر السؤال عنها، فنقول: إذا نذر بشيء فذبح فلا يجوز أن يأكل منه.
لكن قد ينذر الإنسان بأضحية لله، كأن يقول: عليّ نذر أن أذبح أضحية لله تعالى، والأضحية ليست واجبة على الصحيح من كلام أهل العلم، لكن إذا نذرها الإنسان صارت واجبة الذبح، ولكنها لا تزال أضحية في الحكم فيجوز له أن يأكل منها، وأن يهدي منها، وأن يخرج للفقراء، ويكون توزيعها بهذه الصورة، فكونه ألزم نفسه بالنذر لا يخرجها عن كونها أضحية، ومثلها مثل هدي التمتع، فهدي التمتع واجب على الإنسان الذي يتمتع من العمرة إلى الحج، ومع ذلك يجوز له أن يأكل منه، فكونه واجباً لا يمنعه أن يأكل منه سواء من هدي القران أو من هدي التمتع.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هدي القران، وأن الصحابة أكلوا من هدي التمتع.(25/7)
عدم جواز الأكل من الهدي إذا عطب في الطريق إلى البيت الحرام
ذكر العلماء مسألة عطب الهدي، فلو أن الإنسان أخذ هدياً إلى بيت الله الحرام وعطب هذا الهدي، فهذا الهدي إما أن يكون واجباً عليه مثل: هدي القران وهدي التمتع وغيره، وإما أن يكون مستحباً تطوعاً، فهدي الواجب مضمون عليه، يعني: أخذ هدياً بسبب أنه متمتع بالعمرة إلى الحج، وحصل أن هذا الهدي هزل في الطريق فاحتاج لذبحه وأكله فلا شيء عليه؛ لأنه مضمون عليه، مع أن المطلوب منه غيره، فسيأتي بغيره مكانه.
أما هدي التطوع فله حكم آخر: ففي سنن أبي داود عن ناجية الأسلمي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي تطوع)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة وناجية مسافر لعمرة، والنبي صلى الله عليه وسلم أرسل معه هدياً تطوعاً، سواء كان ناجية متوجهاً بعمرة أو بحج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه، ثم خل بينه وبين الناس)، وفي رواية: (ولا تأكل منه ولا أحد من أهل رفقتك)، وهذا في صحيح مسلم بمعناه من حديث ابن عباس.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غاية الكرم، فكان يعطي الهدي لمن يريد الحج أو العمرة ليذبحه عند البيت ويوزعه على الفقراء، فكان يأمر هذا الذاهب مثل ناجية مثلاً رضي الله عنه: أنه إذا عطب من الهدي شيء في الطريق أن يذبح، وأن يلطخ بدمه ظهره ليعرف من يراه أن هذا هدي للبيت، فيقوم الفقراء بالأكل منه، أما منعه ورفقته من الأكل منه فلسد الذريعة، حتى لا يفرط صاحب الهدي فيه حتى ينحره فيأكل منه ورفقته بسبب الجوع، فإذا علم أنه إذا ذبح الهدي فلن يأكل منه شيئاً حافظ عليه تمام المحافظة حتى يصل به إلى هنالك، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عطب منها شيء فانحره، ثم اصبغ نعله في دمه) يعني: خذ النعل وضعه على دمه ولطخ به جلده بحيث يعرف الناظر أن هذا اللحم هدي لبيت الله الحرام، قال: (ثم خل بينه وبين الناس، ولا تأكل منه أنت ولا أحد من أهل رفقتك)؛ سداً للذريعة؛ لكي لا يذبحوا الهدي في الطريق ثم يزعمون بعد ذلك أنه قد عطب والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.(25/8)
تفسير سورة الحج [27 - 30]
أمر الله تعالى خليله إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، ووعده بمجيء الناس لحج بيت الله، وجعل الله لهم فيه منافع كثيرة في دينهم ودنياهم، وأمرهم أن يذكروا اسمه في أيام العشر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فيأكلون ويطعمون منها، ويتمون في هذه الأيام مناسك حجهم.(26/1)
تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:27 - 29].
أمر الله سبحانه تبارك وتعالى نبيه وخليله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يرفع القواعد من البيت، وأن يؤذن في الناس بالحج، ووعده سبحانه تبارك وتعالى أن يسمعه الناس ويأتوه رجالاً ومشاة وعلى كل ضامر أي بعير يأتين من كل فج عميق، أي من كل طريق فسيح بعيد؛ يأتون ليشهدوا منافع لهم، منافع دينية ومنافع دنيوية، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، وهي العشر من ذي الحجة، والأيام المعدودة هي أيام العيد الأربعة، وقد تدخل تحت مسمى الأيام المعلومة أيضاً، فتكون أربعة عشر يوماً، فيذكرون اسم الله عز وجل في هذه الأيام، مكبرين ملبين داعين ربهم سبحانه في أيام العشر وفي أيام الحج، يدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى، ويشكرونه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
ثم قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، فهنا ذكر الأكل وذكر إطعام البائس الفقير.(26/2)
من أحكام الأضاحي
استحب العلماء في الضحايا أو في الهدايا أن يأكل منها صاحبها ويهدي منها ويطعم الفقراء، ويكون النصيب الأكبر لإطعام الفقراء، وقال بعضهم: ثلث لطعامه، وثلث يهدي منه، وثلث للفقراء يتصدق بها عليهم.
وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ ثوبان: (أصلح لحم هذه الشاة، فأكل منها صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة)، وفي سنن أبي داود: (أنه أكل صلى الله عليه وسلم من الأضحية التي ذبحها، وتصدق منها صلى الله عليه وسلم، وأكل منها متزوداً من خروجه من مكة إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه).
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه يقسم الأضحية أثلاثاً، قال الإمام مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موثوق، بمعنى أنه ليس شرطاً أنها تقسم ثلاثة أثلاث، لكن يجوز أن يتصدق بها جميعاً، وإن كان الأفضل أن يأكل منها، وأن يهدي منها، فيأكل منها شيئاً، ويهدي منها شيئاً، ولكن الصدقة تكون بالأكثر.
والإمام الشافعي كان يرى أن النصف للأكل والهدايا، ويتصدق بالنصف لقوله سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وكأن الآية قسمتها قسمين، للأكل وإطعام البائس الفقير، وقال مرة: يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويطعم ثلثاً، لقول الله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، فالقانع السائل الذي قنع بالسؤال، والمعتر الذي يمر بك ولا يسأل، ولكن ينظر إلى الطعام، وقد يكون محتاجاً وقد لا يكون، فيهدي له، فأخذ الشافعي من هذه الآية: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] أنها تجزأ أثلاثاً، ثلث تأكل منه، وثلث للقانع يعني السائل الفقير الذي يطلب ويسأل، وثلث للمعتر الذي لا يسأل، يعني يعطيه على وجه الهدية أو الهبة.
وهل المسافر مخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؟ الأصل أن الجميع مخاطبون بالأضحية، سواء من كان مسافراً أو حاضراً.
والحاج مخاطب بالأضحية مثل غيره، فالراجح أنه يجوز للحاج أن يضحي، وإن كان الهدي في حقه أفضل؛ لأن المكان مكان هدي، لكن المسافر غير الحاج فالأضحية في حقه مشروعة، وإن كان قد يهدي غير الحاج مع من يذهب إلى الحرم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيرسل مع رجل من أصحابه هدياً للبيت.
والحاج إذا كان متمتعاً أو قارناً عليه هدي القران أو هدي التمتع وهو فرض عليه، لكن إذا كان مفرداً للحج، فليس عليه هدي، ويستحب له أن يهدي على وجه التطوع.(26/3)
حكم الادخار من لحم الأضاحي
قال الإمام القرطبي رحمه الله: اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال، فروي عن علي وابن عمر من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث، وهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح، وثبت عنه النسخ لهذا الحديث، فنهى عن ادخار لحوم الأضحية فوق ثلاث، وفي العام التالي سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، وذلك أن جماعة من الأعراب نزلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وكانوا في مجاعة، وكان أهل المدينة في العيد يذبحون، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لو ذبحوا وأهدوا الثلث مثلاً وادخروا الباقي أو أهدوا النصف وادخروا الباقي فلن يكفي اللحم جميع من في المدينة من الأعراب ومن أهل المدينة الفقراء؛ فلذلك نهاهم ذلك العام عن الادخار فوق ثلاث، فكل من سيدخر من اللحم سيدخر لثلاثة أيام فقط، وتكون كمية قليلة، والباقي سيوزع على الناس، فيكفي الجميع، فلما سألوه في العام الذي يليه عن الادخار قال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة)، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الادخار من أجل المواساة.
واختلف العلماء هل هذا الحكم يكون منسوخاً أو أن هذا الحكم موقوف على مثل هذه الحالة، ثم يرفع إذا انتهت هذه الحالة؟ يقول الإمام القرطبي: وهنا مسألة أصولية وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته، فرفع الحكم بالنسخ معناه إلغاؤه، ولا يعود هذا الحكم مرة أخرى، ورفع الحكم لارتفاعه العلة معناه أنه يرجع برجوع العلة، فرفع الحكم بالنسخ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة المقابر، ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة)، فالنهي عن زيارة القبور حكم منسوخ، يعني ارتفع تماماً ولا يعود مرة أخرى.
لكن قوله: (إنما نهيتكم لأجل الدافة)، هذا الحكم انتهى بانتهاء علته، فو رجعت العلة مرة أخرى يرجع الحكم مرة أخرى، فلو وجدت مجاعة في بلد، والناس عندهم أضاحي، فيأكلون منها ويدخرون ثلاثة أيام فقط، وليس لهم الادخار بعد ذلك، حتى يكفي المحتاجين.(26/4)
حرمة بيع الأضاحي
قوله سبحانه وتعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] من صفات الفقير أنه بائس، وهو من نزل به بؤس ونزلت به شدة، فأمر الله عز وجل أن تطعم البائس الفقير، والفقير قد يكون في شدة، وقد لا يكون في شدة، فهنا قال: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] يعني الذي بؤسه شديد، فتأكل وتطعم الفقير الذي في شدة شديدة، والفقير المحتاج، والبائس الذي ناله البؤس وشدة الفقر، يقال: بئس يبأس بؤساً إذا افتقر فهو بائس.
وتطلق الكلمة نفسها على من نزلت به نازلة من الدهر، يعني مصيبة من المصائب من موت وغيره وإن لم يكن فقيراً، يقال: هذا البائس فلان.
وجاء في حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا فكلوا وادخروا واتجروا) يعني اطلبوا الأجر من الله، وليست من التجارة، ولكن المعنى أطلبوا أجراً من الله سبحانه تبارك وتعالى في ذلك، فأنه لا يجوز للإنسان أن يبيع لحم الأضاحي ولا يبيع لحم الهدايا.(26/5)
تفسير قوله تعالى: (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، {ثُمَّ لْيَقْضُوا} [الحج:29]، هذه قراءة أكثر القراء، ومنهم قالون عن نافع، والبزي عن ابن كثير وأبو جعفر والكوفيون كلهم، فيقرءونها بالتسكين، وقرأ باقي القراء ورش عن نافع وقنبل عن ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: (ثم لِيقضوا تفثهم)، والأصل أن لام الأمر مكسورة، ولكن خففت في القراءة الأولى.
قال الله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج:29] يعني بعد نحر الضحايا ونحر الهدايا يكمل ما بقي عليه من مناسك الحج، كالحلق ورمي الجمار وإزالة الشعر، والأصل في التفث ما علا على الجسد من أوساخ، قال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، فيزيل عن نفسه ما كان عليه بسبب إحرامه وطول مدته.
وإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه.
وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أي: إذا وجب عليه من النذر شيء، وقراءة الجمهور: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] باللام الساكنة، وابن ذكوان وحده يقرؤها: (ولُيوفوا نذورهم)، وشعبة عن عاصم يقرؤها: (ولْيُفوا نذورهم) وقد مدح الله سبحانه تبارك وتعالى المؤمنين الذين يوفون بالنذر، فهنا أمر بالوفاء بالنذر، ومدح هنالك الموفين بالنذر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا وفاء لنذر في معصية الله)، يعني يجب عليك الوفاء بالنذر إلا أن يكون النذر في معصية، فمن نذر أن يطيع الله فليطعه كما جاء في الحديث، وقال: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وكفارته كفارة يمين)، ومثال نذر المعصية أن ينذر أن يضرب فلاناً أو يفعل شيئاً من المحرمات، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوفاء بهذا النذر، وأمر أن يكفر عن هذا النذر كفارة يمين.
قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، الطواف بالبيت العتيق أنواع، هناك الطواف المستحب مثل طواف القدوم، وهو سنة من سنن القادم إلى بيت الله الحرام، فيطوف عندما يأتي إلى المسجد تحية المسجد، فتحية البيت الحرام أن تطوف طواف القدوم أول ما تقدم عليه.
وقد اختلف العلماء هل طواف القدوم واجب أم سنة من السنن؟ فذهب بعض العلماء أنه واجب، وهذا مروي عن الإمام مالك، فلو رجع الحاج إلى بلده بغير طواف الإفاضة سيغني عنه طواف القدوم، والراجح أن طواف القدوم سنة وليس فرضاً، ولا يغني عن طواف الإفاضة، لكن يحل محله طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع فرض كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوف طواف الوداع) فدل على أن طواف الوداع فرض.
فمن نسي طواف الإفاضة الذي هو في يوم العيد فليطف طواف الإفاضة عند الوداع، ويكون لطواف الوداع ولطواف الإفاضة.
إذاً: طواف القدوم سنة، وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وركن من أركان العمرة، وطواف الوداع واجب، وليس ركناً من الأركان، والفرق بين أن نقول: ركن وواجب، أن الركن لا بد أن تأتي به، والواجب إذا لم تأت به وسافرت فعليك أن تجبره بدم، أما الركن فلا يجبر بدم، فلو أن إنساناً في الحج ترك طواف الإفاضة وسافر، فيظل على إحرامه، فيحرم عليه أن يأتي النساء إلى أن يرجع ويطوف طواف الإفاضة، فلو ترك طواف الوداع فيجبره بدم.
وطواف الوداع يسمى طواف الصدر، وهو واجب من واجبات الحج، واختلف العلماء هل طواف الوداع واجب في العمرة أم ليس واجباً؟ والراجح أنه سنة في العمرة، لكن في الحج واجب.(26/6)
معنى البيت العتيق
قوله سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وصف الله البيت بأنه عتيق، وكلمة عتيق تحتمل عدة معان أكثرها موجودة في البيت الحرام، قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96]، فهو عتيق لكونه أقدم بيوت الله سبحانه وتعالى.
ويسمى عتيقاً؛ لأن الله عز وجل أعتق هذا البيت من أن يتسلط عليه الجبابرة، فلا أحد تسلط عليه وتركه الله سبحانه وتعالى، فلما جاء أبرهة لهدم البيت أرسل الله عليه: {طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3 - 5]، فأعتقه الله عز وجل من تسلط الكفار والجبابرة.
وسمي عتيقاً؛ لأنه لم يملك موضعه قط، فلم يملك أحد هذا المكان أبداً لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام، فهو بيت عتيق لأنه لم يملك.
وأيضاً هو بيت يعتق الله من يدخلونه من النار، فالحجاج أكثر من يعتقهم الله سبحانه تبارك وتعالى من النار.
وقيل: ويسمى البيت العتيق لأنه أعتق من الغرق في الطوفان، فعندما غرقت الأرض كلها في الطوفان، أعتق الله عز وجل البيت، فلم يناله من ذلك شيء.
وقيل: العتيق بمعنى الكريم، والعتق في اللغة تطلق بمعنى الكرم، فهو بيت كريم.
وقالوا: العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء، كقول عمر رضي الله عنه: حملت على فرس عتيق، أي على فرس جيد.
وكل هذه المعاني موجودة في بيت الله الحرام، فهو أقدم بيت وضع للناس، وهو أشرف وأكرم موضع على الأرض، والله سبحانه تبارك وتعالى عتقه من تسلط الجبابرة عليه، والله عز وجل أعتق العبيد الذين يحجون إلى هذا البيت، فيعتق الله سبحانه رقابهم من النار.(26/7)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم)
قال الله عز وجل: {ذَلِكَ} [الحج:30] يعني فرضكم ذلك، فهو خبر للمبتدأ، أو مفعول لفعل محذوف تقديره: امتثلوا ذلك الذي أمرناكم به من الحج والطواف بالبيت العتيق والوفاء بالنذور وغير ذلك، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، فمدح الله سبحانه الذين يعظمون حرمات الله سبحانه تبارك وتعالى، والحرمات المقصود بها هنا أفعال الحج المشار إليها بقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29]، لأن هذه من الحرمات، ومنها أيضاً تعظيم هذا المكان، واحترام هذا المكان، فعلى الإنسان أن يعظمه فلا يحدث فيه ولا يبتدع فيه ولا يأتي فيه بمعصية ولا فاحشة، والحرمات أيضاً امتثال أوامر الله سبحانه تبارك وتعالى من الفرائض والسنن.
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] فهو خير قدمه وجعله عند الله سبحانه، أو خير أفعل تفضيل بمعنى أن هذا الأعظم والأفضل له والأخير له عند الله سبحانه وتعالى.(26/8)
معنى قوله تعالى: (وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم)
قال الله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30]، الأنعام هي الإبل والبقر والغنم، فأحلها الله سبحانه إلا ما يتلى عليكم مما ذكره سبحانه في سورة المائدة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة:3]، فأحل لنا الأنعام إلا ما يكون منها منخنقة أو موقوذة أو نطيحة أو بقية مما أكل السبع، فهذه الأشياء ميتة فلا يحل لنا أن نأكل ما مات من بهائم الأنعام أو ما ذبح لغير الله عز وجل، ويحل لنا ما ذكي شرعاً.(26/9)
معنى قوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان)
قال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] الرجس يطلق على الشيء القذر، وفي القرآن تأتي كلمة الرجس والرجز، والرجز أصل معناها العذاب، والرجس معناها العذرة والنتن، والرجس تحتمل المعنيين كأنه يقول: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30] يعني القاذورات والنجاسات من هذه الأوثان التي من عبدها أدخلته في رجز من عذاب الله سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30] يقال: وثن الشيء إذا أقام في مقامه، فالشيء القائم الذي يعبد من دون الله يسمى وثناً سواء كان من خشب أو من حديد أو من ذهب أو فضة أو صليب، هذا كله من الأوثان، ولذلك قال عدي بن حاتم: (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب)، كان نصرانياً وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم لابساً صليباً من ذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألق هذا الوثن عنك) فسماه وثناً، فالشيء الذي يعبد من دون الله سبحانه تبارك وتعالى على هيئة خشبة أو حديدة أو تمثال هو من الأوثان.
ويسمى الصنم وثناً؛ لأنه ينصب ويركز في مكان فلا يبرح عنه، فهو شيء قائم في مكان لا يرفع من هذا المكان الموجود فيه.
وسماه رجساً؛ لأنه سبب للرجز وسبب لعذاب الله سبحانه؛ ولأنه أيضاً من القاذورات التي كانوا عليها في الجاهلية، والرجس النجس، فالأوثان نجسة حكماً، وقلوب الذين يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى نجسة، وإن كان التمثال لو مسه الإنسان لا نقول له: انتقض وضوءك أو توضأ، لكن من عبده فقد دخل في قلبه الرجس والنجس وقاذورة الكفر.
قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] حرم الله سبحانه وتعالى قول الزور في هذه الآية، وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور)، كان متكئاً فجلس يعني اشتد غضبه صلى الله عليه وسلم لما ذكر شهادة الزور، فقال ذلك حتى قال الصحابي: (حتى قلنا: ليته سكت!) يعني أشفقوا على النبي صلى الله عليه وسلم من شدة غضبه حين ذكر قول الزور.
فالله سبحانه تبارك وتعالى ينهانا عن الشرك بالله سبحانه، وينهانا عن قول الزور وشهادة الزور.
ثم قال: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج:31]، يعني كونوا مستقيمين لله سبحانه تبارك وتعالى على الحق مبتعدين عن الباطل، وكلمة حنفاء من ألفاظ الأضداد معناها الاستقامة ومعناها الاعوجاج، فأصل معناها حنف عن الشيء بمعنى مال، ولكن صار المعنى الشرعي لها دالاً على الاستقامة، يعني البعد عن الكفر والاستقامة على طريق الله سبحانه تبارك وتعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/10)
تفسير سورة الحج [30 - 34]
لقد أمر الله تعالى بتعظيم حرماته وشعائره وعدم انتهاكها؛ تعظيماً للآمر بها وهو الله تعالى، وجعل تعالى تعظيم حرماته وشعائره دليلاً على تقوى القلب، وشعائر الله هي معالم الدين عموماً، ومنها مناسك الحج، وجميع هذه الأوامر مما يجب تعظيمها طاعة لله، واتباعاً لشرعه.(27/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير لهم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31].
ذكر لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات أن من يعظم حرمات الله سبحانه فذلك خير له عند ربه، وحرمات الله سبحانه وتعالى المقصود بها هنا: أعمال وأفعال الحج المشار إليها في الآية السابقة بقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
وقد تأتي كلمة الحرمات بمعنى العموم، أي: أمر الله سبحانه تبارك وتعالى به في دينه، من أوامر، وفرائض، وسنن، فالذي يعظم أوامر الله عز وجل ويعمل بها، مطيعاً لرب العالمين سبحانه، فهذا له خير عند الله سبحانه، وأفضل له أن يطيع الله سبحانه وتعالى فذلك هو الخير، بل أعظم الخير عند الله سبحانه.
قال تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ} [الحج:30]، ذكرنا في الحديث السابق: أن الله عز وجل من على عباده بأن أنزل لهم ثمانية أزواج من الأنعام، من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فهذه هي بهيمة الأنعام التي أنزلها الله عز وجل لعباده، خلقها لهم، وجعلها مسخرة تحت أيديهم، يأكلون منها، وينتفعون بألبانها، وأشعارها وأوبارها وأصوافها، وهذا من فضله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج:30] يعني: من تحريم الميتة، ومنها الموقوذة، والنطيحة، وما أكل السبع، فهو حرام.
قال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، فنهانا سبحانه تبارك وتعالى عن عبادة غير الله سبحانه، وسمى الأوثان والأصنام التي يعبدونها من دون الله رجساً، وأصل الوثن: هو التمثال أو الشيء الذي يكون ثابتاً في مكانه، ويكون من خشب أو من حديد، أو من ذهب، أو نحو ذلك، فقالوا: وثن الشيء أي: قام في مقامه، فسمي الصنم صنماً؛ لأنهم يثبتونه في مكانه، ويعبدونه من دون الله سبحانه تبارك وتعالى.
فهنا ذم الله الأوثان وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، فوصف الأوثان بأنها رجس، وأنها قذر نتن، وأنها شيء يشوش على الناس عقائدهم، ويجعل في قلوبهم الرجس والنجاسة القلبية المعنوية من الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى وغيره.
فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]، فكأنه نهاهم سبحانه تبارك وتعالى عن الرجس عامة، وخاصة الأوثان وما كان مثلها، وبين أن الرجس من الأوثان عبادة لغير الله سبحانه.(27/2)
خطر شهادة الزور
ذكر الله شهادة الزور بعد الرجس من الأوثان وبين أن شهادة الزور شيء فاحش، فذكره هنا وكأن شهادة الزور، عدلت الشرك بالله سبحانه فذكرت معه، وشاهد الزور لا يقال: إنه مشرك وخارج من الدين، ولكن إثمه عظيم جداً، والإنسان الذي يشهد الزور يكون الضرر منه، ليس على نفسه فقط، ولكن يكون ضرره على الإنسان المظلوم الذي شهد عليه زوراً وظلماً، وهذا الإنسان المظلوم قد يقام عليه الحد ظلماً وزوراً، أو يؤخذ ماله، أو يسفك دمه ظلماً وزوراً، فضرر شاهد الزور متعدٍ، ويراه الناس وكأنه يشهد بحق أمام القاضي، وأنه عدل، فيحكم القاضي بما يقول هذا الشاهد، فيضر الآخرين.
ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور، وهو يتكلم عن أكبر الكبائر، قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى.
يا رسول الله! قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس) صلى الله عليه وسلم، لما وصل عند ذكر شاهد الزور، وكان متكئاً فجلس، وكأنه لما استحضر حال شاهد الزور غضب (وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)، كررها ثلاث مرات صلوات الله وسلامه عليه، فغضب حين استحضر كيف يفعل هذا الإنسان، فيري الناس أنه صادق وحقيقته أنه كذاب، يضر إنساناً مظلوماً، ويضيع عليه حقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور)، قال الصحابي راوي الحديث: (فما زال يقولها -يعني: يكرر هذه الكلمة- حتى قلنا: ليته سكت) يعني: أشفقوا على النبي صلى الله عليه وسلم من شدة غضبه حين تذكر شاهد الزور، فتمنوا لو أنه اكتفى بذلك وسكت؛ وذلك منهم شفقة على النبي صلوات الله وسلامه عليه.(27/3)
تفسير قوله تعالى: (حنفاء لله غير مشركين به)
قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: كونوا حنفاء مستقيمين على دين الله، مسلمين لله، مائلين عن الباطل إلى الحق، كما ذكرنا في الحديث السابق أنها من ألفاظ الأضداد، يعني: أنها تطلق على المعنى وعلى ضده فأصلها من الحنف، والحنف: الميل، وهنا المقصود منها: الاستقامة، يعني: البعد والميل عن الباطل، والاستقامة على الحق.
قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] أي: أن الإنسان المشرك بالله سبحانه وتعالى يوم القيامة هو بمنزلة من لا يملك لنفسه شيئاً، وهو في الدنيا قد يظن أنه يملك شيئاً، ولكنه يوم القيامة لا يملك أي شيء، وحاله كطير خر من السماء، أو كشيء وقع من السماء، فإذا بالطيور الجوارح تأتي عليه وتتخطفه من كل مكان، ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يدفع عن نفسه ضرراً ولا عذاباً.
وقوله تعالى: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} [الحج:31] بالتخفيف قراءة الجمهور، وقراءة المدنيين نافع وأبي جعفر: (فتخطَّفه الطير) بتشديد الطاء، يعني: أنها تأخذ منه وتقطعه بمخالبها، وقيل: إن هذا يكون عند خروج روحه، فالإنسان الكافر وكذلك الفاجر تخرج روحه بصعوبة وبشدة، وتتمزق والملائكة يخرجونها من داخله، وبعد ذلك يصعدون بها إلى السماء، فإذا استفتحوا بروحه السماء لم يفتح له، فتلقى من السماء، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها تلقى من السماء، وتلا هذه الآية: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31])، (تهوي) يعني: تسقط به الريح، (في مكان سحيق) أي: مكان بعيد كأن الريح طارت به وأوقعته في جب عميق بعيد قعره.
قال سبحانه تبارك وتعالى: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] المعنى: أن الإنسان المشرك بالله له عذاب عظيم جداً، لا يقدر أن يدفع عن نفسه هذا العذاب، كما لا يقدر الذي خر من السماء وتناوشته الطير وتخطفته أن يدافع عن نفسه.(27/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، إن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، والشعائر جمع شعيرة، والشعيرة أصلها: العلامة، وشعائر الدين: أعلام الدين ومعالمه العظيمة، فعلى الإنسان أن يعرف أن هذا الدين هو دين التوحيد، ويعظم توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يعلم أن هذا الدين من أركانه: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ويجب عليه أن يعظم هذه الأركان التي فرضها الله سبحانه، فمثلاً الإنسان الذي يحج بيت الله الحرام، هو بذلك يقيم أعظم المناسك، وأعظم الشعائر وهو أنه يعظم توحيد الله، ويعظم مناسك الحج، ويعظم ما يهدى إلى البيت من بدن هي من معالم الحج، فتعظيم دين الله سبحانه دليل على تقوى قلب الإنسان، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فإن الفعل نفسه وهو التعظيم من تقوى القلوب، أو أن الشعائر التي يستقر في القلوب تعظيمها هي من تقوى القلوب.
إذاً: الضمير في الآية: {فَإِنَّهَا} [الحج:32] يعود على الشعائر، أو على فعل تعظيم هذه الشعائر، وأن ذلك من تقوى قلوب من يفعلها.(27/5)
وقت ذبح الهدي ومكانه
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ومعنى محلها كأنه مأخوذ من إحلال المحرم، فكأن المعنى محل الشعائر، إما على المعنى الواسع وهو: طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، أو على المعنى الضيق وهو: مناسك الحج.
وقوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] المراد بذلك: طواف الإفاضة، يعني: بعد أن تحرم، وتطوف، وتسعى، وتقف يوم عرفة، وبعد أن تذهب إلى المزدلفة، وترجع إلى منى، وترمي الجمار، ترجع لتطوف بالبيت، فالآن تحل الحل الكبير، فبطواف الإفاضة يحل الإنسان الحل كله، فقالوا: المعنى: أن شعائر الله في الحج، من الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والسعي، تنتهي بطواف الإفاضة، فعلى ذلك يكون هنا محلها، أي: نهاية الإحلال من شعائر الحج ومناسكه.
وقال الإمام الشافعي: المقصود هنا بقوله تعالى: (محلها) البدن نفسها، يعني: مكان ذبحها، وأنها تذبح في الحرم، فمعنى قوله: {مَحِلُّهَا} [الحج:33] أي: إلى الحرم، وهذا بناء على أن الشعائر هي: البدن.(27/6)
تفسير قوله تعالى: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى)
قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: في هذه المناسك منافع، منها: سوقكم الهدي إلى البيت، فلكم فيها منافع إلى أجل مسمى، فالإنسان الذي يسوق الهدي من إبل، أو من بقر، أو من أغنام، فهذا دليل تقوى قلبه، فإنه إنما يسوقها معظماً لشعائر الله سبحانه، وله أن ينتفع بها، فيأخذ من لبنها ما يحتاج إلى شربه، ويركب عليها إذا احتاج إلى ذلك حتى يصل بها إلى مكان نحرها وذبحها.
فقال سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [الحج:33] أي: في البدن التي تساق إلى بيت الله الحرام، من الركوب، ومن الدر، ومن النسل، ومن الصوف وغير ذلك مما يحتاج إليه حتى يصل بها إلى بيت الله الحرام.
وجاء في الصحيح من حديث أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة) يعني: أنه رآه يسوق جملاً أو ناقة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها)؛ لأن الرجل ناله جهد، ونالته مشقة شديدة، ومع ذلك فهو من تعظيمه لهذه الشعيرة يمشي خلف ناقته ولا يريد أن يركبها، وقد أنهكه التعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مشفقاً عليه: (اركبها)، فهذه من ضمن المنافع، فقال الرجل: (إنها بدنة) يعني: هذا هدي لبيت الله الحرام، فكيف أركبه؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبها)، فأذن له بذلك، فقال الرجل: إنها بدنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويلك أو ويحك اركبها)، فأمره بركوبها، وهذا دليل على أن الإنسان إذا احتاج لركوب البدنة ركبها، وإن احتاج لصوفها، أو إلى شرب لبنها، فله أن ينتفع بها إلى أن يصل إلى بيت الله الحرام.
وقد جاء في الحديث الآخر في صحيح مسلم قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً) يعني: إن احتجت إلى ذلك، وتعبت ومعك الجمل الذي أنت ذاهب به إلى بيت الله الحرام لتنحره هنالك، فلك أن تركبه بالمعروف إذا كنت محتاجاً، وأما إذا لم تكن محتاجاً فلا داعي للركوب.
قال سبحانه: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33]، والأجل المسمى: يوم الذبح، وأما قبل ذلك فلكم فيها منافع.(27/7)
وقت ذبح الهدي ومكانه
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] ومعنى محلها كأنه مأخوذ من إحلال المحرم، فكأن المعنى محل الشعائر، إما على المعنى الواسع وهو: طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، أو على المعنى الضيق وهو: مناسك الحج.
وقوله تعالى: {مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:33] المراد بذلك: طواف الإفاضة، يعني: بعد أن تحرم، وتطوف، وتسعى، وتقف يوم عرفة، وبعد أن تذهب إلى المزدلفة، وترجع إلى منى، وترمي الجمار، ترجع لتطوف بالبيت، فالآن تحل الحل الكبير، فبطواف الإفاضة يحل الإنسان الحل كله، فقالوا: المعنى: أن شعائر الله في الحج، من الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والسعي، تنتهي بطواف الإفاضة، فعلى ذلك يكون هنا محلها، أي: نهاية الإحلال من شعائر الحج ومناسكه.
وقال الإمام الشافعي: المقصود هنا بقوله تعالى: (محلها) البدن نفسها، يعني: مكان ذبحها، وأنها تذبح في الحرم، فمعنى قوله: {مَحِلُّهَا} [الحج:33] أي: إلى الحرم، وهذا بناء على أن الشعائر هي: البدن.(27/8)
تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً)
قال سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)) قرئت (منسَكا) وهي قراءة الجمهور، و (منسِكاً) بكسر السين وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف، والمعنى على القراءتين واحد، والمنسك له عدة معانٍ، وكلها داخلة تحتها، فمن معانيها: الشرائع يعني: جعلنا شريعة لكل أمة، وإن كانت كل الأمم مجتمعة على التوحيد، فإن كل الرسل أمرهم الله أن يدعوا إلى عبادة ربهم سبحانه، كما قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالكل يدعوا إلى دين واحد وهو: دين الإسلام والاستسلام لرب العالمين، والطاعة، والإذعان، والخضوع لله سبحانه وتعالى، ولكن جعل لكل منهم شرائع، وكيفيات مختلفة في حجهم وغير ذلك، وجعل لكل أمة منهم منسكاً.
ومن معاني المنسك: الذبح.
ومن معانيه أيضاً: الطاعة، أو طرق الطاعة، وكيفيتها.
وذكروا من معاني المنسك: أنه موضع الذبح.
وقالوا: المنسك: هو أصل المكان المعتاد للشيء، فالمناسك: هي الأماكن التي يعتاد الذهاب إليها في أوقات الحج.
وكذلك قالوا في معنى: (منسكاً): مذهباً، يعني: من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فكل أمة شرع الله عز وجل لهم كيفية في العبادة.
قال سبحانه: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34] أي يذكرون اسم الله عز وجل على بهيمة الأنعام، يعني: أنهم حين يرونها يكبرونه، وحين يذبحونها يسمونه، ويكبرونه سبحانه.(27/9)
الاستسلام في كل أمر لله
قال سبحانه: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34] أي: وإن اختلفت شرائع الأمم، فهؤلاء يزيدهم أوامر، وهؤلاء يضع عنهم آصاراً وأغلالاً، وغير ذلك، ولكن في النهاية فإن الجميع مأمورون بطاعة الله، وبعبادته على الدين الذي شرعه سبحانه.
{فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الحج:34] أي: فلا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
{فَلَهُ} [الحج:34] أي: وحده لا شريك له.
{أَسْلِمُوا} [الحج:34]، وهذا دين الإسلام الذي أمر الله به عباده، وأمر به الرسل أن يسلموا أنفسهم لله رب العالمين.
وعلى العبد أن يكون كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163]، فهنا أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر الأنبياء من قبله، أن تكون حياتهم كلها طاعة لرب العالمين، فخصص في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162]، ثم عمم بقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] أي: كل شيء في حياتي يكون لله رب العالمين، فالإنسان تكون حياته كلها عبادة لله سبحانه، بصلاة أو صوم، أو أي عبادة تعمل، سواء في قيامه أو في نومه فهو يعبد الله في ذلك، فهو ينام ليستريح فيقوم ليكمل عبادة رب العالمين سبحانه.
وكذلك إذا أشغل لعمله فهو يريد أن يتحرى الحلال، فيعبد الله عز وجل بطاعته، وذلك باجتنابه المحرمات، مستحضراً الخوف من الله سبحانه، فهذه أيضاً عبادة لرب العالمين سبحانه.
وكذلك يتعبد لله بصلاته، بصومه، بزكاته، بحجه، باعتكافه، بنذره، بجهاده، بأمره بالمعروف بنهيه عن المنكر، إذاً: يكون عمله كله عبادة لله رب العالمين، فقال تعالى هنا: {فَلَهُ} [الحج:34] أي: الإله الواحد لا شريك له.
{أَسْلِمُوا} [الحج:34] أي: استسلموا له، وسلموا إليه قلوبكم وأبدانكم، ووجهوا وجوهكم له وحده.
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34]، والإنسان المخبت هو: المطيع المتواضع، الخاشع لله سبحانه، وأصل الخبت هو: ما انخفض من الأرض، ومنه: الأرض المخبتة، وهذه أرض خبت أي: فيها انخفاض، فعلى الإنسان أن يتواضع ويذلل نفسه لله رب العالمين.
فقوله: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] أي: يبشر المتواضعين لله سبحانه.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله).
إن الله عز وجل يبشر هؤلاء هنا، وهم المتواضعون الخاشعون من المؤمنين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/10)
تفسير سورة الحج [34 - 36]
أمر الله تعالى جميع الأمم أن يوحدوه، وجعل لكل أمة منسكاً وعيداً ليذكروا اسم الله فيه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وأمر الله رسوله أن يبشر المخبتين بكل خير في الدنيا والآخرة، وهم الخائفون من الله الصابرون على أقدار الله، المقيمون الصلاة والمنفقون مما رزقهم الله.(28/1)
تفسير قوله تعالى: (ولكل أمة جعلنا منسكاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:34 - 36].
ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه جعل لكل أمة منسكاً أي: ذبائح يذبحونها وطاعات يفعلونها متقربين بها إلى ربهم سبحانه تبارك وتعالى، وكل أمة شرع الله عز وجل لهم عبادات يعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى بها، فالذبائح كانت لكل أمة من الأمم يتقربون لله عز وجل بذبحها.
والنسك يأتي بمعنى العبادة والطاعة لله سبحانه تبارك وتعالى، فالأمم كلها وإن اختلفت شرائعهم يتفقون في أمر توحيد الله سبحانه وعبادة الله وحده لا شريك له.
قال الله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34]، فالغرض من الذبح هو ذكر اسم الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34] الإله واحد فاعبدوه وحده لا شريك له، متقربين إليه بالصلاة، وبالذبح، وسائر الطاعات؛ فإذا أسلمتم لله عز وجل وأخبتم أي: أطعتم الله وتواضعتم وخشعتم لله سبحانه فلكم البشارة، قال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].(28/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)
هؤلاء المخبتون المتواضعون الخشع من المؤمنين من صفاتهم: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فذكر الله أربعة أوصاف لهؤلاء المخبتين المؤمنين المطيعين لله سبحانه تبارك وتعالى، فمن أوصافهم: أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، والوجل: شدة الخوف والرهبة من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن إذا ذكر الله يهتز قلبه ويقشعر جلده ويخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلم أنه ملاق ربه فاستعد ليوم الحساب والجزاء.
وقد حصر الله عز وجل هذا الوصف في المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:2 - 3]، وهنا ذكر هذه الأوصاف فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:35]، وقال الله سبحانه تبارك وتعالى في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] فالمؤمنون صادقون مع الله سبحانه يخافون ربهم، يقرءون القرآن فتقشعر جلودهم وأبدانهم، وتلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، فهم يعودون ويرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وكلما سمعوا ذكر الله اهتزت قلوبهم، فلما ذكروا الله ذكروا عذابه فخافوا، وذكروا رحمته فلانوا لله سبحانه تبارك وتعالى، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23].(28/3)
الصبر
ثم قال في هذه الآية: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35] هذا وصف آخر لهم، الصبر على ما أصابهم من أقدار الله سبحانه تبارك وتعالى، صبروا على الطاعة، وصبروا عن محارم الله سبحانه، وصبروا على القضاء والقدر، فما قدره الله عز وجل عليهم رضوا به، فهم راضون عن الله سبحانه، فلما كان عند وفاتهم رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولما لقوا ربهم يوم القيامة رضي عنهم ورضوا عنه، فقال هنا سبحانه: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35] والإنسان المؤمن مبتلى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى الرجل على قدر دينه؛ فإن كان في دينه شدة زيد له من البلاء، وإن كان في دينه رقة قلل له من البلاء) بحسب دين المؤمن يبتلى، فيزيد الله عز وجل بلاء الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ لأن درجاتهم عظيمة عند الله سبحانه، فيرفع درجاتهم بالصبر على هذا البلاء؛ لذلك الإنسان إذا رأى صاحب مصيبة ما يقول: هذا يستحق، انظروا ماذا عمل، فلعل هذا المبتلى يكون له أجر عظيم عند الله، ويكون له درجة لم يبلغها بعمله، فالله ابتلاه بالصبر، فالمؤمنون يصبرون على أوامر الله سبحانه، وعلى أقدار الله سبحانه، وعما نهى الله عز وجل عنه.(28/4)
إقامة الصلاة
قال الله: {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} [الحج:35] لم يذكر أنهم يصلون فقط، ولكن ذكر أنهم أقاموا الصلاة، يعني: يعدل صلاته ويستقيم عليها، فأقامها من إقامة القدح وهو الذي يكون في السهم، فيقيمه بأن يعدل الحديدة التي سيجعلها سهماً يرمي به، ولو كانت معوجة لا تصل إلى هدفها، فالصلاة إذا كانت معوجة، وإذا كانت فيها اختلاس يختلسه الشيطان من العبد، وإذا كانت الصلاة ينقرها الإنسان كنقر الغراب؛ فلم يقمها كما أمر الله عز وجل، بل نقص من صلاته حتى تضيع منه هذه الصلاة، فالمؤمن يقيم صلاته كما أمره الله سبحانه، ويستقيم عليها ويداوم عليها، ويحسن صلاته.(28/5)
الإنفاق
قال الله سبحانه: {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج:35]، فرزقهم الله عز وجل فعرفوا فضل الله عز وجل عليهم، وعرفوا أن هنالك من حرم فيعطون هذا المحروم، ولو شاء الله لحرمهم، فالإنسان المؤمن كيس فطن يتفكر ويتدبر ويتأمل، فالله أعطاني، وحرم فلاناً ولو شاء الله لعكس الأمر فأعطاه وحرمني، فبما أنه أعطاني فسأجود بما أعطاني الله سبحانه تبارك وتعالى، وأعطي هذا الإنسان المحتاج، والمؤمن موقن أن المال مال الله، والله جعل العباد خلفاء في الأرض كما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] إنسان يخلف غيره، ويخلفه غيره، فالناس خلفاء في الأرض، إنسان يعيش فترة يستمتع بهذه الدنيا ويعبد ربه سبحانه تبارك وتعالى، ثم يموت ويخلفه غيره حتى يرث الله الأرض ومن عليها سبحانه تبارك وتعالى؛ فإذا كان الإنسان مستخلفاً في الأرض وما هو مالك لهذه الأرض، بل يعيش فيها فترة من الزمن، ثم يمضي ويتركها، ويأتي غيره، والناس يخلف بعضهم بعضاً على هذه الأرض، والمال الذي مع الإنسان سيتركه يوماً من الأيام لغيره؛ فلينفق من هذا المال حيث يريد الله سبحانه تبارك وتعالى، فلينفق على نفسه وعلى عياله، وعلى زوجته، وعلى الأقربين، لينفق في طاعات الله سبحانه تبارك وتعالى، وليؤد زكاة ماله، وليؤد الحقوق التي فرضها الله عز وجل عليه من واجبات ومستحبات.(28/6)
الخشية من الله
المؤمنون يعرفون الحقوق وينفقون فيما يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى، فمدحهم الله بهذه الصفات، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الصفات يخشعون لذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، وعندما تتلى عليهم الآيات يبكون، وكان قدوتهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، عندما كان يقرأ القرآن يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من خوفه من الله عز وجل، ومن بكائه وكتمه لهذا البكاء، فيسمع الصوت من صدره، وليس من فمه صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يسمعون لصدره أزيزاً كأزيز المرجل.
وجاء في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة) يعني: يوم من الأيام رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الثاني سأل، ثم الثالث سأل، وكان يكره السؤال صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، فلعل الإنسان يسأل عن شيء فيحرم على الناس من أجل مسألته، ومن كثرة التدقيق والأسئلة لعلهم يسألون عن أشياء لا يحل لهم أن يسألوا عنها، مثل الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أين أبي؟) أبوك قد مات فلماذا تسأل هذا السؤال؟ فلما سأل عن هذا قال له: (في النار)، فلو قال الثاني: أين أنا ويجيء وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا في النار فتكون الفضيحة في الدنيا، فلما أكثروا من السؤال غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام ووقف على المنبر صلوات الله وسلامه عليه فقال للناس: (لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا) وكان هذا القول منه قول غضب، والله عز وجل أوحى إليه بذلك، يعني اتركهم يسألوا وأجبهم عن الأسئلة التي يسألون عنها بما فيها، فلما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذه مصيبة من المصائب جلسوا يبكون، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فلما سمع ذلك القوم أرموا ورهبوا أن يكون أمر قد حضر) يعني خشوا أن تكون مصيبة تحضرهم في هذا المقام، فرجعوا إلى أنفسهم وسكتوا، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل إنسان لاف رأسه في ثوبه يبكي)، انظروا عقل الصحابة رضوان الله عليهم وإيمانهم، لما قال لهم: اسألوا، علموا أنهم أخطئوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فجلسوا يبكون فيما بينهم وبين الله عز وجل، وليس رياءً، بل كل واحد مغطي رأسه بثوبه يبكي بينه وبين الله عز وجل، نادم على ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذه أحوال الصحابة رضوان الله عليهم، ولعل بعضهم يخطئ في الشيء فيقوم الباقي يذكرونه فيرجعون إلى الله عز وجل تائبين منيبين إليه خاشعين، فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وهنا ذكر المؤمنين فقال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج:35]، ومدح الله عز وجل الذين يدخلون في هذا الدين من قسيسين ورهبان بأنهم يعرفون أن هذا الدين هو الحق، ويعرفون ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستكبرون؛ فإذا عرفوا الحق بكوا من ذلك، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83]، وهؤلاء هم الذين عرفوا بشارات النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا بعثته، فلما سمعوا ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا صدق ذلك من كتبهم، فدخلوا في هذا الدين ولم يستكبروا، أما غيرهم ممن رفضه فقد استكبروا عن دين الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال الله عن هؤلاء: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:83 - 84] لماذا لا نؤمن وندخل مع القوم الصالحين؟ فمدحهم الله عز وجل على خشوعهم، وعلى إخباتهم، وعلى دخولهم في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه الحق، وكان لهم أجران وليس أجراً واحداً، أجر على أنهم آمنوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وأجر على أنهم آمنوا بنبينا صلوات الله وسلامه عليه.(28/7)
تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)
قال الله سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] البدن: جعلها الله عز وجل من الشعائر، والبدن من التبدين، وكأن البدن مأخوذ من البدانة، وهي تطلق على الإبل، وكذلك تطلق تجوزاً على البقر، يقال: بدن الرجل إذا سمن، ويقال: بدَّن الرجل إذا كبر في السن، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد بدنت) يعني: كبرت في السن، وقد قال ذلك وهو في سن الستين عليه الصلاة والسلام، فكان في الصلاة ينزل ببطء ويقوم ببطء، فقال للناس: (إني قد بدنت فلا تسبقوني بالركوع والسجود) أي: راعوا عند نزولي فلا تنزلوا قبلي؛ ولذا يجب على المصلي ألا يسبق الإمام بركوع ولا بسجود، ولا يزعم أنه بذلك خاشع لله سبحانه تبارك وتعالى، وكان الصحابة ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع جبهته على الأرض في السجود فيهوون في السجود، فلا ينزل أحدهم قبل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن الخطأ الذي يقع فيه كثير من إخواننا أنه لا يراعي الإمام الذي يكون ضعيفاً في نزوله أو في قيامه، فترى المأموم يسجد على الأرض والإمام ما قد سجد، فلا تكن مسابقاً للإمام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، وكذلك لا ترفع بصرك إلى السماء، ولا تسبق الإمام في الرفع ولا في السجود، ولكن كن بعد الإمام، وأيضاً لا تتخلف عن الإمام كثيراً، فهذا كله من الخطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كبر فكبروا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا) فالفاء هنا للترتيب والتعقيب، فإذا سجد الإمام فاسجد بعده مباشرة، وإذا رفع ترفع بعده مباشرة، وإذا سلم سلم بعده بلا تأخير، فأنت في صلاة الجماعة مع إمام ولست وحدك، وإذا صليت وحدك فأطل ما شئت، لكن وأنت مع الإمام فلا تخالف الإمام في ركوع، ولا في سجود.
قلنا: البدن تطلق على الإبل، وقد تطلق على البقر، فهذه البدن جعلها الله عز وجل من شعائر الله.
قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] يعني: بهيمة الأنعام لكم فيها خير، فالإبل تركبونها، وتأخذون من ألبانها، وتأخذون من أوبارها، وتنحرونها لله سبحانه.
قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] يعني: منافع دينية ودنيوية، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] الأصل في البدن أنها الإبل، فذكر كيفية نحرها، فقال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] فينحر الجمل وهو قائم، والبقر والغنم تذبح مضجعة على الجانب الأيسر، وأنت تمسك السكين بيمينك وتذبحها، لكن الإبل تنحر قائمة، هذه هي السنة فيها، والنحر هو الطعن بنصل في اللبة يعني: في أسفل رقبة الجمل، وهذه الطعنة تقطع عروق القلب وقد تصل إلى القلب نفسه، فيسرع إزهاق الروح بذلك، وأما الذبح فيقطع العروق التي في الرقبة، وهي عروق القلب، ويقطع الحلقوم والمريء والودجين اللذين في جانبي الرقبة.
إذاً: السنة في الإبل النحر وهي قائمة واقفة صواف كما ذكر الله عز وجل، {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] بمعنى: وهي قائمة على ثلاثة قوائم معقولة اليد اليسرى، فإذا أراد نحر الجمل يثني يده اليسرى ويربطها، فيقف على رجلين واليد اليمنى، فإذا طعنه لا يتحرك الجمل، ويسقط على جنبه.
قال الله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] اذكروا اسم الله يعني: تسمون الله سبحانه تبارك وتعالى، أو تذكر اسمه فتقول: باسم الله أو تقول: الله أكبر، فتذكر الله عز وجل وأنت تنحر الجمل، وكذلك وأنت تذبح البقر.
وفي صحيح مسلم أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بدنته باركة يعني: معه ناقة ينحرها وهي باركة فقال: (ابعثها قياماً مقيدة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم) وكان ابن عمر يفعل ذلك رضي الله عنه، فعندما كان في شبابه وقوته كان يأخذ الحربة بيده فينحرها في لبتها، فلما أسن عبد الله بن عمر كان يصعب عليه ذلك، بسبب أنه ضعف لكبر سنه، فكان ينيخ الجمل وينحره وهو قاعد.
والنحر أو الذبح للأضحية أو الهدي لا يكون إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ولا يجوز قبل طلوع الشمس بإجماع العلماء في الأضحية.
والأضحية لا تكون إلا بعد صلاة العيد.
قال الله سبحانه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج:36] أي: إذا سقطت على الأرض تأكل منها، قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] (فكلوا منها) هذا أمر من الله عز وجل، وحمله جماهير العلماء على الاستحباب، فيستحب أن تأكل منها، وأن تطعم منها.
والقانع: هو الذي قنع بالسؤال، يعني: يمد يده ويسأل، والمعتر: هو الذي يعتريك ويمر بك لتراه فتعطيه على وجه الهدية، ومن هنا أخذ العلماء أنك تطعم البائس الفقير ثلثاً، وتهدي للذي لا يسأل ثلثاً، وثلث تأكل أنت منه، فتقسمها أثلاثاً، وما هو شرط أن تكون أثلاثاً متساوية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(28/8)
تفسير سورة الحج [36 - 38]
من نعم الله أن شرع للمسلمين شعيرة ذبح الهدي والأضاحي، ليذكروا اسم الله عليها، ويأكلوا منها ويطعموا الفقراء ويشكروا الله، والله لا يقبل منها إلا ما كان خالصاً له، فإنه لا يتقبل إلا من المؤمنين المتقين، فهؤلاء لهم البشرى في الدنيا والآخرة، والله يتولاهم ويحفظهم ويدافع عنهم في الدنيا والآخرة.(29/1)
تفسير قوله تعالى: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:36 - 38].
في هذه الآيات من سورة الحج يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن نعمة من نعمه سبحانه تبارك وتعالى على عباده، وهي البدن، فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36]، والبدن هي الإبل، وتطلق أيضاً على البقر، فجعل الله عز وجل بهيمة الأنعام نعماً لعباده يأكلون منها، ويركبون منها، ويستخدمون أشعارها وأوبارها وأصوافها أثاثاً ومتاعاً إلى حين, وجعلها لهم من شعائر الحج فقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36]، شعار جمع شعيرة، والشعيرة المعلم والمنسك، فهي من بعض شعائر الله، ومن المناسك العظيمة في أيام الحج.
قال: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] أي: لكم فيها منافع دنيوية، في بيعها وشرائها، والاستفادة من ألبانها ومن وبرها ومن نسلها، وكذلك ركوبها حتى تنحر في محلها.
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36]، هذا فيه بيان كيفية نحر الإبل، فإنها تنحر بأن تطعن في لبتها بسكين ونحوه وهي قائمة معقولة اليد اليسرى، يعني: يدها اليسرى مربوطة مثنية إلى ركبتها التي في يدها، بحيث تكون واقفة على ثلاث قوائم فقط، على اليد اليمنى والرجلين، أما اليد اليسرى فتكون مربوطة مرفوعة، فإذا طعنها في لبتها تسقط على الأرض، فهذه من شعائر الله سبحانه تبارك وتعالى، ونحرها يكون على هذه الصفة.
والسنة في الإبل أن تنحر، والسنة في البقر والغنم أنها تذبح، ويجوز في البقر النحر.
((فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)) يعني: سقطت على الأرض بعدما طعنت.
قال الله عز وجل: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] وفي الآية الأخرى قال: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] فالبائس: الإنسان الذي في ضيق وفي شدة ونزلت به مصيبة من مصيبات الدهر، فأطعموا هذا الإنسان المحتاج، وأطمعوا الفقير، والقانع هو الذي قنع بالسؤال، والمعتر الذي لم يسأل، فكأنك تهدي لهذا المعتر، وتعطي الفقير السائل، وتأكل منها، فتقسم الأضحية أثلاثاً، ولا يشترط أن تكون الأثلاث متساوية، وإذا كان أكثرها في الصدقة هذا الأفضل.(29/2)
تفسير قوله تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها)
قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] كان أهل الجاهلية يطلون الكعبة بدماء البدن، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، والدم نجس، ولا يجوز للإنسان أن يلطخ الكعبة بمثل هذه النجاسات، فقال سبحانه تبارك وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يطلون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمين أن يفعلوا ذلك فنزلت هذه الآية.
وقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ} أي: لن يصل إلى الله سبحانه، ولن يستفيد الله سبحانه تبارك وتعالى من ذلك شيئاً، والله الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وهو مستغن عن العباد وعبادتهم، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
قال الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37]، قال ابن عباس: أي: لن يصعد إليه، فلا اللحوم ستصعد إلى السماء، ولا الدماء ستصعد إليه، والذي يصل ويصعد إليه التقوى والعمل الصالح، فالله يتقبل عملك الصالح، ويكتب الله عز وجل في كتاب ما عملت من ثواب، أما اللحم أو الدم فلا يرتفع إلى الله، وإنما يرفع ثوابك إلى الله، ويثيبك عليه الله عز وجل بجنته وفضله.
والذي يصل ويرتفع إلى الله عز وجل التقوى من العباد أي: ما أريد به وجه الله سبحانه تبارك وتعالى، فذلك الذي يقبله، وذلك الذي يثيب عليه سبحانه تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) يعني: إذا عملت العمل بغير نية فلن يقبله الله سبحانه، وإذا عملت العمل بنية صالحة خالصاً لرب العالمين قبله ورفعه إليه سبحانه، ونماه وزاده لك.
قوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} [الحج:37] هذه قراءة الجمهور: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ)) [الحج:37]، وقراءة يعقوب: (لن تنال الله لحومها ولا دماؤها ولكن تناله التقوى منكم) فأنث الفعل باعتبار اللحوم.
وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] أي: من الله عز وجل عليكم بأن سخر لكم بهيمة الأنعام، والله عظيم سبحانه تبارك وتعالى، والإنسان أضعف بكثير من البقرة التي يذبحها، ومن الجمل الذي ينحره، ومع ذلك سخر الله عز وجل هذا الجمل ينقاد لناحره، يأخذ بلجامه، ويسوقه ثم يطعنه، فالله الذي سخر ذلك، ولو شاء ما استطعت أن تغلبه، وقد يهجم الذئب على الإنسان وهو أضعف من الجمل ولا يقدر عليه الإنسان، ويخاف منه، ويفر منه، وكذلك يخاف من النمر والفهد والأسد، ولا يقدر على مواجهتها، فلو شاء الله لسلط الجمل عليه كما سلط عليه هؤلاء، ولكن الله سخر وذلل الجمل، فاعلم أن الله من فضله ومن رحمته سخر لك بهيمة الأنعام، ولو شاء لصعبها عليك ولما جعلها منقادة ميسرة مذللة لك.
قال الله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] أي: هذا التسخير العظيم لتتأملوا في تدبير الله عز وجل للكون، وأن التدبير إلى الله وليس إليكم، وتدبيره بحسب ما يريده الله العزيز القدير سبحانه.
وقوله: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، فمن السنة عند أن تذبح أو تنحر أن تكبر الله سبحانه تبارك وتعالى، فسخر لكم هذه الأنعام لتذبحوها وتنحروها مكبرين الله، مسمين اسم الله عز وجل عليها، قال: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] يعني التسمية، وقال هنا: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، فتجمع بين التسمية والتكبير، تقول: باسم الله، والله أكبر.(29/3)
معنى قوله تعالى: (لتكبروا الله على ما هداكم)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37]، تكبر الله سبحانه تبارك وتعالى شاكراً إياه سبحانه على نعمه العظيمة، وأعظم النعم أن هداكم للإسلام، وأن هداكم ووفقكم لهذه الشعائر، وأن هداكم لذبح بهيمة الأنعام على اسم الله عز وجل ولم تشركوا به غيره.
قال: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37] الهدى فضل منه.
ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:37] فأنتم أحسنتم في ذلك، فالبشارة من الله سبحانه تبارك وتعالى لعباده الذين أحسنوا، فلهم الحسنى وزيادة، لهم جنة رب العالمين، ولهم زيادة النظر إلى وجهه سبحانه تبارك وتعالى، فبشر المحسنين بالفضل العظيم منه سبحانه تبارك وتعالى.(29/4)
من أحكام التسمية عند الذبح
في الصحيح عن أنس قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين) والكبش الأملح الذي لونه أبيض وفيه سواد.
وقوله: أقرنين، أي: فيهما قرون، قال: (ورأيته يذبحهما بيده صلوات الله وسلامه عليه، ورأيته وضعه قدمه على صفاحهما) يعني: وضع قدمه على صفحة العنق حتى يثبته على الأرض بحيث يتمكن من ذبحه، قال: (وسمى وكبر)، ففيه أن السنة في الذبح أن تسمي الله عز وجل وتكبر.
قال بعض العلماء: التسمية واجبة، وأكثر العلماء أنها مستحبة، وقال بعضهم: لابد أن يسمي الله بهذا الاسم: باسم الله، وجمهور العلماء أنه لا تتعين التسمية بذلك، ويكفي أي اسم من أسماء الله عز وجل الحسنى، مثل باسم الرحمن، أو يقول: الله أكبر فقط، لكن السنة أن يجمع بين اللفظين فيقول: باسم الله، والله أكبر.
ومن ترك التسمية عند الذبح متعمداً اختلف العلماء هل تؤكل ذبيحته أو لا تؤكل؟ فإن كان مسلماً ونسي التسمية فالراجح أن ذبحه صحيح، وتؤكل ذبيحته، لكن إذا تعمد ذلك فذهب البعض من العلماء إلى أنها لا تؤكل، وذهب البعض الآخر إلى أنه إذا تعمد ذلك متأولاً فتؤكل ذبيحته، وهذا قول الشافعي، وقال الإمام أحمد: لابد أن يسمي الله عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121]، فنهى من الأكل مما لم يذكر اسم الله عز وجل عليه.
فالأحوط أنه لابد أن يسمي أو يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، ولو بالتكبير فقط.
وهل يسمي ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ كره العلماء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، ولكن يذكر الله عز وجل وحده فقط، فهذا محل طاعة لله عز وجل، فيسمي الله عز وجل الذي أمره بذلك: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:36]، وما قال: اذكروا اسم أحد مع الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمستحب ذكر اسم الله وحده لا شريك له، فيقول: باسم الله والله أكبر، إظهاراً لشعيرة التكبير، وأيضاً لعلك ترى في نفسك قدرة وقوة عندما تذبح هذه الذبيحة، والإنسان قد يتعاظم في نفسه عندما قدر على هذه الذبيحة، فيذكر نفسه بأن الله أكبر سبحانه تبارك وتعالى، فمهما استطعت على ذلك فالله أكبر منك، والله هو الذي مكنك من ذلك، ففي التسمية توحيد الله عز وجل، وفي التكبير تواضع من العبد لربه الذي سخر له ذلك.
وهل يقول الذابح: اللهم تقبل مني؟ بعض العلماء أجاز ذلك، والبعض كرهه، فكره ذلك الإمام أبو حنيفة، والجمهور على الجواز وهو الراجح؛ لأنه جاء في الصحيح من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذبح الكبشين قال: (باسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد)، ثم ضحى به صلوات الله وسلامه عليه، ففيه أنه دعا ربه أن يتقبل منه، وأيضاً إبراهيم وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رفعا قواعد البيت كانا يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].(29/5)
تفسير قوله تعالى: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] بعد أن بشر المحسنين بالجنة، بشرهم في الدنيا بأنه معهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال هنا: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالله معهم في الدنيا وفي الآخرة، والله يدفع عنهم، والله يدافع عنهم، وهنا قراءتان: ((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عمر ويعقوب: (إن الله يدفع عن الذين آمنوا)، فإذا جاء الكفار دافع الله عز وجل عن المؤمنين، وإذا نزلت البلية وجاءت المصيبة دفع الله عن المؤمنين.
{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38] إذا علمنا سبب النزول عرفنا ما هي العلاقة بين أول الآية وآخرها، قالوا: نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، فأراد بعض المؤمنين في مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويهرب بعد ذلك، وأراد بعضهم أن يغتال بعضهم أو يغدر بهم في أموالهم، ويحتال عليهم، فنزلت هذه الآية تحذر المؤمنين، وقد ذكرنا أن هذه السورة العظيمة سورة الحج مكية ومدنية، فيها آيات مكية، وفيها آيات مدنية، وهي من السور التي جمعت بين القرآن المكي والقرآن المدني، وهذه الآية يطمئن الله عز وجل المؤمنين بأنه يدافع عنهم، فلا تفعلوا ذلك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ} [الحج:38] كثير الخيانة، {كَفُورٍ} [الحج:38] يكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، ويجحد نعم الله سبحانه تبارك وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينصب للغادر لواء عند استه بقدر غدرته يقال: هذه غدرة فلان) يعني: يوم القيامة يفضح الإنسان الغدار، فإذا كان المؤمنون في أمان مع الكفار فلا يجوز أن يغدروا بهم فيأخذوا أموالهم، أو يقتلوهم غيلة وغدراً وخيانة، وإنما القتال يكون في الجهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] حتى يعلموا أنه سيقاتلهم ثم يحدث القتال بين المؤمنين وبين الكفار، أما الغدر والخيانة فالله عز وجل نهى عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه كان في مكة يؤذى عليه الصلاة والسلام، ويفعل المشركون أفضع أنواع الأذى فيه وفي أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كانوا يأتمنونه على أموالهم، فكان عنده ودائع لهؤلاء الكفار في بيته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد أن يهاجر صلوات الله وسلامه عليه لم يأخذ هذه الودائع والأمانات ويذهب بها ويقول: أخذنا منهم بما فعلوه، مع أنهم جهزوا لقتله صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً، وجلعوا من كل قبيلة رجلاً معه سيف ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم بضربة رجل واحد، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالأمانات لـ أم أيمن ولـ علي بن أبي طالب؛ حتى تعاد الأمانات إلى أهلها، وخرج مهاجراً إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه ولم يأخذ شيئاً من أموالهم وهم عازمون على قتله صلى الله عليه وسلم! قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك).
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/6)
(تفسير سورة الحج [39 - 40]) للشيخ: (أحمد حطيبة)
(عدد القراء 19)
عناصر الموضوع
1
تفسير قوله تعالى: (أذن للذين ي(30/1)
تفسير سورة الحج [40 - 45]
بدأ تاريخ الدعوة الإسلامية بالصبر والكف عن القتال، حماية للدعوة، وصوناً عن الأذى، ولما تمادى الباطل في غيه، وصلب عود الحق، أذن الله لعباده وشرع لهم جهاد أعدائه؛ لردعهم، وكفهم عن تماديهم وغرورهم، ووعد الله عباده المؤمنين بالنصر والتمكين إن نصروا دين الله وتمسكوا بكتابه.(31/1)
تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقد قال الله عز وجل في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:39 - 41].
لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى عن المؤمنين أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وهاجروا في سبيل الله سبحانه بعدما أوذوا وفتنوا وظلموا، فأذن لهم الله سبحانه وتعالى بأنهم مظلومون، وأن الله عز وجل ناصرهم.
فقال تعالى: ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) أي: هؤلاء المؤمنون المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، ولكنهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: ربنا الله.
ثم قال سبحانه: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ)) وكأن هذا كالإعلام بفرض الجهاد على المؤمنين، ولأمرهم بدفع الكفار، فإنهم لو تركوا هؤلاء الكفار وما يصنعون بالمؤمنين من أذى ولا يردعهم شيء لزاد طغيانهم في الأرض، فلا يقدر عليهم أحد، ولكن الله سبحانه يدفع أمثال هؤلاء الكفار بالمؤمنين المجاهدين في سبيله، فالجهاد والدفع شريعة ربنا سبحانه وتعالى في الأديان السابقة، وفي دين الإسلام.
فالأنبياء يدعون أقوامهم إلى طاعة الله رب العالمين، فيكذب الأقوام، فيشرع الله عز وجل للمؤمنين على ألسنة أنبيائه أن جاهدوا في سبيل الله، فيجاهدون، فينصرهم الله سبحانه وتعالى، فلولا ذلك الجهاد لتمكن الكفار من المؤمنين، ولكان الكفار هم الذين يسودون الأرض، ويفعلون ما يحلو لهم، ولكن الله عز وجل فرض الجهاد؛ تأديباً لهؤلاء الكفار، وإعزازاً لدينه، وإظهاراً للمؤمنين ولشعائر دينه سبحانه وتعالى، ولولا ذلك لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، فكأن الله عز وجل شرع الجهاد في الأديان السابقة، فجاهد المؤمنون مع أنبيائهم الكفارَ، فجاهدوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومع غيره من الأنبياء.
يدفع الله بالجهاد الناس بعضهم ببعض، فيكف به شر الأشرار وكيد الكائدين لدين رب العالمين، وينصر الله عز وجل دينه، فيتمكن العباد المؤمنون مع أنبيائهم من عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40]، الصوامع: أماكن العبادة التي كان يتعبد فيها الرهبان، وهي جمع صومعة، وكانت مختصة برهبان النصارى.
والمعنى: أنه لولا جهاد الكفار لما تمكن المؤمنون من النصارى في عهد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أن يعبدوا ربهم سبحانه وتعالى، ولما تمكن المؤمنون الذي كانوا مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من عبادة ربهم سبحانه وتعالى وهكذا.
فلولا فرض الجهاد ودفع الله عز وجل الكفار بالمؤمنين {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40].
ثم يأتي وعد الله سبحانه بقوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]، وهذا النصر مقيد بأسبابه التي منها: قوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وغير ذلك من أسباب كالتوكل على الله سبحانه.
{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أي: أن الله قوي لا يغلبه شيء، وهو العزيز الغالب الذي لا يقهر، فلا يقدر أحد على أن يعترض على أمره؛ لأنه مهما اعترض الإنسان ومهما جحد فإنه يأتي عليه قضاء الله وقدره، فيذله الله سبحانه تبارك وتعالى ويؤدبه، ويرجعه إلى التراب حقيراً ويعذبه ربه سبحانه، وهو لا يملك أن يدفع عن نفسه شيئاً؛ لأن الله قادر على كل شيء، فهو القوي العزيز سبحانه.(31/2)
تفسير قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة)
قال الله سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، أي: من صفات المؤمن أنه إن مكنه الله عز وجل أظهر دين الله سبحانه وتعالى، وعامل الخلق كلهم بالعدل الذي شرعه الله سبحانه، فلا يظلم أحداً؛ لأنه يخاف من الظلم، بعد أن عرف أن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً، قال صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فلا يحل للمؤمن أن يظلم أحداً، وإنما يحكم بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى، فيدعو إلى دين الله سبحانه، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهذه هي صفات مجتمع الإسلام العظيم.(31/3)
شروط التمكين في الأرض
المؤمنون يمكنهم الله عز وجل في الأرض، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} [الحج:41]، فهم لا يستعلون على غيرهم ولا يتجبرون ولا يطغون ولا يبطرون، ولكنهم يقيمون الصلاة.
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، فهذه علاقة مع الله سبحانه تبارك وتعالى، وعلاقة مع الخلق ذكرها لنا ربنا سبحانه تبارك وتعالى هنا، فعلاقتك مع الله أن على بدنك واجباً، وعلى مالك واجباً، ومن علاقتك مع الله عز وجل إقامة الصلاة، وتأدية الحج وجميع العبادات التي فرضها الله سبحانه من صيام، وجهاد في سبيله، وغير ذلك.
فمن صفات المؤمنين أنهم يقيمون الصلاة التي هي أعظم أركان الدين، فيقيمونها، ليس بأنهم يصلون فقط، وإنما هم يصلون ويأمرون غيرهم بهذه الصلاة كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولا يوجد في المجتمع المسلم أحد لا يصلي، إلا أن يكون غير مكلف، كأن يكون مجنوناً أو صغيراً، أو تكون امرأة حائضاً أو نفساء، أما كون المجتمع المسلم يوجد فيه من لا يصلي فلا؛ لأن الذين تمكنوا في الأرض لهم السلطان ولهم الحكم في الأرض، بشرط أن يقيموا الصلاة، وأن يكون شغلهم الشاغل أن يكون الناس مطيعين لرب العالمين سبحانه تبارك وتعالى؛ وذلك بأن يقيموا الصلاة ويأمروا الناس بالصلاة والمحافظة عليها، ويراعوا حدود الله عز وجل في ذلك.
فقوله تعالى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] أي: بذلوا أموالهم، وأمروا الناس بذلك، فهم في أنفسهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ومع الخلق يأمرونهم بالمعروف أي: جنس المعروف، وينهونهم عن المنكر، أي: جنس المنكر، فيأمرونهم بالصلاة، وبالزكاة، وينهونهم عن معصية الله سبحانه تبارك وتعالى.
فإن المؤمن إذا مكنه الله سبحانه من أن يكون حاكماً أو يكون سلطاناً فإنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقول بالحق أينما كان، وينتظر الأجر من الله سبحانه، ولا ينتظر النتيجة من الناس، مهما بلغ الناس، استجابوا أو لم يستجيبوا؛ لأنه فعل ما يجب عليه من أمر الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] أي: مرجع الأمور إلى الله، والرجوع إلى الله؛ ليحاسب العباد على ما صنعوا وما فعلوا.(31/4)
حرية الإنسان مقيدة بضوابط الشرع
إن مجتمع الإسلام فيه الحرية المقيدة بطاعة الله سبحانه، ولا يوجد في الإسلام حرية مطلقة بحيث إن الإنسان يفعل ما يشاء بدون ضوابط، وإنما حريتك محدودة فيما أباحه لك ربك سبحانه، والإنسان العاقل يتأمل في ذلك، فيعرف قدر هذا الإسلام العظيم، وقدر هذا الدين العظيم.
إذاً: ليس للإنسان أن يفعل ما يريد، فليس من حقه أن يطلع على ما يريد، أو يتجسس على الجيران وينظر إلى العورات، وإذا اعترض عليه أحد قال: أنا حر، أعمل ما أشاء، وإنما يقول لك الدين: لا، أنت لست حراً، وليست لك حرية إلا أن تنظر إلى ما أحل الله عز وجل لك، فإذا نظرت إلى ما حرم الله عز وجل عليك، عاقبك الله في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فبالتعزير، فيعزر الإنسان الذي يصنع ذلك.
وأما في الآخرة فبالنار والعياذ بالله، ولذلك يجعل الله في قلب الإنسان ما يخيفه ويمنعه من الوقوع في الحرام، فلا يتأذى غيره به.
فلو قال شخص: أنا حر، ومشى في الشارع رافعاً صوته ويسب ويعمل ما يريد لقال له الإسلام: لا، لست حراً في ذلك، لا ترفع صوتك فتؤذي غيرك، فإذا فعلت ذلك عزرك الحاكم، وعزرك القاضي؛ لأنك تؤذي غيرك، وحريتك لا تعني أن تؤذي غيرك، ولكن كونك تأكل أنت حر، ومع ذلك بدون إسراف قال عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، فأنت مقيد بعدم الإسراف في الأكل والشرب أيضاً، كذلك تأكل وتشرب مما أحل الله عز وجل لك، وليس مما حرمه الله سبحانه، فتجد أن الإسلام يعطيك حرية، ولكنها مقيدة بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى، فأما الحرية المطلقة بحيث تعمل الذي تريده، فلا.
وانظر إلى الإنسان عندما يصل إلى الحرية المطلقة التي يريدها فإنه في النهاية يلغي شريعة ربنا سبحانه، ويشرع لنفسه ما يريد، ولا يحكمه في ذلك إلا شهواته وشبهاته، وما يريده من أسباب القوة، حتى لو ضيع غيره.
فالإنسان عدو لنفسه ولزوجه ولولده.
فإذا نظر إلى شهواته فإنه ينظر إلى مصلحته، ولا يهتم بغيره، ولكن الإسلام جاء ليقيدك بحدود الله سبحانه، فتلك حدود الله فلا تعتدوها.
فلا تتعدى الحلال فتقع في الحرام، ولا تقرب من الحرام وإلا أوشكت أن تواقعه وتقع فيه.
فحدود الله عز وجل عظيمة، تجعل الإنسان المسلم يستشعر أنه عبد لله سبحانه وتعالى، ويستشعر أنه يحب غيره ويحترم غيره، وأن له حقوقاً وعليه واجبات، كما أن لغيره حقوقاً وعليه واجبات.
ولذلك المجتمع المسلم يعيش في تكافل وفي احترام ومحبة، وفي حرية مقيدة بشرع الله سبحانه تبارك وتعالى.
وأما الإنسان الكافر فلا شيء يحده، فإذا به يخرج عن دين الله سبحانه، ويريد أن يأخذ ملاذ الدنيا جميعها، فتستعبده شهواته شيئاً فشيئاً، فيحصل على المال ولا يشبع، ويحصل على شهوات الجنس ولا يشبع، ويحصل على شهوات الدنيا إلى غاية النهاية ولكنه يجد نفسه مهموماً ولا يجد في الدنيا راحة، فيريد الموت، فيبدأ الأطباء يخترعون له الموت المريح، ويقولون: إن من حق الإنسان أن يموت موتاً مريحاً، ويصنعون له أدوات للموت؛ ليختار لنفسه كيف يموت، ومتى يموت.
فلو ترك الإنسان ونفسه فإنه في النهاية ينتحر ويضيع نفسه ويفني نفسه بنفسه، هذا لو ترك الإنسان وحده، ولكن تأتي شريعة رب العالمين سبحانه لتحافظ له على حياته وعلى بقائه، وعلى دوام الإنسانية، حتى يأتي أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.(31/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} [الحج:42] يعني: أنت لست أول رسول يكذبه قومه عليه الصلاة والسلام، فإن يكذبك هؤلاء القوم فقد كذبت قبلهم أقوام: قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وكل قوم أرسل الله عز وجل إليهم نبيهم ورسولهم عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الله.
فقد رأينا كيف دعا نوح قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجب له إلا عدد قليل جداً من هؤلاء الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد، قال تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فالذين ركبوا معه السفينة عدد قليل.
وقد نصره الله عز وجل، ونصر من معه من المؤمنين، وأغرق الأرض بمن عليها، فالله سبحانه كأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: نحن نصرنا نوحاً ولم يكن معه إلا عدد قليل، ولكنه صبر وثابر فنصرناه في النهاية.
وكذلك عاد، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] أي: أرسلنا هوداً إلى قومه يدعوهم إلى الله سبحانه، فكذبوه، وقد أنعم الله عز وجل عليهم بالنعم العظيمة، فقال لهم نبيهم عليه الصلاة والسلام: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:128 - 130] يعني: أنهم في غاية القوة والجبروت، وبدلاً من أن يعبدوا ربهم الذي مكنهم استكبروا على خلق الله سبحانه، عصوا وأبوا إلا العناد والاستكبار، فجاءهم عذاب الواحد القهار سبحانه تبارك وتعالى، فإذا به يرسل عليهم حاصباً، أي: ريحاً تقتلع هؤلاء القوم، فجعلهم كأعجاز نخل خاوية.
وكذلك ثمود، فقد أرسل إليهم صالحاً يدعوهم إلى الله سبحانه، فطلبوا منه آية يرونها بأعينهم، وانتقوا هذه الآية، بأن تكون ناقة تخرج ومعها فصيلها، والقصة معروفة، فالله عز وجل أعطاهم هذه الآية، فلم يصبروا لأمر الله، ولم يصدقوا رسولهم عليه الصلاة والسلام التصديق الذي يفترض عليهم؛ لأنهم رأوا هذه الآية، وعرفوا أنها آية من عند الله، ولكن مع ذلك لم يدخلوا في دين هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى حاكياً ذلك: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ * فَعَقَرُوهَا} [الشعراء:155 - 157]، فلما عقروا هذه الناقة أخبر الله عز وجل أنهم أصبحوا نادمين، ولم ينفعهم ندمهم، وقال لهم رسولهم عليه الصلاة والسلام: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65] فهددوا رسولهم إذا لم يأت العذاب بعد ثلاثة أيام، وانتظروا ثلاثة أيام وإذا بالعذاب يأتيهم، فما نفعتهم توبة، وما نفعهم ندم، وأخذهم الله سبحانه وتعالى.
إذاً: قوم نوح عليه السلام أغرق الله عز وجل الأرض جميعها بسببهم، وقوم عاد كانوا في جنوب الحجاز، وقوم ثمود في شمال الحجاز.
وكان الله عز وجل يقول لأهل مكة: تدبروا شمالكم وجنوبكم وجميع الأرض قد أهلك الله عز وجل الكفار، أفلا تعتبرون؟!(31/6)
تفسير قوله تعالى: (وقوم إبراهيم وقوم لوط)
قال الله تعالى: {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ} [الحج:43]، فقد ناظر إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام النمرود ودعاه إلى الله، بعد أن قال عن نفسه: إنه الرب، وقال: أنا أحيي وأميت.
فقال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258]، أي: إن كنت صادقاً فافعل هذا الشيء، فلم يقدر على ذلك، وحرم إبراهيم من الطعام ولم يعطه، وقد جاء ليشتري منه طعاماً فرفض أن يعطيه؛ لأن إبراهيم أفحمه أمام الناس، ورجع إبراهيم، وأهلك الله عز وجل هذا الجبار بجنوده سبحانه وتعالى، فقد أرسل عليه سبحانه وتعالى الدبابير، أو البعوض، فأخذته وأهلكته، فجعله آية للخلق.
وكذلك قوم لوط، فقد كان لوط يدعو قومه إلى دين الله سبحانه، وهم في أرض الشام، فدعاهم إلى الله، وكانوا يأتون الفاحشة، قال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166]، فاستكبروا عليه، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء:167] أي: قالوا كما قال قوم نوح لنوح قبل ذلك: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116] فقوم نوح قالوا: نرجمك، وقوم لوط قالوا: نخرجك، فإذا بالله عز وجل يهلك قوم لوط الذين كانوا يأتون الذكران من العالمين، فقال: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:53 - 55].
فكانت العقوبة أن أرسل عليهم سبحانه حجارة من سجيل من نار جهنم، فأهلك الجميع وأبادهم، بعدما رفعهم واقتلع أرضهم وقلبها على رءوسهم.(31/7)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب مدين وكذب موسى)
قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ} [الحج:44]، أي: قوم شعيب، وكانوا في نعم عظيمة، ومع ذلك كانوا ينقصون الكيل والميزان وهم كفار، فدعاهم شعيب عليه السلام إلى التوحيد فرفضوا، ودعاهم إلى أن يوفوا الكيل والميزان، فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء:181 - 183]، فأبو ذلك، ثم قال لهم نبيهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} [الشعراء:184 - 185] أي: أنت جئت تدعونا، وأنت رجل مثلنا، لك صدر ولك جسد ولك بدن أو (أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي: ممن سُحر فلم يعرف الحق من الباطل.
يقولون ذلك لشعيب، وكان من أفصح الناس في الدعوة إلى الله سبحانه، وكانوا يقولون له عليه الصلاة والسلام: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] يعني: أنت تزعم أنك حليم وأنك رشيد وأنت سفيه! كانوا يقولون عنه ذلك، فهم يعرضون بالكلام، فإذا بالله عز وجل يهلك هؤلاء الأقوام، بما أرسل عليهم من الرجفة، وبما أرسل عليهم من عذاب.
قال الله تعالى: {وَكُذِّبَ مُوسَى} [الحج:44] أي: كذبه فرعون، وقد رأى تسع آيات بينات.
قال سبحانه: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ} [الحج:44] أي: أمهلتهم وأنظرتهم.
فلما أصروا على طغيانهم {أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44] ((فكيف كان نكيري)) هذه قراءة يعقوب فقد كان يقرؤها هكذا ويقف عليها بالياء، يعني: كيف كان إنكاري عليهم، أي: كان إنكاراً عظيماً، وكان إنكاراً فظيعاً شديداً، والله عز وجل أنكر عليهم وقال لهم: لا تفعلوا، فنهاهم في البداية ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال: {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج:44].(31/8)
تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)
قال الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الحج:45] أي: كم من قرية، وهذه فيها قراءتان: قراءة ابن كثير: (فكائن من قرية)، ومثله أبو جعفر ولكن سهل مع المد والقصر، يقول: (فكائن من قرية)، أي: كم قرى كثيرة! {أَهْلَكْنَاهَا} [الحج:45]، بنون العظمة وهي قراءة الجمهور، وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب: ((أهلكتُها)) أي: أن الذي تولى إهلاكها الله سبحانه، فإذا به يرسل عليهم ملائكته، ويرسل عليهم العذاب.
قال سبحانه: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] أي: فبسبب أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم أهلكهم الله سبحانه.
قال: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45]، الخواء بمعنى الخلاء، أي: أنها خالية، والخواء يأتي بمعنى السقوط أيضاً، فهي خاوية ليس فيها أحد، وهي ساقطة جدرانها على سقفها، أي: أن عروشها ساقطة على سقوفها.
وكلمة العروش والعُرش والعَريش بمعنى البناء الذي يكون من خشب أو من غيره، وقد يطلق على الخيمة، أو على الأعمدة التي فوقها سقف، وأحياناً يطلق على العروش البيوت، فقوله هنا: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45] أي: تكون بمعنى السقوف وبمعنى البيوت، يعني قد تهدمت أو صارت كما هي، وأهلكنا أهلها، فصارت خالية.
قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45]، فكأنه يقول: إن الهلاك يأتي على المستكبرين أينما كانوا، سواء كانوا في الحضر أصحاب بيوت فسيأتي إليهم العذاب، أو كانوا في البراري أصحاب آبار فسيأتيهم العذاب.
فالله عز وجل انتقم منهم؛ بسبب كفرهم وظلمهم، فماتوا وبقيت الآبار على ما هي معطلة لا أحد ينتفع بها، والآبار في الصحراء كنز عظيم جداً، فإن الذي يكون له بئر في الصحراء فإنه ملك في الصحراء، فعندما يوجد البئر يوجد حوله أهله، ويجتمع الناس إليهم.
وإذا بهم يكفرون بنعم الله سبحانه، ويكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام، فيأتيهم العذاب، فيهلكهم الله، وتظل البئر وحدها، عليها بكرتها وحبالها، ولا يوجد أحد يسقي منها، أهلكهم الله، فقال سبحانه: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج:45] أي: لا تستخدم.
قال تعالى: {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] القصر المشيد: هو مبنى عظيم، أو: مشيد من الشيد، بمعنى الدهان، يعني: مدهون، فجملة أصحاب القصر أهلكهم الله، وبقي القصر على ما هو عبرة للخلق! {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المعتبرين.(31/9)
تفسير سورة الحج [45 - 48]
كم من قرية أهلك الله أهلها لما طغوا وكفروا، ولا تزال آثار كثير من تلك القرى باقية؛ ولذا رغب الله عباده في السير في الأرض والنظر والاعتبار فيما حل بأولئك الكافرين، وليعلم الناس أن الله لا يخلف وعده، وأنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.(32/1)
تفسير قوله تعالى: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:45 - 47].
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، يخبرنا الله عن أخذه وإتلافه للقرى الظالمة السابقة تخويفاً لهؤلاء الكفار الذين كذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه واستعجلوا عذاب الآخرة: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص:16]، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: عجل لنا بالعذاب {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47].
((فَكَأَيِّنْ)) أي: فكم من قرية {أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] قرى كثيرة كذبت المرسلين منها من ذكر الله عز وجل قصتهم في القرآن، ومنهم من لم يخبرنا عنهم {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
قال سبحانه: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45] يعني: الإهلاك كان بسبب ظلم أهلها.
{فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45] خاوية لا أحد فيها أو ساقطة على عروشها، والعروش: السقوف، فسقطت السقوف وهوت فوقها جدرانها.
والقرى وصفت بالظلم لظلم أهلها، والمعنى: أن أهلها ظالمون.
{وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ذكر الله قرية وبئراً وقصراً، فالقرية: بلد من البلدان، والقصر المشيد هو الذي يكون لملك من الملوك أو كبير من الكبراء، والبئر هي التي تكون لصاحبها أو لمجموعة من الناس لهم اجتماع في مكان، ولهم عدد، وهذا غناهم، وكم يقتتل أناس على بئر في صحراء! هذا يزعم أنه صاحبها، وذلك يزعم أنها من حقه، فالبئر كنز لصاحبها في الصحراء، فهؤلاء الذين استولوا على هذه الآبار، والذين شيدوا هذه الحصون وهذه الديار، والذين كثروا في القرى والأمصار؛ لما عصوا رسل الله سبحانه جاءهم بأس ربهم سبحانه تبارك وتعالى، فجعل القرى خالية خاوية مهدمة على عروشها، والآبار معطلة، وأخذ أهلها وتركوا الآبار لا ينتفع بها أحد.
والقصر الذي شيده أهله فبنوه ورفعوه في السماء وجصصوه، ودهنوه وزينوه، إذا بهم يؤخذون منه، ويورثه الله عز وجل لغيرهم أو يتركه خالياً لا أحد فيه، والذي يسير في الأرض ينظر كثيراً من آيات الله عز وجل في ذلك، وما أكثر ما يقال: اكتشفنا آثاراً، اكتشفنا قرية للقدماء المصريين موجودة تحت الرمال، اكتشفنا قرى، وهذه القرى بناها أهلها ليخلدوا، وزعموا أنهم يخلدون، وزعموا أنهم يرجعون إليها، وبعضهم كان يعمل له القبر ويحبس بجانبه جمله، بحيث إن الجمل يموت بجوار القبر، فعندما يرجع مرة أخرى يلقى الجمل ليركب عليه، فلا رجعوا ولا رجعت جمالهم، وإنما يرجعون إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليحاسبهم بأعمالهم.
وكم من الناس ينظرون هذه الآيات ولا يعتبرون، بل ينبهرون بهذه الآثار، وينسون أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لأنهم كانوا كفاراً ولم يكونوا مؤمنين، وبعض الناس يفتخر بأجداده الفراعنة، ويزعم أنهم أهل حضارة، من الحضر، فالحضر: المدن، وعكسها البوادي، ولا يعتبر أن حضارتهم ذهبت، وذهبت حصونهم، وتهدمت الديار {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45].(32/2)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها)
قال الله تعالى مخاطباً الكفار الذين يجحدون نعم الله سبحانه، والذين يكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] العمى نوعان: عمى البصر وعمى القلب، فإن ذهبت العينان فهذا العمى، وإن ذهبت عين واحدة فهذا أعور وليس أعمى، فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول لنا: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وفي سورة الإسراء يقول لنا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، يعني من كان أعمى في هذه الدنيا، والمراد عمى القلب، قيل: ذهب عبد الله بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أعمى، فهل يوم القيامة أكون أعمى؟ فنزلت هذه الآية: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فالمقصود عمى الصدور، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء:72] أي: أشد عمى، فأعمى أفعل تفضيل، ولا يأتي ذلك في العين، لا يقال: فلان أعمى من فلان؛ لأن هذا أعمى وهذا أعمى، هذا ذاهب البصر وهذا ذاهب البصر، وإنما عمى القلوب يأتي فيه أعمى الذي هو أفعل تفضيل، فهذا أشد عمى من ذلك، هذا في ضلال وذاك في ضلال أشد من ضلال الأول، وذاك أشد ضلالاً من هذا وذاك، فلذلك من كان أعمى في الدنيا فهو في الآخرة أعمى أي: أشد عمى، فالعمى الذي فيه التفاضل ليس هو عمى الأبصار، فعمى الأبصار يستوي، وإنما هو عمى القلوب.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] هل الإنسان يعقل بالقلب أو يعقل بالمخ الذي في رأسه؟ أكثر الناس يقولون: إن المخ هو الذي يعقل، والمخ هو الذي يفكر، والمخ هو الذي يشعر، والمخ هو الذي فيه الأحاسيس وفيه الحب وفيه العاطفة، لكن الله يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ولا يمكن أن تكون مجازاً أبداً، لأنه قال: (القلوب التي في الصدور)، وهذه حقيقة عجيبة جداً، قال علماء التفسير وعلماء الحديث: القلب هو الذي يعقل؛ لأن الله عز وجل قال ذلك، وعلماء الطب يقولون: لا، القلب لا يعقل، والعقل في المخ.
والشيخ الزنداني يذكر في هذه المسألة كلاماً عجيباً فيقول: إنه بقي مدة يتتبع مسألة العمى الذي في القلب، ويحاول ينظر في مراكز زراعة القلوب الموجودة في العالم، ويريد أن يسأل الناس الذين زرعت لهم قلوب: ما هو شعورهم؟ وما هي أحاسيسهم؟ وكيف عيشهم؟ وكان الأمر أنه كلما يذهب إلى مستشفى من هذه المستشفيات يرفض الأطباء أن يجعلوه يتصل بالمرضى، ويمنعون أي إنسان يدخل على المرضى، وذكر أنه قابل أستاذاً في الطب في جامعة الملك عبد العزيز، وذكر له أنه نشر خبراً في جريدة منذ ثلاث سنوات ونصف أنهم اكتشفوا بأن القلب ليس مضخة للدماء فقط بل هو مركز عقل وتعقل.
ومرت الأيام وإذا بمركز لتبديل القلوب يفتح بالأردن، فذهب إلى هنالك وعقد مؤتمر صحفي مع أهالي المريض الذي زرعوا له القلب، فقالوا: لو أنكم معنا في البيوت تشاهدون سلوك هذا الذي زرع له القلب ما غبطتمونا على هذا، وذكر بعض الأطباء المتخصصين في هذا الأمر أن صاحب القلب الجديد لا تكون فيه أي عواطف ولا انفعالات، ولا ينفعل بالظروف التي حوله، لا يخاف ولا يحب! وإذا قرب إليه خطراً بدا وكأنه لا شيء يتهدده، ولا يحس بهذا الخطر، ولا يخاف منه ولا يفزعه، بينما القلب الحقيقي يتأثر، وفيه وجدان، وفيه شعور, وفيه خوف، وفيه حب، قال: وإذا قربت منه شيئاً يحبه بدا وكأنك لم تقدم إليه شيئاً، فلا يوجد عنده أي شعور بالمحبة التي كانت موجودة فيه، فيكون كأنه صنم، قلبه بارد غير متفاعل مع سائر الجسد! واكتشفوا أن قلب الإنسان فيه هرمونات عاقلة، ترسل رسائل عاقلة إلى الجسم كله، وأن القلب مركز عقل وتعقل وليس مجرد مضخة، وهذا اكتشفوه قبل ثلاث سنين فقط، وهو في القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة! فهذا من الإعجاز العلمي في هذا القرآن العظيم، فهذه حقيقة علمية مذكورة منذ ألف وأربعمائة سنة، ولا يعرفها الناس إلا قبل ثلاث سنين ونصف! يقول سبحانه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]، قلب يعقل ما حوله، ويعرف أن هذا الكون لابد أن له خالقاً سبحانه تبارك وتعالى، وأنه قادر مدبر حكيم، يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه.
{أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] يسمعون بها كلام رب العالمين، ويطبقونه في هذا الواقع الذي يعيشون فيه، فيعرفون الحق.
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] لا تعمى الأبصار، فإذا ذهب بصر الإنسان فقلبه يكفيه في الاستدلال على الخير والهدى والرشاد، ولكن الذي يعمى هي القلوب، ((ولكن تعمى القلوب التي في الصدور))، يعميها الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالإنسان لا يتدبر ولا يعي ولا يفهم شيئاً مما حوله ولا يعتبر.(32/3)
تفسير قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب)
قال سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47]، يرينا الله صورة من صور عمى القلب، فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] قيل: نزلت في النضر بن الحارث لما قال: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف:70]، وقيل: نزلت في أبي جهل لعنة الله عليهما لما قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32]، فمن صور العمى أن الإنسان يستعجل العذاب، فهل يعقل أن إنساناً عاقلاً يقول: يا ربّ إذا كان هذا حقاً فخذني، يا رب إذا كان هذا حقاً فأدخلني النار؟ الإنسان العاقل يقول: إذا كان هذا حقاً فأرشدني إليه، فدلني عليه، فادفعني إليه، ولكن هؤلاء لا عقل عندهم، وصدق الله: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
والله عز وجل يستدرج هؤلاء، فهم يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويدعون على أنفسهم، وأحياناً يقولون عن القرآن: إن القرآن عظيم، ليس بكلام البشر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وهذا القائل هو الوليد بن المغيرة ومع هذا لم يؤمن بالقرآن! وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفع الناس عن القرآن، وكلما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أناس يدعوهم إلى الله سبحانه، يتبعه ويقول: أنا عمه، وأنا أدرى به، هذا مجنون فلا تصدقوه، هذا كذاب، وقد أنزل الله عز وجل فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5] أي سيهلكه الله، وسيموت على الكفر ويدخل النار، فهذا الرجل لو كان عنده عقل كان سيقول: تتوعدني أنني أدخل النار لأني كافر، فهأنذا أقول: لا إله إلا الله، يقولها ولو نفاقاً حتى يدعي كذب القرآن، ولكنه ما قال هذه الكلمة، وأعماه الله سبحانه وتعالى عن التفكير في ذلك، ومات على كفره الذي هو فيه، وصدق الله العظيم فيما أخبر عنه.
قال الله تعالى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج:47] الله لا يخلف الميعاد، فسيأتيهم العذاب، فتحقق ما توعدهم به في يوم بدر، وأهلك رؤساءهم وأساطين كفرهم، وتوعدهم بما يكون في قبورهم، وكل ما ذكره الله سبحانه تبارك وتعالى من أمر الدنيا والآخرة فهو حق ووعده آت.
قال سبحانه: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]، هذه الأعمار الطويلة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا هي في نظره عمر طويل، حتى إن أحدهم عاش ثمانين سنة فقال: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم أما يوم القيامة فاليوم بألف سنة مما تعدون، فمن سئم من ثمانين سنة فستكون ثمانين ألف سنة في النار والعياذ بالله، يقول سبحانه: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: يوماً من أيام الآخرة بألف سنة مما تعدون.
وقراءة الجمهور: ((مما تعدون)) وقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف: ((مما يعدون)) يعني: مما يعد هؤلاء المشركون من أيام وليال.(32/4)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة)
قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] قرى كثيرة أملى لها الله ثم أهلكها، إن بطش ربك لشديد، يملي لها ويتركها حيناً، فالإملاء هو الترك، حتى يظن الإنسان أن الله تركه ولن يعذبه، ولن يفعل به شيئاً {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} [يونس:24]، وانظر إلى التنكير هنا: (ليلاً أو نهاراً) نكرها للتقليل، يعني لحظة من الليل أو من النهار فهدمنا هذه القرى، وضيعنا هذه الحصون.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} [الحج:48] أي: أنظرتها وأمهلتها مع عتوها استدراجاً لها وإملاء وهي ظالمة، ((ثم أخذتها)) يعني: بسبب ظلمها {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] فأين سيذهبون من الله عز وجل؟ فمهما ذهبوا وصعدوا ونزلوا ففي النهاية المرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لذلك على الإنسان أن يعد نفسه لهذا اليوم، فلا ينفعه إلا القلب السليم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/5)
تفسير سورة الحج [49 - 56]
وعد الله المؤمنين بمغفرة منه ورزق كريم، وتوعد الذين يسعون في إبطال آيات الله بالعذاب الأليم، وما من نبي يقرأ كتاب الله إلا ويلقي الشيطان شبهاً تتعلق بما قرأ، فيضل بها الكافرون ويمتحن بها المؤمنون، فيثبتهم الله، ويحكم آياته، ويبطل ما ألقاه الشيطان من وساوسه.(33/1)
تفسير قوله تعالى: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:48 - 52].
لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها كيف أنه يهلك القرى، وكم من قرية أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى بسبب ظلم أهلها، أهلكها فلا يرى لهذه القرية أثراً من حياة إلا آثار موت وآثار خراب وآثار تعطيل فقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج:45]، وهنا قال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا} [الحج:48] يعني كم من القرى أملينا لها وتركناها، وأمهلناها، واستدرجناها حتى أخذناها أخذاً عظيماً شديداً، {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] إلى الله عز وجل ترجع الأمور، فيصير كل الخلق إليه ليجازيهم على أعمالهم.(33/2)
تفسير قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين)
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49] صفته النذارة والبشارة صلوات الله وسلامه عليه، فهو نذير يخوف الخلق من عذاب رب العالمين سبحانه، وهو بشير يبشرهم بما أعد الله عز وجل للمؤمنين من جنات ومن نعيم مقيم.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الحج:49] مبين: يعني: واضح بين الحجة والبرهان.
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الحج:50] هذا وعد من الله سبحانه وبشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وقيده هنا بالإيمان والعمل الصالح، فالمؤمن فرض عليه أن يطيع الله سبحانه، وأن يطيع النبي صلوات الله وسلامه عليه فيعمل صالحاً، فإذا آمن وصدق وعمل الصالحات فله المغفرة، فيستر الله عز وجل عليه ذنوبه، ويمحوها سبحانه، وقد يبدلها حسنات بفضله وكرمه سبحانه، وله رزق كريم، فمدح رزق الآخرة بأنه رزق كريم، رزق لا شائبة فيه، ولا كدر فيه، ولا تعب فيه ولا نصب، ولا شيء فيه يزعج الإنسان، بل هو رزق كريم من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى في الجنة.(33/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] أي: الكفار الذين أعرضوا وسعوا جاهدين في أن يطفئوا نور الله سبحانه تبارك وتعالى، وأن يبطلوا ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، سعوا في آيات الله معاجزين مغالبين مشاقين للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعاندين لهذا الدين العظيم، ويظنون أنهم يعجزون رب العالمين سبحانه، ويظنون أنه لا يقدر عليهم، قال: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} [الحج:51] أي: أسرعوا في ذلك معاجزين، وهذه قراءة الجمهور، و (معجِّزين) قراءة ابن كثير وأبي عمرو.
{أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحج:51] ظنوا أنهم يفوتوننا مسرعون ليطفئوا نور الله، فالله عز وجل متم نوره ولو كره الكافرون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فمهما ظنوا أنهم أقوياء، فالله أقوى منهم، والله يعجزهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا يقدرون على شيء، وهو يقدر عليهم سبحانه، فهم أصحاب النار.(33/4)
تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته)
قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52] أرسل الله عز وجل الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذا مرسل وهذا مرسل، لكن الرسول معه شريعة من عند رب العالمين، والنبي مأمور أن يدعو القوم إلى توحيد رب العالمين سبحانه، فالرسول معه رسالة من الله سبحانه، وكلاهما مرسل.
قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] أي: رسول وأي نبي عليهم الصلاة والسلام يتمنون، والتمني يأتي بعدة معان: فمن معانيه: التلاوة، فيتلو ما أنزل الله عز وجل عليه، ومن معانيه: التحدث والإخبار بما أوحى الله عز وجل إليه من وحي، والتمني حديث النفس ورجاء الخير، فالنبي يرجو الخير فيحدث نفسه فيقول: لو أن قومي أسلموا لدخلوا الجنة، لو أن قومي أسلموا لكانوا قوة وجاهدنا الكفار، فيحدث نفسه ويتمنى الخير من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام تمنوا بمعنى: تلوا أو بمعنى حدثوا، ألقى الشيطان في تلاوتهم وألقى في أحاديثهم، والمعنى: أن القوم يستمعون لآيات الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم ما يمنعهم من الإيمان بهذا الكلام العظيم من عند رب العالمين سبحانه.
فالله يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: لست أنت أول من يعرض عنه الناس مع ظهور الحجة والبينة، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فهؤلاء الكفار يسمعون كما يسمع المؤمنون، ويفهمون ما يفهمه المؤمنون، لكن قلوبهم تصدهم عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، يعرف الكافر الحق ويحيد عنه، يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند رب العالمين فإذا به يعاند ويجحد ما جاء به، وهو مستيقن في نفسه أن هذا الحق من عند رب العالمين! فيلقي الشيطان في أمنية الأنبياء وأمنية المرسلين عليهم الصلاة والسلام بمعنى: في تلاوتهم وفي حديثهم فيما تمنوه من إيمان قومهم، فالشيطان يصد عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ويلقي في قلوب الكفار أن هذا سحر، وأن هذا كاهن، وأن هذا شاعر، وأن هذا أساطير الأولين، فالنبي يحدث ويعتقد أن هؤلاء سيفهمونه ويستوعبونه، ويعون ما يقوله؛ وإذا بهم يصدون عنه، ويقولون: كذاب، النبي صلى الله عليه وسلم جاء لقومه وهو يقول: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، اسمعوا وأعينوني أبلغ كلام رب العالمين، فظن أنهم يعينونه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بالشيطان يحول بينه وبين قومه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم حتى قالوا عنه: كذاب، وكانوا قبل ذلك يقولون عنه: الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا عنه: ساحر، وهم يعلمون أنه ليس ساحراً صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا ما يلقيه الشيطان في قلوب هؤلاء، يتلو النبي فإذا بهذا الشيطان لعنة الله عليه يحول بين هؤلاء وبين فهمهم لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
(إلا إذا تمنى) أي: إذا قرأ أو حدث بالوحي، إذا بالشيطان يلقي في هذه التلاوة ما يحول بين القوم وبين فهم ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، بل يكذبونه ويعاندونه.
معنى آخر وهو أنه إذا تمنى النبي والأنبياء من قبله إيمان أقوامهم إذا بهم يوم القيامة يأتي النبي ومعه الأمة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الاثنان، والنبي ومعه الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فالنبي الذي يأتي وليس معه أحد عندما أرسله الله إلى قومه كان يتمنى إيمان جميع قومه، فلم يؤمن به ولا رجل.
فالشيطان ألقى في أمنيته فأبعد الناس عن دين رب العالمين، ويزين لهم الدنيا والابتعاد عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويحول بينهم وبين الإيمان، قال سبحانه تبارك وتعالى: {إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52].
وإذا كان كل الأنبياء والمرسلين سيلقي الشيطان في أمانيهم، فهل سيظل ما يلقي الشيطان ولا يؤمن أحد أبداً؟ لا، فربنا يخبر أنه يبطل ما يلقي الشيطان، قال سبحانه: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52] النسخ: الإزالة والمحو والإبطال، فيبطل الله عز وجل ما ألقاه الشيطان في قلوب هؤلاء؛ فإذا بالمشركين يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نقول عنه: ساحر؛ فإذا بعضهم يرد على بعض ويقول: لا ما هو ساحر، ولا أحد سيصدقنا فيما نقول.
فقالوا: نقول عنه: كاهن، الشيطان يلقي عليهم هذا الشيء وإذا بعضهم يرد على بعض فيقول: نحن عرفنا الكهانة، وهذا ليس بكاهن من الكهان.
فقالوا: نقول عنه: شاعر، فيقولون: ليس شاعراً.
فينسخ الله ما يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء، ويظهر الحق سبحانه تبارك وتعالى سواء صدقوا أو لم يصدقوا، قال الله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج:52].
كذلك قد يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء القوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لعله يداهن كما قال الله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، فتمنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يداهنهم ويذكر آلهتهم بخير، والله سبحانه تبارك وتعالى يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73 - 75] صلوات الله وسلامه عليه.
فانظر كيف يحكم الله عز وجل آياته ويهدد نبيه صلوات الله وسلامه عليه -وحاشا له أن يبتعد عن أمر ربه سبحانه- تخويفاً له، والأمة تبع له فيقول سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء:74] وهذا يدل على صموده، وأنه مستحيل أن يداهنهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم، {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، ولم يحدث أن ركن إليهم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ثبته على الحق بالعصمة منه سبحانه تبارك وتعالى، ولو أنه ركن إليهم شيئاً قليلاً -وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يقع في ذلك- يقول الله عز وجل: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الإسراء:75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
فهنا ينسخ الله ما يلقي الشيطان من الكلام الكذب الذي يقوله الكفار، ويحكم الله عز وجل آياته، ويثبت دينه، ويثبت ما يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والرسل، فيسمع الناس الحق، ويعرفون أنه الحق والله عليم حكيم، يعلم كل شيء، ويعلم ما يدبره هؤلاء الأقوام، وما يقولونه، والله حكيم في أن يؤخر الحكم في ذلك، وأن يملي لهم وأن يمهلهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا ينسى ربك شيئاً، ولكنه حكيم في أحكامه، حكيم في تأديبه وتأخيره سبحانه تبارك وتعالى.(33/5)
تفسير قوله تعالى: (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض)
قال الله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53] الله سبحانه تبارك وتعالى خلق الشيطان، وعلم ما يفعله هذا الشيطان بالخلق، فيجعل ما يلقي الشيطان فتنة، وربنا أراد أن يبتلي العباد، قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] منكم المطيع، ومنكم العاصي، منكم من هو على الحق، ومنكم من هو على الباطل، فالله عز وجل جعل الشيطان فتنة لهؤلاء القوم، وما يلقيه الشيطان في قلوبهم فتنة لمن؟ {لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53] الذين في قلوبهم مرض، هم المنافقون، في قلوبهم غل، في قلوبهم شك، والقاسية قلوبهم هم الكفار، والمنافقون أيضاً الذين إذا ذكر الله يجحدون بآياته سبحانه، وفرق بين المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وبين هؤلاء القاسية قلوبهم.
قال سبحانه: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج:53] إن الظالمين لفي خلاف وفي عصيان ومشاقة، وأصلها من الشق، أنت في شق وهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعة الله سبحانه.(33/6)
تفسير قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك)
قال الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [الحج:54] الناس أصناف: المنافقون، والكفار، والمؤمنون أهل العلم، فالذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم هؤلاء في شقاق بعيد عن دين رب العالمين سبحانه، أما المؤمنون وخاصة أهل العلم فهم كما قال الله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} [الحج:54]، يؤمنون ويزدادون إيماناً {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج:54] لأنهم علموا أن هذا الحق من رب العالمين، والإخبات السكون، والخشوع، والتواضع، والإنابة إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والطاعة، فأهل الإيمان أهل العلم عرفوا الحق من الله عز وجل.
{فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54] هذا وعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أن يهدي المؤمنين إلى صراط الجنة وإلى طريق الجنة، وهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعريج على النار، ولكن يهديهم إلى جنته سبحانه تبارك وتعالى، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:54] فيثبتهم في الدنيا على الخير وعلى الحق، ويثبتهم عند السؤال، ويثبتهم عند المرور على الصراط حتى يدخلهم الجنة سبحانه تبارك وتعالى على صراط مستقيم.(33/7)
تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)
قال الله تعالى: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55] المرية: الشك، فالكفار في مرية من هذا القرآن العظيم، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55] يعني: وإن شك الكفار لم يضر هذا الدين شيئاً، ولكن يضرون أنفسهم فمهما تشككوا فلا يزالون على شكهم حتى يأخذهم الله سبحانه بأن تأتيهم الساعة، أو يأتيهم الموت {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55]، واليوم العقيم هو يوم ليس بعده ليلة وليس بعده يوم، يوم عقيم، والمرأة العقيمة التي لا تلد، والأيام العقيمة لها معان: فمن معانيها: يوم عقيم يعني يوم شؤم على أصحابه، يوم كله شرور، فهؤلاء يأتيهم اليوم العقيم سواء في الدنيا بانتصار المؤمنين عليهم، وقتلهم كما حدث في يوم بدر، أو بأن يأتيهم يوم القيامة وهو لا يوم بعده من الدنيا، فهو يوم عقيم.(33/8)
تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم)
قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الحج:56] الملك يوم القيامة لله رب العالمين، والملك في الدنيا لله رب العالمين، ولكن في الدنيا ترك الله عز وجل العباد منهم من يؤمن ومنهم من يكفر ويجحد، فكأن البعض يأخذون الملك لله في الدنيا، والبعض يقول: أنا الملك، ومنهم من ينصب نفسه رباً على الخلق كذباً وبهتاناً، ومنهم: من يدعوهم إلى أن يعبدوه من دون الله سبحانه، لكن يوم القيامة لا يجترئ أحد أن يقول ما قاله ففي الدنيا، في الدنيا كان الله عز وجل غنياً لا يرونه، فاجترءوا على ذلك لعدم الإيمان في القلوب، لكن يوم القيامة فالملك لله سبحانه، هو الملك الذي يحكم بما يريد سبحانه، وهو الذي يجازي عباده، فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم جنات النعيم، وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات رب العالمين فأولئك لهم عذاب مهين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(33/9)
تفسير سورة الحج [55 - 59]
يختلف الناس في أمر القيامة، فمنهم من هو مؤمن بها، ومنهم من هو في شك منها، حتى إذا جاء ذلك اليوم ظهر ملك الله عز وجل على سائر عباده، فالمؤمنون لهم جنات النعيم، والكافرون لهم عذاب أليم، وقد يبلغ الإنسان درجة المهاجرين والمجاهدين والشهداء بنيته الصادقة وإن مات على فراشه.(34/1)
تفسير قوله تعالى: (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:55 - 59].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات كيف أن الكفار في قلوبهم شك من هذا الدين، ولا يزال الذين كفروا في مرية وفي شك من هذا القرآن، أو من هذا الدين، بسبب ما يلقيه الشيطان في آذانهم وفي أسماعهم، وبسبب ما يوسوس به في صدورهم فيتشككون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أمر الدين حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم وهو عذاب يوم القيامة، لا يوم للدنيا بعده، فهو آخر أيام الدنيا فلن يكون بعده ليل ولا نهار، وإنما اليوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، فلا حياة فيها تكليف بعد ذلك، وإنما بعد ذلك الحياة الأخروية التي فيها الجزاء والحساب.(34/2)
تفسير قوله تعالى: (الملك يومئذ لله يحكم بينهم)
قال الله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:56] يوم القيامة يعلم الجميع أن الملك لله سبحانه، ويقفون بين يديه، ولا يقدر أحد أن يشفع لأحد إلا بإذن الله رب العالمين، ولا يقدر أحد أن يتكلم بين يدي رب العالمين إلا إذا أمره سبحانه أن يتكلم.
قال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111] عنت: ذلت وقهرها الله سبحانه وتعالى فاستكانت وخشعت بين يدي الله رب العالمين، هذا في يوم القيامة، عرفوا وعلموا واستيقنوا أن الملك هو الله سبحانه وتعالى وأن الملك له، وأنه مالك يوم الدين كما هو مالك الدنيا، وفي الآخرة يبدو هذا بأن يذلهم جميعهم، وأن يقهرهم جميعاً ويريهم ناره، ويريهم عذابه، ويريهم جنته، ويسألهم واحداً واحداً، فكل إنسان مسئول عن نفسه وعن تقصيره وعما عمل في هذه الدنيا، فظهر الملك لله سبحانه وتعالى يجازي عباده يوم القيامة، وبان واتضح أن الملك لله وحده لا شريك له، فلا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم فعلت كذا؟ ولا أحد يجرؤ أن يسأل الله عز وجل: لم أدخلت هذا الجنة؟ ولم أدخلت هذا النار؟ الملك يومئذ لله فيحكم سبحانه وتعالى بينهم، فيفرق بين المؤمنين وبين الكفار، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم المقيم، وفيها الحياة الأبدية التي ينعمون فيها بما شاء الله عز وجل لهم من أنواع النعيم، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات فيها البساتين وفيها ما يشاءون من طعام وشراب وما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين وهم فيها خالدون.(34/3)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج:57] أي: الكفار يذهب بهم إلى نار الجحيم، فلهم عذاب مذل، إذ يذلهم الله عز وجل يوم القيامة، تعززوا في الدنيا ورفضوا أن يعبدوا إلهاً واحداً سبحانه وتعالى؛ فإذا به يذلهم يوم القيامة، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا ينفعهم ما يقولون يوم الدين، ولا ينفعهم إذا دخلوا النار أن يبكوا على أنفسهم، فسالت أعينهم دماءً بدلاً من الماء، فالله سبحانه وتعالى يدخلهم النار ويهينهم ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].(34/4)
تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ما توا ليرزقهم الله رزقاً حسناً)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] أخبر الله عن المؤمنين عامة: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج:56]، ولكن لا شك أن هؤلاء المؤمنين بعضهم فوق بعض في درجات الجنات، فمنهم من هو في أعلاها، ومنهم من هو أدنى من ذلك، فمن أعلى الناس أجراً يوم القيامة المهاجرون الأولون الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ووصف الله عز وجل سيرتهم وحياتهم وهجرتهم بالصدق، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فأخبر عنهم هنا مميزاً ومشرفاً لهم بقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] المهاجرون الأولون تركوا ديارهم وأموالهم، وتركوا أهاليهم وهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومنهم من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة، وأوذوا أذىً شديداً فكانوا في ديار الغربة ودار البعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم في غاية الضعف والهوان في أعين الناس، فإذا بالله عز وجل يرفعهم يوم القيامة، ويجعل لهم الوضع العظيم الجميل في جنات النعيم، فقال لهؤلاء: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) ليس في سبيل دنيا، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهؤلاء هاجروا لا لدنيا وإنما لدين الله رب العالمين وابتغاء مرضات الله.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا} [الحج:58] هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن عامر: (ثم قتِّلوا أو ماتوا) أي: قاتلوا في سبيل الله فمنهم من قتل فكان شهيداً، ومنهم من مات، والاثنان لهما الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} [الحج:58] هما سواء.
والهجرة عظيمة وفضلها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ميز بين المهاجرين الأولين، وبين من دخل في الإسلام بعد الفتح فقال: (لا هجرة بعد الفتح) مضت الهجرة لأهلها، يعني: الثواب العظيم في هذه الهجرة مضى لأهلها، سواء قتلوا شهداء، أو ماتوا على فرشهم، فالله عز وجل ذكر الاثنين، قال: ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا)) والفعل المضارع إذا سبقته لام التوكيد وجاء في آخرها نون التوكيد المثقلة فهذا دليل على جواب القسم فيه، فكأنه يقول: والله ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين.
فجعل للاثنين من مات حتف أنفه، أو من قتل في سبيل الله الأجر العظيم عند الله سبحانه، فهم هاجروا من ديارهم وأموالهم وفي نيتهم أن يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث ما كان، وأن ينصروا دين الله سبحانه وتعالى، فنووا أن يكونوا معه، وأن يجاهدوا معه صلى الله عليه وسلم، واستحضروا نية الجهاد، وتمنوا أن يكونوا شهداء، وكيف لا وقد سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا) فلفضل الجهاد تمنى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وتمنوا هم ذلك، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23] فشهد لهم الله عز وجل أنهم الصادقون، وأنهم لم يبدلوا ولم يتبدلوا، ولم يبدلوا دين الله، ولم يغيروا نواياهم، فلذلك كان لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه.
ومن قتل في سبيل الله له الحسنى عند ربه سبحانه، ومن مات أيضاً له الحسنى عند الله؛ لأنه هاجر ونوى الجهاد، ونصر دين الله سبحانه وتعالى، وتقدير الموت بيد الله ليس بيد الإنسان، فالإنسان لا يملك لنفسه أن يموت شهيداً أو يموت على فراشه، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويجاهد بعده صلوات الله وسلامه عليه مع الخلفاء الراشدين، ويتمنى أن يستشهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ويذهب في مواضع الموت مقاتلاً مجاهداً ومع ذلك كتب الله عز وجل له أن يموت على فراشه، وهو يقول للناس: إنه ما في بدنه موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، رضي الله تبارك وتعالى عن خالد بن الوليد وعن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم.
الغرض هنا: أن الله وعد هؤلاء الذين هاجروا في سبيل الله سبحانه بصدق نيتهم، وصدق جهادهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لهم الحسنى عند الله عز وجل سواء قتلوا أو ماتوا، ففي الحالتين لهم الأجر العظيم، فقال سبحانه: {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] تأكيد من الله سبحانه وتعالى، ووعد مؤكد، قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] وذكر لفظ الجلالة دليل على تشريف هؤلاء، فلم يقل: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم رزقاً حسناً) ولكن قال: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ} [الحج:58] تشريفاً لهؤلاء بأن الرزق من عند الله، فليست الملائكة هي صاحبة الرزق، ولا مخلوق آخر، إنما صاحب الرزق هو الله، إذاً: الرزق يليق به سبحانه وتعالى، يعطي المجاهدين في سبيله رزقاً حسناً، وكل رزق الله حسن سبحانه وتعالى، فإذا كانوا رزقوا الجنة فلا شك أنه أحسن الأرزاق وأفضلها، ولكن الله سبحانه يشرفهم ويفضلهم ويطمئنهم بقوله: لكم أحسن الرزق عند الله رب العالمين.(34/5)
سبب نزول قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا)
قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] قالوا: إن هذه الآية نزلت لما مات بالمدينة عثمان بن مظعون رضي الله تبارك وتعالى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه، وحضر النبي صلى الله عليه وسلم جنازته، وبكى عليه صلوات الله وسلامه عليه ودفنه، وعلم قبره صلى الله عليه وسلم بحجر وقال: (ادفنوا إليه من مات من أهلي)، فلما مات عثمان قال بعض الناس: من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، وقالوا: إن عثمان بن مظعون مات على فراشه، والذين قتلوا في غزوة بدر وفي غزوة أحد أفضل ممن مات على فراشه، فأنزل الله سبحانه وتعالى أن الجميع لهم الرزق الحسن عند الله سبحانه وتعالى، فسوى بينهم وقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} [الحج:58] فسوى بينهم في الرزق الحسن، وفي الآية الأخرى قال سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] هذا من خرج سواءً وصل أولم يصل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات)، قال الله سبحانه: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا} [النساء:100] نوى أن يخرج مهاجراً إلى الله ورسوله، {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} [النساء:100] أي: وصل للمدينة أو لم يصل إلى المدينة فأدركه الموت على هذه النية، {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] إذاً: لم يضع أجر هذا الإنسان، بل وقع على الله، إذاً: هنا لم يضع ما وقع على الله، وما ذهب إلى الله سبحانه وتعالى فقد وقع أجره، أي: ثبت أجره على الله، وجاء بلفظ: {عَلَى اللَّهِ} كأنه أوجب على نفسه سبحانه وتعالى الأجر لهذا الإنسان ولمن كان مثله، فقد وقع أجره على الله.(34/6)
أحاديث دالة على فضل المجاهد وإن مات على فراشه
أم حرام بنت ملحان هي خالة أنس بن مالك رضي الله عنه، وهي زوجة عبادة بن الصامت، وكان يدخل في بيتها صلى الله عليه وسلم وينام أحياناً عندهم نوم القيلولة صلوات الله وسلامه عليه.
روى البخاري ومسلم عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عندها فنام صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ وهو يضحك) دخل بيت أم حرام بنت ملحان التي هي أخت أم سليم أم أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذه أختها زوجة عبادة بن الصامت، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فقالت: ما يضحكك يا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون يبج هذا البحر مثل الملوك على الأسرة) يخبر أنه رأى في الرؤيا ورؤيا الأنبياء كلها وحي من الله وكلها حق، فرأى أن من أمته من يخرج مجاهداً في سبيل الله في البحر، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما كان الصحابة متعودين على ركوب البحر في الجهاد في سبيل الله سبحانه؛ لأن ركوب البحر شيء شاق جداً فهو رأى هذه الرؤيا وفسرها أنه يخرج في يوم من الأيام ناس من الصحابة مجاهدين في البحر، فضحك فقال: (مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك صلوات الله وسلامه عليه فقالت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما ذكر في الحديث الأول، يعني: مرتين كأنه يخرج ناس مجاهدون في سبيل الله وبعدهم يخرج آخرون مجاهدون في سبيل الله عز وجل، (فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت من الأولين) فذكر الراوي أنها ركبت البحر في زمن معاوية بن أبي سفيان وحين خرجت من البحر، ركبت دابتها فوقعت من الدابة وماتت رضي الله تبارك تعالى عنها، فهذه المجاهدة طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يجعلها منهم، فكانت هي منهم خرجت مجاهدة في سبيل الله مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنه مجاهدين للروم.
لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنت من الأولين) يعني: من هؤلاء المجاهدين فكان لها أجر هؤلاء المجاهدين الذي كالملوك على الأسرة مع أنها لم تقاتل وإنما وقعت عن دابتها، فالمهاجر إذا هاجر في سبيل الله سبحانه وتعالى وجاهد في سبيله عز وجل ثم قتل أو مات فله أجره وله الرزق الحسن عند الله سبحانه وتعالى.
أيضاً: جاء في حديث آخر: عن عبد الله بن عتيك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته مهاجراً في سبيل الله فخر عن دابته فمات، أو لدغته حية فمات، أو مات حتف أنفه؛ فقد قع أجره على الله، ومن مات قعصاً فقد استوجب المآب) المعنى: أن الخارج مجاهداً ليس شرطاً أن يقتل من قبل العدو، فمن الممكن أن يموت أو تلدغه حية فيكون له أجره عند الله؛ لأنه نوى الخروج، بل من سأل الله عز وجل الشهادة بصدق فله أجرها وإن مات على فراشه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).(34/7)
تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم)
قال الله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] وعد من الله أن يدخلهم مدخلاً يرضونه، وفيها قراءتان: قراءة الجمهور: {مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ}، وقراءة نافع وأبي جعفر المدنيين: (مَدْخلاً يرضونه) هذا مصدر ميمي، والأول مشتق من الرباعي، والثاني مشتق من الثلاثي، أي: أدخلهم مُدْخلاً ودخلوا مَدْخلاً، فأدخل الله عز وجل هؤلاء مُدْخلاً يرضونه، أو دخلوا هم يوم القيامة مَدْخلاً حسناً عند ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، فقوله تعالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} [الحج:59] أي: يرضون ما دخلوا فيه، حين يرون الأجر العظيم من الله.
قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] لما ذكر الله أجر هؤلاء ذكر اسمين من أسمائه سبحانه، الاسم الأول: العليم، الاسم الآخر: الحليم سبحانه وتعالى.
فقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] أي: عليم بمن يستحق هذا الأجر العظيم، وعليم سبحانه وتعالى بنيات هؤلاء، وحليم عن عقابهم، قد يسيء الإنسان ثم يهاجر في سبيل الله، فالهجرة تجب ما قبلها، وقد يكون بعض من هؤلاء وقع في نوع من الذنوب، أو شيء من الآثام، وبعد ذلك يستر عليه الله ويغفر له، فالله حليم، وكم من إنسان يجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى مستيقناً بما أوجب الله عز وجل من هجرة ومن جهاد وله الأجر العظيم عند الله سبحانه، ولعله كان قبل ممن يدفع هذا الدين ويمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو في مكة، وأن يدعو إلى دين ربه سبحانه، فالله سبحانه حلم عليهم، ثم أرشدهم وهداهم إلى الإسلام ثم جعلهم شهداء، بل قد يكون قد قتل مسلماً مثل: خالد بن الوليد، في يوم أحد كان كافراً، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في يوم أحد يقاتلون هؤلاء الكفار، وإذا بـ خالد يسلم بعد ذلك قبل فتح مكة، ويدخله الله عز وجل في هذا الدين مدخلاً حسناً، ويكون من المجاهدين لإعلاء دين رب العالمين سبحانه، فالله حليم سبحانه وتعالى، عليم بقضائه وقدره، علم سبحانه وتعالى أن هذا ممن يستحق الحسنى من الله عز وجل، فلم يؤاخذه بذنوبه، ولم يعجل له العقوبة، وتاب عليه سبحانه وتعالى، وجعله من المجاهدين، فالله عليم بمن يستحق الرحمة، والله يحلم عن العاصي لعله يتوب، فإذا تاب رفعه وغفر له سبحانه وتعالى، وفرق بين أن يحلم على إنسان ليتوب، وبين أن يملي إنساناً ليعذبه، فالله عز وجل يحلم عن إنسان علم في قلبه الخير، فإذا به يتركه فيراجع نفسه ويتوب، فيتوب الله عز وجل عليه، ويملي إنساناً آخر في معصية؛ فإذا به يزداد عتواً وفجوراً، ويزداد بعداً عن دين الله ونفوراً، فإذا بالله يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
نسأل الله عز وجل بفضله حلمه وكرمه ورزقه الحسن، ونعوذ بالله من عذابه، ونسأله جنته ونعوذ به من عقابه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(34/8)
تفسير سورة الحج [58 - 64]
ذكر الله سبحانه أن من هاجر في سبيله وابتغاء مرضاته سواء قتله المشركون أو مات حتف أنفه فقد تكفل له ربه بالرزق الحسن في جنة النعيم بما يرضيه، وذكر أن من ظلم فانتصر وعاقب بالمثل ثم بغى عليه خصمه فإن الله ناصره ومؤيده، والله سبحانه يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل، وهو الإله الحق وما دونه الباطل، أفلا يقدر على أن ينصر المظلوم؟! بلى.(35/1)
تفسير قوله تعالى: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقهم الله رزقاً حسناً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58].
أخبر الله سبحانه وتعالى عن فضله على عباده الذين هاجروا في سبيله، وأوذوا فقاتلوا وقتلوا في سبيل الله، أو أنهم أوذوا فهاجروا ثم ماتوا فوعدهم الله عز وجل بالرزق الحسن منه، وهو خير الرازقين، ورزقه الحسن جنات تجري من تحتها الأنهار.(35/2)
تفسير قوله تعالى: (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم)
ذكر الله لنا وعده فقال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] فمدخل إما أن يكون مصدراً، أو اسم مكان، فإن كان اسم مكان فالمعنى: يدخلهم موضعاً يرضونه في جنات الخلود.
وإن كان مصدراً فالمعنى: دخولاً يرضونه في جناته سبحانه.
قال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59] فذكر صفة له سبحانه وهي العلم، وصفة أخرى وهي الحلم.
وفي هذه الآية ذكر الله سبحانه ما يفعله بالمؤمنين، وذكر اسمين ثم في الآية التي تليها ذكر اسمين له سبحانه، وفي الآية الثالثة ذكر اسمين آخرين من أسمائه الحسنى، وهذا الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي ذكر فيه من أسمائه الحسنى ثمانية أسماء في آيات متتالية.
فذكر: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:59].
وبعدها: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60].
وبعدها: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61].
وبعدها: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فبدأ بالعلم والحلم، والمعنى: إن الله لعليم يعلم ما يفعله العباد، ويعلم من الذي يستحق منهم الثواب والعقبى الحسنة، ومن الذي يستحق العقاب والعاقبة السيئة، والله حليم يحلم عن عباده، فهو بعلمه سبحانه، يعلم أن هذا يستحق الرحمة، وإن كان الآن في وقت يعصي فيه ربه سبحانه، ولكن سيأتي عليه وقت يتوب، فيحلم عليه سبحانه، ثم يتوب العبد، ويكون من أهل رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله عليم بنياتهم وأعمالهم، حليم عن عقابهم.(35/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به)
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] أي: ذلك الأمر الذي قصصنا عليك أن من عاقب فرد العقوبة بعقوبة مثلها، أو جازى على العقوبة بمثلها فلا حرج عليه.
ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين لقوا بعض مشركي مكة لليلتين بقيتا من شهر الله المحرم أحد الأشهر الحرم، فأراد الكفار قتال المسلمين قبل أن ينتهي شهر المحرم، وقالوا: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يكرهون القتال في الشهر الحرام، فاحملوا عليهم، والكفار كذلك كانوا لا يقاتلون في الأشهر الحرم إلا أنهم كانوا ينسئون فيها.
والأشهر الحرم ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] وهي: ثلاثة سرد وواحد فرد، فالفرد شهر رجب، والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، هذه اختصت بالحج فيذهب الحاج لأداء نسكه فلا يؤذى، ولا يتعرض له أحد من العرب.
أما في شهر المحرم وشهر رجب فكانوا يمتنعون من القتال تعظيماً لمن يذهب إلى العمرة فيهما.
إلا أن الكفار كانوا يتلاعبون بهذه الأشهر، فيجيء شهر المحرم فيقولون: سنؤخر الحرمة إلى صفر ونجعل له حرمة الشهر الحرام، فلما لقوا المسلمين قال بعضهم لبعض: إن المسلمين لا يقاتلون في هذا الشهر فاحملوا عليهم واقتلوهم.
فحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى الكفار إلا القتال فحملوا عليهم، فثبت الله عز وجل المسلمين ونصرهم على المشركين، فالباغي أبى الله إلا أن يقهره يوماً من الأيام.
قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:60] فهذا وعد من الله سبحانه بالنصر للإنسان المظلوم الذي بغي عليه لينصرنه الله، وهذا جواب قسم، وأصله: والله لينصرنه الله سبحانه.
فلما انتصر المسلمون على المشركين قالوا: قتلتم في الأشهر الحرم، فأنزل الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ} [الحج:60] أي: جازى على العقوبة، {بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:60] بدأ المشركون فانتصر المسلمون بفضل الله عز وجل، قال: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ} [الحج:60] فبغى المشركون في الفعل، وبغوا في القول، وقالوا: هؤلاء تعدوا في الأشهر الحرم، والله عز وجل وعد المؤمنين بالنصر.
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] يعني: عفا عن قتالكم في الشهر الحرام؛ لأنكم مطلوبون، ولأنكم تدافعون عن أنفسكم.
وقيل: بل نزلت في قوم من المشركين مثلوا بقوم من المسلمين يوم أحد، فعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنا يعرض ربنا سبحانه وتعالى بالعفو، يعني: الله يعفو عنكم فكونوا أنتم أيضاً من العافين عمن ظلمكم.
ذكر الله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:41 - 42] ثم ذكر سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] والمعنى: أن المظلوم يجوز له أن ينتصر وينتصف من ظالمه، ولكن إن قدر فعفا، فهذا أفضل عند الله سبحانه وتعالى.
وقد بدأ الله بذكر الانتقام والمعاقبة، ولكن في النهاية ذكر العفو من الله سبحانه تعريضاً للمؤمنين أنه إذا قدرتم فاعفوا، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60] أي: عظيم العفو والتجاوز عن إساءات الخلق ومعاصيهم، وغفور يمحو ويستر سبحانه وتعالى الذنوب، فعفا عن المؤمنين في ذنوبهم وقتالهم في الشهر الحرام.(35/4)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] ذلك الذي قصصناه عليك بأن الله يولج: والإيلاج: الإدخال، فكأن الليل يدخل في النهار، والنهار يخرج من الليل، وهكذا يتعاقب الليل والنهار على الأرض، وهي المكان الوحيد الذي فيه هذا النهار، فهناك غلاف حول الأرض يظهر فيه ضوء الشمس عليها، أما الكون كله خارج غلاف الكرة الأرضية فإنه مظلم.
ويميز سبحانه وتعالى بين الليل والنهار، كما أنه يميز بين الحق والباطل، فالله الذي قدر على ذلك جعل الليل سكناً وستراً، وجعل النهار وضوحاً وجلاء، فأظهر الحق، وأبطن الباطل سبحانه وتعالى.
فهذا الذي قدر أن يأتي بالليل والنهار أليس بقادر على أن يظهر ظلم هؤلاء الظلمة؛ فيأخذهم سبحانه وتعالى ويعاقبهم، ويظهر الإيمان وضوءه ونوره العظيم ويظهر أهله وينصرهم؟! فلا أحد يقدر على ما يقدر عليه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61] سميع يسمع ما يفعله العباد، وبصير يرى ما يصنعونه، فلا شيء يحجب عن سمعه وعن بصره، فهو قادر على أن يغير الليل والنهار، ويغير القلوب، ويبدل الناس بغيرهم، وهو على كل شيء قدير.(35/5)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:6]، كرر الله: (ذلك) ثلاث مرات؛ لبيان قدرة الله سبحانه، أي: ذلك الذي فعلناه، وذلك الذي قصصناه عليك؛ لتعلم قدرتنا العظيمة على الجميع، نعاقب من نشاء، ونعفو عما نشاء، ونبدل الليل والنهار، وكذلك نبدل القلوب ونغير ما نشاء من أمر الناس، فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، ونسمع ونرى كل شيء، وذلك من الله عز وجل بقدرته العظيمة الباهرة؛ لأنه هو الحق سبحانه، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فيذهب الله عز وجل الباطل كما يذهب الليل ويأتي بالحق كما يأتينا بالضوء وبالنهار.
قال تعالى: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] فيها قراءتان: (وأن ما يدعون) قراءة الجمهور، وقراءة نافع، وأبي جعفر، وابن عامر، وشعبة عن عاصم: ((وَأَنَّ مَا تَدْعُون))؛ فالخطاب للمشركين: وأن ما تدعون من دون الله سبحانه هو الباطل، فهم يدعون ما لا ينفعهم، ولا يضرهم، وذلك هو الضلال البعيد.
قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] فذكر هنا اسمين له سبحانه، العلي أي: المتعالي الذي لا شيء مثله سبحانه، فهو عالٍ على كل شيء بقدرته سبحانه، عالٍ عن الأشباه والأنداد، مقدس عما يقوله الظالمون من صفات لا تليق بجلاله سبحانه وتعالى.
العالي فوق خلقه فله العلو: علو الكمال، وعلو الذات، وعلو القهر، وعلو الصفات.
وهو يملك كل شيء، ويدبر أمر كل شيء، عالٍ عن أن يصل إليه دنس العباد وأذاهم.
وهو الكبير سبحانه، وهي صفة أخرى من صفاته العظيمة.
ولما ذكر الليل والنهار بأشياء عظيمة، وذكر لنا أن الله سبحانه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه باطل هزيل سيضمحل، أخبر أنه هو وحده الكبير سبحانه، فمهما رأى الإنسان من شيء كبير من الأرض أو من السماء أو من الأجرام أو من الجبال، بل أي شيء يراه في نفسه عظيماً كبيراً؛ فالله أعظم وأكبر وأجل منه.
فلذلك حين يعلو الإنسان فوق جبل يقول: الله أكبر، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا نزلت من الجبل إلى الأرض قلت: سبحان الله.
وهذا مناسب للحال فإذا ارتفع الإنسان قد يظن أنه علا وبغى فيقول: الله أكبر من كل شيء.
وإذا نزل الإنسان يستشعر التواضع في النزول والانخفاض فيقول: سبحان الله، أي: لا ينحط أبداً سبحانه وتعالى، ولا ينزل نزولاً يدل على نقص، بل نزوله إلى السماء بكماله، وجلاله وقدرته وهو العلي الكبير، لا يعتريه نقص، ولا شيء مما يعتري الخلق.
قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] أي: الموصوف بالعظمة والجلال وكبر الشأن.
وقيل: الكبير من الكبرياء فله الكبرياء، والكبرياء: الكامل في ذاته سبحانه، وله الوجود العظيم الذي لا يشبهه شيء من خلقه.(35/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)
قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] ذكر الله لفظ الجلالة، ووصفها بأسمائه الحسنى الأخرى، فاللطيف: الدقيق في علمه سبحانه وتعالى، والخبير: العليم ببواطن الأمور، يعلم ما قل وما صغر، وما ظهر وما خفي.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الحج:63] وكل إنسان يرى ذلك، فينزل من السماء الماء، قال تعالى: {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج:63] تجد أرضاً ينزل عليها من السماء المطر بالليل، فإذا بها بالنهار قد بدأت خضرتها أو أنها تكون أرضاً بوراً ثم بعد فترة ينبتها الله سبحانه.
فإما أن يكون الإصباح حقيقاً على هذا النحو، أو بعد ذلك يصير مآلها إلى الإخضرار بسبب ما أنزل الله عز وجل من الماء.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [الحج:63] فالله لطيف خبير يعلم كل شيء، وهو لطيف بعباده عليم بخفاياهم.
فاللطف معناه: العلم الدقيق، ومن معناه: الرحمة الخفية منه سبحانه وتعالى، فقد يلاقي الإنسان في الدنيا الظلم والصعوبة والشدة ثم يلطف الله عز وجل به ويغفر لمذنبه.
وتأمل المناسبة الجميلة بين أسماء الله الحسنى، وبين ما يذكره الله سبحانه وتعالى من بديع خلقه، فالإنسان في قاحل من الأرض، وهو محتاج للماء ليشرب، وفجأة أنزل الله عز وجل من السماء ماء فارتوى الإنسان وأنبتت الأرض، فنقله بلطفه سبحانه وتعالى من حال عسر صعب شديد إلى حال فيه يسر، وفيه فضل من الله وفيه غنى؛ فيحمد العبد ربه سبحانه وتعالى عليه.
فهو اللطيف بعباده، وهو خبير، وعلمه دقيق يعلم ما خفي من أمر العباد، فقد يكون في قلب العبد اليأس والقنوط حين تأخر نزول المطر، فيعلم الله عز وجل ذلك، ويعجب من قنوط العبد، وقرب تفريجه سبحانه وتعالى لهذا الحال.
فإذا كاد العبد أن ييئس فجأة ينزل المطر بلطف الله سبحانه تبارك وتعالى، فينبت الزرع ويشرب الإنسان! والله لطيف بأرزاق عباده، فيخرج لهم النبات من الأرض، ويعطيهم ما يحتاجونه من أشياء على قدر ما يحتاجون.(35/7)
تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض)
قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64] فذكر هنا اسمين آخرين من أسمائه الحسنى سبحانه، فالله يملك ما في السموات وما في الأرض، وإن الله لهو الغني عما في السموات وعما في الأرض وعن عباده سبحانه، فهو غني بذاته، والعبد فقير بذاته.
والله الحميد المستحق للحمد، والمحمود على إحسانه وإنعامه، والمحمود على جلاله وإكرامه، والمحمود على جماله وأفعاله.
فلا يحتاج إلى شيء لغناه، وهو المحمود سبحانه في كل حال، يحمده العبد في السراء فيقول: الحمد لله رب العالمين، ويحمده في الضراء فيقول: الحمد لله على كل حال، فهو المستحق للحمد؛ لأنه أهل لذلك.
نسأل الله بأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(35/8)
تفسير سورة الحج [60 - 65]
يذكر الله سبحانه وتعالى من أسمائه الحسنى ما يناسب آياته في كتابه الكريم، فهو سبحانه له تسعة وتسعون اسماً من حفظها دخل الجنة، فينبغي الحرص على معرفة أسماء الله وصفاته، وقد ذكر الله في سورة الحج أسماء حسنى كثيرة لم يذكرها في غيرها من سور القرآن.(36/1)
تفسير قوله تعالى: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:60 - 65].
في هذه الآيات من سورة الحج يذكر الله سبحانه وتعالى عظيم قدرته وبديع صنعته في خلقه للسماوات وللأرض، وذكر أنه سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى، ومقتضى أسمائه أن له أفعالاً عظيمة في خلقه ويرينا بعضاً منها في سبع آيات متعاقبة، وكل آية يختمها ربنا سبحانه باسمين من أسمائه الحسنى.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة).
فقوله: (أحصاها) أي: حفظ هذه الأسماء وعرف معانيها وقام بحقها ودعا الله عز وجل بها في مواطنها.
وهنا ربنا ينبهنا في كل آية باسمين من أسمائه الحسنى مناسبين للآية، فقال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]، فذكر اسمين من أسمائه: العفو والغفور سبحانه وتعالى.
ومن أسمائه الحسنى ما فيها صفات لا تليق إلا به وحده سبحانه، ومنها ما فيها صفات تليق به سبحانه وتعالى وحده لجلالها وكمالها، وأمر العباد أن يتخلقوا بالأوصاف التي فيها كالمغفرة والرحمة، فأمر عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وأن يتراحم بعضهم مع بعض، فمن الصفات التي له سبحانه وأمر العباد أن يتصفوا بها، الرحمة والعفو، فيكون فيهم الرحمة والمغفرة للناس على ما يسيئون إليهم.
فذكر هنا: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) وعاقب هنا بمعنى: جازى عقاباً للذي عاقبه، كأنه من ظلم فجوزي على ظلمه.
قال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) وعد الله المظلوم بأنه ينصره، وهنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قبل ذلك لما لاقوا الكفار في شهر حرام استغل الكفار الفرصة لأن المسلمين لا يقاتلون في الشهر الحرام، وأرادوا قتالهم، فنصحهم المسلمون بأن هذا لا ينبغي؛ لأنه شهر حرام، فأبى الكفار، فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله سبحانه وتعالى، فأخبرنا هنا أن من عاقب بمثل ما عوقب به، أي: هؤلاء الذين جازوا الكفار بمثل ما فعل الكفار، فإذا بغى الكفار واستغلوا الشهر الحرام، فالله عز وجل ينصر المظلوم، فنصر الله عز وجل المؤمنين ووعدهم بنصره.
قال تعالى: (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) هنا ينصر المظلوم، وأيضاً يشير لهذا الإنسان الذي يظلم بأن من صفات الله عز وجل العفو والمغفرة، فكن أنت أيضاً على مثل هذه الصفة، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، ففي هذه الآية إشارة إلى اسمين من أسمائه سبحانه أنه يعفو عن الذنوب ويتجاوز عن السيئات ويغفر ويستر سبحانه وتعالى، وفيه تعريض للمؤمنين أيضاً أن يكونوا على مثل هذه الصفات، اعفوا واصفحوا حتى يغفر الله عز وجل لكم.
فمناسبة ما ذكر من عقوبة ومن نصر لله سبحانه وتعالى، وأن الله ينصر عباده المؤمنين المظلومين، ختم بالعفو والمغفرة، فإن هذا الكافر الذي قاتل المسلمين لعله يسلم يوماً من الأيام، فالله عز وجل يغفر لمن دخل في الإسلام بعد كفره، والإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، فعلى ذلك هنا ربنا سبحانه وعد المؤمنين بالنصر، وأيضاً المغفرة لمن تاب إليه سبحانه والعفو عما سلف.
فهذان اسمان من أسماء الله الحسنى: العفو والغفور.
(لَعَفُوٌّ) العفو: يتجاوز سبحانه وتعالى عن الذنوب لمن تاب إليه سبحانه.
(غَفُورٌ) الغفور: الذي يستر الذنوب ويمحوها ويزيلها، والذي لا يؤاخذ بها سبحانه إذا تاب العبد إليه.(36/2)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61].
قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: ذلك الأمر الذي قصصنا عليك من نصر المظلوم بأن الله على كل شيء قدير سبحانه.
وقوله تعالى: (بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) أي: يدخل هذا في ذاك، ويخرج هذا من ذاك.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الليل فيه الظلمة، فالإنسان لا يرى في الظلمة ولكن يسمع في الظلام، وفي النهار يرى الإنسان ويسمع، فهنا النهار مناسب للإبصار، والليل مناسب للسمع؛ فختم الله عز وجل الآية بأنه سبحانه السميع البصير سبحانه، فهو سميع ليل نهار، وإن كان الإنسان قد يعتريه في سمعه النقصان في وقت دون وقت على القرب، وعلى البعد، فهو يسمع القريب ولا يسمع البعيد، وقد يكون الإنسان قريباً من إنسان ويصاب بصمم فلا يسمع، لكن الله سبحانه وتعالى يسمع كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، فالله سميع والله بصير لا يحجبه عن الإبصار الليل ولا النهار، فيرى بالليل كما يرى بالنهار سبحانه وتعالى، يرى الجلي ويرى الخفي، ويرى الدقيق ويرى العظيم الجليل، ويرى كل شيء ما بعد وما قرب.(36/3)
تفسير قوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل)
قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62] قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) فالله الحق، ويأبى إلا أن يحق الحق بكلماته سبحانه.
قال تعالى: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) فمهما استنصروا بهذا الباطل ومهما رأوا الباطل قد كثر وقد كبر في نظر هؤلاء، فالله العلي الكبير سبحانه، فالإنسان الذي يتبع الباطل يجد له أعواناً كثيرين على الباطل، ولذلك يقول الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، ولا يهدوك إلى سبيل الله، بل يضلوك عن سبيل الله سبحانه.
وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، فالكثرة من الناس ليسوا من أهل الإيمان، فالإنسان يستكثر بمن هو مثله، والكفار يستكثرون ويتقوون بأمثالهم فيرون أنفسهم في عدد كبير جداً، فيستكثرون أنفسهم ويستكبرون بما هم فيه.
قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) مهما علا الباطل لا بد أن يدحضه الله سبحانه، والله وحده العلي سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (الْكَبِيرُ) مهما كبر أهل الباطل وكثروا فالله هو الكبير وحده لا شريك له، الله أكبر من كل شيء، وأن الله هو العلي الكبير سبحانه الموصوف بالعظمة والكبرياء.(36/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء)
قال الله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) [الحج:63].
يذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يفعل كذا، والله يفعل كذا، ويذكر لنا من صفاته ما يناسب المقام.
فالله أنزل الماء من السماء أي: من السحاب ومن حيث شاء الله سبحانه وتعالى، نزل المطر بالليل، وأصبحت الأرض مخضرة، هذه آية، وذكرها قبل ذلك في الآية الخامسة من هذه السورة بقوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:5 - 6]، فالمناسبة العظيمة بين إنزال الماء من السماء: أن الماء ينزل من السماء على أرض جدباء فيحييها الله سبحانه، وينزل القرآن من السماء على قلوب عباد -والله أعلم من يستحق الهدى- فيهديها ويحييها بعد موتها وبعد ضلالها، فالقرآن شفاء ونور وحياة، نزل من السماء ويحيي به الله عز وجل قلوب من يشاء من خلقه.
في الآية الأولى ذكر لنا ربنا سبحانه: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وهذه لها معان في اهتزازها وربوها، فالأرض تهتز بالنبات الذي فيها، سيقان النبات وجذور النبات تدخل في الأرض، فإذا بالأرض تهتز وتعلو بما نما فيها من جذور للنبات، هذا معنى من المعاني.
وتربو الأرض ويرتفع فيها النبات، فكأنها علت بالنبات الذي فوقها.
والآية هنا يقول سبحانه: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وفي تلك الآية يقول سبحانه: (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ)، والبعض يقول: إن الأرض اهتزت وربت داخل الأرض نفسها، فالأرض من داخلها تهتز، والربو بداخل الأرض نفسها، ثم بعد ذلك ينبت النبات، فعلى التفسير الأول: أن الأرض علت بما فوقها من النبات، نبات نما وعلا فوق الأرض، فهذا هو ربو الأرض وعلوها.
والبعض الآخر يقول: إن الربو بداخل الأرض نفسها، التربة نفسها تربو وتنتفخ وتعلو، وهذا موافق لما جاء في هذه الآية، والعلم الحديث يقول لنا هذا الشيء أيضاً، ففي عام 1827م اكتشف عالم بريطاني اسمه براون أن المطر ينزل على الأرض فيحدث في الأرض اهتزازات بداخل التربة، أي: حبيبات التراب التي في الأرض تهتز، فيحصل نوع من التأين فيها، شحنات سالبة وشحنات موجبة بسبب المطر، فالتي تأخذ شحنة عالية تتحول إلى شحنة موجبة، والثانية تتحول إلى شحنة سالبة أو العكس في ذلك، فيحصل تنافر بين هذه الشحنات فتعلو الأرض؛ لأن الماء يدخل بداخلها، أي: أن جزءاً من ألف جزء من الملي يدخل فيها شيء من الماء، والأخرى يدخل فيها شيء من الماء، فيحجز الماء في هذه الصفيحات من حبيبات الأرض لكي تنمو النباتات بعد ذلك، يقول براون: إن هذه الحبيبات من التراب عبارة عن صفائح بعضها فوق بعض من المعادن المختلفة، وهي صفائح متراصة، فإذا نزل المطر تكونت شحنات كهربائية مختلفة بين الحبيبات بسبب اختلاف المعادن، وحدث تأين وتحول إلى شحنات سالبة وشحنات موجبة، فإذا نقص عدد الكهيربات في الذرة أصبحت موجبة، وإذا زادت صارت سالبة بفعل الماء الذي ينزل عليها، وبدخول الماء من عدة جهات إلى تلك الحبيبات يحدث اهتزاز في هذه الحبيبات.
والاهتزاز له فائدة عظيمة، فقد قال سبحانه: (اهتزت وربت) أي: تهتز صفيحات التراب، وبعد ذلك تتباعد بعضها عن بعض وتحتوي الماء في داخلها، فالاهتزاز يوجد مجالاً لدخول الماء بين الصفائح، فإذا دخل الماء بين صفائح التراب نمت ودبت هذه الحياة، وربت وزادت بسبب دخول الماء بين الصفائح، فإذا تشبعت بالماء أصبحت عبارة عن خزان للماء، فالتراب الذي نراه يصير خزاناً للماء بداخل الأرض يحفظ الماء بين هذه الصفائح، والنبات يستمد الماء من التراب الذي في صفائحه ذرات الماء طوال شهرين أو ثلاثة أشهر، فأصبحت خزانات للماء بداخل الأرض، وربت بفعل الماء الذي بداخلها ثم بعد ذلك أنبتت النبات.
وهنا يقول الله في الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي: ربت الأرض وبعد ذلك أخرجت النبات، والاهتزازات الذي ذكرها هذا العالم موجودة في القرآن في قوله تعالى: (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ)، ولكنهم اعتبروها كشفاً علمياً حديثاً جداً، ونسبوها لصاحبها الذي اكتشفها، ولكن صاحبها الحقيقي هو الله عز وجل الذي أخبر بها، فسماها علماء النبات اهتزازات براون نسبة لمن اكتشفها، وكان ذلك في عام 1827م، والقرآن من قبل 1400 سنة ذكر لنا هذا الشيء العظيم: أن الأرض تهتز وتربو وتنمي هذا النبات، ثم اكتشفوا ذلك، ونسبوه للمكتشف ونسوا ما ذكر الله سبحانه وتعالى! فقوله تعالى: (فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً) بالنبات الذي فوقها.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) إذ تصبح الأرض مخضرة وفيها النبات الأخضر، فيها الورق الأخضر الذي يأتي عليه الضوء، فيخرج منه أوكسجين؛ لأنه يتنفس ويأخذ ثاني أكسيد الكربون ويخرج لنا الأوكسجين الذي نعيش به، ولكي نعرف لطف الله عز وجل بعباده أخرج من النبات الغذاء للإنسان والأوكسجين الذي يتنفس به الإنسان من فضل الله عز وجل، فقال لنا: الله لطيف بعباده سبحانه وتعالى، فالمطر حياة للإنسان، لما ينزل من ماء يشربه الإنسان ويسقي الأرض وينمي النبات، ويخرج لنا الأوكسجين الذي نتنفسه.
قال: (خَبِيرٌ) أي: دقيق في علمه يعلم ما دق وما جل، ويعلم ما يحتاجه الإنسان، فيعطيه ما يحتاجه.
وهنا نرى المناسبة الجميلة بين إنزال الماء ولطف الله سبحانه وتعالى بالعباد، فالإنسان يعطش ويحتاج للتنفس وللطعام، فالله بلطفه أنزل الماء فأعطاه هذا كله، والله خبير يعلم حاجة الإنسان ويعلم ما في قلبه عندما يدعوه، فالله الخبير سبحانه العليم بخفايا النفوس، والعليم بما يحتاجه الإنسان، أخرج له النبات وأعطاه الرزق.(36/5)
تفسير قوله تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض)
قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحج:64] الله هو الغني الذي يملك كل شيء، وهو الحميد المستحق لأن يحمد سبحانه تعالى على كماله وعلى جلاله، فالله يملك، والذي يملك هو الغني، والذي يملك هو الذي يحمد؛ لأنه قادر ولأنه مالك ولأنه غني مستغن عن غيره، والكل يحتاجون إليه، واحتياجهم إليه يدفعهم أن يحمدوا هذا الغني الذي يعطيهم سبحانه وتعالى بسؤالهم وبغير سؤالهم، فالله له أن يملك فهو الغني سبحانه.
فقوله سبحانه: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: يملك ما في الأرض، فكل ما تملك من بيت وأرض وزرع هو ملك لله، ومع ذلك أعطاك ذلك، أفلا تحمده سبحانه أن أعطاك وسماك مالكاً وأنت في الحقيقة لا تملك شيئاً، هو ملك الله سبحانه، فالله الحميد المستحق لأن يحمد سبحانه على كرمه وعلى فضله سبحانه وعلى إعطائه عبيده مالا يملكون، فهو ملك له.(36/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65].
هذه من نعم الله عز وجل على العباد، سخر لكم ما في الأرض وما في البحر وما في الجو، سخر لكم الدواب، وسخر لكم الجماد، وسخر لكم الحيوان، وسخر لكم ما في البحار، وما في الأنهار، وسخر لكم ما في السموات من شيء من فضله، وجعل لكم طعاماً من طيور وغيرها، وهنا سخر لكم ما في الأرض سبحانه وتعالى.
قال تعالى: (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي: سخر لكم السفن تجري في البحر، ليس بأمرك أنت ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسيرها بالرياح، وهو الذي يسيرها بما يشاء سبحانه، ولو شاء أوقفها ولو شاء لقلبها وقد فعل هذا كله.
قال تعالى: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي: يمسك السماء أن تقع، وما سماك هو: ما علا فوقك، ومنه السماء، ويمسك النجوم أن تصطدم بعضها ببعض، وعلماء الفلك يراقبون السماء ويقولون: هناك نجم أتى من تلك المنطقة ومذنب أتى من مكان آخر، ولو وصل إلى الأرض وضربها بذيله لضاعت الأرض، والذي يمسك هذا ويمنعه هو الله سبحانه وتعالى حتى يأتي قضاؤه وقدره، والإنسان يراقب فقط، لكن لا يقدر أن يتصرف بشيء، فلو نزل نجم يهوي إلى الأرض لكي يدمر الأرض لا يقدر الإنسان أن يصنع به شيئاً، فالله سبحانه وتعالى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) هذا من رأفة الله عز وجل بعباده ومن رحمته بعباده سبحانه وتعالى، فالله رءوف ولطيف بعباده سبحانه، فالرأفة رحمة الله عز وجل بعباده، فذكر اسمين من أسمائه: الرءوف، أي: رحيم بعباده سبحانه، ولطيف في رحمته بعباده، وهو الرحيم ذو الرحمة المتواصلة الدائمة في كل شيء من أمور الإنسان ومن أمور خلقه فهو رحيم.
(رَءُوفٌ) قرئت في القرآن كله بقراءتين: قراءة الجمهور: ((إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ))، وقراءة البصريين وحمزة والكسائي وخلف وشعبة عن عاصم: (لَرَؤف) بالقصر من غير مد للهمزة، ففي كل القرآن هذا الاسم العظيم يقرأ: (رؤف) ويقرأ: (رءوف).
فهنا الأسماء الحسنى جاءت في السبع الآيات المتوالية: (إن الله لعليم حليم)، (وإن الله لعفو غفور)، (إن الله سميع بصير)، (وأن الله هو العلي الكبير)، (إن الله لطيف خبير)، (إن الله لهو الغني الحميد)، (إن الله بالناس لرءوف رحيم) فذكر الله عز وجل فضله وكرمه وأسماءه الحسنى المناسبة لما ذكره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) فالمناسبة: أنك تفهم اسم الله سبحانه، وتستدعي فضل الله عز وجل بهذا الاسم في الموطن الذي يناسبه، فتسأله رحمته حين تنزل بك المصائب وتنزل عليك الشدائد، وتسأله من فضله، وتسأله من رحمته ومن لطفه، وتسأله من رأفته سبحانه، وفي كل موطن تذكر اسماً من أسماء الله عز وجل يناسب كشف الضر في هذا الموطن عنك، وإجابة سؤالك.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ويحفظ لنا دينه، ويجعلنا من عباده المخلصين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد.(36/7)
تفسير سورة الحج [66 - 72]
لقد خلق الله تعالى الإنسان من عدم ثم يميته ثم يحييه يوم القيامة، والكافر لم يشكر الله تعالى على نعمه، بل صار جاحداً كفوراً لها، مجادلاً بالباطل، فالله سيحكم في هؤلاء يوم القيامة، فهو يعلم ما في السماوات والأرض، ومن ذلك جدل المجادلين وعدم استجابة المكذبين.(37/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الحج: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66].
لما ذكرنا الله عز وجل بنعمه العظيمة في الآيات السابقة، وعقب في كل آية من الآيات باسمين من أسمائه الحسنى دالين على ما ذكر فيها، ذكر بعد ذلك طبيعة الإنسان وما فيه من كفر، وما فيه من جهل، فقال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66].
فالله عز وجل خلق الإنسان وقد كان لا شيء قبل أن يخلقه سبحانه، فأحياه حياتين، وأماته موتتين.
فالموتة الأولى يوم أن كان عدماً، ثم أحياه الله وجعله إنساناً في هذه الدنيا، ثم أماته الموتة الثانية ليبعثه ويجازيه يوم القيامة، ثم يحييه بعد ذلك.
فالإنسان يمر في حياته بمراحل: مرحلة الطفولة، ومرحلة الشباب، ومرحلة الكهولة، ومرحلة الشيخوخة ثم الموت.
يتقلب الإنسان بين حالي الضعف والقوة، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الروم:54].
فمن المفترض أن الإنسان الذي يرى آيات الله عز وجل في الخلق، وفي نفسه أن يعرف قدرة الله، فيقدر الله حق قدره، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
وهنا يذكر سبحانه أنه هو الذي أحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم.
أحياكم يوم أن كنتم عدماً ثم كنتم نطفة فجعل فيكم حياةً مستقرة عشتم بها على الأرض، ثم أماتكم وتوفاكم سبحانه، ثم يبعثكم ليجازيكم، فهل عملتم ليوم الجزاء أم كفرتم وجحدتم نعم الله عز وجل عليكم؟ قال: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66] يعني: من طبيعة الإنسان الكفر، والكفر الجحد، والمقصود هنا الجحد لنعم الله سبحانه وتعالى، فمهما أنعم على الإنسان استقل ما أعطاه الله سبحانه، سواء صرح بذلك أم لم يصرح، قال الله سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي: كنود جحود كفور، يجحد نعم الله عز وجل، إنها طبيعة الإنسان! قال تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] يعني: لو أن الإنسان حاسب نفسه لعرف أنه فعلاً يجحد نعم الله عز وجل، فتجد بعضهم يقول: إنني مريض، ولا أملك شيئاً، يشكو ربه تبارك وتعالى! فإذا راجع نفسه وتأمل وقال: الله أطعمني، وسقاني، وكفاني، وأواني، ومنع عني الخلق شرورهم، ورزقني، عرف أنه كاذب فيما ادعى من عدم الملك، وأن الله قد أنعم عليه بالنعم العظيمة.
فقال هنا سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} [الحج:66] اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية فقيل: في الأسود بن عبد الأسد.
وقيل: في أبي جهل بن هشام.
وقيل: في العاص بن هشام.
وقيل: في جماعة من المشركين.
ولكن الله عز وجل لم يقصد هؤلاء فقط، وإنما قال: {إِنَّ الإِنسَانَ} [الحج:66] يعني: أن جنس الإنسان فيه هذا العيب أنه يعرف نعم الله، ثم ينكرها كما قال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83].
فينكر نعم الله عز وجل التي أنعم عليه بأي دعوة من الدعاوى كأن يكون خائفاً من الحسد أو غيره.
فيقول الله له: لا تنكر نعم الله عز وجل عليك، ولكن قل: الحمد لله الذي أنعم علي وأعطاني.
وقل: ما شاء الله؛ إن خفت على نفسك من الحسد من غيرك، أو من نفسك.(37/2)
تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً)
يقول سبحانه تبارك وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] أي: جعلنا لهم شريعة يعبدون الله عز وجل بها.
ومن معاني النسك: شرع الله سبحانه، والنسك العبادة، والذبح لله سبحانه وتعالى.
فكل أمة من الأمم جعل الله عز وجل لهم شرعاً ومنهاجاً يسيرون عليه، ثم يأتي نبي بعد نبي فينسخ الله عز وجل على لسانه ما يشاء، ويأتي بشرع آخر.
ولكن يتفق الجميع على عبادة الله الواحد سبحانه وتعالى، ويتفقون على أن يسلموا أنفسهم لرب العالمين يحكم فيهم بما يشاء سبحانه وتعالى، ويتفقون على قول لا إله إلا الله.
وقد ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار للمؤمنين في أمر الذبائح، فقالوا: تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله! يعنون بذلك الميتة فكأنهم جعلوا ذلك من باب قياس الأولى.
وهذا الجاهل الذي يتعامى عن الحقيقة، نسي أن الذي أزهق الروح وقبضها في الحالتين هو الله سبحانه وتعالى والإنسان إنما باشر الذبح، ثم أخبرك الله أن هذه المذكاة حلال، وأن التي ليست مذكاة حرام.
فهؤلاء جادلوا بالباطل مع معرفتهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وما يقوله المؤمنون.(37/3)
تفسير قوله تعالى: (فلا ينازعنك في الأمر)
قال الله سبحانه تبارك وتعالى عن هؤلاء للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} [الحج:67] يعني: دع هؤلاء في إفكهم وافترائهم واختلاقهم على الله عز وجل الكذب، فأنت قد عرفت الحق الذي أنت عليه.
ثم قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج:67] ادع هؤلاء وغيرهم إلى الله عز وجل، ولا يصدنك هؤلاء عن دعوتك إليه.
ثم قال له مؤكداً: {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] فأنت على هدى ومن معك عليه كذلك، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
فإذا عرف المؤمن الحق فلا ينظر لما يقول الكفرة إلا على وجه الرد عليهم بحيث لا يشغل نفسه بهم، فإن اشتغل بهم ضيعوا عليه أمر دينه.
ثم قال سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} [الحج:67] أي: انتبه لدعوتك إلى الله عز وجل، ولا تشغل نفسك بجدال هؤلاء؛ فإنهم يأخذون وقتك كله، وأنت قد هداك الله عز وجل إلى دين لا عوج فيه صراط مستقيم إلى جنة رب العالمين.(37/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)
قال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج:68] أي: إذا جادلوك بهذا الذي يقولونه، {فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج:68] أي: الله أعلم بأعمالكم، وبأقوالكم، ونواياكم.
فقد يقول الكافر كلاماً يتوهم منه المسلم أنه يجادل من أجل الوصول إلى الحق، والله يعلم أنهم كذابون، وأنهم لا يريدون حقيقة ولا غيرها.
ولكن يريدون أن يشنعوا على الإسلام وعلى المسلمين، ومهما أظهروا عسلاً أمام الناس فقد أبطنوا فيه سماً.
ولذلك من يطلع على أقوال المستشرقين الذين يمدحون الإسلام تجد أن في باطن كلامهم الكذب على هذا الدين وأنهم يقولون كلاماً يجذبون به الناس، ثم بعد ذلك يضعون لهم السموم.
ومثال ذلك: الكافر الذي ألف كتاب العظماء المائة في التاريخ، يذكر أن أعظم الناس الذي دعوا الخلق وظهروا واشتهروا هو النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول: إنه يفرق بين كونه رجلاً دعا الناس والتفوا حوله، وبين كتابه الممتلئ بالخرافات، وبالكلام الذي لا يقبله العقل! فالله أعلم بما يعمل هؤلاء، وإن أظهروا أن هذا الدين حسن، فإن لهم هدفاً في قلوبهم وهو تشويه صورة الإسلام، ويجعلونه دين خرافات، فلا يعترفون به.
ومن ذلك: ما فعلوا من لجان للتقريب بين الأديان، وأنه لا بد أن يجتمع الناس على التسامح.
ثم يجتمعون من أجل أن يتكلموا عن أمر الأديان الثلاثة: اليهودية، والنصرانية، والإسلام.
ثم يخرجون بوثيقة يرفض اليهود والنصارى التوقيع عليها وقالوا: نحن لا نعترف بالإسلام أصلاً، أنه دين، أما المسلمون فقد كادوا أن يوقعوا على ذلك! فنقول لهؤلاء المستدرجين من المسلمين: إنهم في الحقيقة لا يعترفون بدينكم، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] فأخبرنا ربنا أن هؤلاء أبداً لن يحبوا المسلمين، ولن يرضوا عنهم حتى يبدلوا دينهم بما هم عليه.
فإذا تغافل المسلم عن ذلك سلط الله عز وجل عليه عدوه حتى يذيقه الأمرين، ليعلموا أن ما قاله الله عز وجل حق!(37/5)
تفسير قوله تعالى: (الله يحكم بينكم يوم القيامة)
قال تعالى: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج:69] أي: أن الله يحكم بيننا وبينكم يوم القيامة فيما عرفتم من الحق ثم اختلفتم حوله.
يقول العلماء: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عز وجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولعباده جميعهم في الرد على المجادل المتعنت، فقال: مثل هؤلاء لا يستحق الجدال والمناظرة؛ لأنه يتكلم بالباطل ولا يريد الوصول إلى الحق.
وعلى ذلك فالذي يستحق أن يجادل هو الذي يطلب الحق ليصل إليه، أما الذي يجادل للجدل، فهذا لا يستحق الجواب.(37/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض)
قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] كأنه سبحانه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك قد علمت ذلك، على وجه الاستفهام التقريري (ألم تعلم؟) فيقول له وللمؤمنين بالتبع: اعلموا أن الله يعلم ما في السماء والأرض، واستيقنوا ذلك فقد علمه سبحانه وكتبه عنده في كتاب.
فكل ما هو كائن إلى يوم القيامة مكتوب عند الله عز وجل لا يبدل ولا يمحى.
قال تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70] أي: أن الله عز وجل كتب ذلك في الكتاب، ويسير عليه أن يعلم كل شيء، إنما هو صعب على الإنسان أن يعلم أشياء من أجل أنه يحفظ هذا، ويحفظ هذا، ويكتب ويقيد من أجل أن يحفظ، لكن الله عز وجل لا يحتاج إلى كتاب، ولا إلى اللوح، ولا إلى القلم.
إنما يبين سبحانه وتعالى أنه على كل شيء قدير، فخلق قلماً، وأمره أن يكتب كل ما يريده الله عز وجل فكتبه، وجعل لوحاً حفظ فيه كل ما شاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذا إعجاز من الله عز وجل أن يخلق قلماً فيكتب، وأي لوح هذا الذي يستوعب كل شيء من وقت ما خلق الخلق إلى أن تقوم القيامة؟! فمهما تعجب الإنسان من ذلك فهو على الله يسير.
فإن كان ذلك على الله يسيراً فلم لا تعبدون الله؟ ولم تتركونه إلى غيره ممن لا يستطيعون أن يخلقوا؟ قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17].(37/7)
تفسير قوله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً)
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] أي: يعبدون من دون الله أوثاناً، وأحجاراً، ويعبدون أناساً وشياطين وجناً.
وفي قوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71] قراءتان: قراءة الجمهور: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتشديد.
وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب: (مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتخفيف، وهكذا في القرآن كله.
ومعنى قوله: ((سلطاناً)) أي: دليل وبينة وكتاب من عنده سبحانه.
ثم قال تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71] أي: لا علم لهم نزل من عند الله، ولا عقل يدل على ما يقوله هؤلاء، فلا نقل ولا عقل.
قال سبحانه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] فإذا جاءوا يوم القيامة وسئلوا: لماذا عبدتم هؤلاء؟ لا يجدون حجة نقلية، ولا حجة عقلية، ولا نصير ينصرهم يوم القيامة حين يردون إلى ربهم سبحانه وتعالى.
فكانوا في الدنيا في بعد عن رب العالمين، وقست قلوبهم.(37/8)
تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر)
قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] أي: يعبدون من دون الله أوثاناً، وأحجاراً، ويعبدون أناساً وشياطين وجناً.
وفي قوله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الحج:71] قراءتان: قراءة الجمهور: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتشديد.
وقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب: (مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا) بالتخفيف، وهكذا في القرآن كله.
ومعنى قوله: ((سلطاناً)) أي: دليل وبينة وكتاب من عنده سبحانه.
ثم قال تعالى: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} [الحج:71] أي: لا علم لهم نزل من عند الله، ولا عقل يدل على ما يقوله هؤلاء، فلا نقل ولا عقل.
قال سبحانه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71] فإذا جاءوا يوم القيامة وسئلوا: لماذا عبدتم هؤلاء؟ لا يجدون حجة نقلية، ولا حجة عقلية، ولا نصير ينصرهم يوم القيامة حين يردون إلى ربهم سبحانه وتعالى.
فكانوا في الدنيا في بعد عن رب العالمين، وقست قلوبهم.(37/9)
تفسير سورة الحج الآية [73]
ضرب الله تعالى لنا مثلاً بأحقر المخلوقات وأضعفها وهو الذباب، منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها، فتحدى الله عز وجل الكفار وآلهتهم التي يعبدونها بأن يخلقوا ذباباً، بل تحداهم بما هو أقل من ذلك، وهو أن يستنقذوا من الذباب ما أخذ منهم، فهم عاجزون عن رد ما سلبه منهم، ضعف الطالب والمطلوب.(38/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآية مثلاً يضربه لعباده، فاستمعوا لما يقول الله سبحانه، قال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74]، فضرب الله عز وجل مثل ما يعبد من دون الله سبحانه وتعالى، وكيف أن هذه الآلهة التي تعبد من دون الله لا تملك لنفسها ولا لغيرها شيئاً.
وهنا يذكر لنا شيئاً من أحقر الأشياء التي يراها الإنسان، فيقول: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)) أي: هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله، سواء كانت هذه الآلهة من حجر أو كانت من بشر أو كانت من جان أو شياطين أو ملائكة، فهؤلاء عبدوا من دون الله عز وجل ما لا ينفع، ولا يضر نفسه ولا غيره ولا يملك نفعاً ولا ضراً لا لنفسه ولا لغيره، فهؤلاء لو اجتمعوا لن يخلقوا شيئاً من مخلوقات الله سبحانه، ولو كان هذا الشيء من أحقر ما يكون.
قوله: ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ)) فهنا شيئان: الأول: الذباب لا يقدر أحد أن يخلقه، أي: لا يقدرون ولو اجتمعوا جميعهم أن يخلقوا ذباباً.
الثاني: أن هذا الذباب المخلوق الحقير الذي يقتله الإنسان لو أنه سلب من الإنسان شيئاً لا يقدر الإنسان أن يستنقذ هذا الشيء من هذا الذباب، حتى ولو قتل هذا الذباب فإنه لا يقدر أن يستنقذ هذا الشيء منه.
وحاول العلماء ذلك، فوضعوا قطعة سكر للذباب، ومجرد أن وقع عليها الذباب رشوا عليه مبيداً وقتلوه، وحاولوا أن يأخذوا منه السكر فوجدوا أنه مستحيل؛ لأن الذباب لما وقف على السكر قام بإنزال إنزيم حلل السكر إلى مادة أخرى تماماً، وضاعت قطعة السكر على الإنسان ولم يقدر أن يأخذها، وقد يأتي إنسان فيفكر ويعاند في هذا الشيء، ويقول: لماذا لا نقدر أن نستنقذ الشيء من الذباب؟ وقد جرب العلماء وأثبتوا أن ما قاله الله عز وجل هو الحق، فهذا المخلوق الحقير الذي يضايق الإنسان اسمه ذباب، من الذبذبة والحركة، يعني: كثرة حركة فيه فهو يتحرك شمالاً ويميناً وفوق وتحت، ويؤذي الإنسان ويضايق الإنسان، في الدنيا وكذلك يوم القيامة يكون هذا الذباب في النار ليؤذي أهل النار والعياذ بالله.(38/2)
حديث الذباب وموقف علماء الطب وغيرهم منه
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم لنا في الذباب شيئاً عجيباً في حديثه، يقول: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه) جاء في هذا الحديث الذي ظل المسلمون مئات السنين لا يعرفون ما وراء هذا الحديث، ولكن يقولون: نطبق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أتى ممن لا يفهمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم وبدءوا ينكرون ذلك، ويقولون: كيف يروي الأئمة، مثل هذه الأحاديث حتى الإمام البخاري في صحيحه، وهو: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في إحدى جناحيه داءً وفي الأخرى شفاءً)؟ في الماضي كان المسلمون يعلمون ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الذباب وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، لكن لم يكونوا يعرفون ما هو الداء وما هو الشفاء.
وبعد ذلك جاء في القرن العشرين بعض المسلمين ممن استغربوا وخرجوا عن أرضهم وذهبوا للغرب وتعاملوا معهم ورجعوا ينكرون هذا، حتى من المشايخ، ويقولون: لم يكن من المفترض أن يذكر البخاري مثل هذا الحديث في الصحيح، هذا حديث خطأ؛ لأن الذباب مؤذ، وكيف نضع الذبابة كلها بداخل الإناء وكيف نخرجها؟! هذا شيء مقزز، وهذا شيء مؤذ، وهذا فيه مرض، فقالوا ما قالوا فيه، وبعد ذلك يقوم علماء الطب الأجانب ليفحصوا في الذباب، ويبحثوا ما فيها، وماذا في الحديث الذي يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنهم وصلوا بتجاربهم إلى أن الذباب فعلاً في أحد جناحيه جراثيم، وفي الجناح الآخر فيه ما يقتل الجراثيم، هناك أبحاث كثيرة قام بها علماء أمريكيون وبريطانيون وسويسريون وغيرهم فيقولون: ثبت علمياً أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم تسمى (بكتريوفاج) أي: مفترسة الجراثيم، في داخل الذباب نفسه، قالوا: هذه المفترسة للجراثيم تسمى بعامل الشفاء، وهي صغيرة الحجم ويقدر طولها من عشرين إلى خمسة وعشرين (مل مايكرون)، فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب فلو غمست جميعها نزل هذا الإنزيم الذي يقتل الميكروبات الموجودة في هذه الذبابة.
يقول الدكتور أمين رضا أستاذ جراحة العظام في بحث عن الذبابة: نؤكد أن المراجع القديمة فيها وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب، وهذا شيء عجيب جداً! ثم يقول: وفي العصر الحديث صرح الجراحون الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا بأنهم قد رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة عولجت بالذباب، قال جراحون هذا الشيء! والبعض الآخر قالوا: لاحظ الأقدمون أن موضع لدغة الزنبور أو العقرب إذا دلك بالذباب فإنه ينفع منه نفعاً بيناً.
وعندما ذهب الأطباء في الحرب العالمية لمعالجة الجنود لاحظوا أن الجنود الذين يعالجون في ميدان المعركة يشفون بسرعة، أما الضباط الذي ينتقلون للمستشفى ويعالجون بعلاج أرقى ومعقم يتأخر شفاؤهم؛ وذلك لأن الجنود الذين يعالجون في الميدان يتعرضون لوقوع الذباب على جراحاتهم، وليس معنى ذلك أن الذباب شيء جيد، لا، بل هو مؤذ في الدنيا وفي الآخرة والعياذ بالله، ولكن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (إذا وقع الذباب)، فالمسلمون لم يعرفوا معنى هذا الحديث، ولكن قالوا: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما بدأ ناس آخرون منهم يقلدون الغرب في كلامهم، وقالوا: كل شيء نفهمه بالعقل ولا نقبل هذا الحديث، لجهلهم وغبائهم، وكثير من المسلمين فيهم غباء وفيهم جهل وفيهم بعد عن دين الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك يتكلم الواحد منهم بجهله ويقول: العلم ينفي هذا الشيء وهو جاهل أصلاً، لم يدرس علماً ولا رآه، لكن هؤلاء الغربيون بيحثون ويرون ماذا وراء هذا الشيء.
الدكتور (فيرينك) نشر بحثاً عن جائحات (الهايبا) (يعني: الكوليرا) في الهند، فاكتشفوا كائنات دقيقة تأخذ الجراثيم وتلتهمها، وعندما حصل وباء الكوليرا في الهند، وقتل أناساً كثيرين، وبعد ذلك فجأة قل هذا الوباء وبدأ ينتهي، اكتشفوا أن نوعاً من البكتيريا وهي (البكتريوفاج) (آكلة الجراثيم) كانت السبب في شفاء هؤلاء، وأثبت هذا الرجل أن العامل الأساسي في إطفاء جوائح (الكوليرا) كانت هذه (البكتريوفاج)، وقال: ويوجد في براز الناقهين من المرضى الذين كانوا مصابين (بالكوليرا) هذا (البكتريوفاج)، ويأتي الذباب ويقف على هذا البراز ويذهب على أحواض الماء التي يشرب منها الناس فيضع فيها (البكتريوفاج) ويشفيهم الله سبحانه وتعالى! هذا شيء عجيب جداً، الإنسان لا يتخيل هذا الشيء، وليس المسلمون الذين يقولون هذا الشيء، إنهم الكفار الذين يقولون هذا الأمر، ففي سنة (1928م) كان هناك أنواع من الجراثيم تؤذي الناس، فأتى الذباب وأكل هذه الجراثيم، وبعد ذلك تركها، قال هنا: فاختفى أثرها بعد حين، اختفى أثر هذه الجراثيم بعد حين، وماتت كلها من جراء وجود ملتهم الجراثيم، هذا شأن الذباب في مكافحة الأمراض الجرثومية التي قد ينقلها هو بنفسه، الذباب ينقل الأمراض الجرثومية، وفي نفس الوقت فيه علاج لهذه الأمراض.
وفي خلاصة بحثه يقول لنا: إذا هيئ خلاصة من الذباب في مصل فسيولوجي فإن هذه الخلاصة تحتوي على أربعة أنواع من الجراثيم الممرضة.
وهذا رجل ألماني اسمه (بريشل) قال: وجد أن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلي من جنس الفطريات، وهذا الطفيلي يقضي حياته في الطبقة الدهنية الموجودة داخل بطن الذبابة.
وقال العلماء الجدد: إن هذا الفطر الموجود فيه خميرة قوية تزيل أجزاء الحشرة الحاملة للمرض.
وذكروا عن علماء إنجليز وعلماء سويسريين وغيرهم في اكتشافات لأشياء: أن الذبابة عالجت أمراضاً معينة، بسبب هذا الشيء الموجود فيها، من ضمنها (التيفود) و (الكوليرا) و (الزحار) وغيرها، وهنا الأبحاث التي ذكرها علماء الغرب في ذلك، فيها الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه المسلمون؛ لأنه غيب، ولم يبحثوا في الذبابة، فأخذوا وصدقوا وسلموا بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلوا ما قاله صلى الله عليه وسلم، وجاء العلماء الغربيون وصدقوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يؤمنوا بما قاله عليه الصلاة والسلام، ولكن بحثهم العلمي أدى إلى هذا الشيء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء)، فهنا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن أن هذا الذباب من أحقر المخلوقات التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فذكرها الله سبحانه وتعالى وفيها أنه لا يقدر الإنسان أن يخلق مثلها، ولا يقدر الإنسان إن سلبه هذا الذباب شيئاً أن يستنقذه منه.
((ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)) الطالب الذي يطلب أن يخلق مثل هذا الذباب، فضعف ولا يقدر، وضعف أن يطلب وأن يستنقذ من الذباب شيئاً أخذه منه، والمطلوب: هو الذباب وهو ضعيف حقير يحتقره الإنسان.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا، وأن يجعلنا ممن يؤمنون بالغيب ويصدقون كلام الله رب العالمين وكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(38/3)
تفسير سورة الحج [73 - 78]
ما قدر الكافرون ربهم حق قدره حيث أنكروا قدرته على البعث وعبدوا غيره وكذبوا رسله، والله يصطفي رسلاً من الملائكة ومن الناس، ويعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، فيجب على العباد الاستجابة لرسل الله الذين يدعونهم إلى عبادة الله، فيعبدونه كما أمرهم، ويجاهدون في سبيله لنصرة دينه الذي ارتضاه وشرعه لجميع الناس.(39/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:73 - 76].
يضرب الله عز وجل لنا في هذه الآيات مثلاً، وأمرنا أن نستمع لهذا المثل فقال: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] ولم يقل: فاسمعوا له من السماع؛ لأنه قد يمر الشيء على أذنك فقد تفهمه، وقد لا تفهمه.
ولكن الاستماع بمعنى: الإصغاء والتدبر والتأمل فيما يقوله الله سبحانه وتعالى.
فيضرب الله لنا الأمثال ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، والبعوضة من خلق الله عز وجل فلا يستحيي أن يضرب المثل بها، وبما فوقها من كائنات يخلقها الله عز وجل.
فهي وإن كانت حقيرة في نظركم لكنها عظيمة جليلة في خلقتها؛ ولذلك لو اجتمع الخلق كلهم أن يخلقوا شيئاً من أحقر الأشياء التي ينظرون إليها ويستقلونها في أعينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
فلذلك يضرب الله عز وجل المثل بهذا الشيء وإن كان يبدو لك حقيراً، ولكن خلقته خلقة عظيمة جداً، فالله الذي خلقه والذي قدره على أن يطير، والذي قدره على أن يؤذيك ويضايقك.
فانظر إلى الذبابة وسميت ذبابة؛ لتذبذبها وكثرة طيرانها، وذهابها ومجيئها، فهي مخلوق خلقه الله عز وجل يؤذي بطبعه فجعله الله عز وجل في الدنيا عبرة، وجعله يوم القيامة في نار جهنم عذاباً على أهل النار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذباب كله في النار ليكون عذاباً لأهلها.
وفي الدنيا لا يقدر الإنسان على أن يمحو الذباب أو يفنيه، وقد يقلل منه، وهو يتكاثر سريعاً بأمر الله تعالى فيبقى ليؤذي الإنسان، وقد ينفع الإنسان به في أشياء كما ذكرنا في الحديث السابق.
فالله عز وجل يضرب لنا المثل بالذباب الذي نحتقره ونستصغره، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73]، إنه لو اجتمع هؤلاء جميعهم العباد والمعبودون من دون الله سبحانه فلا يستطيعون أن يخلقوا ذباباً.
قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] فلو أن الذبابة وقعت على طعام أحدكم فأخذت منه شيئاً، وطارت به؛ ما قدرت أن تستنقذه منها.
وقد ذكرنا سابقاً كيف أنهم راقبوا هذا في الذباب ووجدوا أنه بمجرد أن تضع لعابها على الطعام وقبل أن يدخل في جوفها تحوله إلى شيء آخر يسهل امتصاصه والطيران به.
ولا يقدر أحد أن يستنقذه منها أبداً، قال سبحانه: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73].
والإنسان قد يكون قوياً، فيصارع إنساناً قوياً، ويغلبه ويأخذ منه ما سلبه إياه.
ولكن الذبابة الحقيرة تأخذ الشيء، ولا تقدر أن تسترجعه منها.
إذاً: اعرف قدر نفسك فالله عز وجل خلق الأشياء وسخرها لكم، وخلق أشياء ولم تقدروا على تسخيرها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
قال: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] الطالب هو الذي يريد استنقاذ الشيء، والمطلوب هو الذبابة الضعيفة.
فكما ضعف الطالب عن الذبابة كذلك ضعفت الآلهة التي يطلبونها ويرجونها من دون الله عز وجل، وضعف عبادها، وهي لا تنفعهم إلا أن يتوبوا إلى ربهم سبحانه وتعالى، ويعبدونه وحده لا شريك له.
ومن هذه الآية يتبين عدم احتقار أي مخلوق من مخلوقات الله تبارك وتعالى، فلعل الله عز وجل يجعل فيه من القوة ما إنه يسلب منك شيئاً، فلا تقدر أن تسترد هذا الشيء منه.(39/2)
تفسير قوله تعالى: (ما قدروا الله حق قدره)
قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] فالله هو القوي العزيز القاهر فوق عباده، ومع ذلك لم يعطوه حقه من العبادة الحقيقية، فقد يذكر الله سبحانه أحدهم ولا يستحضر عظمته، ويقسم بالله وهو كاذب في قسمه، ولو استحضر عظمته لم يقسم به، فإن أقسم كان باراً صادقاً فيما يقول.
ومعنى قوله تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:74] أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له.
والعجب من هؤلاء حين يعبد أحدهم هذه الأصنام ويسأل: كم آلهة تعبد؟ يقول: سبعة: ستة في الأرض، وواحد في السماء! فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم حصيناً والد عمران بن حصين فقال: (من الذي لرغبتك ورهبتك قال: الذي في السماء).
إذاً: عرفوا أن الذي في السماء هو الذي ينفعهم، وهو الذي يضرهم، وهو الذي يملك لهم كل شيء، ومع ذلك عبدوا غيره، وأوحت لهم الشياطين أنكم إنما تعبدونها لتقربكم إلى الله زلفى، وقد أمر الله عز وجل عباده بعبادته وحده، ونهاهم أن يشركوا به شيئاً، ومع ذلك أصروا على الشرك بالله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:74] أي: إن الله قوي عزيز لا يمانع، يمنع ما يشاء، ويعطي ما يشاء.(39/3)
تفسير قوله تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلاً)
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75] في هذه الآية كأن الله عز وجل يرد على هؤلاء المشركين الذين قالوا: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، والقريتان: مكة والطائف، فهم نظروا إلى هذين السيدين فيهما، واعترضوا كيف لا ينزل على أحدهما القرآن ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟! فأجاب الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] أي: هل أنتم تقسمون لأنفسكم شيئاً أم الذي يقسم الأرزاق، ويقسم الرحمات هو الله سبحانه وتعالى؟ فهم قد عارضوا ربهم سبحانه وتعالى، وادعوا أشياء لا يحل لهم أن يدعوها، واعترضوا على نبوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنزل الله سبحانه وتعالى أنه يصطفي من يشاء.
وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة الذي قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص:8]، فقال الله عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا} [الحج:75] أي: يصطفي من الملائكة رسلاً يرسلهم إلى أنبيائه في الأرض، فالملك الذي ينزل من السماء إلى الأرض اصطفاه الله عز وجل واختاره واجتباه من بين الملائكة، فهو مقرب إلى الله عز وجل، وكان من أعظم ملائكة الله عز وجل جبرائيل عليه الصلاة والسلام الذي نزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء من قبله.
قال الله سبحانه: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] أي: ومن الناس كذلك يصطفي رسلاً، فاصطفى منهم آدم، ونوحاً، واصطفى إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، واصطفى نبينا صلوات الله وسلامه عليه وفضله على سائر الأنبياء والمرسلين بل على سائر خلقه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، فالله سميع لأقوال عباده، بصير بمن يستحق أن يختاره من خلقه لرسالته، علام الغيوب يعلم كل شيء ولا يخفى عليه شيء.(39/4)
تفسير قوله تعالى: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)
قال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [الحج:76] ما بين يديك هو: ما أمامك من المكان ومن الزمان، وما خلفك أي: ما وراءك من المكان ومن الزمان.
فالله عز وجل يعلم ما يكون أمامكم من أشياء وضعها الله عز وجل في أماكنها، وما أمامكم من زمان، وكم ستعيشون في الأرض؟ وإذا متم من يخلفكم؟ كذلك يعلم ما بين أيديكم من أعمال ستعملونها، وما خلفكم مما قد عملتموه، وكل ذلك عند الله عز وجل في كتاب.
قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الحج:76].
فكل أمر من الأمور مآله إلى الله عز وجل، ليحاسب من فعله يوم القيامة، فيسأل الإنسان عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم.
يعلم الله عز وجل ذلك ويحاسب ويجازي العباد عليه، وإليه ترجع جميع أمور خلقه.(39/5)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، أمر الله سبحانه عباده بالركوع وبالسجود، وهذه سجدة يسجد عند قراءتها، لكن عند الإمام مالك وعند الإمام أبي حنيفة أنها ليست من عزائم السجود، وعند الشافعي وأحمد أنها من سجدات القرآن.
فالذين قالوا: ليست من عزائم السجود كـ مالك وأبي حنيفة قالوا: هذه الآية أمرت بالركوع والسجود وكأنها أمرت بالصلاة، فعبرت عنها بالركوع والسجود.
لكن غيرهم قال: الأمر هنا بالركوع وبالسجود، فيسجد الإنسان لهذه السجدة، وذكروا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن هذه السورة فضلت بسجدتين فمن لم يسجد فيهما فلا يقرأهما) وإسناده فيه ضعف.
وفي هذه الآية عطف العبادة على الركوع والسجود وهما عبادة فكأنه خصص ثم عمم.
إذاً: ذكر الركوع والسجود للمزية؛ ولأنهما علامة خضوع العبد لله سبحانه، ويظهر ذلك عندما يحني جبهته ويحني جسده لله تعالى، ويسجد على أشرف أعضائه، وهو وجهه فيجعله على الأرض مطيعاً لله رب العالمين.
قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] أي: ذللوا أنفسكم لربكم وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه، وافعلوا الخير بجميع وجوهه لعلكم تفلحون.
قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] وقد علم الله عز وجل أن المفلحين الذين يفعلون ذلك.
و (لعل) من الله عز وجل لا بد من تنفيذ ما ذكره سبحانه مرتبطاً بها، فهو أوجب على نفسه سبحانه أن يجعل دار الكرامة لمن أطاعه، ودار المهانة لمن عصاه، فقال هنا: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
ولعل معناها الرجاء عندنا فنحن نعمل الخير رجاء رضا الله وجنته، لكن الله تعالى قد علم الطائعين فأعد لهم جنته، والعاصين فأعد لهم ناره.(39/6)
تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)
قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، أمر الله العباد أن يجاهدوا في الله حق الجهاد، وحق الجهاد أن يكون الجهاد كله لله سبحانه وتعالى؛ وليس للنفس فيه حظ.
فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت أحدنا يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
فالذي يجاهد ليعلي شرع الله سبحانه وليرفع كلمة الله هو الذي يجاهد في سبيل الله سبحانه.
ومن أعظم الجهاد أن يجاهد الإنسان نفسه في الله، وأن يجاهد أعداء دينه من الكفار ومن المنافقين.
وكذلك أن يجاهد في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذلك جاء في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم) وإن كان الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ولكن لا يتم الإيمان إلاَّ أن يعمل أعمالاً أخرى من أعظم هذه الأعمال: أن تكون أميناً مأموناً عند الناس في أموالهم وأنفسهم، فإذا كانوا معك فهم آمنون من شرك فلا تؤذيهم في أبدانهم ولا تخونهم ولا تخادعهم.
فيعطيك المال وهو آمن أنك سترد إليه ذلك، وأنك لن تخونه ولن تخدعه ولن تضيع عليه ماله، وكذلك في النفوس.
ومعلوم أن المسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم عملاً آخر من أعمال الإسلام التي يجب على المسلم فعلها فقال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وعليه فالمسلم هو الذي حصل أركان الإسلام، وكان من صفاته: أن الناس يسلمون من لسانه ويده، فلا يقع فيهم بغيبة، ولا بنميمة، ولا يشهد عليهم زوراً، ولا يفعل بهم فجوراً وغير ذلك من آفات اللسان.
ومن صفاته: أن يسلم الناس من يده فلا يؤذي بها أحداً إلا بحق الله سبحانه وتعالى، فيغضب لله، وينتصر لله عز وجل، ليس المؤمن الذي يؤذي ويلعن أو يطعن في الناس.
وقال في المجاهد: (من جاهد نفسه في طاعة الله) فقد يكون الإنسان يجاهد في سبيل الله عز وجل في الظاهر، وفي الباطن أنه ما قاتل إلا لدنيا يصيبها، أو قاتل ليقال عنه: جريء وشجاع.
ولذلك هنا ينبه النبي صلى الله عليه وسلم أنك لكي تجاهد عدوك حق الجهاد لا بد أن تجاهد نفسك في البداية على طاعة الله سبحانه، وعلى القيام بأمره وعلى الإخلاص وعدم المعصية.
ولا يتخيل أن إنساناً لا يجاهد نفسه سيجاهد أعداء الله سبحانه، بل ذلك دليل على أنه سيفر منهم.
فإذا كان في نفسه لا يصبر على طاعة الله ولا يصلي ولا يصوم ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر، ومن ثم يريد جهاد الكفار وهو لم يجاهد نفسه، فإن ذلك لمن العجب! قال: (والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب) فالمهاجر من هاجر من مكة إلى المدينة، أو المهاجر الإنسان الذي يهجر دار الكفر ودار المعاصي إلى دار الإيمان ودار الطاعات، ولكن مع هجر الخطايا والذنوب، فالإنسان المؤمن يبتعد عن الخطايا وعن الذنوب، ويكون هاجراً لها ومخاصماً لها وبينه وبينها حواجز عظيمة؛ لأنه يطيع الله سبحانه.
قال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، فحق الجهاد أن تجاهد في سبيل الله سبحانه وتجاهد نفسك فتلزمها بالطاعة وتنهها عن المعصية، وتجاهد الناس في الله فتأمرهم بالمعروف، وتنهاهم عن المنكر، وتجاهد المنافقين وتجاهد الكفار كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه، فمن فعل ذلك كان المجاهد حق الجهاد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل هذه الدرجة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/7)
تفسير سورة الحج [76 - 78]
يأمر الله تعالى عباده المتصفين بالإيمان أن يركعوا ويسجدوا ويقيموا صلاتهم ويعبدوا ربهم؛ لأن ذلك هو الطريق الموصل إلى الفلاح، كما يأمرهم بالجهاد في الله حق جهاده باجتناب المعاصي وفعل الطاعات، ومقارعة المشركين الصادين عن الدين، والمولى جل في علاه حين يأمر بهذا لا يريد أن يدخل المكلفين في الحرج والمشقة، إنما هو ابتلاء بأمور يستطيعونها، ومن قام بذلك من هذه الأمة فهو المسلم المستحق أن يشهد على الأمم السابقة بتبليغ رسلهم إياهم الدين، فعليهم بالاعتصام بالله فهو نعم المولى ونعم النصير.(40/1)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
في قوله تعالى في آخر الآية السابقة: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجُعُ الأُمُورُ} [الحج:76]، قراءتان: قراءة ابن عامر، ويعقوب، وحمزة، والكسائي وخلف: {وَإِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ الأُمُورُ} [الحج:76] بالمبنى للمعلوم، وقراءة غيرهم: ((تُرجَع)) بالمبني للمجهول، والمعنى: أن الأمور مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى، فكل أمر يفعله الإنسان مرجع ذلك إلى الله عز وجل، يجازي العبد على خيره بالخير والإحسان، وعلى شره بالعقوبة في النار أو يعفو عمن يشاء.
ثم أمر عباده بالركوع والسجود قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77].
(اركعوا واسجدوا)، إشارة إلى الصلاة، إذ إن ذلك من أفعالها، وأيضاً هذه آية من آيات السجدة في كتاب الله العزيز.
وهنا خصص الله وعمم، خصص الصلاة وهي من أهم العبادات، فبها تتعبد لربك سبحانه، وتصلح ما بينك وبينه، وتدعوه كل يوم، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، سبع عشرة مرة في صلاة الفريضة وغير ما تدعوه في صلاة النافلة في قراءتك لفاتحة الكتاب.
وقد قسم الله الصلاة بينه وبين عبده فقال الله في الحديث القدسي: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله سبحانه: حمدني عبدي.
وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: أثنى علي عبدي.
وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي.
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل).
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الحج:77] أي: بكافة أنواع العبادة، ثم قال: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] أي: لتتقربوا به إلى الله عز وجل سواءً كان الخير فرائض أو نوافل.(40/2)
تفسير قوله تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده)
قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، تجاهد نفسك في الله سبحانه وتعالى بأن تطيعه في كل ما أمرك به، وتنتهي عما نهاك الله عنه.
وتجاهد أعداء دين الله سبحانه: من الكفار، والمنافقين.
فالجهاد أنواع: جهاد الكلمة، وجهاد القلب، وجهاد السيف والإيمان.
فتجاهد نفسك، وتجاهد غيرك، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وتجاهد بالدفاع عن دين الله، وإظهار حجته على خلقه.
قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78]، فمثلما أن الله سبحانه وتعالى يختار من خلقه ما يشاء، ويجعل من الملائكة رسلاً ومن الناس، فقد اختار هذه الأمة.
قال سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: اصطفاكم واختاركم، وفضل هذه الأمة على غيرها من الأمم.(40/3)
معنى قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)
ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فالله رءوف رحيم، ما جعل علينا في الدين من حرج.
والحرج: الضيق، ويأتي من المكان الذي لا يجد الإنسان لنفسه مخرجاً، ولذلك جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية أنه سأله عبيد بن عمير وجاء في ناس من قومه وقالوا: ما الحرج؟ فقال ابن عباس: أو لستم العرب؟ فسألوه ثلاث مرات وفي كل ذلك يقول: أو لستم العرب؟ ثم قال: ادعوا لي رجلاً من هذيل فقال: ما الحرج فيكم؟ فقال: الحرج من الشجر ما ليس له مخرج، يعني: الشجر الملتف إذا دخلت فيه لم تستطع الخروج منه.
ومعنى الحرج هنا: أي لم يجعل الضيق في الدين.
فلرأفة الله بالمؤمنين ورحمته جعل لهم في هذا الدين اليسر العظيم، وجعل لهم من قواعده أن الأمر إذا ضاق اتسع، فإذا وجدت الشدة رخص الله لعباده.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بعثت بالحنيفية السمحة)، والحنيفية ملة إبراهيم، ودين الإسلام الدين الحنيف، والمسلم حنيف مائل عن الأديان الباطلة إلى الصراط المستقيم، إلى الدين الحق الذي فيه السماحة وفيه اليسر.
فالله عز وجل كان يشدد على الأمم السابقة بعتوهم وطغيانهم، ومعصيتهم له، وبعدهم عن طاعة رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
ولكن هذه الأمة جعل فيها الحنيفية السمحة، فأعطاها من المسامحة، وأعطاها من اللين ما لم يعط أمة قبلها، فرفع عنها المؤاخذة فيما تبدي في أنفسها أو تخفيه، قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فضاق ذلك على المؤمنين جداً أن يحاسبوا على ما في أنفسهم وإن أخفوه! فقال الله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
فدعا المؤمنون ربهم بذلك، فقال: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إذا نسيتم، أو أخطأتم إلى آخر الآية.
كذلك من فضله على هذه الأمة أنهم يتوبون وتوبتهم تجب ما قبلها، أما الأمم السابقة فقد شدد عليهم، فبنو إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله أمرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لكي يتوبوا إلى الله وتقبل توبتهم أن يقتلوا أنفسهم، فقام بعضهم إلى بعض بالسيوف فقتل بعضهم بعضاً حتى قتل منهم في وقت واحد سبعون ألفاً! ثم تقبل منهم، ولم يجعل توبتهم باللسان.
ومن ذلك أيضاً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (لما سأله رجل: إني حلقت قبل أن أنحر، قال: افعل ولا حرج)، وقال آخر: رميت قبل أن فعل كذا، افعل ولا حرج.
فما سؤل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
وكان من فضل الله سبحانه أن أنعم على هذه الأمة برفع الحرج، قال لنا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فدين الإسلام أن تستسلم لرب العالمين، وتسلم نفسك إليه لتنتفع بذلك، أما الله عز وجل فلا تنفعه عبادتك، ولكن خلقك إظهاراً لقوته وقدرته سبحانه؛ وليظهر أسماءه الحسنى وصفاته العلى بخلق مخلوقاته فيرحمهم ويتوب عليهم إذا تابوا، فقصد نفعهم تفضلاً منه سبحانه وتعالى.
ومن رأفته بخلقه وفضله أن قدر العباد على ما كلفهم، ولم يكلفهم بما لا يقدرون عليه، فمثلاً أمر العباد بخمس صلوات في اليوم والليلة، والعبد يقدر أن يصلي أكثر من الصلوات الخمس، ولكن الله جعلها خمس صلوات فقط في الفريضة، وما شئت من نوافل.
وفي الصيام أمرك بصوم رمضان وأنت تقدر أن تصوم رمضان وزيادة، ولكن لم يزد على ذلك إلا أن يكون كفارة أو نذر من العبد.
فالله عز وجل لو شاء لجعل السنة كلها صيام، ولجعل الفطر منها أياماً معدودة، ولكن من فضله ومن كرمه لم يكلف العباد إلا ما يطيقونه بل أقل مما يطيقون.
وقد جعل ما كلفهم به سبحانه وتعالى أقساماً ثلاثة: قسم يتعلق بالعقائد، وثانٍ يتعلق بالأفعال، وثالث يتعلق بالمنهيات.
ففي العقائد كلفوا أن يؤمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وينبني على هذا الإيمان أن يعمل رجاء جنة الله سبحانه وتعالى، وخوفاً من ناره.
وجعل سبحانه وتعالى ما يفعله العباد أقساماً: قسم يتعلق بأبدانهم: كالصلاة والصوم.
وقسم يتعلق بأموالهم: كالزكاة.
وآخر يتعلق بالأموال والأبدان، مثل: الحج.
وجعل التكاليف سهلة ميسرة على العباد، وجعل في هذه الأقسام رخصاً للعباد، فإذا سافر العبد جاز له الفطر وقصر الصلاة وجمع الصلاتين في وقت إحداهما.
وجعل ما نهاهم عنه رحمة بهم، فلا ينهانا إلا عن الشيء الخبيث المؤذي الذي يضر الإنسان في حياته وبعد وفاته، ومن ذلك في الكف: قسم جعله الله سبحانه إحياءً لنفوس العباد، وإصلاحاً لأبدانهم: كنهيه عن القتل، وعن أكل الخبائث والسموم.
وجعل قسماً آخر من المنهيات لئلا تؤذي غيرك بأن تتلف عليهم أموالهم، أو تتلف عليهم أعضاءهم، وجعل في ذلك العقوبة حتى يحيا الناس من غير أن يؤذي بعضهم بعضاً.
وقسم لحفظ نسب الناس، ونسلهم وتعظيم المحارم: كالنهي عن الزنا وغير ذلك.
فالمتأمل في الشريعة يجدها كلها رحمة في الأمر والنهي وليس فيها من حرج.
كذلك لم يكلف الصغير قبل البلوغ وإن كان يعقل، ومن رحمته في ذلك أن يكتب له الحسنات ولا يكتب عليه الأوزار، فلا يبلغ إلا وله رصيد من الحسنات.
ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن خفف عليهم، ونهى عن التشديد في الدين، وهذا الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما أحب أن يصوم الدهر كله، ويقوم الليل كله نهاه النبي صلوات الله وسلامه عليه وقال: (إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه).
والله عز وجل رفع عنا الحرج في الخطأ وفي النسيان، وما استكرهنا عليه.
فعلى المسلم أن ينظر في نصوص الشريعة ليعلم ما جاء فيها من ترخيص فيأخذ به، ولا يعمل بالتشهي والهوى.(40/4)
معنى قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم)
قال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] يعني: دين الإسلام هو ما كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكأنه يقول على وجه الإغراء: الزموا ملة أبيكم إبراهيم وكونوا على ما كان عليه من الدين الحنيف.
ثم قال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، هنا كأن قوله سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، جملة معترضة وكأن الأصل قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فالله سبحانه بفضله وبكرمه شرف هذه الأمة بأن سماهم أمة الإسلام.
فكان إبراهيم عليه الصلاة والسلام على الإسلام وكذلك هذه الأمة.
أما غيرها من الأمم فقد سميت بعضها باليهودية، والأخرى بالنصرانية وهكذا، أما هذه الأمة فقد اختار الله لها هذا الاسم الذي دعا إليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلامة أقوامهم فقال أحدهم: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وقال: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] يعني: أن الله عز وجل سماكم المسلمين، وشرفكم بذلك، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره قال: (فادعوا بدعوى الله الذي سماكم: المسلمين المؤمنين عباد الله).
وأعظم وأجمل تسمية للإنسان أن يسمى مسلماً ولا يتسمى بأي شيء آخر، لأن الله هو الذي اختار هذا الاسم لهذه الأمة.
قال: (وفي هذا)، يعني: وفي حكمه أن من اتبع ملة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المسلمين.(40/5)
معنى قوله تعالى: (ليكون الرسول شهيداً عليكم)
قال الله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} [الحج:78] فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شاهداً على هذه الأمة، وجعل هذه الأمة شهيدة على الأمم السابقة، فقال: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج:78] أي: بتبليغ شرع الله عز وجل، فيؤتى يوم القيامة بالأنبياء من قبلنا فيسألون: هل بلغتم؟ فيقولون: نعم.
فيؤتى بأممهم فيقال: هل بلغكم هؤلاء الرسل؟ فيقولون: لا، لم يبلغوا! فنشهد على هذه الأمم، ويشهد علينا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فأقام الله هذه الأمة مقام نبيها صلى الله عليه وسلم في الشهادة، فجعلهم شهوداً على الأمم السابقة، وعلى تبليغ رسلهم، ونحن لم نحضرهم، ولكن نشهد بما جاء في القرآن، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25]، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50]، فالذي ذكر الله عز وجل في القرآن نشهد به يوم القيامة.
فجعل لهذه الأمة فضلاً عظيماً، وتشريفاً لهم أن يشهدوا على الأمم السابقة.(40/6)
معنى قوله تعالى: (فأقيموا الصلاة)
قال الله سبحانه: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: أقيموا الصلاة كما أمركم الله عز وجل، وكما بين لكم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج:78] أي: أخرجوا زكاة أموالكم على ما فصل لكم ربكم في الكتاب، وبين النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} [الحج:78] أي: الجئوا إلى ربكم، واستمسكوا بدين الله سبحانه، ففيه العصمة، وفيه النجاة.
ثم قال: {هُوَ مَوْلاكُمْ} [الحج:78] أي: هو ربكم وخالقكم، وناصركم سبحانه وتعالى.
قال: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فمهما تولى الإنسان أحداً غير الله لا يقدر أن ينصره، ولا يقدر أن ينفعه أو يضره إلا أن يشاء الله، ولكن الله وحده هو النافع الضار، وهو المنعم المتفضل على عباده، فهو نعم المولى ونعيم النصير.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره، وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(40/7)
تفسير سورة المؤمنون [1 - 6]
إن الإيمان بالله هو مناط النصر والفوز والفلاح دنيا وأخرى، وقد جعل الله عز وجل علامات وأمارات لأهل الإيمان، من اتصف بها كان في سلك المؤمنين الناجين، ومن حاد عنها يخشى عليه أن يحشر في زمرة الفاسقين الظالمين، وصدر سورة المؤمنون من أوضح مواطن الكتاب العزيز في إظهار صفات أهل الإيمان، وتحديدها، فعلى المؤمن أن يتحلى بها حتى يكون منهم بإذن الله تعالى.(41/1)
المناسبة بين آخر سورة الحج وأول سورة المؤمنون
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
والمناسبة بين آخر سورة الحج وبين بداية هذه السورة العظيمة: أنه في آخر سورة الحج يقول الله عز وجل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، فكأنه قال بعد ذلك: فإذا فعلتم ذلك فأنتم المفلحون، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، فهنا نجد جمال القرآن في الترتيب والنزول، فما نزلت سورة الحج ووراءها سورة المؤمنون إلا لحكمة ولترتيب بلاغي جميل، وهذا الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يعرض القرآن على جبريل، فقد كان يعرض عليه القرآن في كل سنة مرتباً بحسب ما نزل عليه، إلا في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وسلم فقد عرض على جبريل القرآن مرتين.
وبهذا الترتيب الإلهي فإنك ستجد مناسبات بين خواتيم السورة وبين أول السورة التي تليها، وهنا مناسبة عظيمة وجميلة، فلما ذكر الله عز وجل في آخر سورة الحج أنه سمى المسلمين بهذا الاسم، والمسلم من أسلم نفسه لله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا كما في صحيح مسلم: (قد أفلح من أسلم، ورزقه الله كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: قد أفلح الإنسان الذي دخل في هذا الدين، فأسلم نفسه، وأسلم وجهه، وأسلم قلبه لله رب العالمين، يحكم فيه بما يشاء، ويفعل فيه ما يريد، ولا يعترض على الله، فإذا رزقه الكفاف -أي: على قدر الحاجة، لا زيادة ولا نقصان- ورزقه الله سبحانه وتعالى القناعة مع الرزق الذي ساقه إليه، فإنه يقنع.
ولاحظ أن الفضل كله من الله عز وجل، فضل من الله سبحانه أن خلق الإنسان، وأن هداه للإسلام، وأن رزقه رزقاً حسناً سبحانه، وأن رزقه القناعة، فإذا قنع فقد جعله من المفلحين، فالفضل كله منه سبحانه، ولذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظوا من دعائه صلى الله عليه وسلم للميت قوله: (اللهم أنت خلقتها، وأنت رزقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت توفيتها، جئنا شفعاء فاغفر له)، فهذا الدعاء ذو الكلمات اليسيرة القليلة فيه إثبات هذه النعم لله سبحانه، فأعظم النعم على العباد الخلق، فهو خلقهم، والرزق، فهو رزقهم، ثم هداهم للإسلام، ثم توفاهم سبحانه وتعالى.
والوفاة بعدها البعث والحساب، فهو سبحانه قد هداهم قبل ذلك، وسيهديهم بعد ذلك لطريق الجنة بفضله وكرمه سبحانه.(41/2)
عدد آيات سورة المؤمنون وبيان أنها مكية
هذه السورة الثالثة والعشرون من كتاب الله رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، وهي سورة المؤمنون، وهي من السور المكية، حيث نزلت هذه السورة كلها في مكة، فقد أجمع علماء التفسير على أنها سورة مكية كلها، وعدد آيات هذه السورة مائة وثمان عشرة آية، حسب العد الكوفي والحمصي، ومائة وتسع عشرة آية عند الباقين، والخلاف في قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45]، فالذي يقول: أنها مائة وتسع عشرة آية يقف على قوله: (وَأَخَاهُ هَارُونَ)، على أنها رأس آية، والذي يقول: إنها مائة وثمان عشرة آية لا يعتبر هذه رأس آية، أي: أن الذي يقول: إنها مائة وتسع عشرة آية يعتبر الآية السابقة آيتين، فيصبح عدد الآيات مائة وتسع عشرة آية، والاختلاف هذا في عد آيات القرآن جائز، ومعناه: أن الآية الواحدة في بعض السور بعضهم يعتبرها آية واحدة، والبعض الآخر يعتبرها آيتين، وذلك باعتبار كيف وقف عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45]، بعضهم جعلها آيتين، والبعض الآخر جعلها آية واحدة، لكن الآية هي هي، والكلام هو هو، إنما الخلاف في العد فقط.
فسورة المؤمنون من السور المكية -كما ذكرنا- وهي تتميز بخصائص السور المكية، حيث إن السور المكية تدعو الخلق إلى الله سبحانه وتعالى، فتهتم بأمر العقيدة، واليوم الآخر، وتذكر الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام، وتسرد بعضاً من سيرهم وقصصهم، وتذكر الجنة والنار، والآداب، والأخلاق الحسنة، والتربية، وكل هذا سنجده في هذه السورة العظيمة من أولها إلى آخرها.(41/3)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح المؤمنون)
بدأها الله سبحانه وتعالى هذه السورة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، والفلاح بمعنى: النجاح الدائم، والفلاح يكون يوم القيامة بأن يدخل الإنسان جنة رب العالمين، فإذا حصل له هذا فقد فاز الفوز العظيم الذي لا خسران بعده، وهنا {أَفْلَحَ}، بمعنى: نجح النجاح العظيم الذي لا يخسر بعده أبداً.
{قَدْ أَفْلَحَ}، و (قد) هنا للتحقيق والتأكيد، فهؤلاء مفلحون لا شك في ذلك، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، هؤلاء المؤمنون هم الذين جمعوا هذه الصفات العظيمة التي ذكرها سبحانه في العشر الآيات الأول من هذه السورة.
وستجد هذه الصفات متوافقة مع ما ذكر الله عز وجل من الصفات في سورة مكية أخرى، وهي سورة المعارج، فالصفات التي هنا أكدها هناك وزاد عليها شيئاً، فهنا قال عن جزاء من عمل بهذه الأوصاف: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11]، وهنالك قال سبحانه وتعالى عنهم: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، فهؤلاء هم الذين فازوا فدخلوا الجنة وأكرمهم الله عز وجل بها، فينبغي على كل مؤمن أن يحاول أن يكون مع هؤلاء الذين أفلحوا والذين يكرمهم الله عز وجل يوم القيامة ويقربهم إليه، والصفات هذه صفات عظيمة، لكنها سهلة التحصيل على من يسر الله عز وجل لهم ذلك.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ورد هنا الفلاح في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد أفلح من هدي)، يعني: إلى هذا الدين، إلى هذا الإسلام، (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، (أسلم) أي: أتى بخصال الإسلام، ودخل في هذا الدين، وسلم نفسه لله رب العالمين.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، أي: الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، وآمنوا بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، آمنوا بالله سبحانه فكانوا جنوداً لهذا الدين العظيم، يدعون إلى ربهم، فهم جاهدوا في الله حق جهاده كما ذكر الله في آخر سورة الحج، وهنا ذكر أن من جهادهم هذا أنهم خشعوا في صلاتهم، وقد قلنا: إن من أعظم الجهاد جهاد النفس، ولا تستطيع أن تجاهد أعداء الدين وأنت لم تجاهد نفسك، فالإنسان إذا جاهد نفسه وقهرها على الحق الذي يريده الله كان معاناً من الله سبحانه، وكان موفقاً من الله، فهو بعد ذلك يستطيع أن يجاهد أعداء الله بالسيف والسنان، بالحجة واللسان، أي: بالحجة والبيان، يجاهدهم جهاد القلب، وجهاد اللسان، وجهاد الجوارح والأركان، فهذا هو الذي تربى على هذا الدين، وجاهد نفسه وهواه.(41/4)
تفسير قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]؛ لأن الصلاة هي من أعظم الأركان في هذا الدين بعد التوحيد، فإن فيها عبادة الله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد الله، وفيها الدعاء، وفيها إظهار الخشوع والذل والمسكنة والإخبات بين يدي الله رب العالمين.(41/5)
معنى الخشوع والحث عليه
فهذا الفلاح الذي ذكره الله في الآية الأولى يحصل بأن يكون الإنسان خاشعاً في صلاته: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، وكلمة (خشع) معناها: رمى ببصره نحو الأرض، وغض بصره، أي: وقف وقفة الإنسان الذليل بين يدي الله عز وجل، فلم يرفع بصره إلى السماء لينظر إليها، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، كما جاء في الحديث: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء، أو لتخطفن أبصارهم)، يعني: احذر أن ترفع بصرك إلى السماء وأنت في صلاتك، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى سوف يخطف بصرك ويعميك.
فاحذر من رفع البصر إلى السماء وأنت تصلي أو تقرأ القرآن، أو وأنت تقنت وتدعو ربك، بل لابد أن يكون بصرك إلى الأرض.
وقد قيل: إن الصحابة رضي الله عنه الله عنهم كانوا يصلون ويرفعون أبصارهم إلى السماء، فنزلت هذه الآية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، فرموا بأبصارهم إلى الأرض، فهذا أصل الخشوع، يقولون: خشع بصره، أي: انكسر بصره، أي: تواضع ولم يرفع بصره، ولكنه وضعه في الأرض.
وقالوا: اختشع الإنسان، بمعنى: طأطأ رأسه وتواضع، فالمؤمن متواضع لله سبحانه، يطأطأ رأسه ويخفض بصره بين يدي الله سبحانه، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخشوع يكون في البدن، وهو إقرار باستخذاء، والخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، فالخشوع يكون في البدن، بأن يكون الشخص واقفاً فارداً نفسه في الصلاة، متواضعاً لربه سبحانه وتعالى، ففرق بين أنه يصلب قامته ويقف مستقيماً في صلاته، وبين أنه فارد صدره في الصلاة، فالمؤمن يكون واقفاً في الصلاة وقفة المتواضع لرب العالمين سبحانه، ويكون الخشوع في الصوت بألا يرفع صوته ولا يصيح في الصلاة، ولكن إذا كانت الصلاة جهرية فصوته تظهر عليه السكينة، ويظهر فيه الخشوع، ومن سمعه يحسب أنه يخشى الله، وهذا من أفضل الناس صلاة، أي: الذي إذا سمعت تلاوته تحسب أنه يخشى الله سبحانه وتعالى، وليس لكونه يحزن في الصلاة، أو يتغنى ويترنم ترنيمة حزينة، وإنما الصوت فيه دليل الخشوع، صوت فيه تواضع وفيه خشوع لله رب العالمين، فليس المقصود النغمة فقط.
فالخشوع قريب من معنى الخضوع، فيه يطأطئ رأسه ويتواضع، ويخفض صوته وبصره، فالخشوع يكون في البدن والصوت والبصر، قال الله عز وجل: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم:43]، وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108].
والخشوع أيضاً يأتي بمعنى الخضوع، والتخشع: تكلف الخشوع لله سبحانه وتعالى والإخبات والتذلل، وأيضاً يأتي بمعنى: السهولة، وبمعنى: اليبس، قالوا: أرض خاشعة، أي: أنها تثيرها الرياح لسهولتها فتمحو آثارها، ومنه قوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت:39]، أي: متغبرة، متهشمة، يابسة، لا حياة فيها، ثم ينزل عليها الماء فيحييها الله سبحانه وتعالى.
فعلى المؤمن أن يكون خاشعاً في صلاته، روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس)، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أصحابه فرفع بصره إلى السماء، ثم قال لهم: (هذا أوان)، أي: حال سيأتي، مع أنهم ما زالوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما زال العلم يأتيه من السماء، ولكن كأنه قرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه، فيبتدئ الأمر يقل بعد ذلك قرن وراء قرن إلى أن يضيع من الناس أمر دينهم، وجاء في الحديث الآخر: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، وإنما يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)، فقال رجل من الأنصار كان على فقه وعلم، واسمه زياد بن لبيد الأنصاري: (كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرأنه نساءنا وأبناءنا!)، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف يضيع منا هذا العلم ونحن قد حفظنا القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة)، المعنى: أنه طالما أن الأمر أمر كوني قدري، وأن الله عز وجل قدر ذلك، فليس من الممكن إلغاء ما قاله الله سبحانه، مهما حفظ الإنسان ومهما عمل.
فهنا الرجل حباً في القرآن وحباً في الدين، وإظهاراً للمسارعة في طاعة النبي صلى الله عليه وسلم قال: سنحفظ القرآن، وسنحفظه أولادنا ونساءنا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالشيء الآخر: أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فليس من الممكن أن يرفع ما قدره سبحانه، قال له صلى الله عليه وسلم: (إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟!)، يعني: حتى لو أنكم حفظتم القرآن، ولكن إذا ضيعتم الخشوع فماذا يغني عنكم؟! قال جبير -راوي الحديث-: (فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع)، وكأن الخشوع ليس مجرد كلمة يقولها الإنسان، ولكنها علم يتعلم فيه كيف يخشع بدنه وصوته وبصره لله سبحانه وتعالى، يقول رضي الله عنه: (أول ما يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً)، أي: يرفع الخشوع فيقف الإنسان في الصلاة وهو يفكر بأمور الدنيا، والثاني يلعب بذقنه، والثالث ينظر شمالاً ويميناً، والرابع يترك الصلاة ويمشي وهكذا، فكل واحد منشغل في حاله بعيداً عن أمر الصلاة، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إذاً: هم في صلاتهم خاشعون، أي: في أثناء الصلاة، وفي سورة المعارج قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، فهم يواظبون على صلاتهم وخاصة صلاة الجماعة، لا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وهم كذلك خاشعون في صلاتهم، فهنالك قال: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، وهنا قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].(41/6)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون)
ذكر الله صفة ثانية لهؤلاء المؤمنين، ففي المعارج قال: {والذين هم عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، وهنا قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3]، هذه صفة ثانية من صفات المؤمن المفلح، وهي أنه معرض عن اللغو، سواء لغو الكلام أو لغو الأفعال، فكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح فإن الإنسان المؤمن لا يشغل باله به، ولا يضيع وقته فيه، حتى ولو كان من الأشياء المباحة، فهم كما قال الله تعالى: {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، وفي سورة الفرقان ذكر الله عز وجل من صفات عباد الرحمن قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، أي: أكرموا أنفسهم ونزهوها عن أن يقعوا فيما لا ينبغي أن يقع فيه المؤمن، وفيما ينبغي أن يلغى ويطرح.(41/7)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4]، أي: من صفاتهم أنهم للزكاة فاعلون، ولاحظ قوله: (الذين هم)، فإنه أكد الوصف؛ لأنها ليست مرة واحدة، بل هذا الوصف غلب عليهم فأصبحوا مستمرين ومواظبين عليه، فـ (هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)، فهو يعطي الزكاة، فإذا جاء العام الآخر أعطى الزكاة، وهكذا دائماً يعطي الزكاة، فيؤدون زكاة أموالهم، زكاة فطرهم، زكاة بهيمة أنعامهم، زكاة زروعهم وثمارهم، زكاة ما يخرجه الله عز وجل لهم وما يؤتيهم من رزق في التجارة ونحوها، فهم يؤدون الزكاة بجميع أنواعها.(41/8)
تفسير قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون فإنهم غير ملومين)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6]، وهذا وصف آخر من أوصافهم: أنهم (لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)، فلا يقعون في شيء حرمه الله من زنا، أو لواط، أو مسافحة، أو معاشرة محرمة حرمها الله عز وجل، من نكاح إماء أو كتابيات مما حرم الله عز وجل ومنعه، ولا يقعون فيما حرمه الله عز وجل من عادة سرية ونحوها، فهم {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، أي: يحفظ فرجه إلا على ما أحله الله عز وجل له، وقد أحل الله الزوجة وملك اليمين: الزوجة بعقد النكاح، وملك اليمين بعقد الشراء أو بالهبة، فهذا الذي أحله الله سبحانه وتعالى، فهم يحرصون على أن يأخذوا الحلال ويجتنبوا ما حرم الله سبحانه وتعالى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(41/9)
تفسير سورة المؤمنون [1 - 11]
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أن أهل الفلاح الحقيقي هم المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وأن من صفاتهم التي اتصفوا بها الخشوع في الصلاة، فهم يؤدونها بشروطها وأركانها ومستحباتها، ثم هم عن الكلام الذي لا قيمة له معرضون، وهم لأداء الزكاة التي افترضها الله عليهم فاعلون، وقد عبر بصيغ المبالغة كناية عن مبادرتهم إليها وفرحهم بإخراجها وإعطائها الفقراء، ثم ذكر عنهم أنهم متصفون بصفة العفة فهم محافظون على فروجهم إلا فيما أحل الله لهم، وهم مع ذلك يراعون عهودهم وأماناتهم فيوفون بها ويؤدونها إلى أصحابها.(42/1)
صفات المؤمنين المذكورة في أول سورة المؤمنون
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: بسم الله الرحمن الرحيم.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الإحدى عشرة من أول هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون عن فلاح المؤمنين الذين من صفاتهم ما ذكر هنا: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فقد حكم لهم بالفلاح سبحانه وتعالى، وهو أعظم النجاح، وهو النجاح الذي لا خسران بعده، والفوز العظيم، والفوز المبين، وقد سماه الله سبحانه وتعالى بأسماء في كتابه تدل على دوام نجاح المؤمنين يوم القيامة، وعلى خلودهم في هذا الفوز العظيم، وأنهم سابقون إلى هذا الخير بفضل الله لا يحرمهم منه أبداً.(42/2)
إقامة الصلاة
فهم مؤمنون مصدقون بما جاء من عند رب العالمين سبحانه، فقد آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
وأسلموا وشهدوا شهادة التوحيد، وأقاموا الصلاة كما أمر الله سبحانه، وآتوا الزكاة، وصاموا رمضان، وحجوا البيت، وفعلوا ما أمر الله سبحانه وتعالى من طاعات، فهم المؤمنون الصالحون، وقد زادوا على أركان الإسلام وأركان الإيمان صفات عظيمة موجودة فيهم، فهم في صلاتهم خاشعون، أقاموا الصلاة كما أمروا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، ولكن زادوا صفة الخشوع فخشعت قلوبهم، وخشعت أبدانهم، وخشعت نواظرهم، فإذا بهم وهم في صلاتهم لا ينشغلون بغير الصلاة، فأذهانهم حاضرة، وقلوبهم حاضرة، لا يكثرون الحركة، ولا يختلس الشيطان منهم صلاتهم، فهم ينظرون إلى محل سجودهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ويصلون وهم يستشعرون أنهم قريبون من ربهم سبحانه، فيدعونه ويتوسلون إليه سبحانه، يرجون فضله ويخافون عذابه فهم {فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2].(42/3)
الإعرض عن اللغو
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3].
واللغو: هو ما ينبغي أن يلغى ويطرح من أقوال وأفعال لا قيمة لها، فهم لا يأبهون لها ولا ينظرون إليها، فالإنسان المؤمن يحافظ على نفسه، ويحافظ على وقته، ويحافظ على أفعاله، ويحافظ على كلماته، فلا يضيع وقته فيما لا ينفعه، أو فيما يأتي من ورائه الضرر، فالمؤمن حريص على وقته، يعلم أن عمره أيام محسوبة، وليال مكتوبة، فهو يخاف أن يضيع عمره في لهو ولعب؛ بل يريد أن ينتهز كل ساعة من ساعات عمره وكل لحظة من لحظات عمره فيما هو طاعة لله، حتى إذا جاء يوم القيامة وجد صحيفته ممتلئة بالأعمال الطيبة العظيمة.
فالمؤمن دائماً يفكر كيف ينجو يوم القيامة؟ وكيف يطيع الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يحافظ على وقته في طاعة وفي خشوع وفي عبادة؟ فإذا دخل في الصلاة استشعر أنه يكسب من ورائها شيئاً عظيماً في الدنيا وفي الآخرة، فهو يكسب في الآخرة الأجر من الله، وصلة الله عز وجل له، وجنة رب العالمين سبحانه، وأن يكون مع السابقين، وفي الدنيا يكسب أنها تزيده خلقاً حسناً، وأنها تجعله بالمؤمنين رءوفاً رحيماً، صلاته وأنها عن الفحشاء والمنكر، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فيدخل إلى الصلاة ذاكراً لله سبحانه، ويخرج من الصلاة فلا يزال ذاكراً لله محباً لها حتى تأتي الصلاة التي تليها وهكذا، فهم في صلاتهم خاشعون، وهم عن اللغو معرضون، وهم للزكاة فاعلون.(42/4)
إتيان الزكاة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:4] أي: يؤدون الزكاة التي أمر الله عز وجل بأدائها، فلا يبخلون بها ولا يشحون على الفقير، ولا يمنون بأنهم أعطوه صدقة أموالهم، وإذا تصدقوا تصدقوا بأفضل ما عندهم، أو بأوسط ما عندهم، ولكن أبداً لا ينظرون إلى شيء رديء فيخرجونه لله سبحانه وتعالى، وهم يعلمون أن ما يعطونه ويخرجونه فالله عز وجل يخلف خيراً منه، ويعطي أضعافاً مضاعفة عليه، فهم للزكاة فاعلون، علموا أن الزكاة تزكي أموالهم، وتزكي ما في قلوبهم من إيمان، وتنمي ما عندهم من أموال، وأن الزكاة تطيب قلوب الفقراء وصدورهم، وتطيب أعمالهم، فهم يفرحون بأن يؤدوا الزكاة كما يفرح الإنسان الذي يأخذها، فهم يعطون وفي الحقيقة يأخذون، فهو أخرج زكاة ماله والله عز وجل زاده أضعافاً مضاعفة في ماله، وأعطاه الثواب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت له عائشة رضي الله عنها وقد ذبحوا شاة وتصدقوا بها على الفقراء قالت: (لم يبق منها إلا الذراع، قال: بل بقيت كلها إلا الذراع).
أي: إن الذي أخرجته هو الذي ادخرته عند الله سبحانه وتعالى فبقيت جميعها إلا الذراع الذي سنأكله فسينتهي.
فالمؤمنون يؤتون الزكاة، و (فاعلون) هنا اسم فاعل، ومثله (خاشعون)، ومعرضون، من أعرض فهو معرض، واسم الفاعل هو الذي يليق بجميع الزمان في الماضي والحاضر والمستقبل، تقول: خشع في الماضي فهو خاشع، ويخشع الآن فهو خاشع، وسيخشع في المستقبل فهو خاشع، فصفة اسم الفاعل تدل على الدوام، فهم خاشعون دائماً في صلاتهم، فليس خشوعهم في صلاة أو صلاتين ثم ينتهي، بل هو مستمر في جميع صلواتهم.
وهم دائماً يعرضون إذا دعاهم إنسان للهو ولغو الحديث، ولذلك ينزهون أنفسهم مثل عباد الرحمن الذين مدحهم الله بأنهم {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: أكرموا أنفسهم عن أن يقعوا في هذا الباطل أو في هذا اللغو، حتى كأنهم إذا وقعوا فيه فقد أهانوا أنفسهم، فهم ينصرفون عن الكلام الباطل وعن الأفعال التي لا تليق بالمؤمنين.
وهم يعطون زكاة أموالهم، ويفرحون بإعطاء الزكاة كفرح من يأخذ المال.(42/5)
حفظ الفروج عن الحرام
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، عبر باسم الفاعل هنا كناية عن أنهم يحفظون فروجهم دائماً في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل، إلا في أمرين: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6]، الزوجة التي تزوجها بنكاح شرعي صحيح، {أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] وملك اليمين الآن غير موجود، وهم الرقيق، فيشتري الرجل الأمة فيتسرى بها ويطؤها ويجوز له أن يبيعها، فإن أنجب ولداً من هذه الأمة فإنه يكون حراً، طالما أن الأمة ملك له، إلا إذا تزوجها، والأصل المنع من زواج الحر من الأمة؛ لأن ولده سوف يكون رقيقاً برق أمه، فمنع الله عز وجل من الزواج من إماء أهل الكتاب ومن المشركات، فلا يجوز للمسلم أنه يتزوجها أصلاً لا في خوف عنت ولا في غير خوف عنت، وأما الأمة المؤمنة فيجوز له في حال العسر وخوف العنت أن يتزوج منها، لكن الأصل في النكاح أن يتزوج المؤمن من المرأة الحرة، ويجوز للمرأة أن تملك عبداً، ولا يجوز لها أن تتسرى به، إنما يجوز فقط للرجل أن يتسرى بأمته، أما العكس فلا يكون أبداً، فلا تباح فروج المؤمنين والمؤمنات بهذا الأمر، وهذا بإجماع العلماء، وملك اليمين هي التي تباع كما يباع الحيوان، فالمؤمن حافظ لفرجه إلا على زوجه، والمرأة كذلك إلا على زوجها، وهو غير ملوم في ذلك؛ لأنها شهوة تحافظ على زينة الإنسان، وعلى نسله، وعلى بقائه على الأرض الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
فالنكاح مأمور به، فقد أمر الله عز وجل عباده فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32]، وذلك حتى يستمر بقاء الإنسان على وجه الأرض فيعمرها ويعبد ربه سبحانه وتعالى فيها.
فالمؤمنون حافظون لفروجهم إلا فيما أباحه الله عز وجل، وأما غير ذلك فيحرم على الإنسان أن يقع في الزنا أو اللواط والعياذ بالله، أو في الاستمناء -العادة السرية- فالذي يباح له الزوجة فقط في زماننا، أما غير ذلك فلا يباح له.
قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] أي: إذا أتوا أزواجهم أو ملك يمينهم.
قال تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون:7] مما لم يبحه الله سبحانه وتعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أي: الذين تعدوا الحلال إلى الحرام، فهم المجاوزون للحد، فالله سبحانه وتعالى جعل حدوداً للحلال وللحرام، فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، أي: أن للحلال حدوداً معلومة لا تتعدى، وهناك حدود للوطء عند النكاح، فلا تتعدى هذا النكاح إلى سفاح أو غيره مما حرم الله سبحانه، وذكر لنا حدوداً أخرى وهي من المحرمات فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187].
إذاً: فلا تتجاوز الحلال فتقع في الحرام، ولا تقترب من الحرام فإنه يخشى عليك أن تقع فيه.
فالمؤمنون لا يبتغون وراء ما أمر الله عز وجل به وأباحه، وإلا كانوا عادين واقعين فيما لا يحل لهم.
قال العلماء: يسمى من نكح ما لا يحل له عادياً، وأوجب عليه الحد لعدوانه كالحد في الزنا برجم المحصن الثيب والمرأة المحصنة الثيبة، أما غير المحصن فيجلد مائة جلدة والمرأة التي لم تحصن مثله، واللائط إنسان عاد، حده الشرعي أن يرجم كما ذكر الفقهاء، ولهم تفاصيل في ذلك.
فالمؤمن يقف عند ما أحل الله سبحانه ولا يتجاوزه إلى ما حرمه سبحانه.
والمجاوزة تأتي تدريجياً، فلو أن الإنسان ترك نفسه وهواها وقع في النهاية فيما يشتهيه من حلال ومن حرام، ولكن الشريعة تقيد الإنسان، فتأمر المؤمن أن يغض بصره، وأن يحفظ فرجه، وتأمر المؤمنة كذلك: أن تغض بصرها، وأن تحفظ فرجها، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:31]، وقد قالوا: البصر بريد الزنا، فإذا ترك الإنسان بصره فإنه ينظر شيئاً فشيئاً حتى يقع في الحرام وقلبه يشتهي ويتمنى، وفرجه يصدق ذلك أو يكذبه، فلذلك لا تترك نظرك كما تشتهي فتنظر إلى ما تريد، ولتكن مقيداً بشرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فالعين نعمة من الله عز وجل، وقد تكون بسبب نظره إلى ما لا يحل لك نقمة عليك، فليحذر الإنسان المؤمن أن يضيع شرع الله عز وجل بأن ينظر إلى ما لا يحل له.
والذي ينظر للشيء الذي حرمه الله يقوم غالباً بترك واجبات أوجبها الله عز وجل عليه، فتراه يمشي في الطريق وينظر إلى النساء، فإذا جاء وقت الصلاة -ولعله كان يصلي- فيقول لنفسه: لعله نزل مني لعله كذا، فيؤجل الصلاة، فإذا بالنظرة قد أورثت في هذا الإنسان نفاقاً بتركه للصلاة، ولعله يكون في رمضان فيمشي في الطريق وينظر إلى ما حرم الله عز وجل ثم يذهب ويفطر، وقد صلى أحد الناس معنا المغرب فقال لي: أنا إنسان طيب إلا الصوم فلا أصوم أبداً، فقلت له: لماذا لا تصوم؟ فقال: أنا أشرب السجائر كثيراً وأحب أن أنظر إلى النساء! فعين هذا الإنسان جعلته يترك الصيام، مع أنه قد بلغ ثلاثين أو أربعين سنة، فالإنسان إذا وقع في الحرام أتاه الشيطان فقال له: لا تصم، فيفطر، ثم يقول له: لا تصل لأنك تعمل كذا، فيترك الصلاة والصيام، ولعله يترك ما فرض الله عز وجل عليه كله، فيموت ولا ينفعه شيء.
وقد سألني أحدهم: أن رجلاً مات والده ولم يصل قط، فهل نحج عنه أو لا؟
الجواب
الله أعلم بحاله.
بعض الناس من كبار السن كنا نقول لهم: لماذا لا تصلون؟ فيقولون: ماذا نستفيد من الصلاة إذا صلينا؟ سبحان الله! ومن يدري لعله كان يترك الصلاة وهو صغير ويقول: سأصلي إذا كبرت، فلما كبر قال: ماذا سأستفيد؟ ويظل على ذلك حتى يموت ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالتارك للصلاة كأنه يائس من رحمة الله، ولذلك على المؤمن أن يعتبر بمثل هذه الأشياء، وكيف أن الله منَّ عليه بأن غض بصره وأرشده للصلاة، ومن عليه بأن جعله يصوم في رمضان وفي أوقات التطوع كما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمد الله سبحانه ويفرح بنعمة الإسلام وكفى بها نعمة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} [الأعراف:43].
فالمؤمن لا يلام على وطء امرأته إلا فيما حرم الله عز وجل عليه، كأن يأتيها في وقت حيضها أو في وقت نفاسها، أو أن ينكحها في دبرها، فهذا كله حرام، قال الله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].(42/6)
حفظ الأمانات ومراعاة العهود
ومن صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8].
فهم مؤدون للأمانة وراعون لها، أي: أنهم محافظون على الأمانة أقصى درجات المحافظة، وقد علمنا ديننا ذلك وكرر علينا هذا الأمر، قال سبحانه وتعالى في كتابه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] أي: يرعى أمانته فيحافظ عليها أشد من محافظته على ماله؛ لأنها أمانة، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل: (متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما تضييع الأمانة؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله)، فمتى أصبح الناس ينظرون إلى من سيكون والياً عليهم، لا من جهة دينه، ولكن ينظرون إلى صفات ليست من الدين كقولهم عن بعض الناس: ما ألطفه! ما أقواه! ما أظرفه! فيجعلونه قدوة لهم لأجل ذلك، فلينتظروا الساعة.
أما المؤمنون فيعرفون أمانة الله عز وجل، فإذا أرادوا من إنسان أن يكون كبيرهم نظروا إلى دينه وإلى تقواه وإلى حنكته وخبرته في هذا الأمر الذي سيجعلونه فيه، لكن إذا وسد الأمر إلى غير أهله بالمجاملات وبالأحساب ففي هذه الحالة انتظر الساعة.
وقوله تعالى: {لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8] بالجمع وهذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (والذين هم لأمانتهم وعهده راعون).
والأمانة من جنس الأمان، قال الله عز وجل في كتابه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب:72].
والأمانة أمانة في التكليف، والتكاليف الشرعية عرضها الله سبحانه وتعالى على السموات وعلى الأرض وعلى الجبال فأبين أن يحملنها، لماذا؟ لأنهن عرفن أنهن سيكلفن بشيء بعده إما جنة وإما نار وما يدريهم أنهم سيدخلون الجنة وسينجون من النار؟! فعرضت على الإنسان فحملها الإنسان، ومن أوصاف الإنسان أنه متهور وأنه سريع القدوم إلى الشيء الذي قد يهلكه، {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فحمل الإنسان هذه الأمانة، وأخذ على عاتقه أن يطيع الله عز وجل، فمنهم من أطاع الله ومنهم من عصاه سبحانه وتعالى.
فالمؤمنون لأماناتهم وعهدهم راعون، أي: أنه إذا أعطى إنساناً يميناً أو عقداً أو عهداً على شيء فإنه يراعي عهده ولا يخون أبداً ولا يغدر ولا يضيع مواثيقه، بل هو مؤتمن على هذا كله، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك).
(أد الأمانة) أي: إذا ائتمنك إنسان على أمانة فأدها إليه كما أعطاها لك.
ولو أنه خانك مرة من المرات في شيء فلا تخنه، ولا تقل: مثلما خانني أخونه، وكم من الناس يفعلون ذلك! فتجد كثيراً من الناس من متدينين وغيرهم سرعان ما يخون الأمانة ثم يقول: هو فعل بي كذا في يوم كذا، وينسى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وينسى أن النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه كان الكفار يؤذونه ويؤذون أصحابه، وكانت أمانات الكفار عنده في مكة صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة أخذ يجهز أماناتهم لردها إليهم وهم يعدون لقتله، وأمر أم أيمن بأداء وإرجاع الأمانات إلى أهلها، فهو منشغل بأماناتهم وهم منشغلون بسفك دمه صلوات الله وسلامه عليه، وينجيه الله عز وجل ويخرج من بين أظهرهم ويتوجه إلى المدينة مهاجراً صلوات الله وسلامه عليه، وقد أمن أن الأمانة سترد إلى أهلها عن طريق أم أيمن وعن طريق علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنهما.(42/7)
المحافظة على الصلوات
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] أي: يحافظون على الصلاة فلا يضيعون أوقاتها، ولا هيئاتها، ولا شروطها، وقراءة الجمع للجمهور، وقراءة الإفراد لـ حمزة والكسائي وخلف.
: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:10]، أي: هؤلاء المؤمنون هم الذين سيرثون جنة رب العالمين سبحانه {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:11].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/8)
تفسير سورة المؤمنون [10 - 13]
بعد أن ذكر الله سبحانه صفات المؤمنين في أول السورة ثنى بذكر ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم عليه السلام، فقد خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون، وذكر أنه خلق الإنسان بعد آدم من نطفة، وأن هذه النطفة تمر بمراحل، ثم تتحول إلى علقة، وتتحول العلقة إلى مضغة، وتتحول المضغة إلى عظام مكسو باللحم، ثم تنفخ فيه الروح عندما يمر عليه مائة وعشرون يوماً، فتبارك الله رب العالمين.(43/1)
صفات المؤمنين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ما زلنا في سورة المؤمنون التي قدمنا شيئاً من تفسير أول آياتها قبل ذلك، وقد بدأها ربنا سبحانه وتعالى بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ذكر النهاية والنتيجة التي يسعى إليه كل إنسان مؤمن وهي أن يكون من المفلحين، فبدأ بالأهم الذي يرجوه كل إنسان، والذي خلق الله عز وجل الخلق من أجله وهو أن يفلحوا بطاعتهم وبعبادتهم لله سبحانه.
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ومن صفات هؤلاء المؤمنين ما ذكر الله عز وجل هنا: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:2 - 9]، هؤلاء هم المؤمنون الذين حكم الله عز وجل لهم بالفلاح، ثم ذكر أن فلاحهم أنهم ينجحون عند الله عز وجل ويفوزون الفوز العظيم الذي لا خسران بعده أبداً فقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] والفردوس: هي أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقها عرش الرحمن سبحانه وتعالى، فهؤلاء الذين اجتمعت فيهم هذه الصفات هم أهل الفردوس الأعلى، وهم في عليين، وهم المقربون من رب العالمين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
تفضل الله عز وجل على المؤمنين بأن جعلهم يرثون الفردوس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين إذا دعوا ربهم وسألوه أن يسألوه الفردوس الأعلى من الجنة فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة؛ فإنه أعلى الجنة وأوسطها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة)، فالإنسان المؤمن إذا سأل الله فليسأله أهم الأشياء وأعظم الأشياء، ويكون هذا هو شاغل الإنسان المؤمن عن الدنيا وعن فتنها وعن مصائبها، أنه يرجو في النهاية الفلاح والفوز العظيم، ويخاف من الخسران ويخاف من النار، فيسأل ربه سبحانه وتعالى ليل نهار أن يكون مع (النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) في الفردوس الأعلى.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار) فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار، ويرجع الكفار في منازلهم في النار، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزلاً في النار، ويقول له: هذا منزلك لو عصيت الله، والإنسان المؤمن يفرح بأنه أطاع الله وأنه لم يدخل هذا المنزل، والإنسان الكافر يدخل في هذا المنزل والعياذ بالله، والإنسان المؤمن يريه الله عز وجل منزله في الجنة ويقول له: هذا منزلك في الجنة وقد ورثناك منازل هؤلاء، لو أطاعوني لدخلوا هنا، ولكنهم لم يطيعوني وعصوني فدخلوا النار، وأنتم ورثتم هذه الجنة وأخذتموها بفضل الله وبرحمته سبحانه.
وما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة وله منزل في النار، والله عز وجل يتفضل على المؤمنين بأن يدخلهم الجنة ويورثهم جنات النعيم.(43/2)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)
لما بدأ الله عز وجل بالشيء الهام الذي ينتظره الإنسان المؤمن، وهو أن يكون مفلحاً وبين صفات الفلاح، بدأ بعد ذلك يذكر لنا بدء خلق هذا الإنسان، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] أي: أن الله هو الخالق للإنسان وغيره من المخلوقات، فهو سبحانه وتعالى خلقهم ليطيعوه وخلقهم ليعبدوه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل خلق السماوات وخلق الأرضين، وخلق كل شيء، وما من شيء إلا يسبح بحمده، فليس محتاجاً لعبادة هذا الإنسان ولا لهؤلاء الجان، ولكن الله عز وجل يبتلي الخلق بعضهم ببعض، لحكمة منه سبحانه وتعالى، فملائكته أقوى من سائر خلقه سبحانه وتعالى، وهم يعبدونه ليل نهار، وما من موضع في السماوات إلا وفيه ملك لله عز وجل إما قائم أو راكع أو ساجد يعبد الله ويسبح الله، وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
فهذا الإنسان المخلوق الضعيف الذي هذا أصله لا يحتاج الله عز وجل لعبادته؛ بل خلقهم سبحانه وتعالى ليبتليهم، وهذا الإنسان خلقه ليكرمه إن أطاع ربه، وليحقق مقتضى صفاته أنه الرحيم والقدير والعليم والحكيم والخبير سبحانه وتعالى، فيخلق المخلوقات ليحقق مقتضى هذه الصفات العلية له سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى خلقه سبحانه ليعبدوه، فلن يزداد بعبادتهم شيئاً ولن ينقص بكفرهم شيئاً، ولكن خلقهم لنفعهم ولما فيه صلاحهم إن هم أطاعوه سبحانه.
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين) هذا أصل الإنسان، والإنسان هنا هو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهذا أصله أنه كان عدماً كان ماء وطيناً، فأوجد الله عز وجل منه هذا الخلق، وتركه من صلصال من طين ومن حمأ مسنون فترة، ثم نفخ فيه الروح سبحانه وتعالى، فكان أصل هذا الإنسان من سلالة من طين، قالوا: السلالة بمعنى: الصفوة، فكأن المقصود منه مني الإنسان، وقيل: السلالة من السلة واستخراج الشيء من الشيء، ولذلك الطين إذا أمسك بين الأصابع تسرب من بين أصابع الإنسان، فهو سلالة وخلاصة من شيء، أو شيء من طين، أي: ماء وتراب، بُلّ التراب فصار طيناً، فهذا الإنسان مخلوق من هذا الطين الذي لو أمسكته بين أصابعك وهو تراب وماء ما قدرت على جمعه، بل يتسلل من بين الأصابع، وقيل: النطفة سلالة، والولد سليل، أي: مأخوذ من هذه السلالة وما تفرع عنها، والطين أيضاً إذا عصرته بين أصابعك انسل وخرج منها، فالأصل أن الإنسان من سلالة من طين ثم صار إنساناً.
والإنسان عندما يمر بهذا الطين الذي يسيل في الشارع تراه يجتنب أن يصل إلى ثيابه منه، نقول له: هذا هو أصلك أنت، وأنت مخلوق من هذا الطين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين).(43/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)
قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] أي: جعل الله عز وجل هذه الإنسان نطفة وأقرها في مكان وفي قرار مكين، وجعل لها عوامل تجعلها تعيش بالقدر الذي حدده الله سبحانه وتعالى، ثم يخرج منها ما شاء في الوقت الذي يشاؤه الله سبحانه وتعالى، ويخرج من هذا الماء الشيء الذي هو حي، وكوّن أعداداً كثيرة جداً، والذي يكون منه الإنسان شيء واحد وهو هذه النطفة، وهي ماء الرجل.
يقول العلماء: إنه ماء الرجل ومتوسط ما ينتجه الرجل في اليوم الواحد حوالي ثلاثمائة مليون حيوان منوي، وهي متجددة دائماً، ومتوسط ما يقذفه الإنسان في القذفة الواحدة من المني في الدفعة حوالي من (3 - 4 سم3) هذه الكمية القليلة ترى كم فيها من حيوانات منوية؟ فيها من أربعمائة إلى خمسمائة مليون حيوان منوي في الدفعة الواحدة، يدفعها الإنسان في جماع أو احتلام، والله عز وجل يختار واحداً فقط من هذه الحيوانات المنوية ليكون منه هذا الإنسان، وهذا الحيوان المنوي فيه صفات معينه في الرجل، وقد خلق الله عز وجل في المرأة منذ خلقها عدداً من البويضات، يقول العلماء: إن البويضات مخلوقة في المرأة تقدر بحوالي اثنين مليون من البويضات، فهي أول ما تنزل من بطن أمها فيها هذا العدد من البويضات، فتبدأ هذه البويضات تتناقص حتى تصل في سن الإنجاب من أربعمائة إلى خمسمائة بويضة فقط، وهذه الكمية كافية للإنجاب في مرحلة ما بين سن (12) إلى (50) سنة الذي هو سن اليأس للمرأة، وهذا العدد الذي قدره الله عز وجل في المرأة لا يزيد ولا يتخلق يومياً كما يحدث في حيوان الرجل، ولكنه ينقص حتى تصل المرأة إلى سن اليأس وتنفد هذه البويضات، ولا تقدر المرأة على الإنجاب بعد ذلك، فإذا حدث غير ذلك فهو من معجزات الله عز وجل في خلقه أن يوجد ذلك لمن يشاء سبحانه وتعالى، كما حدث لزوجة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد أنجبت بعد سن اليأس.
فالله عز وجل خلق هذا الإنسان من هذه النطفة ومن هذه البويضة، وقد ذكر سبحانه أنه خلقه من أمشاج، والأمشاج هو اختلاط مني الرجل ببويضة المرأة، فيكون منها الصفات، صفات الذكور وصفات الإناث، وقد جاءت أحاديث عجيبة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين لنا هذه المراحل، مع هذا الذي جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، وهذا الكلام العظيم الذي في كتاب الله وفي سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه من الأحاديث جعل علماء الغرب يذهلون، وقد جاء في هذا المعنى أن رجلاً سمع ابن مسعود يقول: (الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره)، فتعجب الرجل تعجب كيف يكون شقياً وهو في بطن أمه ولم يعمل شيئاً يصير به شقياً؟! فذهب الرجل إلى حذيفة بن أسيد الصحابي الفاضل رضي الله عنه يقول ذلك كالمنكر على ابن مسعود قوله: (الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره)، فقال له حذيفة بن أسيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)، وقوله: (ثنتان وأربعون ليلة) هذا العدد يذكره علماء الطب ويقولون: إن الجنين في الأسبوع السادس تخلق فيه هذه الأشياء، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم من علماء التشريح، ولم تكن عنده كاميرات تصوير يصور بها رحم المرأة ولا شيء من ذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوحى لنبيه صلى الله عليه وسلم حتى أخبره بهذا الأمر بهذه الدقة التي لم يعرفها العلماء إلا بالمتابعة والتشريح والمناظرة وهم بعد النظر في الأدلة العقلية قالوا: تخلق هذه الأشياء في الأسبوع السادس تقريباً، أما حديث النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الليلة وقال: (إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها) ويقول علماء متخصصون في ذلك: في نهاية الأسبوع السادس -أي: بعد الاثنتين والأربعين ليلة - تكون النطفة قد بلغت أوج نشاطها في تكوين الأعضاء، وهي قمة المرحلة الحرجة الممتدة من الأسبوع الرابع حتى الثامن، ثم يقوم الملك إلى هذه النطفة ويصور فيها هذه الأشياء في خلال هذه الفترة.
وهناك أحاديث أخرى جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، كحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي قال فيه: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سيعد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، والحديث في الصحيحين.
وهذه الرواية رواية مسلم وفيها تفصيل دقيق جداً، أكثر مما جاء في صحيح البخاري، والتفصيل الذي فيها قوله: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)، وهذا معنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه: (الشقي من شقي في بطن أمه) أي: أنه معلوم عند الله من قبل خلق هذا الإنسان أنه شقي أو سعيد، وهذه من الأشياء الغيبية التي يجب أن نؤمن بها، فالله عز وجل خلق الخلق وعلم أن هؤلاء للجنة يصيرون وهؤلاء للنار يصيرون، وقدر أقداراً سبحانه وتعالى، ولكن لم يطلعنا على ذلك ولم نعلم ذلك، فالذي أمرنا به أن نؤمن بذلك ولا نتعرض له بالجدل الباطل.
إذاً: فالواجب علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر، وليس معنى ذلك أن الإنسان يترك العمل ويقول: لو كنت مكتوباً من أهل الجنة فسأعمل للجنة، لا، فإن هذا من باب الجدل العقيم الذي يضيع الإنسان فيه عمره، وفي النهاية يموت على ذلك وقد ضاعت دنياه وأخراه، فالقضاء والقدر أمرنا بالإيمان به، أما العمل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فأمرنا ألا نتوقف عن العمل، والقضاء والقدر هو شيء كتبه الله عز وجل عنده، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه.
فعلى الإنسان المؤمن ألا يتعرض لأمر القضاء والقدر إلا بالإيمان به والتصديق واليقين، ثم يعمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما سألوه عن ذلك: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
فهنا في الحديث قلنا: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) يعني: أنه في نهاية حياته لا يوفق لعمل أهل الجنة فيكون من أهل النار.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده السعداء، ولا يجعلنا من عباده الأشقياء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/4)
تفسير سورة المؤمنون [12 - 15]
ذكر الله لنا في كتابه مراحل خلق الإنسان وأطواره، وهذه الأطوار من آيات الله العظيمة، ثم بعد أن خلقه يميته، وهذه آية أخرى كبيرة، وبعد موته يبعثه يوم القيامة ليجازيه على أعماله، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين.(44/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16].
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات مراحل خلق الإنسان، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من شيء حقير: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12]، فهذا أصل الإنسان، وقد ذكر الله عز وجل في خلق الإنسان آيات في كتابه سبحانه وتعالى، كقوله في سورة الكهف: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37]، كما في قصة الرجلين اللذين آتى الله عز وجل أحدهما جنتين، ولم يؤت الآخر، فاستكبر صاحب الجنتين على صاحبه الذي يعبد الله سبحانه، وقال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34] {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37]، فأصل خلق الإنسان من التراب، وهنا ذكر الله أنه خلقه من طين، أي: خلقه الله عز وجل من تراب وماء، والأصل في خلقه التراب، والعناصر الموجودة بجسم الإنسان هي نفس العناصر الموجودة في التراب، وأكثر جسم الإنسان من الماء، فهو مخلوق من التراب والماء.
قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر:67]، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [فاطر:11]، وقال: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [النحل:4]، يذكره الله بأول خلقه وإذا به يخاصم، ويناظر، ويجادل خالقه سبحانه وتعالى! وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77]، وقال: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8]، يخرج من المحل الذي يخرج منه البول، يستقذره الإنسان، وقال: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:20]، فهذا بدء خلق الإنسان، فالله يذكره بأن هذا بدء خلقك، فليس لك أن تجادل ربك، وليس لك أن تستكبر على الخلق، فأنت خلقت من تراب مثلهم، وخلقت من ماء مهين.(44/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين)
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، أصل النطفة: النقطة من الماء، وكأنها النخبة المنتقاة من الإنسان تجتمع من نطفة الرجل ونطفة المرأة، كما قال الله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] أي: مختلطة فيها صفات الرجل، وصفات المرأة، فالبويضة يلقحها الحيوان المنوي، ويجعلها الله عز وجل بعد هذه النطفة علقة، وقوله: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13]، القرار المكين: هو رحم المرأة، فهو متمكن في مكانه، حفظ الله عز وجل هذا الإنسان في هذا الطور داخل هذا الرحم الذي ثبته في بطن المرأة، وجعل حوض المرأة من عظام يحميه عن اليمين وعن الشمال، ومن أمامه ومن خلفه، وجعل هيئته فيها حماية له، وملأ هذا الكيس الذي يحاط بالجنين بماء بحيث يحميه من أي اضطرابات وصدمات، فكأنه يسبح داخل كيس من ماء، وهذا من فضل الله عز وجل ورحمته سبحانه! فالذي ينظر لمراحل التخليق في بطن المرأة يعلم قدرة الله عز وجل، وكيف حفظ الله هذا الجنين في هذه الأطوار.(44/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة)
قال الله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
((ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً)) النطفة تتحول إلى علقة، فهذه النطفة الملقحة تلتصق في جدار الرحم، مثل النبات الذي له جذر يمص بجذره الماء الذي يغذيه، وكذلك هذه النطفة تصير كالعلقة تعلق بجدار الرحم، وتأخذ منه ما يغذيها من الدماء.
(فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) العلقة تتحول إلى مضغة، وهي صغيرة جداً، وهي كهيئة قطعة اللحم الممضوغة، وتوصف في الكتب العلمية كأنها لبانة ممضوغة، فيها آثار الأسنان.
قال الله: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) تتحول هذه المضغة إلى عظام، والله عز وجل ذكر العظام قبل اللحم، وكان المعروف عند علماء الطب إلى عهد قريب أن اللحم يتكون في البداية ثم العظم بعده، ولكن الله عز وجل ذكر العظم ثم اللحم بعده، وهذا الذي اكتشفوه حديثاً أن العظام تتكون في البداية ثم بعد ذلك اللحم.
وكانوا قبل أكثر من قرن يقولون: إنه يتكون اللحم ثم العظم، ثم بعد ذلك قبل سنوات قريبة قالوا: يتكون العظم واللحم معاً، ثم اكتشفوا أن العظم يتكون الأول ثم اللحم بعد ذلك، وهذا قد ذكره الله عز وجل هنا، وهم قالوا: إن الفرق بين خلق العظم واللحم وقت يسير جداً لا يكاد يلاحظ؛ ولذلك كانوا يعتقدون أن العظم واللحم يتكونان سوياً.
قال الله: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14]، في هذا الطور تكون المضغة المخلقة وغير المخلقة، وتكون الغضاريف التي فيها العمود الفقري والرأس، ثم يتحول إلى خلق آخر وهو خلق الجنين على الهيئة المعروفة في بطن المرأة، فيه اليد، وفيه الرجل، والرأس، والعين، والأنف، (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ).
وقوله سبحانه: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا) هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن عامر وشعبة عن عاصم: (فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً).
وخلق الجنين خلق عجيب، ففي مرحلة من المراحل لا تميز بين هذه المضغة التي تكون في الإنسان أو الحيوان حتى يحوله الله عز وجل خلقاً آخر متمايزاً، فيتميز الإنسان عن غيره من الحيوانات في المراحل التي بعد ذلك، قال الله: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، عندما يسمع الإنسان ذلك لا يسعه إلا أن يقول: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) أي: كثرت بركة رب العالمين سبحانه وتعالى، وتمجد الله سبحانه في بديع صنعه، وعظيم ما خلق سبحانه.(44/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)
قال الله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، بعد أن خلق الإنسان من طين، وفي النهاية يرجع إلى التراب مرة ثانية، فيدفن في قبره فإذا بالديدان تأكله، والديدان يأكل بعضها بعضاً، ويتحول الجميع إلى تراب، قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، فقد بدأكم من تراب وتعودون إلى التراب، ثم يعيدكم مرة أخرى يوم القيامة، يوم يبعثكم سبحانه وتعالى.(44/5)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن تذكير الجنين وتأنيثه في بطن أمه
روى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد! قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها)، غضب ثوبان لأنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم باسمه ولم يقل: يا رسول الله، وربنا سبحانه وتعالى نهانا أن ندعوه باسمه كغيره من الناس، (فقال اليهودي: لم تدفعني؟ فقال: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، يريد أن يحسم الخلاف ويسكت هذا وذاك، (قال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني)، وهذه عادة اليهود يسمعون بالأذن فقط، ولا يدخل ذلك إلى قلوبهم، (فقال: أسمع بأذني، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه في الأرض) كالمتعجب من هذا الذي سيسمع بأذنه! (فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: في الظلمة دون الجسر)، والجسر هو الذي سيعبر عليه الناس فوق متن جهنم إلى أن يدخلوا الجنة أو يتساقطون في النيران والعياذ بالله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (في الظلمة دون الجسر)، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات بما يشاء الله سبحانه، وهذا لا يعلمه إلا نبي، واليهودي يعرف ذلك مما أخبرهم به موسى عليه الصلاة والسلام.
(قال الرجل: فمن أول الناس إجازة؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، فقال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟)، والتحفة ما تتحف به الضيف أو من يأتي إليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زيادة كبد النون)، والنون هو: الحوت، فالله عز وجل يطعم هؤلاء من الزيادة التي على كبد الحوت، والله أعلم بعظمه، خلقه الله وجعل تحفة أهل الجنة الأكل من زيادة كبد هذا الحوت، (قال اليهودي: فما غذاؤهم على إثرها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال اليهودي: فما شرابهم عليه؟ قال صلى الله عليه وسلم: من عين فيها تسمى سلسبيلاً، قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم: وهل ينفعك إذا حدثتك؟! فقال: أسمع بأذني، قال: جئتك أسألك عن الولد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنث بإذن الله، فقال اليهودي: لقد صدقت وإنك لنبي)، وما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، بل قال: أنت نبي، ويقولون: هو نبي الأميين.
(قال: ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد سألني الذي سألني عنه ومالي علم بشيء منه حتى أتاني به) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعرف هذه الأجوبة، ولكن نزل الوحي حالاً على النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بالأجوبة عن هذه الأسئلة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر) يقول العلماء الذين يتكلمون عن هذا الحديث من علماء الطب: إن البشرية لم تعلم بواسطة علومها التجريبية أن الجنين يتكون من نطفة الرجل ونطفة المرأة إلا في القرن التاسع عشر، فقد كانوا يظنون أن الجنين من نطفة الرجل فقط، وتيقنوا ذلك في أول القرن العشرين.
والحديث تضمن وصفاً لماء الرجل وماء المرأة، وإن كان أكثر أهل الطب إلى عهد قريب يقولون: المرأة ليس لها ماء، فلا يوجد إلا المني من الرجل فقط، ثم بعد ذلك اكتشفوا أن في المرأة حويصلة جراف اكتشفها رجل اسمه دارك، هذه الحويصلة تخرج سائلاً لونه أصفر، قالوا: ماء المهبل يميل إلى الصفرة، وكذلك الماء في حويصلة جراف، قالوا: لكنه يكون قليلاً فلا تشعر به المرأة في الغالب، وقد تشعر به بعض النساء.
قالوا: عند خروج البويضة من هذه الحويصلة تدعى حينئذ الجسم الأصفر، فلونها أصفر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة أصفر)، ولم ير ذلك صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبره الوحي بذلك.
وهنا إعجاز آخر حيث قال: (فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكر بإذن الله)، يعني: يكون المولود ذكراً، وإن علا مني المرأة كان المولود أنثى، يقول العلماء: في هذا الحديث إشارة إلى أن إفرازات المهبل لها تأثير في الذكورة والأنوثة، قالوا: إفرازات المبيض حمضية، وتقتل الحيوانات المنوية، وإفرازات عنق الرحم في المرأة قلوية، ولكنها لزجة، وإفرازات الرجل قلوية أيضاً، فإذا غلبت قلوية الرجل على إفرازات الرحم الحمضية كان الجنين ذكراً، وإذا علا ماء المرأة كان المولود أنثى كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلماء: لهذه الإفرازات تأثير على نشاط الحيوانات المنوية المذكرة أو المؤنثة، وقد ذكر الشيخ عبد المجيد الزنداني هذا الأمر، وذكر أنه بحث عن هذا طويلاً حتى لقي دكتوراً مصرياً في أمريكا له سنين يحضر في هذا الأمر، وأخبره أن هذه المسألة ما زالت تحتاج إلى أبحاث جديدة، وله فيها أبحاث لم ينشرها، فأخبره الزنداني بأن هذا موجود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن ماء الرجل وماء المرأة يكونان سبباً في ذكورة أو أنوثة المولود، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا علا ماء الرجل كان ذكراً بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة كانت أنثى بإذن الله).
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث أنس بن مالك الذي رواه البخاري، وفيه أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، وهذا عبد الله بن سلام كان من أحبار اليهود، وقد أسلم، أما الآخر فلم يذكر أنه أسلم، فـ ابن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما للولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني بها جبريل آنفاً)، وذكر له مثل ما ذكر في الحديث الأول، وقال: (أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ذكراً) يعني: إذا غلب ماء الرجل صار الولد ذكراً، (وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل صار الولد أنثى، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله)، فآمن عبد الله بن سلام بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وطلب منه أن يكتم ذلك، حتى يعرف منزلته عند اليهود، وجاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟! قالوا: أعاذه الله من ذلك)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو أن يسلموا إذا علموا أن كبيرهم وخيرهم قد أسلم، (فقالوا: أعاذه الله من ذلك فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: أنت شرنا وابن شرنا، فقال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله)، فأحب أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم قدره فيهم وأنه خيرهم وابن خيرهم، وأنه أفضلهم، وعالمهم، فلما علموا أنه أسلم سرعان ما انقلبوا وكذبوا عليه! والغرض بيان أن القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها بيان حقائق علمية اكتشفت الآن في زماننا، وهي تبين قدرة الله سبحانه وتعالى، وإعجاز هذا القرآن العظيم، حيث يخبر بحقائق علمية لم تكشف إلا الآن، وقد ذكرها القرآن قبل ألف وأربعمائة عام.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/6)
تفسير سورة المؤمنون [14 - 18]
يذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز مراحل خلق الإنسان، وفي ذلك إعجاز باهر للعقول، ثم يمتن جل في علاه على خلقه -وهو المنان- بأصناف من النعم التي أنعم بها على عباده، وهي كثيرة لا يمكن أن تحصر بحال من الأحوال، ومنها: نعمة المطر، والتي تعد في حد ذاتها معجزة قوية في تفاصيلها.(45/1)
أطوار خلق الإنسان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ * وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:15 - 19].
ذكر الله عز وجل عباده بنعمه العظيمة التي أنعم بها عليهم، ومنها: أنه خلقهم من تراب من سلالة من ماء مهين، ثم مرت نطفة الإنسان بالمراحل التي ذكر الله عز وجل في الآية قبل ذلك فقال: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون:14].
فكان الإنسان في بداية تكوينه نطفة، ثم خلق الله عز وجل منها العلقة، ثم المضغة، وأنشأ الله عز وجل خلقاً آخر في مراحله الأولى لا يفرق بين نطفة الإنسان ونطفة الحيوان من حيث المنظر، وكذلك عندما تصير هذه النطفة علقة، ثم مضغة، ففي هذه المراحل تكون شكلاً واحداً في رحم الأم، ثم يخلق الله عز وجل العظام ويكسوها لحماً، وينشئ الخلق الآخر فيصير الإنسان إنساناً، أي: يصبح منظره منظر إنسان، منتصب القامة، فيه اليد والرجل والعين، فتبارك الله سبحانه أحسن الخالقين والخلاق العظيم سبحانه وتعالى، فهو الذي يخلق الشيء فيكون على الوفق الذي قدره سبحانه وتعالى، فهو الخالق البارئ المصور سبحانه، خلق وقدر كل شيء وأوجده من عدم إلى وجود، وأوجد فيه ما يتميز به عن غيره، فيقدر الشيء ويخلقه سبحانه وتعالى ويجعله على النحو الذي قدره عليه، قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14].
فإن من معاني الخلق: تقدير الشيء، والإنسان قد يقدر الشيء وقد يكون على وفق ما قدره وقد لا يكون، فالإنسان يقدر بتفكيره فتكون الفكرة سهلة عنده فلما يبتدئ ويعمل الذي يقوله قد يقدر أن يصل إلى ما فكر فيه وقد لا يقدر، أما الله سبحانه وتعالى فما من شيء يقدره إلا ويكون على ما قدره عليه سبحانه وتعالى، والأمر عليه يسير وسهل سبحانه وتعالى، فمن معاني الخلق: التقدير، ولذلك يقول زهير بن أبي سلمى في شعره: ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وكأنه يمدح أحداً فيقول: أنت تقدر الشيء فيقع على النحو الذي قدرته، فيأتي الخلق بمعنى التقدير.
قال الله عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، والله يقدر ولا بد أن يكون الشيء الذي قدره على النحو الذي أراده سبحانه، والإنسان عندما يقدر فقد يكون هذا الشيء وقد لا يكون، فالله أحسن الخالقين، وأحسن الصانعين سبحانه وتعالى، وهو الذي يتقن الشيء ويصنعه على ما قدره سبحانه.
ومن معاني الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، أي: أتقن الصانعين سبحانه وتعالى فهو الذي يصنع الشيء على نحو من الإتقان العظيم الذي لا يشبهه فيه أحد أبداً، فلذلك الخلق يأتي بمعنى الصنع.(45/2)
تفسير قوله تعالى: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون)
قال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: مثلما خلقكم فإنه سوف يعيدكم إلى التراب مرة ثانية ثم يخرجكم منه ثالثة للجزاء والحساب، قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: بعد ما خلقكم ورزقكم، وبعد ما جعل لكم أعماراً تعملون فيها ويبتليكم ستموتون.
لذلك لا بد أن يكون الموت على بال كل مؤمن، فالمؤمن الفطن هو من يعتبر بغيره، وفي ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره.
والمؤمن ينظر إلى الموت على أنه نهاية كل إنسان، فلم يحدد لنا ربنا سبحانه متى سنموت ولكن الموت يأتي فجأة وبغتة، ثم إن قبر الإنسان إما أن يكون حفرة من حفر النيران وإما روضة من رياض الجنة.
قال تعالى:: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ} [المؤمنون:15]، أي: بعد هذا الخلق وبعد الحياة: {لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون:15]، أي: راجعون إلى الله سبحانه وتعالى وفي قبوركم تموتون وتسلب منكم أرواحكم.
قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16]، أي: تعودون إلى الحياة مرة ثانية يوم القيامة يوم أن يجازي الله عز وجل الخلائق.(45/3)
تفسير قوله تعالى: (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق)
ثم يذكر الله من نعمه على الخلق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: سبع سماوات طباقاً، أي: بعضها فوق بعض، وسماء فوقها سماء، ونحن تحت السماء الدنيا أي: السماء السفلى، والإنسان لم يعرف حدود هذه السماء ولكنه عرف الكواكب وعرف الأجرام، ولم ولن يصل إلى السماء التي فيها الملائكة، والتي ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن كثافتها وسمكها خمسمائة سنة، وبينها وبين التي تليها خمسمائة سنة.
وقوله: (سبع طرائق) أي: جعلها طرقاً للملائكة في هذه السماوات، والطرائق بمعنى: طارق الشيء أي: جعل بعضه فوق بعض، ومنه طارق النعل، أي: وضع نعله فوق نعل آخر، وهنا طارق السماوات أي: جعل بعضها فوق بعض، فسميت طرائق لأن بعضها فوق بعض، وسميت كذلك لأنها طرق الملائكة في السماء.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17] فهذه السماوات العظيمة التي لا يدري الإنسان عنها شيئاً، والكون في اتساع، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47]، والإنسان يلهث ويجري لكي يعرف تفاصيل هذه الأشياء، ولكي يقال: إنه عالم فلك، والعلماء يقولون: إنه بيننا وبين السماء في الجزء المنظور من الأرض من ناحيتنا أكثر من أربعمائة ألف مليون مجرة، وكانوا قبل سنة يقولون: إن عددها مائة ألف مليون مجرة، أو مائة مليار مجرة، والآن تضاعف إلى أربعمائة ألف مليون مجرة، ويمكن بعد عشر سنين أن يتضاعف العدد، وكل مجرة من المجرات فيها مثل هذا العدد من النجوم والكواكب والأقمار والشموس.
وعلى الرغم من عظم هذا الكون وضخامته إلا أن الله يعلم كل ما فيه وكل تفاصيله، وهو الوحيد القادر على إدارته إدارة دقيقة سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: لم نغفل عن الخلق ولن نغفل عنه أبداً، ولكن نجازيهم يوم القيامة على ما صنعوا، ولم نغفل أيضاً عن متابعة مصالح الإنسان، فننزل عليه رزقه، ونعطيه ماءه وشربه، ونهديه وننزل عليه من السماء ما يشفيه من أمراض بدنه، وما يشفيه من أمراض قلبه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: في القيام بمصالح هذا الخلق فالله هو الحي القيوم سبحانه وتعالى.
كذلك: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون:17]، أي: عن خلق هذه السماوات، فنحن لم نغفل عنها، ولو حصل ذلك لسقطت السماء على الأرض، ولكن الله عز وجل لا يعزب عنه شيء ولا يغفل عن شيء.(45/4)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)
ومن نعمه العظيمة التي يذكرها لنا قال: {وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:18]، معنى السماء في هذه الآية: كل ما سما أو علا فوقك وهو السحاب، وقد يكون المعنى: أن أصله من الجنة، مثلما ذكر لنا أن أصل نهر النيل ونهر الفرات من الجنة، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وانظر إلى التعبير هنا ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ))، ويقول في آية أخرى: {يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى:27]، فالعبد يستغيث بالله: أن أنزل المطر، والله أعلم بمصالح العباد، ومن يستحق ومن لا يستحق، فينزل في هذه البقعة من الأرض كمية من الماء وفي البقعة الأخرى كمية من الماء، بحسب ما يراه الله سبحانه وتعالى، فلو زادت المياه التي تنزل من السماء عن حدها لأغرقت الأرض، ولكن الله ينزل كل شيء بقدر، والمتتبع لأحوال الماء كيف يكون في البحار والأنهار وفي المحيطات وأنه يتبخر إلى السماء بنظام عظيم قدره سبحانه، فيتبخر الماء من البحار ومن أماكن المياه إلى السماء بسبب أشعة الشمس فيعلو، والشمس تسخن ماء البحر لدرجة معينة لا يتأذى بها الإنسان، وهذا من حكمة الله عز وجل، يتبخر فيصعد الماء إلى طبقات الجو العليا، وهذا الماء كلما ارتفع تقل درجة الحرارة، إلى أن يصل إلى حد معين فوق قمم الجبال، فتكون درجة الحرارة أقل منها على الأرض، فيتكثف الماء في منطقة معينة من السماء، وبعد هذا الحد بأربعين كيلو متراً في السماء تزيد درجة الحرارة مرة أخرى، ويقف فيها الماء المتبخر في هذه المنطقة من طبقات الجو، فيرسل الله الرياح لتحرك هذه الأبخرة المتكونة من الماء والتي أصبحت على شكل سحب، وبعد ذلك يأمر الله بأن تنزل الأمطار حيث يريد من الأرض.
وقد جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم والذي فيه: أن رجلاً كان يسير فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتتبع فنظر فإذا بالسحابة تجيء من مكان معين فتنزل المياه كلها في شرجة أرض صخرية، فتتجمع المياه وتمشي إلى مكان واحد فقط، فمشى وراء المياه إلى أن وصل إلى حديقة، فسأل صاحب الحديقة عن اسمه، فقال: فلان، فكان نفس الاسم الذي سمعه في الصوت الذي كان في السحابة، فقال: لمَ سألتني عن اسمي؟ فقال له: إني سمعت صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعت الماء فوجدته جاء عندك في الأرض الذي أنت فيها.
فماذا يعمل هذا الإنسان؟ قال: إنه يزرع هذه الأرض، والمحصول الذي يخرج منها يقسمه أثلاثاً: ثلثاً يأكل منه هو وأهله وعياله، والثلث الآخر يرده في الأرض زرعاً مرة ثانية، والثلث الثالث يتصدق به لله سبحانه وتعالى، رعى الله سبحانه وتعالى فرعاه الله وحفظه وحفظ له ماله، وما نقص مال من صدقة، فهذه سحابة تنزل ماءها من أجل فلان، وهذه بركة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وبركة طاعة الإنسان، فإنه حين يطيع ربه يعطيه من فضله سبحانه وتعالى.
فينزل الماء بقدر يناسب الحديقة المعينة، أو على قدر يناسب المزارع المراد إنزال المطر عليها حتى لا يهلك أهلها، وينزل سيولاً في أماكن معينة لحكمة منه سبحانه وتعالى وهي إغراقها وأصحابها، فكل شيء ينزل بقدر من عنده سبحانه وتعالى.
يقول لنا العلماء: إن رحمة رب العالمين أن المسطحات المائية من بحار ومن محيطات ومن أنهار والتي تتبخر منها المياه مساحة دقيقة ومحسوبة تماماً، فلو أنها زادت عن هذا الحد لتبخرت كمية كبيرة من الماء، وعندما تنزل بشكل أمطار ستغرق الدنيا، ويقول العلماء: لو أن المسطحات المائية كانت أوسع مما هي عليه لغرقت الدنيا بالمطر الذي ينزل عليها، ولكن حكمة الله سبحانه أن جعل البحار والمحيطات بهذا الحجم أو بهذه المساحة والاتساع.
أما كمية الأمطار التي تنزل فهي كمية كبيرة جداً يقال: إنها تعادل حوالي ستة عشر مليون طن من الماء، ينزل من السماء في كل ثانية واحدة، فلولا أن الله عز وجل قسم أرزاق العباد هنا لأغرق هذا الماء النازل الدنيا وأهلك أهلها.
والمطر الذي هو على شكل سحاب في السماء يرسل الله عز وجل الرياح فتثيره، ويتولد من ذلك ما يشاء الله عز وجل من برق ومن رعد، فالإنسان ينظر للبرق أنه شيء خطير سينزل مطر، ويخاف منه، ولكن الله سبحانه وتعالى يجعله رحمة منه لزرع الإنسان ولحياة هذا الإنسان.
قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ} [المؤمنون:18]، فالماء لا ينزل على نفس المكان الذي خرج منه ولكن إلى مكان آخر، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه لو أن الماء نزل في نفس المكان ما سقى زرعاً ولا ضرعاً، ولكن يتحرك على أرض معشبة يخرج منها ما فيها، وعلى أرض مجدبة يخرج منها ثمارها، وينزل على أرض أخرى فإما أن يتجمع في باطن الأرض في مكان بعيد عن الجراثيم فيكون طاهراً ومطهراً للإنسان وماء عذباً، أو أنه ينزل على أماكن عالية، وقد ينتن لو بقي في مكانه، فيسخر الله عز وجل له ما يسيره فإذا به يجري أنهاراً ويصب في البحار.
فالذي رفعه والذي أنزله قادر على أن يذهب به كله فلا يجد الإنسان ما يشرب، فالله على كل شيء قدير، ويجب على الإنسان أن يعرف قدرة الله، وأن يقدر الله حق قدره، قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(45/5)
تفسير سورة المؤمنون [18 - 21]
نعم الله سبحانه وتعالى على عباده كثيرة لا تحصى، ونعمه سبحانه حين يتنعمون بها تذكرهم بنعيم الآخرة، فقد أنزل الله الماء بقدر معين، وجعل فيه حياة الإنسان والحيوان والنبات، وأخرج به الأقوات والفواكه، ولا يذكر الله عز وجل صنفاً من الثمرات إلا لفوائده الجمة على الإنسان، وسخر الله الأنعام للإنسان ليأكل من لحمها، ويشرب من ألبانها، وعليها يحمل، ففيها عبرة له ومنافع.(46/1)
تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ * وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:18 - 22].
في هذه الآيات من هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون يخبرنا الله عز وجل عن نعمه العظيمة التي أنعم بها على عباده، ومن هذه النعم ما ذكرنا في الحديث السابق: إنزال الماء من السماء، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ))، هذا الماء الذي نزل من السماء بقدر لو زاد عن حده لأغرق الله عز وجل به الأرض، ولو أنه قل عن مقداره لهلك الناس من العطش وهلكت الزروع والثمار، ولكنه ينزل بقدر ما يشاء سبحانه، ونعمة الماء ونعمة الهواء ونعمة الحياة من نعم الله عز وجل العظيمة على عباده، فجعل لهم هذه الدنيا دار إقامة إلى حين، ثم يتحولون منها موتاً إلى قبورهم ثم يبعثون يوم القيامة لدار الإقامة الأبدية الدائمة.
فنعم الله عز وجل على العباد في هذه الدار تذكرهم حين يتنعمون بها كيف سيكون نعيم الآخرة؟ فأنت في الدنيا تحتاج إلى الطعام، وتحتاج إلى الهواء، وتحتاج إلى الماء، وتسأل الله عز وجل هذه النعم، فينزل عليك ما سألته، وقد يمنع عنك شيئاً منها ليذكرك بقدرته سبحانه، وبأنك مخلوق ضعيف تحتاج إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا أعطاك النعمة شكرت ربك وحمدته على ما أعطاك، وتذكرت ما يعطي يوم القيامة عباده في جنته، فيشتاق الإنسان المؤمن إلى جنة رب العالمين، ويعمل جاهداً لها.
فهذه الدنيا نعم الله عز وجل فيها تبين للإنسان شيئاً من نعيم الآخرة، وأنه في الدنيا احتاج فأعطاه الله عز وجل وأنعم عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طعم هو وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما: ({ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] قال: وهذا من النعيم الذي تسألون عنه)، وذلك لما ذبح لهم الرجل الأنصاري رضي الله عنه شاة فأكلوا وشبعوا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مذكراً بذلك: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
فمهما تنعمت بشيء في الدنيا تذكرت نعيم الدار الآخرة، وأن الله عز وجل يسألك عما أخذت في الدنيا، أما في الجنة فلا سؤال، ففي الجنة يأكل أهل الجنة بغير حساب، ولا سؤال بعد ذلك، فإذا كان الإنسان يستشعر بهذه النعم في الدنيا فكيف تكون النعمة في دار المقام في جنة رب العالمين؟ فمن نعم الله: الماء، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ))، فالله أنزل الماء، والإنسان لا يقدر على تجميعه إذا نزل من السماء، ولكن الله القادر سبحانه وتعالى جعل ذلك في باطن الأرض في أماكن تستوعب هذه المياه على شكل مخازن جوفية في الأرض؛ بحار ومحيطات وغيرها تستوعب هذا الماء، فيخزنه للإنسان حتى إذا احتاجه وجده.
قال تعالى: ((فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ))، فالذي أتاك بالماء، وخلق الإنسان من ماء وجعل من الماء كل شيء حي هو القادر على أن يذهب بهذا الماء الذي أوجده وخلقه سبحانه بقدرته.(46/2)
تفسير قوله تعالى: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب)
لما ذكر الله نعمة الماء ذكر النعم التي تترتب على نزول الماء، فأنت تشرب من هذا الماء فتقوم حياتك به، ثم يسقي الله لك به الزروع، ويسقي لك ثمارك، ويسقي لك بهائمك، وينشئ الجنات العظيمة، قال تعالى: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:19]، وليس جنات ونخيلاً وأعناباً فقط، فقد ذكر الله الفاكهة التي هي الدرجة الثانية، أما الدرجة الأولى فهي القوت، فإذا ذكر الفاكهة فالقوت من باب أولى، أنه أخرج لك أقواتك من هذه الأرض بهذا الماء، وليس القوت فقط، بل وما تتفكه به من أشياء يخرجها الله عز وجل من ثمار ونحوها.
قال تعالى: ((فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ)) أي: في هذه الجنات ((لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ)) أي: تتفكهون بها وتأكلونها بعد طعامكم أو قبل طعامكم، وتفرحون بمنظرها وبطعمها وبلونها، وبرائحتها، وتتفكهون بذلك ((وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)).(46/3)
فوائد التمر والعنب
فأنشأ الله عز وجل الجنات، وهذه أغلى ما عند الإنسان، كذلك أنشأ له الحقول وأنشأ له ما يشاء من خلقه، فقوله تعالى: ((فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ)) الجنات: البساتين، {مِنْ نَخِيلٍ} [المؤمنون:19] فتأخذون من ثمارها البلح والبسر والرطب والتمر، فنص على بعض ما يخرج منها وهو من أذكاها ومن أعلاها ومن أفضلها، فالتمر تأخذه من النخيل، والتمر فاكهة للإنسان يفرح بها، تسد جوع الإنسان فتعطيه طعاماً فيه غذاء له، وفيه فاكهة، وفيه شيء حلو يتحلى به، وكذلك الفيتامينات والفوائد الغذائية الأخرى.
يقول العلماء: النخيل والأعناب من الفواكه التي هي سريعة الهضم عند الإنسان، وسرعان ما تعطي الإنسان ما يحتاجه من سكر ومن غيره، فقالوا: تمتاز الفواكه باحتوائها على العديد من الفيتامينات ومن السكريات السريعة الامتصاص التي تؤدي إلى اختفاء الجوع، فالإنسان حين يشعر بالجوع ويأكل الفاكهة بسرعة يذهب الشعور بالجوع؛ لأن الجهاز المسمي بـ (تحت البصري) الذي تحت البصري في المخ يستشعر بانخفاض نسبة السكر؛ فيستشعر الإنسان بالجوع وبالدوخة؛ ولذلك كان من السنة في رمضان أنك أول ما تفطر تفطر على التمر، قالوا: لأنه يحتوي على نسبة عالية من السكريات السريعة الامتصاص في بدن الإنسان، ويحتوي على نسبة عالية من الفسفور، والفسفور هو غذاء المخ، فالتمر يحتوي على سكريات تمر في الدم بسرعة، فيشعر الإنسان بشيء من الشبع وتعطيه طاقة، والفسفور يغذي المخ، وسرعان ما يعود المخ إلى نشاطه بسبب أكل التمر، فكان من السنة أنك تفطر على التمر أولاً في رمضان.
وقالوا أيضاً: إن التمر من الأشياء المفيدة جداً للنساء الحوامل، فهو يعين عند الوضع، ويساعد على انقباض عضلات رحم المرأة في حال الوضع؛ ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أمر السيدة مريم بقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:25 - 26]، أي: كلي من هذا التمر واشربي من الماء وقري عيناً، فقالوا: إنه يعين على الولادة بانقباض الرحم، كذلك يمنع النزيف لأنه يخفض ضغط الدم في الإنسان، كذلك يعين على خروج المشيمة من الجسم أو على الانقباضات التي تخرج الدم والمشيمة من جسد المرأة، هذه فوائد التمر، وكذلك البلح فيه من ذلك، فالتمر ما هو إلا بلح قد يبس.
والعنب بأنواعه يحتوي على نسبة عالية جداً من السكر، مثل سكر الجلوكوز الذي هو من أسهل أنواع السكر، ويحتوي العنب على حوالي خمسين في المائة منه، وقيل: إنه نافع جداً للإنسان، فهو يدر البول، ويمنع ترسيب الحصوات في الكلى والحالب وغيرها، ويعين على إزالة الأملاح الذائبة في جسد الإنسان، وقيل: إنه يساعد المريض باليرقان وأمراض الصفرة على إدرار الصفراء في جسم الإنسان وعلى نشاطه وعلى فتح الشهية وغير ذلك.
قوله تعالى: ((لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ)) أي: تتفكهون وتستلذون بطعمها وفيها هذه الفوائد التي ذكرناها، وقوله تعالى: ((وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ))، أي: يكون طعاماً للإنسان؛ لأن أهل المدينة كان من ضمن طعامهم التمر، حيث إنهم كانوا يأكلون التمر ويشربون عليه الماء ويقومون على ذلك أشهراً كثيرة، وكذلك العنب يجعلونه زبيباً فيأكلون الزبيب ويشربون الماء.(46/4)
تفسير قوله تعالى: (وشجرة تخرج من طور سيناء)
ومما أخرج الله عز وجل بفضله وكرمه لعباده ما قال: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [المؤمنون:20].
إذاً: أخرج الله عز وجل للعباد ما يأكلون، وأخرج لهم طعامهم وأقواتهم، وأخرج لهم فاكهتهم، ومن ضمن ما أخرج الله عز وجل للعباد: ((شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) أي: أصلها من هذا المكان، وقوله تعالى: ((طُورِ سَيْنَاءَ)) فيها قراءتان: قراءة الجمهور: ((مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ)) بالفتح، وقراءة نافع وأبي جعفر والبصريين: أبي عامر ويعقوب: (من طور سِيناء) بالكسر، وطور بمعنى: الجبل، وسيناء بمعنى: البركة أو المباركة، فالمعنى: من الجبل المبارك، وهذا معنىً من معاني كلمة (سيناء).
وقيل: بل (سيناء) معناها: الحسن، أي: الشيء الحسن، أو الجبل الحسن، أو الجبل الذي فيه الشيء الحسن، وهذا معنىً من معاني كلمة (سِيناء).
وقوله تعالى: ((تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)) المقصود بها: شجرة الزيتون، وهي شجرة لا تكلف الإنسان ولا يعاني في زرعها، ولكن الله عز وجل يزرعها للإنسان فتخرج سريعة، وهي توجد في الصحراء على شكل بذور تشبه نوى العنب، والله عز وجل يخلقها من غير معاناة للإنسان في زرعها ومراعاتها، بل يخرجها الله عز وجل بأسهل ما يكون للإنسان فيستفيد منها.
وقوله تعالى: ((تَنْبُتُ)) قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير وأبي عامر ورويس: (تُنبِت)؛ لأنه من الفعل الأول الثلاثي نَبَتَ يَنبُتُ تَنبُتُ، ومن الرباعي أَنَبَتَ تُنبِتُ، فقوله: (تَنبُت بالدهن) أي: تخرج هذا الدهن، أو تنبت وفيها هذا الدهن، أو تُنبِتُ أي: تخرج من الأرض وتخرج منها الدهن، وهو الزيت الذي فيه، فوصفه الله سبحانه وتعالى بذلك أنه دهن، وفي سورة النور قال: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35].
فقوله تعالى: ((مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ)) أي: أن شجرة الزيتون شجرة مباركة؛ لما فيها من هذا الزيتون الذي يحتوي على فوائد عظيمة ذكرها العلماء، فتنبت بالدهن أي: بالزيت الذي فيها.
وقوله: ((وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)) الصبغ: الإدام، فالإنسان يغمس الخبز بالزيتون أو زيت الزيتون ويأكله، أو يجعل الزيتون في طعامه.(46/5)
فوائد الزيتون
والزيتونة شجرة مباركة كما سماها الله سبحانه وتعالى، والعلماء بحثوا في هذا الزيتون والفوائد الكثيرة الموجودة فيه، فمن ضمن ما ذكروا في الأبحاث الحديثة: أنهم رصدوا ظاهرة صحية لسكان بعض جزر البحر المتوسط فوجدوا بعض السكان كسكان جزيرة كريت وغيرها أنهم يعيشون حياة طيبة، وأن صحتهم عالية، ودرجة الحيوية عندهم عالية، وأنهم يتمتعون بصحة ونشاط، وحاولوا أن يبحثوا عن سر صحة أهل هذه الجزر -كريت وما حولها- فوجدوا أن الغذاء عندهم يعتمد أساساً على زيت الزيتون، فهم أقل الناس تعرضاً للإصابة بارتفاع ضغط الدم وبأمراض القلب وأمراض تصلب الشرايين؛ لأنهم يتمتعون بمستوى معتدل صحي بنسبة الكلسترول الموجودة في دم الإنسان، والسبب في هذا كله اعتمادهم على زيت الزيتون وعلى الزيتون في طعامهم.
والعصرة الأولى من زيت الزيتون فيها الفوائد كلها، والعصرة الثانية والثالثة يتسرب إليه أشياء رديئة، وقد يكون زيت الزيتون مغشوشاً في السوق، وقد أخذ من السوق ما كان موجوداً من زيت الزيتون لأنه يسبب السرطان، لكن زيت الزيتون نفسه لا يسبب سرطاناً، بل تصنيع هذا الزيت أو طرق التصنيع هي التي تسبب هذا الشيء، حيث إنهم كانوا يستوردونه من أسبانيا وإيطاليا، ويأتون به وقد اعتصر العصرة الأولى ويسمونه كسباً أو تفلاً، ثم يعصرونه مرة أخرى في درجة حرارة عالية جداً، فتدخل فيه مواد كيميائية تسبب سرطانات في الجسم، فهذا هو السبب في الإصابة بالسرطانات، وليس لكونه زيت زيتون، ومن أنقى زيوت الزيتون وأفضلها الذي يأتي من سيناء؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماها الشجرة المباركة.
وزيت الزيتون غني جداً بالدهون، وفيه نوعان من أنواع الدهون: دهون مشبعة، ودهون غير مشبعة: فالدهون المشبعة فيه نسبة قليلة منها ومفيدة للإنسان.
والدهون غير المشبعة فيه نسبة كبيرة منها، وهي مفيدة جداً جداً، ولا توجد إلا في الزيوت النباتية فقط مثل زيت الزيتون وزيت السمسم وزيت الذرة، وفيها الزيوت غير المشبعة وهي مفيدة للإنسان.
والزيوت غير المشبعة الموجودة في زيت الزيتون هي دهون ومع ذلك يقولون: إنها تساعد على تخفيف الدهون الموجودة في الجسم، فالإنسان السمين إذا شرب من زيت الزيتون فإنه يساعده على تخفيف أو إزالة الدهون الموجودة في الجسم، ومن العجب أن تأخذ دهناً لتزيل به دهناً آخر! فدهن زيت الزيتون هذا غير مشبع، ويمنع الأكسدة التي تؤدي لخمول ذهن الإنسان وعدم التفكير، وغير ذلك من الأمراض.
ومن الأبحاث التي أجريت على زيت الزيتون: أن ملعقة من زيت الزيتون يومياً تقلل من سرطان الثدي عند النساء أربعين في المائة.
وكذلك تناول زيت الزيتون لمريض قرحة المعدة تساعده على قتل نوع من أنواع الجرثومات تسمى: (الهلوبكتر)، وهي نوع من أنواع الجرثومات الحلزونية الموجودة في المعدة وتعمل على قرحتها، فشراب زيت الزيتون يقضي على هذه الجرثومة.
ويمنع من سرطان المعدة، ومن سرطان القولون كذلك، ومن تصلب الشرايين، وزيت الزيتون ملطف وملين ومدر للصفراء ومفتت للحصى، ويحتوي على مضادات للأكسدة في جسم الإنسان، وكذلك يحتوي على فيتامينات: فيتامين (أ) و (ب) و (هـ) و (ج)، ولو دهن الإنسان شعر رأسه فإنه يمنع من سقوط شعر الرأس، ودهانه لجلد الإنسان مع شربه يمنع التشققات وغيرها من الأمراض الجلدية التي تكون عند الإنسان.
هذه جملة من الفوائد التي جمعها الله سبحانه وتعالى لنا، وقال في زيت الزيتون أو في الزيتون نفسه: ((وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ)).(46/6)
تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)
ثم ذكر الله بعد ذلك الأنعام فقال: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21].
إذاً: ذكر لنا الماء، وذكر لنا الطعام وعلى رأسه الفواكه، وذكر لنا زيت الزيتون، وذكر لنا الأنعام والفوائد الذي فيها، ثم ذكر بهيمة الأنعام، وهي تطلق على أربعة أنواع: الإبل سواء ذكوراً وإناثاً، والبقر ذكوراً وإناثاً، والجواميس منها، وكذلك الأغنام ذكوراً وإناثاً والماعز منها، فهذه التي أنزلها الله عز وجل للعباد، قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143 - 144].
وقوله تعالى: ((وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)) أي: تعتبرون من مناظرها الجميلة، ومما فيها من قوة، والله عز وجل لم يعطك مثل قوة هذه البهيمة من الأنعام، ومع ذلك جعلها مسخرة لك، أنت الذي تذبحها، وأنت الذي تركبها، وأنت الذي تتحكم فيها، فالله عز وجل يسخر ما يشاء لمن يشاء سبحانه، ثم ذكر من النعم التي فيها فقال سبحانه: ((نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(46/7)
تفسير سورة المؤمنون [21 - 22]
قص الله علينا في كتابه قصة نوح في سور كثيرة، لما فيها من الدروس والعبر، وهو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وقومه أطغى من كل من جاء بعدهم، وقد لبث فيهم ما لم يلبثه رسول في أمته.(47/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن لكم في الأنعام لعبرة)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:21 - 24].
يذكر الله عز وجل في هذه الآيات بعض نعمه على عباده سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون:21]، وقد تكرر هذا المعنى في كتاب الله سبحانه تبارك وتعالى مبدياً الامتنان على عباده بما خلق لهم ورزقهم سبحانه وتعالى، وجعل لهم الآيات والمعجزات الدالة على عظيم فضله، فأمر بالتدبر والنظر فيما خلقه سبحانه، حتى يعتبر الإنسان ويعلم قدرة الله سبحانه وتعالى فيعبد ربه ويوحده، وعند تلاوة الآيات السابقة ندرك أنه هنا ذكر لنا هذه النعم التي أنعم بها على العباد في خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، فيما خلق لهم من رزق يخرج من الأرض، ومن بهيمة الأنعام، ثم عقب بعد ذلك بذكر التوحيد الذي دعا إليه أنبياء الله على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
فبعدما ساق ذكر النعم العظيمة من الخالق العظيم ذكر لنا إرسال الأنبياء، ودعوتهم قومهم إلى توحيد الله، فكأن هذه الآيات دليل للإنسان يحتج به على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه لا أحد غير الله سبحانه يقدر على ذلك، ولذا يقول سبحانه: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، فهو وحده الذي خلق هذه الأشياء، وخلقكم أنتم، أما الذين تعبدونهم من دونه سبحانه فهم {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [الفرقان:3]، بل أنتم الذين تصنعونهم، ومن ثم تتعبدون لهم من دون الله سبحانه! ولذا يدرك المتأمل في سياق هذه الآيات خصوصاً في السور المكية الأمر بالتدبر في هذا الكون، ثم إتباع ذلك الأمر بذكر التوحيد الذي أرسل به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وفي الآيات السابقة ذكرت من نعم الله سبحانه وتعالى نعمة الأنعام، {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [المؤمنون:21]، ففي الأنعام عبر يعتبر بها الإنسان، والإنسان عندما يعتبر بالشيء تنشأ في قلبه قوة من الإيمان، تجعله يعبد الله سبحانه ولا يشرك به، ويوحده ويؤدي الحق الذي أمره الله عز وجل بأدائه.
والعبرة في خلق بهيمة الأنعام أن ينظر الإنسان إلى هذه البهائم، وكيف أنها لا تبين عن نفسها، فلا تنطق، كما أنها لا تمتلك عقولاً كعقولكم، فلكم في هذه البهيمة عبرة، إذ لو شاء الله لجعلكم أمثالها، وكيف أن هذه الأنعام تمشي على أربع أما أنت فتمشي على رجلين، ولو شاء الله سبحانه لعكس الأمر، ولكن جعل في الإنسان جمالاً في خلقه وانتصاباً في قامته، وجعل له عقلاً يفكر به، وقلباً يعي به، فكان محط أمره أن يتفكر ويعتبر ويتبصر، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].(47/2)
نعمة اللبن الخارج من بهيمة الأنعام
قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون:21]، ومن النعم التي لا بد أن يتفكر فيها الإنسان وهو يأكل ويشرب كل يوم خلق هذا الأكل والشراب وتيسيره له؛ إذ إن من أعظم النعم عليه هذه النعمة، ولذا يذكر الله عز وجل الإنسان بها فيقول سبحانه: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]، وفي هذه الآية ثلاث قراءات: قراءة الجمهور {نُسقِيكُمْ} [المؤمنون:21] والكلمة رباعية، أصلها أسقى، فهي (نسقي)، من الفعل الرباعي، وقراءة نافع وابن عامر وشعبة ويعقوب: (نَسقيكم) من الفعل الثلاثي سقى يسقي، وقراءة أبي جعفر {تسقِيكُمْ} [المؤمنون:21]، وهي كذلك من الفعل الثلاثي.
والنون في (نسقيكم) نون العظمة فهو الذي يفعل ذلك ولو شاء ما فعل سبحانه، وليس بوسع أحد سواه القدرة على ذلك، والفعلان على القراءتين (أسقى) و (سقى) يتعديان إلى المفعول، ولهذا قال: {نسقِيكُمْ} [المؤمنون:21] أي: نجعلكم تشربون مما في ضروعها من ألبانها، والمعنى واحد: أن الله عز وجل سقاك وأسقاك مما في بطون هذه البهيمة من الأنعام، من الإبل والبقر والغنم.
أما القراءة الأخيرة فهي بالتاء بدلاً عن النون {تسقِيكُمْ} [المؤمنون:21]، فأسند الفعل إليها، فهي تسقيكم، وإن كان الذي أسقاك حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أسند الفعل إليها كونها سبباً، فأنت تأخذ من ضروعها الألبان فتشربها.
قال الله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} [المؤمنون:21]، فهي من كثرتها لا تعد ولا تحصى ولكن من تعامل مع نعمة عرفها.
ولفظ بهيمة الأنعام يطلق على ثلاث: الإبل والبقر والغنم، وقد ذكر الله عز وجل أنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين، وهنا ثمانية أزواج أي: ذكوراً وإناثاً، فعد اثنين من الإبل الذكر والأنثى، واثنين من البقر الذكر والأنثى، والجواميس ملحقة بالأبقار، واثنين من الغنم الذكر والأنثى، والماعز ملحقة بها وإن كان نص عليها هنا في الآية.
فهذه كلها نشرب من ألبانها، ومن تقدير الله وفضله أن هذه الألبان كما توافق الإنسان توافق غيره وهي أفضل الطعام والشراب، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً أو شرب شراباً دعا ربه فحمده على ما أعطاه وسأله أن يرزقه خيراً من ذلك، ومن دعائه: (اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا خيراً منه)، إلا اللبن فكان يقول: (وزدنا منه، فإنه لا شيء يجزئ مثل اللبن)، إذ أن اللبن طعام وشراب للإنسان.(47/3)
تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)
قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] وهذه من منافع الإبل خاصة، فالمرء يركب وتحمله من مكان إلى مكان، ولولا أن الله عز وجل الخالق العظيم سخر هذا الحيوان للإنسان لما استطاع أن ينتفع به، ويذكر أن الإبل لم تكن منذ خلق آدم مسخرة للإنسان، وإنما كانت برية وحشية إلى أن مكن الله عز وجل الإنسان منها وسخرها له قبل ألفي عام من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بدء ذلك في قارة آسيا خصوصاً في جزيرة العرب، فهي منبع ومنشأ الإبل.
وقيل: كان ذلك الاستئناس في سنة ثمانمائة قبل الميلاد، وقيل: بل كان في النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، أي: قبل ميلاد المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بألف وخمسمائة عام، والله أعلم.
فبعد أن كانت الإبل شاردة وحشية جعلها الله عز وجل للإنسان مسخرة ذلولة، وفيها العديد من الصفات التي ينتفع بها الإنسان.
ومن فضل الله عز وجل على جزيرة العرب أن جعلها موطناً لهذه الإبل، فكانت سبباً في نهضة العرب، وحيث جاء أمر الله عز وجل بالجهاد والإعداد كانت الإبل هي الوسيلة التي ينتقل عليها العرب من مكان إلى مكان، بل في بعض الغزوات قد يشارك من لا خيل له، ولكنه يمتلك إبلاً ينقل عتاده وعدته، فكانت من أسباب الفتوح التي فتح الله عز وجل بها على المسلمين.
فقالوا: إنه كان من فضل الله عز وجل على هؤلاء أن استقروا في أماكنهم بأن سخر لهم هذه الإبل للاستقرار والانتقال من مكان إلى مكان.
وذكر علماء الاختصاص العديد من الفوائد التي تحصل للمرء من التغذية على ألبان الإبل ولحومها، ومعلوم أن الإبل تأكل من أعشاب الصحراء، وهي من الوفرة والكثرة بمكان، ولها عظيم النفع من الناحية الطبية، فحين تأكل الإبل من كل هذه الأشجار يكون لبنها مليئاً بعناصر هذه الأعشاب الصحراوية ومن ثم ينتفع بها الإنسان، فكان في ألبان الإبل منافع عظيمة جداً بسبب ما تأكله من أعشاب الصحراء.
وآيات الله في الإبل كثيرة ومتعددة، ففي خلقها قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17]، وفيما يخرج منها من منافع قال عنها وعن سائر الأنعام {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [المؤمنون:21] وفي تسخيرها بعد أن كانت متوحشة قال سبحانه: {سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] فلا يسع الإنسان إلا أن يحمد الله سبحانه على ما منحه فيها من النعم العظيمة.
كما أن من يتعود على أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها قال العلماء: فإنها تؤثر في أخلاقه، فيعتاد القدرة على حمل الأشياء الثقيلة، والصبر الطويل، كما أن أمعاء الذي يأكل من لحوم الإبل ويعتاد على شرب ألبانها تكون من أقوى الأمعاء، فلا يصيبها في الغالب نوع من الوهن، ولا الضعف، ولا الأمراض إلا في النادر.(47/4)
امتنان الله على عباده في خلق الأنعام
وقد ورد امتنان الله على عباده بخلق الأنعام لهم في آيات كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71] فالخلق خلق الله عز وجل، ثم ملكك أنت هذه الأنعام لتنظر بإمعان لنعمة الله عليك وتشكر ما تفضل به عليك سبحانه، قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]، والمتفكر في هذه النعم وعجائبها التي لا تنتهي يدرك عظيم قدرة الله تعالى، فهذا اللبن الذي يخرج من بهية الأنعام كان طعاماً تأكله، وبعد أن دخل معدتها وتحول للأمعاء، وهو شيء من الطعام الذي تفرز عليه عصارات الجسد، ومن ثم يستخلص منه القدر الكافي ويدخل الأمعاء الغليظة، ثم يقوم الدم في هذه الحالة بأخذ الشيء الخالص منه ليتحول إلى لبن، فبعد أن كان بين الفرث والدم إذا بالله عز وجل يخرج هذا اللبن ليسكب في الضرع، كما أنه لو أخذ في هذه الحالة لكان طعمه رديئاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل غدداً معينة تفرز عليه مسوغات الطعم.
قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66]، والترتيب في الآية ترتيب مقصود، فهذا اللبن الخالص قد استخلص من بين الفرث الذي في معدة البهيمة وبين الدم.
وقوله تعالى: {سَائِغًا} [النحل:66] فيه أن عملية التسويغ لهذا اللبن في نهاية العمليات، فبعد أن دخل في الضرع وصار لبناً خالصاً جاءت عليه مسوغات الطعم فصار على الطعم الذي يشربه الإنسان ويستسيغه، وهذه من عجيب آيات الله عز وجل في خلقه.(47/5)
من عجائب خلق الله في الإبل
ذكرت مجلة من المجلات العلمية موضوعاً بعنوان سبعون معجزة في خلق الإبل، وهذا مما اكتشفوه ومكنهم الله من معرفته من صفاتها وأخلاقها وغير ذلك.
يقولون: من الصفات التي ساعدت على تأقلم الإبل على العيش في الصحراء خلافاً لغيرها من الدواب: أولاً: أرجلها طويلة مستديرة تساعد على السير بخطوات واسعة، فهي في الصحراء تجري سريعاً وتمشي مشية سريعة، وفيها جمالن كما ذكر لنا الله عز وجل حيث قال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل:6] مع أن كل الحيوانات ذات الأربع عند السير تسير بيد ورجل معاً، فتسير على اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، والعكس كأن تسير على اليد اليسرى مع الرجل اليمنى، إلا الإبل، فتسير على اليد اليمنى والرجل اليمنى معاً واليد اليسرى والرجل اليسرى معاً، فكانت هي الوحيدة في بهيمة الأنعام التي تتحرك بهذا الشكل، ويرى الناظر في تمايلها جمالاً أخاذاً.
ولذلك كان يصيب أصحاب الإبل شيء من الغرور، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السكينة في أصحاب الغنم، والكبر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل)، وذلك مما يشاهدونه من جمال الإبل، وإذا اعتلوا ظهورها رأوا أنفسهم فوق الناس، كما أن أثمانها غالية، ولذلك كله قد يدفع صاحبها إلى الغرور إلا من عصمه الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: طول رقبة الإبل، ووضع الرأس عليها يساعد على اتزان الجسم في السير عند حمل الأثقال، وقد يصل وزن ما يحمله الجمل على ظهره أكثر من مائة وخمسين كيلو.
ثالثاً: أن وزن رجليها الأمامية والجزء من الصدر الأمامي أثقل من الخلف، بعكس غيرها من البقر والغنم، فإن مؤخرتها أثقل من المقدمة، وقيل: إن خمسة وستين في المائة من وزن الجمل في الأعضاء الأمامية منه، وهو عميق وضيق ويعطي قوة ارتكاز على الأرض إذا وقفت أو نزلت من منحدر كما يعينها إذا قامت.
رابعاً: خلق للإبل خف مفلطح كبير ولين؛ ليساعدها على أن تمشي في الرمال فترات طويلة، وما استحدثه الأمريكان اليوم من سيارات تمشي في الرمال المتحركة في الصحراء ما هو إلا محاكاة لخف الجمل، فأخذوا من مواصفات أخفاف الإبل، وسعها ولينها وما فيها من الوسائد الهوائية التي تساعد على حملها وتساعد على أن تمشي في الرمال من غير أن تتزحلق.
كما أن الحلف اللين يساعد الجمل على عدم الإضرار بالنباتات الموجودة في الصحراء، فهي لا تتضرر من مشي الإبل مع أنها ثقيلة الوزن.
خامساً: خلق الله عز وجل في الإبل وسائد من الجلد أسفل صدرها وعلى الركب وعلى الأرجل تساعد الإبل على الجلوس وعلى تحمل السير على الرمال الملتهبة، بل قد لا يقدر الإنسان أن يضع يده أو رجله عليها ومع ذلك تجد الإبل تبرك فوقها من غير أن تتأذى من شدة الحرارة التي فيها، فهي تعمل كعازل حراري لما فوقها.
سادساً: طبيعة الجلود لدى الإبل ووجود الوبر عليها يساعد على عزل ما داخل الجسد عن خارجه من طبقات الجو من الحرارة الشديدة.
سابعاً: خلق الله عز وجل للجمل سناماً مليئاً بالمواد الدهنية، وفائدة هذه المواد الدهنية أنها إذا عطش الجمل سرعان ما تتحول إلى ماء، فيشرب منه الجمل، ويظل فترة طويلة معتمداً على هذا المخزون من الدهون التي تتحول إلى ماء في وقت الحر الشديد، فيستعين بها على شدة الحر وعلى العطش الشديد.
ثامناً: من خصائص التركيبة التي خلقها الله عز وجل فيها: أن الجفن العلوي في عينها ثابت لا يتحرك بخلاف غيرها من الحيوانات، من أجل أن يدفع الرمال عن عينيها، قالوا: بينما الجفن الأسفل هو الذي يتحرك.
تاسعاً: يستطيع الجمل النظر في الصحراء مع شدة العواصف الرملية فيها.
عاشراً: خلق الله عز وجل في الإبل القدرة على تحمل الحرارة وعدم فقد الماء، فالجمل لا يعرق إلا عند درجة واحد وأربعين درجة مئوية، وهي درجة قد يموت الإنسان فيها، وبذلك يظل الماء محبوساً في جسمه، كما أن بعر الجمل يكون جافاً خالياً من الماء من أجل أن يحافظ على الماء الموجود في الجسد.
الحادي عشر: يقل بول الجمل عند العطش والحر من أجل أن يتمكن من الاحتفاظ بالماء الموجود في جسده، كما أنه إذا فقد كمية من الماء في فترة طويلة يستطيع أن يعوضها سريعاً، فيمكنه أن يشرب خلال مرة واحدة أو مرتين من مائة وأربعة لتراً إلى مائة وتسعين لتراً، وهذا يجعله قادراً على أن يظل شهراً في الصحراء مع شدة الحر والعطش.
كما أن في خلق الإبل الكثير من الحكم ذكرها الله عز وجل لنا، والمراقبون من العلماء يكتشفون كل يوم أشياء جديدة، وإنما أصبحوا علماء باكتشافهم هذه الخصائص، ونالوا تكريماً وتبجيلاً بين الناس بسبب تلك الاكتشافات، ومع ذلك لا يعظمون الذي خلق تلك الخصائص سبحانه وتعالى.(47/6)
تفسير سورة المؤمنون (تابع) [21 - 22]
يمتن الله عز وجل على عباده في كتابه الكريم بأنه سخر لهم ما في السماوات والأرض، وبسط عليهم نعمه، وسخر الأنعام فمنها ما يأكلون ويشربون من ألبانها، ومنها ما يركبون وينتفعون بها، ولكن العباد كلما أسبغ الله عليهم النعم كفروا وأشركوا به سبحانه، وصرفوا العبادة لغير الله، وهذا من كفران النعم والعياذ بالله.(48/1)
امتنان الله تعالى على عباده بأن خلق لهم بهيمة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:21 - 22].
ذكرنا في الحديث السابق أن الله سبحانه وتعالى منَّ على عباده بأن خلق لهم من الأنعام بهيمة وجعل من هذه البهائم للإنسان منافع كثيرة، وذكر هنا في هذه السورة بعضاً منها، فقال: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:21 - 22] فالإنسان يشرب من ألبانها، ولكم فيها منافع كثيرة من أجلها: أنكم تأكلون منها، وأيضاً تركبون عليها وتحملون أثقالكم.
فذكر بهيمة الأنعام، ثم قال بعدها سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23] فيذكر بنعم الله عز وجل على عباده، ثم يذكرهم بالتوحيد الذي هو دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والعبد إذا تذكر نعمة الله سبحانه، وأن الله هو الذي خلق ورزق، وهدى، وأعطى، وأن الله هو الذي ينزل من فضله على من يشاء من عباده، فيلزم العبد أن يعبد هذا الإله الواحد القادر سبحانه وتعالى.(48/2)
ذكر بهيمة الأنعام في سورة النساء
فيذكر هذا الفضل في هذه السورة وفي غيرها، فيذكر في سورة النساء: أن الشيطان يريد أن يضل الإنسان، فيقول الله سبحانه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء:117 - 118] الشيطان هذا الملعون هو الذي قال لربه سبحانه: إن لي نصيباً من عبادك، فقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119]، فالأنعام التي خلقها الله عز وجل كاملة يأتي الشيطان للإنسان ويوسوس له بأن يقطع آذان الأنعام ويشقها، لأجل أن يسيبها ويجعلها سائبة للشيطان، ويقول: إنها صحت من المرض، فإذا به يتركها للأوثان.
فالله هو الذي خلق ورزق، وإذا بالإنسان يوجه هذه النعمة لغير الله سبحانه وتعالى، فكأن ربنا سبحانه يؤكد المعنى أنه الخالق وحده سبحانه، فالخالق هو الذي يستحق أن يعبد وليس غيره، والشيطان هذا اللعين هو الذي يجعل الإنسان يوجه هذه النعم وهذه العبادات التي يفترض عليه أن يوجهها إلى الله عز وجل إلى غير الله سبحانه، فيشق آذان الأنعام، ويغير خلق الله بأمر الشيطان له فيطيعه، يقول الله سبحانه: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء:119].(48/3)
ذكر بهيمة الأنعام في سورة المائدة
ويذكر لنا بهيمة الأنعام في سورة المائدة فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة:1] فبهيمة الأنعام خلقها الله لكم لمنافعكم، لطعامكم وشرابكم، ولم يحرم الله عز وجل عليكم إلا ما فيه مفسدة لكم، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] فهذه أشياء حرمها الله لمفاسد فيها، منها: أنها ميتة، وأنها ذبحت لغير الله سبحانه وتعالى، فيذبحونها على غير اسم الله سبحانه، فأحل لنا بهيمة الأنعام، وجاء الشيطان يحرم على الإنسان أشياء أحلها الله عز وجل لهم.(48/4)
ذكر بهيمة الأنعام في سورة الأنعام
وذكر في سورة الأنعام بهيمة الأنعام، فقال سبحانه عن هؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] فبهيمة الأنعام التي خلقها الله عز وجل لنفعكم، ولطعامكم وشرابكم إذا بهم يجعلون نصيباً منها لله ونصيباً لغير الله.
فهذا من العجب أن الإنسان يعلم أن الذي خلق الأنعام هو الله ومع ذلك يعبد غير الله، وأن الذي رزق هو الله ومع ذلك يجعل نصيباً لله من بهيمة الأنعام، ونصيباً آخر لأوثانه وأصنامه.
ومن العجب ما يذكره الله عز وجل هنا في سورة الأنعام حيث يقول: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136] يعني: انظر إلى هذا التوزيع وهذه القسمة عند هؤلاء! فتصدقوا بجزء منها لله وبجزء منها للأوثان، فما كان لله جعلوه لأوثانهم، وما كان لأوثانهم قالوا: ربنا غني عنه، لا يحتاج إلى هذا الشيء، فإذا بعبادتهم كلها توجهت إلى الأوثان وليست لله سبحانه وتعالى، فأشركوا وهم يعلمون أن الله هو الغني عنهم وعن عبادتهم.
يقول الله سبحانه: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:138] بهيمة الأنعام خلقها الله عز وجل رزقاً لعباده، فإذا بالعباد يتحكمون ويقولون: هذه أنعام وحرث حجر محجورة لا يأكلها أحد من النساء، فهي للرجال وليست للنساء، وهذه ممنوعة على الجميع وتترك سائبة لنحو مرض وغيره، فقالوا: ((هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ)) فهم الذين يحللون ويحرمون من دون الله سبحانه وتعالى.
{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام:138]، فيكون أحدهم مريضاً، فإذا شفي يجعل هذه الناقة أو هذه البقرة سائبة بين الناس لا ينتفع بها أحد، وما المنفعة التي جرها من وراء ذلك؟ لا شيء، من الذي دعاه إلى ذلك؟ ليس الله سبحانه وتعالى، وإنما هو الشيطان يضحك على الإنسان ويخدعه، فيجعله يخرج ماله للاشيء بل للإثم عياذاً بالله.
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:139]، فهذه الأنعام الذي يخرج من بطنها خالص للذكور ومحرم على النساء لا يأكلن منها، وإذا نزلت من البطن ميتة فيأكل منها الرجال والنساء، {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:139] سيجزيهم الله عز وجل على هذا الوصف الذي وصفوه، وعلى هذا التشريع الذي شرعوه من دون الله عز وجل، إنه حكيم عليم.
وذكر الأنعام أيضاً في سورة الأنعام فقال: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام:142]، فمنها ما تحملون عليه أمتعتكم، وتركبون فوقها كالإبل، ومنها ما تأكلون منها، قال سبحانه: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142] تتخذون من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها ما تلبسونه، فهذه نعم من الله عز وجل، وأخبر سبحانه أنه أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج، وهي ما فصلناها قبل ذلك: من الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الغنم اثنين، ومن الماعز اثنين.(48/5)
ذكر بهيمة الأنعام في سورة النحل
كذلك ذكر الله لنا في سورة النحل بهيمة الأنعام فقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:5 - 6] فيعدد النعم سبحانه وتعالى في هذه السور حتى يعرف الإنسان فضله وقدرته؛ فيقوم بعبادة ربه ولا يشرك به شيئاً، {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل:5] تستدفئون بها {وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ َ} [النحل:5 - 6] تتجملون، وهي من أنفس أموال الناس {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] جمال في وقت راحتها، وجمال في وقت مسرحها وخروجها لرعيها، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] ولو شاء الله عز وجل لما مكنكم منها، ولا أعطاكم من العقول ما تفكرون بها كيف تركبون هذه البهيمة، وجعلكم تمشون على أقدامكم كما تمشي سائر الأنعام، قال سبحانه: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] سبحانه تبارك وتعالى.
ويقول تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] وقد ذكرنا هذه الآية سابقاً، كيف أن الله امتن على عباده بأن أخرج لهم هذا اللبن الخالص من بطون هذه الأنعام، ألبان يشربونها فيها طعام للإنسان وشفاء أيضاً.(48/6)
من فوائد اللبن
روى أبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب، فقال: إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه، وأطعمنا خيراً منه، وإذا سقي لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه) وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه ليس يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن)، فاللبن يقوم مقام الطعام والشراب، فهذا هو السائل الوحيد الذي يقوم مقام الاثنين طعاماً وشراباً، وقد ثبت عند علماء التغذية أن اللبن أكمل الأغذية من الناحية البيولوجية، رغم أنه قد ينقصه قليل من بعض العناصر الغذائية مثل فيتامين (س) وفيتامين (ج) ومثل الحديد، فقد ينقصه شيء قليل من هذا، ولكن باقي القيمة الغذائية عالية فيه، فهو طعام وشراب للإنسان.
قال العلماء: اللبن يمد جسم الإنسان في جميع مراحل حياته بالبروتينات والكربوهيدرات والسكريات والدهون والمعادن والفيتامينات، فهو مليء من كل شيء بفضل الله عز وجل ورحمته، وقد خرج من بين فرث ودم لبناً خالصاً، فالدم نجاسة والفرث قد يكون نجاسة، وهنا خرج من بين الاثنين هذا الشيء الطاهر العظيم، وهو اللبن الخالص الذي يشربه الإنسان ويستسيغه.
يقول علماء التغذية أيضاً: يعتبر الحليب أعظم غذاء متكامل وجد على سطح الأرض، حيث إنه صمم ليكون غذاءً لكل مولود من الحيوانات: البقر والماعز والغنم، وكذلك الإنسان عندما يولد له الطفل الصغير، وكذلك صغار هذه الأشياء، فطعامها الأساسي لفترة طويلة هو اللبن، فقالوا: عناصر اللبن الغذائية جاهزة للهضم ولا يضيع منها أثناء الامتصاص في الأمعاء إلا النزر اليسير، فهي عناصر كاملة وسهلة، فلا يوجد شيء منها يضيع ويخرج برازاً أو بولاً إلا شيء يسير جداً، والباقي كله يستفيد منه جسم الإنسان.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بألبان البقر؛ فإنها ترم من كل الشجر، وهو شفاء) فهذه فائدة كبيرة جداً.
وقد نشرت مجلة (لانست) في سنة ألف وتسعمائة وخمس وثمانين دراسة قام بها دكتور مكث مدة عشرين سنة يدرس في فوائد اللبن، عشرون سنة يعمل بحوثات على ألفي شخص يشربون اللبن، وهذه فترة دراسة طويلة جداً، قال: فوجد أن أولئك الذين كانوا يشربون كأسين ونصفاً من اللبن يومياً أقل عرضة لسرطان القولون، وأولئك الذين لا يتناولونه يصابون بسرطان القولون، فهذه نسبة عالية في هؤلاء الذين يواظبون على ذلك بهذا القدر أو دونه، والله سبحانه وتعالى لا يجعل فيه هذا الداء.
فكانت نصيحة هذا الدكتور -واسمه يارلن - أن يشرب الناس يومياً ما بين كوبين إلى ثلاثة أكواب من اللبن، ولعل كثيراً من الظروف الاقتصادية للناس لا تسمح، ولكن على الإنسان أن يشرب اللبن ولا يتركه بقدر ما يستطيع من ذلك.
وهنا دراسة ثانية أعدت في اليابان تشير إلى أن تناول اللبن يقلل من الإصابة بسرطان المعدة، وقالوا: إن كثيراً من التهابات المعدة والأمعاء في الأطفال يكون سببها عدم شرب اللبن العظيم الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وهناك فوائد كثيرة جداً، ولكن هذا شيء من ضمن الأبحاث التي أجراها بعض الناس على ذلك.
قال الله عز وجل في هذه السورة: {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون:21] وفي قراءة (تسقيكم مما في بطونها) كما قدمنا.(48/7)
تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)
ثم قال تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22]، وقال في آية أخرى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] والإنسان يركب الإبل منها خاصة دون غيرها.
والغرض: بيان أن بهيمة الأنعام التي خلقها الله عز وجل لعباده جعل لهم فيها الطعام والشراب، وأمرهم أن يشكروا هذه النعمة وأن يعبدوا الله، وحذر بعدها من الشرك بالله سبحانه وتعالى، ومن أن توجه هذه النعم لغير الله سبحانه.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحة يحيى بن زكريا عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام لبني إسرائيل في النصيحة التي أمره الله عز وجل أن يقوم فيها: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وضرب لهم مثلاً في ذلك: فمثل الذي يشرك بالله كمثل رجل بنى بيتاً وجعل حانوتاً للعمل، واشترى أجيراً أو اشترى عبداً وقال: هذا بيتي، وهذا عملي تعمل هنا وتضع المال هنا، فيكون هذا العبد ملكاً لهذا السيد الذي بنى البيت والمحل وقال له: اشتغل في المحل والذي يأتي لك من هذا المال فاجعله في هذا البيت، فإذا بالعبد يعمل في محل هذا الرجل، ويعطي المال لغير سيده، أيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ لا أحد يرضى بذلك، فإذا كان الإنسان لا يرضى لنفسه فكيف يرضى به لله سبحانه وتعالى؟! فهذا مثل الذي يشرك بالله.
فالله خلق لهم بهيمة الأنعام لينتفعوا بها، وأمرهم أن يشكروه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {أَفَلا يَشْكُرُونَ * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:73 - 74] اتخذوا أنداداً من دون الله عز وجل لعلها تنصرهم، ونسوا أن الذي خلقهم ورزقهم هو الذي يقدر على هدايتهم ونصرهم، فالآيات فيها الدعوة إلى توحيد الله سبحانه، بأن تعرف أنه وحده هو الخالق، وهو وحده الذي يعبد لا شريك له.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/8)
تفسير سورة المؤمنون [23 - 30]
يخبر الله تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله، فلما لم يستجب منهم إلا القليل بعد طول المدة التي ظل يدعوهم فيها دعا ربه أن ينصره على قومه، فأمره سبحانه بصنع السفينة وإحكامها وإتقانها، وأن يحمل فيها المؤمنين ومن كل زوجين اثنين، أي: ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك، فأنجاه الله ومن معه عليها، وأهلك الكافرين.(49/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه)
الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:23]، لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمه وآلاءه على عباده، أو بعضاً منها، ممتناً بها على عباده حتى يعبدوه وحده، ويشكروه على نعمه وعلى ما أعطاهم سبحانه، ذكر قصة نوح باختصار في هذه الآيات.
وقد ختم الآيات السابقة بقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [المؤمنون:21]، وقد ذكرنا بعضاً من المنافع فيها.
ثم قال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22]، أي: على بعض بهيمة الأنعام، وهي الإبل.
وهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عباده، أن ذكر لهم بعضاً من نعمه في طعامهم وشرابهم وملبسهم وركوبهم، فيركبون على الإبل، ويركبون الفلك، ((وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ)) والفلك هي السفن الجارية في البحر.
والإنسان يعرف قدر هذه النعمة حين يركب السفينة، وتسير به من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد، تحمل متاعه وتجارته، ويتعرف على أناس لم يكن يعرفهم، ويبيع ويشتري ويرزقه الله سبحانه وتعالى.
وهنا مناسب جداً أن ذكر نوحاً بعد ذكر السفينة؛ لأن الفلك -أي: السفينة- كانت سبباً في إنقاذ البشرية جميعها، فالإنسان ما زال موجوداً بسبب هذه السفينة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر الأقدار، وهو الذي يسبب الأسباب، فأمر نوحاً أن يصنع سفينة، فهنا كأنك إذا ركبت سفينة تذكرت أول سفينة صنعت، فنوح لما صنع السفينة بأمر الله حمله الله عز وجل عليها ومن معه من المؤمنين، فكنتم أنتم من ذرية هؤلاء، ووجودكم مرتبط بأول سفينة وجدت، فهذه نعمة من نعم الله عز وجل على عباده يذكرهم بها.
والقرآن جميل وعظيم، والآيات متناسقة ومتناسبة بعضها مع بعض، فهنا ذكر نوحاً وهو أول الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من بعد آدم، وذكر هنا أن الفلك تحملون عليها، وذكر نوحاً حتى تذكر أن أول سفينة صنعها نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف أن الله سبحانه نجى المؤمنين فيها، فكانت نعمة من نعم الله سبحانه على عباده.
وهنا لاحظ قوله: ((تُحْمَلُونَ)) فالذي يحملك ويوفر لك ذلك وسير هذه السفينة هو الله سبحانه وتعالى، فأنت تحمل عليها، ولكن قد تركب وتغرق بهذه السفينة، فالله عز وجل هو الذي حملك على السفينة وعلى الماء، وجعلك تسافر من مكان إلى مكان ببركة رب العالمين وقوته وفضله.
قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ))، فنوح النبي الرسول عليه الصلاة والسلام هو أحد أولي العزم من الرسل، دعا قومه فترة طويلة، وقد عرفنا ما ذكره الله عز وجل في القرآن من أنه دعا قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً.
قال تعالى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ))، داعياً قومه لعبادة الله عز وجل: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، فدعوة الأنبياء والمرسلين كلهم: لا إله إلا الله، الدعوة إلى الإسلام، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71]، قال هذا بعدما أتعبوه، دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى جيلاً بعد جيل، وقوماً وراء قوم، أفراداً وجماعات، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فلم يستجيبوا له، وفي النهاية قال: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [يونس:71 - 72] أي: لم تستطيعوا أن تفعلوا ذلك: {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].
فهذه دعوة النبي نوح عليه الصلاة والسلام أنه دعا إلى الإسلام، وكذلك الأنبياء من بعده، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84] والحواريون أتباع المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام قالوا لربهم: {وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111]، فهذه هي دعوة نوح ودعوة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهذا يعقوب: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] أي: هذه دعوة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، فهؤلاء قالوا: نحن لله عز وجل مسلمون، فدين الإسلام هو دين الله عز وجل، فقول الأنبياء لأقوامهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ))، هذه هي كلمة التوحيد، وكلمة التوحيد هي لا إله إلا الله، وهي نفسها: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)).
فكلمة التوحيد فيها النفي وفيها الإثبات: (لا إله) أي: أنفي صفة الألوهية عن أي أحد إلا الله سبحانه وتعالى، فهنا أثبت الألوهية لله سبحانه وتعالى.
فنوح قال لقومه: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) قوله: ((غَيْرُهُ)) بالضم على الوصف، فيكون المعنى: ما لكم إله غيره، كأن أصلها هكذا من أله فهو إله، فرفعت هنا على المحل نفسه.
والقراءة الأخرى: (ما لكم من إله غَيرِهِ)، فهنا جرت على اللفظة نفسها، وهذه قراءة أبي والكسائي وأبو جعفر.
وقوله تعالى: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أصلها أفلا تتقونه، أي: أفلا تتقون الله سبحانه وتعالى؟! أي: هل أطعتم الله ولم تعصوه سبحانه وتعالى؟!(49/2)
تفسير قوله تعالى: (فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم فتربصوا به حتى حين)
قال الله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] نوح عليه السلام كان في كل جيل خلال ألف سنة تقريباً يدعو قومه إلى الله عز وجل، ولكن كثيراً منهم كذبون، قال تعالى: ((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) والملأ: هم كبار القوم؛ لأنهم يمتلئ بهم المكان، وهم الكبراء من الأقوام الذين يملئون العين بالنظر إليهم، ويملئون قلوب من حولهم مهابة وخوفاً منهم، ولذلك عندما يذكر الله عز وجل فرعون فإنه يذكر هؤلاء المتكبرين وهم الملأ من قومه وكبارهم.
((فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ)) أي: من قوم نوح، ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ)) هذه دائماً حجة الجاهل الذي لا حجة معه، يسمع الكلام ويسمع البينات والحجج ولا يستطيع أن يرد، وإنما يقول: هذا يريد أن يأخذ مني الرئاسة، هذا يريد أن يأخذ مني الكرسي، هؤلاء يريدون أن يجعلوا أنفسهم هم الكبار ويبعدون الكبار الموجودين، وهذا يريد أن يجعل نفسه أفضل منكم، ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) هذه هي الكلمة التي قالوها للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، لماذا أنت الذي نزل عليك القرآن؟ لماذا لم ينزل على أحد غيرك؟ وهنا يقولون: لولا أنزل الله ملائكة من السماء، نريد أن نرى ذلك، فهؤلاء قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ما سمعنا بمثل ما جاء به هذا في آبائنا الأولين.
فحجج الكفار في كل العصور والأزمان أنهم يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: ستظل كما كان آباؤنا، وهنا قالوا: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، ولم يفكروا فيما يقولونه: ماذا ستعمل الملائكة ماذا لو نزلت؟ هل ستطيق أن تنظر للملك؟ هل تستطيع أن تسمع للملك؟ هل ستطيق أن تعصي هذا الملك إذا جاء؟ وأنت تعرف قوته وتعرف أنه يقدر عليك وعلى من في الأرض بتقدير الله عز وجل له، فهنا الملك إذا جاء لن تكون دعوة، وسيكون قهراً وإجباراً، فهنا هؤلاء لم يفكروا فيما يقولون، أنه لو نزل ملك من الملائكة، ومن أجل أن يكون هناك اختبار للناس، فسينزل في صورة البشر، ولو جعله الله على هيئة البشر فهو تحصيل حاصل، وهذا الرسول الموجود من البشر، وهذا أفضل من أن يرسل ملكاً إلى أهل الأرض.
قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:25] يقولون عن نبيهم كذباً وزوراً: إنه مجنون، وكذا قالوا عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] ازدجروه وطردوه، ولم يريدوا أن يسمعوا منه صلى الله عليه وسلم، وليس هو أول من قيل عنه: إنه مجنون، فقد قيل عن أنبياء من قبله عليه الصلاة والسلام ذلك.
قالوا: ((فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)) أي: أغرى بعضهم بعضاً وقالوا: اتركوه إلى أن يموت لوحده وانتظروا حتى تأتي عليه السنون ويأتي عليه الكبر ويأتي عليه الموت.(49/3)
تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون)
فدعا نوح لربه: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:26]، هذا في النهاية، وفصل الله عز وجل ذلك في سورة هود تفصيلاً عظيماً، وفصله في غير ما موضع من القرآن، ولكن من أطول ما جاء في قصة نوح وقومه في سورة هود، وكذلك في سورة يونس، وفي سورة نوح، ففي سورة نوح عليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7].
لما تدعو أنساناً على الأقل يسمع ما الذي تقوله، ولكن هؤلاء كانت قلوبهم مغلفة بالكفر، وكانت مظلمة، فلم يستمعوا إلى نبيهم، بل وضعوا أصابعهم في آذانهم، وليس أناملهم، بل كانوا يضعون أصابعهم كلها، حتى لا يسمعوا كلمة يقولها نوح عليه الصلاة والسلام: ((وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ)) فلم يغمضوا أعينهم فحسب، بل إنهم كانوا يضعون ثيابهم على وجوههم حتى لا يروا نوحاً عليه الصلاة والسلام: ((وَأَصَرُّوا))، مستكبرين، (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)) عظيماً.
ثم قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح:8] أي: أمامهم وهم مجتمعون مع بعضهم، {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح:9]، فلم ينفع السر ولم تنفع العلانية مع هؤلاء، ولم يدعهم يوماً أو ليلة أو سنة أو سنتين، بل ظل يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية دعا ربه سبحانه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، متى دعا هذه الدعوة؟ لما أخبره الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فيا ترى كم الذي آمن من قبل؟ {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أي: أعداد قليلة، وهم الذين استوعبتهم السفينة التي صنعها نوح عليه الصلاة والسلام، فما آمن معه خلال هذه القرون وخلال هذه الدهور إلا القليلون.
فهنا يقول الله سبحانه وتعالى أن نوحاً دعا ربه: ((قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ))، دعا دعاء الإنسان المغلوب، ولذلك قال الله في الآية الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] أي: غلبوني فلست قادراً على أن أدعوهم، فالله عز وجل أخبره أنه لن يؤمن أحد بعد ذلك، فلما علم أنه لا يوجد إيمان من هؤلاء دعا عليهم وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:26 - 27]، كيف عرف أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً؟ بإخبار الله عز وجل له أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، حينها دعا عليهم وقال: ((رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)) أي: لا تذر أحداً على الأرض من الكافرين: ((إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)).(49/4)
تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا)
قال الله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون:27]، هذه هي الفلك التي ذكرها قبل هذه الآية: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22] أي: فحملكم الله عز وجل على هذه السفينة، وسخر الماء لحمل السفينة، وسخر الرياح لإجراء السفينة، وسخر سبحانه وتعالى البر لترسو عليه هذه السفينة، فالنعمة منه سبحانه وتعالى وحده.
قال تعالى: ((أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)) ويا ترى كم حجم هذه السفينة؟ معلوم أن سفينة سيكون فيها مجموعة من البشر ومجموعة من الدواب من كل زوجين اثنين لابد أن تكون سفينة كبيرة، وكون إنسان واحد يصنع هذه السفينة هذا من فضل الله عز وجل، وإلا ما كان لنوح ولا غيره أن يقدر على أن يصنع هذه السفينة، ولكن الله علمه كيف يصنع هذه السفينة، فإذا به يأتي بالأخشاب ويجعلها في البر، ويمر به قومه وهو يصنع هذه السفينة، فيقولون: ماذا تصنع يا نوح؟ فيقول: أصنع سفينة، فيسخرون منه ويستهزئون به كيف يصنع سفينة في البر؟ قال تعالى: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:38 - 39].
إذاً: لم يستجيبوا لدعوته، بل وهو يصنع السفينة لم يتركوه في حاله، بل كلما مروا عليه في ذهابهم وإيابهم سخروا منه قال الله عز وجل: ((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)) ونحن نراك وندلك ونرشدك ونقويك، فالله هو الذي علمه وأوحى إليه أن يصنع السفينة، قال الله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر:13]، أي: اصنع من الخشب الألواح واجعل اللوح جنب اللوح، وثبتها بالمسامير وهي الدسر.
وقوله: (بأعيننا) أي: برعايتنا، فهو يراه سبحانه وتعالى ويراعيه في ذلك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) أي: سنجعل لك علامة حتى تركب في هذه السفينة، وهذه العلامة هي هذا الفرن الموجود، فإذا خرج منه ماء بدل النار فاركب السفينة أنت ومن معك، قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)) أي: أخرج التنور ماء بدلاً من النار، ((فَاسْلُكْ فِيهَا)) أي: أدخل فيها، تقول: سلكت الخيط في ثقب الخرز، أي: أدخلته، فهنا قال: ((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)) ((مِنْ كُلٍّ)) وكأن التنوين هنا للتنكير، أي: اسلك من كل شيء زوجين، وهذه قراءة حفص عن عاصم فقط، أما بقية القراء فيقرءونها: ((مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)) على الإضافة، والمعنى: أركب فيها من كل دابة من الدواب ذكراًَ وأنثى، حتى تدوم الحياة بعد ذلك.
فهذه منة من الله عز وجل في نجاة الخلق ووجود هذه الذريات، إذ حملهم في السفينة.
ثم قال: ((وَأَهْلَكَ)) أي: واحمل أهلك معك، لكن الذين سبق عليهم القول أنهم لا يؤمنون مثل زوجة نوح ومثل ابن نوح فهؤلاء لا يركبون فيها، قال تعالى: ((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ)) أي: إلا من سبق عليهم قضاء الله وقدره أنهم لا يؤمنون فلا يركبون معك في السفينة.
ثم قال: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: لا تخاطبني بعد أن تركب في السفينة في شأن الظالمين، فالإنسان قد يرى عدوه أمامه فيدعو ربه عليه: يا رب خذه يا رب أهلكه، وعندما ينزل عليه العذاب إذا به يرحمه ويدعو له، فهنا كأن الله سبحانه وتعالى يقول لنوح: أنا معذب هؤلاء، فإذا نزل العذاب فلا ترحمهم، ولا تدع لهم بالرحمة؛ لأننا لن نستجيب لك في ذلك، فقال سبحانه: ((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) أي: سنغرق هؤلاء الظلمة، فلا ترحمهم، ولا تكلمني فيهم.
فسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام فعل هذا الشيء إلا مع ابنه، فإنه سأل ربه وقال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، فكان
الجواب
{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].(49/5)
تفسير قوله تعالى: (فإذا استويت أنت ومن معك وإن كنا لمبتلين)
قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:28] أي: حين تستوي أنت ومن معك داخل السفينة فاذكر ربك سبحانه، واحمده على أن نجاك، ولو شاء لنزل العذاب وأهلك الجميع، {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} [المؤمنون:29] أي: حين تركب سترى الأهوال التي تأتي على الأرض، فادع ربك أن ترسو السفينة بعد ذلك في منزل مبارك، فقوله: ((أَنزِلْنِي)) أي: إنزالاً مباركاً، و (إنزالاً) مصدر، ((مُبَارَكًا)) أي: فيه البركة وفيه الخير لي ولمن معي، وقوله: ((وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: أنت الذي نجيتني بإركابي السفينة، وأنت الذي تنجيني وتنزلني منزلاً مباركاً من فضلك ومن كرمك.
ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون:30]، أي: إن في نجاة المؤمنين بأن أنجاهم الله عز وجل، وفي إهلاك الكافرين بأن أغرقهم الله سبحانه وتعالى لآيات، ((وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) العباد في كل زمان، فما خلقوا إلا للابتلاء والامتحان، يبتلي بعضهم ببعض، وخلقوا لعبادته وحده لا شريك له.
نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/6)
تفسير سورة المؤمنون [31 - 41]
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين، وهم قوم عاد، فأرسل فيهم رسولاً منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وخالفوه، وأبوا أن يتبعوه؛ لكونه بشراً مثلهم، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري، وكذبوا بلقاء الله يوم القيامة وأنكروا المعاد الجثماني، فاستحقوا بسبب كفرهم وطغيانهم أن أرسل الله عليهم صيحة مع ريح صرصر عاصف قوي، تدمر كل شيء بأمر ربها.(50/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [المؤمنون:31].
هذه قصة أخرى يذكرها الله سبحانه وتعالى في سورة المؤمنون، بعدما ذكر قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكيف دعا إلى ربه سبحانه، فلما كذبه قومه أهلكهم الله وجعلهم عبرة، وأنجى نوحاً ومن معه من المؤمنين كما تقدم.
فأول من نزل بهم العذاب العظيم الشديد العام هم قوم نوح، فالمفترض فيمن جاءوا من بعدهم أن يتعظوا، ويعلموا أن الله سبحانه قد أهلك قوم نوح، وقد أغرق الأرض ومن عليها، وهؤلاء القوم الذين جاءوا من بعد نوح هم من ذرية نوح ومن ذرية القوم المؤمنين الذين كانوا مع نوح، فكان المفترض في أمرهم أن يتبعوا ما كان عليه آباؤهم المؤمنون، وما كان عليه نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولكن عادة الإنسان النسيان، كلما جد عليه زمان نسي ما كان في الماضي، وتجده ينظر إلى الآن وما الذي يفعله، فهو يريد طعامه وشرابه ومتعته ولهوه، ويتناسى ما كان عليه السابقون من معاص، وما أصابهم من شؤم معصيتهم.
فقال الله سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ))، والقرن: الأمة من الناس، والقرن عدد من السنين، قالوا: أربعون سنة، وقالوا: مائة سنة، وقالوا: مائة وعشرون سنة، وقالوا: إن القرن من الزمان هو الذي عاش فيه مجموعة من الناس ثم ماتوا ولم يبق منهم أحد، وعندما نقول: قرن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة، أي: المجموعة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه وعاشروه، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وقد جاء في الحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم)، أي: هؤلاء الصحابة ماتوا رضوان الله وتعالى عليهم، وجاء من بعدهم التابعون الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن رأوا البعض من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء القرن الذين رأوا الصحابة وظلوا على ذلك إلى أن مات آخر من رأى هؤلاء الصحابة، وجاء القرن الذي يليه الذين لم يروا الصحابة، وإنما رأوا من بعدهم من التابعين، فهؤلاء قرن، وهكذا قرن يمضي ويأتي من بعده قرن آخر.
فقال الله عز وجل: ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)) أي: من بعد قوم نوح، ((قَرْنًا آخَرِينَ)) أي: قرن قوم عاد من بعد نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقيل: بل قوم ثمود، باعتبار أن الله قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [المؤمنون:41] ولا مانع أن يكونوا هم قوم عاد، فقد أخذهم الله عز وجل بالريح التي أرسلها عليهم وبصحية صاح فيهم جبريل فأهلكهم الله عز وجل وأبادهم بذلك، فلا مانع من أن يكونوا هم؛ لأنهم الذين كانوا من بعد قوم نوح.
إذاً: بعد إهلاك قوم نوح أنشأ الله عز وجل خلقاً وأوجد من بعدهم قرناً آخرين وأمة من الناس غير هؤلاء، وعادة الله سبحانه وتعالى أنه يرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليدعوا قومهم ويثبتوهم على دين ربهم سبحانه وتعالى.(50/2)
تفسير قوله تعالى: (فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله)
قال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:32] أي: أرسل إلى عاد أخاهم هوداً، وهو منهم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] وقال هنا: ((فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ)) أي: من البشر ومن هؤلاء القوم، دعاهم بدعوة نوح ودعوة النبيين جميعهم عليهم الصلاة والسلام: أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فهو دعاهم إلى التوحيد إلى قول: لا إله إلا الله، وإلى عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، والتخلي عن عبادة من سواه، فقال لهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) أي: ليس لكم إله يستحق أن يعبد إلا إله واحد سبحانه وتعالى، فهو الذي أنشأكم وخلقكم ورزقكم، ولذلك دلهم على النعم التي هم فيها، فقال لهم: إن الله عز وجل قد أعطاكم نعماً عظيمة ومنها قوله لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، وقال الله عنهم في سورة الفجر: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، فكانوا قبيلة في غاية الطول وضخامة الأجسام والقوة والنعم التي أترفوا فيها، حتى إنهم صيروا هذه النعم للعب والتلهي، فكانوا يبنون المساكن العظيمة الواسعة الشاسعة التي قد لا يسكنونها، ويتخذون مصانع من المياه يجمعون فيها الماء لعلهم يخلدون ويعيشون أبد الآبدين، فرسولهم عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الله سبحانه وحذرهم من الكفر، وحذرهم من الإشراك بالله، ومن كفر نعم الله سبحانه، وأن يصيروا هذه النعمة نقمة عليهم، فحذرهم من غضب الله سبحانه وتعالى، لكنهم كانوا قساة القلوب بعيدين عن ذكر الله سبحانه وعن عبادته، وكانوا إذا بطشوا بغيرهم من الأقوام كانوا جبارين في غاية القسوة لا رحمة عندهم، فحذرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام من ذلك فأبوا ذلك.
قال الله سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].
قوله: ((أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ)) يقرؤها بالكسر أبو عمرو ويعقوب وعاصم وحمزة، أما باقي القراء فيقرءونها: (أنْ اعُبدوا الله).
كذلك ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) قراءة الجمهور: ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) باعتبار المعنى، وأصلها: (ما لكم) أي: ليس لكم إله غيره سبحانه وتعالى، فكأن الأصل الضم فهذا وصف للمضموم أو للمرفوع، فقرأها الجمهور: ((مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) وراعى اللفظ الكسائي وأبو جعفر وقالا: إنه وصف للمجرور، فوصف المجرور مجرور مثله، فقرآها: (ما لكم من إله غيرِهِ).
قوله: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: هلا اتقيتم الله سبحانه وتعالى؟ فهو يحثهم ويحضهم على عبادة الله سبحانه وعلى تقوى الله، وأن يحذروا من أن يغضبوا ربهم سبحانه، فقال لهم: ((أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: أفلا تجعلون من أعمالكم الصالحة وقاية لكم من عذاب الله ومن غضبه؟ فالتقوى: هي أن تقي نفسك غضب الله وعذاب الله، وأن تجعل وقاية وحاجزاً وستراً بينك وبين عقوبة رب العالمين سبحانه، فهؤلاء القوم لم يتقوا الله سبحانه، وإنما كذبوا كما كذب الكفرة من قبلهم.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (وقال الملأ من قومه إنكم إذاً لخاسرون)
قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون:33].
الملأ: هم علية القوم في الناس، و (الملأ) مأخوذة من ملء الشيء، ملأ الإناء يمتلئ امتلاءً، فهؤلاء الملأ كأنهم الذين يملئون العيون، ويملئون أماكنهم، ويكون في قلوب الناس منهم هيبة لمكانهم ومكانتهم، ولكونهم كبار القوم.
قوله: ((وَقَالَ الْمَلَأُ)) أي: الكبار من القوم، ((مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ)) أي: صفاتهم أنهم كفار وأنهم مكذبون بيوم الدين، وبلقاء رب العالمين سبحانه، ((وَأَتْرَفْنَاهُمْ في الحياة الدنيا)) أي: والحال أننا قد أترفناهم وأعطيناهم الرغد من العيش، والخصوبة والمال الوفير الكثير، والنعمة التي يتنعمون بها، فهؤلاء لما نظروا إلى أنهم مترفون وأنهم الكبار من القوم اغتروا بذلك، فقالوا عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ))، أي: لا يوجد إلا هذا الذي يأتيكم ليدعوكم إلى الله، وهو بشر مثلكم، ((يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ)) أي: يأكل ويشرب مثلكم، وإذا كان يأكل ويشرب فإنه سيخرج هذا الشيء ويتبول ويتغوط، فلا ميزة له علينا.
فهؤلاء لم ينظروا إلى الحجة والدليل، وإنما نظروا إلى الهيئة التي أمامهم، وقالوا: هذا إنسان مثلنا فكيف يكون أحسن منا؟! فهو يأكل ونحن نأكل ويشرب ونحن نشرب، ويقضي حاجته ونحن مثله، فما الذي فضل به علينا؟ فهم لم يسمعوا لما يقول؛ لأن الكفر يدفع الإنسان للعمى وعدم النظر في حجة من يتكلم، والمكانة والرياسة والسيادة للإنسان كل ذلك يجعله يعمى عن أن ينظر إلى الحجة، أو يخاف على المكان الذي هو فيه، فيقول: لا داعي للنظر في دليل وفي حجة، فتجد الواحد منهم يرد ويقول: إنك لا تفهم شيئاً، وتقول كلاماً مثلنا.
قالوا: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ))، وأصلها (ويشرب مما تشربون منه) أي: يشرب نفس الشراب الذي تشربونه.
قال تعالى حاكياً عن قوم هود: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34]، انظر هنا إلى الكلام الذي ليس له معنى! نقول: إذا كانت طاعة البشر فيها الخسران، فهؤلاء الذين يطيعونكم أنتم، أنتم بشر وهم بشر، فلماذا طاعة نبيكم فيها الخسران وطاعتكم أنتم ليست فيها الخسران؟! إذاً: إذا احتججتم عليهم بهذا الشيء -وهو أنكم إذا اتبعتم بشراً فإنكم خاسرون- فكذلك أنتم بشر إذا اتبعوكم فهم خاسرون، ولكن العمى عن دين الله رب العالمين يجعل الإنسان يهرف بما لا يعرف، ويتكلم بما لا يفهمه هو ولا يقتنع بما يقول، ولكنهم يظنونها حجة يقولونها فقالوها: ((وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ)) فهو من البشر، ولكنه لا يأمرهم بطاعة نفسه، وإنما يأمرهم بطاعة الله رب العالمين سبحانه، فالطاعة لله، فلو دروا ما يقولون لعلموا أن هذا وإن كان بشراً فإنه لا يدعو إلى طاعة نفسه، ولكن يدعو إلى طاعة رب العالمين، بما جاء به من عند ربه.
إذاً: طاعة الله فيها الفلاح لو كان يعقلون.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (أيعدكم أنكم إذا متم هيهات هيهات لما توعدون)
قال الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون:35] أي: يعطيكم الوعد وتصدقونه في الكلام الذي يقوله: أننا بعدما نموت ونكون تراباً وعظاماً سنخرج مرة أخرى؟ وقوله: ((مِتُّمْ))، هذه قراءة نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف بالكسر، وقراءة الجمهور غير هؤلاء يقرءون: (إذا مُتم) بالضم من مات يموت موتاً، ومات يمات كذلك، فتكون مِتُ ومُتُ.
قوله: ((إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا)) أي: صرتم تراباً وعظماً، ((أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)) هؤلاء يتعجبون ويقولون: كيف سنرجع مرة ثانية إلى هذه الدنيا؟! قال تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] أي: لم ننظر أحداً مات ثم رجع، وكأنهم يقيسون الآخرة على الدنيا، ولذلك قالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:35 - 36] وقوله: (هيهات) أي: بعد بعداً عظيماً، ومستحيل أن يكون هذا.
فقوله: ((هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ))، هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر (هيهاتِ هيهاتِ لما توعدون) بالكسر فيها، ووقف عليها الكسائي وأبو عمرو هكذا: (هيهاه) وإذا وصلاها قالا: (هيهات هيهات) على قراءة الجمهور، لكن الجمهور إذا وقفوا عليها قالوا: (هيهات) بالتاء.(50/5)
تفسير قوله تعالى: (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن له بمؤمنين)
قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37]، أي: ما هي وما الشأن والأمر إلا أننا نعيش في هذه الدنيا ثم نموت وما نحن بمبعوثين.
وهنا قدموا ذكر الموت على الحياة، فهل هذا فيه دليل على أنهم يؤمنون بأن بعد الموت حياة؟ لا، هم لا يقصدون هذا؛ لأنهم لو قصدوا ذلك لما قالوا بعد ذلك: ((وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)) لكن المقصود من كلامهم: ((نَمُوتُ وَنَحْيَا)) أنه يموت جيل ويحيا جيل آخر، يموت الآباء ويحيا الأبناء، ويموت الأبناء ويحيا الأحفاد وهكذا، أو (نموت ونحيا) أي: كنا أمواتاً وكنا نطفاً ثم صرنا أحياء، وبعد ذلك نموت ولا بعث بعده، أو على التقديم والتأخير، وأصلها نحيا ونموت، أي: حياة وبعد ذلك موت ولا يكون هناك بعث مرة أخرى.
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون:38]، يقولون عن نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا: ((إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ)) أي: (ما هو) فقصر الوصف عليه، أي: أن هذا صفة رجل من الرجال مثله مثلنا، ولكنه مفتر كذاب، والافتراء أشد الكذب، ((إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى)) أي: اختلق وكذب، ((عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ))، وكأنهم يقولون: نحن القدوة ونحن لن نؤمن له، فاتبعونا في هذا الشيء، وافعلوا كما نفعل نحن، فإننا لسنا لَهُ بِمُؤْمِنِينَ.(50/6)
تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون فبعداً للقوم الظالمين)
لما يئس رسولهم عليه الصلاة والسلام من إيمانهم دعا ربه سبحانه: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون:39] أي: هؤلاء الذين كذبوني فانصرني عليهم بسبب تكذيبهم لي، وعدم قدرتي عليهم، فقال الله عز وجل مطمئناً له: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون:40] أي: اتركهم وانتظر عليهم فهم بعد حين ووقت يسير قليل سيصبحون نادمين على ما فعلوا، فهم يندمون حين لا ينفع الندم، ويطلبون الاستدراك في وقت العدم، انتهى الأمر وجاء العذاب من عند الله سبحانه، ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية، ولا ينفعهم ندمهم يوم القيامة ولا في قبورهم.
وقوله: ((لَيُصْبِحُنَّ))، اللام قبل الفعل المضارع والنون المثقلة في آخره تدل على القسم، كأن الله سبحانه يطمئنه ويقول: والله ليصبحن نادمين فلا تخف، فكأن الله يقسم لنبيه عليه الصلاة والسلام أننا سننصرك عليهم، وسينظرون ما الذي يحدث لهم.
قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:41] هذا هو الذي عاقب الله به قوم عاد، وجاء في آية أخرى قوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت:16] أي: ريح عاصفة شديدة البرودة عظيمة الهبوب فيها الأحجار تقذف هؤلاء وترفعهم ثم تقلبهم على رءوسهم، فهم ينزلون كأعجاز نخل منقعر، قد انقعر وقد جز من أصله، فالله سبحانه وتعالى أرسل عليهم ريحاً شديدة، وصاح بهم ملك من ملائكة رب العالمين، قال تعالى: ((فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: أهلكهم الله ورفعهم بالرياح فألقاهم على رءوسهم، فصاروا كأعجاز نخل منقعر، وقوله: ((فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً)) أي: جعلهم غثاء كغثاء السيل، وهو الزبد الذي يكون على سطح الماء على وجه ماء البحر أو النهر، هذا هو الغثاء الذي ليس له قيمة ولا ينتفع بمثله، فصاروا كهذا الغثاء فلا قيمة لهم ولا قدر لهم.
((فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) أي: سحقاً لهم وتباً لهم وعقوبة شديدة للقوم الظالمين، ليس هؤلاء فقط بل هم وأمثالهم وكل من فيه هذه الصفة صفة الظلم الأكبر، من ظلم نفسه بتركه عبادة الله سبحانه، وظلم أنبياء الله سبحانه فلم يتبعهم فيما قالوا، وكذبهم وافترى عليهم، فبعداً وسحقاً وعذاباً للقوم الظالمين.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/7)
تفسير سورة المؤمنون [42 - 49]
يخبر الله عز وجل عن الأقوام السابقين، وما كانوا عليه من الجهل بالله والكفر والشرك، ولكنه برحمته ولطفه يرسل إليهم الرسل ليقيم عليهم الحجة والبرهان، فمنهم من يؤمن بهؤلاء الرسل ويصدقهم، وهم قليل، ومنهم من يكذب بهؤلاء الرسل ويعاندهم ويحاربهم بكل ما أوتي من قوة، وهم للأسف كثير، فأعداء الرسل والحق دائماً كثر، ولكن الله لهم بالمرصاد.(51/1)
تفسير قوله تعالى: (ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:42 - 44].
يخبر الله عز وجل في هذه الآيات أنه أنشأ بعد قوم نوح وقوم عاد قروناً آخرين، منهم من ذكر الله عز وجل لنا في كتابه، ومنهم من لم يذكر لنا.
قال: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ)، المذكورون قبل ذلك كانوا قوم نوح، وقوم عاد أو ثمود، ثم أنشأ الله خلقاً آخر بعدما أهلك قوم نوح، ومن بعدهم أهلك عاداً، ثم أنشأ قروناً آخرين.(51/2)
تفسير قوله تعالى: (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون)
قال تعالى: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون:43]، الأجل محدود عند الله سبحانه وتعالى، والعمر معدود عنده سبحانه، فلا أمة تسبق أجلها ولا تستأخر عنه، وتسبق الأجل: كأنه يأتيها فتفوت من الأجل، أو أنها تسبقه وتموت ويقضى عليها قبل ما كتبه الله عز وجل، ولا يستأخرون عن أجلهم، فإذا جاء الأجل فمهما طلبوا النظرة لا ينظرهم الله سبحانه وتعالى، فهم لا يستأخرون عنه.
إذاً: لا يقدرون على أن يفوتوا الله سبحانه وما هم بمعجزين، لا يموتون قبل الأجل الذي كتبه الله، ولا يتأخرون عن هذا الأجل، فهم لا يسبقون أجلهم ولا يستأخرون.
وقوله: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ)، أي أمة لها أجل عند الله عز وجل، تكون الأمة فيها العدد وفيها العُدد، وفيها الكثرة والقوة، فيأتي عليهم العذاب في حينهم، فإذا بالله عز وجل يهلكهم ويبيدهم، ويخلق من بعدهم قروناً آخرين، وتصبح هذه الأمة التي كانت في يوم من الأيام موجودة ذكرى من ذكريات الأقوام الذين يجيئون من بعدهم.
فانظروا إلى قوم نوح كيف كانوا، وكيف علو، وكيف كان يقال عنهم: إنهم يعيشون ويعمرون عمراً طويلاً، ونوح عليه الصلاة والسلام مكث فيهم يدعوهم إلى الله عز وجل، حتى ظن أنهم لن يؤمنوا، يئس من إيمان هؤلاء القوم، وأخبره الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، فكانوا في عزة ومنعة وقوة، وفجأة أبادهم الله عز وجل وأغرقهم فلا شيء من هؤلاء الأقوام يبقى إلا الأثر.
وجاء من بعدهم قوم عاد، {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:7]، وقد كانوا يبنون البيوت العالية في الجبال فيتحصنون بها، ويعيثون في الأرض فساداً، فكفروا بالله سبحانه، وكذبوا نبيهم هوداً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وافتخروا بأنفسهم وبقوتهم وعلوهم؛ فجاء وقتهم وأجلهم، فأبادهم الله سبحانه بصيحة ورياح صرصر شديدة، فأهلكهم وجعلهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20]، وانتهى قوم عاد فانتهت عاد الأولى.
ثم جاءت من بعدهم عاد الأخرى أو قوم ثمود، ولم يعتبروا بما حدث لقوم نوح ولقوم عاد، والله عز وجل حذرهم على لسان نبيهم صالح على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فكل أمة تأتي وتعيش تظن أنها لن يهلكها الله سبحانه وتعالى، فظنوا أنهم لا يزالون موجودين هم وأبناؤهم وأحفادهم وأنهم لن يهلكوا، ولكن الله عز وجل أبى أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
فهنا يذكر أنه أنشأ من بعدهم قروناً آخرين منهم من نعرفهم، ومنهم من لم نسمع عنهم، قال: (مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)، فيأتي الأجل فلا تسبقه ولا تستأخر عنه.(51/3)
تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا رسلنا تترا)
قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:44].
قوله: (تَتْرَا) بمعنى متتابعين، وقد يكون معنى التتابع على كلمة (تترا) أي: بينهم مهلة، فيأتي الرسول ويمكث في قومه فترة، ثم بعد ذلك يأتي هؤلاء القوم فيهلكهم الله ويموت الرسول عليه الصلاة والسلام، وينشئ الله عز وجل قوماً آخرين، ويرسل إليهم رسولاً آخر يدعوهم إلى الله عز وجل، فكأن قوله: (أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا)، أي: أن قوماً يأتيهم رسول فيهلكهم الله عز وجل، ثم يأتي القوم من بعدهم فيرسل إليهم رسولاً، وهكذا.
فالتواتر: هو التتابع، ومنه تواتر المطر أي: نزل بعضه وراء بعض، وهنا الرسل أرسلهم الله عز وجل متتابعين يتبع بعضهم بعضاً.
وهذا من رحمة رب العالمين بعباده سبحانه، أنه لا يتركهم وأنفسهم وهواهم وشياطينهم، وإلا فإنهم سوف يضلون ولا شك في ذلك، ولكن الله عز وجل ينزل كتباً من السماء، ويرسل رسلاً لكي لا يكون لهؤلاء الأقوام حجة على الله عز وجل بعدما أنزل الكتب، وبعدما أرسل الرسل.
والله عز وجل جعل حججاً كثيرة على ابن آدم، فجعل في نفسه قلباً وعقلاً فينظر ويعتبر ويستمع ويتأثر، ويعرف بفطرته وقلبه وعقله وتفكيره أن هذا الكون لا بد أن يكون له خالق سبحانه وتعالى، ويعرف أن هذا الخالق هو الذي يستحق أن يعبد، ومع ذلك يغويه الشيطان، ويجعله يعبد غير خالقه سبحانه، فلم يترك الله عز وجل العباد لفطرهم فقط، ولكن أنزل كتباً من السماء، وأرسل رسلاً يدعون القوم إلى ربهم سبحانه، ولعل هؤلاء الأقوام يكذبون الرسل، فجعل مع كل رسول علامة ومعجزة وآية تدل على أنه رسول من عند رب العالمين.
إذاً: هنا أرسل الرسل وجعل معهم الحجج، وجعل الآيات البينات التي يفهمها كل ذي عقل، ويراها كل ذي عينين، وحينها ليس لأحد حجة على الله عز وجل بعدما فعل بهم ذلك سبحانه.
وقوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) (تترا) فيها قراءات: فعلى الوصل تقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها)، وتقرأ: (ثم أرسلنا رسلنا تتراً كل ما جاء أمة رسولها).
فقرأها أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين: (تتراً) ويظهر هذا في الوصل، وقرأها باقي القراء: (تترا) بالألف في آخرها، فعلى قراءة هؤلاء سيقرأ البعض منهم بالتقليل مثل ورش، وسيقرأ البعض منهم بالإمالة: مثل حمزة والكسائي وخلف، وسيقرؤها الباقون بالفتح: (تترا)، وسيظهر الفرق بين قراءة هؤلاء والآخرين عند الوصل، أي: في قراءة: (تترا كلما)، و (تتراً كلما) وفي الوقف سيظهر أيضاً الخلاف بينهم فيمن يقف عليها بالفتح، ومن يقف عليها بالتقليل، ومن يقف عليها بالإمالة.
قوله: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ)، (كل) هنا فيها عموم، فكل الأقوام الذين أرسل الله عز وجل إليهم رسلاً أول ما يواجهون رسولهم بالتكذيب، ولذلك يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بدعاً من الرسل: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9]، فهو ليس شيئاً جديداً، بل من قبله كانت هناك رسل، وليس هو أول من جوبه بالتكذيب عليه الصلاة والسلام، بل كل الرسل من قبله قد جوبهوا بالتكذيب.
إذاً: الإنسان الذي يدعو إلى الله عز وجل لا ينتظر أن يكون الأمر سهلاً، أنه مجرد ما يدعو إنساناً إلى الله فإنه يستجيب له بسرعة، فلست أكرم على الله من رسله عليهم الصلاة والسلام الذين جوبهوا بالتكذيب من أول ما دعوا.
قال تعالى: (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ)، أي: أنهم قلدوا من قبلهم، فجاءهم ما جاء الذين من قبلهم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: قيسوا أنفسكم على هؤلاء الرسل، فهؤلاء المكذبون كذبوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام فأهلكوا.
فالذين من بعدهم اتبعوهم في التكذيب فأتبعناهم بالعقوبة، وعجلناهم بها، والذين من بعدهم هكذا، (فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) أي: إهلاكاً بعد إهلاك، فكل من كذب الله سبحانه وتعالى أهلكه.
قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) والأحاديث هنا: جمع أحدوثة، وهي ما يتحدث به، يعني: جعلناهم قصصاً وحكايات للناس، فيتذكروا قوم عاد، وماذا عملوا حتى أهلكهم الله، فبعدما كانوا قوماً لهم مكانة وشأن وديار انتهوا، ولكن تتحدث عنهم حكايات قوم نوح وقوم عاد فقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) جمع أحدوثة، وهي: ما يتحدث به، كالأعاجيب تتعجب من شأنهم وأمرهم.
وغالباً ما يطلق ذلك على الشر، أي: جعلناهم أحاديث في الإهلاك، وقد يطلق ذلك في الخير، ولكن الغالب في الشر، فجعل هؤلاء القوم أحاديث معناه: أنه أبادهم وأفناهم وجعل فيهم عبرة لمن اعتبر، قال الله سبحانه في الآية الأخرى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19]، فأصبحوا ذكرى، فتتذكر هؤلاء القوم الذين أساءوا فأهلكهم الله ومزقهم وأبادهم.
ثم من بعد هؤلاء أنشأ الله قروناً كثيرة، ما بين نوح وبين موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام آلاف السنين، ومئات القرون الذين أرسل الله إليهم رسله، قال تعالى: {مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
ثم بعد ذلك التراخي: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) وراء بعض، ومن ثم في النهاية جاء موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأخوه هارون.(51/4)
تفسير قوله تعالى: (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون)
قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون:45] أرسل الله عز وجل موسى عليه الصلاة والسلام ومعه أخوه هارون: (بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ) بالآيات التسع البينات: اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والأخذ بالسنين، فالله سبحانه وتعالى أرسل آيات لقوم فرعون، فأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، وأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم واليد والعصا ليروا آيات الله عز وجل البينات، فكذبوا.
فكان قوم فرعون كلما رأوا شيئاً من الآيات يكادون أن يستجيبوا، ثم يرجعون مرة ثانية إلى التكذيب، فيقولون: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف:134] كلام باللسان، ومجرد ما يدعو لهم موسى ربه سبحانه وتعالى ويكشف عنهم الغم الذي هم فيه سرعان ما يرجعون إلى التكذيب، ويقولون عن موسى: إنه ساحر عليه الصلاة والسلام.
قوله: (وَسُلْطَانٍ) السلطان هو الحجج البينة عندما يناظره فرعون، يقول فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] فيرد عليه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24 - 28].
وفرعون كلامه كله تخريف، أي: كلام ينطق به، فيقول: ما رب العالمين؟ وعندما يجيبه يقول له: أنت ساحر مبين، تتكلم بكلام جنوني، وسندخلك السجن فنجعلك من المسجونين، ولكن موسى يرد عليه بالآيات البينات، وبالحجج الواضحة، يقول: ربنا رب السماوات والأرض.
وفرعون كان يقول لقومه: أنا ربكم الأعلى، فهو الذي زعم أنه رب مع الله، وهذه الكلمة لا تكون إلا لله سبحانه وتعالى، والخلق كلهم يعرفون ذلك مستيقنين أنه لا رب إلا الله سبحانه وتعالى، فلا يقدر على الخلق والرزق والإعطاء والمنع إلا الرب سبحانه وتعالى، ولم يجادل في ذلك إلا اثنان فقط جعلهم الله عز وجل عبرة للخلق، وهما: النمرود وفرعون، النمرود قال لإبراهيم ذلك: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] تجبر وزعم ذلك، فأحرجه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ألست تدعي الربوبية فأت بالشمس من المغرب؟ {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258]، فعندما يزعم الإنسان أنه رب لا بد أن يظهر الله عز وجل كذبه ويفضحه، فبهت هذا الإنسان ولم يقدر على الجواب.
وهذا فرعون ذلك الذي زعم أنه رب وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36]، وقال: {فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص:38] ويصعد فوق الصرح والسور العالي، ثم ينزل فيقول: لم أجد شيئاً، لا يوجد رب هناك! ومن ثم يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] انظر هنا إلى هذا الكلام الفارغ الذي يقوله هذا الملعون! يقول لقومه: انظروا أنا الملك هنا! أليست هذه الأنهار تجري من تحتي؟! كأنه هو الذي أوجد هذه الأنهار، وكأنه هو الذي خلق هؤلاء، فقال الله سبحانه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].
قوم لا عقل لهم، فاستخف بهم وضحك عليهم وخدعهم، فإذا بهم يستجيبون لما يقول ويتابعونه فيما يأمرهم به.(51/5)
تفسير قوله تعالى: (إلى فرعون وملئه فاستكبروا)
فلما جاءه موسى وجادله بالحجج البينة، وأراه الآيات البينات، أبى فرعون إلا أن يكذب، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون:45 - 46] موسى رسول عليه الصلاة والسلام، وأخوه هارون أرسله الله عز وجل، وكان أكبر من موسى بسنة، وكان نبيناً ببركة دعوة موسى له، فقد دعا له أن يكون نبياً، فالله عز وجل جعله مع أخيه نبياً.
فأرسلهما إلى فرعون وملئه، والملأ: السادة الكبار من القوم، (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)، أخذتهم العزة بالإثم واستكبروا نظراً لأنهم أكبر من موسى وأفضل منه، فرأوا في أنفسهم القوة والعلو، ورأوا في غيرهم الضعف والهوان، فقال الله سبحانه: (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ).
وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص:4]، والعلو هنا هو قهر الغير والتجبر عليه، (وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ) أي: متكبرين قاهرين لغيرهم ظلماً، كما قال الله عز وجل: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ).(51/6)
تفسير قوله تعالى: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا فكانوا من المهلكين)
قال تعالى: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47]، هذه دعوى كل الأقوام المكذبين للرسل: لم يجد الله غيركم! وأنتم بشر مثلنا! لماذا أنتم الذين جئتم تدعوننا؟! لا ينظرون إلى ما أتوا به من كتب من عند الله ومن آيات ومعجزات، ولكن ينظرون إلى كونه من البشر، فأنت بشر مثلنا، تأكل مما نأكل وتشرب مما نشرب، فبماذا فضلت علينا حتى يبعثك الله؟ إذاً لن نؤمن لك.
قال تعالى: (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) أي: إن بني إسرائيل مسخرون في مصر خداماً وعبيداً لفرعون وملئه، فإذا كنت أنت من هؤلاء القوم فكيف نؤمن لكما وقومكما لنا عابدون؟! لنا نؤمن لكما، قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون:49] فلم يهتدوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام بل كذبوا فكانت النتيجة: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48] هذه هي العاقبة في الدنيا، العاقبة السيئة لكل من كذب رسل الله، وأعرض عن الله، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(51/7)
تفسير سورة المؤمنون [49 - 53]
يذكر الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ما كان عليه من سبقه من الأنبياء، ومنهم موسى وعيسى عليهما السلام، ويعتبر عيسى وأمه وتفاصيل حياتهما معجزة أبهرت العقول.
ويأمر الله عز وجل عباده أن يأكلوا من الطيبات، فالأكل من الطيب ينبت جسداً طيباً فيكون عوناً له على طاعة الله جل في علاه.(52/1)
تفسير قوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:49 - 52].
يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أنه قد آتى النبي موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الكتاب، أي: التوراة، وقوله (لعلهم يهتدون) أي: من أرسل إليهم وهم بنو إسرائيل، لعلهم يهتدون بأحكامها والشريعة التي أنزل الله عز وجل فيها.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون:49]، فالله عز وجل أنشأ القرون وأرسل إليهم رسلاً يدعونهم إلى دين رب العالمين، ويهدونهم إلى صراط الله سبحانه، فما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء أنبياء ورسل قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقوام بكتب من عند الله سبحانه وتعالى كما جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فليس بدعاً من الرسل، بل إن موسى دعا بني إسرائيل، ولكن نبينا صلوات الله وسلامه عليه قد خصه الله عز وجل بأشياء، وفُضل على من قبله بأشياء، منها: أن رسالته عامة صلوات الله وسلامه عليه، وأما الأنبياء قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فقد بعث إلى الثقلين الإنس والجن، وإلى الأبيض والأحمر والأسود، وإلى جميع الخلق يدعوهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
وهذه السورة مكية يخبر الله فيها عن أحوال الرسل، وعن الأقوام الذين دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكيف كذبوا وكيف انتقم الله عز وجل منهم.
وبنو إسرائيل الذين كانوا مستضعفين في الأرض أراد الله عز وجل أن يمن عليهم وأن يظهرهم وأن يقويهم، وأرسل إليهم موسى عليه الصلاة والسلام برسالة من عند رب العالمين وهي التوراة، رسالة فيها شريعتهم، فجاء ودعا بني إسرائيل وعلمهم وأرشدهم، ودعا فرعون ليعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً.
فأخبر عز وجل أنه كذب موسى، قال: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [المؤمنون:48]، أي: فرعون وملؤه، (فَكَذَّبُوهُمَا) أي: كذبوا موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام (فَكَانُوا) فرعون وملؤه (مِنَ الْمُهْلَكِينَ).(52/2)
تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية)
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
قوله: (وجعلنا ابن مريم) أي: عيسى المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو أحد رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأحد أولي العزم من الرسل، والذي جعله الله سبحانه وأمه آية من آيات رب العالمين، وقد نذرت أمها أن تجعل ما في بطنها لله محرراً، فكان ما في بطنها أنثى فرضي بذلك، وقالت لربها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36]، أي: الله أعلم بالذي وضعته أنه أنثى، وقد نذرته باعتبار أن يكون ذكراً، ولكن وفت بنذرها وجعلت الذي في بطنها لله محرراً، أي: لخدمة ربها سبحانه، وخدمة دين ربها، وخدمة بيت المقدس، فكانت مريم آية من الآيات أن حملت وهي لم يطأها أحد، ولم تتزوج، فجعل الله عز وجل فيها آية من الآيات، وجاء المسيح على نبينا وعليهم الصلاة والسلام بغير أب، فهي حملت بغير زوج وإنما بنفخة من روح القدس، وجاء المسيح عليه الصلاة والسلام بغير أب، فكان هو وأمه آية من آيات رب العالمين.
قال تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)، أي: جعلناها تأوي هي وابنها إلى مكان في الأرض، في بلد من بلدان الله سبحانه وتعالى، (إلى ربوة)، والربوة هي المكان المرتفع، وقالوا: إنها توجد في مكان اسمه: (الرملة) من بلاد فلسطين، والله عز وجل آواهما، فهو سبحانه الذي يخلق وهو الذي يرزق، وهو الذي يؤوي، وهو الذي يدافع عن الذين آمنوا.
ولما جاءت أمه بهذا الولد إذا ببني إسرائيل يتهمونها بالزنا، ويحاولون إشاعة هذا الأمر بين الناس، فحماها الله عز وجل وآواها، فجاء بنو إسرائيل ليكذبوا المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فأنطقه الله سبحانه وتعالى وهو في المهد صبياً: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم:30 - 31]، تكلم وهو رضيع يرضع من ثدي أمه، وقد كلم القوم بهذا الكلام الفصيح البليغ، يدعوهم إلى رب العالمين، ويخبر عن نفسه أنه نبي من أنبياء رب العالمين، فكان آية، والله عز وجل حماهما ودفع عنهما البلاء، وآواهما إلى مكان مرتفع (إلى ربوة ذات قرار) أي: مكان طيب يستقرون فيه أو يستقرون عليه، والقرار: هو المكان المستوي، ولا يُستقر إلا بمكان فيه زروع وثمار، فيستطيع الإنسان أن يعيش فيه، وكأنه كناية عما في هذا المكان من أرض فلسطين أو غيرها من زروع وثمار يأكل منها المسيح عليه الصلاة والسلام وأمه.
(ومعين) وكذلك فيها معين أي: عين ماء جارية، والسيدة مريم كفلها الله عز وجل زكريا، وجعلها في كفالة زكريا وهي صغيرة، إلى أن بلغت وهو الذي يكفلها، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37]، فكان أمر الرزق الذي يسوقه الله عز وجل إليها آية من الآيات، فهي في المحراب، وفي غرفتها، وفي بيت المقدس، في مكان لا يدخل إليها أحد فيه، والذي يأتيها بالطعام هو زوج خالتها، وهو زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكان عندما يدخل إليها ينظر وإذا به يلقى طعاماً يختلف عن الذي أتاها به، فكان يسألها فتقول: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فكانت آية من الآيات أن آواها الله عز وجل هي وابنها (إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) أي: عين مياه عذبة جارية.
وقد رعاها الله وهي تلد، فكان يقول لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، فالله عز وجل آواها إلى مكان تلد فيه ولا يطلع عليها أحد في هذا المكان، ولا يزعجها أحد، فحملت في بطنها هذا الغلام الكريم والذي هو نبي من أنبياء الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام، والله عز وجل جعلها في هذا المكان لتستقر فيه وتضع فيه ولدها، فآواها الله سبحانه، ولم تحتج إلى مولدة تولدها، ولم تحتج إلى أحد يعينها، فالله سبحانه وتعالى تكفل لها بكل أمرها كما يكفل لغيرها سبحانه، ولكن اعتنى بها مزيد عناية من فضله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم:26]، وقد جعل تحتها جدول ماء تأكل من البلح والرطب من هذه النخلة وتشرب من الماء.
قال سبحانه: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون:50]، (ربوة) بفتح الراء، وهذه قراءة ابن عامر وعاصم، وقراءة باقي القراء: (إِلَى رِبْوَةٍ) ففيها لغتان.
وقوله: {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50]، (قرار) البعض يرققها مثل الأزرق عن ورش، وحمزة أيضاًً يقرؤها بالإمالة أو بالتقليل، وغيرهم يقرءونها بالإمالة، وهم أبو عمرو وابن ذكوان وبخلفه والكسائي، وورش وحمزة يقللونها، وباقي القراء يقرءونها: ((قَرَارٍ)) بالفتح، إذاً: فيها ثلاث قراءات.(52/3)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ) مع أنه لا يوجد على قيد الحياة غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الخطاب باستحضار جميع من أرسلهم الله عز وجل، فالله عز وجل كأنه يحضرهم ويخاطب الجميع، فحين يذكرهم الله عز وجل هنا أي: اذكروا أني خلقت الرسل كلهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وأني أمرتهم بهذا الأمر، فقلت لهم: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ)، بما فيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51]، وإذا قال هذا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والذين يستحيل أن يأكلوا من غير الطيبات وهم الذين عصمهم الله، وهذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فإذا كان الرسل نأمرهم بهذا فأنتم يا بني آدم أولى بهذا الأمر؛ لأن الرسل لن يعصوا ربهم ولن يأكلوا من غير الطيبات، فأنتم أولى بهذا الأمر، فإذا قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] فكأنه يقول: لباقي الخلق {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].
وقد وضح لنا ذلك نبينا صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له)، وهنا الأمر للرسل عليهم الصلاة والسلام، والأمر للمؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، فأمر الله عز وجل خلقه أن يأكلوا من الطيبات.
فقد أمر الله عز وجل الرسل بذلك، وأمر المؤمنين بذلك، ثم ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على خلاف ذلك، وإذا كان الإنسان في حياته لا يهتم لأمر مأكله ومشربه حلالاً كان أو حراماً، ولا يهمه ما ستكون النتيجة وهي أنه سيحتاج إلى ربه، ويرفع يديه لربه وهو محتاج، وهو في ضيق، وفي شدة، وفي كرب، وقد لا يستجاب له، فقال: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) والإنسان المسافر مستجاب الدعوة، والمؤمن الذي يسافر يجد في طريقه صعوبات ومشقات فتأتيه رحمة رب العالمين سبحانه فيما هو فيه، فيستجيب دعاء هذا الإنسان المكروب، قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] سبحانه وتعالى.
قال: (يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء)، (أشعث): غير مرتب الشعر، (أغبر): عليه من غبار الطريق، (يمد يديه إلى السماء)، وفيه أن السنة عند الدعاء أن ترفع يديك إلى السماء في الدعاء، قائلاً: (يا رب يا رب! ومطعمه حرام)، أي: والحال أن الأكل الذي كان يأكله قبل ذلك أو حالاً كان أكلاً حراماً، (ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له) أي: من أين يستجاب لهذا الإنسان؟! وهذا لا يعني أنه لا يستجاب له أبداً، فأمر الاستجابة لله سبحانه وتعالى، ولكن أسباب الإجابة ليست موجودة، فلا يستحق هذا الإنسان أن يستجاب له، ولكن الله رءوف بعباده، فالله لطيف، والله كريم سبحانه، وقد يعصي العبد ويدعو ربه فيستجيب له سبحانه وتعالى، ولكن يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا لا يستحق الإجابة، فإذا دعا العبد ولم يستجب له فليراجع نفسه في طعامه، وفي شرابه، وفي ملبسه وفي غذائه، وهل هو مطيع لله أم هو يأكل المحرمات ويفعل المحرمات.
قال الله سبحانه: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، فالإنسان يأكل من الطيبات فإذا أكل شكر الله سبحانه وتعالى، وإذا أنعم الله عز وجل على العبد وأعطاه من فضله ومن رزقه فشكر الله فله نعمتان: نعمة الإعطاء من الرزق، والنعمة الأخرى: التوفيق للحمد وللشكر.
وإذا أكل العبد وقال: الحمد لله، والشكر لله، وحمد ربه وشكره، كان هذا أحب إلى الله مما أعطاه للعبد، فالله يعطي للعبد دنيا، والدنيا لا قيمة لها عند الله عز وجل، والعبد يتقرب إلى الله سبحانه بالتسبيح والتحميد والشكر له سبحانه، وهذا يترتب عليه الأجر الأخروي، فهذا أحب إلى الله عز وجل، وإن كان الاثنان من الله الكريم سبحانه، فالله هو الذي يرزق، والله هو الذي يوفقك لشكره سبحانه وتعالى، فكانت الثانية أحب إلى الله عز وجل وهي توفيق عبده لأن يشكره سبحانه.
قال تعالى: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً)، وكأن الأكل الطيب يعين على العمل الصالح، والأكل الحرام لا يعين على العمل الصالح، فينبت جسد الإنسان من الحلال، والجسد النابت من حلال أحرى أن يعبد الله وأن يتصرف في ملكوت الله عز وجل بما يرضي الله سبحانه، والذي يأكل من حرام ينبت جسده من حرام، فالنار أولى به.
فلذلك قال: (كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) فإذا أكلتم من الطيبات اعملوا صالحاً فسوف توفقون لذلك (وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وهذا دليل على أن الله سبحانه تبارك وتعالى يعلم كل شيء من عمل الإنسان الظاهر والخفي، وعمل القلب، وهذا كله عند الله عز وجل معلوم لا يخفى عليه شيء.
وكذلك في سياق الآية التهديد والوعيد بالأسلوب اللطيف من ربنا سبحانه وتعالى، فإذا كان يعلم سبحانه وتعالى، وقدرة الله عز وجل وراء ذلك، فهو الذي يعلم وله القدرة سبحانه وتعالى العظيمة أن يجازي العبد على عمل الخير بخير وعلى عمل الشر بما يستحق، فإذا قال: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، يعني: أعرف ما تعملون وأجازيكم على أفعالكم.(52/4)
تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة)
قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
قوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) هذه قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ويقرؤها أبو عمرو: (وَأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً)، ويقرأها باقي القراء وهم نافع وأبو جعفر المدنيان وابن كثير المكي وأبو عمرو ويعقوب البصريان: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ).
قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون:52]، الأمة تطلق على معانٍ، ولكن في هذه الآية أطلقت على أحد المعاني وهو الدين، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22]، أي: على ملة، فقال الله عز وجل للمؤمنين: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ} [المؤمنون:52]، أي: هذه ملتكم، وهذا دينكم دين واحد وهو دين التوحيد، {وَأَنَا رَبُّكُمْ} [المؤمنون:52] أتيتكم بهذا الدين، وعلمتكم شرائعه فاعبدون واتقون وحدي سبحانه وتعالى.
(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ)، أي: هذه ملتكم وهذا دينكم، وهو دين واحد دين التوحيد فاعبدوا ربكم سبحانه، {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].(52/5)
تفسير قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً)
يبين لنا الله في الآية التي بعدها ماذا عمل العباد فقال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، أي: إذا بهم يتفرقون في دين الله، فهذا يعبد الله وهذا يشرك بالله، وتأتي كتب الله عز وجل تدعو الناس، ولا ينظرون إلى المتأخر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويتبعونه، وشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم هي التي نسخت كل الشرائع من قبله، قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} [المؤمنون:53] أي: قطعاً، والزبر: جمع زبور وهو الكتاب، وكأن كل واحد فرح بالكتاب الذي عنده ولم ينظر إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتبعه، ففرحوا بما عندهم.
قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53]، فالله سبحانه ينهى الأمة عن التفرق ويأمر الجميع أن يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأمة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمة الدعوة، فهؤلاء صاروا نصارى، وهؤلاء الصابئة، وهؤلاء عباد الكواكب والنجوم، وهكذا، وأمة النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا أيضاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اختلفت اليهود على إحدى وسبعين ملة، واختلفت النصارى على ثنتين وسبعين ملة، وستختلف أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: هي الجماعة)، أو قال: (هم من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)، أو قال: (ما أنا عليه وأصحابي)، والذي عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو كتاب ربه وسنته عليه الصلاة والسلام، فمن تمسك بذلك كان من الفرقة الناجية.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم الفرقة الناجية، ونسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/6)
تفسير سورة المؤمنون [51 - 60]
يذكر الله سبحانه وتعالى أن دينه واحد لجميع الأمم والأنبياء والرسل، فهو دين يدعو إلى الخير ويحارب الشر، ومع ذلك لما جاء البشر العلم والطريق الصحيح اختلفوا فيه وتفرقوا إلى فرق وأحزاب وطوائف، كل حزب بما لديه متمسك وفرح، وكل حزب يحسب أنه على الصواب وأنه على هدى، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل أمة أو فرقة تبعث يوم القيامة على ما كانت عليه من دين، وفي ذلك اليوم يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن أحدثوا من أمته من بعده وغيروا وبدلوا.(53/1)
تفسير قوله تعالى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة كل حزب بما لديهم فرحون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:52 - 61].
لما أمر الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام بأن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحاً، وأخبر أنه بما يعملون عليم، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51])، فذكر أن الرسل مأمورون بأن يأكلوا من الطيبات، وأن المؤمنين كذلك مأمورون بما أمر به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، والله بما يعمل الجميع عليم سبحانه، وفيها من التهديد ما فيها، أن الإنسان إذا لم يأكل من الحلال ويترك الحرام فالله به عليم، وإذا كان الله عليماً بما يعمل هذا الإنسان فسوف يحاسبه ويعاقبه، ولا مفر له من ربه سبحانه وتعالى إلا أن يتوب إلى الله.
ثم قال الله سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، وقد قلنا: إن كلمة (أمة) تأتي بمعانٍ عدة، والمعنى المقصود هنا: أن الأمة بمعنى: الملة، أي: وإن هذه ملتكم، فهي ملة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والملة التي ارتضاها الله عز وجل هي الدين، قال تعالى: {ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهو دين الإسلام، والمعنى: إن هذا دينكم دين واحد، وهو دين التوحيد، وهي عقيدة واحدة أُرسل بها جميع الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، يدعون إلى قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32]، أي: يدعون إلى (لا إله إلا الله) إلى دين واحد، وأخبرنا سبحانه وتعالى أنهم يتفرقون في ذلك، فقال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، وأخبر الله سبحانه بقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119]، فلا يزال الناس مختلفين، والله عز وجل يعلم ذلك، وخلقهم وقدر عنده ما يكون من أمر عباده، فالعباد مهما جاءهم من عند الله من كتاب أو شريعة فمنهم مؤمن ومنهم كافر، والمؤمنون منهم لا يزالون مختلفين فيما بينهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الأمة: (وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فكلهم يقولون: لا إله إلا الله، ولكن يتنازعون فيما بينهم في أشياء؛ فيفرقون دينهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتخذ دينه لعباً، وممن اتخذ دينه فرقة يفرق فيه بما يشاء ويتبع هواه، ويتبع غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يحذرنا من التفرق.
وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} [الأنبياء:92]، فالرب واحد، وبذلك يكون الدين واحداً، والله سبحانه وتعالى هو الرب وهو الذي شرع هذا الدين سبحانه، فالعبيد عبيد لله سبحانه، فلا بد أن يتبعوا منهج الله فيكونوا على ملة وعلى دين واحد، ولكن جاء الشيطان فنزع الناس من دين ربهم إلى الأهواء فـ (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: كل إنسان فرحٌ بما هو فيه من أهواء، ومن بعد عن دين الله، ويظن أنه على الحق.
قال سبحانه: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: تقطعوا أمر دين رب العالمين، وأمر شرعه سبحانه، تقطعوه فيما بينهم، فكل إنسان أخذ بشيء واتبع هواه في أشياء، فتقطعوا الدين زبراً، والزبر: القطعة، أي: كل واحد أخذ قطعة منه ولم يتوحد الجميع، والله سبحانه وتعالى يقول: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فالإنسان المؤمن يأخذ دين الله سبحانه كتاباً وسنة، ولكن الذي ينزع بشيء فيأخذه ويترك باقي الأشياء، فهذا من الذين اتبعوا أهواءهم.
قال تعالى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا)، أي: قطعاً، (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي: هؤلاء يفرحون بهذا الجزء وهؤلاء بهذا الجزء، وكل منهم يتمسك بشيء ويترك أشياء لا يأخذ بها، فيفرح بما أخذ ولا ينعى على نفسه أنه ترك باقي هذا الدين العظيم.
وأهل البدع وأهل الضلال كل إنسان منهم يقول: لا إله إلا الله، لكنه يبتدع ويخترع في دين الله، ويفرح بما اخترعه وابتدعه، ويظن أنه على شيء، فهو ترك الكتاب وترك سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفرح ببدعته، ولعله يترك واجبات من واجبات الدين، ويظن أنه على خير، ويظن أنه على صلاح وعلى تقوى، والله عز وجل يخبر عن حال هؤلاء أهل البدع والأهواء أنهم فرحون بما هم فيه.
ولذلك كان صاحب المعصية قد يرجى أن يتوب سريعاً إلى الله سبحانه وتعالى، وصاحب البدعة تتباطأ عنه توبته، وصاحب المعصية يعرف أنه عاصٍ، فلعله يندم على المعصية ويتوب، أما صاحب البدعة فهو فرحٌ بما هو فيه، فلذلك لا يراجع نفسه، فقلَّ أن يتوب صاحب البدعة ويراجع أمر دينه ويرجع إلى ربه سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى وسم هؤلاء بأنهم في فرح بالذي هم فيه، ويظنون أنهم على شيء، ويحسبون أنهم مهتدون.(53/2)
تفسير قوله تعالى: (فذرهم في غمرتهم حتى حين)
قال تعالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} [المؤمنون:54]، يقول الله للنبي صلى الله عليه وسلم: لا يضيق صدرك من عمل هؤلاء الذين فرقوا الدين، والذين تأخروا عن دين الله سبحانه، وقد قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق جميعهم، فيقال: هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهذه أمته، والأمة: إما أمة الدعوة وإما أمة الإجابة، وكلا الأمتين تتفرق، وأمة الدعوة هي التي بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم الذكر والأنثى، وفيهم الإنسان التقي وفيهم الشقي، وفيهم من أهل الأوثان وأهل عبادة الصليب واليهود وغير ذلك، فأمة الدعوة: كل من يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أرسل إليهم، وقد أرسل إلى جميع من هم على الأرض في عهده إلى يوم القيامة، وأما أمته الذين يأتي إمامهم يوم القيامة: فهم الذين استجابوا له صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: لا إله إلا الله.
فالله سبحانه وتعالى أخبر عن هذه الأمة كلها أنهم لا يزالون مختلفين، فيأتي اليهود على ما هم فيه، والنصارى على ما هم فيه، وأهل الأوثان على ما هم فيه، ويأتي المسلمون الذين يقولون: (لا إله إلا الله) يدخلون في الدين يخترعون ويبتدعون ويتركون دين الله سبحانه، ويخبر عنهم يوم القيامة أنهم يذادون عن حوضه يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: ألا سحقاً ألا سحقاً، ألا بعداً ألا بعداً)، يقول: بعداً لهؤلاء الذين أحدثوا، وهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولكنهم ابتدعوا في دين الله وفرقوا دينهم، فلما جاءوا يوم القيامة جاءوا مسلمين، وعلامات الصلاة بادية في وجوههم من آثار السجود، وفي أيديهم وفي أرجلهم، ولكنهم لما كادوا يصلون إلى حوض النبي صلى الله عليه وسلم أبعدوا عنه؛ لأنهم ابتدعوا في دين الله سبحانه، فكل إنسان يترك دين الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يخشى عليه أن يأتي يوم القيامة فيذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، أي: يدفع ويبعد عن حوضه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا بعداً) أي: لمن أحدث بعدي، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، والذي يحدث في دين الله ويعمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا جماعة المسلمين فأمره مردود عليه، مهما زعم أنه يتقرب إلى الله عز وجل بذلك.
فالله سبحانه نزل الكتاب وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبع الناس ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3]، أي: لا تتبعوا شركاء من دون الله سبحانه، ولكن اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فالمؤمنون على بصيرة من دينهم يتعلمون أمر دينهم، ويتبعون الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يكون إمامهم يوم القيامة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أما أهل الأهواء فيتبعون ما يخترعون، قال تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
يقول تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) والغمرة: ما يغمرك، وهو الشيء الذي يغمر الإنسان ويغطيه، ومنه الغمر: الماء الكثير الذي يغمر الأرض ويغمر ما تحته، فقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ)، أي: في عمايتهم، وفي ضلالتهم، وفي حيرتهم، وفي شكهم، وفي ابتعادهم عن دين الله سبحانه وتعالى، وفيما طبع على قلوبهم من غشاوة وغلاف، فذرهم في ذلك واتركهم، ولا تحزن عليهم، فنحن سنحاسبهم ونعذبهم.
وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ) كلمة وعيد وتوعد من الله تعالى، وما جاءت هذه الكلمة في القرآن كله إلا بمعنى الوعيد، قال تعالى: (حَتَّى حِينٍ)، لو قال: (إلى حين) فقد يكون فيها شيء من المتاع، وشيء من الراحة، ولكن (حَتَّى حِينٍ) معناها: اصبر عليهم فسنريهم حتى يأتيهم العذاب أو حتى يأتيهم الموت فيحاسبهم الله سبحانه.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين بل لا يشعرون)
ثم يقول سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
قوله: (أَيَحْسَبُونَ)، قرأها نافع وابن عامر وحمزة وأبو جعفر: (أيحسِبون)، وقرأها باقي القراء: (أيحسَبون).
وقوله: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ) أي: هل تظنون أننا كلما أعطيناكم من مال وأمددناكم ببنين وذرية معناه: أنكم من أهل الخير وتستحقون الخير؟ هل هذا دليل على استحقاقكم عند الله يوم القيامة الجنة والنعيم؟ إن الدنيا قد يعطيها الله عز وجل من يحب ومن لا يحب، فعطاء الله للناس في الدنيا ليس دليلاً على أنه يعطيهم يوم القيامة أيضاً، بل قد يكون إملاء واستدراجاً لهم، ولهذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ)، أي: ما نعطيهم في هذه الدنيا، وقوله تعالى: (مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ)، فليس معنى هذا: أننا نسارع في إعطائهم الخيرات من أجل أن نعطيهم خيرات يوم القيامة، فهذه الخيرات معجلة لهم في الدنيا ولا خير لهم في الآخرة، فهم لم يحسوا أننا نملي لهم، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
وقوله تعالى: (بَل لا يَشْعُرُونَ) أي: فهم في غفلة، فالإنسان في غفلة وفي نوم حتى إذا مات استيقظ من هذا النوم، وقام من رقدته ومن غفلته، فالدنيا غفلة للإنسان وحلم من الأحلام، إذا مضى هذا الحلم وجاءه الموت واستيقظ يرى الواقع الأليم الذي كان عليه.(53/4)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بربهم لا يشركون)
ثم ذكر المؤمنين الصالحين الذين يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى بالعمل الصالح وقلوبهم وجلة، وما أكثر الصفات الحسنة في المؤمنين التي يذكرها الله عز وجل في كتابه، فيذكر في سورة بعضاً من الصفات وفي سورة أخرى بعضاً آخر منها، فبدأ هذه السورة بقوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:1 - 4]، إلى آخر ما ذكر، ثم ذكر صفات أخرى لهؤلاء المؤمنين في نفس السورة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، فالمؤمن يخشى ربه سبحانه، وقلبه ممتلئ خوفاً ووجلاً من الله سبحانه وتعالى، فيعمل الأعمال الصالحة وهو خائف ألا تقبل هذه الأعمال فكيف يكون حاله إذا عصى الله سبحانه! وما من إنسان إلا ويقع في معصية، مؤمن وغيره، والله عز وجل تواب رحيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
فهؤلاء المؤمنون يعملون الطاعة خائفين من الله عز وجل ألا يقبلها منهم، فهل يتخيل في هؤلاء أنهم يعصون الله وهم غير مشفقين؟! قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)، أي: خائفون وجلون من لقاء ربهم سبحانه ومن عذابه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، أي: أن العقيدة الإيمانية ملأت قلوبهم، فهم يؤمنون ويصدقون، ويعملون بما يعتقدون وبما يصدقون، ويعملون لليوم الآخر، ويعملون خوفاً من الله سبحانه وتعالى إيماناً به، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، فهم بربهم لا يشركون، فعبادتهم موجهة لربهم وحده لا شريك له، لا رياء فيها، ولا خوف من أحد إلا من الله سبحانه وتعالى، ولا يوجهونها إلى الله وإلى غيره، بل إلى الله وحده لا شريك له، فهم لا يشركون بالله في شيء من العبادات أبداً.(53/5)
تفسير قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، من الصفات الكريمة في الإنسان المؤمن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ)، أي: يعطون، فيعطون عملاً، ويعطون مالاً، ويعطون إخلاصاً ونية، ويعطون ويقدمون أعمالاً تكتبها الملائكة، فهم يعطون الأعمال والملائكة يكتبونها، فكل أعمالهم على الإخلاص وعلى التقوى، وهم كما قال الله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، أي: قلوبهم خائفة وخاشعة لله رب العالمين، (أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، فالمؤمن يعرف أنه راجع إلى الله، فمهما عمل من عمل ينظر أمامه: يا ترى هل هذا العمل موافق للكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ وهل هو موافق لمراد الله؟ وإذا كان موافقاً فهل هذا الذي أعمله أنا مخلص فيه أو لست مخلصاً؟ فهو يقدم العمل المتابع للكتاب والسنة وينظر في إخلاصه، وبعد ذلك يخاف ألا يقبل هذا العمل.
وقد جاء في حديث عند الترمذي وابن ماجة ما يوضح لنا هذا المعنى، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟)، أي: يؤتون ما آتوا من المعاصي وهم خائفون؟ هل هذا هو المعنى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون ألا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).
هذه هي طبيعة المؤمن، وهي فطرة الله سبحانه وتعالى، فقلبه قد عرف ربه، وصدق وآمن، فهو يخشى ربه، ففي قلبه الإيمان الذي عرفه بقدرة الله سبحانه، والناس ما قدروا الله حق قدره، والإنسان المؤمن يحاول أن يصل إلى درجات المعرفة واليقين العالية، فهو في خوف من الله سبحانه وتعالى، فيؤتي ما آتى، يصلي ولا يمن، ولا يقول: أنا صليت، وأنا سأدخل الجنة، بل يعطي زكاته ويتصدق بالصدقة ويعمل الخيرات ولا يركن إلى ذلك أنه قد نجا بهذا الشيء، فتراه يخاف ألا يقبل منه.
فإذا كان إبراهيم النبي المعصوم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وإسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقولان لله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، وهما يبنيان البيت الذي سيحج إليه الملايين من البشر إلى يوم الدين، وهذا يعني أنه (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها)، فالإنسان الذي يبني لله عز وجل مسجداً كلما صلى فيه إنسان كان له بهذا الذي بناه أجر، إذاً: سيكون أجر إبراهيم وإسماعيل ببنائهم هذا البيت من آلاف السنين ويحج إليه الملايين ويصلون فيه ما لا يحصيه من الأجور إلا الله، ومع ذلك يخافون من الله ألا يقبل منهما، فيقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، فالإنسان المؤمن يخاف من الله سبحانه ألا يقبل عمله، ويعمل العمل وهو ينظر إلى الآخرة أنه راجع إلى الله، فيخاف أن يموت على غير الإسلام، فيقول كما قال يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ذكر الملك الذي هو فيه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
فيوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام آتاه الله الملك والعلم والنبوة، وعلم تأويل الرؤى والأحلام، وآتاه الله عز وجل من فضله في الدنيا، وهو وليه سبحانه، دافع عنه، وكان معه حين طرده إخوته، ووضعوه في غيابة الجب، وحين أُخِذَ عبداً وحين نجاه الله سبحانه وتعالى، فجعله ولداً عند من أخذوه وربوه، وبعد ذلك صار عزيزاً لمصر عليه الصلاة والسلام.
مع كل ما أعطاه الله من النعم والأفضال يقول: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا)؛ لأن هذه الدنيا لا تساوي شيئاً، إنما المهم هي الآخرة، فثبتني على دين الإسلام حتى ألقاك عليه، وتوفني على الإسلام، قال تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
نسأل الله عز وجل أن يتوفانا مسلمين وأن يحلقنا بالصالحين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/6)
تفسير سورة المؤمنون [57 - 66]
بين الله عز وجل في كتابه صفات عباده المؤمنين من أجل أن يتصف بها المسلم، ويتخلق بها في حياته، ويظهرها في سلوكه، فوصفهم الله عز وجل بأعظم الصفات وأفضلها وأرقاها، فهم في خشية منه سبحانه، مؤمنون به، بعيدون عن الشرك، خائفون وجلون منه سبحانه، مع مسابقتهم بالخيرات بين يديه تقرباً إليه.
ومن رحمته سبحانه بخلقه أنه لم يكلفهم ما يشق عليهم، أو يوقعهم في الحرج، وإنما كلفهم ما يستطيعونه ويقدرون عليه، ومع هذه الرحمة منه سبحانه بعباده إلا أن الكفار بعيدون عن هديه ودينه، معرضون على شرعه وكتابه، لا يعرفونه إلا وقت الشدائد والأزمات.(54/1)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون أنهم إلى ربهم راجعون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:57 - 66].
أخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن صفات للمؤمنين ترفعهم عند الله سبحانه وتعالى.
ومن أهم هذه الصفات: الخشية من الله سبحانه وتعالى، والإيمان بآيات الله، وعدم الشرك بالله سبحانه، والخوف من عدم قبول الأعمال، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57]، أي: أنهم يخافون من الله سبحانه وتعالى، ويشفقون من لقائه.
فكل إنسان منهم يتهم نفسه في معاصيه لعلها لا تغفر له، ويتهم نفسه في طاعته لعلها لا تقبل منه، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) فهم قد عرفوا قدرة الله سبحانه، وعرفوا عذابه فكانوا مشفقين من عذابه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:58]، أي: أنهم صدقوا بكل ما جاء من عند رب العالمين سبحانه، وعملوا بمقتضى هذا التصديق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59]، أي: أنهم لما صدقوا لم يجعلوا مع الله إلهاً آخر يتوجهون إليه بالعبادة، ولم يشركوا في عبادتهم لله عز وجل شيئاً، ولم يراءوا ولم يسّمعوا بعملهم، وإنما عملوا لله مخلصين له في دينه.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، جاء في الحديث أن السيدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الذين: يُؤْتُونَ مَا آتَوا، قالت: (أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون وهم مشفقون خائفون من الله عز وجل؟ فقال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون).
فالإنسان المؤمن يصوم ويصلي ويتصدق ويفعل الطاعات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويخشى ألا يقبل منه ذلك فهو يخلص لله سبحانه وتعالى، ويتوجه إليه بالدعاء أن يستجيب له سبحانه، وأن يتقبل منه هذا العمل، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا) أي: أنهم عملوا أعمالاً سجلتها الملائكة، فآتوا الملائكة ما يكتبونه في الكتب التي بأيديهم.
وقوله: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)، أي: أنهم يعلمون أنهم سيرجعون إلى الله وسيقفون بين يديه، وأنه سيحاسبهم ويجزيهم سبحانه، فخافوا من ذلك.(54/2)
تفسير قوله تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات)
قال الله عز وجل يمدحهم: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، أي: ويسابقون فيها، والخير لا بد أن يسبق إليه الإنسان المؤمن، كما قال الله عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133].
فالإنسان المؤمن يسارع ويسابق إلى الخير، وأما الشر فهو بطيء عنه ومتباعد عنه، فلا يريد أن يقع فيه؛ لأنه يخاف من الله.
فأولئك المؤمنون (يسارعون في الخيرات) أي: في جميع وجوه الخير، وهذه عادة الإنسان المؤمن أنه يحاول أن يحصل الطاعة من كل وجوهها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإذا قدر أتى بالفريضة، والنافلة، وأتى بكل ما أمر الله عز وجل به ما استطاع سبيلاً إلى ذلك، فهو يسارع في الخيرات، ويخشى أن يسوف.
وأما الإنسان طويل الأمل فإنه يبدأ ويقول: غداً سوف أصلي وغداً سوف أصوم وغداً سوف أتوب وغداً سوف أعمل كذا، ثم لا يأتي غداً هذا الذي يزعمه، وقد يأتي عليه الموت قبل أن يتوب، وأما الإنسان المؤمن فإنه يسارع؛ لأنه لا يدري ما الذي سيحدث له بعد ذلك، فهو يفعل الخير الذي نواه، ولا يؤجله، فلعله يموت قبل أن يفعله، وإن كانت نية الخير يؤجر عليها، ولكن فرق بين من نوى وعمل، وبين من نوى ولم يعمل.
والإنسان الذي يعمل تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضاعفة مما يشاء الله سبحانه، وأما الذي نوى ولم يعمل فلعل الذي منعه عن العمل بخله بالطاعة، فتكون لا له ولا عليه، ولعل الذي منعه شيء من قدر الله سبحانه وتعالى ولو استطاع لفعل، فهذه يأجره الله عز وجل وقد يضاعف له، ولكن ليست المضاعفة للإنسان الذي نوى وعمل كالمضاعفة للإنسان الذي نوى ولم يعمل، والأمر إلى الله سبحانه يفعل ما يشاء.
فالإنسان المؤمن يحرص على ألا تضيع منه طاعة من الطاعات، وألا يضيع عليه أجر من الأجور، فهو يسارع ويسابق بالخير كي يملأ كتابه عند ربه سبحانه من الثواب ومن الحسنات، كما قال تعالى: (أُوْلَئِكَ)، أي: المؤمنون (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، أي: سبقت لهم من الله عز وجل السعادة فسارعوا في الخيرات، وقالوا: معناها: هم من أجل الخيرات سابقون فهم مسابقون لغيرهم، وسابقون لهم في الطاعة، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] قال تعالى: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، أي: لجنة رب العالمين هم من السابقين الذين يحرصون على ذلك، فسبقوا غيرهم، وسبقت لهم من ربهم الحسنى، فهم سابقون.
وقد قال الله عز وجل عن هؤلاء: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا} [الأنبياء:101]، أي: عن النار، {مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101].(54/3)
تفسير قوله تعالى: (ولا نكلف نفساً إلا وسعها)
قال الله سبحانه: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [المؤمنون:62].
لما ذكر الله عز وجل الخيرات والمسارعة إليها فلعل الإنسان يقول: لا أطيق أن أفعل كل شيء، فالله عز وجل يقول له: لا يكلفك الله كل شيء وأنت لا تقدر عليه، ولكن افعل ما استطعت، فما تستطيع إليه سبيلاً فافعله وسارع إليه، كما قال تعالى: (وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
فلا يكلفك الله عز وجل من العمل إلا ما تطيق، بل دون ما تطيق، وكل ما فرضه عليك فهو أقل مما تطيق، وانظر مثلاً إلى الصلاة، فقد كلفك الله عز وجل بخمس صلوات في اليوم والليلة، فأنت تصلي في اليوم والليلة خمس صلوات، سبع عشرة ركعة، وأنت تصلي معها نوافل اثنتي عشرة ركعة وزيادة، فأنت تطيق أكثر مما فرض الله سبحانه وتعالى عليك، وقد يقوم الإنسان من الليل قياماً طويلاً وهو يطيق هذا القيام، ويأتي رمضان على الإنسان فيصلي التراويح، ويصلي التهجد، ويصلي الفريضة، ويصلي نوافل بالليل وبالنهار، فهي صلوات كثيرة يطيقها الإنسان، والله عز وجل لم يكلفك كل هذا، وإنما كلفك بخمس صلوات في اليوم والليلة، وأما الباقي فهي نافلة إن شئت فعلت، وإن شئت لم تفعل، فالله سبحانه فضله عظيم، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وفي الإنفاق يأمرك أن تنفق، فتبدأ بالنفقة الواجبة عليك، فيقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: (أبدا بنفسك، ثم بمن تعول)، فلست مكلفاً بأن تعطي كل العائلة مالاً إذا كنت لا تملك شيئاً، بل لا تعط أحداً حتى تبدأ بنفسك أنت.
فإن كان معك أكثر من ذلك فإن عليك أن تعول أولادك، وزوجتك، وخادمك، وأمك وأباك، فتبدأ بالأهم وبعد ذلك بالمهم وهكذا، فتكلف في الإنفاق أن تنفق بقدر الواجب الذي عليك، وإذا فرض الله عليك الزكاة كلفك أن تخرج ما لا يشق عليك، وقد شرعت الزكاة للرفق والمواساة، فكانت الزكاة مبناها على أمر الرفق بالمعطي الغني الذي يعطي هذه الزكاة، والمواساة للإنسان الفقير، من غير أن تضر بمالك، فجعلت الزكاة في الذهب والفضة ربع العشر، أي: اثنين ونصفاً في المائة، وهو شيء يسير لا يشق عليك، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
وأما زكاة الزروع والثمار إذا كانت تروى بالسقي وبالتعب منك فإن الواجب في ذلك نصف العشر، وأما إذا كانت تسقيها الأمطار ولا تتعب فيها فإن الواجب في ذلك العشر، والواحد من العشرة أو الواحد من العشرين شيء يسير، فالله عز وجل بفضله وبكرمه جعل الإنفاق الواجب عليك شيئاً يسيراً وليس شيئاً كثيراً.
وعندما أمرك أن تحج إلى بيته الحرام لتطيع الله وتوحده سبحانه، وتقيم الشعيرة الذي نادى إليها إبراهيم، فإنه لو شاء لجعله واجباً عليك كل سنة، ولكنه جعل الحج والعمرة في العمر كله مرة واحدة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألوه عندما قال: (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا قالوا: أكل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم) إلى آخر الحديث، فجعل الحج والعمرة مرة واحدة، وهذه المرة الواحدة أيضاً مقيدة بالاستطاعة والقدرة، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97].
وهكذا في كل طاعة لله سبحانه لا يُكلف الإنسان ما يشق عليه فيستحيل أن يفعله، وإنما يكلف بالشيء الذي قد يكون فيه شيء من الجهد والتعب حتى يؤجر، وهو أيضاً يقدر على ذلك، ويقدر على ما هو أشبه به.(54/4)
تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)
ولكن كأن الكتاب الذي ينطق عليك بالحق يكون يوم القيامة، تأخذه من صحيفة الحسنات وصحيفة السيئات.
قال سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63]، يعني: هؤلاء الذين أشركوا بالله وكذبوا الرسول صلوات الله وسلامه عليه معرضون عن الكتاب، ومعرضون عن نصح ربنا ونصح نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقلوبهم في غمرة، أي: مغمورة، تقول: هذا الغمر مغطٍ وجه الأرض، فالقلوب مغطاة، أي: عليها أغلفة وحجب وعماء، فهم في عماء وفي غطاء وفي غفلة وفي عماية عن القرآن، وعن هذا النصح الذي في كتب الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ).
فقلوب هؤلاء المشركين وقلوب هؤلاء الفجار والعاصين في حيرة، وفي عمى عما وصف الله عز وجل من أعمال البر، فهم عنها معرضون، فيسمعون الأمر بالصلاة ولكن القلوب غافلة، وليست حاضرة، ويسمعون الأمر بالصيام ويرون الناس صياماً في رمضان وهم مفطرون يشربون السجائر ولا يريدون أن يصوموا.
فقلوبهم في غفلة، وهم غافلون عن العقوبة التي تكون يوم القيامة وغافلون عن عذاب الله سبحانه وتعالى، وهنا يخبرنا سبحانه: أن لهم أيضاً أعمالاً من دون ذلك.
فالقلوب في غفلة عن الثواب، وهم معرضون عن الأعمال الصالحة، وأعمالهم دون الصلاح، أي: أنها من الأعمال الفاسدة والرديئة، يعني: ولهم أعمال في المعاصي رديئة وقبيحة أيضاًَ يفعلونها.
فهم في إعراض عن الطاعة وعن الصلاة وعن الصوم، وعن الأفعال التي يتسابق بها المؤمنون إلى الله عز وجل، فهؤلاء العصاة في غفلة عن ذلك، وزيادة على ذلك هم في معاص وذنوب وأعمال دون ذلك.
(هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: من معاص ونحو ذلك، فلهم خطايا قد سجلها الله عز وجل وكتبها عليهم قبل ذلك.
قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: نحن نعلم أنهم سيعملون معاصي، وقد كتبنا ذلك عندنا، وسيفعلون ما قلناه، فيقعون في المعاصي يوماً من الأيام فقوله: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ)، أي: سيعملونها.(54/5)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون)
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64].
والإنسان المترف: هو المنعم، فتنعم الإنسان في الدنيا مدعاة إلى الترف، ومدعاة إلى البعد عن الله، فتجد المنعم المرفه ينام الليل ولا يقوم لصلاة الفجر؛ لأن السرير أحلى عنده من أن يقوم لله سبحانه وتعالى.
فهم مترفون قد أترفوا بالنعم التي من المفروض على الإنسان أن يشكر الله عز وجل عليها، وأن يقدرها بالشكر، وأن يقدم العمل الصالح الذي يوفقه الله عز وجل به لأن يدخل الجنة، ولكن هؤلاء لا يشكرون الله على نعمه، بل يعرضون عنه، ومنهم المشركون الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما رأوا أن الله عز وجل أنعم عليهم بالنعم أشركوا في عبادته وعبدوا غيره سبحانه، وجعلوا بهيمة الأنعام قسمين: فقسم لله وقسم لآلهتهم، فما كان لله فإنه يصل إلى آلهتهم، وما كان لآلهتهم فلا يجعلونه لله ولا يصل إلى الله.
فهؤلاء المشركون لما أنعم الله عز وجل عليهم عبدوا غيره، فإذا جاءتهم البأساء والضراء يدعونه وحده سبحانه وتعالى، فلما تعنتوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ربه سبحانه فقال: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، أي: مثل السنين التي أصابت أهل مصر، أي: سبع سنوات عجاف، فطلب من ربه أن يضيق عليهم، لكي يرجعوا إليه، فقد كانت عادتهم أنهم في وقت الرخاء يشركون، وفي وقت البلاء يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك، كما فعل بنو إسرائيل مع موسى، وكما فعل فرعون مع موسى.
قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، والعذاب هنا هو العذاب الدنيوي؛ لأن العذاب الأخروي لن يرجعوا منه مرة أخرى، وأما في الدنيا فقد يتوبون ويرجعون إلى الله عز وجل، فيكشف عنهم العذاب، وأما يوم القيامة فلا كشف للعذاب عن هؤلاء.
قالوا: والمقصد من هذا العذاب -أي: ما كان من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم- هو ابتلاؤهم، فإذا بهم يجأرون، أي: يصرخون ويضجون ويستغيثون ويرفعون أيديهم لربنا ليكشف عنهم هذا البلاء الذي هم فيه، فقد ابتلاهم الله عز وجل بالقحط، وبالجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف والجلود، فما وجدوا شيئاً إلا وأكلوه.
فلما اشتد عليهم الأمر ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلسوا يبكون ويطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وكان رحيماً صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه سبحانه أن يكشف عنهم هذا العذاب، وقد ذكر الله عز وجل في سورة الدخان أنه سبحانه وتعالى أرسل عليهم هذه الشدة العظيمة، وبعد ذلك قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سترجعون وتكفرون مرة ثانية، وفعلاً رجعوا إلى ما كانوا عليه ولم يدخلوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكأن هذه الآية إشارة إلى ذلك، وفصلها في سورة الدخان.
قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، أي: بالعذاب في الدنيا، سواء ما كان من القحط الذي نزل عليهم، أو ما كان من القتل بالسيف في يوم بدر، وقتل رؤسائهم، فإذا هُمْ يَجْأَرُونَ، أي: الذين بقوا يجأرون ويضجون إلى الله عز وجل.(54/6)
تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون فكنتم على أعقابكم تنكصون)
قال سبحانه: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65]، أي: إذا جاء عليكم العذاب فلن تقدروا أن تمتنعوا من بطشنا ومن عذابنا.
(إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ)، وكأن المعنى: أن هؤلاء الذين قتلوا لا أحد يجيرهم، ولذلك وقف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم في قليب بدر يناديهم صلى الله عليه وسلم: (يا عتبة بن ربيعة! ويا شيبة بن ربيعة! ويا وليد بن عتبة! ويا أبا جهل بن هشام هل وجدتهم ما وعد ربكم حقاً؟ فيقول له عمر: ما تسمع من أجساد قد جيفت -يعني: لا تسمع قولك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع منهم)، فالله عز وجل أسمعهم ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد وجدوا ما وعد ربهم حقاً ولم يعد لهم الآن توبة ولا شيء، فقد صاروا أمواتاً، وصاروا إلى النار.
وأما هؤلاء الأحياء فرجعوا يتعنتون، وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في يوم أحد، ثم رجعوا بعد ذلك في الخندق، إلى أن أعز الله عز وجل جنده، وقال لهؤلاء: (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ)، أي: لا تصرخوا، ولا تستغيثوا.
(إِنَّكُمْ مِنَّا) أي: من عذابنا (لا تُنصَرُونَ) قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:66 - 67]، أي: قبل ذلك -قبل أن ينزل عليكم هذا العذاب بالقتل وبغيره- كانت تتلى عليكم هذه الآيات، (فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)، أي: تعرضون عن سماع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ملأ الكبر قلوبهم، وجعلهم يعرضون عن سماع ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الاستفادة منه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/7)
تفسير سورة المؤمنون [63 - 67]
ذكر الله عز وجل في هذه الآيات أن قلوب الكافرين في غفلة وضلالة عن الدين، وأن الله عز وجل عندما ينزل عليهم العذاب يوم القيامة إذا بهم يستغيثون به أن يكشف عنهم ما هم فيه، فاستغاثتهم بالله أن يرفع عنهم العذاب لا تنصرهم من عذاب الله؛ لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين على الحق تاركين له وراء ظهورهم.(55/1)
تفسير قوله تعالى: (بل قلوبهم في غمرة من هذا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:63 - 69].
في هذه الآيات من سورة المؤمنون يقول الله عز وجل عن الكفار المشركين الذين لم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما بين لهم من الآيات وما دعاهم إليه من الهدى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون:63] أي: قلوبهم في غفلة وعماية وضلالة من هذا التذكير ومن هذا الدين الذي جئت به، ولهم أعمال قبيحة من دون ذلك، كطعنهم في القرآن وطعنهم في النبي صلوات الله وسلامه عليه، و (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) أي: قد عرفها الله عز وجل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا تيأس من هؤلاء وادعهم إلى الله عز وجل، ولا تحزن عليهم إذا أخذهم عذاب رب العالمين سبحانه، فهم على ما عملوا في كفرهم وإعراضهم سيعملون أعمالاً أخرى قبيحة.(55/2)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون)
قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64] والمترفون من الناس هم المنعمون، وهؤلاء أكثر الناس عدم استجابة لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فكلما كانوا في دعة وفي رغد من العيش وفي علو في المناصب كلما كان إعراضهم أشد وبعدهم عن الدين أكثر، فهم فيما نعمهم الله عز وجل فيه مبسوطون بهذا الشيء مسرورون به، لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا ينقص شيئ في هذه الدنيا من رئاستهم وعلوهم، فالله عز وجل يملي لهم حتى إذا أخذهم لم يفلتهم.
ومعنى قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي: كلما يأتيهم العذاب من عند الله سبحانه في أي صورة من صوره كالقتل في يوم بدر وغيرها من أيام نصر المؤمنين عليهم فأخذهم الله عز وجل بهذا العذاب.
قال تعالى: ((إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)) أي: كلما أتاهم شيء من عذاب الله عز وجل فإنهم يصرخون ويضجون ويستغيثون أن يكشف عنهم هذا العذاب مع أنهم في كفرهم وضلالهم.(55/3)
تفسير قوله تعالى: (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون)
قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65] وهم يصرخون ويستغيثون الله عز وجل فيقال لهم: لا تصرخوا ولا تجأروا ((إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ))، وحين أراد الله عز وجل أن يعذبهم وأن يأتي نصر الله عز وجل للمؤمنين يجأر الكافرون ويستفتحون ويدعون ربهم: اللهم من كنت غضبت عليه منا فأته بهذا العذاب، اللهم أقطعنا للرحم، يقصدون النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يأت بقطيعة الرحم عليه الصلاة والسلام، وإنما هم بإعراضهم وتكذيبهم هم الذين صنعوا بأنفسهم ذلك، فقد جاء ليصل الأرحام عليه الصلاة والسلام، وهم كانوا يعترفون بذلك أنه جاء يأمرهم بصلة الأرحام، وبالصلاة، ويأمرهم صلوات الله وسلامه عليه بالإنفاق على ذوي القربى، ويأمرهم بالزكاة، ويأمرهم بالخير كله عليه الصلاة والسلام، عرفوا ذلك ومع ذلك يقولون: هو أقطع الناس للرحم صلوات الله وسلامه عليه، قال لهم ربنا لما جاءهم العذاب: لا تجأروا، لا تصرخوا اليوم (إنكم منا) أي: من عذابنا (لا تنصرون).(55/4)
تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون)
قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:66] والمعنى: أنهم كانوا يعرضون فلا يسمعون للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يغطون وجوههم حتى لا يروا النبي صلى الله عليه وسلم فيعرضون عنه.
ومعنى (ينكصون) أي: يرجعون ويتقهقرون إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله تعالى، فيبتعدون عنه صلى الله عليه وسلم، ويرجعون على ظهورهم.(55/5)
تفسير قوله تعالى: (مستكبرين به سامراً تهجرون)
قال الله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] هؤلاء المشركون كانوا يستمعون إلى القرآن ولكن لا يريدون أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن عظيم، وهم يعرفون ذلك، وله حلاوة، وهم يحبون أن يستمعوا إلى حلاوة القرآن، أما أن يؤمنوا به، فهم يسمعون القرآن لجماله لا أنهم يريدون أن يدخلوا في الدين، فإذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لا يفعلونه؛ لأنهم هم الذين يأمرون وينهون، ولذلك كانوا يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم صادق أمين عليه الصلاة والسلام لا يكذب، ويقول أبو جهل: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا كنا وهم قاب قوسين أو أدنى قالوا: منا نبي، وأنى لنا ذلك! فالأمر أمر عناد واستكبار من أن يكونوا أتباعاً لبني هاشم.
وكانوا يقولون كما ذكر الله عنهم: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] أي: أنزل هذا القرآن على محمد من بني هاشم عليه الصلاة والسلام ولم ينزل على الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أو على غني آخر من أغنياء قريش.
ومعنى ذلك: أنهم لم يتبعوه ولم ينظروا إلى الحق الذي جاء به وإنما نظروا إليه صلى الله عليه وسلم أنه أفضل منهم فلم يدخلوا في الدين، فربنا سبحانه وتعالى أخبر عن حال هؤلاء أنهم نكصوا عن دين الله وتراجعوا القهقرى، ولم يدخلوا دين الله، مستكبرين بالمكان الذي هم فيه، فهم أهل الحرم، فإذا جاء وقت الحج خرج الناس إلى عرفة، وعرفة من الحل، أما هم فلا يصعدون جبل عرفة؛ لأنهم أهل الحرم فهم مميزون على غيرهم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفيض هو ومن معه من هؤلاء القرشيين من حيث أفاض الناس، فيخرجون من الحرم إلى الحل -وهو جبل عرفات- ثم يرجعون إلى مزدلفة ومنى فيجمعون في الحج بين الحل والحرم، فالكفار كانوا يعتقدون أنهم أعظم الناس حرمة، وأن لهم حقوقاً على الناس، وأن الناس أتباع لهم وليسوا أتباعاً لأحد، هذا مع بعدهم عن دين الله عز وجل وعبادتهم للأصنام من دون الله سبحانه، فهم يستكبرون عن آيات الله لأنهم أهل الحرم، والمفترض أن الذي يعيش في الحرم يتواضع لأنه في هذا المكان الأمين العظيم الذي فيه بيت الله عز وجل.
وقوله تعالى: (سَامِرًا تَهْجُرُونَ) (سامر) تأتي مفرداً وجمعاً، وهي بمعنى: سمار، والسمر: هو حديث الليل في ضوء القمر، ويتسامرون أي: يجلسون ويتكلمون بالليل في أمور دنياهم، ومنه الأسمر، وهو لون بين الأسود والأبيض كلون القمح والحنطة، فالكفار يتسامرون في الليل ويطعنون ويسبون النبي صلى الله عليه وسلم، فهم مستكبرون بالحرم وساهرون بالليل يهجرون.(55/6)
القراءات في قوله تعالى (تهجرون)
وقوله تعالى: (تَهْجُرُونَ) فيها قراءتان: قراءة نافع المدني: (تُهجرون)، وقراءة باقي القراء: (تَهجرون)، و (تُهجرون) من أهجر، ومنه الهُجر في الكلام بمعنى: الفحش والكلام القبيح، فهم يتكلمون بالفاحش من القول والقبيح من الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم، و (تهَجرون) من الهجر، أي: قطيعة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ومنه الهجرة أي: قطع هذا الشيء وانتقل عنه إلى غيره، فهم يقاطعون النبي صلى الله عليه وسلم، أو من الهجر بمعنى الهذيان والتخريف، يقال: المريض يهجر، بمعنى: يخرف، و (سامراً تهجرون) أي: يخرفون كهذيان المريض ويخلطون في الكلام، وكانوا يسهرون ويقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مجنون، وهذا القول من خرافاتهم وأكاذيبهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه ليس بمجنون صلوات الله وسلامه عليه، ويقولون عنه: ساحر، وأنه جاء بقطيعة الرحم وأنه كذاب، فيخلطون في الأقوال، والإنسان المجنون لا يميز بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ، وهؤلاء لا يميزون في كلامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يهجرون أي: يهجرون ويخرفون في القول ويتكلمون بالفحش في النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الكلام في الليل، وكأنه من عادة المشركين، فهم يسهرون الليل من أجل أن يتكلموا في حقوق الناس أو ينشئوا الأشعار مثلاً.(55/7)
كراهة السمر في الليل
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67] والليل قد جعله الله عز وجل محلاً للنوم، فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47]، فالنهار للاستيقاظ والليل وقت للنوم، أو إذا قمت بالليل فصل واعبد ربك سبحانه وتعالى، وليس الليل محل السمر، إلا الإنسان العاصي البعيد عن الله وعن طاعته، فـ ابن عباس رضي الله عنهما ذكر في هذه الآية أن الله تعالى ذم أقواماً يسمرون في غير طاعة الله عز وجل، إما في هذيان وتخريف وكلام فارغ، أو في أذى وطعن وتدبير مكائد للناس.
وكان سليمان بن مهران الأعمش من علماء وفقهاء التابعين ومن المحدثين كان يقول: إذا رأيت الشيخ ولم يكتب الحديث فاصفعه فإنه من شيوخ القمر، ومعنى كلامه: أنه لا يستحق الاحترام وإنما يستحق الضرب على قفاه؛ لأنه ضيع عمره وحياته في السهر بالليل للكلام والهذيان والتخريف حتى جاء في آخر حياته ولم يعرف شيئاً من سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان بعض العلماء يجتمعون في ليالي القمر فيتحدثون مع الخلفاء والأمراء ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ، فيحسنون كل شيء إلا أمر دين الله تعالى.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي برزة الأسلمي قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبله والحديث بعده)، ومعنى ثلث الليل: أن الليل من المغرب إلى الفجر يقسم أثلاثاً، فالثلث الأول كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فيه صلاة العشاء أحياناً وليس دائماً، وكان يخشى أن يشق على أصحابه صلى الله عليه وسلم من التأخير، وكان يحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبل صلاة العشاء لأنه سيضيع صلاة العشاء، ويكره الحديث بعدها وهو السمر والسهر، فمن صلى العشاء وأوتر ثم نام فقد غفر الله عز وجل له في نومه.
فالإنسان الذي يسهر بعد صلاة العشاء في غير عمل صالح فإنه يجلب على نفسه ذنوباً بالسمر واللهو، والطعن في أعراض الناس بالغيبة والنميمة، ولذلك لا ينبغي للإنسان أنه يسمر إلا أن يكون في مدارسة العلم وفي طاعة الله عز وجل.
يقول العلماء: وأما الكراهية للنوم قبلها فلئلا يعرضها للفوات عن كل وقتها أو عن أفضل وقتها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: فمن نام قبل العشاء فلا نامت عيناه، وهذا دعاء على الذي ينام قبل العشاء ويضيع صلاة العشاء.
والله عز وجل يمحو عن المحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها خطاياه، فقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها،) يعني: الذنوب، ولا يزال الإنسان على ذلك حتى يصلي صلاة العشاء، والله عز وجل يذهب عنه من الخطايا ومن الذنوب، فالمفترض بعد ذلك إذا كان ربنا كفر عنك السيئات فلا تعمل سيئات جديدة باللهو وبالكلام الفارغ بعد العشاء.
كذلك السهر إلى ساعة متأخرة من الليل كما يحدث عند كثير من الناس أنهم يسهرون إلى الساعة الثانية عشرة أو الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل، ثم بعد ذلك ينامون فيضيعون صلاة الفجر ويستيقظون بعد شروق الشمس ثم يصلون صلاة الصبح، فيضيعون على أنفسهم الفضيلة ويكتسبون من الآثام، فكره النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بعدها لما يجر هذا الحديث إلى تضييع العبادة واكتساب المآثم.
فإذا ذهب إنسان إلى آخر بعد العشاء لحاجة من الحاجات فلا يطول عليه السهر فيضيع عليه وقته، فلا يستطيع أن يقوم من الليل، ولعله يضيع على نفسه صلاة الفجر، فاحرصوا على أوقاتكم، وكل إنسان مسلم يضن بوقته أن يضيعه في لهو ولعب ولغو، فإن الأوقات محسوبة عليك، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فإن لم تقطع وقتك بأخذ الثواب فاتك هذا الوقت ولن يرجع إليك مرة ثانية، فلذلك اجعل لنفسك في يومك وقتاً يكون لذكر الله عز وجل من نوافل وغيرها، واعمل لنفسك وقتاً لطلب العلم ولقيام الليل، ولا تضيع وقتك ووقت غيرك، فالوقت بعد العشاء إما أن يكون للنوم، أو لذكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كنت في ذلك فهذا خير، وإذا كنت في غير ذلك فلا.
والدليل على جواز السمر بعد العشاء لذكر الله عز وجل ونحوه: ما جاء من أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي إليه بعض أصحابه أحياناً ويجلسون عنده جزءاً من الليل، كـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد جاء حديث طويل في ذهاب أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودروسه معه بالليل ثم رجوعه إلى بيته.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/8)
تفسير سورة المؤمنون [64 - 71]
يخبر الله سبحانه في هذه الآيات أنه إذا أخذ المنعمين المترفين بعذاب من عنده سبحانه إذا بهم يصرخون ويستغيثون ويضجون، لكن ذلك لن ينفعهم؛ لأنهم كفروا بالله وأشركوا معه غيره، ولن يستطيع أحد على نصرتهم، فقد كانوا يسمعون آيات الله من النبي صلى الله عليه وسلم فيرجعون القهقرى ويبتعدون عنه حتى لا يسمعوا القرآن، وهم مع ذلك يستكبرون بمكانهم ومحلهم الذي هو مكة، ويتسامرون بالكلام القبيح الذي فيه طعن في النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الله نعى عليهم عقولهم حيث إنهم كانوا يسمعون القرآن ولا يفهمونه ولا يتبعونه.(56/1)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون إنكم منا لا تنصرون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:64 - 71].
يخبرنا الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات عن المكذبين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم فجعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم، كالذين من قبلهم لما كذبوا المرسلين أتاهم العذاب من عند رب العالمين.
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} [المؤمنون:64]، أي: المنعمين منهم، {بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64]، والعذب الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عذاباً عاماً؛ لأن الله سبحانه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ولكن كان عذاباً لمجموعة من الناس بالقتل، قالوا: إنه لم يمنع عنهم المطر ولم يصابوا بالقحط، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وقال: (اللهم أعني عليهم بسبع كسني يوسف)، فلما جاءهم مثل هذا العذاب جأروا لله عز وجل، ودعوا واستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم الذي هم فيه، كما ذكر الله عز وجل في سورة الدخان: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:15 - 16]، فقد أخبر أنه سيرفع عنهم العذاب قليلاً من قحط وعدم نزول المطر، ومن جوع، ومن شدة، حتى يرجعوا ويؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عز وجل أخبر عنهم، {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: إلى غيكم وإلى ضلالكم ولن ينفعكم ذلك.
وهنا قال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64] أي: يصرخون ويضجون، ويستغيثون.
قال سبحانه: {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} [المؤمنون:65]، وهذا فيمن كتب الله عز وجل عليهم الشقاوة، وأنهم سيعيشون على الكفر ويموتون عليه، فمنهم من قتل يوم بدر ومنهم من أخذه الله عز وجل بعد ذلك.(56/2)
تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم مستكبرين به سامراً تهجرون)
قال سبحانه مبكتاً لهؤلاء: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون:66]، يعني: كنتم لا تستمعون لهذا القرآن ولا لهذه الآيات، ولا تعتبرون بها، بل ترجعون القهقرى فتتأخرون وتبتعدون عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تستمعوا لما يقوله عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67]، يعني: بمساركم، أو بمحلكم، أو بالمكان الذي أنتم فيه وهو مكة، متعالين لأنكم أهل الحرم وأنكم أفضل من غيركم، وكان ينبغي لهؤلاء وإن كانوا أهل الحرم وقد جاءهم ذكر من الله سبحانه، أن يفتخروا بالقرآن العظيم، وكان المفروض عليهم أن يتبعوا القرآن العظيم الذي نزل من عند رب العالمين، ولكن كان حالهم أنهم (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً)، (سامراً) مفرد جمعها: سمار، أي: تتسامرون، فقد كانوا يسهرون الليل ويقولون الأقوال القبيحة يؤيدون بها ما هم عليه من باطل، ويردون ويطعنون على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقوله: (تهجرون)، أي: تتكلمون بالقبيح من القول، فقال: إنكم بالليل تسهرون لتكيدوا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطعنون فيه، فأنتم تهجرون، وكذلك تتكلمون وتهرفون بما لا تعرفون، فأنتم تهجرون، وتتكلمون بكلام الهجر الذي فيه الهذيان.(56/3)
حكم السمر بعد العشاء
لقد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمر بعد العشاء، فإذا صليتم العشاء فإما أن تناموا وإما أن تدعوا ربكم، وإما أن تصلوا، لكن الإنسان الذي يسهر ويلهو ويضيع وقته بعد العشاء فهذا لا ينبغي، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر العشاء إلى ثلث الليل ويكره النوم قبلها والحديث بعدها)، فإن الإنسان إذا نام قبل العشاء لعله يغلبه النوم فلا يقوم لصلاة العشاء، وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الإنسان آخر عمل يعمله هو صلاة العشاء، والملائكة قد كتبت هذه الصلاة، وهذه الصلاة كفارة لذنوبه التي بين الصلاتين، فلا ينبغي أن يلهو بكلام تكتب عليه بسببه ذنوب مرة أخرى، فالإنسان لا يزال في المباح حتى يقع في المكروه وحتى يقع في الحرام، فعلى ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسامرة بعد العشاء.
والكراهية للحديث بعدها إلا أن يكون في ذكر الله عز وجل وفي قراءة القرآن، وفي مدارسة العلم وتعليمه، وفي مصالح المسلمين فهذا جائز، والسهر بالليل للحراسة في سبيل الله عز وجل مباح بل فيه أجر عظيم، فقد جاء عند الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)، والليل وإن كان وقتاً للنوم لكن هذا في طاعة لله عز وجل وفي حراسة بلاد المسلمين، فله أجر عظيم على ذلك، وآخر قام يصلي ويبكي من خشية الله سبحانه وتعالى، وليس مقيداً بالليل بل إن بكى بالليل أو بالنهار فله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
وجاء في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس بسادس)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم: وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر الصديق ذهب بهم بعد العشاء، وأهل الصفة كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد شيئاً أرسلهم إليه كجهاد ونحوه، وكانوا فقراء، يأتي وقت العشاء وليس عندهم ما يأكلون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه الذي عنده طعام واحد يأخذ معه ثانياً، والذي عنده طعام اثنين يذهب معه بثالث، والذي عنده طعام ثلاثة يذهب معه برابع وهكذا.
فـ أبو بكر الصديق أخذ ثلاثة وانطلق بهم إلى بيته رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عشرة ليطعمهم صلوات الله وسلامه عليه، قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم لبث حتى صلى العشاء ثم رجع فمكث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، يعني: كأن أبا بكر الصديق تعشى قبل صلاة العشاء، وبعد ذلك صلى العشاء ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمكث مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد: أنه كان يسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم في طاعة وذكر وحاجات المسلمين، ففي مثل ذلك يجوز للإنسان أن يسهر بالليل، أما السمر من باب اللهو فلا، لكن من باب ذكر الله عز وجل، ومن باب الإعانة على الطاعة، فهذا جائز.
فـ أبو بكر سهر عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم فقام وانصرف، وكان قبل ذلك قد ذهب بثلاثة من أهل الصفة إلى بيته ليتعشوا.
فجاء أبو بكر رضي الله عنه بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما أخرك عن أضيافك؟ قال: أوما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء قد عرضوا عليه فغلبوهم، أي: كأنهم استحيوا ألا يأكلوا وأبو بكر الصديق غير موجود، فرفضوا أن يأكلوا في بيته حتى يأتي أبو بكر، وكان المفترض طالما أنه أخذهم للعشاء أن يأمر أهل البيت أن يعشوهم فيتعشوا وينصرفوا، ولكن رفض الضيوف حتى يأتي أبو بكر رضي الله عنه.
وفي لفظ في صحيح البخاري أن أبا بكر رضي الله عنه غضب من ذلك: لماذا تحرمونا من الأجر والثواب؟ ولماذا لم تأكلوا حتى هذا الوقت؟ فغضب أبو بكر وأمرهم أن يأكلوا، فحلفت امرأته ألا تطعم الطعام حتى يطعم، كأنها غضبت لغضب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فحلف أبو بكر ألا يأكل من الطعام، والأضياف حلفوا ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر، وكأن الضيوف لهم وجهة نظر وهي أنهم لو تعشوا لربما أكلوه كاملاً فيرجع أبو بكر وهم لم يتعش فلن يجد شيئاً، فانتظروا حتى يتعشوا هم وأبو بكر، فحلف أبو بكر ألا يأكل وحلفت المرأة ألا تأكل حتى يأكل أبو بكر، وحلف الأضياف ألا يأكلوا حتى يأكل أبو بكر رضي الله عنه، لقد حلف مغضباً رضي الله تبارك وتعالى عنه بسبب الذي فعلوه، ولكن مع ذلك الرجوع للحق أحق، فلما حلف الجميع ألا يأكلوا قال: أكفر عن اليمين ونأكل، فأكل معهم رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
وربنا سبحانه وتعالى قال لنا في القرآن: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، فتجعل يمينك بالله عرضة وصادة عن فعل الخير فتمتنع من الخير وتقول: لقد حلفت، بل كفر عن اليمين وافعل الخير ولو حلفت.
والمقصود أن أبا بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه أكل فأكلت المرأة وأكل الأضياف، وهنا كان العجب! قال: فجعلوا يأكلون وجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ظهر من أسفلها أكثر منها، فكانت بركة من الله عز وجل لـ أبي بكر رضي الله عنه، جزاء ما أخذ الأضياف ليأكلوا معه وحلف ألا يأكل ثم كفر عن يمينه وأكل معهم، فقال لامرأته: يا أخت بني فراس! ما هذا الذي حصل؟ فقالت: وقرت عيني إنها الآن لأكثر قبل أن نأكل منها، فأكلوا وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منها، فكانت من الله عز وجل بركة عظيمة أن يأكل أبو بكر ومن معه والطعام لا ينفد.
والشاهد من الحديث: أن أبا بكر كان يسهر عند النبي صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه، حتى يقوم النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم أبو بكر ويرجع إلى بيته رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا قيد للنهي عن المسامرة بعد العشاء فهي جائزة في مدارسة العلم والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك، أما في اللهو واللعب فهذا لا ينبغي.(56/4)
تفسير قوله تعالى: (أفلم يدبروا القول)
قال الله سبحانه وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، وهنا ينكر على المشركين وينعي عليهم أين عقولكم؟ هذا القرآن الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه، وكانوا يستمعونه ويقولون: إنه كلام جميل، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، فهل كان استماعهم لهذا القرآن العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم مجرد استماع كالذي يستمع لأغنية فتعجبه ولا ينتبهون لما يقول؟ فهذه مصيبة على من يستمع إلى القرآن على أنه كلام جميل، ولا يتدبر ما فيه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، أي: أفلا يفهمون هذا الذي يستمعون إليه، {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68]، (أم) يقولون: إنها منقطعة فيها معنى الإضراب ومعناها: (بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، فالمعنى: هؤلاء ما تدبروا، ولو كانوا يتدبرون لفهموا هذا الشيء، ولكن كانوا يستمعون بآذانهم فقط.
(أَمْ جَاءَهُمْ) أي: بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، وهذا سبب الإعراض أنهم قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، أي: نحن نفعل ما كان آباؤنا يفعلونه ولن نفعل غير ذلك، فكأن الله عز وجل يقول: (بل قد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين)، فلماذا لا يتدبرون هذا القرآن؟ وقال في الآية الأخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، أي: هل على كل قلب قفل أقفل به هذا القلب وأغلق فلا يتدبر القرآن؟(56/5)
تفسير قوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم وأكثرهم للحق كارهون)
قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69]، أنكر على هؤلاء ونعى عليهم عدم فهمهم، هل هو بسبب عدم معرفة هذا الرسول الذي كنتم تصفونه بأنه الصادق الأمين؟ ومستحيل أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد منهم فلا يعرفه، فالله عز وجل يقول: إن الذي يرفض أن يسمع القرآن ولا يتدبره ولا يفهمه كالأنعام، أو كالذي لم يعرف الرسول الكريم.
يقول سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70]، (أم يقولون) أي: بل أيقولون إنه مجنون، وقد قالوا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الحقيقة أنهم غير مقتنعين بما يقولون، يقولون عنه: كذاب، وهم في أنفسهم يشعرون أنه صادق، فهم لم يسمعوا منه كذباً قبل ذلك، ويقولون عنه مجنون وهم لم يروا منه أثراً لهذا الجنون، فهم يقولون ويكذبون، فينعي ربهم عليهم ذلك الكذب الذي يقولونه، {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} [المؤمنون:70].
بل قد جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم من عند ربه بالحق العظيم، قال تعالى: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70]، والكافر كاره للحق؛ لأنه يعرف أن الحق يدعوه إليه وهو لا يريد أن يأتي إلى هذا الحق الذي يراه، فقد عرف الحق وعرف الصواب، وعرف توحيد الله، ولكن أبى ذلك، فقد جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لكنهم يكرهون الحق حسداً، وبغياً، وتقليداً، فبعضهم يقلد بعضاً، وحسدوا النبي صلى الله عليه وسلم فكرهوا ما جاء به؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54]، يقصد بالناس هنا النبي صلى الله عليه وسلم، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء:54 - 55]، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء بالحق، وسبب إعراض هؤلاء وكراهتهم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم حسدوه صلوات الله وسلامه عليه، حتى قال أبو جهل: حتى قالوا منا نبي، فأنى لنا بنبي!(56/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)
قال سبحانه: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، فالله عز وجل أتى بهذا القرآن العظيم ليرشد الناس، وليهديهم إلى الصراط المستقيم، ولو كان في هذا القرآن ما يتبع أهواء هؤلاء -وحاشا لكلام رب العالمين أن يتبع أهواء أحد من الناس- فمعنى ذلك: أنه ليس من عند الله سبحانه وتعالى، وما هي أهواؤهم؟ هي أن تكون الآلهة متعددة، ولو فكروا قليلاً هل هناك إله غير الله سبحانه وتعالى لتبين لهم قول الله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، أي: لفسدت السماوات والأرض، فسيكون هذا الإله يريد الشمس أن تشرق من المشرق، والثاني يريدها تشرق من المغرب، والأول يريد القمر هنا والثاني يريده في مكان آخر، وعندئذٍ ستتغير السماوات وتفسد، ولكن لما لم يحدث هذا في السماوات ولا في الأرض، ولم يفسد أي منهما، دل ذلك على أن الإله الذي يدبرها إله واحد، وهذا دليل التمانع.
قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} [المؤمنون:71]، أي: لو جاء في القرآن ما يهواه هؤلاء وما يريدونه لكان هناك إله غير الله سبحانه، وحاشا لله سبحانه، فلو كان هناك إله مع الله لفسدت السماوات والأرض، وفسد الكون، ولكن لم يحدث ذلك، فالقرآن يأتينا بالحق من عند رب العالمين وليس بما تريده أهواء هؤلاء، قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون:71]، أي: أتيناهم بفخرهم وبشرفهم وبعزهم وهو القرآن لو اتبعوه، ولكنهم أعرضوا عنه (فهم عن ذكرهم معرضون)، وشرف الدنيا والآخرة هو كتاب رب العالمين، وما جاءنا به من هدى من عنده سبحانه، فمن اتبعه كان له الشرف والعزة في الدنيا وفي الآخرة، ولكنهم أعرضوا عن القرآن فاستحقوا الهوان في الدنيا وفي الآخرة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(56/7)
تفسير سورة المؤمنون [70 - 80]
إن الدعاة إلى الله وعلى رأسهم أنبياء الله لا يأخذون على دعوتهم أجراً ولا يسألونه، فمن العجب أن يتنكر الناس لدعوتهم، كيف لا وهم يدعون إلى صراط رب العالمين، ومن ثم يعرض عنهم المعرضون الذين لم يؤمنوا بالآخرة، الذين علم الله أنهم قد استحقوا العذاب الأليم في الآخرة، بل قد أصابهم بشيء من ذلك في الدنيا فلم يرتدعوا عن غيهم، ولم يشكروا نعم الله عليهم.(57/1)
تفسير قوله تعالى: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ثم أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:72 - 80].
في هذه الآيات من سورة المؤمنون يخبر الله سبحانه وتعالى أنه أتى عباده بهذا الحق العظيم من عنده، قال سبحانه: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70] يريد بالحق في الآية: القرآن العظيم، إلا أن أكثرهم عن القرآن معرضون كراهية له.(57/2)
تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض)
{وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، ذكرنا أن الله عز وجل أنزل هذا القرآن بالحق، فيه الشريعة وفيه المنهج وفيه البيان، وفيه إرشاد القوم بإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولكنهم كانوا يحبون الابتعاد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعما جاء به من حق من عند رب العالمين، فقالوا كما حكى الله عنهم في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فتعجبوا من غير عجب، وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم من غير سبب، ولكن كان الهوى في أنفسهم هو الذي يدفعهم إلى ذلك؛ لأنهم لو اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم فسيتركون الرئاسة التي هم فيها، ولأن كل إنسان يريد إتباع نفسه هواها يظن أنه لو اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فإنه تنازل عما كان عليه، وذلك لأن عقولهم بعدت عن ربهم سبحانه وتعالى، فتجدهم يقولون ما لا يعرفون، ويتكلمون بأشياء مفتراة، ومن ثم عندما يسلمون بعد ذلك يتبين لهم ما كانوا فيه من باطل، فتجد من يدخل الإسلام منهم يعجب من نفسه: كيف كان يعبد غير الله سبحانه! وكيف كان يتعجب من النبي صلى الله عليه وسلم! ويعلم أنه كان خليقاً به أن يتعجب من نفسه في إنكاره على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الله سبحانه وتعالى أعمى أبصارهم، قال سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فتجد أن الأبصار لا ترى الحجج، وأن القلوب لا تعقل ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما جاءهم الحق كرهوه حسداً وبغياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يقلد بعضهم بعضاً، وطلبوا أن يكون هذا الذي يأتي به القرآن مثل الذي هم عليه، وأرادوا وقوع الشرك في هذا القرآن.
قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، أي: لو كان الأمر بحسب أهواء هؤلاء، فإن أهواءهم متباينة ومتعارضة، وكل منهم يشتهي شيئاً قد لا يشتهيه الآخر ولا يطلبه، فلو نزل القرآن على ما يشتهيه هؤلاء فستفسد السماوات والأرض، ولأن كل شيء قام بالعدل، فلو نزل القرآن بالهوى الذي هم عليه لجاء بالباطل، وحاشا لكلام الله عز وجل أن يكون فيه باطل.
قال سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:71]، ولكن الوقع أنها لم تفسد السماوات ولا الأرض ولا من فيهن، فعلى ذلك ما يقول هؤلاء هو الباطل، فأما القرآن فلم يأت إلا بالحق؛ لأنه لو جاء بباطل لفسدت السماوت والأرض ومن فيهن.
إن التذكير مهمة القرآن، إذ إنه كتاب ذكر، قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون:71]، أي: أتيناهم بهذا القرآن العظيم الذي فيه الذكر، وفيه شرف لهؤلاء لو أنهم اتبعوه، ولكنهم أعرضوا فأنى لهم الشرف.
قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71]، أي: هم عن شرفهم المنوط باتباع هذا القرآن قد أعرضوا، كما هم عن ذكر الله سبحانه وتعالى معرضون، وإعراضهم ليس بسبب أنك أثقلت عليهم أجر دعوتك فأنت لم تسألهم مالاً على دعوتك، قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72]، (أم) هي المنقطعة بمعنى: بل والهمزة، والمعنى: بل أتسألهم خرجاً؟ والخرج هو الرزق.
وقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] أي: قل لهم يا محمد: لا أريد منكم أجراً ولا رزقاً، وإنما أطلب منكم أن تراعوني في قرابتي، فتدركوا أن بيني وبينكم قرابة ورحماً فارعوا هذه الرحم، ولا تؤذوني، ودعوني أبلغ رسالة الله سبحانه، أما الخراج فإن ربي قد أغناني.(57/3)
تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بذكرهم)
قال تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72] أي: رزق ربك خير وأبقى، فأنت لا تنتظر إلا الأجر من الله فإنه: {هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72].
و (خرج) و (خراج) فيها للقراء ثلاث قراءات: قراءة الجمهور منهم: المدنيون نافع وأبو جعفر، والبصريون: يعقوب وأبو عمرو وابن كثير المكي وكذلك عاصم الكوفي يقرءونها: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين).
وقرأها ابن عامر: (أم تسألهم خرجاً فخرج ربك خير وهو خير الرازقين).
وقراءة باقي القراء وهم: حمزة والكسائي وخلف: (أم تسألهم خراجاً فخراج ربك خير).
والخرج والخراج بمعنى: الرزق، وبمعنى المال، وبمعنى الأجر من هؤلاء، وإن فرق البعض بينهما، كما فرق أبو عمرو بن العلاء في المعنى فقال: الخرج: ما لم يلزم من النفقة، أي: ما كان من الصدقة، والخراج: ما يلزمك من النفقة ومن الصدقة، وعلى المعنيين سيكون معنى الآية: هل تسألهم خرجاً، أو هل تسألهم خراجاً، أي: هل تسألهم شيئاً لزمهم؟! فأنت لم تسألهم شيئاً، لا شيئاً على وجه اللزوم، ولا شيئاً على وجه التطوع منهم؛ لأنك لم تسألهم أجراً أصلاً؛ إذ إنك تطلب من الله سبحانه وتعالى الأجر، {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المؤمنون:72].(57/4)
تفسير قوله تعالى: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)
قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73]، في هذه الآية بيان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يدعو هؤلاء بل ويدعو العالمين جميعهم إلى الدين القويم وإلى الصراط المستقيم، الطريق القيم العظيم، والصراط: هو طريق رب العالمين سبحانه وسمي مستقيماً لأنه يؤدي إلى جنة رب العالمين، ولا ينحرف بصاحبه يميناً ولا شمالاً كالطرق المنحرفة التي تقود أصحابها إلى النار.
وفي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون:73] قراءات، وهذه القراءات هي ذاتها التي في سورة الفاتحة وقد تقدمت، ولمزيد بيان فإنها كالتالي: (إلى صراط) و (إلى سراط) و (إلى زراط مستقيم)، فيقرؤها بالسين قنبل عن ابن كثير ويقرؤها أيضاً رويس عن يعقوب فتكون: (إلى سراط مستقيم).
ويقرؤها جمهور القراء: (إلى صراط مستقيم) بالصاد.
ويقرؤها خلف وخلاد بالإشمام، ومعنى الإشمام: أن يشابه الصاد الزاي في النطق به، فيصبح كأنه يشبه حرف الزاي فيها لتكون: (إلى زراط مستقيم).
والمعنى واحد على اختلاف القراءات، فالصراط: الطريق، والمعنى: إلى طريق مستقيم.(57/5)
تفسير قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)
قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، وهذه الآية فيها قراءات، وإن وجد خلاف فيها لـ خلاد عن حمزة في الإشمام، فسيكون فيها قراءة السين: سراط، وصراط، والإشمام بالزاي، أما معنى قوله سبحانه: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] أي: عن طريق رب العالمين متنكبين راجعين القهقرى، مولين ظهورهم لطريق رب العالمين سبحانه، ومعنى النكوب: من نكب الطريق نكوباً إذا عدل عن الطريق ومال عنها إلى غيرها، وإليه نسبت الريح إذا خرجت عن مجرى ورجعت إلى مجرى آخر، ومعنى الآية: أن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن طريق رب العالمين متنكبون، أي: مائلون زائغون أو مرتدون راجعون عن طريق رب العالمين، وهم بذلك إنما يتبعون أهواءهم.(57/6)
تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)
قال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] أي: بعد أن مات المعرضون عن طريق رب العالمين وأدخلهم الله رب العالمين نار جهنم والعياذ بالله، يتضرعون لله أن يعودوا إلى الدنيا، ولأن الله يعلم أنهم حتى ولو عادوا فلن يؤمنوا فقد قال سبحانه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] والمعنى: أن الله عز وجل علم من هؤلاء أنهم لا يؤمنون، وأنهم ينتفعون بدعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام حين يدعوهم إلى رب العالمين، فلو أنهم بعد الممات ردوا إلى الدنيا مرة أخرى فسيرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل، فقد علم الله عز وجل ما هم عاملون، قال سبحانه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75]، واللج: التمادي، ومعنى قوله: (للجوا في طغيانهم) أي: لتمادوا في طغيانهم، والطغيان: مجاوزة الحد، فمعنى: طغى الإنسان أي: جاوز حده، وعليه فسيكون معنى الآية: (للجوا في طغيانهم) أي: علو واستكبروا وتمادوا في ضلالهم، وقوله: {يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75] أي: يتذبذبون ويتخبطون، ومنه العمى -عمى البصر- فإن الأعمى حين يمشي فإنه لا يعرف طريقه إلا أن يقوده إنسان، والعمه أشد من ذلك؛ لأنه يشمل عمى قلب الإنسان، ولذا فإن المصابين بالعمه متذبذبون متحيرون، فقد أعميت قلوبهم فهم لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون طريقاً ولا يهتدون إلى سبيل.(57/7)
تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب)
تقدم قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ} [المؤمنون:75] أي: من عذاب الآخرة، إلا أنهم قد استحقوا عذاب الآخرة، ولكن الله قبل ذلك قد أذاقهم شيئاً من العذاب في الدنيا، ثم كشفه عنهم، ولذا قال مذكراً: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76] أي: أخذناهم بالعذاب الدنيوي، {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، أي: لم يخضعوا لرب العالمين، ولم يتضرعوا ولم يخشعوا لله، ولم يرجعوا إلى طريق رب العالمين سبحانه.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في قصة ثمامه بن أثال، فإنه لما أسرته سرية النبي صلى الله عليه وسلم أسلم وخلى النبي صلى الله عليه وسلم سبيله، وكان ثمامة من اليمامة، وهي على طريق قريش فأخذ على نفسه عهداً ألا يأخذ الكفار من أرضهم شيئاً لا غلالاً ولا شعيراً ولا غيرها إلا أن يأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم حقق عهده ومنع كفار مكة من الحبوب.
قال ابن عباس رضي الله عنه: وأخذ الله قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز؛ إذ أصابتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا الله سبحانه وتعالى على قريش بأن يعينه عليهم بسنين كسني يوسف، ولم يكن دعاؤه من أجل تعذيبهم فحسب؛ بل أيضاً من أجل أن يتأدب هؤلاء ولعلهم يرجعون عن غيهم، فكان هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [المؤمنون:76]، فجاعوا وعطشوا، واشتد عليهم الحر حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز، وقد سئل ابن عباس: ما العلهز؟ قال: كانوا يأكلون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه.
وإنما أكلوا هذا الشيء على خسته من شدة الجوع.
فقال أبو سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنشدك الله والرحم أليس تزعم أن الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى.
قال: فوالله ما أراك إلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع، فنزل قول الله عز وجل: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:75])، وجاءت روايات أخرى بمثل هذا المعنى، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فاستجاب الله سبحانه، وجعل عليهم أياماً فيها قحط شديد، فجاعوا حتى أكلوا الميتة والكلاب والجلود والعلهز، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: ادع ربك أن يكشف عنا.
فدعا لهم الله سبحانه وتعالى، فلما كشف عنهم ذلك تمادوا في غيهم، ولم يستجيبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان الأولى بهؤلاء وقد عرفوا أنه دعا عليهم صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم، ودعا لهم صلى الله عليه وسلم فانكشف عنهم ما هم فيه، كان الأولى أن يؤمنوا، ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك علم الله عز وجل أن هؤلاء لا يستحقون إلا الجزاء الذي استحقه من مات منهم على الكفر، وهو أن يدخلوا نار جهنم ولا يرجعون إلى الدنيا مرة أخرى.(57/8)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد)
الأصل في الإنسان الذي يبتليه الله سبحانه وتعالى بشيء من المصائب في العادة أن يستكين لله سبحانه، ويتضرع له، أما أن يبتليه بالمصائب في الدنيا ويضل على عجرفته وبعده عن الله سبحانه، فهذا يستحق أن يقصمه الله، ولذا قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77].
أي: إذا جاءهم عذاب رب العالمين سبحانه وتعالى سواء بالقتل أو بالموت والرجوع إلى رب العالمين أو عذاب يوم القيامة، سترى أنهم إذا جاءهم هذا العذاب سيبلسون، قال تعالى: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون:77]، أبلس الإنسان، أي: يئس من الرحمة، وتحير في مكانه لا يدري ما الذي يصنعه، فالمبلس: المتحير اليائس، فهؤلاء ييئسون وهم في نار جهنم والعياذ بالله من الرحمة، وخاصة إذا نادوا ربهم سبحانه بالرجوع، فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
وقد جاء في تفسر الباب الذي يفتح عليهم بالعذاب المذكور في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} [المؤمنون:77] أثر عن عكرمة أنه قال هو باب من أبواب جهنم، عليه من الخزنة أربعمائة ألف، سود وجوههم، كالحة أنيابهم، قد قلعت الرحمة من قلوبهم، إذا بلغوه فتحه الله عز وجل عليهم، والله أعلم.(57/9)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة)
قال سبحانه مذكراً بنعمه: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
قوله: {أَنشَأَ لَكُمُ} [المؤمنون:78] أي: خلق لكم سبحانه، {السَّمْعَ} [المؤمنون:78] أي: جعلكم تسمعون، {وَالأَبْصَارَ} [المؤمنون:78] أي: جعلكم تبصرون وتنظرون، {وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78] أي: جعل فيكم قلوباً تعقلون بها، ومع ذلك القليل من يشكر قال سبحانه: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78].
وحري بكل إنسان أن ينظر إلى هذه النعم وينظر إلى مدى شكره لربه، وهل هو من هؤلاء الذين ذكر الله عز وجل أنهم: {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78]؟ أم أنه ممن يشكر نعم الله سبحانه وتعالى عليه؟ والحق أن نعم الله لا تحصى، ومن نعمه سبحانه على الإنسان أنه يعقل، فلم يجعله مجنوناً، وجعل الإنسان ينظر ولو شاء لجعله أعمى، وجعله سميعاً يسمع ولو شاء لجعله أصم، فهذه من نعم الله سبحانه وتعالى على العبد، فهل يشكر ربه أم ينسى هذه النعم؟ بل لعله يستغل هذه النعم في غير ما خلقها الله عز وجل له، كأن يوجه سمعه إلى الغيبة والنميمة وإلى غير ذلك مما حرم الله سبحانه، ويوجه بصره إلى النظر إلى ما لا يحل له، ويوجه قلبه إلى التشكك وإلى الشهوات وإلى الشبهات، بل يجب على الإنسان أن يشكر نعم الله عز وجل عليه، فيستخدم هذه النعم فيما أحل الله سبحانه وتعالى، ويديم شكر ربه ليل نهار على ما أعطاه من السمع والأبصار ومن الأفئدة.(57/10)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت)
قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]، من نعم الله سبحانه وتعالى العظيمة على العباد: أنه هو الذي خلقهم وأحياهم ليبتليهم، ثم يميتهم ليأجر المؤمنين الأجر الحسن ويدخلهم الجنة، ويحاسب الكفار والمفسدين ويدخلهم النار.
ومن نعمه كذلك الليل والنهار، قال سبحانه: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80]، فقد خلق الله الليل والنهار، ويملك سبحانه وتعالى ما في الليل وما في النهار، وكل ما يأتي عليه الليل والنهار، ومعنى اختلاف الليل والنهار: أن هذا مختلف عن هذا، فالنهار فيه نور، والليل فيه ظلمة، والليل يكون بارداً، والنهار يكون حاراً، وقد يفسر اختلافهما كذلك بالزيادة والنقصان، وقد يفسر كذلك بالتكرار، تقول: اختلفت في شيء: تكرر مني الذهاب إليه.
وقد فسر قوله تعالى: {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [المؤمنون:80] بتواصل الليل والنهار خلف بعضهما بعض حتى يأتي يوم القيامة، وفسرت الآية أيضاً: بأن له ما مضى فيهما من سعادة الناس ومن شقاوة آخرين.
ثم أنكر عليهم عدم الاعتبار بآياته فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80]، فقد جعل لكم الحواس التي تعقلون بها، وجعل لكم آيات في الكون فهل تعتبرون بذلك؟ إذ إن من اعتبر فقد عرف الله سبحانه وتعالى وعبده، فيذكره ويشكره، ومن لم يعتبر فذاك الشقي الذي كتبت عليه الشقاوة.(57/11)
تفسير سورة المؤمنون [78 - 90]
يبين الله سبحانه وتعالى فضله على عباده، ونعمه سبحانه لا تحصى، وقد تفرد سبحانه بربوبيته على خلقه، فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وقد عرف الكفار والمشركون ذلك، ولكن عنادهم وتكبرهم أعماهم عن رؤية الحق واتباعه، وسورة المؤمنون إحدى السور المكية التي نزلت في فترة كان المشركون فيها ينكرون البعث والنشور والإعادة مرة أخرى، ففيها آيات فيها مجادلة للكفار بالحجج والبراهين القاطعة.(58/1)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة)
أعوذ بالله من الشيطان الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:78 - 89].
يخبرنا الله تبارك وتعالى عن فضله وعن نعمه على عباده في هذه الآيات، فيذكر أنه هو الذي أنشأ السمع والبصر والأفئدة، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [المؤمنون:78]، فهذه نعم من نعم الله سبحانه الذي يستحق أن يعبده العبد سبحانه وتعالى حق العبادة، وأن يستيقن أن الذي أعطاه ذلك قادر على أن يسلبه منه، والذي منحه قادر على أن يمنع ذلك وأن يأخذه، فيشكر العبد ربه سبحانه على هذه النعم وغيرها، وما أكثر نعم الله عز وجل على عباده وما أعظمها.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78] والعبد قليل شكره، وهو ينظر بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويتكلم بلسانه، ويعقل بقلبه، ومع ذلك إذا جاء عند شكر الله سبحانه نسي أو تناسى شكر المنعم العظيم الذي أنعم عليه بهذه النعم وغيرها.
أما المؤمن فهو يشكر ربه ويحمده ليل نهار، ويعلم أن النعم من الله سبحانه، وأن الله قد قال: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فالإنسان الذي يشكر الله فإن الله من فضله يتكرم عليه ويزيده، والذي يكفر ويجحد نعم الله سبحانه فإن عذاب الله شديد.(58/2)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:78 - 79]، أي: هو الذي ذرأ، والذرء: البث، أي: بثكم ونشركم في الأرض، ولو شاء لجعل لكم موضعاً واحداً منها ولن تستفيدوا بباقيها، ولكن هو الذي نشركم في أرجاء الأرض، فجعل شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، وملأها بعباده لمن شاء منهم سبحانه، فالذرء بمعنى: الإنشاء والبث والخلق، أي: فنشركم فيها، بأن خلقكم ووزعكم على هذه الأرض.
وكلمة (هو) تأتي في القرآن كله بقراءتين فيها: فيقرؤها قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب، (وهْو) بتسكين الهاء.
واقي القراء وهى قراءتنا قراءة حفص عن عاصم، وغيره من القراء يقرءونها: (وهُو) بضم الهاء.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون:79] والحشر: هو الجمع، أي: يجمعكم إليه، ويعيدكم ويخرجكم من قبوركم، ويبعثكم، وينشركم، ثم يجازيكم ويحاسبكم، قوله تعالى: ((وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، يعني: المرجع والمآب إلى الله رب العالمين سبحانه.(58/3)
تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت)
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80].
قوله: ((وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)) ونرى الإحياء والإماتة، نرى خلق الله سبحانه في كل يوم، هذا جنين يولد وهذا إنسان يموت، وفي كل يوم يحدث ذلك، فيرى الإنسان قدرة رب العالمين على الخلق والإيجاد، وعلى الإفناء والإماتة، فهو الذي يحيي وهو الذي يميت.
قوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارَِ))، أي: يجعل الليل والنهار مختلفين، هذا فيه نور، وهذا فيه ظلمة، فالنهار مضيء، والليل مظلم، وكذلك يجعل اختلافاً بين الليل والنهار بالزيادة والنقصان في الصيف والشتاء ونحو ذلك.
فقوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))، أي: تكرار الليل والنهار، يأتي يوم ويذهب يوم، يأتي ليل ويذهب ليل، وهكذا، فله اختلاف ذلك، والتكرار والإيجاد حتى يأتي وعد الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: ((وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ))، أي: يملك ذلك الله سبحانه وتعالى، وإليه هذا العمل، وهو الذي يعمله، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، وهو الذي يجعلها تغرب من المغرب، فهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى.
وله أيضاً اختلاف ما مضى في الليل والنهار من أعمال العباد، فهؤلاء سعداء وهؤلاء أشقياء، وكل ذلك لله سبحانه بتقديره، فإذا كانت هذه قدرته قال تعالى: ((أَفَلا تَعْقِلُونَ))، أي: ألا تعقلون وتنتبهون ما الذي يراد منكم؟ ولماذا خلقكم الله عز وجل؟ وقد قال في كتابه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فهلا عقلتم ذلك وعبدتم الله حق عبادته سبحانه؟!(58/4)
تفسير قوله تعالى: (بل قالوا مثل ما قال الأولون إن هذا إلا أساطير الأولين)
قال تعالى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}، أي: لن يعقلوا، ولن ينتبهوا، ولن يفهموا، فقد قالوا كما قال الأولون من أهل الجهل والكفر والبعد عن الله، كما قال تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، فتعجبوا كما تعجب الأولون، ونسوا ما الذي صنعه الله عز وجل بهؤلاء الأولين، فقد كذبوا وأعرضوا فجاءهم عذاب رب العالمين، فقد أرسل الله إليهم الرسل بالآيات وبالبينات عليهم الصلاة والسلام، فكذب هؤلاء الكفار المرسلين فأخذهم الله، ولم يعتبر هؤلاء الذين من بعدهم.
فقوله تعالى: ((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))، أي: هل يبعثنا مرة ثانية بعد ما نصير تراباً وعظاماً نرجع مرة ثانية؟ ويستبعدون ذلك، قال الله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] سبحانه وتعالى، والذي يتعجب كيف يحييه الله مرة ثانية هل نسي كيف كان هو؟ لقد كان في بطن أمه جنيناً، وكان قبل ذلك نطفة، ثم صار هذا الجنين، ثم صار هذا الإنسان، ثم رأى من يموت وهو سوف يموت ويستيقن من ذلك، فهل نسي أن الذي بدأ خلقه قادر على أن يعيده مرة ثانية؟! وقوله تعالى: ((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ))، (أئذا)، (أئنا) للقراء اختلاف في قراءتها: فذهب نافع والكسائي ويعقوب إلى البدء بالاستفهام في الهمزتين الأوليين: (أئذا) والثانية بالإخبار فيها (إنا)، فيقرءون: (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر بالإخبار في الأولى وبالاستفهام في الثانية: (إذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، على اختلاف في الأداء، بالتسهيل وبغير ذلك، وباقي القراء يقرءونها: ((أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)).
وكذلك (متنا) تقرأ: (مُتنا)، و (مِتنا)، ففيها قراءتان.
قال تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:83]، يقولون ذلك ويكذبون، وهم قد رأوا كيف خلق الله عز وجل الخلق، وكيف أمات وأحيا سبحانه، ثم يقولون ((لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ)) أي: وعدوا بالموت، بأنهم يموتون ثم يبعثون، قالوا: وهذا كذب.
والآباء قبل ذلك قال لهم الرسل: إنكم ستموتون وتبعثون، فقال الآباء: ليس هناك أحد سيبعث، فهم يطلبون البعث الآن، والله عز وجل لم يقل: إنه سوف يبعثهم الآن، ولكن أخبر أنهم مجموعون لميقات يوم معلوم، فقالوا: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، وهذا كلام المكذبين وأهل الجهل: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والتقليد للآباء، وإذا أرادوا الرد على النبي عليه الصلاة والسلام يبدءون برميه بالأكاذيب والاختلاقات، فيقولون: ((إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))، والأساطير: الخرافات التي كان يتكلم بها الأولون، والأباطيل والترهات.(58/5)
تفسير قوله تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها قل أفلا تذكرون)
قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] فقوله: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا))، أي: أجيبوا عن ذلك، فيسأل الله هؤلاء الكفار من يملك هذه الأرض؟ وهم يقرون بالصانع، وأن الله هو الذي خلقها وصنعها وفعل فيها ما يشاء سبحانه، فيقرون بالربوبية للرب سبحانه وتعالى.
فقوله: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ))، أي: من يملكها؟ ((وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))، وهكذا كانوا يجيبون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهم يعرفون أن الرب هو الخالق، فإذا قال لهم: فلماذا لا تعبدون هذا الذي خلق؟ يقولون: نعبد آلهة تقربنا إلى الله زلفى، أي: يتقربون إلى الله بعبادة غيره، فإذا قيل لهم: من الذي أمركم بعبادة غيره؟ لا جواب عندهم، لا أثارة من علم، ولا دليل من عقل، لا نقلٌ صحيح ولا عقلٌ صريح في هذا، وإنما هو الكذب الصراح.
يقول الله عز وجل: ((قُلْ لِمَنِ))، أي: من الذي يملك الأرض ومن فيها وكل ما فيها من خلق؟ ((إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، أي: هذا كله يملكه الله، قال تعالى: ((قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ))، أي: فإذا كان الأمر هذا لله أفلا تعتبرون بهذا الذي نذكره لكم، وتعرفون أن الذي خلق هو الذي يستحق أن يعبد؟ وقراءة حفص عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85]، وباقي القراء: (أفلا تذّكرون) بتشديد الدال، والمعنى: أن تتذكر أن الذي خلق ذلك هو الذي يستحق العبادة، ليس غيره سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: ((قُلْ لِمَنِ))، بدأ الاستفهام باللام، فكان الجواب أيضاًً باللام، قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، وهذه قراءة جميع القراء.(58/6)
تفسير قوله تعالى: (قل من رب السماوات السبع قل أفلا تتقون)
قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون:86]، أي: من رب هذه السماوات التي ترون والتي لا ترون؟ ومن ((َرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))، الذي استوى عليه سبحانه، وحكم خلقه، وتصرف فيهم بما يشاء سبحانه؟ قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، وقراءة الجمهور: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ))، وقرأ البصريان: أبو عمرو ويعقوب: (سيقولون الله) باعتبار: ((قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ))، أنه سؤال ليس فيه لام، فالجواب يكون بغير لام، هذا على قراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب: (سَيَقُولُونَ اللَّه)، وباقي القراء بتقدير اللام في السؤال، كالآية التي قبلها.
فقوله تعالى: ((مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ))، أي: من الذي يملك هذه السماوات؟ أو لمن هذه السماوات؟ ولمن هذا العرش العظيم؟ ف
الجواب
(( سَيَقُولُونَ لِلَّه))، والرب هو المالك سبحانه، وهو الخالق، وهو الذي يربي، وهو الذي يتعاهد خلقه سبحانه ويقوم عليهم، فهو قائم على كل نفس بما كسبت سبحانه وتعالى، وهو الذي يعطي والذي يمنع، والذي يرزق، والذي ينفع، والذي يضر، هو ((ْرَبُّ السَّمَوَاتِ السبع ورب العرش العظيم))، سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: فإذا إذا كان ربنا سبحانه هو يملك هذه السماوات العظيمة، وهذا العرش العظيم، ((أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: أفلا تخافونه سبحانه وتعالى، وأنتم لا تساوون شيئاً بجوار هذه السماوات والأرضين؟ فقوله تعالى: ((قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ))، أي: ألا تتقون هذا الإله العظيم الذي يملك السماوات والأرض؟(58/7)
تفسير قوله تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء قل فأنى تسحرون)
قال تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:88]، قراءة الجمهور في قوله: (بيده ملكوت) بالصلة، وقراءة رويس عن يعقوب بعدم الصلة فيها: (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كل شيءٍ)، والصلة بمعنى: أن تتحول الكسرة إلى ياء.
و (ملكوت) صيغة مبالغة من الملك، كأن نقول: الرحمن، فهو له رحمة سبحانه، والرحمة هي الرحموت، وهي صيغة مبالغة من الرحمة، أي: هو صاحب الرحمة، و (الملك) المبالغة فيه أن تقول: (الملكوت)، و (الجبر) يأتي منه (الجبروت)، و (الرهبة) يأتي منها (الرهبوت)، وهذه من صيغ المبالغة فيها، فالملكوت معناه: الملك العظيم.
فقوله تعالى: ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ))، أي: ملك كل شيء خلقه ويدبره ولا يعجزه أبداً سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ}، أي: الله سبحانه وتعالى هو الذي يغيث من يشاء، وهل أحد يقدر أن يغيث أحداً من الله سبحانه وتعالى إذا أراد الله عذابه؟! وهل يقدر أحد أن يمنع الله سبحانه وتعالى عن ذلك؟ فالله يجير ويمنع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)، فإذا اجتمع كل الخلق إنسهم وجانهم ليضروا إنساناً والله يجير هذا الإنسان لا يقدرون أن يضروه بشيء، وإذا اجتمعوا على أن ينفعوه وقد أراد الله عز وجل ألا ينفعه، بل أراد الله أن يضره لا يقدرون أن يغيثوه من بطش رب العالمين سبحانه، فمن يجير من الله عز وجل؟ أي: من يمنع من الله سبحانه؟ لا يمنع منه أحد، فالله يؤمن من يشاء من عذابه، ولا يقدر أحد أن يؤمن من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا في الدنيا وفي الآخرة.
فقوله تعالى: ((وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ)) أي: لا يقدر أحد أن يمنع من غضب الله سبحانه وتعالى، ولا من بطشه، ولا يقدر أحد أن يمنع عذاب الله إذا أراده بأحد، قال تعالى: ((إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، أي: إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني من الذي يجير على الله؟
الجواب
لا أحد.
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ} أي: ذلك كله لله سبحانه، فهو الذي يقدر عليه ويملكه، وليس لنا منه شيء، وفي هذه الآية قراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب، (سَيَقُولُونَ اللهَ)، في هاتين الآيتين فقط، أما الآية الأولى فلا يوجد فيها إلا قراءة واحدة فقط، والتي هي قوله سبحانه: ((قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) * ((سَيَقُولُونَ لِلّهَ))، هذه القراءة اتفاقاً، لكن الآيتين اللتين بعدها تُقرأ: (سَيَقُولُونَ اللهَ).
قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، يسحر الإنسان أي: يصرف، بأن يخيل له الشيطان أشياء وهماًً على خلاف الحقيقة، فيا من تقولون: إن ذلك كله لله كيف سحرتم؟ وكيف غفلتم؟ وكيف توهمتم أشياء على غير حقيقتها فابتعدتم عن الله سبحانه وتعالى؟ وكيف خدعكم الشيطان وقد أقررتم أن الله هو الذي يملك هذا كله؟ فقوله تعالى: ((فَأَنَّى تُسْحَرُونَ))، أي: فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعة رب العالمين وتوحيد الله سبحانه؟ وكيف تتخيلون أنكم تشركون بالله سبحانه ما لا ينفع ولا يضر؟ فقد خيل لهم الشيطان أن هذه الأشياء تنفع وتضر؛ فعبدوها من دون الله، فكان من أفعالهم العجب، أن يعبدوا غير الله سبحانه، فإذا سئلوا أعدوا
الجواب
{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فإذا سألتهم: هل هذه الأشياء تنفع وتضر؟ يقولون: لا تنفع ولا تضر، فإذا سألتهم: كيف تعبدون ما لا ينفع ولا يضر؟ يقولون: ((وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ))، وهؤلاء القوم أنفسهم إذا أنعم الله عليهم بالإسلام يعجبون من جهلهم وضلالهم في جاهليتهم: كيف عبدنا هذه التماثيل من دون الله سبحانه؟! وكيف عبدنا هذه الأصنام وانتظرنا منها نفعا وضراً؟! فهم يتعجبون، ولكنهم في كفرهم وفي غيهم يعمهون، ولا ينتبهون لما يقعون فيه من خطأ.(58/8)
تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون)
وتدل هذه الآيات على جواز جدال الكفار بالحجج والبراهين، والله عز وجل ذكر هذا على وجه المناظرة لهؤلاء والإلزام لهم بالحق، قال سبحانه: ((بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، أي: جاءهم الله سبحانه وتعالى بهذا الكتاب الحق، قال تعالى: ((وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))، أي: مكذبون، كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً كذابون يكذبون على الله عز وجل، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، فحين يقولون عنه: إنه ساحر، هم يعرفون أنهم كذابون، وحين يقولون عنه: إنه مجنون، يعرفون أنهم كذابون.
فالله عز وجل ذكر هنا من صفات الكفار أنهم مكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم أيضاً كاذبون في اختلاقهم وفي رميهم النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، وقبل ذلك في ادعائهم لله ولداً، قال تعالى: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ))، أي: حاشا لله سبحانه وتعالى أن يكون له ولد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(58/9)
تفسير سورة المؤمنون [84 - 98]
إن الحق ظاهرة أنواره لمن أرادها، ولا تخفى إلا على معاند مكابر، يأتيه الحق فيكذبه، وذلك ما وقع من منكري تفرد الله بالألوهية، فأنزل الله بهم وعيده، ولكن المؤمن مع إيمانه يظل في خشية لله أن يصيبه ما أصابهم، وهو مأمور بدفع سوئهم بالإحسان لعلهم يهتدون، كما أنه مأمور بالالتجاء إلى الله أن يعيذه من شر الإنس والجن.(59/1)
مجادلة الله تعالى للكافرين بالحجج الباهرة
قال الله عز جل في سورة المؤمنون: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:90 - 95].
بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى عن قدرته العظيمة، وأنه هو الذي أنشأ لعباده السمع والأبصار والأفئدة، وأنهم قليلاً ما يشكرون، وأنه الذي يحيي ويميت سبحانه وتعالى، وأنه له اختلاف الليل والنهار، ثم قال لعباده: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [المؤمنون:80] وبعد أن ذكر قول هؤلاء الكفار المكذبين في إنكارهم للبعث بعد موتهم قال: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:82 - 83]، فزعموا أن هذا من خرافات ومن أكاذيب وأباطيل وترهات الأولين، أي: القول بأننا سنبعث مرة ثانية.
قال الله سبحانه مبيناً قدرته: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، فالجواب من هؤلاء أنهم يثبتون أن الله عز وجل الخالق، وأنه الذي يفعل ما يريد سبحانه، فيقولون: إن الله يملك الأرض ويملك من فيها، فقال تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85]، أفلا تتدبرون أن الذي يخلق هو الذي يستحق أن يعبد.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:86 - 87]، فهم معترفون أن الله رب السماوات وأنه رب الأرض وأنه رب كل شيء سبحانه، قال الله: {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [المؤمنون:87] أي: إن اعترفتم بذلك أفلا تتقون هذا الخالق العظيم الذي يملككم وما تملكون، والذي خلق سماوات فلا تقدرون أن تعجزوه سبحانه لا في السماوات ولا في الأرض؟! ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88]، أي: بيده الملك كما قال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1]، فهو يملك كل شيء سبحانه، والملكوت صيغة مبالغة من الملك، فهو المالك لكل شيء سبحانه، وله ملكوت كل شيء وحده لا شريك له، قال: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون:88]، أي: لا أحد يمنع ما يريده الله سبحانه، ولا يغيث من يعذبه الله سبحانه وتعالى، بل هو الذي يجير، فإذا أردتم أن تفعلوا شيئاً فهو وحده الذي يقدر على منعكم من ذلك، وإذا أراد إنسان أن يوقع بآخر شيئاً من الأضرار فإن الله يقدر أن يمنع ذلك، وكذلك فلا أحد يجير من الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:89]، أي: الذي يفعل ذلك هو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر عليه، {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:89]، أي: كيف تصدقون تخييل الشيطان لكم أنكم لا تبعثون؟! وبعد هذا كله قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [المؤمنون:90]، أضرب الله عن قولهم الذي يقولونه، ثم أخبر أنه قد جاءهم بالحق وبهذا الكتاب العظيم، وبالوعد الحق من عند رب العالمين، وإنهم لكاذبون يفترون على الله الكذب، وإنهم لكاذبون في دعواهم أن هذا القرآن أساطير الأولين.(59/2)
تفسير قوله تعالى: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله)
قال سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، أي: هؤلاء كاذبون فيما افتروه على الله، إذ قالوا: إن الملائكة بنات الله، وقال اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأخبر الله أنه ما اتخذ من صاحبة ولا ولد، وما كان معه من إله، بل حتى لو حصل هذا -وهو مستحيل- لكن هذا من باب المناظرة لهؤلاء وإقامة الحجة عليهم من باب التنزل في المناظرة، فلو فرضنا أنه يوجد إله مع الله، فسيذهب كل إله بما خلق؛ إذ هذا يخلق وهذا يخلق، وكل واحد يأخذ معه أتباعه وعبيده الذين خلقهم، فهذا يخلق أجراماً، وذاك يخلق أجراماً أخرى، وهذا له نظام في الكون، وهذا له نظام آخر، فتتعارض الأنظمة، وبعد ذلك إما أن يكون أحدهم أقوى فيغلب غيره فهو الإله المتفرد، وإما أن يختلف بعضهم مع بعض فيتدمر هذا الكون كله، وإن كانت الحقيقة والواقع أنه لم ولن يحدث ذلك، فلا إله غير الله سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك هذا النظام الذي في الكون، الذي لم يعطب ولم يتزعزع منذ خلقه الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ}، ولا يستحق أحد أن يعبد مع الله عز وجل، فلو وجد إله يستحق العبادة مع الله عز وجل لكان خالقاً؛ لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يقدر على أن يخلق، والذي يقدر على أن يفعل ما يريد، وهنا نلاحظ أن الله عز وجل قد أثبت آلهة غير الله فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، فالهوى إله من دون الله سبحانه، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} [يس:74]، فالكفار قد ضلوا وعبدوا آلهة من دون الله، ولكن هذه الآلهة باعتراف عبادها لا تملك شيئاً ولا تقدر على شيء، وإنما هي -كما يزعمون- توصلهم إلى الله.
فهنا يناقش الله عقولهم الغبية، ويقول: أي آلهة هذه التي تعبدون؟! إذا كانت لا تخلق فلم تعبدونها؟! وإذا قالوا: إنها تخلق فانظروا إلى الكون، فلو كانت آلهة تخلق أو تقدر على الخلق وعلى الرزق لتعارضت هذه الآلهة بعضها مع بعض، ولاضطرب نظام الكون، فالحال أنه لم يضطرب نظام الكون، إذاً: فلا آلهة موجودة مع الله سبحانه، وإنما هو إله واحد.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا}، أي: لو كان معه إله يخلق {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، فيبقى الإله الأقوى كعادة الخلق أن القوي يذهب بالضعيف، والقوي يحكم الضعيف، فلو كانت هناك آلهة هذا يخلق وهذا يخلق فالأقوى فيهم هو الذي سيغلب ويصير له الكون وحده، فيقول سبحانه: {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، فعندما يصل الإنسان إلى هذا التفكير في ربه سبحانه حاشا له أن يتخذ ولداً أو يتخذ صاحبة، فإن الذي يتخذ الصاحبة هو المخلوق الضعيف، وهو الذي يحتاج إلى من يكون بجواره، ويحتاج لامرأة تعينه ويكون له منها الولد، فإذا به يبقي على نفسه، وهو يفنى ويأتي بعده من يملك ومن يحكم ويأخذ ما تركه، وحاشا لله عز وجل أن يحتاج إلى ذلك! فلا يحتاج إلى صاحبة، ولا يحتاج إلى ولد سبحانه وتعالى عما يصفون وعما يقولون.(59/3)
تفسير قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون)
(سبحان الله): أي تنزيهاً لله وتقديساً لله سبحانه وتعالى عما يصفونه به من هذه الأوصاف البشعة القبيحة قال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92]، أي: أن الله هو عالم الغيب والشهادة، فمن أسمائه الحسنى عالم الغيب، ومن أسمائه علام الغيوب سبحانه وتعالى.
وهنا جاء الوصف مجروراً باعتبار أن لفظ الجلالة مجرور، وفي هذه الآية قراءات: {عَالِمِ الْغَيْبِ}، فقرأ بالكسر ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن عامر وحفص عن عاصم: (عالمِ الغيب)، وأما باقي القراء فيقرءونها بالرفع: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}، على اعتبار الابتداء أي: هو عالم الغيب والشهادة سبحانه تبارك وتعالى، كأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو عالم الغيب والشهادة.
وقرأها رويس بالقراءتين، ولكن على اعتبار الوصل والوقف، فإذا وصل قرأها بالجر على أنها وصف لما قبلها أو أنها بدل مما قبلها، وإذا وقف قرأها بالرفع، فيقول: (سبحان الله عما يصفون) ويبدأ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
فالله يعلم الغيب ويعلم الشهادة، وقدم هنا الغيب على الشهادة لاستواء العلمين عنده سبحانه، لكن المخلوق ما يغيب عنه لا يعرفه، والشيء الذي يشاهده هو الذي يعرفه، سواء شاهده أمامه بنظره، أو شاهده من بعيد بشيء يجعله يرى هذا الشيء البعيد.
أما الله عز وجل فالكل عنده سواء مهما أخفى المخلوق فالله عز وجل يعلم السر، ويعلم ما هو أخفى من السر، فهو عالم الغيب وعالم الشهادة.
قال تعالى: {َتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، أي: تمجد وتنزه وتقدس سبحانه وتعالى عما يقوله هؤلاء بأكاذيبهم من أنه اتخذ الصاحبة والولد، واتخذ الشريك سبحانه وتعالى.(59/4)
تفسير قوله تعالى: (قل رب إما تريني ما يوعدون)
أمر الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو بهذا الدعاء، {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:93 - 94].
أي: إذا أتيتهم بالعذاب الذي توعدتهم به فلا تجعلني معهم، وقد كان من عذابهم أن قتل بعضهم في الحروب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الله عز جل البعض الآخر بالموت، وأسلم منهم من تبقى.
وهذه السورة سورة مكية كما ذكرنا، وفيها الإخبار بأشياء من الغيب، كالإخبار عن أسماء الله الحسنى وصفاته العلى سبحانه، والإخبار عن أقدار الله سبحانه، وعن أمور يوم القيامة وما يكون فيها، فهنا يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ادع بذلك؛ لأن الرسول لا يعرف ما الذي سيكون بعد ذلك، فإذا كان سيستأصلهم الله بعذاب فقد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: نجني يا رب من هذا العذاب، ولا تجعلني مع هؤلاء الظالمين.
وقد علم صلى الله عليه وسلم يقيناً أن الله عز وجل قد عصمه من أن يكون مع هؤلاء الظالمين، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، ولكن علمه أن يقول ذلك لأنه لا أحد من المؤمنين يأمن مكر الله سبحانه فضلاً عن غيرهم، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وإلا فإن الله قد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، وقال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، ولكن كأنه يقول له: في مقام التضرع والدعاء ادع ربك ألا يعذبك، فأنت لا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى، فإذا كان رسول الله قد أمر بذلك فغيره من باب أولى، فعلى كل إنسان مؤمن ألا يأمن مكر الله سبحانه وتعالى، خاصة وقد أخبرنا سبحانه أنه إذا نزل عذابه فإنه لا يأتي للظلمة فقط، ولكنه يعم الظلمة وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم يوم القيامة.
فعلى الإنسان المؤمن أن يخاف من بطش الله ومن مكره سبحانه.
قال تعالى: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:95] أي: ما نتوعدهم به من العذاب سيكون، ولكن لكل شيء عند الله أجل مكتوب عنده سبحانه، فسنظهر لك هذا الذي توعدناهم به.(59/5)
تفسير قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأمرين: فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98]، فعلمه كيف يدعو صلوات الله وسلامه عليه، فبعد أن قال: {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون:94]، وسأل ربه ألا يكون مع الظالمين، قال الله له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، وهذا تعليم من الله سبحانه، أي: ادفع بالشيء الحسن الشيء السيئ، فمن أساء إليك فأحسن إليه.
وقد علم الله نبيه في سورة الأعراف الدفع بالتي أحسن أيضاً، فالإنسان المؤمن يدفع اعتداء الناس بالإحسان لهم؛ لأنه يرغب في هداية هؤلاء، فإذا هدى الله عز وجل على يديك إنساناً من الخلق فلك أجر عظيم عند الله سبحانه، فعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعامل الناس بالحسنى، وأنه إذا عامل بالحسنى ودفع بالتي هي أحسن فالله عز وجل يأجره على ذلك ويدافع عنه، وهذه الصفة تشمل التعامل مع الكفار ومع المسلمين، فالكافر في البداية يُدفع بالتي هي أحسن ترغيباً له في الإسلام، فإذا أصر على ذلك فالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأيضاً ادفع بالتي هي أحسن لعلهم يرتدعون، وقد كان بعض الأعراب يسيء للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا به يحلم عليه ويتحمل منه، وشيئاً فشيئاً حتى يهدي الله هذا الأعرابي للإسلام.
وقد رأينا كيف فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ولما وصل إلى هنالك وقام مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم يؤذن، وإذا ببعض الناس يستهزئ بمؤذن النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أبو محذورة، وأبو محذورة كان صوته جميلاً، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم الاستهزاء بمؤذنه، وكان يستطيع أن يأمر بقتل هذا الكافر الذي يستهزئ، ولكنه نادى عليهم ففر من فر وجاء أبو محذورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيكم كان أرفع صوتاً؟)، أي: من الذي سمعت صوته، ثم علمه رسول الله ألفاظ الأذان، فأسلم الرجل وصار المؤذن في مكة، فهنا يتحقق قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ}.
وهذا أدب من النبي صلى الله عليه وسلم ولطف منه، عندما يأتي أبو محذورة ويعلمه رسول الله وهو شاب ولم ينهره صلى الله عليه وسلم، فتأدب الرجل وصار بعد ذلك مؤذن مكة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال الله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا أمر بالصفح وأمر بمكارم الأخلاق، وفي الحديث: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة)، فالإنسان برفقه يدعو الناس إلى ربه سبحانه، ولكن قد يصل بالرفق وبالعنف إلى نتيجة واحدة، وذلك عندما يدعو إنساناً برفق فيصل به إلى أن يصير مؤمناً، أو يدعوه بعنف وبغلظة وشدة ويصل به إلى أن يكون مؤمناً، فأي الوصفين يكون أعظم لهذا الإنسان وأكثر أجراً عند الله؟
الجواب
أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، فالإنسان برفقة يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في رفقه بالخلق.
قال سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم لعلك تتألف هؤلاء، وقد لا يتألف هؤلاء، ولكن قد يتألف من وراءه كأهاليهم وأقوامهم عندما يرون أن فلاناً أساء ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم حلم عنه، فعندما يقولون: إن الرجل على حسن خلق فلماذا لا نتبعه؟ والإنسان عندما يرى الكافر وعناده قد يقول: لن أدفع إلا بالأسوأ، فهذا الكافر لا يستحق الإحسان، ولكن أمر الله مقدم إذ قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ولعله صلى الله عليه وسلم يقول: هؤلاء يكفرون، ويقولون: كذا، فقال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}، أي: نحن قد حلمنا عنهم، فاحلم أنت لعل الله عز وجل يهديهم على يديك.
فهذا الأدب لا بد أن يكون في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا لم ينفع واستمر هؤلاء على كفرهم وعنادهم فالجهاد بالسيف الذي أمر به النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد ذلك، قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي: من الشرك والتكذيب.(59/6)
تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، وهذا التعليم لرسول الله كيف يدفع شياطين الإنس ويدفع شياطين الجن، فشياطين الإنس الذين يسيئون إليك وإلى دينك، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فإذا لم ينفع ذلك فجاهدهم كما أمر الله سبحانه وتعالى، ولكن شياطين الجن لا طاقة لك بمحاربتهم بالسيف، فماذا تعمل معهم؟ أخبر الله هنا أنه هو خالقهم سبحانه وتعالى، وهو الذي يقدر عليهم، فعليك أن تلجأ إليه سبحانه وتعالى، فالشياطين يرونك من حيث لا تراهم، فاستجر بخالقهم سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خالق هؤلاء الشياطين، فإذا جاءك الشيطان فقل: يا رب! اكفني هؤلاء، فإن الله سيكفيك شره.
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكْ}، أي: أتعوذ بك، وألجأ إليك، وأستجير بك، وأستغيث بك أن تجيرني من هؤلاء وتصرفهم عني.
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ} والهمزات: هي الوسوسة من الشياطين، والهمز واللمز بمعنى: الطعن، وإن كان الهمز هو الطعن في الخفاء، واللمز الطعن في العلن.
فقوله: {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، أي: من وساوس الشياطين، ومن دفعهم إياك إلى الباطل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/7)
تفسير سورة المؤمنون [96 - 101]
إن تعامل الإسلام ذو منهجية عظيمة، فحيث ينفع الترغيب والإحسان كان ذلك هو المطلوب، وحيث يصر العدو ويعاند يأتي الجهاد كحل مناسب معه.
وإن الإنسان البعيد عن الله تزيد غفلته، ولكنه عند مجيء الموت يريد الإمهال ولا يعطاه، فالخطب بعد الموت عظيم، فمن حياة برزخية مخيفة، إلى وقوف للحساب على الكبير واليسير، في يوم ينسى فيه القريب والبعيد.(60/1)
تفسير قوله تعالى: (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].
لما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله وسلامه عليه أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة، وقال: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، وهذا في الآية يقصد فيما بينه وبين شياطين الإنس فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} [المؤمنون:96]، أي: من أساء إليك بإساءة فادفع سوءه بالحسنى؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يهدي هذا الإنسان، ولعله يراجع نفسه ويعلم أنه ظالم فيرجع إلى الحق الذي أنت عليه، وهذا الأمر إنما يكون إلى قدر معين، فإذا ازداد الأمر فقد أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد أعداء لله سبحانه وتعالى.
فهو يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا استجابوا فكان بها، فإن لم يستجيبوا وأصروا على الإعراض والكفر وإنكار ما يقوله والاستهزاء به، فقد أمر بأن يجاهدهم صلوات الله وسلامه عليه بالسيف والسنان.
وقوله سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96]، يفيد أن هناك أحسن وهناك حسن، فما قال: ادفع بالحسن السيئة، ولكن ادفع بالتي هي أحسن، فهناك حسن وهناك أحسن منه، فادفع بأفضل الأشياء وأحسنها، وادفع سيئات هؤلاء لعلك تؤثر في قلوبهم فيستجيبون لك، قال تعالى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، أي: بما يكذبون عليك وبما يشركون بالله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، والإنسان في وقت غضبه قد يأتيه الشيطان فينفخ فيه ويدفعه لأن يرد الإساءة بالإساءة، فقال الله لنبيه: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}، فإذا ابتلي الإنسان بمن يسيء إليه فليدفع سوءه بالحسنى، وليتعوذ بالله عز وجل من الشيطان الرجيم، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الغضب أن نقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غضب واشتد غضبه واحمر وجهه، فقال: إني لأعلم كلمة لو قالها هذا ذهب عنه الذي فيه، قالوا: ما هي؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
فالإنسان الغضبان إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم أذهب الله عنه ثورة غضبه، ولم يجعله يندفع ويتهور في هذا الغضب.
لذلك ذكر الله رسوله بأمرين: الأول: أن يدفع بالتي هي أحسن؛ لأن الشيطان ينزغ في نفس الإنسان المؤمن حينما يرى عدوه يسيء إليه، فدفع الإنسان لابد أن يكون بالتي هي أحسن، فإن لم يجد ذلك فالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وذلك مع الإنس، أما مع شياطين الجن فلا حيلة معهم إلا أن يلجأ العبد إلى ربه سبحانه وتعالى، وربه هو الذي سيعصمه، وقد أخبر الله أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، فإذا لجأت إلى الله صرف عنك الشيطان.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ}، أي: أتعوذ بك وألجأ إليك، وأستجير بك وأستغيث بك من همزات الشياطين، أي: وسوسة الشياطين.(60/2)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاستعاذة
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعوذ بالله عز وجل من همز الشيطان، ويقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته قبل أن يقرأ فاتحة الكتاب يبدأ بالتعوذ، كما في الحديث عند أبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر)، يعني: في صلاة التهجد أو قيام الليل، (ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، وهذا هو دعاء الاستفتاح في صلاة الليل،: (ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثاً، ثم يقول: الله أكبر كبيراً ثلاثاً، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)، فذكر العلماء أن كلمة (همزه) معناها وسوسة الشيطان ونفخ الشيطان وهو الكبر، فالكبر يدفع الإنسان لأن يصير في نفسه عظيماً، فيؤدي به إلى الكفر في النهاية والعياذ بالله! والنفث بمعنى: السحر، أي: أنه يكيد للإنسان بشيء من السحر، وقال بعضهم: النفث هو الشعر؛ لأن الشيطان ينفث في الإنسان بأن يقول الأشعار التي يكون فيها عدم ذكر الله سبحانه، وفيها اللهو والتعريض بالنساء وغير ذلك.
وقد يأتي النفث بمعنى: الكبر، أو بمعنى: ما يأمر به الشيطان الإنسان من الزهو والغرور، وأما معنى همز الشيطان فهو الجنون، فيأتي إلى الإنسان فيوسوس إليه حتى يجعله ذاهب العقل مجنوناً، أو يجعله يتيه بنفسه ويفخر بنفسه ويستكبر على الخلق، أو يجعله لا يدري هل فعل الشيء أو لم يفعله؟ فالله عز وجل أمرنا أن نتعوذ به سبحانه، ونقول: يا رب! يا من تقدر على كل خلقك! أعذنا.
وهذه الآية فيها قراءات: فقراءة يعقوب: (وأعوذ بك رب أن يحضروني) بالإشباع، وقراءة الجمهور: (أن يحضرون) بالكسرة في آخرها دون الإشباع، والمعنى: أني أتعوذ بك يا رب أن يأتيني الشيطان ويحضرني في حال ذكر الله سبحانه وتعالى، وفي غيره من الأحوال.
وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا فزع أحدكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره)، وذلك أن الشيطان يأتي للإنسان في يقظته، فيوسوس له أو يدفعه للتهور والغضب، أو يدفعه للغرور والجنون، فأمرنا أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بل قد ينام الإنسان ولا يتركه الشيطان فيأتي له بالكوابيس وبالأحلام التي تفزعه، فأمرنا النبي أن نتعوذ بالله من الشيطان وأن نقول: (أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون)، ثم قال: (فإنها لن تضره)، أي: نزعة الشيطان ونزغته وهو نائم لن تضره إذا قال هذه الكلمات العظيمة.
أيضاً جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند الطعام)، فالشيطان لا يترك الإنسان في كل شأن من شئونه، بل يوسوس له ويلهيه عن ربه سبحانه، فيأتيه في عباداته، وكذلك في وقت طعامه، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان).
إن الشيطان يراك ولا تراه، فهو من حولك، ويأتيك وأنت تدخل بيتك، ويريد أن يدخل معك ليبيت معك بداخل البيت، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم إذا دخلنا البيت أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أو نسم فنقول: (اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، باسم الله ولجت وباسم الله خرجت، وعلى الله توكلت)، وبهذا يقوم الشيطان ولم يدرك المبيت معك، كذلك إذا حضر العشاء وأنت تأكل فالشيطان يريد أن يأكل معك وأنت لا تراه، ولكن يخبرك النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر الصدق الذي أخبره به ربه سبحانه، فيعلمك أن تسمي الله سبحانه عند طعامك؛ حتى لا يأكل معك، وكذلك لعل الإنسان يأكل فيسقط منه شيء من طعامه، فهل يتركه أو يأخذه أم ماذا يفعل؟ طالما أنه لم يتلوث فأمط ما به من أذى وكل طعامك ولا تتركه، ولو تركته فإن الشيطان سيأكل معك منه، فلا تدع للشيطان طعاماً لك، ولا تجعل له مبيتاً عندك في البيت، فعلى الإنسان أن يكون ذا ذكر لله سبحانه وفعل للعبادة والطاعة، وأن يحرص على تطهير بيته من الشياطين بذكر الله سبحانه وتعالى.(60/3)
تفسير قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)(60/4)
حال الغافل مع الموت
قال الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، ولا زالت الآية في ذكر المشركين الذين: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} [المؤمنون:82 - 83]، فهم يقولون ذلك في حياتهم، فإذا جاء الموت وعرفوا اليقين الذي كانوا يهربون منه، وعرفوا الحق الذي كانوا يكذبونه، فقد كانوا يقولون: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}، فلما رأوا ذلك وعاينوه إذا بهم يقول قائلهم كما قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ}، أي: نزل الموت بأحدهم، يقول قائلهم مستجيراً بربه: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، أي: أرجعني إلى هذه الدنيا مرة أخرى {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}.
قال تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة يعقوب: ((قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي))، بالياء مكان الكسرة.
وقوله: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}، أي: من الدنيا، قال الله: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، أي: أن جواب الله له: أنه يستحيل أن ترد إلى الدنيا مرة ثانية، فلن يكون هذا إنما هي مرة واحد تكون فيها في الدنيا، فإما أن تفوز وإما أن تخسر الخسران المبين والعياذ بالله.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} هذه الكلمة هي قوله تعالى: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، فهي كلمة لا ينظر إليها ولا يأبه بها، ولا يرد عليه عند طلبها بجواب يفرح به، وإنما قال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
وقوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، البرزخ: حياة القبر، وهي ليست كحياة الدنيا ولا كحياة الآخرة، بل هو ميت الجسد، ولكن روحه إذا كان من الكافرين فهي في أسفل سافلين تعذب، وإن كان من المؤمنين فإن روحه تنعم عند الله سبحانه وتعالى.
وهؤلاء عندما يقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، هم في هذا الوقت في حياة البرزخ، أي: المرحلة التي بين الدنيا وبين الآخرة، وهي مرحلة القبور.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}، قيل: يرجع الضمير في (إنها) على الكلمة وهي قولهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ}، وقيل: إنها تعود على كلمة الله سبحانه وتعالى أنه لن يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، فهي كلمة قالها ربنا سبحانه وقوله صدق وحق.
وعلى القول الأول فالرد على طلبهم هو قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ}، وكلمة (من ورائهم) تأتي بمعنى: خلف الإنسان، وتأتي بمعنى: الغيب، وهذا الغيب قد يكون أمام الإنسان، فهنا قوله سبحانه: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}، أي: أمامهم، ولكن هذا غيب لا يراه أحد، فعبر بقوله سبحانه، {وَمِنْ وَرَائِهِمْ}، أي: كأنهم مستورون عن الناس في الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين.(60/5)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)
وقال سبحانه وتعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، النفخ في الصور نفختان: نفخة الموت، ونفخة البعث والإحياء والنشور، فنفخة الموت يموت فيها الجميع، وبعدها يصبح الكل أمواتاً.
والنفخة الثانية: يوم يبعثون للحساب والجزاء، فإذا بعثوا فكل إنسان يفر من كل أقربائه، كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، فعندها لا أحد ينظر إلى نسبه، بل الكل يقول: نفسي نفسي.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا.
وهناك معنى آخر: وهو أنه لا يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، فهذا إنما كان في الدنيا، فقد كانوا فيها يتساءلون عن أنسابهم، أما في الآخرة فلا يتساءلون عن الأنساب كما كانوا يتساءلون في الدنيا؛ لهول ما يرون، فقد قاموا مفزوعين عندما رأوا أن الملائكة تنزل من السماء وتحيط بهم وهم في فزع عظيم، فعلى ذلك لا أنساب بينهم ولا يتساءلون.
وعنه أيضاً قال: إن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، وصحيح إنه إذا جاء الموت فلا يسأل الناس بعضهم البعض عن الأنساب، ولكن عند القيام من القبور للحساب فهذا أشد وأفزع، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنهم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)، والسيدة عائشة رضي الله عنها لما سمعت ذلك سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: الأمر أشد من ذلك)، أي: أن كل إنسان مشغول بنفسه.
ولقد سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، كيف يكون ذلك وقد قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]؟ وهنا يقول تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:50]، فوضح له ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي.
أما قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27]، فذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا، وهذا صحيح، وقد يقال: إن ذلك في النفخة الثانية حين يبعثون من قبورهم، فلا أحد يسأل أحداً عن شيء ولكن بعد أن يفوز المؤمنون بدخولهم الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أشياء كانت في الدنيا، كما قال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:26]، أما حين قاموا من قبورهم يوم الفزع الأكبر فلا أحد يسأل أحداً عن شيء.(60/6)
دقة الحساب يوم القيامة
جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على أخيها أو على زوجها)، وقد كان الناس في الدنيا كل منهم يقول للآخر: أفديك بكل شيء عندي، لكن هذا الكلام يوم القيامة يذهب، فإذا بالمرأة تفرح أن يكون لها على أبيها حق، فتأخذ من حسناته، وكذلك الحال في زوجها.
ثم قرأ ابن مسعود: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، أي: ينسى كل إنسان أن هذا أبوه أو هذا أخوه أو هذا ابنه، فهو يريد أن يأخذ حسنات من أي إنسان لكي يفلت من العذاب ويدخل الجنة.
ثم قال ابن مسعود: فيقول الرب سبحانه وتعالى: آت هؤلاء حقوقهم، فيقول الإنسان: يا رب! قد فنيت الدنيا فمن أين آتيهم به؟ فيقول الرب للملائكة: خذوا من حسناته، فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته -فوزعت هذه الحسنات على هؤلاء- فإن كان هذا الإنسان الذي يؤخذ من حسناته ولياً لله عز وجل في الدنيا ففضلت من حسناته مثقال حبة من خردل، ضاعفها الله تعالى له حتى يدخله بها الجنة، وهذا من فضل الله العظيم سبحانه وتعالى، أي: أنه إذا فضلت وبقيت من حسنات هذا الإنسان أشياء يسيرة فإن الله عز وجل يضاعفها، وتلا ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، فيضاعف الله له هذه الحسنة حتى يستحق بها أن يدخل الجنة، قال: (وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته) أي: انتهت حين وزعت على هؤلاء الذين ظلمهم، وبقي آخرون يطالبونه بحقوقهم، (فيقول الله تعالى: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، يعني: خذوا من سيئات هؤلاء المظلومين وأضيفوها على سيئاته حتى يعذب بها بدلاً عن هؤلاء الذين ظلمهم، قال: (وصكوا له صكاً إلى جهنم)، والعياذ بالله.
ولذلك فينبغي للإنسان المؤمن أن يكون ضنيناً بحسناته أن يضيعها، فلا يقع في غيبة أو نميمة، أو زور وبهتان، ولا يظلم أحداً من الخلق فيظلم نفسه، فإن الحساب يوم القيامة عسير.
نسأل الله عز وجل أن يجعل حسابنا يسيراً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/7)
تفسير سورة المؤمنون [101 - 108]
يذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن الكفار في يوم القيامة لا أنساب تنفعهم أو تنقذهم من عذاب الله كما كانت تنفعهم في الدنيا، وعندما توضع صحائفهم في الميزان فإن سيئاتهم ترجح على حسناتهم، فيأمر الله بهم إلى النار فتلفح وجوههم فتشوهها، فيقرون ويعترفون لله تعالى أنهم كانوا قوماً ضالين، ويطلبون من الله تعالى أن يعيدهم إلى الدنيا ليوحدوه ويعبدوه، فيرد الله عليهم رداً شديداً وشنيعاً أن اخسئوا فيها ولا تكلمون.(61/1)
تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:101 - 108].
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات قيام الساعة فقال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}، وقد ذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في آيات أخرى النفخ في الصور، وذكر أنه ينفخ مرتين: نفخة الصعق، ونفخة الإحياء والبعث.
فإذا نفخ النفخة الأولى فإنه يموت جميع الخلق، فلا أحد ينفع غيره، لا الوالد ينفع ولده، ولا الولد ينفع والده وهكذا.
فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية قاموا من القبور إلى العرض والنشور، وكل إنسان في فزع شديد، فلا أحد ينظر إلى أحد، ولا أحد ينفع أحداً، ولا يدعى إنسان بنسبه، فلا يقال: يا فلان تعال أنقذني أنا أبوك أو أنا ابنك، فكل إنسان يقول: نفسي نفسي، فلا يسأل الناس في هذا اليوم عن أسمائهم أو أنبائهم أو أحوالهم أو أنسابهم، فكل إنسان منشغل بنفسه.(61/2)
تفسير قوله تعالى: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون)
قال الله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] تحضر الخلائق للعرض أمام رب العالمين سبحانه ويؤتون الكتب، فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه ومنهم من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، فالإنسان الذي يأخذ كتابه بيمينه ينجح النجاح العظيم ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، ويحضر الميزان وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] أي: العدل القسط عند رب العالمين سبحانه، فهنا لا أحد يظلم شيئاً، فتوزن أعماله الصالحة وتوزن أعماله السيئة، وأيهما رجح كان من أهل النجاح أو من أهل الخسران، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: أفلحوا ونجحوا وكان النجاح الدائم والفوز المبين العظيم عند رب العالمين.(61/3)
تفسير قوله تعالى: (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم)
قال الله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103] فصحيفة أعماله وضعت في كفتي الميزان، فإذا بالسيئات رجحت على الحسنات فكان من الخاسرين، وكفة الأعمال الصالحة لم ترجح لأنها خفيفة، وكفة الأعمال السيئة ثقيلة، فإذا به والعياذ بالله يخسر أعظم الخسران.
والخسران في الدنيا هو أن يخسر الإنسان ماله وأولاده وأصدقاءه، ولكن الخسران العظيم أن يخسر نفسه، والإنسان في الدنيا يفدي نفسه بأي شيء من أجل أن ينجو بها، فإذا جاء يوم القيامة يقول: نفسي نفسي، وإذا به في خسران مبين، ضاعت منه الدنيا وضاع منه العمل وإذا به من أهل النار والعياذ بالله.
فالكفار خالدون في النار ولن يخرجوا منها، والموحدون لهم خلود في النار ولكن خلود دون خلود، ويكفي وصفه بأنه خلود فترة طويلة جداً لا يعتد بالسنين، فلا هو مائة سنة ولا مائتي سنة ولا ألف سنة ولا غير ذلك، ولكن {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] فإذا كان اليوم الواحد بألف سنة فكم سيكون الخلود في نار جهنم والعياذ بالله؟!(61/4)
تفسير قوله تعالى: (تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون)
قال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] والنار والعياذ بالله تلفح الوجه، وأشرف ما في الإنسان وجهه، وهو يحميه بسائر أعضائه ويكف عنه الشرور بيده وبرجله.
فالنار تبدأ في وجوه هؤلاء الكفار فتشويها، وتلفح بمعنى: تنفح في الوجه أو تنفخ بلهيبها في وجوههم فتحرقها وتلسعها بنار جهنم.(61/5)
معنى قوله تعالى (وهم فيها كالحون)
وقوله تعالى: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} كلح الإنسان بمعنى: عبس وجهه وكان فيه عبوس وضيق وانقباض، (وهم فيها كالحون) قال ابن عباس: وهم فيها عابسون، وأيضاً الكلوح في خلقة الإنسان التشويه والقبح فيها، فهم في غاية العبوس من شدة ما يقاسونه من نار جهنم والعياذ بالله فهم فيها عابسون.
قالوا: الكلوح تكشر في عبوس، يقال: فلان كشر عن أنيابه أي: أنه تقلصت العضلات التي في الوجه بحيث انفتح الفم وظهرت الأنياب، وبمعنى: تبسم، لأنه عندما يتبسم الإنسان تنقبض عضلات الوجه، فيبدو الفم والأسنان، فهذا أصل الكشر.
وهنا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: إننا نكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم، فنكشر بمعنى نتبسم، أي: ندفع شر هؤلاء بالتبسم في وجوههم ولكننا لا نحبهم، فهذا الكشر بمعنى ظهور أسنان الإنسان، وهم في النار لا يضحكون ولكن من شدة العذاب تقلصت الشفاه فإذا بالأسنان تبدو فيها، والمنظر غاية في القبح فالوجوه عابسة والأسنان بادية.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه.
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: (وهم فيها كالحون) قال: (تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته)، وإن كان في إسناده ضعف.
والإنسان المحروق بالنار فإن جلده يشيط وينكمش، فكذلك هؤلاء، فعندما تأتي نار جهنم والعياذ بالله على وجوههم فإنها تنكمش هذه الوجوه، فإذا بهم عابسون في نار جهنم من شدة الضيق والهم والعذاب الذين هم فيه، كذلك الوجوه مشوية ومشوهة، قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] والعياذ بالله.
والموحدون الذين كانوا يصلون في الدنيا وكانوا يعصون ربهم وغلبت عليهم السيئات فدخلوا النار، فإن النار لا تأتي على الأماكن التي كانوا يسجدون عليها، وهي: الجبهة والكفان والركبتان وبطون أصابع القدمين.(61/6)
تفسير قوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم وكنا قوماً ضالين)
ثم قال لهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] فيبكتهم ربهم ويقررهم على ما كانوا عليه في الدنيا: أليس كان القرآن يتلى عليكم؟ ولماذا لم تصدقوا به بل كنتم به تكذبون؟ وسيكون جوابهم على سؤال ربهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106]، وهذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: (ربنا غلبت علينا شقاوتنا)، أي: كنا في شقاوة في الدنيا، ولها معاني: المعنى الأول: غلب علينا ما كنا فيه من لذات وشهوات وشبهات، فكنا من أهلها وضيعنا أنفسنا، وهذا معنىً صحيح.
ومعنىً آخر: أنهم قالوا ذلك لربهم سبحانه: غلبت علينا شقوتنا أي: حسن ظننا بأنفسنا أننا لن نعذب، وأنك كما أعطيتنا في الدنيا ستعطينا يوم القيامة فلم نعمل صالحاً.
وهذه مصيبة الإنسان أن يحسن الظن بنفسه ويظن أن إعطاء الله له في الدنيا دليل على أنه يحبه، ولذلك ترى الإنسان إذا كسب مكسباً فإنه يقول: ربنا يحبني لأنني كسبت هذا النهار كذا! وما يدريه أنه يحبه أو يبغضه، وكونه يعطيه من الدنيا ليس دليلاً على المحبة، وإلا لو كان هذا محبة لكان أولى بها النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبيت أحياناً ويطوي صلى الله عليه وسلم على بطنه من شدة الجوع، وكانت النار لا توقد في بيته الشهر والشهرين والثلاثة صلوات الله وسلامه عليه، وإنما كان يأكل الأسودين التمر والماء عليه الصلاة والسلام، فإعطاء الله عز وجل العبد في الدنيا ليس دليلاً على محبته وليس دليلاً على أنه سوف يعطيه يوم القيامة.
المعنى الثالث من المعاني: أنهم احتجوا بالقدر واعتذروا به، فقالوا: مثلما أنت تقول في الدنيا: قدر الله وما شاء فعل، فهذا قدر الله عز وجل، فقالوا ذلك على وجه الحسرة: أنه غلبت علينا شقوتنا، أي: ربنا كتب عنده أننا معذبون، وهانحن عذبنا بما كتبه الله عز وجل، وربنا إذا حاسبهم لن يقول: قدرت عليكم كذا فأدخلتكم النار، وإنما يقول: عملتم كذا، فيسأل الإنسان عن عمله وليس عن قدر الله سبحانه وتعالى.
وأمر القدر مبني على علم الله وحكمته وقدرته سبحانه وتعالى، فهو على كل شيء وتقديره لكل شيء، وهذا أمر أمرنا أن نؤمن به، أما أن تحتج به فلا ينفعك الاحتجاج بالقدر؛ لأنك تعمل الحسنة وتجد نفسك قادراً على فعلها، ومختاراً أن تفعل أو تترك.
والله عز وجل علم أنك تفعل، وقدر أنك تفعل، ولكن أعطاك اختياراً فاكتسبته باختيارك، ولم تستشعر وأنت تعمل الحسنة أنك مجبر عليها، وفي وقت فعل السيئة أيضاً لا تستشعر أنك مجبر عليها وإنما تفعلها باختيارك.
وقد أمرنا الله تعالى أن نؤمن بالقضاء والقدر، وأن الله قدر وعلم سبحانه وكتب عنده سبحانه وتعالى، وأن ما علمه مستحيل أن يغير، ولكن حين نعمل نحن نستشعر بالاختيار وبالكسب في العمل، فالإنسان عندما يأكل فهو قادر أن يمسك اللقمة وأن يضعها في الإدام أو في الملح أو في الحلو، ومختار أن يأكل هذا أو يتركه، ولم يقل في هذه الحال: القدر جعلني آكل هذا وأترك هذا.
فكذلك العمل، فكما قدر الله عز وجل لك قوتك أن تأكله ومكتوب عنده ذلك، كذلك قدر عنده سبحانه أنك تعمل هذا الخير أو هذا الشر، فهذا الأمر نؤمن به، أما العمل فيلزمك أن تعمل الخير وأن تترك الشر، فأنت محاسب على اكتسابك خيراً أو شراً، ولن يقول الله للناس يوم القيامة: ادخلوا النار لأنني كتبتها عليكم، ولكن يقول: جزاءً بما كنتم تعملون.
فلما احتج هؤلاء بالقدر أنه ساقهم إلى النار وأنهم ضلوا في الدنيا وتاهوا عن طريق الجنة لم يسمع منهم ذلك.(61/7)
تفسير قوله تعالى: (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون)
ثم قالوا متذللين لرب العالمين ذلاً لا ينفعهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فعرفوا هذا الوقت أنه ربهم سبحانه، فإذا بهم يتذللون له: ربنا غلبت علينا شقوتنا، وأين إيمانكم بالقضاء والقدر عندما كنتم في الدنيا؟ والآن آمنتم، فهنا {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام:158] فيوم القيامة يوم الجزاء، أما الدنيا فهي للعمل، ويوم القيامة لا إيمان فيها ولا عمل، فقد صار الغيب شهادة.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي: لن نعمل هكذا مرة أخرى إن رجعنا إلى الدنيا، وقد أخبرهم الله تعالى في الدنيا أنها مرة واحدة فقط، وأن الله سبحانه وتعالى يحيي الإنسان ثم يميته ثم يبعثه ليوم القيامة ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية، فلما قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} كان
الجواب
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يقال: خسئت الكلب بمعنى: طردته وأبعدته، وهذه الكلمة تقال للكلاب والخنازير، فصاروا كالكلاب في نار جهنم والعياذ بالله، ورد الله عليهم بهذا الرد الشديد الفظيع القبيح: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي: اذهبوا إلى نار جهنم مطرودين من الرحمة ولا تكلمون.
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن أهل جهنم يدعون مالكاً خازن النار فلا يجيبهم إلا بعد أربعين عاماً، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]، وذلك عندما يأمر الله البهائم أن تكون تراباً، فيتمنى الكافر أن يكون كالبهائم، قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ولما أيقن أنه لن يكون تراباً وأنه سيكون في نار جهنم خالداً فيها، فإنه ينادى مالكاً أن يميته الله في جنهم، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، فكان الجواب أنه سكت عنهم أربعين سنة ثم قال لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}.
وقال عبد الله بن عمرو: هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك، قال: ثم يدعون ربهم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فيسكت عنهم ربهم سبحانه وتعالى أمداً طويلاً، قال: عبد الله بن عمرو: قدر عمر الدنيا مرتين، وتركهم في نار جهنم، ثم يرد عليهم بقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] قال: فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة.
يعني: بعدما تضرعوا وطلبوا من مالك ليقض عليهم ربهم، ثم سألوا رب العالمين سبحانه وتعالى وكان الجواب ذلك، قال: فما نبس القوم بعدها بكلمة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم، فشبه أصواتهم بصوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.
وجاء أيضاً في الأثر أن الله سبحانه وتعالى مكث عنهم ما شاء الله وناداهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] فلما سمعوا ذلك ظنوا أن الله عز وجل سيرحمهم وسيخرجهم من نار جهنم، فقالوا: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، فقال عند ذلك: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء وأقبل بعضهم على بعض ويصرخ بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار والعياذ بالله.
هؤلاء هم أهل النار، وهذا حالهم في نار جهنم يستغيثون فيغاثون بماءٍ كالمهل يشوي الوجوه، ويطلبون الطعام وطعامهم من شجرة الزقوم، ونار مطبقة عليهم، وينادون ربهم أن يرجعهم إلى الدنيا ولا رجوع، ويقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}، ويطلبون أن يكونوا تراباً فلا يكونون كذلك أبداً، فهذا حال أهل النار، فمن من الناس يتذكر هذا الحال فيود أن يكون مع هؤلاء والعياذ بالله؟! وعمل الإنسان في الدنيا هو الذي ينجيه من عذاب رب العالمين يوم القيامة، والدنيا عمرها قصير وخطرها كبير عظيم، فالإنسان المسلم يحتاط لنفسه في هذه الدنيا قبل أن يرد هذا المورد الذي لا خروج منه.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(61/8)
تفسير سورة المؤمنون [102 - 118]
في هذه الآيات تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم، ومن ذلك استهزاؤهم بعباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين والسخرية منهم، ووبخهم سبحانه وتعالى على تضييعهم أعمارهم القصيرة في الدنيا بما يسخط الله ويغضبه، ثم إنه سبحانه وتعالى حذر وتوعد من أشرك به غيره وعبد معه سواه، وأنه لا فلاح ولا فوز لديه يوم القيامة للكافرين.(62/1)
تفسير قوله تعالى: (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة المؤمنون: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109 - 118].
هذه الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة سورة المؤمنون، يذكر الله سبحانه وتعالى فيها الجزاء الذي يكون يوم القيامة، وأن الناس في هذا اليوم العظيم منهم من تثقل موازينه، ومنهم من تخف موازينه، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103].
هؤلاء الخاسرون خسروا أعظم شيء عندهم وهي أنفسهم، فالإنسان قد يخسر أي شيء ويصبر على هذا الخسران، ولكن أن يخسر نفسه فيكون في نار جهنم فهذا هو الخسران المبين.
{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] فإذا دخلوا نار جهنم والعياذ بالله لفحت النار وجوههم، وتبقى آثار لفحها على وجوههم، {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] قد تشوهت وجوههم وعبست.
ويناديهم ربهم سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:105] وهذا فيه تبكيت لهم من ربهم، أي: قد جاءكم هذا القرآن العظيم فلم تعملوا به، واتخذتموه وراءكم ظهرياً وكنتم به تكذبون.
قال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
فأرادوا أن يحتجوا بالقدر يوم القيامة، أي: أنك كتبت علينا الشقاوة في الدنيا فصرنا إلى النار، فلم يسمع الله لقولهم؛ لأن الإنسان يعلم وهو يعمل الشيء الحسن أن هذا حسن، ويفعله وهو قادر على فعله، ويرى في نفسه القدرة على عمل الصالحات وترك السيئات.
فهو مختار مكتسب للحسنات أو للسيئات، والله يوفق من يشاء من عباده سبحانه ويهدي من يشاء.
فذكر تعالى أنهم طلبوا الرجوع إلى الدنيا، فقالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، فكان الجواب عليهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، أي: ابقوا في نار جهنم مطرودين من رحمة رب العالمين سبحانه، كالكلب حينما يطرده الإنسان.
ثم ذكر تعالى أن من أسباب دخول هؤلاء النار أنهم كانوا يستهزئون من المؤمنين، فالمؤمنون في الدنيا كانوا يدعون ربهم سبحانه، ويدعون إليه سبحانه، والكافرون كانوا غالبين قاهرين، فنظروا إليهم بنظرة استهزاء واستخفاف، فسخروا منهم وعذبوهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109].(62/2)
تفسير قوله تعالى: (فاتخذتموهم سخرياً حتى أنسوكم ذكري)
قال الله تعالى: {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون:110].
فالكفار في الدنيا كانوا أقوياء لا يعبئون بالمسلمين، فينقلب الأمر عليهم يوم القيامة، يوم يحق الله عز وجل فيه الحق ويبطل الباطل، فلم تنفعهم قوتهم التي كانت في الدنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
أي: فيجيئون إلى ربهم سبحانه فرادى لا يملكون مالاً ولا شيئاً ينفعهم ويدفع عنهم العذاب.
وفي قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ) قراءتان: القراءة الأولى بعدم الإدغام، وهي قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب.
والقراءة الثانية بإدغامها، وهي قراءة باقي القراء، فإنهم يدغمون الذال في التاء ويقرءونها تاءً.
و (سخرياً) كذلك فيها قراءتان: القراءة الأولى بكسر السين وهي قراءة نافع وأبي جعفر المدنيين، والقراءة الثانية بضم السين، وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف: (سُخرياً) وكأنها من التسخير، أي: سخرتموهم وألزمتموهم بأعمال شاقة وأتعبتموهم في الدنيا.
فقوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) بمعنى: تسخرون من المؤمنين وتستهزئون بهم، وبمعنى: أتعبتموهم بالأعمال الشاقة؛ لأنهم كانوا عليهم قادرين وقاهرين.
وقوله تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي}، فالكافر ينسى ذكر الله عز وجل، والمؤمن يدعو إلى الله عز وجل، فهو ذاكر لله سبحانه وتعالى، فكيف أنسى المؤمن الكافر ذكر الله؟
و
الجواب
أنساه المؤمن بأن انشغل الكافر به، فكلما ذكر المؤمن ربه كان الكافر له بالمرصاد يستهزئ به ويتعبه ويسخر منه.
فشغلة الكافر السخرية والاستهزاء والإتعاب للإنسان المؤمن، فانشغل بذلك عن أن يذكر الله وعن أن يتفكر فيما يقوله المؤمنون، قال تعالى: {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110].
قال الله تعالى في السورة الأخرى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].
وقال تعالى قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31].
فالكفار إذا رأوا المؤمنين ضحكوا منهم حتى وإن أظهروا لهم كلاماً طيباً أمامهم، فإنهم من ورائهم يسخرون منهم، هذا إذا كان المؤمن قوياً، أما إذا كان المؤمن ضعيفاً فإن الكافر يستهين به علانية ويسخر منه ويستهزئ به.
وكذلك إذا انقلب الكفار إلى أهاليهم فإنهم يقولون: رأيت اليوم واحداً من هؤلاء المؤمنين! ويضحك منه ويستهزئ به ويجعله قصته في بيته.
فهو في الطريق يضحك من المؤمن وفي بيته ويوم القيامة يريهم الله عز وجل أعمالهم حسرات عليهم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34].
فالكافر في نار جهنم والمؤمن ينظر إليه وهو في الجنة ويسخر منه ويضحك عليه كما كان يفعله في الدنيا، فقد انقلب عليه في هذا اليوم، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36]، أي: هل جوزي الكفار ما كانوا يفعلونه في الدنيا؟(62/3)
تفسير قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا)
قال الله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111] فقد جزاهم الله سبحانه وتعالى الخير على ما صبروا في الدنيا، فهؤلاء هم الفائزون الفوز العظيم الذي لا خسران بعده.
وفي قوله تعالى: ((أنهم هم الفائزون)) قراءتان: القراءة الأولى بفتح همزة (أنهم)، وهذه قراءة الجمهور، والقراءة الثانية بكسر همزة (إنهم)، وهذه قراءة حمزة والكسائي: ((إنهم هم الفائزون)).(62/4)
تفسير قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين فاسأل العادين)
قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] يذكر سبحانه عن هؤلاء الكفار حين خرجوا من قبورهم فيسألهم ربهم سبحانه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] أي: كم مكثتم وجلستم في هذه الدنيا؟ وعندما يقارنون بين أيام الدنيا وعمر أحدهم الذي قضاه في الحياة الدنيا وبين يوم القيامة، فإن يوماً واحداً بخمسين ألف سنة، فيجدون أن هذا العمر الذي لبثوه في الدنيا لا شيء.
وقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} هذه قراءة الجمهور، وقرأها ابن كثير وحمزة والكسائي: ((قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين))، وكذلك كلمة ((لبثتم)) نصف القراء يقرءونها بالإدغام، والنصف الآخر يقرءونها بدونه، فقرأها أبو جعفر وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بالإدغام، وقرأها الباقون بدون الإدعام.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112] يسألهم ربهم بعد ما بعثوا من قبورهم ووقفوا في يوم الموقف العظيم بين يدي رب العالمين: كم قعدتم في هذه الدنيا؟ فالمكث هو العمر الذي كان في الدنيا أو الذي كان في قبورهم، وسواء هذا أو ذاك فهو عمر حقير وقليل بالنسبة إلى يوم القيامة.
فيجيبون مستقلين لعمرهم السابق، بعدما قارنوا هذه الأيام التي كانت في الدنيا والتي كانوا فيها في البرزخ في القبور مع يوم القيامة هذا اليوم العظيم، قال تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113].
وفي آية أخرى قال سبحانه وتعالى: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا} [طه:103 - 104] فهنا عندما يقارنون بين أيام الدنيا وبين أيام الآخرة يقولون: لم نلبث فيها إلا يوماً واحداً.
وقوله تعالى: {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: اسأل من يعد من الملائكة فإنهم يعرفون ذلك، ونحن لسنا عارفين هل لبثنا يوماً أو جزءاً من اليوم.
وقوله تعالى: ((فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير والكسائي وخلف ((فسل العادين)) أي: اسأل من يحسبون ذلك ويعدونه.(62/5)
تفسير قوله تعالى: (قال إن لبثتم إلا قليلاً)
قال تعالى: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:114] فيجيبهم ربهم سبحانه، وقيل: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يقول لهم: لم تلبثوا في الدنيا إلا شيئاً يسيراً وقليلاً إذا قورن بالآخرة.
وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (لو) حرف امتناع، أي: امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، فلو كنتم تعلمون لآمنتم، ولكنكم أخذتم كلام المرسلين استهزاءً فلم تنتفعوا بذلك؛ لأنكم لم تعلموا العلم الذي ينفعكم.
وفرق بين من عرف الشيء ومن علمه واستيقنه، فالكفار عرفوا ما أخبرتهم الرسل بأنهم يكونون في الدنيا دار التكليف وأن الآخرة دار الجزاء، أما أنهم يعلمون ذلك علم اليقين الذي يدخل في قلوبهم فلا، فلو كانوا يعلمون لآمنوا بهذا اليوم ولكنهم لم يصدقوا ولم يستيقنوا.(62/6)
تفسير قوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً لا إله إلا هو رب العرش الكريم)
قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أي: أفحسبتم أننا خلقناكم كالبهائم وكالدواب وتركناكم عبثاً؟! فحاشا لله سبحانه أن يكون في خلقه عبث ولعب! ولكنه يخلق كل شيء بحكمة منه سبحانه وتعالى وبعلم وقدرة.
فإذا كان الله قد خلقهم من أجل أن يمكثوا في الدنيا وهي عمرٌ قليل، ويموت الناس فيها ثم لا يرجعون إلى الله، فأين العدل الإلهي الذي يكون للمظلوم من الظالم؟! فعدل الله عز وجل أن يعيدهم كما بدأهم، وأن يجازيهم على أعمالهم، والجواب من رب العالمين سبحانه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فتبارك وتعالى سبحانه وتمجد وتنزه وتقدس سبحانه، وهو الملك الحق سبحانه، لا يخلق شيئاً عبثاً، وإنما يخلق كل شيء لحكمة، فهو الله الملك الذي يملك كل شيء، فحكمه والذي يحكم كل شيء هو الحق، وما سواه فهو باطل مهما أوتي من ملك الدنيا.
وقوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] فهو رب الدنيا ورب الآخرة، فالسماوات السبع والأرضون السبع كلها بجوار كرسي الله سبحانه وتعالى كحلقة في فلاة، والكرسي بجوار عرش رب العالمين سبحانه كحلقة في فلاة!! فيستحق العرش أن يوصف بأنه عرش كريم، فالله مالك الدنيا والآخرة، ومالك هذا العرش سبحانه وتعالى رب كل شيء ومليكه.
وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الكريم الذي جاء فيه وصف العرش بأنه كريم، وفي سوى ذلك وصفه سبحانه بأنه العرش العظيم.(62/7)
تفسير قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به)
قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فالذي يدعو مع الله عز وجل إلهاً آخر يقيناً لا برهان له به، والحال أنه لا برهان له به، وليس في الآية منطوق ومفهوم.
فالمنطوق: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} والمفهوم منها: أن الذي يدعو مع الله إلهاً آخر له برهان، فهذا ليس مقصوداً، إنما معنى الآية: أن من يدعو إلهاً غير الله فهو لا برهان له بهذا الذي يقوله.
ومعنى (لا برهان له به) أي: لا حجة له بذلك.
وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} هذا وعيدٍ شديد من الله عز وجل، فالمشركون الذين عبدوا غير الله أو الذين عبدوا إلهاً مع الله لا يفلحون أبداً.(62/8)
تفسير قوله تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين)
قال الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:118] هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه أن يسألوا الله عز وجل المغفرة والرحمة، وأن يصفوه بهذه الأوصاف الجميلة بأنه خير الراحمين وأرحم الراحمين سبحانه وتعالى.
وقد بدأ الله هذه السورة الكريمة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وختمها بهذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.
فالمؤمن يدعو ربه سبحانه الذي آمن به وأقام الصلاة وآتى الزكاة وفعل الصالحات من أجله أن يثيبه الله سبحانه وأن يغفر له، فبدأ الله بالأعمال الصالحة كالصلاة والزكاة وغيرهما وختم بهذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}.(62/9)
تفسير سورة النور [1 - 2]
سورة النور من أعظم سور القرآن، وقد ابتدأها الله بذكر بيان شرفها وأهميتها، وذكر أنه أنزلها وفرضها، وأنه أنزل فيها آيات واضحات وموضحات لما نحتاج إليه، والمقصود منها أن نتذكر بها ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وقد اشتملت على أحكام كثيرة لم تذكر إلا فيها؛ ولذا اهتم أهل العلم بتفسيرها قديماً وحديثاً، وأفردوها بالتصنيف.(63/1)
مقدمة عن سورة النور
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة النور: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:1 - 3].
هذه السورة هي الرابعة والعشرون من كتاب الله سبحانه وتعالى، واسمها سورة النور؛ لما ذكر الله عز وجل فيها من قوله سبحانه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور:35]، الآية.
وهذه السورة من السور المدنية اتفاقاً، فكلها نزلت بالمدينة، ونزلت في أسباب، وسيأتي البعض من هذه الأسباب، والآيات عددها اثنتان وستون آية على العد الحجازي، وعلى العد الحمصي ثلاث وستون آية، وعلى عد باقي القراء أربع وستون آية.
والخلاف في هذا العد مبني على مكان وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتبر أنه رأس آية، أو تكون الآية مكملة للآية التي قبلها، وأما الآيات فهي نفسها.(63/2)
مجمل الأحكام التي ذكرت في سورة النور
لقد بدأها الله سبحانه وتعالى بقوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وإن كان القرآن قد نزل من عند الله سبحانه، وكل القرآن قد فرض علينا ربنا سبحانه أن نعمل بما فيه من شرعه سبحانه، لكن اختصت هذه السورة بكونها ذكر فيها أحكام عظيمة يحتاج إليها الناس: من العفاف والستر، فذكر الله عز وجل فيها الأحكام الشرعية في أمر العورات، وأنه ينبغي على الإنسان أن يحفظ عورته ولا يحل له أن يقع في الزنا، فإذا وقع الإنسان في الزنا فهو يستحق الحد الشرعي على ذلك.
وفيها التحذير من مصايد الشيطان ومكايده للإنسان، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21]، فالشيطان يدعو الإنسان لأن يقع في الفواحش، ويزين له الفاحشة حتى إذا وقع فيها صار الإنسان في كبيرة من المعاصي إلا أن يتوب الله عز وجل عليه.
وفيها: ذكر الزاني والزانية، وكيف أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج بامرأة زانية مشهورة بذلك إلا أن تتوب إلى الله عز وجل، والعكس كذلك، فالمرأة العفيفة لا يجوز لها أن تتزوج برجل عاهر زان مشتهر بذلك، فمن تاب تاب الله عز وجل عليه، وجاز له أن يتزوج من المرأة بعد التوبة، وكذلك المرأة.
وفيها أيضاً: أن الإنسان الذي يقذف غيره بهذه الفاحشة ولم يأتِ بالبينة فإنه يحد، إذ الأصل أن الإنسان لا يتكلم في أعراض الغير، فإذا تكلم فيها فإنه يتكلم بخير أو يسكت، فإذا وقع في أعراض الناس ورماهم بهذه الفاحشة استحق أن يعاقب عقاباً يردعه ويردع أمثاله ممن يتكلمون في ذلك، فيجلد هذا الإنسان ثمانين جلدة على كونه يقذف إنساناً بأنه زنى، أو أنه وقع في هذه الجريمة.
وقد يرمي الرجل امرأته بهذه الجريمة، ويصعب على الرجل أن يأتي بشهود، ويصعب عليه أن يداوم العشرة مع امرأة قد رآها وقعت في هذه الجريمة، لذا أنزل الله عز وجل شريعة في هذا الأمر: بأن الرجل يتلاعن هو وامرأته على ما يأتي تفصيله في هذه السورة الكريمة.
وذكر الله عز وجل فيها أيضاً كيف يتعامل الإنسان مع ربه سبحانه وتعالى، حيث قال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36]، وكيف يواظب على صلته بربه سبحانه وتعالى، وعلى طاعته لله عز وجل التي تكسبه نوراً في قلبه، وزيادة في إيمانه على ما يأتي فيها.
فهذه السورة ذكر الله عز وجل فيها هذه الأحكام وغيرها، وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أهل الكوفة يأمرهم بأن يعلموا نساءهم سورة النور، وكان الصحابة يهتمون بهذه السورة جداً، فيتعلمونها ويعلمونها أزواجهم وأولادهم، فكان عمر يكتب إلى أهل الكوفة: علموا نساءكم -يعني: أزواجكم وبناتكم- سورة النور، وكذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها مثل ذلك.(63/3)
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)
قال سبحانه: {سُورَةٌ} [النور:1] أي: هذه سورة عظيمة، {أَنزَلْنَاهَا} [النور:1] أي: نزلت من عند رب العالمين، {وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: فرضنا عليكم الأحكام التي فيها أن تعملوا بها، وأن تتعلموها، وأن تأمروا بها أنفسكم وغيركم، وغيرها من القرآن مفروض علينا أن نعلم به، ولكن اختصت هذه السورة بهذا التصريح لما فيها من أحكام عظيمة يحتاجها كل الناس، من أحكام الستر والعفاف.
قرأ الجمهور {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1]، وقرأ ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري (وفرّضناها) أي: نزلنا هذه السورة من عندنا مقطعة في الإنزال، فلم تنزل كلها مرة واحدة، وكأنها مأخوذة من الفريضة، ومنها علم الفرائض والمواريث، بمعنى: تقطيع الأنصباء، فهذا له النصف وهذا له الربع، وهذا له كذا، ففيه تقطيع الأنصباء، ومنها: فرضة القوس التي تكون في آخر القوس ويربط فيها الوتر، فالفريضة كأنها القطعة من الأحكام المأمور أن نعمل بها.
فـ {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور:1] أي: قطعناها في الإنزال فنزلت من عند الله عز وجل آيات آيات حتى اكتملت السورة.
وكلمة سورة معناها في اللغة: المنزلة الشريفة، فالسورة مأخوذة من ذلك، أنها جاءت بمنزلة عظيمة، ووقع عظيم في قلوب المؤمنين، ولها القدر العظيم عند الله عز وجل وعند المؤمنين، فسميت السورة سورة لشرفها، وأنها نزلت من عند رب العالمين سبحانه.
قال: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور:1] أي: واضحات في دلالتها {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:1]، وكأن المعنى: تتذكرون ما نزل من عند الله، فتعملون بهذا الذي ذكركم به، وكلمة {تَذَكَّرُونَ} [النور:1] فيها القراءتان: قراءة حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف (تذكَّرون)، وقراءة باقي القراء: (تذَّكَّرون)، وأصلها: تتذكرون ما نزل من الأحكام فلا تنسوا ذلك؛ لعلكم تعملون بما جاء من عند الله سبحانه.
والتذكر عكس النسيان، والنسيان قد يكون طبيعة في الإنسان، وقد يكون عمداً، فالأول يعذر فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، والنسيان قد يكون بمعنى: معاملة الشيء معاملة المتغافل عنه، وهذا فيه عقوبة على الإنسان، والنسيان يأتي بمعنى الترك كما قدمنا قبل ذلك.
وفي الآية: {مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:124 - 126]، فالنسيان هنا بمعنى: ترك العمل بما فيها، فالذي يتعامل مع آيات القرآن بتغافل عنها، فيرى الآيات أمامه ومع ذلك لا يعمل بما فيها، فقد تعمد الترك، وهو أحد معاني النسيان لكتاب الله عز وجل، وهو الذي يستحق يوم القيامة أن يعامل معاملة المنسي فقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: تترك في نار جهنم كالمنسي، وإن كان ربنا لا ينسى شيئاً سبحانه.(63/4)
بيان بعض الحدود الموجودة في كتاب الله
ثم ذكر الله تعالى حكماً من الأحكام فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2]، وهذا حد من الحدود الشرعية التي جعلها الله عز وجل حاجزاً بينك وبين الوقوع في الفاحشة والمعصية، فإذا وقعت في هذه الفاحشة والعياذ بالله فإنه يقام عليك الحد الشرعي فيها.
فحد الزاني حد من الحدود، وسيأتي في السورة نفسها حد آخر وهو حد القاذف، وهو في الذي يقذف غيره بجريمة الزنا ونحوها.
وفي القرآن حدود أخرى مثل حد السارق في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وفي القرآن أيضاً حد الحرابة، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:33]، فأمر الله عز وجل بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فقال: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33].
وكذلك جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حد آخر وهو حد شار الخمر، وهو أن يجلد ثمانين جلدة أو أربعين جلدة على الخلاف في ذلك، وكذلك جاء في السنة حد الساحر وهو القتل بالسيف، فهذه حدود من الحدود التي ذكر الله عز وجل في كتابه أو جاءت في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومنها: حد من يقع في اللواط، وهل هو ملحق بالزنا فيكون مثله أو أن له حكم آخر: وهو أن يرجم هذا الإنسان؟ على كلام يذكره العلماء فيه، فهذه الحدود الشرعية هي التي تمنع الإنسان من الوقوع في المعاصي، فالشريعة جاءت لنفع البشر ودفع الضرر عنهم، فالأحكام والحدود الشرعية تعزير وتخويف للإنسان أن يقع في ذلك.(63/5)
تفسير قوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة)
قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، قراءة الجمهور (مائة جلدة)، ويقرأها أبو جعفر (مية جلدة)، ويقف حمزة على (مائة).
قال تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، قوله: {رَأْفَةٌ} [النور:2] بسكون الهمزة هي قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير بالفتح (ولا تأخذكم بهما رَأَفَة في دين الله) على خلاف فيها.
والزنا كان معروفاً عندهم في الجاهلية، وكان مشهوراً جداً، وكان في أهل البدو بغايا لهن بيوت معروفة، وعليها رايات وأعلام معروفة، فهذا بيت فلانة، وهذا بيت فلانة، ولذلك كان العرب يقتلون البنات خوفاً من هذا العار، فإذا كان الإنسان لا يربى بناته في بيته تربية صحيحة على دين الله عز وجل فمن الممكن أن تقع البنت في هذه الجريمة.(63/6)
تعريف الزنا وحد مرتكبه
الزنا شرعاً قالوا: هو اسم لوطء الرجل امرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح لمطاوعتها.
فإن طاوعته اشتركت معه في الجريمة، وأما إذا كانت مكرهة على ذلك بأن اغتصبها فهو وحده الذي يقام عليه الحد، سواء حد الزنا، أو يقام عليه حد الحرابة في ذلك.
ويعرف الزنا بأنه: إدخال فرج في فرج مشتهىً طبعاً، محرم شرعاً، وتعريف الزنا بهذا يدخل تحته اللواط، وإتيان البهائم والعياذ بالله.
قال تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، هذا الحد في الزاني البكر الذي لم يتزوج، والزانية البكر التي لم تتزوج، وأما الذي تزوج فهذا له حد آخر وهو الرجم، سواء قال العلماء بأنه يجلد أولاً بهذه الآية ثم يرجم بعد ذلك، أو أنه يرجم مباشرة على ما في ذلك من تفصيل.
فالزانية والزاني البكران أمر الله عز وجل بجلد كل واحد من الاثنين مائة جلدة، أما في أمر الثيب الزاني فجاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، وفرق الله عز وجل بين الاثنين فجعل الحد في البكر أخف وفي الثيب أشد؛ لأن الإنسان الذي تزوج ثم وقع في الزنا لا فائدة فيه؛ إذ أنه ترك ما أحل الله له، وقضى شهوته فيما حرم الله عليه، مع تمكنه من قضائها في الحلال فجعل الحد فيه حداً شديداً وهو أن يرجم حتى الموت؛ تأديباً وتكفيراً لسيئته، ولأجل كل من يسمع هذا فيمتنع من الجريمة خوفاً من العقوبة.
ومهما ادعى الناس أن مثل هذه العقوبات فيها قسوة وشدة، فهؤلاء الكفار لا قيمة لقولهم، فهم يهربون من دين الله سبحانه، فما إن يجدوا مفاسد ما ذهبوا إليه إلا ويبدءون بالرجوع إلى الأحكام الشرعية، لكن من غير أن ينسبوها إلى الله عز وجل، وانظر إلى الكفار عندما يتكلمون عن الختان، وأن الختان هذا جريمة، وأما اليهود حين يفعلون الختان فليست بجريمة، وهم يريدون بذلك أن تشييع الفاحشة بين المسلمين، حيث إن الختان يهذب شهوة الرجل وشهوة المرأة، فإذا ترك هذا الأمر ثارت شهوة الاثنين فشاع الزنا بين المسلمين، ومن ثم تأتي أبحاثهم وتقول: إن الختان أمر جيد، ويتمنون تطبيقه بينهم، وأما عند المسلمين فهم يتهمونهم بهذا، ويرونه خطأ، وأما عندهم فيبدءون بطرح مسألة الختان؛ وذلك لمنع ثوران شهوة المرأة وتقليل جرائم الزنا، ومن أجل تقليل وجود السرطانات الموجودة عندهم، فهم يفكرون في بلادهم بهذا الشيء، وأما عند المسلمين فيريدون إخراب ديار المسلمين، وأكثر شيء يخرب على المسلمين ديارهم هو الوقوع في الفواحش والعياذ بالله.(63/7)
الحكمة من ذكر الزاني والزانية في هذه الآية وعدم الإتيان بلفظ يشملهما
قال الله عز وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2]، ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الزانية والزاني، وكان يكفي أن يقال الزاني أو الزناة، ومثل هذه الآية آية السرقة حيث قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، ولو ذكر سبحانه وتعالى واحداً فقط فقال: الزاني لدخلت فيه أيضاً المرأة من باب التغليب، وهذا كما يقال: المؤمنين، فيدخل معهم المؤمنات أيضاً، ويقال: المسلمون، فيدخل معهم أيضاً المسلمات، ولكن في هذه الآية حتى لا يقع الإشكال فيؤخذ الرجل فقط دون المرأة ذُكرا معاً.
ومثل ذلك ما جاء في أمر الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فقد جاء في الحديث: (أن رجلاً جامع امرأته في نهار رمضان، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة بعتق رقبة، فقال: لا أملك غيرها -يعني: رقبته-، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصوم شهرين متتابعين، قال: وهل فعلت الذي فعلت إلا في رمضان -أي: في الصيام-؟ فأمره أن يطعم ستين مسكيناً).
فهنا الكلام مع الرجل الذي واقع امرأته، ولم يسأل عن حكم المرأة، ولذلك اختلف العلماء هنا حيث إنه لم تذكر المرأة: هل الكفارة هذه على الرجل فقط، أو على الرجل والمرأة؟ فأكثر العلماء على أنها على الرجل فقط، والبعض يقول: لو أن المرأة هي التي دعته لذلك لكانت على الرجل والمرأة، ولكن الخلاف موجود، فلو أن الله عز وجل قال: (الزاني يجلد مائة) لجاء نفس الخلاف هنا في هذه المسألة، ولأتى البعض من الناس يقول: المقصود بالزاني هنا الرجل فقط والمرأة لا تجلد، ولو قال: (السارق اقطعوا يده) لأتى البعض من الناس يقول: إذاً القطع يكون على الرجل فقط؛ إذ المرأة ليس من عادتها أنها تسرق، فحتى يرفع الإشكال ولا يوجد مثل هذا الخلاف قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، وقال: {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38].
وأما وجه التفريق بين الآيتين فبدأ بالسارق فقال: {السَّارِقُ} [المائدة:38]، ثم ثنى بالمرأة فقال: {وَالسَّارِقَةُ} [المائدة:38]، وأما في هذه الآية فبدأ بالمرأة فقال: {الزَّانِيَةُ} [النور:2]، ثم ثنى بالرجل فقال: {وَالزَّانِي} [النور:2]، وذلك أن الطمع في المال موجود في الرجال والنساء ولكن في الرجال أكثر؛ لأن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34]، فالرجل عليه النفقة، فلعل من عليه النفقة تدفعه نفسه أن يأخذها من حل أو من حرام، وفي الرجال أمر السرقة أكثر.
وأما الزنا فالمرأة سببه، فعندما تتبرج المرأة للرجل ويراها فإنه يشتهي مواقعتها، فلما كانت هي السبب بدأ الله عز وجل بها، وقد كان الزنا في الجاهلية منتشراً، وكانت النساء فتنة للرجال، وكن سبب ذلك فبدأ بهن، وكان إماء العرب وبغاياه مجاهرات بذلك.
وقالوا أيضاً: بدأ بالمرأة؛ لأن الزنا في المرأة أشد وأقبح، فإنه عار عليها وعلى أهلها.
وقالوا أيضاً: لأن المرأة شهوتها أشد من الرجل، وإن كان الله عز وجل قد هذب ذلك بأن ركب في المرأة حياء، فجعلها أكثر حياء من الرجل، فإذا وقعت في هذه الجريمة نزع منها الحياء فصارت مصيبة بين الناس.
وجاء في الحديث عند أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنا العبد خرج منه الإيمان، وكان فوقه كالظلة) يعني: كالسحابة فوق رأسه، (فإذا انقلع منها -يعني: رجع عن هذه المعصية وتاب إلى ربه- رجع إليه الإيمان)، فالمعاصي سبب لنزع الإيمان الواجب من قلب الإنسان، ولذلك جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن).
فالإنسان وقت وقوعه في المعصية لو أن عنده الإيمان الواجب الذي يمنعه منها لما وقع فيها، ولكنه في هذه الحالة ينزع منه القدر من الإيمان الذي يمنعه من هذه المعصية، فيقع في هذه المعصية.(63/8)
صفة السوط الذي يجلد به الزناة
قال الله عز وجل هنا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2]، فأمر بالجلد، والجلد: هو ضرب الإنسان على جلده، والضرب أو الجلد يكون بالجريد، والجريدة لها صورة معينة، فليست جريدة قصيرة ضعيفة بحيث لا تؤثر فيه، ولا هي طويلة شديدة بأشواك فتقتل الإنسان، ولكن المقصود التهذيب والتأديب لهذا الإنسان، فهي وسط بين الاثنين.
وجاء حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاء له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط)، يعني: عصا أو جريدة، (فأتي بسوط مكسور، فقال: فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته) أي: سوط جديد قطع تواً من الشجرة، وفيه شوك، ومثل هذا سيؤذي الإنسان، (فقال: ولا هذا، فأتي بسوط قد ركب به ولان) يعني: ليس فيه أشواك وصار فيه شيء من اللين، (فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد)، وهذا مرسل، ولكن عليه العمل.(63/9)
حكم تجريد الزناة من ثيابهم عند الجلد
هل يجرد الإنسان الذي يجلد من ملابسه ويضرب على جلده؟ اختلف العلماء في ذلك: فذهب مالك وأبو حنيفة وغيرهما إلى أنه يجب أن يعرى ظهره ويضرب على جلده، وكأن الجَلد مأخوذ من ذلك، وأما المرأة فقالوا: نترك عليها ما يسترها ولا يقيها، يعني: لا تكون ثياباً غليظة بحيث تحميها من الضرب، ولكن تكون ثياباً ينفذ منها الضرب إلى جلد المضروبة.
وذكر الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرد وإن شاء لم يفعل.
وقال الشعبي والنخعي: لا يجرد، وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه، ولعل هذا هو الأولى، فإذا كان الإنسان لابساً ثياباً لا تعوق ضربه، وتجعل الضرب ينفذ إليه فلا تنزع، والله أعلم.
أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/10)
تفسير سورة النور (تابع) [1 - 2]
لقد حد الله تعالى لهذه الأمة حدوداً وواجبات، وبين حرمة تعديها وتجاوزها، ومن هذه الحدود: حد الزنا؛ ليرتدع الزاني، وليرتدع المفكر فيه كذلك، والحقيقة أن هذه الحدود حياة للمؤمنين؛ لما فيها من حفظ الدين والنسل، ولكي لا يختلط الحابل بالنابل في أمة الإسلام، وقد بين الشارع أهمية إقامة حدود الله، وكيفية إقامتها بما يتناسب مع الحد، وبما يحصل به المقصود.(64/1)
تفسير قوله تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها)
قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:1 - 3].
هذه السورة بدأها الله سبحانه وتعالى بذكر السورة، فقال: ((سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) أي: هذه السورة العظيمة سورة نزلت من عند الله عز وجل، وقد فرض عليكم أن تقيموا الأحكام والشرائع التي أنزل فيها.
ثم ذكر حكماً من الأحكام التي في هذه السورة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2]، وقدم الزانية على الزاني لشدة فتنة المرأة، فهي تدعو الرجل إلى الوقوع في هذه الجريمة الشنيعة، فبدأ بها وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، وهذا الحكم عام في جميع الزناة سواء كانوا محصنين بزواج أو غير محصنين بزواج، فيكون الجلد مائة على غير المحصن، وزاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغرب سنة، كما في الحديث، ويكون الجلد مائة في الثيب من النساء والرجل المحصن بزواج، ثم بعده الرجم، كما صنع ذلك علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد يختص الحكم هنا بغير المحصنين، فيكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2] أي: إذا لم يكونا محصنين بزواج {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور:2].(64/2)
بيان ما يجلد به الزناة، وكيفية الضرب بالنسبة للرجل والمرأة
لقد ذكر العلماء أن هذا الجلد يكون بجريدة لا يكون فيها شوكها فتؤذي في قطع لحم أو إدماء جلد، ولا قديمة منهكة صغيرة بحيث لا تؤلم الذي يضرب بها.
واختلف العلماء في كيفية ضرب الرجل والمرأة، فقال الإمام مالك رحمه الله: الرجل والمرأة في الحدود كلها سواء، لا يقام واحد منهما، يعني: يضرب الرجل وتضرب المرأة وهما جالسان، ولا يكون الضرب عند الإمام مالك إلا في الظهر.
وذهب الأحناف والشافعي إلى أن الرجل يضرب وهو واقف، والمرأة وهي قاعدة، وتكون مستورة بثياب حتى لا تتكشف.
وقال الليث وأبو حنيفة والشافعي: الضرب في الحدود كلها وفي التعذيب يكون الرجل مجرداً قائماً غير ممدود، يعني: يجرد ظهره الرجل إذا ضرب، وذكر غيرهم أنه يضرب الرجل والمرأة وعليهما الثياب، ولكن تكون ثياب الرجل رقيقة بحيث إنها لا تمنع وصول الضرب إلى الجسم.(64/3)
أقوال العلماء في مواضع الجلد
اختلف العلماء في مواضع الضرب هل هو على الظهر فقط أم على الجسد كله؟ والراجح أن الضرب يوزع على الجسد كله؛ لأنه لو كان الضرب على الظهر فقط أو في موضع واحد فكثرة الضرب قد تجرح، ولذا يوزع الضرب على الجسد، ولكن تجتنب مقاتل الإنسان، ويجتنب وجه الإنسان.
وقال العلماء: يجب أن يكون الضرب مؤلماً لا يجرح -أي: لا يشق ويسيل الدم- ولا يبضع -أي: يقطع اللحم-.
قالوا: ولا يخرج الضارب يده من تحت إبطه، أي: لا يرفع يده حتى يظهر إبطه، وهذا هو قول الجمهور، وممن قال بذلك علي وابن مسعود رضي الله عنهما.
وأتي عمر رضي الله عنه برجل في حد، فأتى بسوط بين سوطين، أي: لا هو جديد بشوكه بحيث يجرح ويؤذي، ولا قديم ضعيف بحيث لا يؤثر، وقال للضارب: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، أي: وزع الضرب على الجسد، ولا تضرب في مكان واحد فتتسبب في شدة الأذى، ولكن وزع الضرب على الأعضاء.
وأتي رضي الله عنه بشارب فقال: لأبعثنك إلى رجل لا تأخذه فيك هوادة، فبعث به إلى مطيع بن الأسود العدوي لكي يجلده، وقال: إذا أصبحت الغد فاضربه الحد، فجاء عمر رضي الله عنه وهو يضربه ضرباً شديداً، يعني: وعمر ما كان يظن أنه سيضربه بهذه القسوة، فهو يقصد بقوله: (لا تأخذه فيك هوادة) يعني: أنه لن يرحمك على ما ذكر الله عز وجل في الكتاب، وإنما سيقيم الحد بتمامه ولا ينقص فيه، فلما رآه يضربه ضرباً قاسياً، قال رضي الله عنه: قتلت الرجل، كم ضربته؟ قال: ستين، فقال: أقصّ عنه بعشرين، يعني: اجعل بدل الثمانين ستين، ولا تضرب أكثر مما ضربت؛ لأنك أوجعت وقسوت في الضرب.(64/4)
بيان من يقوم بتنفيذ الحدود
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: الحد الذي أوجب الله عز وجل في الزنا والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين يدي الحكام.
أي: أن الحد ليس لآحاد الناس، فكل إنسان يأخذ من وجده يشرب خمراً ويضربه بنفسه، أو من وجده يزنى فيجلده الحد بنفسه؛ لأن الحدود لو تركت لآحاد الناس لدخل في الأمر كل إنسان بحسب ما يشتهي أن يفعله في المحدود، وقد يصل في النهاية إلى قتله، فلذلك فالحدود لا يقيمها غير الحكام، فالقاضي ينظر في الإنسان الذي وقع في حد من الحدود، وينظر هل عنده شبهة من الشبهات؟ وهل هو مستحق لذلك أم غير مستحق؟ وهل عقله حاضر أم أنه مجنون حينما وقع في هذا الشيء؟ فإذا وجد شيئاً من ذلك فلا يقام الحد؛ لأن الحاكم لو أخطأ في العفو فعفا عن إنسان يستحق العقوبة خير له من أن يخطئ في عقوبة إنسان بريء، وأما لو تركت الحدود للناس فقد يأتي إنسان ويمسك شخصاً ويقول: أنا رأيت هذا يزني، فيجتمع عليه الناس ويضربونه ضرباً شديداً حتى يقتل، وبعد ذلك يتبين أن هذا كان بينه وبينه عداوة فاتهمه بالزنا، وكانت النتيجة أن قتل بسبب كلام كذاب من الناس.
وكذا لو يدعي إنسان أنه رأى آخر يسرق وجاء الناس وقطعوا يده، وبعد ذلك يتبين أنه: لم يسرق شيئاً، أو سرق شيئاً لا يحد فيه السارق ولا ينطبق عليه فيه حد السرقة.
إذاً: فلا بد من أن ينظر القاضي في هذه الجريمة هل هي الجريمة التي ذكرها الله عز وجل ونص عليها؟ وهل هذا الإنسان مستحق لهذا الحد أم أن هناك موانع وأعذار تمنع من إقامة الحد عليه؟ وإذا كان مستحقاً لذلك فهل الذي يقام عليه الحد في الزنا هو محصن بزواج أم غير محصن بزواج؟ لكن لو ترك لرعاع الناس ليقيموا الحدود فجلدوه حتى مات فهل سيعيدونه إلى الحياة مرة أخرى؟ لا.
إذاً: فالحدود لا تكون لآحاد الناس، وإنما تكون للقاضي، فهو الذي يأمر بذلك ويقيم الحد.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم الذين يختارهم الإمام لذلك.
وكذلك كان الصحابة يفعلون رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ويقولون: تجب المحافظة على إقامة هذه الحدود، والقدر الذي فيها، والمحل والحال، بحيث لا يتعدى فيها الشروط.
ففي الصحيح عن حضين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد أتي بـ الوليد وقد صلى الصبح ركعتين، فقال: أزيدكم؟) أي: أأكمل لكم أربعاً؟! فعرف أنه سكران، فأتي به إلى عثمان رضي الله عنه وكان قريباً لـ عثمان رضي الله تعالى عنه، فأمر بإقامة الحد عليه، فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران وهو مولى عثمان أنه شرب الخمر، وشهد آخر عليه أنه كان يتقيؤه، أي: الخمر، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فأمر علياً أن يجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، يريد الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده، فجلده ثمانين جلدة وعلي يعد.
ومعلوم أن هؤلاء كلهم من فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم ولذا فإنه لا يقيم الحدود إلا فضلاء الناس.(64/5)