العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به، فما الداعي للزيادة، وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟
وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه في الحديث: ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً؟ قال: بلى، قال: فَبِمَ أوتيت الحكمة؟ قال: باحترامي قدر ربي، وأدائي الأمانة فيما وليت من عَمل، وصدق الحديث، وعدم تعرُّضي لما لا يعنيني.
وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.
لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبياً ولا رسولاً، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذِكْر في مصافِّ الرسل والأنبياء.
ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفي اليوم التالي قال له: اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله: ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما(19/11615)
أطيب مضغتين في الشاة؟ قال: بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.
وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلِّمنا هذا الدرس فيقول: « ... ألا أن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث آخر: «من حفظ ما بين لحييه وما بين رِجْليه دخل الجنة» .
ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا، فلما سألوه: لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال - وهذه أيضاً من حكمته: ألاَ أكتفي إذا كُفيت؟
يعني: لماذا أتمسَّك بها وقد بعث الله لي مَنْ حملها عني، وهو يعلم تماماً أنه مجرد عبد صالح (أي: أنه أخذ الحكمة من منازلهم(19/11616)
كما يقال) ، أما داود فرسول من عند الله، ومن الحكمة أنْ يُفسِح له هذا المجال، ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له عن رضاً وطيب خاطر.
والبعض يقول: إن الله خيَّره بين أن يكون نبياً أو حكيماً، فقال: أما وقد خيَّرتني يا رب، فأنا أختار الراحة وأترك الابتلاء، أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعاً وطاعة؛ لأني أعلم أنك لن تخذلني.
والحق سبحانه يُنطق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن الإنسان من الممكن أن يكون ربانياً، كما جاء في الحديث القدسي: «عبدي، أطعني تكُنْ ربانياً، تقول للشيء كُنْ فيكون» .
ذلك لأن فضل الله ليس له حدود، وليس عليه حرج، وبابه تعالى مفتوح، المهم أن تكون أهلاً لأنْ تلِجَ هذا الباب، وأنْ تكون(19/11617)
في معية ربك دائماً.
ومما يُرْوَى من حكمة لقمان أنه غاب في سَفْرة، ثم عاد فلقيه تابعه، فقال له: مَا حال أبي؟ فقال: مات، فقال لقمان: الآن ملكْتُ أمري، ثم سأل: فما حال زوجتي؟ فقال: ماتت، فقال: جدّدتُ فراشي، ثم سأل عن أخته، فقال: ماتت، فقال: ستَر الله عِرْضي، ثم سأل عن أخيه، فقال: مات، فقال: انقصم ظهري.
وهذا الكلام لا يصدر إلا عن حكمة، فكثيراً ما يفرح الابن - خاصة العاق - بموت أبيه؛ لأنه سيترك له المال يتمتع به، أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه: الآن ملكْتَ أمري؛ لأنه في حياة أبيه كان له أمر، لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه، فلما مات أبوه صار أمره بيده.
وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت وما ملكت يداك لأبيك» كأنه من العيب أن تقول في حياة أبيك: أنا أملك كذا وكذا. أما الآن فقد تجاوز الأبناء كل هذه القيم، ونسمع الابن يقول لأبيه: اكتب لي كذا وكذا.(19/11618)
أما قوله: «جددت فراشي» فهي كلمة لها معنى كبير: أنا لا أُدخِل الجديدة على فراش القديمة حتى لا أجرح مشاعرها، أو أنني لا أتزوج إلا بعد وفاة زوجتي الأولى؛ ذلك لأن الغيرة طبع في النساء.
وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة، فقد «دخلت فاطمة بنت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أبيها مُغْضبة فقال صلى الله عليهم وسلم:» ما أغضبك يا أم أبيها «فقالت: والله إن عائشة قالت لي: إن رسول الله تزوج أمك ثيباً، ولم يتزوج بِكْراً غيري، فقال لها رسول الله:» إذا أعادت عليك هذا القول - وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردَّ وفي سرعة الخاطر - فقولي لها: ولكن أمي تزوجتْ رسول الله وهو بكر، وتزوجيته أنت وهو ثيَّب «هذا كلام النبوة، ومن بعدها لم تُعِدْها عائشة مرة أخرى.
وقد يقول قائل: وكيف تغار عائشة، وهي أم المؤمنين وزوج رسول الله؟ قالوا: هذه الغيرة لها معنى، فقد عقد رسول الله عليها وهي بنت السادسة، ودخل بها وهي بنت التاسعة، وقد جاوز صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخمسين من عمره، ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول الله؛ لأنها رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها تَغَار عليه رغم كِبَر سنّه وصِغَر سنها، فلم تنظر إليه على أنه رجل عجوز يكبرها، بل رأَتْ(19/11619)
فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب.
إذن: فمعنى:» جددت فراشي «أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة، فلا أُدِخلها على فراش القديمة فأصدمها به، وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها، حتى من التي ماتت، وأنا أريد أن تكون صافية التكوين لذاتي، راضية عن كل تصرفاتي، أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكناً لي، وأنا سَكن لها.
نعود إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة ... } [لقمان: 12] فالذي آتى هو الله عَزَّ وَجَلَّ، والحكمة: مادة حكَم تدل على وَضْع الشيء في موضعه، ومنها الحاكم؛ لأنه يضع الحق في نصابه، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته (حَكَمه) ؛ لأن الهدف من ركوب الخيل مختلف، فمرة أركبه للنزهة، ومرة أركبه لأدرك به صَيْداً، ومرة للكِّر وللفرِّ في المعركة، فكُلُّ هدف من هذه له حركة، وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما أريده منه.
إذن: فالحكمة تعني في معناها العام وَضَع الشيء في موضعه، وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبلا مشقة ولا تعب، كالشيخ الذي ظل يدرس في الأزهر مثلاً عشرين أو ثلاثين سنة تذهب إليه، وتستفتيه في أمر من الأمور، فيجيبك بيُسْر وسهولة، وبدون تفكير أو إعداد، لماذا؟ لأن الفُتْيا أصبحت ملَكَه عنده لا تحتاج منه إلى مجهود ولا مشقة.
ومن الحكمة أنْ يخلق الله لك أشياءً، ويهديك لأنْ تستنبط منها أشياءً أخرى.(19/11620)
وساعة تسمع من الله تعالى: {وَلَقَدْ. .} [لقمان: 12] فاعلم أن هنا قَسَماً فالواو واو القسم، والمقسَم عليه مُؤكَّد باللام ومُؤكَّد بقد التي تفيد التحقيق.
قوله سبحانه: {آتَيْنَا. .} [لقمان: 12] الحق - سبحانه وتعالى - في إتيانه للأشياء يعني تعدَّي ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور. وقبل أنْ يخلق الله الإنسان خلق له، فجاء الإنسان الأول (آدم عليه السلام) وطرأ على كون فيه كل مُقوِّمات حياته من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب. . الخ.
وكل ذلك مُسخَّر له تسخيراً لا دَخْلَ للمنتفع به فيه، وهذا أول الإيتاء، بل قبل ذلك، وفي الأزل قبل أن يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات مادته ومُقوِّمات قيمه وروحه - أي: أوجدها.
لأننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة لا بُدَّ أن يُحدِّد الغاية، ويضع الهدف منها أولاً، لا أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه: لأيِّ شيء يصلح هذا الشيء، كذلك لا بُدَّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ صيانتها.
فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له مُقوِّماته المادية والمعنوية، والمنهج الذي يُصلِحه وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبِّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 1 - 3] فقبل أنْ يخلق الله الإنسانَ وضع المنهج الذي به صيانته، وهو القرآن الكريم.
إذن: فمعنى الإيتاء أنْ يعدي الله ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره، والخير يكون على نوعين: خير يقيم المادة، وخير يقيم القيم الروحية، المادة تقوم بالهواء وبالطعام وبالشراب. . الخ، والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ولا تفعل.(19/11621)
والله تعالى آتى كثيراً من خلقه، فلماذا خَصَّ لقمان بالذات، فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة. .} [لقمان: 12] ؟ قالوا: لأن الله تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلِّغوه يُعِد الرسل لهذا الأمر، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يقول لنا، إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى الله، وإلى المطلوب من الله بدون وحي، وبدون إعداد.
ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من أنه كان يُحدِّث سيدنا رسول الله بالأمر، ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقاً لرأيه، فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول الله وفي وجوده، وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟
نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ لله تستطيع أنْ تهتدي إلى الأشياء، وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به.
إذن: فالإيتاء من الله لا يأتي عبثاً، فالإيتاء الأول كان لآدم عليه السلام، وآدم شاء الله أنْ يجعله خليفة له في الأرض، ولا يعني هذا أنه أول المخلوقات في الأرض، والحق سبحانه لم يَقُلْ إنني أول ما خلقتُ خلقتُ آدم، وبدليل قوله تعالى: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] .
ومسألة الخلْق هذه هيِّنة على الله، بدليل قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19 - 20] فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة، ولن تحدث بعد ذلك.
وللعلماء كلام طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن،(19/11622)
وعالم البنِّ، وعالم الجن وغيرها مما لا يعمله إلا الله، لكن إنْ حدَّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون: إن الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم، فكيف تقولون: إن آدم أول مخلوق؟
ونقول لهؤلاء: لم يقُلْ أحد: إن آدم أول مخلوق على الأرض، إنما هو أول هذا الجنس البشري الذي نسميه «إنسان» لكن سبقته أجناس أخرى، وشاء الله أنْ يجعل آدم خليفة في الأرض، ثم أخبر الملائكة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. .} [البقرة: 30]
والله حين يخبر الملائكة هذا الخبر لا يستشيرهم، إنما ليبين لهم أمراً واقعاً، وخصَّ الملائكة بهذا الإخبار؛ لأنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد. إذن: فالذين قال الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. .} [البقرة: 30] ليسوا كل الملائكة، إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق، أما باقي الملائكة فلا يدرون بآدم، ولا يعرفون عنه شيئاً، وليس في بالهم إلا الله.
والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطباً إبليس لما رفض السجود لآدم: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] والعالون هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود.
وقلنا: إن الله تعالى كرَّم آدم حين خلقه تعالى، وباشر خَلْقه بيده سبحانه، ولم يخلقه كباقي المخلوقات (بكُنْ) ؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس: {قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ. .} [ص: 75](19/11623)
إذن: مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لأن اليد هي الآلة الفاعلة لأكثر الأشياء، وحتى الآن نفخر بعمل اليد فنقول (هذا الشيء يدويّ) يعني: لم تصنعه آلة صماء، إنما يد مفكر يتقن الصنعة.
وفي مسألة خَلْق آدم - عليه السلام - يحلو للبعض أن يقول: هو الذي أخرجنا من الجنة، فهل قال الله تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة، ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ نخرج منها؟
لم يقُلْ ذلك، إنما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. .} [البقرة: 30] فهو - إذن - مخلوق للأرض، وما الجنة التي دخلها إلا جنة التجربة لا جنة الخلد، والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا أُطلقَتْ تعني جنة الآخرة، وهذا خطأ بدليل قول الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]
وقوله تعالى: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ. .} [الكهف: 32]
فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالأشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها، كما تستره أيضاً عن البيئة الخارجية؛ لأنها تكفيه بما فيها عن الاحتياج إلى غيرها، فبها كل مُقوِّمات الحياة، ومن ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لأن الله تعالى أراد أنْ يصنع لآدم تدريباً على مهمة الخلافة، ولم لا ونحن نُدرَّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أنْ يقوم بها، حتى لاعب الكرة.
وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته لا بُدَّ أن نوفر له كل مُقوِّمات حياته، ونتكفل له بكل ما يعينه على أداء مهمته، فنقدم له(19/11624)
إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن. . إلخ وكذلك فعل الله تعالى لآدم فقال له {يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} [البقرة: 35]
وحين نقارن بين ما أباحه الله لآدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له كُلَّ ما في الجنة ولم يحرم عليه إلا هذه الشجرة التي أوضحها وبيَّنها له. كما نلحظ قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبَا. .} [البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا؛ لأن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته، فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب منه.
وهذا التدريب لآدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من الله لخَلْقه في (افعل) و (لا تفعل) .
ثم يذكِّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس، وينصحه بأنْ يحذر هذا العدو؛ لأنه أبى أنْ يسجد له لما أمره الله بالسجود استكباراً وعُتواً.
والله حين يأمر بالسجود لآدم إنما يريد السجود للأمر والانصياع له، لا السجود لآدم في ذاته؛ لذلك نجد الأمر من الله تعالى يختلف باختلاف المأمورين، فمرة ينهي عن شيء ويأمر بمثله ليرى مدى انضباطك للأمر وللنهي.
ففي الحج مثلاً، يأمرك أنْ تُقبِّل حجراً، وأنْ ترمي حجراً آخر وترجمه، وهذا حجر وذاك حجر، إذن: فالحجرية غير منظورة، لكن المنظور فيه إلى الأمر أو النهي.
وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من الأمر أو النهي، فمثلاً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم بدلاً من الوضوء، فيأتي مَنْ يقول:(19/11625)
الوضوء للنظافة، فما النظافة في التيمم، وهو يُلوِّث الجسم؟
ونقول: فَرْق بين النظافة والتطهير، والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك وتكوينك، فالمسألة انضباط في طاعة الأمر بأن تفعل شيئاً تجعله مقدمة لصلاتك، كأنك لا تُقبل على الصلاة إلا بتهيئة، وأيضاً لأن الصلاة بها قِوامَ روحك وحياتك، وحياتك في الأصل ومادتك من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه التيمم.
إذن: لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على الله في الصلاة، ولا يليق بالمؤمن أنْ يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها، إنما يكفي أن يقول: عِلَّة هذا الأمر أن الله أمر به أنْ يفعل، وعلة هذا الحكم أن الله أمر به ألاَّ يُفعل.
لذلك ورد عن الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أعلاه، إذن: المسألة طاعة والتزام للأمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول: إن من حكمة الصوم: أنْ يَشعر الغني بألم الجوع، فيعطف على الفقير؛ لأنني سأقول لك إذن: لماذا يصوم الفقير؟
ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً وما زْلنا نكرره. قلنا: إن أعز شيء على المرء صحته، فإنْ أصابته علة، فأول ما يُعمِل عقله(19/11626)
يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه، ثم يسلم له نفسه ليفحصه، ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلَّته، أو لماذا وصفه الطبيب، لماذا؟
لأن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلَّم ودرس وتخصَّص، فأنت لا تسأله ولا تناقشه: لماذا كتب لك هذا الدواء، وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان، ومع ذلك لا يناقش. إذن: علة تناول الدواء أن الطبيب وصفه لي، وعلة كل أمر عند الآمر به.
والآمر في العبادات هو الحق - سبحانه وتعالى - فلا يليق بالمؤمن بعد أن آمن بالله وبحكمته وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عَزَّ وَجَلَّ.
نعود إلى آدم - عليه السلام - وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد، تدرَّب فيها آدم على: كل (افعل) وعلى: لا تقرب (لا تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك، وسوف يوسوس لك، ويغويك؛ لأنه لا يريد أنْ يكونَ عاصياً وحده، يريد أنْ يجرَّك معه إلى حمأة المعصية.
وظل آدم وزوجته يأكلان كما قال تعالى من الجنة رغداً حيث شاءا، دون أنْ يقربا هذه الشجرة التي بيَّنها الله لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالأكل منها، مع أن الله تعالى حذَّرهما، وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته، ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة.
وهذه الغفلة الله يُنبِّه بها ذرية آدم من بعده: أن الشيطان لن يدعكم، وسوف يدخل عليكم بألاعيبه وحيله، كما دخل على أبيكم آدم، فكونوا منه على حذر، وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من وساوس(19/11627)
بالله.
ماذا قال إبليس لآدم حين أغواه بالأكل من الشجرة؟ قال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20]
أليس من المنطق أن نقول: ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكاً، وتصير من الخالدين، ولا تتمحك فتقول: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر: 36] إذن: كان على آدم أنْ ينتبه إلى مكايد الشيطان وألاعيبه.
ثم يُنبِّهنا - سبحانه وتعالى - من خلال هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة، فلو أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكلا منها ما وسوس لهما، فهذا دليل على أنهما احتاطا للأمر، فلم يقربا من الشجرة تنفيذاً لأمر الله؛ لذلك تدخَّل الشيطان.
إذن: نقول إن الشيطان لا يتدخل إلاّ في مجال الطاعة، أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة الوسوسة، الشيطان يذهب إلى المسجد لا يذهب إلى الخمارة؛ لأن الذي يذهب إلى الخمارة صار شيطاناً في ذاته، فما حاجته لإبليس؟
لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] أي: في مواضع الخير وطرق الصلاح والهداية لأبطل أعمالهم، وأفسد عليهم أمرهم، ونحن نلحظ ذلك في صلاتنا مثلاً، فقد تنسى شيئاً، وتحاول أن تتذكره فلا تستطيع، وفجأة وأنت تصلى تتذكره.
فلو أننا أخذنا (الروشتة) من خالقنا عَزَّ وَجَلَّ وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان،(19/11628)
وعلم أننا لسنا في غفلة، وأننا نكشف ألاعيبه، ونعرف حيله وصدق الله العظيم حين قال: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 200]
وقد وصف الله الشيطان بأنه خنّاس، يعني: إذا ذُكِر الله خنس وتضاءل، فإنْ جاءك هذا الخاطر الشيطاني - حتى وإنْ كنتَ تقرأ القرآن - قُلْ بجرأة وقوة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ليعلم أن ألاعيبه لا تخفي عليك فينصرف عنك، أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط، ويفتح لك باباً يشغلك به، ثم يتركك أنت (تكُرُّ) هذا الخيط من نفسك، ويذهب هو (يستغفل) واحداً غيرك.
والشيطان رغم عِلْمه، إلا أن فيه تغفيلاً بدليل أنه أعلن عن خطته، وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا بها، فقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] وقال {لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ. .} [الأعراف: 17] ، فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره لا يعلن عن مكايده مُقدماً، ونحن أيضاً كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة، وقد أعلن عدونا عنها.
ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الربع، ومعلوم أن الجهات ست، فلماذا لم يذكر فوقنا وتحتنا؟ قالوا: لأن هاتين الجهتين محلُّ نظر إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، فالعبد ينظر إلى عِزِّ الربوبية في عليائه وذُلِّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل.
إذن: فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين، والشيطان لا ينال منك إلا وأنت بعيد عن معية ربك. ومثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى؛ قلنا: إن الغلام إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته، لا يجرؤ أحد من أمثاله على الاعتداء عليه، إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة للإيذاء.(19/11629)
وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه، ونلحظ هذا أيضاً في قوله: {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] كأنه يقول لربه: أنا لا أقترب من عبادك الذين هم في حضانتك، وفي معيتك.
والتغفيل الأكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره، حين يأمره بالسجود فلا يسجد.
إذن: نبَّه الله تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس، وكان عليه أنْ يحذر وألاَّ تدخل عليه حيلة الأكل من الشجرة إلا أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة، فلما خالف الأمر اختلفتْ طبيعته، وبدَتْ له ولزوجه السَّوْءة، وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط.
لكن، ما الفرق بين فتحة دخول الطعام (الفم) وفتحة خروجه؟ ولماذا أصبحت هذه عورة، وهذه غير عورة؟
قالوا: لأن آدم حال طاعته لأمر ربه في الأكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه، وهو طهي بحكمة وبقدر معلوم، يكفي مقومات الحياة ولا يزيد عنها، لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلات، ولم توجد عنده غازات أو أرياح، فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط، فكانت الفتحتان متساويتين، هذه فتحة، وهذه فتحة.
فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الأغذية في بطنه، وحدث لها تفاعلات، ونتج عنها فضلات وأرياح، ولما أحسَّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل، وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر، فالطبع السليم لا بُدَّ أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الأذى عن نفسه،(19/11630)
ويستره بأوراق الشجر، ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدَّ هذه الفتحة، ولن تُسدَّ.
إذن: الحق سبحانه جعل الدُّرْبة لآدم في الجنة هذه، وهيَّأ له فيها طعامه، ونهاه عن نوع بعينه، فأمره ونهاه وعلَّمه وحذَّره، فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان، ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه إلى الأرض بهذه التجربة، لتكون رمزاً له ولذريته من بعده: إنْ سِرْتَ على منهجي ووِفْق أوامري في (فعل) و (لا تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله، ونحن نرى ذلك فعلاً في حركة حياتنا في الكون، فلا نرى عورة في المجتمع ولا خللاً إلا إذا خُولِفَتْ أوامر الله.
هذا هو الإتيان الأول، بعد ذلك قدَّر الله غفلة البشر، فأرسل إليهم الرسل بالمنهج، فكان إتيان آخر، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163] وقال في عيسى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} [الحديد: 27](19/11631)
وهذا الإيتاء من الله يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحياً، وهو من الغيبيات، فالله تعالى لا يمدُّ يده فيعطي النبي أو الرسول شيئاً حسِّياً، ومن هنا ارتبط الإيمان بالغيبيات دون المحسَّات، فأنا لا أقول مثلاً: آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي جَمْع من الإخوة. . الخ. إذن: لا بُدَّ أنْ يكون الإيمان بأمر غيبي.
الحق - سبحانه وتعالى - يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات، ويؤتيهم منهجاً يسوس حركة الحياة، ولا يقتصر إيتاء الله على الرسل، إنما يؤتى غير الرسل، ويؤتى الحيوان. . الخ.
ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجاً للحكمة التي آتاها لقمان: {أَنِ اشكر للَّهِ. .} [لقمان: 12] هذه هي الحكمة الأولى في الوجود؛ لأنك إنْ شكرتَ الله على ما قدَّم لك قبل أنْ توجد، وعلى ما أعطاك قبل تسأل، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم، كأنه تعالى يقول لعباده: ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.
فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أنْ يغترَّ بما أعطاه الله وبما وهبه، وينسى أنه خليفة، ويعتبر نفسه أصيلاً في الكون، والشكر لله تعالى يكون على ما قدَّم لك من نعم.
ومن ذلك قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] أي: تشكر الله على ما سبق، فقد وُلدتَ لا تعلم شيئاً، ثم تكونت عندك آلات الإدراك والعلم، فعلمتَ وملأت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر الله عليها، فجَعْل هذه الآلات لك، عِلَّته أنْ تشكر أي: على ما مضى.(19/11632)
ثم هناك شكر آخر، لا على ما فات، لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة، وتأمل في ذلك قول الله تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ. .} [الروم: 46] هذه كلها نِعَم يعطف عليها بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46]
فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة، وإلا لقال كما في الآية السابقة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]
والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. .} [إبراهيم: 7] فهذا شكر لما سبق، وهذا شكر لما هو آتٍ.
والشكر في قوله تعالى: {أَنِ اشكر للَّهِ. .} [لقمان: 12] مُوجه إلى الله تعالى، فكيف إذا توجه الشكر في أسباب تناوله إلى غير الله، كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفاً مثلاً؟ قالوا: لو تأملتَ شكر غير الله ممن قدَّم لك معروفاً يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر الله في النهاية.
لذلك قالوا: لا تشكر الله إلا حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه، يعني: جعله سبباً في قضاء حاجتك، ثم إن الذي قدَّم لك جميلاً، ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إلا لأن الله أمره بذلك، ودعاه إليه. وأثابه على فعله، فإذا سلسلتَ الشكر لانتهى إلى شكر الله تعالى.
ثم يقول سبحانه: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] علمنا أن الشكر لله هو أول الحكمة، فلماذا؟(19/11633)
لأن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره.
وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره، فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة لله تعالى، كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به، ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لأنه سبحانه غني عن خَلْقه {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] لأنه سبحانه يعرف أنه رب، حتى للكافر الجاحد.
ونلحظ في الأسلوب هنا عظمة وروعة، ففي الشكر قال سبحانه {وَمَن يَشْكُرْ. .} [لقمان: 12] أما في الكفر فقال: {وَمَن كَفَرَ. .} [لقمان: 12] ولم يقل: ومَنْ يكفر، وفَرْق بين الأسلوبين، والكلام هنا كلام ربٍّ، ففي الشكر جاء بالفعل المضارع {يَشْكُرْ ... } [لقمان: 12] الدال على الحال والاستقبال، فالشكر متجدد ودائم على خلاف الكفر.
وكأنه - سبحانه وتعالى - لا يريد من عبده الدوام على كفره، فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة الإيمان، فجاء بالفعل الماضي {كَفَر. .} [لقمان: 12] أي: في الماضي فحسب، وقد لا يعود في المستقبل، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.
ومعنى {حَمِيدٌ} [لقمان: 12] من صيغ المبالغة على وزن «فعيل» وتأتي مرة بمعنى «فاعل» مثل رحيم، ومرة بمعنى «مفعول» مثل قتيل أي: مقتول، والمعنى هنا {حَمِيدٌ} [لقمان: 12] أي: محمود وجاءت هذه الصفة بعد {غَنِيٌّ} [لقمان: 12] لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه، ولم يعامله بالمثل.(19/11634)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ ... } .(19/11635)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
يعطينا الحق سبحانه طرفاً من حكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ. .} [لقمان: 13] قوله: {وَإِذْ. .} [لقمان: 13] أي: اذكر يا محمد حين قال لقمان لابنه، وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لابنه يدلُّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم قبل سيدنا داود عليه السلام، فلما جاء داود أمسك لقمان وقال: ألا أكتفى وقد كُفِيت، ثم وجه نصائحه لمن يحب وهو ولده.
ولذلك، فالإمام أبو حنيفة - رضوان الله عليه - عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى إلى الخليفة أنه يفند شكاواه وأحكامه، فأرسل إليه الخليفة بأنْ يترك الفتوى، وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته وقالت له: يا أبي حدث لي كذا وكذا - تريد أن تستفتيه - فماذا قال لها وهي ابنته؟ قال: سِلَى أخاك حماداً، فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفُتْيا.
وفَرْق بين أنْ يتكلم الإنسان مع عامة الخَلْق، وبين أنْ يتكلم مع(19/11635)
ولده، فالابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يودُّ أبوه أن يكون الابن أفضلَ وأحسن حالاً منه، ويتمنى أن يُعوِّض ما فاته في نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.
ومعنى {وَهُوَ يَعِظُهُ. .} [لقمان: 13] الوعظ: هو التذكير بمعلومة عُلِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى، فالوعظ لا يكون بمعلومة جديدة، إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك، لكن غفلت عنه، فهناك فَرْق بين عالم يُعلم، وواعظ يعظ، والوعظ للابن يعني أنه كان على علم أيضاً بالمسائل، وكان دور الوالد أنْ يعظه ويُذكِّره.
ونلحظ في أسلوب الآية أن الله تعالى لما أخبر عنه قال {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ. .} [لقمان: 13] ولما تكلم لقمان عن ابنه قال {يابني. .} [لقمان: 13] ولم يقل يا ابني، فصغّره تصغير التلطف والترقيق، وليوحي له: إنك لا تزال في حاجة إلى نصائحي، وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت فاستغنيتَ عني.
وأول عِظَة من الوالد للولد {لاَ تُشْرِكْ بالله. .} [لقمان: 13] وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لأنه يريد أنْ يُصحِّح له مفهومه في الوجود، ويلفت نظره إلى أن الأشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك لا تزال تعطي في الكون، ومن العجيب أنها باقية، وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد بها.
وتأمل منذ خلق الله الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟ ومع ذلك انذثروا جميعاً، وما زالت الشمس باقية، كذلك القمر والهواء والجبال. . الخ. فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول عمراً منك؟
إذن: على العاقل أن يتأمل، وعلى الإنسان الذي كرَّمه الله على(19/11636)
سائر المخلوقات أن يقول: لا بُدَّ أن لي عمراً أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني، وهذا لا يتأتى إلا حين تصل عمرك في الدنيا بعمرك في الآخرة، وهذا يستدعي أن تؤمن بالله وألاّ تشرك به شيئاً، فهو وحده سبحانه الذي خلق لك هذا كله، وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد:
واقرأ:
{هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ. .} [لقمان: 11]
فكيف تدعي أن لله شركاء في الخَلْق، وهم أنفسهم لم يدَّعوا أنهم آلهة، أو أنهم خلقوا شيئاً في كون الله؟ كيف وأنت تسير في الصحراء، فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوِّيه وتجعله إلهاً ولو هبَّتْ الريح لأطاحتْ به؟
ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه الآلهة بِمَ أمرتكم وعَمَّ نهتكم؟ ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها، وماذا أعدَّت من عذاب لمن كفر بها؟ إذن: فهذه آلهة بلا تكليف، والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع العابد أمر معبوده، إذن: هي آلهة باطلة لا يخفى بطلانها على العاقل.
لذلك يقول لقمان: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] نعم الشرك ظلم؛ لأن الظلم يعني: نَقْل حق الغير إلى الغير، وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق الله، وتعطيه لغير الله، ألا ترى أن الصحابة ضجُّوا لما نزل قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82](19/11637)
وقالوا: يا رسول الله، ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟ فهدَّأ رسول الله من رَوْعهم وطمأنهم أن المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي: الشرك بالله {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ ... } .(19/11638)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
أهذه وصية من وصايا لقمان لابنه، أم هي كلام جديد من الله تعالى جاء في سياق كلام لقمان؟ قالوا: هو من كلام الحق تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا ... } [لقمان: 15]
ومن التكريم للقمان أن الله تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لابنه، فجاءت وكأنها حكاية عنه.
ومعنى {وَوَصَّيْنَا. .} [لقمان: 14] يعني: علّمنا ووعظنا، وهما يدلان على معلومات تبتدئ بعلمنا ويذكر بها في وعظنا، ويُوفى بها(19/11638)
حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل، لماذا؟ لأنه آخر كلامه إليهم، والموقف لا يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله، فاكتفى بذكر أسسه وقواعده، كالرجل منَّا حين تحضره الوفاة يجمع أولاده، ويوصيهم، فيختار الأمور الهامة والخلاصة في أضيق نطاق.
الله تعالى يقول: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ ... } [لقمان: 14] والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ رقعة واسعة في كتاب الله، في هذه الآية ذكر علة الوصية، فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ... } [لقمان: 14]
وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة (إحساناً) ، في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [البقرة: 83]
وفي سورة النساء: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [النساء: 36]
وفي الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [الأنعام: 151]
وفي الإسراء: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [الإسراء: 23](19/11639)
وفي الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ... } [الأحقاف: 15]
وفي آية واحدة وردت كلمة (حسناً) في سورة العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ... } [العنكبوت: 8]
وفي آية واحدة أيضاً جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين: (حُسْناً وإحساناً) هي الآية التي نحن بصدد الحديث عنها.
لكن، ما الفرق بين (إحساناً) و (حُسناً) ؟ الفرق أن الإحسان مصدر أحسن، وأحسن حدث، تقول: أحسن فلان إحساناً. أما حُسناً فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول: فلان عادل، فوصفته بالعدل، فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول: فلان عَدْل أي: في ذاته، لا مجرد وَصْف له.
إذن: فحُسْناً آكد في الوصف من إحساناً، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ... } [العنكبوت: 8] قالوا: لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمسُّ قمة العقيدة، فسوف يطلب الوالدان من الابن أنْ يشرك بالله.
لذلك احتاج الأمر أنْ نوصي الابن بالحُسْن في ذاته، وفي أسمى توكيداته فلم يقُلْ هنا (إحْسَاناً) إنما قال (حُسْناً) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما، أو التخلي عنهما؛ لذلك يُعلِّمنا ربنا:
{فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15]
وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين ألا أن حيثيات الوصية خاصة بالأم {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14](19/11640)
فلم يذكر شيئاً عن دور الأب، لماذا؟ قالوا: لأن الكلام هنا كلام رب، وما عليك إلا أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.
الله تعالى يُذكِّرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صُنْعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما الأفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للأمور من حولك، فالابن يعرف ما قدَّم أبوه من أجله.
فكأن أفعال الأب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي، ففهم الابن ما فعل أبوه، وكثيراً ما سمع الابن: أبوك ذهب إلى كذا، أبوك أحضر لك كذا، وهذا الأمر عندما يأتي أبوك. . الخ، فدوْر الأب ظاهر على خلاف دور الأم؛ لذلك ذكره الحق - تبارك وتعالى - هنا {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ} [لقمان: 14]
ويأتي مَنْ يقول: أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم، فهما فيه سواء؟ ونقول: بلى، لكن مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.
ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لأنه يريد يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها: أليس الولد ولدكما معاً؟ قالت: بلى، ولكنه حمله خِفّاً ووضعه شهوة، وحملتُه وهناً على وهن، فحكم لها.
ومعنى: {وَهْناً على وَهْنٍ. .} [لقمان: 14] أي: ضعفاً على ضعف، والمرأة بذاتها ضعيفة، فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها، ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم؛ لذلك قلنا: إن من حكمة الله تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلاً(19/11641)
للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد وخَلْق آخر كما قال تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14]
فالجنين كان خَلْقاً تابعاً لأمه في غذائه وفي تنفسه وحركته، لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأه خَلْقاً آخر له مُقوِّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه.
ويقولون في هذه العملية (القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل، ومن العجيب أن الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.
ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصلا عن رزق أمه، فلكل منها رزق لا يأخذه الآخر، ومعلوم أن المرأة حين يُقدَّر لها حَمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل، هذا الدم هو الذي جعله الله غذاءً للجنين الجديد.
أما إذا لم يُقدَّر لها حمل فإنَّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ولا يستفيد به، لماذا؟ لأنه ليس غذاءها، وكأن الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - يُنبِّهنا أن لكل منا رزقه الذي لا يتعدَّاه إلى غيره.
وأيضاً من حكمته تعالى في وَضْع الجنين في بطن أمه عند الولادة أنْ ينزل برأسه، وهذا هو الوضع الطبيعي لولادة طفل سليم؛ لأن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ يتنفس، فإذا نزل برأسه - وهذا الوضع يحاول أطباء الولادة التأكد منه - استطاع التنفس حتى وإنْ تعسر نزول باقي جسمه، أمّا إنْ نزل(19/11642)
الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم نزوله.
ثم يقول سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ. .} [لقمان: 14] الفصال: أي الانفصال عن الأم في مسألة الرضاعة، ومنه: يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها: الفصيل أي الذي فُصِل عن أمه، وأصبح قادراً على أنْ يأكل، وأن يعيش دون مساعدتها، وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها مشقة وألم للأم.
أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما، وبذلك لا بُدَّ أن نعترف أن للأم الدور الأكبر وعليها العبء الأكبر في مسألة الأولاد؛ لذلك كان لها الحظ الأفر في وصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للصحابي الذي سأله: مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول الله؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، فأعطى كلاً منهما على قدر ما قدَّم.
ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى، ففي سورة البقرة: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة ... } [البقرة: 233] وهذه تؤكد {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]
وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معاً: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ... } [الأحقاف: 15] وبخصم العامين من الثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقلّ مدة للحمل.
وهذه المسألة اعتمد عليها الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حينما(19/11643)
رأى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يريد أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لأنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، الله يقول غير ذلك، فقال: وماذا يقول الله؟ فذكر عليٌّ الآيتين السابقتين: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً ... } [الأحقاف: 15]
والأخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14]
ثم بيَّن له عليٌّ أن أقلَّ مدة للحمل بناءً على هاتين الآيتين ستة أشهر، فقال عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.
وقوله تعالى: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] فالله تعالى هو المستحق للشكر أولاً؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم، وأمدَّ من عُدْم، ثم الوالدان لأنهما السبب في الإيجاد وإنشاء الولد.
فكأن الحق سبحانه مسبِّب أعلى؛ لأنه خلق من لا شيء، والوالدان سبب من أسباب الله في الوجود، إذن: لا تُحسِن شكر الله(19/11644)
الخالق الأول والمسبِّب الأعلى حتى تُحسِن شكر الوالدين، وهما السبب الثاني في وجودك.
فقوله سبحانه: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] أي: على الإيجاد، لكن في موضع آخر: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] وهذه للإيجاد وللتربية وللرعاية، فكما أن هناك أبوةً للإيجاد هناك أبوة للتربية، فكثيراً ما نجد الطفل يريبه غير أبيه وغير أمه، ولا بُدَّ أنْ يكون لهؤلاء نصيب من الشكر ومن الولاء والبرِّ ما دام أن الله تعالى ذكرهم في العلة {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24]
والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا لم يكُنْ للأب الحقيقي وجود، فالأبوة لمن ربَّى، وله نفس حقوق الأب من حيث الشكْر والبر والمودة، بل ينبغي أن يكون حقُّه مضاعفاً؛ لأن في الأب الحقيقي عطف البُضع على البُضع، وفي الأب المربِّي عطف الدين على الدين، وهذه مسألة أخرى غير مجرد الأبوة.
لكن، هل شكر الله أولاً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين، وهما السبب المباشر في وجودك؟ أم أن شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر الله الذي خلقك وأوجدك؟ نقول: هما معاً، فشُكْر الله يستلزم شكْر الوالدين، وشكر الوالدين ينتهي إلى شُكْر الله.
وقوله: {إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] أي: المرجع، والمعنى: أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ تخالف وصيتي؛ لأنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف.(19/11645)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن ... } .(19/11646)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدَرك، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل: كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعة لهما؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة.
وفي آية العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8](19/11646)
فذكر فيها (حُسنْاً) ولم يقل فيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] فكأن كلمة الحُسْن، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف.
ومعنى {جَاهَدَاكَ. .} [لقمان: 15] نقول: جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جهاد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول: جاهد فلان فلاناً مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت: شارك عمرو زيداً، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر.
فمعنى {وَإِن جَاهَدَاكَ. .} [لقمان: 15] لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتها في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك {فَلاَ تُطِعْهُمَا. .} [لقمان: 15]
ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً. .} [لقمان: 15] ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً.
وقوله تعالى: {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ. .} [لقمان: 15] أي: لن تكون وحدك، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ. .} [لقمان: 15] أي: مأواكم جميعاً.
قالوا: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال(19/11647)
فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خالي سعد، فليُرني امرؤ خاله» ولما أسلم سعد غضبت أمه - وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأنْ تتعرَّى في حَرَّ الشمس حتى يرجع دينه، فلما علم سعد بذلك قال: دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ، ولو عضَّها العطش لشربتْ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلا: {وَإِن جَاهَدَاكَ. .} [لقمان: 15]
ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغير من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.
وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الأرض:
«رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء: رب ائذن لي أن أسقط كسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك، ومنع شكرك. . الخ، فقال الحق تبارك وتعالى: لو خلقتموهم لرحمتموهم» .(19/11648)
ذلك لأنهم عباد الله وصَنْعته، وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطِّم صنعته، وجاء في الحديث النبوي: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة» .
إذن: فنِعْمَ الرب هو.
ويُروى أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - جاءه ضيف، فرأى أن سَمْته غير سَمْت المؤمنين، فسأله عن دينه فقال: إنه من عُبَّاد النار، فردَّ إبراهيم الباب في وجهه، فانصرف الرجل، فعاتب الله نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال: يا إبراهيم، تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة، وقد وَسِعْتُه طوال عمره، وهو كافر بي؟
فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب الله له، فقال الرجل: نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، ثم شهد ألاَّ إله إلا الله.
فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن الله يوصي به وهو كافر، ويُرقِّق له القلوب لَعاد إلى ساحة الإيمان بالله؛ لذلك كثيراً ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون الإسلام فيختارونه، فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم: كُنْ في دينك الجديد أبرَّ بهم من دينك القديم، ليعلموا محاسن دينك، فضاعف لهم البر، وضاعف لهم المعروف، لعل ذلك يُرقِّق قلوبهم ويعطفهم نحو دينك.(19/11649)
وتأمل عظمة الأسلوب في {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً. .} [لقمان: 15] فلم يقل مثلاً أعطهم معروفاً، إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقُّد شأنهما، بحيث يعرف الابن حاجة أبويْه، ويعطيهما قبل أنْ يسألا، فلا يلجئهما إلى ذُلِّ السؤال، وهذا في ذاته إحسان آخر.
كالرجل الذي طرق بابه صديق له، فلما فتح له الباب أسرَّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى صديقه ما طلب، ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته: لم تبكي وقد وصلْته؟ فقال: أبكي لأنني لم أتفقد حاله فأعطيه قبل أن يذَّل نفسه بالسؤال.
والحق - تبارك وتعالى - حين يقول بعد الوصية بالوالدين: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] إنما لينبهنا أن البرَّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك، إنما سيُكتب لك، وسيكون في ميزانك؛ لأنك أطعتَ تكليفي وأمري، وأدَّيْتَ، فلك الجزاء لأنك عملتَ عملاً إيمانياً لا بُدَّ أن تُثاب عليه.(19/11650)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{يابني. .} [لقمان: 16] نداء أيضاً للتطلف والترقيق {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ. .} [لقمان: 16] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية، وكأنه يقول له: إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس(19/11650)
يخفى على الله تعالى {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]
وكما ان الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل، حتى إن كانت في باطن صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دَقَّتْ، ومهما حاول صاحبها إخفاءها.
وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خَلْقه، وعند قوله تعالى: {يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] يقولون: الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع؟
ونقول: الحق سبحانه في قوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110] لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد، ومثَّلْنا لذلك بمظاهرة مثلاً، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى، منها ما يعاقب عليه القانون، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها؟
إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق - تبارك وتعالى - فيعلم كل كلمة، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه. إذن: من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ.
وقوله تعالى {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ. .} [لقمان: 16] أي: وزن حبة الخردل، وكانت أصغر شيء وقتها، فجعلوها وحدة قياس للقلة، وليس لك الآن أن تقول: وهل حبة الخردل أصغر شيء(19/11651)
في الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالاً للصِّغَر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقلَّ منها.
لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد (أي الجزء الذي لا يتجزأ) ، واستطاعوا تفتيت الذرة، ظنوا أن في هذه العملية مأخذاً على القرآن، فقد ذكر القرآن الذرة، وجعلها مقياساً دينياً في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] لكن لم يذكر الأقلَّ منها، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله.
ونقول: قرأتم شيئاً وغابت عنكم أشياء، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطاً لما توصلتم إليه، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}
[يونس: 61]
بل نقول: إن الاحتياط هنا احتياط مركب، فلم يقل صغير إنما قال (أصغر) وهذا يدل على وجود رصيد في كلام الله لكل مُفتّت من الذرة.
وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله. .} [لقمان: 16] {فِي صَخْرَةٍ. .} [لقمان: 16] أي: على حبكة الوجود، وفي أضيق مكان {أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض. .} [لقمان: 16] يعني: في المتسع الذي لا حدود له، فلا في الضيق المحكم، ولا في المتسع يخفى على الله شيء {يَأْتِ بِهَا الله. .} [لقمان: 16] واستصحب حيثيات الإتيان بها بوصفين لله تعالى: {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16](19/11652)
وجمع بين هاتين الصفتين؛ لأنك قد تكون خبيراً بالشيء عالماً بمكانه، لكنك لا تستطيع الوصول إليه، كأنْ يكون في مكان ضيق لا تنفذ إليه يدك، وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلاً، فالخبرة موجودة، لكن ينقصك اللطف في الدخول.
والحق - سبحانه وتعالى - لطيف، فمهما صَغُرت الأشياء ودقَّتْ يصل إليها، فهو إذن عليم خبير بكل شيء مهما صغر، قادر على الإتيان به مهما دقَّ؛ لأنه لطيف لا يمنعه مانع، فصفة اللطف هذه للتغلغل في الأشياء.
ونحن نعلم أن الشيء كلما دقَّ ولَطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمَنْ بنى بيتاً في الخلاء، وأراد أنْ يؤمِّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة، فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة، ثم تذكّر الفئران والثعابين قضيّق الحديد، ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ، إذن: كلما كان عدوك لطيفاً دقيقاً كان أعنف، واحتاج إلى احتياط أكثر.
فقوله تعالى {إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] يعني: لا يعوزه علم بالمكان، ولا سهولة ويُسْر في الوصول إلى الأشياء.
كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده، ولم يأمره حتى الآن بشيء من التكاليف، إنما حرص أنْ يُنبه: أنك قد آمنت بالله وبلغَك منهجه واستمعت إليه، فأطع ذلك المنهج في افعل ولا تفعل، لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغيب عنه شيء، فادخل على المنهج بهذا الاعتقاد.(19/11653)
وإياك أنْ تتغلَّب عليك شبهة أنك لا ترى الله، فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك، واعلم أن عملك محسوب عليك، وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة، أو في سماء، أو في أرض شاسعة.
ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي: إنْ كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أنِّي أراكم، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟» .
بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف، فيقول له: {يابني أَقِمِ الصلاة ... } .(19/11654)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلاة، والصلاة هي الركن الأول بعد أنْ تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعلمنا أن الصلاة لأهميتها فُرِضت بالمباشرة، ولأهميتها جُعلِت ملازمة للمؤمن لا تسقط عنه بحال، أما بقية الأركان فقد تسقط عنك لسبب أو لآخر، كالصوم والزكاة والحج، فإذا سقطت عنك هذه الأركان لم يَبْق معك إلا الشهادتان والصلاة؛ لذلك جعلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عماد الدين.(19/11654)
ولذلك بدأ بها لقمان: {يابني أَقِمِ الصلاة. .} [لقمان: 17] لأنها استدامة إعلان الولاء لله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة، فحين يناديك ربك (الله أكبر) فلا ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء الخالق، وإلا فما موقف الأب مثلاً حين ينادي ولده فلا يجيبه؟ فاحذر إذا ناداك ربك ألا تجيب.
ثم تأمل النداء للصلاة الذي اهتدتْ إليه الفطرة البشرية السليمة، وأقرّه سيدنا رسول الله: الله أكبر الله أكبر، يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه، فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو تجارة عن إقامة الصلاة.
وقد ناقشتُ أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة، فقال: كيف أترك عملية جراحية من أجل الصلاة؟ فقلت له: بالله لو اضطررتَ لقضاء الحاجة تذهب أم لا؟ فضحك وقال: أذهب، فقلت: فالصلاة أوْلَى، ولا تعتقد أن الله تعالى يكلِّف العبد تكليفاً، ثم يضنّ عليه باتساع الزمن له، بدليل أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته، ففي السفر مثلاً يشرع لك الجمع والقصر.
فبإمكانك أنْ تُوفِّق صلاتك حسب وقتك المتاح لك، إما بجمع التقديم أو التأخير، وكم يتسع وقتك ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعتَ الظهر والعصر جمْعَ تقديم، والمغرب والعشاء جَمْع تأخير في آخر وقت العشاء؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمعَ تأخير، فتصليهما قبل المغرب، ثم تصلي المغرب والعشاء جمع تقديم؟
إذن: المسألة فيها سِعَة، ولا حجةَ لأحد في تَرْك الصلاة بالذات، أما الذين يقولون في مثل هذه الأمور {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ... } [البقرة: 286] وأن هذا ليس في وُسْعي. . فنقول لهم:(19/11655)
لا ينبغي أنْ تجعل وُسْعك هو الحكم، إنما التكليف هو الحكم في الوُسْع، وما دام ربك - عَزَّ وَجَلَّ - قد كلَّفك فقد علم سبحانه وُسْعْك وكلّفك على قدره بدليل ما شرعه لك من رُخَص إذا خرجتْ العبادة عن الوُسْع.
وقال {أَقِمِ الصلاة. .} [لقمان: 17] لأن الصلاة أول اكتمال في الإجماع لمنهج الله، وبها يكتمل إيمان الإنسان في ذاته، وسبق أن قلنا: إن هناك فرقاً بين أركان الإسلام وأركان المسلم، أركان الإسلام هي الخمس المعروفة، أمَّا أركان المسلم فهي الملازمة له التي لا تسقط عنه بحال، وهي الشهادتان والصلاة، وإنْ كان على المسلم أنْ يؤمن بها جميعاً، لكن في العمل قد تسقط عنه عدا الصلاة والشهادتين.
ثم يبين لقمان لولده: أن الإيمان لا يقف عند حدِّ الاستجابة لهذين الركنين الأساسيين، إنما من الإيمان ومن كمال الإيمان أنْ تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له: {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر. .} [لقمان: 17] فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كَمُلْتَ في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان.
وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهي عن المنكر لا تظن أنك تتصدَّق على الآخرين، إنما تؤدي عملاً يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛ لأنك أديْتَ التكاليف في حين قصرَّ غيرك وتخاذل.
ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضاً، وإلا فالمجتمع كله يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله.(19/11656)
ومن إعزاز العلم أنك لا تنتفع به الانتفاع الكامل إلا إذا عدَّيْته للغير، فإنْ كتمته انتفع الآخرون بخيرك، وشقيتَ أنت بشرّهم. إذن: لا تنتفع بخير غيرك إلا حين تؤدي هذه الفريضة، فتأمر غيرك بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتحب لهم ما تحب لنفسك، وبذلك تنال الحظين، حظك عند الله لأنك أديْتَ، وحظك عند الناس لأنك في مجتمع متكامل الإيمان ينفعك ولا يضرك.
ولك هذا أن تلحظ أن هذه الآية لم تقرن إقامة الصلاة بإيتاء الزكاة كعادة الآيات، فغالباً ما نقرأ: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة ... } [البقرة: 43]
وحين نستقرئ كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلاثين مرة، اثنتان منها ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر، وذلك في قوله تعالى في قصة الخضر وموسى عليه السلام: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ... } [الكهف: 74]
ثم قوله تعالى: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف: 81]
والمعنى: طهرناهم حينما رفعنا عنهم باباً من أبواب الفتنة في دين الله.
والموضع الآخر في قوله تعالى: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً} [مريم: 13] فالمعنى: وهبنا لمريم شيئاً نُزكيها به؛ ذلك لأن الزكاة(19/11657)
أول ما تتعدى تتعدَّى من واجد لمعدم، ومريم لم تتزوج فهي مُعْدَمة في هذه الناحية؛ لذلك وهبها الله النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح من عنده تعالى.
وفي موضع واحد، جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال، لكن غير مقرونة بالصلاة، وذلك في قوله تعالى: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون} [الروم: 39]
وفي هذه الآية قال لقمان لولده: {يابني أَقِمِ الصلاة وَأْمُرْ بالمعروف. .} [لقمان: 17] ولم يقل: وآتِ الزكاة، فلماذا؟
ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة فيها تضحية بالوقت، والوقت زمن العمل، والعمل وسيلة الكسب والمال، إذن؛ ساعة تصلي فقد ضحيْتَ بالوقت الذي هو أصل المال، فكأن في الصلاة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت، أمّا في الزكاة فأنت تتصدَّق بالعُشْر، أو نصف العشر، أو رُبْع العشر، ويبقى لك معظم كسبك، فالواقع أن الزكاة في الصلاة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها.
إذن: لما كانت الزكاة في كل منهما، قرن القرآن بينهما إلا في هذا الموضع، ولما تتأمله تجده من دقائق الأسلوب القرآني، فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده، ولنا فيه ملحظان:
الأول: أن الله تعالى لم يكلِّف العبد إلا بعد سِنِّ البلوغ إلا في(19/11658)
الصلاة، وجعل هذا التكليف مُوجهاً إلى الوالد أو ولي الأمر، فأنابه أن يكلف ولده بالصلاة، وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها، ذلك ليربي عند ولده الدُّرْبة على الصلاة، بحيث يأتي سِنّ التكليف، وقد ألفَها الولد وتعوَّد عليها، فهي عبادة تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردَّ، وهذا أنسب للسنَّ المبكرة.
والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له، والسبب المباشر في وجوده، وكأن الله تعالى يقول: أنا الموجد لكم جميعاً وقد وكَّلتُك في أنْ تكلِّف ولدك؛ لأن معروفك ظاهر عنده، وأياديك عليه كثيرة، فأنت القائم بمصالحه المُلَبِّي لرغباته، فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك، فهي طاعة بثمنها.
وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكِّلك في العقوبة، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلِّفه إنما كلَّفْتُك أنت.
لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة، لأنه مُكلَّف بهذا الأمر، فولده ما يزال صغيراً بدليل قوله {يابني. .} [لقمان: 17] فالتكليف هنا من الوالد، فإنْ كان الولد بالغاً حال هذا الأمر فالمعنى: لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة.
أما الزكاة، وهي تكليف من الله أيضاً فلم يذكرها هنا - وهذه من حكمة لقمان ودقَّة تعبيره، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.
ثانياً: إنْ كلَّفه بالزكاة فقال: أقم الصلاة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية، ومعروف أن الولد لا ملكيةَ له في وجود والده، بدليل(19/11659)
قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت ومالك لأبيك» وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال: إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكاً له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر ولده بالزكاة، فالزكاة في ذمته هو، لا في ذمة ولده.
وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}
[النور: 61]
فالله تعالى رفع عنَّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت، ونلحظ أن الآية ذكرتْ الأقارب عدا الأبناء، وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم: أو بيوت أبنائكم، فلماذا لم يذكر هنا بيوت الأبناء؟ قالوا: لأنها داخلة في قوله: بيوتكم، فبيت الابن هو بيت الأب، والولد وما ملكتْ يداه مِلْكٌ لأبيه.
ثم يقول لقمان لولده: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ. .} [لقمان: 17](19/11660)
الصبر: حَمْل النفس على التجلُّد للأحداث، حتى لا تعينَ الأحداث على نفسك بالجزع، فأنت أمام الأحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة، فكيف تُضعِف نفسك أمامها؟
والمصيبة تقع إما لك فيها غريم، أو ليس لك فيها غريم، فالذي يسقط مثلاً، فتنكسر ساقه، أو الذي يفاجئه المرض. . الخ هذه أقدار ساقها الله إليك بلا سبب فلا غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في ميزامك: إما أنْ يعلي بها درجاتك، وإما أنْ يُكفِّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب المسلمين مصيبة، كما فرحوا يوم أُحُد، وقد ردَّ الله عليهم وبيَّن غباءهم، وقال سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا ... } [التوبة: 51] وتأمل الجار والمجرور (لنا) ولم يقُلْ كتب علينا، إذن: فالمعصية في حساب (له) لا (عليه) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟
وأوصى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الذي يتعرض لهذين الأمرين لا بُدَّ أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو نَهْيه عن المنكر، فإنْ تعرضتْ للإيذاء فاصبر؛ لأن هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعاً.
وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
فالله أمرك أنْ تُغيِّر المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى(19/11661)
إمكانك فيها، فالدين يريدك مُصلحاً لكن لا يريد أنْ تلقى بنفسك إلى التهلكة، فلك أنْ تُغيِّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك. . إلخ.
فلك أن تضربه مثلاً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه، أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له مثلاً ورق «الكوتشينة» ، فإنْ لم تكُنْ لك هذه الاستطاعة فيكفي أنْ تُغيِّر بلسانك إنْ كانت لديك الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الآخرين، ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه.
فإنْ لم يكُنْ في استطاعتك هذه أيضاً، فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكراً لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييراً للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيِّره بيدك يعني: إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئاً؟
قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعاً للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقاً، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدِّه ومعاملته؟
إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبِعْ له ولا تشتر منه.
. الخ.
وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام(19/11662)
الناس لهم خوفاً من باطلهم ومن ظلمهم.
فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربنا - تبارك وتعالى - هذه القضية في قوله سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء: 140]
ويقول سبحانه في آية أخرى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68]
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا بغير عذر في غزوة تبوك، يُعلِّمنا كيف نعزل أصحاب المنكر، لا بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الآن، إنما بأن نعزل المجتمع عنهم، ليس المجتمع العام فحسب، بل عن المجتمع الخاص، وعن أقرب الناس إليه.
وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول الله فقَبِل علانيتهم وترك سرائرهم لله، لكن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا لأنفسهم عذراً، ورأوا أنهم لا يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول الله، ولم يحبسهم الرسول، إنما حبس المجتمع عنهم حتى الأقارب، فكان الواحد منهم يمشي و (يتمحك) في الناس ليكلمه أحد منهم، فلا يكلمه أحد، وكعب بن مالك يتسوَّر على ابن عمه الحديقة، ويقول(19/11663)
له: تعلم أني أحب الله ورسوله فلا يجيبه، ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه، فلا ينظر إليه.
ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلاها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت، فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلاً منهن ألاَّ يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله وقالت: يا رسول الله، إن زوجي رجل كهدبة الثوب (يعني: ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول الله في أن تخدمه على ألاَّ يقربها.
ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يوماً في هذا الامتحان العام وعشرة أيام في الامتحان الخاص، ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص، وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعزل(19/11664)
المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العزلة قاسياً على هؤلاء.
فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول: لقد ضاقت بي الأرض على سعتها، والحق يقول في وصف حالهم: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118]
فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج الله فرَّج الله عن هؤلاء الثلاثة، ونزل قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} [التوبة: 118]
فأسرع أحدهم يبشر كعباً بهذه البشرى فطار كعب فرحاً بها، وقال: فوالله ما ملكتُ أنْ أخلع عليه ثيابي كلها، ثم أستعير ثياباً أذهب بها إلى رسول الله.
إذن: ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر، لا أن نعزلهم هم في السجون، لكن مَنْ يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول الله؟
نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدراً من الله ليس لك فيها غريم، فإن الصبر عليها هيِّن، فالأمر بينك وبين ربك، أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك أحد فيحرق(19/11665)
زرعك أو يقتل ولدك، فهذه تحتاج إلى صبر أشد، فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك وغلى الدم في عروقك، فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر.
لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] فأكَّدها باللام؛ لأنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى لا تتعدى كلما رأيت الغريم، وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذاً على كلام الله.
يقولون: ما الفرق بين قول القرآن {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]
ثم أيهما أبلغ من الأخرى، فإنْ كانت الأولى بليغة فالأخرى غير بليغة.
ونقول في الرد عليهم: كل من الآيتين بليغة في سياقها، فالتي أُكِّدت باللام جاءت في المصيبة التي لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر، أما الأخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم، فهي بينك وبين ربك، والصبر عليها هيِّن يسير.
لذلك، فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفِّي النفس ويمنع ثورتها، فيقول: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] لتقف النفس عند حدِّ الرد بالمثل، ثم يُرقِّى المسألة، ويفتح باباً للعفو:
{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ... } [الشورى: 40] وقال في موضع آخر: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126](19/11666)
فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك، وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛ لذلك كثيراً ما نرى - خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الأخذ بالثأر - القاتل يأخذ كفنه على يديه، ويدخل به على ولي الدم، ويُسلِّم نفسه إليه، وعندها لا يملك ولي الدم إلا أن يعفو.
حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالاً لترقية النفس البشرية وأريحيتها، بل ويُسمِّي الطرفين إخوة في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ... } [البقرة: 178]
ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدِّثنا ربنا عن العفو والإحسان والأخوة، ومعلوم أن هناك فَرْقاً بين أن تأخذ الحق، وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك.
فالله تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبلَتْ عليه من الغرائز وما تُكِنّه من العواطف، وما يستقر فيها من القيم والمبادئ، لكنه - سبحانه وتعالى - لا يبني الحكم على ارتفاع المناهج في الإنسان، إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها، فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقَّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى: 40] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } [النحل: 126]
ومع ذلك حين تتأمل هذه الآيات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان، فمَنْ لديه القدرة والمقاييس الدقيقة التي تُوقِفه عند حدِّ المثلية التي أمر الله بها؟(19/11667)
وسبق أنْ بيَّنا: أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلاً، أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته لا تزيد عليها، لأنك إنْ زدتَ صرْتَ ظالماً، واقرأ بقية الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} [الشورى: 40]
وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلاً، إذا لم يُؤدِّ في الموعد المحدد، وفعلاً جاء موعد السداد، ولم يَف المدين، فرفع اليهودي أمره إلى القاضي وأخبره بشرطه - وكان القاضي مُوفَّقاً قد نوَّر الله بصيرته، فقال لليهودي: نعم لك حَقٌ في أن تُنفذ ما اتفقنا عليه، وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلاً من لحمه في ضربة واحدة، بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك.
وعندها انصرف اليهودي؛ لأن المثلية لا يمكن أن تتحقق، فكأن الله تعالى بهذا الشرط - شرط المثلية في الردِّ - يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح.
إذن: يُحدِّثنا الحق - تبارك وتعالى - عن العفو وعن الإحسان في المصيبة التي لك فيها غريم، ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك، لكن حرمتها الأجر الذي تكفَّل الله لك به إنْ أنت عفوتَ.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسباباً للولاء، فالذي كان من حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته مِلْكاً لك، فهل يفكر لك في سوء بعدها؟
لذلك يُعلِّمنا ربنا: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34](19/11668)
وأذكر أنني جاءني مَنْ يقول: والله أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي، فلم أجده ولياً حميماً كما قال الله تعالى، فقلت له: عليك أن تراجع نفسك؛ لأنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، لكن الواقع غير ذلك، ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق الله معك، ورأيت خَصْمك ولياً حميماً، إنما أنت تريد أنْ تُجرِّب مع الله والتجربة مع الله شكٌّ.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلِّمنا أنْ نبقى على يقين التوكل سارياً دون أنْ نفكر كيف يحدث، وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك، فقد كان عندها غنم تحلب لبنها، فتصنع مما زاد عن حاجتها وحاجة أولادها زبداً، وكانت تهدي منه إلى رسول الله في عكة عندها، فكان أهل بيت رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم، ثم يعيدونها إليها وهكذا.
حتى قالت أم مالك: والله ما أصبتُ إداماً إلا من هذه العكة، وكانت كلما احتاجت الإدام أفرغتْ العكة، فوجدت بها الإدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول، لكن خُيِّل لها في يوم من الأيام أنها أسرفت في استعمال هذه العكة، وظنت أن ما بها من إدام قد نفد، فأخذتها وعصرتها، فلم تجد فيها شيئاً، فظنت أن رسول الله غاضب(19/11669)
منها، فذهبت إليه وقصَّتْ عليه هذه المسألة، فقال لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «» أعَصريتها يا أم مالك؟ «فقالت: نعم يا رسول الله، فأخبرها أن التجربة مع الله شكٌّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ العُكَّة على حالها» ، وكما تعودت منها.
وتلحظ أن كلمة (أصابك) والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لأنها قدر أرسل إليك بالفعل، وسيصيبك لا محالة، والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي أُطِلق عليك، فإياك أنْ تقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فما سُمِّيت المصيبة بهذا الاسم إلا لأنها صائبتك لا تستطيع أنْ تفرَّ منها. كما يقولون عن الموت: تأكد أنك ستموت، وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم الموت.
وكلمة {مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] نقول: فلان له عزم، ونسمع القرآن يقول: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ... } [آل عمران: 159] العزم: الفرض المقطوع به، والذي لا مناص عنه، ومنه ما جاء في قول لقمان لما خيَّره ربه بين أن يكون رسولاً أو حكيماً، فاختار الراحة وترك الابتلاء، لكنه قال: يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعاً وطاعة، يعني: أمراً مفروضاً ينبغي ألاَّ نحيد عنه.
والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به، فالصلاة على الميت مثلاً لا تُسمَّى عزيمة؛ لأنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين، على خلاف الصلاة التامة في السفر مثلاً حيث يعتبرها الإمام أبو حنيفة عزيمة لا رخصة، فإن أتممت الصلاة في(19/11670)
السفر أسأْت، عملاً بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه» .
والمعنى: لا ترد يد الله المبسوطة لك بالتيسير في الصلاة أثناء السفر.
ثم يعتمد في هذا الرأي على دليل آخر من علم الأصول هو أن الصلاة فُرضَتْ في الأصل مثنى مثنى، ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر. إذن: فصلاة السفر مع الأصل، فلو أتممتَ الصلاة في السفر أسأْتَ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ... } .(19/11671)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
معنى: تصعر من الصَّعَر، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخدِّه، ويُعرض عن الناس تكبّراً، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر (فلان ماشي لاوي رقبته) .
فقول الله تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ. .} [لقمان: 18] واختيار(19/11671)
هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه يُنبِّهنا أن التكبُّر وتصعير الخدِّ داء، فهذا داء جسدي، وهذا داء خلقي. وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال:
فَدَعْ كُلَّ طَاغِيةٍ للزَّمانِ ... فإنَّ الزمانَ يُقيم الصَّعَر
يعني: إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر، فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه، وكثيراً ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياماً أو قعوداً، بل لا يستطيع أنْ يذب الطير عن وجهه.
والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين، بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوَّم من صَعره، ومثَّلنا لذلك ب (فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلاً واضعاً قدماً على قدم، غير مُبَال بأحد، فإذا دخل عليه (فتوة) آخر أقوى منه تلقائياً يعتدل في جلسته.
وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول (اتق شر من أحسنت إليه) لماذا؟ لأن الذي أحسنتَ إليه مرتْ به فترة كان ضعيفاً محتاجاً وأنت قوي فأحسنتَ إليه، وقدَّمْتَ له المعروف الذي قوّم حياته فأصبح لك يَدٌ عليه، وكلما رآك ذكَّرته بفترة ضعفه، ثم إن الأيام دُوَل تدور بين الخَلْق، والضعيف يصبح قوياً ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه، لكنه لا بُدَّ أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه، وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُلُوِّه وكبريائه؛ لذلك قبل: (اتق شر من أحسنت إليه) .
ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبَّر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له، وإذا رأيتَ في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك، وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلاً.(19/11672)
لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال، فقالت سيدتها: لكني مشفقة عليك؛ لأنك سوداء لم ينظر أحد إليك، فقالت الجارية: يا سيدتي، اذكري أن حُسْنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قُبْحي - فالذي تراه أنت قبيحاً هو في ذاته جميل، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة - ثم قالت: يا هذه، لا تغضبي الله بشيءٍ من هذا، أتعيبين النقش، أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيَّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.
ويقول الشاعر في هذا المعنى:
فَالوَجْه مِثْلُ الصُّبْح مُبيضُّ ... والشَّعْر مثْل الليْل مُسْوَدُّ
ضِدَّانِ لما اسْتجْمعَا حَسُناَ ... والضِّد يُظْهِر حُسْنَهُ الضِّدُّ
والله تعالى يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11]
فإذا رأيتَ إنساناً دونك في شيء ففتش في نفسك، وانظر، فلا بُدَّ أنه متميز عليك في شيء آخر، وبذلك يعتدل الميزان.
فالله تعالى وزَّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ولم يحابِ منهم أحداً على أحد، وكما قلنا: مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر.
وسبق أن ذكرنا أن رجلاً قال للقمان: لقد عرفناك عبداً أسود غليظ الشفاه، تخدم فلاناً وترعى الغنم، فقال لقمان: نعم، لكني(19/11673)
أحمل قلباً أبيض، ويخرج من بين شفتيَّ الغليظتين الكلام العذب الرقيق.
ويكفي لقمان فخراً أن الله تعالى ذكر كلامه، وحكاه في قرآنه وجعله خالداً يُتْلى ويُتعبَّد به، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه.
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ. .} [لقمان: 18] فكلمة للناس هنا لها مدخل، وكأن الله تعالى يقول لمن يُصعِّر خده؛ لا تَدْعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبُّرك عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم، فقد تصادف قليلَ الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبراً متعالياً وهو حقير متواضع، فإنْ كنت محترف صَعَر و (كييف) تكبُّر، فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك، كأن تقف أمام المرآة مثلاً وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك هذا الداء.
فكأن كلمة {لِلنَّاسِ. .} [لقمان: 18] تعني: أن الله تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال؛ لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.
ثم يقول لقمان: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً. .} [لقمان: 18] المرح هو الاختيال والتبختر، فربُّكَ لا يمنعك أنْ تمشي في الأرض، لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس، المختال بنفسه، والله تعالى يأمرنا: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15](19/11674)
فالمشي في الأرض مطلوب، لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْياً سوياً معتدلاً، فعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رأى رجلاً يسير متماوتاً فنهره، وقال: ما هذا التماوت يا هذا، وقد وهبك الله عافية، دَعْها لشيخوختك.
ورأى رجلاً يمشي مشية الشطار - يعني: قُطَّاع الطرق - فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي.
إذن: المطلوب في المشي هيئة الاعتدال، لذلك سيأتي في قول لقمان: {واقصد فِي مَشْيِكَ ... } [لقمان: 19] يعني: لا تمشِ مشية المتهالك المتماوت، ولا تقفز قفز أهل الشر وقُطَّاع الطريق.
{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] المختال: هو الذي وجد له مزية عند الناس، والفخور الذي يجد مزية في نفسه، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك؛ لأنه سبحانه يريد أنْ يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربُّ الجميع، وهو سبحانه المتكبِّر وحده في الكون، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبِّر علينا غيره، على حدِّ قول الناظم:
والسُّجُود الذي تَجْتويه ... من أُلُوفِ السُّجُودِ فيه نَجَاةُ
فسجودنا جميعاً للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل(19/11675)
متكبر ومتجبر، فكأن كبرياء الحق - تبارك وتعالى - في صالح العباد.
ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام: {واقصد فِي مَشْيِكَ ... } .(19/11676)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالاً لا نقيضَ فيه لطرفين، يعني: توسطاً واعتدالاً، هذا في المشي {واغضض مِن صَوْتِكَ. .} [لقمان: 19] أي: اخفضه وحَسْبك من الأداء ما بلغ الأذن.
لكن، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا: لأن للإنسان مطلوبات في الحياة، هذه المطلوبات يصل إليها، إما بالمشي - فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض - وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.
إذن: إما تذهب إلى مطلوبك، أو أنْ تستدعيه إليك. والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء؛ لأن كل شيء له طرفان لا بُدَّ أن يكون في أحدهما مبالغة، وفي الآخرة تقصير؛ لذلك قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ثم يقول سبحانه مُشبِّهاً الصوت المرتفع بصوت الحمار: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] والبعض يفهم هذه الآية فهماً يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء وبالذلة، لذلك يقول الشاعر:
ولاَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به ... إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ(19/11676)
هذا على الخسفْ مربوطٌ برمته ... وذَا يُشَدُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَد
ونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي - والمراد الحمار - بالذلة، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا (أذلّ من وتد) لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين، فلا يعترض عليك، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد، فالحمار مُسخّر، وليس ذليلاً، بل هو مذلَّل لك من الله سبحانه.
ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السِّرْج، وفي فمه اللجام، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.
وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق: أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلاً، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.
لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] فنهيق الحمار ليس مُنكَراً من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟
إنك تلحظ الجمل مثلاً وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمَّلته حِمْلاً فإنه (ينعَّر) إذا ثقل عليه، أما الحمار فتُحمِّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضاً، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلاً إلى (القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز،(19/11677)
وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها.
أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَلا يطيق. ويُقال: إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطاناً، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه، وأنها تقطِّع قيودها وتفرّ إلى الخلاء، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب، ولاحظناه في زلزال عام 1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.
ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلاً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ تُوجِّهه أنت، ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدَّاه، لكن المتحاملين على الحمير يقولون: ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف، إنما يضع الخطوة على الخطوة، ونحن نقول: بل يُمدح الحمار حتى وإنْ لم يتصرف؛ لأنه محكوم بالغريزة.
كذلك الحال في قول الله تعالى: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ... } [الجمعة: 5]
فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى: حملوها أي: عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم، ولم يحملوها أي: لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها، مثَلهم في ذلك {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً ... } [الجمعة: 5] فهل يُعَدُّ هذا ذَماً للحمار؟ لا، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب، إنما يُذَمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب الله(19/11678)
ولا يعملوا به، فالحمار مهمته أنْ يحمل، وأنت مهمتك أنْ تفقه ما حملت وأنْ تؤديه.
فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يُعلِّمنا الحق سبحانه: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} [الإسراء: 110] أما ما تسمعه من (الجعر) في مكبرات الصوت والنُّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم يزيدوا شيئاً ب (الميكروفونات) .
كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه: هذا يريد أنْ يصلي، وهذا يريد أن يُسبِّح أو يستغفر، وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب الله، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟
بعد أنْ عرضتْ لنا الآيات طرفاً من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد: {أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله ... } .(19/11679)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
التسخير: هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في(19/11679)
التنقُّل منها، كما سخر الله الشمس والقمر. . إلخ، فعلى الرغم من أن كثيراً من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبَّ الشمس في يوم من الأيام أنْ تشرق عليهم، ولا امتنع عنهم الهواء، ولا ضنَّتْ عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها، لماذا؟ لأنها مُسخَّرة لا اختيار لها.
ولا نفهم من ذلك أن الله سخَّر هذه المخلوقات رغماً عنها، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خُيِّر، إنما الحقيقة أن الكون كله خُيِّر، وهذا واضح في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]
إذن: فالجميع خُيِّر، خُيِّرت السماوات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخَّرة لا إرادة لها، وخُيِّر الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً؛ لأن له عقلاً يفكر به ويقارن بين البدائل.
ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج، والدليل على ذلك أنك إذا صِدْتَ طيراً وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء وتريد أن تعرف: أهو مُسخَّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام؟ فافتح له باب القفص، فإنْ ظلَّ في صحبتك فهو مُسخَّر لك، راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددتَهُ له، وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخَّر لك، ولا يحقُّ لك أن تستأنسه رغماً عنه.
لذلك سيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما مَرَّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلِّمه درساً وهو ما يزال (عجينة) طيِّعة، فأقنعه(19/11680)
أنْ يبيعه العصفور، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه، فقال الغلام: فو الله ما قَصَرْتُ بعدها حيواناً على الأنس به.
وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يُسخِّر لك مثلاً البرغوث فلو لم يُذلِّل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك.
وقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. .} [لقمان: 20] أسبغ: أتمّ وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود: {أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ ... } [سبأ: 11] أي: دروعاً ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكاناً آخر.
ورُوِي أن لقمان رأى دواد - عليه السلام - يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادر بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال: نِعْمَ لَبُوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.
فمعنى أسبغ علينا النعمة: أتمها إتماماً يستوعب كل حركة(19/11681)
حياتكم، ويمدكم دائماً بمقوِّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع؛ لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.
أما إذا رأيتَ قصوراً في ناحية، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قوماً قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدُّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعاً وفقراً.
إذن: فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مُقوِّمات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. .} [لقمان: 20] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً منها تتناسلون؟
هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالاً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.
فمعنى {ظَاهِرَةً. .} [لقمان: 20] أي: التي ظهرتْ لنا: {وَبَاطِنَةً. .} [لقمان: 20] لم نصل إليها بعد، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.(19/11682)
تأمل في نفسك مثلاً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازاً يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.
وقالوا: إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.
أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونِعَم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئاً عن الكهرباء مثلاً، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.
. إلخ.
كلها نِعَم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نِعَم الله تجده حوالي 3 ... ونسبة 97 ... عرفها الإنسان بالصدفة.
وقلنا: إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول: إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ(19/11683)
أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس ... } [يونس: 24]
وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئاً آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا: لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.
ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبِّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا. . إلخ.
لذلك نقول: من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا؛ لأن آيات الله ونِعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقِّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.
وسبق أنْ قلنا: إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّماً من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.
وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دُمْنا قد رأينا نِعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلاً على ما غاب.(19/11684)
واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ... } [البقرة: 255] أي: شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطموراً، فإنْ صادف بحثاً جاء مع البحث، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.
أما الغيب الذي ليس له مُقدِّمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ ... } [الجن: 26 - 27]
وقال سبحانه: {ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً. .} [لقمان: 20] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخاراً آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.
وقد حاول العلماء أن يُعدِّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهراً، والباطنة ما أخبرنا الله بها، فمثلاً حين تريد الجهاد في سبيل الله تُعِدُّ لذلك عُدَّته من سلاح وجنود. . إلخ وتأخذ بالأسباب، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم ترَوْها، كما قال سبحانه: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ ... } [الأنفال: 12]
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة، فيقول: «للمؤمن ثلاثة هي له وليست له - يعني ليست من عمله - أما الأولى: أن المؤمنين يصلون عليه، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به - يعني: لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حيٌّ، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي(19/11685)
شرعه، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك - أما الثالثة: أن الله تعالى ستر مساويك عن خَلْقه، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك» .
إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خَلْق الله، ولو خيَّرتَ أيَّ إنسان: أتحب أن تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فلا شكَّ في أنه لن يرضى بذلك أبداً.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوضح هذه المسألة في قوله: «لو تكاشفتم ما تدافنتم» يعني: لو ظهر المستور من غيب الإنسان، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات لا يدفنونه، ولقالوا دَعُوه للكلاب تأكله، جزاءً له على ما فعل.
لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يُسرع بحمله ودفنه، كما قال القائل: محا الموت أسباب العداوة بيننا. لكن من غباء الإنسان أن ينبشَ عن عيوب الآخرين، وأنْ يتتبعَ عوراتهم، فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل، فيتتبعون عوراتك، ويبحثون عن عيوبك؟
ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهَّدهم في كل(19/11686)
حسناتك، والله تعالى يريد أنْ ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.
ثم يقول تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20]
المجادلة: الحوار في أمر، لكل طرف فيه جنود، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر، والجدل لا يكون إلا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، ويسمونه الجدل الحتمي، وهذا يكون موضوعياً لا لَددَ فيه، ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير، وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ... } [العنكبوت: 46] أما الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة لا توصل إلى شيء.
والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل، والشيء حين يُفتل على مثله يقويه، كذلك الرأي في الجدل يُقوِّي الرأي الآخر، فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته، فالجدل المراد به تقوية الحق وإظهاره.
فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل.
والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في الله على غير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير، فيقولون مثلاً في جدالهم: أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجوداً، أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ كان موجوداً أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه(19/11687)
خلق القوانين، ثم تركها تعمل في الكون وتُسيِّره؟ كأن الله تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة.
ومعلوم أن الله تعالى قيُّوم أي: قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت، والدليل على ذلك هذه المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على صِدْق الرسل في البلاغ عن الله، كما عرفنا في قصة إحراق إبراهيم - عليه السلام - فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم الله منه، أو مكَنهم منه ومن إلقائه في النار، ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها.
لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار، وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها، ومع ذلك يخرج منها سالماً ليروْا بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم الله، ولا يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس، ولو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا: لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا.
ومعنى {بِغَيْرِ عِلْمٍ. .} [لقمان: 20] العلم أن تعرف قضية وتجزم بها، وهي واقعة وتستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة، فهذا هو الجهل، فالجاهل لا يوضع في مقابل العالم؛ لأن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة، وهذا يتعبك في الإقناع؛ لأنه ليس خالي الذهن، فيحتاج أولاً لأنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة، أما الأُميّ فهو خالي الذِّهن من أي قضيةَ.
فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، كالولد الصغير الذي علمناه أن (الله أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لأن أباه أو معلمه لقَّنه هذه القضية حتى أصبحتْ(19/11688)
عقيدة عنده، فالذي يُدلِّل عليها مَنْ لقنّها له إلى أنْ يكبر، ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.
والعلم أنواع، منها وأولها: العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث، فمثلاً حين نرى الإنسان يتنفس نعلم أنه حيٌّ بالبديهة، ونعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا. . الخ.
وإذا نظرتَ إلى معلومات الأرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة. فعلم الهندسة مثلاً يقوم على نظريات تستخدم الأولى منها مقدمة لإثبات الثانية، والثانية مقدمة لإثبات الثالثة وهكذا.
فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك لا بُدَّ عائد إلى النظرية الأولى وهي بديهة تقول: إذا التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا الالتقاء زاويتان قائمتان.
إذن: فأعقد النظريات لا بُدَّ أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون الله، المهم مَنْ يلتفت إليه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]
فقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله ... } [لقمان: 20] أي: وجوداً وصفاتاً {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] يعني: أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير، فإنْ كان بغير ذلك فلا يُعَدُّ جدلاً إنما مراء لا طائلَ من ورائه.
ومعنى الهدى: أي الاستدلال بشيء على آخر، كالعربي الذي ضَلَّ في الصحراء، فلما رأى على الرمال بَعْراً وأثراً لأقدام استأنس(19/11689)
بها، وعلم أنه على طريق مطروق ولا بُدَّ أن يمرَّ به أحد، فلما عرضتْ له قضية الإيمان استدل عليها بما رأى فقال:
البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، نجوم تزهر، وبحار تزخر. . أَلاَ يدل ذلك على اللطيف الخبير.
فالإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لا بُدَّ أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عَزَّ وَجَلَّ، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن ان توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً؟
إذن: لا بُدَّ أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن(19/11690)
أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً. . إلخ.
فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا.
هذه هي الآيات التي نأخذها بالأدلة، لكن هذه الأدلة لا تُوصِّلنا إلا إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة خالقاً مبدعاً، لكن العقل لا يصل بي إلى هذا الخالق: مَنْ هو، وما اسمه، إذن: لا بُدَّ من بلاغ عن الله على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته، وماذا أعدّ لمن أطاعه، وماذا أعدَّ لمن عصاه.
وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته. . إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.
وسبق أن ضربنا مثلاً - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور انه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً. . إلخ.
إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا(19/11691)
مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.
كذلك الحق - تبارك وتعالى - هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.
وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، يل يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لا بد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.
والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر؛ لذلك يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً ... } [الشورى: 51]
وإلا لو كلَّم الله جميع البشر، فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أعرفتَ ربك بمحمد، أم عرفتَ محمداً بربك؟ فقال: لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي من ربي، ولو عرفتُ محمداً بربي، فما الحاجة إذن للرسل، لكن عرفتُ ربي بربي، وجاء محمد، فبلَّغني مراد ربي منى. إذن: لا بُدَّ من هذه الواسطة.
والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثالاً يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى: {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ. .} [الأعراف: 143] فبماذا أجابه ربه؟ {قَالَ لَن تَرَانِي ... } [الأعراف: 143] ولم يقل سبحانه: أنا لا أُرىَ، والمعنى: لو أعددتُكَ الإعدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا سنُعَدُّ في الآخرة على هيئة نرى فيها الله عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23](19/11692)
وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]
ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل، وهو الجنس الأقوى من موسى مادةً وصلابة أندكَّ الجبل، ونظر موسى إلى الجبل المتجلَّي عليه فخرَّ صَعقاً، فما بالك لو نظر إلى المتجلِّي سبحانه؟
إذن: الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحداً من خَلْقه، أو يتجلى عليه يُعِدُّه لذلك، ويُربِّيه على عينه، كما قال عن موسى
{وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال في موضع آخر: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] ثم يقوم هذا المربي الذي رباه الله بتربية الخَلْق.
وقد ربى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمته في ثلاث وعشرين سنة، ولو أن الله تعالى خاطب كل إنسان بالمنهج لاستغرقتْ تربية الناس وقتاً طويلاً؛ لذلك يصطفي الله الرسل، ويعطيهم من الخصائص ما يُمكِّنهم من تربية الأمم بعد أنْ ربَّاهم الله، واصطنعهم على عينه.
إذن: كان ولا بُدَّ من إرسال الرسل للبلاغ عن الله: مَنْ هو، ما اسمه، ما صفاته؟ ما مطلوباته؟ ماذا أعدَّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه. . إلخ. لذلك فأول دليل على بطلان الشرك أنْ تقول للذي يشرك الشمس أو القمر أو الأصنام مع الله في العبادة: وماذا قالت لك هذه الأشياء؟ ما مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإلا، فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها: طاعة العابد لأمر المعبود ونهيه؟
فإنْ قُلْتَ: إذن لماذا قَبِلَتْ عقول هؤلاء القوم أنْ يعبدوا هذه الأشياء؟ نقول: لأن التديُّنَ طبيعة في النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وسبق أنْ أوضحنا أن كلاً منا فيه ذرة حية من أبيه - عليه السلام - لم يطرأ عليها الفناء، وإلا لما وُجِد الإنسان، وهذه الذرة في كل منا هي التي شهدتْ الفطرة،(19/11693)
وشهدتْ الخلقَ، وشهدتْ العهد الذي أخذه الله علينا جميعاً {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 172]
فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك، ولم تُعرِّضها لما يطمس نورها - ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل الله - إنْ فعلتَ ذلك أنار الله وجهك وبصيرتك.
لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو: يقول «دعوتُ فلم يُستجب لي، لكن أنِّى يستجاب له، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وملبسه من حرام؟» كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه، وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 123 - 124]
فالمعيشة الضنك والعياذ بالله تأتي حين تنطمس النورانية الإيمانية، وحين لا تحافظ على إشراقية هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق الله، وشهدتْ له بالربوبية، ولو حافظت عليها لظلّتْ كل التعاليم واضحة أمامك، وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي جرَّتْ عليك المعيشة الضنك، واقرأ قول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ... } [الأنفال: 29] أي: نوراً يهديكم وتُفرِّقون به بين الحق والباطل.
والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة الإيمانية، وهما(19/11694)
أمران: الغفلة والتي قال الله عنها: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] والقدوة التي قال الله عنها: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ... }
[الأعراف: 173]
فالذي يطمس الفطرة الإيمانية الغفلة عن المنهج، هذه الغفلة تُوجِد جيلاً لا يتمسك بمنهج الحق، وبذلك تكون العقبة في الجيل الأول الغفلة، لكن في الأجيال اللاحقة الغفلة والقدوة السيئة، وهكذا كلما تنقضي الأجيال تزداد الغفلة، وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة، وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة، ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج الخَلْق.
فمَنْ أراد أنء يجادل في الله فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُنزَّلٍ من عند الله، ووَصْف الكتاب بأنه منير يدلُّنا على أن الكتاب المنسوب إلى الله تعالى لابُدَّ أن يكون منيراً؛ لكنه قد يفقد هذا النور بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان. . إلخ.
وقد أوضح الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ... } [الأنعام: 44]
ثم: {يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى. .} [البقرة: 159]
وإن كان الإنسان يُعذَر في النسيان، فلا يُعذَر في الكتمان، ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان وقع في التحريف {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ. .} [المائدة: 13] ولَيْتهم اقتصروا على ذلك، إنما اختلفوا من عند أنفسهم كلاماً، ثم نسبوه إلى الله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله ... } [البقرة: 79] فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود.(19/11695)
إذن: فالكتب التي بأيديهم لا تصلح للجدل في الله؛ لأنها تفقد العلم والحجة والهدى، ولا تُعَدُّ من الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات، فجوات النسيان والكتمان، والتحريف والاختلاق.
فمَنْ يريد أنْ يجادل في الله فليجادل بناء على علم بدهىٍّ أو هدى استدلالي، أو كتاب منير. والكتب المنزلَّة كثيرة، منها صحف إبراهيم وموسى، ومنها زُبُر الأولين، والزبور نزل على سيدنا داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى - عليهم جميعاً السلام - وهذه كلها كتب من عند الله، لكن هل طرأ عليها حالة عدم الإنارة؟
نقول: نعم، لأنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوَّهتها وأخرجتها عن الإشراقية والنورانية التي كانت لها، وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج.
هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول الله، وهم يعلمون بعثته في بلاد العرب، ويعلمون موعده وأوصافه، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ ... } [الأنعام: 20]
ويقول عنهم: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] لذلك، سيدنا عبد الله بن سلام يقول عن سيدنا رسول الله: والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.(19/11696)
ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول الله على الكفار فيقولون لهم: لقد أظل زمان نبي جديد نسبقكم إليه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}
[البقرة: 89]
لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم، والريادة التي أخذوها في العلم والاقتصاد والحرب. . إلخ، لقد كانوا يُعِدُّون واحداً منهم ليُنصِّبوه ملكاً عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول الله، فلما دخلها رسول الله لم تًعُد لأحد مكانة الريادة بعد رسول الله، فرفض هذا الملك الجديد.
إذن: فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير، فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي تحميها كما حمى القرآن، وما ذاك إلا ليظهر شرف النبي الخاتم، فالكتب السابقة للقرآن جاءت كتبَ أحكام، ولم تكن معجزة في ذاتها، فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب وعن المنهج، فموسى عليه السلام معجزته: العصا واليد. . إلخ وكتابه ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته أنْ يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله وكتابه ومنهجه الإنجيل.
أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن، فهو منهج(19/11697)
ومعجزة ستصاحب الزمان إلى أنْ تقوم الساعة؛ لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة، فلا بُدَّ أن يكون كتابه ومعجزته كذلك فنقول: هذا محمد وهذه معجزته.
أما الرسالات السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ولولا أن الله أخبرنا بها ما عرفنا عنها شيئاً، وما صدَّقنا بها، وسبق أنْ شبَّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه، ثم يصبح خبراً؛ لذلك لا نستطيع أن نقول مثلاً: هذا موسى عليه السلام وهذه معجزته؛ لأننا لم نَرَ هذه المعجزة.
ولما كانت الكتب السابقة كتباً تحمل المنهج، وليست معجزة في ذاتها ترك الله تعالى حفظها لأهلها الذين آمنوا بها، وهذا أمر تكليفي عُرْضة لأنْ يُطاع، ولأنْ يُعصَى، فكان منهم أنْ عصوا هذا الأمر فحدث تضبيب في هذه الكتب.
يقول تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله ... } [المائدة: 44]
وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء، فاعلم أنها للطلب: استحفظتُك كذا يعني: طلبتُ منك حِفْظه، مثل: استفهمتُ يعني طلبت الفهم، واستخرجت، واستوضحت. . إلخ.
فلما جُرِّب الخَلْق في حفظ كلام الخالق فلم يؤدوا، ولم يحفظوا، تكفَّل الله سبحانه بذاته بحفظ القرآن، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
لذلك ظلَّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة(19/11698)
أو النقصان، وصدق الله تعالى حين قال في أول سوره {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ ... } [البقرة: 2] لا الآن، ولا بعد، ولا إلى قيام الساعة، حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا: لا يوجد كتاب مُوثَّق في التاريخ إلا القرآن.
والعجيب في مسألة حِفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئاً يحفظه ليكون حجة له، لا حجة عليه، كما تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك، أما الحق - سبحانه وتعالى - فقد ضمن حِفْظ القرآن، والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد، والحق سبحانه لا يحفظ هذا ويُسجِّله على نفسه، إلا إذا ضمن صِدْق وتحقُّق ما أخبر به وإلا لما حفظه، إذن: فحِفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه لا يطرأ شيء في الكون أبداً يناقض كلام الله في القرآن:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82]
وسبق أنْ قُلنا: إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار، فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما حكم، مع أنهم كافرون بالقرآن، مكذبون له، ومع ذلك لم يحدث منهم إلا ما أخبر الله به، وكان بإمكانهم أنْ يمتنعوا، لكن هيهات فلا يتم في كون الله إلا ما أراد.
لكن، ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير؟ نلفته إلى العلم، وإلى الهدى، وإلى الكتاب المنير.
ندعوهم إلى النظر في الآيات الكونية، وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عَزَّ وَجَلَّ، ندعوهم إلى الهدى، والاستدلال وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول الله، ألم يخبر وهو في شدة الحصارالذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق الشجر. . إلخ.(19/11699)
إلم يُخبر القرآن في هذه الأثناء بقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] حتى أن سيدنا عمر ليتعجب: أيُّ جمع هذا؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى بعينه ما حاق بالكفار قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] وفعلاً، لم يعرفوا الوليد يوم بدر بين القتلى إلا بضربة على خرطومه. ألم يُشِرْ رسول الله قبل المعركة إلى مصارع القوم، فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، ثم تأتي المعركة ويُقتل هؤلاء في نفس الأماكن التي أشار إليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوِّر لنا الماضي، ويُنوِّر لنا الحاضر والمستقبل. وسبق أنْ قُلْنا: إن(19/11700)
الغيب دونه حجب الزمان، أو حجب المكان، فما سبقك من أحداث يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي، وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان المستقبل، أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان، بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس معي، لكنك لا تعرف ما في صدري مثلاً.
وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمثلاً في غزوة مؤتة لما بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جيشه إليها، وبقي هو في المدينة قال: حين وزَّع القيادة: يحمل الراية فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان وسمَّى هؤلاء الثلاثة، ثم قال: فإذا قُتِل الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها.
وجلس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين أصحابه في المدينة، وأخذ يصف لهم المعركة وصفاً تفصيلياً، فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في المدينة.
وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة (غزوة) وكانوا لا يقولون غزوة إلا للتي شهدها رسول الله بنفسه، أما التي لا يخرج فيها فتسمّى (سرية) فلما أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يدور في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة.
بل وأبلغ من ذلك، فالحق سبحانه كسف لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يدور(19/11701)
في نفوس قومه: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8]
هذه كلها من آيات الإنارة في القرآن التي استوعبتْ الماضي والحاضر والمستقبل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا ... } .(19/11702)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
كلمة {مَآ أَنزَلَ الله. .} [لقمان: 21] عامة تشمل كل الكتب المنزَّلة، وأقرب شيء في معناها أن نقول: اتبعوا ما أنزل الله على رسلكم الذين آمنتم بهم، ولو فعلتم ذلك لَسلَّمتم بصدق رسول الله وأقررتم برسالته.
أو: يكون المعنى {اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله. .} [لقمان: 21] أي: تصحيحاً للأوضاع، واعرضوه على عقولكم وتأملوه.
لكن يأتي ردهم: (بَلْ) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل الله {نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا. .} [لقمان: 21] وفي آية أخرى {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ... } [البقرة: 170](19/11702)
فما الفرق بين (وجدنا) و (ألفينا) وهما بمعنى واحد؟ قالوا: لأن أعمار المخاطبين مختلفة في صُحْبة آبائهم والتأثر بهم، فبعضهم عاش مع آبائه يُقلِّدهم فترة قصيرة، وبعضهم عاصر الآباء فترة طويلة حتى أَلف ما هم عليه وعشقه؛ لذلك قال القرآن مرة (أَلْفيْنَا) ومرة (وَجَدَنْا) .
والاختلاف الثاني نلحظه في اختلاف تذييل الآيتين، فمرة يقول: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] ومرة أخرى يقول: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]
فما الفرق بين: يعقلون ويعلمون؟
الذي يعقل هو الذي يستطيع بعقله أنْ يستنبط الأشياء، فإذا لم يكن لديه العقل الاستنباطي عرف المسألة ممَّنْ يستنبطها، وعليه فالعلم أوسع دائرة من العقل؛ لأن العقل يعلم ما عقله، أما العلم فيعلم ما عقله هو ما عقله غيره، فقوله (يَعْلَمُونَ) تشمل أيضاً (يَعْقِلوُن) .
إذن: إذا نُفي العقل لا يُنفي العلم؛ لأن غيرك يستنبط لك فالرجل الريفي البسيط يستطيع أن يدير التلفزيون مثلاً ويستفيد به ويتجول بين قنواته، وهو لا يعرف شيئاً عن طبيعة عمل هذا الجهاز الذي بين يديه، إنما تعلَّمه من الذي يعلمه، فالإنسان يعلم ما يعقله بذاته، ويعلم ما يعقله غيره، ويؤديه إليه؛ لذلك فنَفْي العلم دليل على الجهل المطبق الذي لا أملَ معه في إصلاح الحال.
ونلحظ أيضاً أن القرآن يقول هنا: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا. .} [لقمان: 21] ، وفي موضع آخر يقول: {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ ... } [المائدة: 104] فقولهم: نتبع ما وجدنا عليه آباءنا(19/11703)
فيه دلالة على إمكانية اتباعهم الحق، فالإنكار هنا بسيط، أما الذين قالوا {حَسْبُنَا ... } [المائدة: 104] يعني: يكفينا ولا نريد غيره، فهو دلالة على شدة الإنكار؛ لذلك في الأولى نفى عنهم العقل، أما في الأخرى فنفى عنهم العلم، فعَجُز الآيات يأتي مناسباً لصدرها.
وهنا يقول تعالى في تذييل هذه الآية {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير} [لقمان: 21] لأن آباءهم ما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من عبادة الأصنام والكفر بالله إلا بوسوسة الشيطان، فالشيطان قَدْر مشترك بينهم وبين آبائهم.
وهذا يدلنا على أن منافذ الإغواء مرة تأتي من النفس، ومرة تأتي من الشيطان، وبهما يُطمس نور الإيمان ونور المنهج في نفس المؤمن.
وسبق أنْ بينَّا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية التي تأتيك من قِبَل الشيطان، والتي تأتيك من قِبَل نفسك، فالشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه، فإذا تأبيْتَ عليه في ناحية نقلك إلى ناحية أخرى.
أما النفس فتريد معصية بعينها تقف عندها لا تتحول عنها، فالنفس تميل إلى شيء بعينه، ويصعب عليها أنْ تتوبَ منه، ولكل نفس نقطة ضعف أو شهوة تفضلها؛ لذلك بعض الناس لديهم كما قلنا (طفاشات) للنفوس؛ لأنهم بالممارسة والتجربة يعرفون نقطة الضعف في الإنسان ويصلون إليه من خلالها، فهذا مدخله كذا، وهذا مدخله كذا.
لكن نرى الكثيرين ممن يقعون في المعصية يُلْقون بالتبعة على(19/11704)
الشيطان، فيقول الواحد منهم: لقد أغواني الشيطان، ولا يتهم نفسه، وهذا يكذّبه الحديث النبوي في رمضان:
«إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين» .
فلو أن المعاصي كلها من قِبَل الشيطان ما رأينا معصية في رمضان، ولا ارتكبت فيه جريمة، أما وتقع فيه المعاصي وتُرتكب الجرائم، فلا بُدَّ أن لها سبباً آخر غير الشيطان؛ لأن الشياطين مُصفَّدة فيه مقيدة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ ... } .(19/11705)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
يعني: مَنْ أراد أن يُخلِّص نفسه من الجدل بغير علم، وبغير هدى، وبغير كتاب منير، فعليه أنْ يُسلم وجهه إلى الله؛ لأن الله تعالى قال في آية أخرى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] ثم استثنى منهم {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40]
وقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ... } [الإسراء: 65]
ومعنى {يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله. .} [لقمان: 22] أخلص وجهه في(19/11705)
عبادته لله وحده، وبذلك يكون في معية الله، ومَنْ كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته، ولا يُضيع وقته معه، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه، فالذي ينجيك من الشيطان أن تُسلم وجهك لله.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فلا يجرؤ أحد من الصبيان أن يعتدي عليه، أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك، لا يَسْلم منه بحال، كذلك العبد إنِ انفلتَ من يد الله ومعيته.
وهذا المعنى ورد أيضاً في قوله سبحانه: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ... } [البقرة: 112] وهنا قال {إِلَى الله ... } [لقمان: 22] فما الفرق بين حرفي الجر: إلى، اللام؟
استعمال (إلى) تدل على أن الله تعالى هو الغاية، والغاية لا بُدَّ لها من طريق للهداية يُوصِّل إليها. أمَّا (اللام) فتعني الوَصْل لله مباشرة دون قطع طريق، وهذا الوصول المباشر لا يكون إلا بدرجة عالية من الإخلاص لله.
فقوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله. .} [لقمان: 22] يعني: أنك على الطريق الموصِّل إلى الله تعالى، وأنك تؤدي ما افترضته عليك.
ومن إسلام الوجه لله قَوْل ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] الكلام هنا كلام ملكة، فلم تقل: أسلمتُ لسليمان، لكن مع سليمان لله، فلا غضاضة إذن.
وإسلام الوجه لله، أو إخلاص العمل لله تعالى عملية دقيقة تحتاج(19/11706)
من العبد إلى قدر كبير من المجاهدة؛ لأن النفس لا تخلو من هفوة، وكثيراً ما يبدأ الإنسان العمل مخلصاً لله، لكن سرعان ما تتدخل النفس بما لها من حب الصِّيت والسمعة، فيخالط العملَ شيء من الرياء ولو كان يسيراً.
لذلك؛ فإن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على عمله، فيقول في دعائه: «اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك، فخالطني فيه ما ليس لك» .
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس مظنة ذلك، لكن الحق سبحانه علَّمه أن يتحمل عن أمته كما تحمَّل الله عنه في قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ... } [الأنعام: 33] أي: أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذباً. {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]
وقوله تعالى: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى.
.} [لقمان: 22] كلمة استمسك تدلُّ على القوة في الفعل والتشبُّث بالشيء؛ كما نقول (تبِّت فيه) ، وهي تعني: طلب أنْ يمسك؛ لذلك لم يَقُل مسكَ إنما (استمسك) .
وأول مظاهر الاستمساك أنك لا تطمئن إلى ضعف نفسك، فيكون تمسك بالعروة الوثقى أشدّ، كما لو أنك ستنزل من مكان عالٍ على حبل مثلاً فتتشبت به بشدة؛ لأنك إنْ تهاونت في الاستمساك به(19/11707)
سقطت، وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك، وأنه لا ينُجيك من الهلاك، ولا واقي لك إلا أنْ تستمسك بهذا الحبل.
كذلك الذي يُسِلْم وجهه لله ويُمسِك بالعروة الوثقى، فليس له إلا هذه مُنْجية وواقية.
وكلمة {بالعروة الوثقى. .} [لقمان: 22] العروة: هي اليد التي نمسك بها الكوز أو الكوب أو الإبريق، وهي التي تفرق بين الكوب والكأس، فالكأس لا عروة لها، إلا إذا شُرب فيها الشراب الساخن، فيجعلون لها يداً.
ومعنى {الوثقى. .} [لقمان: 22] أي: المحكمة، وهي تأنيث أوثق، نقول: هذا أوثق، وهذه وُثْقى، مثل أصغر وصُغْرى، وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصله، فإنْ كان دَلْواً فهي وُثْقى بالدلو، وإنْ كان كوباً فهي وُثْقى بالكوب، فهي الموثقة التي لا تنقطع، ولا تنفصل عن أصلها.
والعُرْوة تختلف باختلاف الموثِّق، فإنْ صنع العروة صانع غاشٌّ، جاءت ضعيفة هشَّة، بمجرد أنْ تمسك بها وتنخلع في يدك، وهذا ما نسميه «الغش التجاري» وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة يقبل عليها المشتري، ثم يكون المعوِّض في ارتفاع قطع الغيار، كما نرى في السيارات مثلاً، فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعاً.
إذن: إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع، فإذا كان الموثِّق هو الله تعالى فليس أوثق من عُرْوته.
وفي موضع آخر يقول الحق عنها {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ(19/11708)
تَفَرَّقُواْ ... } [آل عمران: 103] فالعروة الوُثْقى هي حبل الله المتين الذي يجمعنا فلا نتفرق؛ لذلك في الاصطلاح نسمي الفتحة في الثوب والتي يدخل فيها الأزرار (عروة) لماذا؟ لأنها هي التي تجمع الثوب، فلا يتفرق.
وفي آية أخرى وصفَ العروة الوثقى بقوله سبحانه: {لاَ انفصام لَهَا. .} [البقرة: 256]
ثم يقول سبحانه: {وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور} [لقمان: 22] أي: مرجعها، فلا نظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً، أو أنه سبحانه يتركنا سُدًى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] . ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في الدنيا أوفر حظاً من المستقيم، وما كان الله تعالى ليغشَّ عبده الذي آمن به، وسار على منهجه، أو يسلمه للظلمة والمنحرفين.
وإذا كانت لله تعالى عاقبة الأمور أي: في الآخرة، فإنه سبحانه يترك لنا شيئاً من ذلك في الدنيا نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها، ومن ذلك مثلاً ما نجريه من الامتحانات للطلاب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل، وإلا تساوى الجميع ولم يذاكر أحد، ولم يتفوق أحد؛ لذلك لا بُدَّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة، فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا، فلماذا نستنكره في الآخرة؟
فهل يليق بهذا العالمَ الذي خلقه الله على هذه الدقة؛ وكوَّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملاً يستشري فيه الفساد، ويرتع فيه المفسدون، ثم لا يُحاسبون؟ إن كانت هذه هي العاقبة، فيا خسارة كل مؤمن، وكل مستقيم في الدنيا.(19/11709)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم ... } .(19/11710)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)
بعد أن بيِّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية الأمور كلها، أراد أن يُسلِّى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {وَمَن كَفَرَ. .} [لقمان: 23] أي: بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى وبالكتاب المنير، وبعدما بيناه من ضرورة إسلام الوجه لله، مَنْ يكفر بعد ذلك {فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ. .} [لقمان: 23]
وهذا القول من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدل على أن الله علم أن رسوله يحب أن تكون أمته كلها مؤمنة، وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك، وقد كرر القرآن هذا المعنى في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] ويقول: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]
فالله تعالى يريد أنْ يقول لرسوله: أنا أرسلتُك للبلاغ فحسب، فإذا بلَّغْت فلا عليك بعد ذلك، وكثيراُ ما تجد في القرآن عتاباً لرسول الله في هه المسألة، وهو عتاب لصالحه لا عليه، كما تعاتب ولدك الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفاً عليه.
ومن ذلك قوله تعالى معاتباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {عَبَسَ وتولى أَن جَآءَهُ الأعمى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 1 - 3](19/11710)
والعتاب هنا لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور دينه، وذهب يدعو الكفار والمكِّذبين به، فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير، إذن: فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول لا ضده، كما يظن البعض في فهمهم لهذه الآيات.
كذلك الأمر في قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ ... } [التحريم: 1] فالله يعاتب رسوله لأنه ضيَّق على نفسه، فحرَّم عليها ما أحله الله لها.
ثم يقول سبحانه: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ. .} [لقمان: 23] يعني: إذا لم تَرَ فيهم عاقبة كفرهم، وما ينزل بهم في الدنيا، فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الآخرة، كما قال سبحانه في موضع آخر: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ ... } [غافر: 77] أي: ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]
إذن: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ. .} [لقمان: 23] هذه هي الغاية النهائية، وهذه لا تمنع أن نُريَك فيهم أشياء تُظهر عزتك وانتصارك عليهم، وانكسارهم وذِلَّتهم أمامك، وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أنْ دخل النبي مكة منصراً ومتواضعاً يطأطئ رأسه بأدب وتواضع؛ لأنه(19/11711)
يعلم أن النصر من الله، وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لأهل مكة: لقد كنتم تريدون الملْك لتتكبروا به، وأنا أريده لأتواضع به، وهذا هو الفرق بين عزَّة المؤمن وعِزّة الكافر.
لذلك لما تمكن رسول الله من رقابهم - بعد أنْ فعلوا به ما فعلوا - جمعهم وقال قولته المشهورة:
«يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .
ولك أنْ تلحظ تحوُّل الأسلوب من صيغة الإفراد في {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ. .} [لقمان: 23] إلى صيغة الجمع في {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ. .} [لقمان: 23] ولم يقل: إليَّ مرجعه؛ لأن مَنْ في اللغة تقوم مقام الأسماء الموصولة كلها، فإنْ أردتَ لفظها فأفردها، وإن أردتَ معناها فاجمعه.
وقوله تعالى: {فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا. .} [لقمان: 23] لأننا نُسجِّله عليهم ونحصيه، كما قال سبحانه: {أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ ... } [المجادلة: 6] {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [لقمان: 23] أي: بنات الصدر ومكنوناته يعلمها الله، حتى قبل أنْ تُترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو قَوْلي، فالله يعلم ما يختلج في صدورهم من حقد أو غلٍّ أو حسد أو تآمر.
و {عَلِيمٌ ... } [آل عمران: 119] صيغة مبالغة من العلم، وفَرْق بين عالم وعليم: عالم: ذاتٌ ثبت لها العلم، أما عليم فذات عِلْمها ذاتي؛ لذلك يقول تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76](19/11712)
ثم يقول الحق سبحانه: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ ... } .(19/11713)
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
الحق سبحانه يُبيِّن لكل مؤمن ألاَّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رَغَد من العيش، وسعة وعافية وتمكُّن؛ لأن ذلك كله متاع قليل، والحق سبحانه يريد من أتباع الأنبياء أنْ يدخلوا الدين على أنه تضحية لا مغنم.
وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد، هو استهلال الاثنين، فالداخل في مبدأ الحق مستعد لأنْ يُضحِّي، والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أنْ يأخذ المقابل؛ لذلك ضحَّى المسلمون الأوائل في سبيل دينهم بالأنفس والأموال، وتركوا بلادهم وأبناءهم لماذا؟ لأنهم مُكلَّفون بأداء مهمة إنسانية عالمية، لا يحملها إلا مَنْ كان مستعداً للعطاء، أما أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فلا بُدَّ أنْ يأخذوا أولاً.
لذلك روُي أن صحابياً حين سمع من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البشرى بالجنة، وأنه ليس بينه وبينها إلا أنْ يحارب فيُقتل ألقى تمرات كانت في يده، ولم ينتظر حتى يمضغها، وأسرع إلى المعركة مُبتغياً الشهادة وطامعاً فيما عند الله، وقد سُمع منهم في ساحة القتال أنْ ينادي أحدهم: هُبِّي يا رياح الجنة، وآخر يقول: إني لأجد ريح(19/11713)
الجنة دون أحد.
فقوله تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24] هذا التمتُّع بزينه الحياة الدنيا ما هو إلا استدراج لهم لا تكريم، وقلنا: إنك لا تلقى بعدوك من على الحصيرة مثلاً، إنما تعليه وترفعه ليكون أَخْذه أليماً وشديداً، كذلك الحق سبحانه يُمتَّعهم، لكن لفترة محدودة لتكون حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم.
واقرأ في هذا المعنى قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أي: يائسون.
وكلمة الفتح لا تؤدي نفعاً إلا إذا جاءت معرفة (الفتح) وقلنا: هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك، فتح لك أي: لصالحك، أمّا فتح عليك أي: أعطاك الدنيا لتكون حِمْلاً فوق رأسك.
إذن: فإذا رأيت لهم هذا الفتح فلا تغترّ به، واعلم انهم نَسُوا ما ذُكَّروا به. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه.
ذلك ليظل في سَعَة ورَغَد عيش وعُلو مكان، حتى إذا أخذه الله آلمه الأخذ واشتد عليه، فأخْذُ الكافر وهو في أَوْج قوته وجبروته يدل(19/11714)
على قوة الأَخْذ وقدرته، أما الضعيف فلا مزيّة في أَخْذه، كالذي يريد أنْ يحطم الرقم القياسي مثلاً، فإنه يعمد إلى أعلى الأرقام فيحطمها ليثبت جدارته.
ومن ذلك أيضاً نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلاغته وفصاحته تحدَّى العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وفن الأداء البياني، ولا معنى لأنْ يتحدى عَيّياً لا يقدر على الكلام.
ومعنى {نَضْطَرُّهُمْ. .} [لقمان: 24] نلجئهم أي: نُضيِّق عليهم الخناق، بحيث لا يجدون إلا العذابَ الغليظ، أو: أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه، كما جاء في الحديث من «أن الشمس تدنو من الرؤوس، حتى ليتمنى الناسُ الانصرافَ ولو إلى النار» .
ووصف العذاب هنا بأنه {غَلِيظٍ} [لقمان: 24] والغِلظ يعني السُّمْك، فالمعنى أنه عذاب كبير يصعب قلقلة النفس منه، فلو كان رقيقاً لربما أمكن الإفلات منه.
ثم يعود السياق إليهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ... } .(19/11715)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض، وتعجب بعد ذلك لأنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ لا يخلق ولا يرى ولا يسمع.
لذلك بعد هذه الشهادة منهم، وبعد أنْ قالوا (الله) يُتبعها الحق سبحانه بقول {قُلِ الحمد لِلَّهِ. .} [لقمان: 25] أي: الحمد لله؛ لأنهم أقروا على أنفسهم، ونحن في معاملاتنا نفعل مثل هذا، فحين يعترف لك خَصمْك تقول: الحمد لله.
وهذه الكلمة تُقال تعليقاً على أشياء كثيرة، فحين يعترف لك الخَصْم بما تريد تقول: الحمد لله، وحين يُخلِّصك الله من أذى أحد الأشرار تقول: الحمد لله أي: الذي نجانا من فساد هذا المفسد.
فلو بلغنا خبر موت أحد الأشقياء أو قُطّاع الطرق نقول: الحمد لله أي: الذي خلصنا من شرِّه، وأراح منه البلاد والعباد، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 45]
كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم، وتُردُّ إليه مظلمته، أو تظهر براءته، كما سنقول - إنْ شاء الله - في الآخرة: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73 - 74]
فالحمد لله تُقال أيضاً عند خلوصك إلى غاية تُخرِجك مما كنتَ فيه(19/11716)
من الضيق، ومن الهَمِّ، ومن الحزن، وتقال حين ندخل الجنة، وننعم بنعيمها ونعلم صِدْق الله تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.
هذا كله حَمْد على نِعمه، وهناك الحمد الأعلى: ألم تقرأ الحديث القدسي: «إن الله يتجلى على خَلْقه المؤمنين في الجنة فيقول: يا عبادي، ألا أزيدكم؟ فيقولون: وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدها أبداً» فماذا بعد هذا الرضوان؟
يقول تعالى: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الزمر: 75]
هذا هو الحمد الأعلى، فقد كنت في الحمد مع النعمة، وأنت الآن في الحمد مع المنعم سبحانه.
ثم يقول سبحانه: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] وهم أهل الغفلة عن الله، أو {لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] أي: العلم الحقيقي، النافع، وإنْ كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير، أو: يعلمون العلم الذي يُحقِّق لهم شهواتهم.
ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السماوات ... } .(19/11717)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
بعد أن سجَّل الله تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض، أراد سبحانه أنْ يُبيِّن لنا أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، وفيهما أشياء كثيرة، منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه، والمظروف دائماً أغلى من المظروف فيه، فما في (المحفظة) من نقود عادة أغلى من المحفظة ذاتها، وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة وأهمّ.
لذلك قلنا: إياك أنْ تجعل كتاب الله حافظة لشيء هام عندك؛ لأنه أغلى من أيِّ شيء فينبغي أنْ نحفظه، لا أنْ نحفظ فيه.
وكأن في الآية إشارة إلى أنهم كما اقرُّوا لله تعالى بخَلْق السماوات والأرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك بأن له سبحانه ما فيهما، وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم، فما دامت السماوات والأرض لله، فله ما فيهما، وهَبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها، ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين، إنه في هذه الحالة يكون مِلكك شرعاً وعقلاً.
وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة: لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، ومن هذه الأشياء الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله سيداً لجميع المخلوقات وأعلى منها، بدليل أنها مُسخَّرة لخدمته: الحيوان والنبات والجماد، فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمراً منه؟
فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة، وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل: أيكون الجماد الذي يخدمني أطول عمراً مني؟
إذن: لا بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني، وهذا لا يكون إلا في الآخرة(19/11718)
حيث تنكدر الشمس، وتتلاشى كل هذه المخلوقات ويبقى الإنسان.
إذن: أنت محتاج لما في الأرض ولما في السماء من مخلوقات الله، وبه وحده سبحانه قوامها مع أنه سبحانه غنيٌّ عنها لا يستفيد منها بشيء، فالله سبحانه خلق ما هو غنيٌّ عنه؛ لذلك يقول: {إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] لأنه سبحانه بصفات الكمال خلق، فلم يزِدْه الخلق صفة كمال لم تكُنْ له، فهو مُحْيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييه، مُعِزٌّ قبل أنْ يوجد من يعزه.
وقلنا: إنك لا تقول فلان شاعر لأنك رأيته يقول قصيده؛ بل لأنه شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.
فمعنى {إِنَّ الله هُوَ الغني ... } [لقمان: 26] أي: الغني المطلق؛ لأن له سبحانه كل هذه الملْك في السماوات والأرض، بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والأرض بالنسبة لملْك الله تعالى كحلقة ألقاها مُلْقٍ في فلاة، فلا تظن أن مُلْك الله هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها، رغم ما توصَّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.
فالله سبحانه هو الغنيُّ الغِنَي المطلق؛ لأنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه، ثم أعطاه لعبيده وجعله في خدمتهم، فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محموداً {إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} [لقمان: 26] وحميد فعيل بمعنى محمود، وهو أيضاً حامد كما جاء في قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] لكن، شاكر لمن؟(19/11719)
قالوا: إذا كان العبد يشكر ربه، وقد علَّمه الله: أن الذي يحيِّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيِّيَه بأحسن منها، فربُّك يعاملك هذه المعاملة، فإنْ شكرْتَهُ يزدك، فهذه الزيادة شُكْر لك على شُكْرك لربك. أي: مكافأة لك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ ... } .(19/11720)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قوله تعالى {مِن شَجَرَةٍ. .} [لقمان: 27] مِنْ: هنا تفيد العموم أي: من بداية ما يُقال له شجرة، وفرق بين أنْ تقول: ما عندي مال، وما عندي من مال، فالأولى لا تمنع أن يكون عندك القليل من الله الذي لا يُعتدُّ به، أمّا (من مال) فقد نفيت جنس المال قليله وكثيره. وتقول: ما في الدار أحد. وربما يكون فيها طفل مثلاً أو امرأة، أمّا لو قلْتَ: ما في الدار من أحد، فهذا يعني خُلوها من كل ما يقال له أحد.
والشجرة: هي النبات الذي له ساق، وقد تشابكتْ أغصانها، ومن ذلك قوله تعالى: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } [النساء: 65]
أما النبات الذي ليس له ساق فهو العُشْب أو النجم الذي ينتشر على سطح الأرض، خاصة بعد سقوط الأمطار، وهذا لا تُؤخذ منه الأقلام، إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع.(19/11720)
وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلام معجز، فقال سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 5 - 6] فالشمس والقمر {بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] أي: حساب دقيق محكم؛ لأن بهما حساب الزمن، {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] أي: في خضوع لله تعالى.
وكلمة النجم هنا يصح أنْ تُضاف إلى الشمس والقمر، ويصح أنْ تضاف للشجر، فهو لفظ يستخدم في معنى، ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره.
وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة، فقال:
أُرَاعِي النجْمَ في سَيْرِى إليكُمُ ... ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوادِي
فهو ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره، ويرعى جواده نَجْم الأرض، ومن ذلك أيضاً كلمة العين، فتأتي بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس، وبمعنى عين الماء، وبمعنى العين المبصرة.
ومعنى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. .} [لقمان: 27] أي: يُعينه ويساعده إنْ نفذ ماؤه. ولك هنا أن تسأل: لماذا جعل الإمداد للماء، ولم يجعله للشجر؟ قالوا: لأن القلم الواحد يكتب بحبر كثير لا حَصْر له، فالحبر مظنة الانتهاء، كما أن الشجر ينمو ويتجدد، أما ماء البحر فثابت لا يزيد.
واقرأ أيضاً في هذه المسألة: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]
والعدد سبعة هنا {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. .} [لقمان: 27] لا يُراد به العدد،(19/11721)
إنما يراد به الكثرة كما في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ... } [الطلاق: 12] فهذه مجرتنا الشمسية، فما بالك بالسموات في المجرات الأخرى، وقد علمنا أن السماء هي كل ما علاك فأظلك.
إذن: يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة، والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد؛ لأن العدد معناه الأرقام التي تبين المعدود، فهناك فرق بين العدد والمعدود، ولما تبينّا هذا الفرق استطعنا أنْ نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجان، فالعدد يعني 1، 2، 3، 4، 5 أما المعدود، فما يميز هذه الأعداد.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما أراد أن يُنهي التعدد المطلق للزوجات لما أنزل الله عليه أن يأمر الناس أن مَنْ معه أكثر من أربع زوجات أنْ يُمسك أربعاً منهن ويفارق الباقيات.
وكان عند رسول الله في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهُنَّ هذا الحكم، فقالوا: لماذا استثنى الله محمداً من هذا الحكم؟ وكيف يكون عنده تسع، وعند امته أربع؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد والمعدود: هل استثنى الله تعالى رسوله في العدد، أم في المعدود؟
نقول: استثناه في المعدود؛ لأنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] ففرض على رسول الله أنْ يقتصر على هؤلاء، لا يزيد عليهن، ولا يتزوج بعدهن حتى لو مُتْنَ جميعاً.(19/11722)
إذن: لم يستثنه في العدد، وإلا لكان من حقِّه إذا ماتت واحدة من زوجاته أنْ يتزوج بأخرى، وإنْ مُتْن جميعاً يأتي بغيرهن.
ولك أن تقول: ولماذا جعل الله الاستثناء في المعدود لا في العدد؟ قالوا: لأن زوجات غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا طلَّقها زوجها لها أن تتزوج بغيره، لكن زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم، فإنْ طلَّق رسول الله إحدى زوجاته بقيت بلا زواج.
لذلك أُمِر رسول الله أنْ يمسك زوجاته التسع، شريطة ألاَّ يزيد عليهن، في حين يُباح لغيره أن يتزوج بأكثر من تسع، بشرط ألاَّ يبقى معه أكثر من أربع، وعليه، فهذا الحكم ضيَّق على رسول الله في هذه المسألة في حين وسَّع على أمته.
ونعلم أنَّ معظم زوجات النبي كُنَّ كبيرات في السِّن، وبعضهن كُنَّ لا إرْبة لهن في مسألة الرجل، لكنهن يحرصن على شرف الانتساب لرسول الله، وعلى شرف كَوْنهن أمهات المؤمنين؛ لذلك كانت الواحدة منهن تتنازل عن قَسمْها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف.
إذن: التفريق بين العدد والمعدود خلَّصنا من إفك المستشرقين، ومن تحاملهم على رسول الله واتهامهم له بتعدد الزوجات، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسَّع على نفسه وضيَّق على أمته.
ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيّرت حتى الدارسين للنحو، فلا إشكال في العدد واحد والعدد اثنان؛ لأننا نقول في المفرد المذكر: واحد والمؤنث: واحدة. وللمثنى المذكر: اثنان،(19/11723)
وللمؤنث: اثنتان. فالعدد يوافق المعدود تذكيراً وتأنيثاً، لكن الخلاف يبدأ من العدد ثلاثة، حيث يذكَّر العدد مع المعدود المؤنث، ويُؤنَّث مع المعدود المذكَّر، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟
قالوا: لاحظ أن التذكير هو الأصل؛ ولذلك احتاج التأنيث إلى علامة، أما المذكَّر وهو الأصل فلا يحتاج إلى علامة، تقول: قلم. وتقول: دواة. فاحتاجت إلى علامة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو الأصل.
وتعالَ إلى الأعداد من ثلاثة إلى عشرة، تقول: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة ... إلخ فالعدد نفسه مبنيٌّ على التاء، وليست هي تاء التأنيث، لأنها أعداد مجردة بلا معدود، فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه تاء لا نضيف إليه تاءً أخرى، إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علامة التأنيث ويبقى العدد مع المذكر على الأصل بالتاء.
فما حكاية العدد سبعة بالذات؟ قالوا: إن العدد واحد هو الأصل في الأعداد؛ لأن العدَّ ينشأ من ضم واحد إلى آخر، فواحد هو الخامة التي تتكون منها الأعداد فتضم واحداً إلى واحد وتقول: اثنان وتضم إلى الاثنين واحداً، فيصير العدد ثلاثة. . وهكذا.
ومعلوم أن أقلَّ الجمع ثلاثة، والعدد إما شفع وإما وتر، الشفع هو الذي يقبل القسمة على الاثنين، والوتر لا يقبل القسمة على الاثنين، والله تعالى يقول: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] فبدأ بالشفع وأوله الاثنان ثم الثلاثة، وهي أول الوتر، أما الواحد فقد تركناه لأنه كما قلنا الخامة التي يتكون منها جميع الأعداد.
وما دام الله تعالى قال: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] فالاثنان أول الشفع، والثلاثة أول الوتر، وأربعة ثاني الشفع، وخمسة ثاني(19/11724)
الوتر، وستة ثالث الشفع، وسبعة ثالث الوتر.
وقلنا: إن الجمع أقلُّه ثلاثة، فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وتراً وزوجاً، وانتهت عند هذا العدد، فإذا أرادوا العدَّ أكثر من ذلك أتوْا بواو يسمونها واو الثمانية، وقد سار القرآن الكريم في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب.
واقرأ إنْ شئت هذه الآيات: {وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... } [الزمر: 71]
أما في الجنة فيقول سبحانه: {وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... } [الزمر: 73]
فما الفرق بين الآيتين؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية، ولم تُذْكر في الأولى؟
قالوا: لأن {فُتِحَتْ ... } [الزمر: 71] في الأولى جواب شرط، وهذا الجواب كانوا يُكذِّبونه وينكرونه. والشرط تأسيس {حتى إِذَا جَآءُوهَا ... } [الزمر: 71] ماذا حدث؟ {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ... } [الزمر: 71] إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يُكذِّبون بهذا اليوم؟
إذن ف: {فُتِحَتْ ... } [الزمر: 71] هنا لا تكون جواباً؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنها ستفتح، أما الجواب فسيأتي في: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} [الزمر: 73 - 74]
ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو، أما في الجنة فذكر(19/11725)
الواو، لأن أبوابها ثمانية.
كذلك اقرأ قول الله تعالى ولاحظ متى تستخدم الواو: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5]
تجد الواو قبل الثمانية، ذلك لأن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد.
وقوله تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ. .} [لقمان: 27] أي: يُجعل مِداداً لكلمات الله {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله.
.} [لقمان: 27] كلمات الله هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فكل مراد من شيء سببه كن.
وهنا عجيبة ينبغي أنْ نتأملها: فالله تعالى يقول للشيء وهو لم يُخْلق بعد (كن) ، كأن كل الأشياء موجودة في الأزل ومكتوبة، تنتظر هذا الأمر (كن) ، فتبرز إلى الوجود، كما يقول أهل المعرفة: أمور يبديها ولا يبتديها.
إذن: {كَلِمَاتُ الله. .} [لقمان: 27] هي كن وكل مرادات الله في كونه، ما علمنا منه وما سنعلم، وما لم نعلم إلا حين تقوم الساعة.
ألم يَقُلْ في العجيب من أمر عيسى عليه السلام {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ... } [النساء: 171] والمعنى أنه لم يُخلق بالطريق(19/11726)
الطبيعي في خَلْق البشر من أب وأم، إنما خَلِق بهذه الكلمة (كن) . لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنفسه طلاقة القدرة في الإيجادات وأنه سبحانه يخلق كما يشاء، فمرة يخلق بلا أب وبلا أم، كما خلق آدم عليه السلام، ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه السلام، ومرة يخلق بأب وأم، ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء.
إذن: القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها.
إذن: مع طلاقة القدرة لا اعتبارَ للأسباب، فأنت إنْ أردتَ أنْ تكوِّن مثلاً قطرة الماء، فعليك أن تأتي بالأكسوجين والأيدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإلا فلا، أما الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - فيخلق بالأشياء وبدون شيء، لأن الأشياء بالنسبة لله تعالى ليست فاعلة بذاتها، وإنما هي فاعلة بمراد الله فيها.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] والعزيز هو الذي يَغلب ويَقْهر ولا يُقهر، ولا يستدرك أحد على فعله حتى لو كان مخالفا لعقله هو، وتأمل معنى العزة، وكيف وردت في هذا الموقف من قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام. {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] إلى أن يقول: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118]
والمنطق العقلي يقتضي أن نقول في عرف البشر: فإنك أنت الغفور الرحيم، فالمقام مقام مغفرة، لكن عيسى عليه السلام يأتي(19/11727)
بها، لا من ناحية الغفران والرحمة، وإنما من ناحية طلاقة القدرة والعزة التي لا يستدرك عليها أحد. {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] والمعنى: لو قال الناس لماذا غفرتَ لهم مع أنهم قالوا كذا وكذا؟ فالإجابة أنني أنا العزيز الذي أغلب ولا أُغلب، ولا يستدرك أحد على حكمي، إذن: ذيَّل الآية بالعزة لعزة الله تعالى في خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ ... } .(19/11728)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائماً على قضية البعث والقيامة، ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في حركة حياتهم موازين الجزاء؛ لأن كل عمل لا توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملاً باطلاً، ولا يمكن أنْ يستغنى عن الجزاء ثواباً وعقاباً إلا مَنْ كان معصوماً او مُسخَّراً، فالمعصوم قائم دائماً على فِعْل الخير، والمسخّر لا خيارَ له في أنْ يفعل أو لا يفعل.
إذن: إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثواباً وعقاباً في غير هذين لا بُدَّ أنْ يوجد فساد، إذا لم يُثب المختار على الفعل، ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة، حتى في المجتمعات التي لا تؤمن بإله وضعت لنفسها هذا القنون، قانون الثواب والعقاب.
والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا مثالاً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 84 - 85](19/11728)
أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الأرض له مهمة، هذه المهمة هي شكر الله على التمكين ولا يكون إلا بإقامة ميزان العدالة في الكون {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس ... } [الكهف: 86] أي: في رأي العين، وإلا فهي لا تغرب أبداً، إنما تغرب عن جماعة في مكان، وتشرق على جماعة في مكان آخر. {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف: 86]
ولا يُفوِّض إنسان في أنْ يُعذِّب أو يتخذ الحسنى إلا إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة، وقد قال الله عنه: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي: نعمة وميزاناً لتوزيع هذه النعمة، فلم تقتصر نعمة الله عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت، إنما عنده المقوِّمات الحياتية، وعنده ميزان العدالة الذي يضبط استطراق النِّعَم في الكون كله.
فالذي خُيِّر في أنْ يفعل أو لا يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الاختيار وسيلة لتثبيت الأهواء؛ لذلك قال بعدها: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 87] هذا هو العقاب {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 88] أي: بعد أنْ ينال ثوابه، نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه، ونقيم له حفلة تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه.
إذن: فقضية الثواب والعقاب أمر لازم، وإذا كان هذا في الأمور الحياتية الجزئية، فهو أَوْلى في أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة، لا بُدَّ من وقت للثواب وللعقاب، وإلا استشرى(19/11729)
الظلم واغتال الناس، وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة، فانتفع بذلك المفسد، وخاب كل مَن التزم بدين الله وقيم منهجه.
لذلك تجد الحق - تبارك وتعالى - يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب، وترى أعداء الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية، وأنْ يُزحزحوا الناس عن الإيمان بها بطرق شتى.
فالفلاسفة لهم في ذلك دور، وللملاحدة دور، ولأهل الكتاب دور؛ لذلك تجد التوراة مثلاً تكاد تخلو من إشارة عن اليوم الآخر، وهذا أمر غريب لا يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج حياة.
وما ذلك إلا لأن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لأنفسهم سلطة زمنية مادية، حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى الله تعالى، كما حكى القرآن عنهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً ... } [البقرة: 55]
ولما أنزل الله عليهم المنَّ، وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم، وأنزل عليهم السلوى، وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدَّة للتناول رفضوا عطية الله لهم، وطعامه الذي أُعدَّ من أجلهم، وقالوا: بل نريد طعاماً نصنعه بأيدينا، وقالوا: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ ... } [البقرة: 61] ، فقال لهم: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ ... } [البقرة: 61]
وما دام الأمر بالنسبة لهؤلاء مادياً فلا بُدَّ أنْ يزحزح نفسه عن(19/11730)
الآخرة وعن القيامة والحساب، لذلك راحوا يُشكِّكون فيها، أما الفلاسفة فقالوا: حين يبعث الله إنساناً بعد الموت وقد تحللتْ أعضاؤه وصارت تراباً، ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب، وأكل إنسان آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خلايا وجزيئات الأول، فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه الجزئيات مع الأول أم مع الآخر؟ فإنْ كانت مع الأول فهي نقص في الآخر والعكس. هذه هي شبهة الفلاسفة.
وقد تخبَّط الفلاسفة هذا التخبُّط؛ لأنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيماً للغيبيات، وقد أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم: لو أن إنساناً يزن مائة كيلو مثلاً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو من وزنه، فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه؟
هذه المسألة يتحكم فيها أمران: الغذاء والإخراج، ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من الخارج، أما في فترة الشيخوخة مثلاً فالخارج أكثر، فإنْ توازن الأمران كانت حالة من الثبات لا يزيد فيها الشخص ولا ينقص، وهي فترة الثبات.
فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو، ثم شفاه الله وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد إلى حالته الطبيعية، فهل تغيَّر الشخص حال نقصان وزنه؟ وهل تغيَّر حال عودته إلى طبيعته؟ أم ظلت الشخصية والذاتية هي هي؟
إذن: المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات، إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ تكوَّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصراً التي تكوِّن جسم الإنسان، والتي تبدأ بالأكسوجين وتنتهي بالمنجنيز، وهي نفس العناصر المكوِّنة لتربة(19/11731)
الأرض التي نأكل منها، وهذه العناصر بنسب تختلف من شخص لآخر.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] يعني: نعرف ما نقص من كل إنسان: كذا في الحديد، وكذا من الأكسوجين، وكذا من الفسفور. . إلخ.
إذن: حين يبعث الله الإنسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الأجزاء المعروفة، فيأتي الشخص هو هو.
ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث ولالتباسات التي يحاولونها يقولون: الله تعالى يخلق الإنسان في مدة تسعة أشهر، أو ستة أشهر، يمر خلالها بعدة مراحل: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم يكسو هذه العظام لحماً، هذا للإنسان الواحد، فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة؟
ونقول: لقد ذكرتم كيفية خَلْق سلالة الإنسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر، لكن لم تذكروا خَلْق الأصل، وهو آدم عليه السلام، وقد خلقه الله على هيئته وصورته التي كان عليها، فلم يكُنْ صغيراً وكبر، إنما خُلِق كبيراً مستوياً كاملاً، ثم نُفِخت فيه الروح.
ثم إن عناصر الفعل هي: الفعل، والفاعل، والمنفعل، يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل، فأنا أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل، وأنا الفاعل، والجملة هي المنفعل ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتاً طويلاً، فإن خِطَّه بالماكينة أخذ وقتاً أقلّ بكثير.(19/11732)
إذن: فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت، وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد. إذن: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن.
فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت: أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك؟ إنها بقوة الله عَزَّ وَجَلَّ، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها، إنما يفعل سبحانه بكُنْ. إذن: فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن تُوزَّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن.
ولمَ تستبعد هذا في حقَّ الله تعالى، وقد أعطاك ربك طرفاً منه رغم قدرتك المحدودة؟ ألستَ تجلس في مثل هذا المجلس فترانا جميعاً مرة واحدة في نظرة واحدة، كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة؟ ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم، وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك؟ أتفكر أنت في العضلات التي تحركتْ والإشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك؟
وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنَّا حركة الإنسان في سلاستها وطواعية الجوارح لمراد صاحبها بحركة الحفار مثلاً، فهو لا يؤدي حركة إلا بالضغط على زر خاص بها.
فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الأشياء، فهل تستبعد في حق الله أنْ يفعل بكلمة كُنْ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها؟ مجرد الإرادة منك تفعل ما تريد.
فإنْ قلتَ: كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ، وأنا أفعل بدون أنْ أقولها؟ نقول: نعم أنت تفعل بدون كُنْ؛ لأن الأشياء ليست(19/11733)
منفعلة لك أنت، إنما هي مُسخَّرة بكُنْ الأولى حين قال الله لها كوني مُسخَّرة لإرادته، إذن: أنا أفعل بدون كُنْ؛ لأنها ليست في مقدوري أنا، فكأن كُنْ الأولى من الله تعالى هي كُنْ لنا جميعاً.
وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج، واستطعنا الرد على منكريها، فالله يقول: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ... } [الإسراء: 1]
فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن، أمَّا محمد فلم يقُلْ سريتُ، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال: أُسرِي بي.
إذن: فهو محمول على قدرة أخرى، فالفعل لا يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى الله، وقلنا: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن، فإذا كانت القوة قوة الحق - تبارك وتعالى - فلا زمن؛ لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. .} [لقمان: 28]
فالأمر يسير على الله؛ لأن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع الأنفس يتم بكُنْ، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر.
وضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلاً، فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائياً إلى الزبادي الذي تريده، فهل جلستَ أمام كل(19/11734)
علبة تُحوِّلها بنفسك، أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة، ثم تركت هذه المواد تتفاعل بذاتها؟
كذلك شاء الله تعالى أنْ يوجد الإنسان جنيناً في بطن أمه، وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها، إذن: خَلْق الإنسان لا يقاس بالنسبة لله تعالى بالزمن، وقد حَلَّ لنا الإمام علي كرم الله وجهه هذه القضية حينما سُئِل: كيف يحاسب الله الناس جميعاً من لَدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة في وقت واحد؟
فقال: يحاسبهم جميعاً في وقت واحد، كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد؛ لأنه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.
ثم يذيل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28] سميع بصير صيغة مبالغة من السمع والبصر، وقلنا: إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة واحدة في نظرة واحدة، وكذلك تسمعه، فما بالك بسمَعْ الله تعالى وبصره؟
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله ... } .(19/11735)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
هذه آيات كونية واضحة مرئية للجميع: للمؤمن وللكافر، للطائع وللعاصي، فالحق سبحانه يوزع لنا الوقت بين ليل ونهار، لكنه ليس توزيعاً متساوياً (ميكانيكياً) ، بحيث يكون كل منهما أربعاً وعشرين ساعة ثابتة على التقدير الجبري كما يقولون؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلاً عن الأربع وعشرين ساعة عدة دقائق تُضاف إلى زمن الليل أو العكس.
لذلك قالوا من أيام بطليموس: السنة 365 يوماً وخمس ساعات، وخمس وخمسون دقيقة، واثنتا عشرة ثانية بالدقة. بعدها انتهوا إلى أنَّ السنة 365 يوماً وربع يوم عن طريق الجبر، فكل ثلاث سنين نجبر الرابعة، ويقولون: سنة بسيطة، وسنة كبيسة أي: طويلة، فالتي تقبل القسمة على أربعة سنة كبيسة، لذلك نجد شهر فبراير في هذه السنة 29 يوماً، ذلك لنعوض اليوم.
وكلمة يوم تعني الليل والنهار، لكن القسمة بينهما ليست متساوية، فالحق - تبارك وتعالى - بصنعته الحكيمة أراد أنْ يُوزع الحرارة والبرودة على كل مناطق المعمورة، ويعطي لكل منطقة ما تحتاجه لتنبت أرضها، وتعطينا نحن مقومات حياتنا، بدليل أن من النباتات ما لا ينمو إلا في الصيف، ومنها ما لا ينمو إلا في الشتاء، كذلك في الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي.
لذلك، عرفنا أخيراً أن الخالق سبحانه جعل لمحور الأرض ميلاً بمقدار 23. 5 درجة عن مستوى مدارها فهي إذن غير مستوية، ففي فصل الشتاء يكون القسم الكبير منها مواجهاً لليل، والآخر مواجهاً للنهار، فتجد ليل الشتاء أطول من ليل الصيف وأبرد منه، ويبلغ ليل الشتاء أقصى ما يمكن من الطول وهو 12 ساعة فهي شهر كيهك،(19/11736)
حتى أن الفلاحين يقولون في كيهك (كياك صباحك مساك قوم من نومك حضر عشاك) .
ومقابل ذلك في فصل الصيف، فكأن ميل محور الأرض سرٌّ من أسرار هندسة هذا الكون، ففي الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) يبدأ الانقلاب الصيفي، وفي الثالث والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) يبدأ الانقلاب الشتوي، ثم الاعتدال الربيعي في الحادي والعشرين من آذار (مارس) ، والاعتدال الخريفي في الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر) . وفي الاستواء الربيعي والاستواء الخريفي تجد أن الليل مساو للنهار، وجوّهما معتدل لا حر ولا برد.
فقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل. .} [لقمان: 29] يعني: لا تظن أن الليل والنهار قسمة متساوية؛ لأن الله تعالى بحكمته يُدخل جزءاً من الليل في النهار، أو جزءاً من النهار في الليل، فيزيد في أحدهما، وينقص من الآخر لحكمة أرادها سبحانه وتعالى لصالح الإنسان، وإمداداً له بمقوِّمات حياته، لتعلم أن ما يطرأ على الليل أو النهار من تغيير الأشياء لها مناط في الحكمة الإلهية العليا.
وحين نُقسِّم اليوم إلى ليل ونهار - وهي قسمة كما قلنا ليست رتيبة ولا متساوية - فإن لليل مهمة في الحياة وللنهار مهمة، كما بيِّن لنا سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10 - 11]
معنى اللباس أن تسكن فيه وتكِنّ وتستر نفسك؛ لذلك عرفنا فيما بعد أن الضوء أثناء النوم أمر غيرَ صحي، وفهمنا قول رسول الله: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» .(19/11737)
والحق سبحانه يوضح لنا هذه المسألة في قوله تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى} [الضحى: 1 - 2] ويقول: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2] ليبين لك أن لكل منهما مهمة في حركة حياتك، فالنهار للحركة، والليل للسكون، وعليك ألا تخلط بين هاتين المهمتين دون داع، وقد استثنينا من هذه القاعدة مَنْ تحتم عليهم طبيعة عملهم أنْ يعملوا بالليل ويرتاحوا بالنهار.
والخالق عَزَّ وَجَلَّ في حركة الليل والنهار أسراراً وعجائب ينبغي أن نتنبه إليها بمعطيات العلم، ومن حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل لكل سر في الكون ميلاداً يولد فيه، ونثر أسرار كونه على خَلْقه ولم يُظهرها لجيل واحد، وإلا لو كشف القرآن كل أسراره للأمة الأمية التي عاصرتْ نزوله لانصرفتْ عن الدعوة الجديدة بتكذيب هذه القضايا التي لم تصدقها العقول حتى في العصر الحديث ورغم تقدم العلوم، فمثلاً لما قال العلماء بكروية الأرض ودورانها حول الشمس لم نصدق هذه الحقائق حتى جاءتنا الصور الفضائية التي تؤكد ذلك.
وقلنا: إن ميلاد سِرٍّ من أسرار الكون قد يصادف بحثاً من البشر، فيأتي السر ويظهر على أنه نتيجة لهذا البحث، وإلا أظهره الله للناس بالمصادفة رحمة بهم وتفضُّلاً عليهم؛ لذلك نجد أن معظم الاكتشافات جاءت صدفة، لم يَسْعَ إليها البشر، ولم يذهبوا إليها بمقدمات.
والقرآن الكريم حين يتحدث عن الليل والنهار يقول كلاماً عاماً يفهمه كل معاصر لمرحلة من مراحل التقدم العلمي: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ ... } [الإسراء: 12]
ويقول: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ(19/11738)
شُكُوراً} [الفرقان: 62] ومعنى خلفه يعني: يخالف أحدهما الآخر ويأتي بعده، وهذا صحيح الآن، فنحن نرى الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لكن كيف نتصور هذه المسألة في بَدْء الخَلْق؟
لو أن البداية كانت بخَلْق الأرض مواجهة للشمس، فالنهار إذن أولاً ليس خِلْفة لشيء قبله، ثم تغيب الشمس فينشأ الليل ليكون خِلْفة للنهار، وفي المقابل إن وجدت الأرض غير مقابلة للشمس، فالليل هو الأول ليس خِلْفة لشيء قبله.
إذن: لا يحل لنا هذه المسألة إلا قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً ... } [الفرقان: 62] أي: من بداية الخَلْق وهما خِلْفة، وهذا لا يتأتى ولا يسوغ إلا إذا كانت الأرض مكوَّرة، بحيث يكون الجزء المقابل للشمس منها مكوِّناً للنهار، والجزء الآخر لليل في وقت واحد، فلما تحركت الأرض في دورانها صار كل منها خِلْفة للآخر، إذن: معطيات القرآن يهضمها العقل، ولا يعارضها أبداً.
تذكرون في الثلاثينيات وبالتحديد عام 1928 فسروا السماوات السبع بأنها الكواكب السبعة السيارة التي تدور حول الشمس، ذلك ليقربوا العلم للناس، ويشاء الله - سبحانه وتعالى - أن يكتشفوا بعدها (نبتون) ثم (بلوتو) فصاروا تسعة كواكب، وأظهر الله لهم فساد هذا التأويل.
وفي الكون عجائب كثيرة نعرفها حتى عن طريق الكفار، وكأن الله سخَّر حتى الكافر ليُثبت إيمان المؤمن، فإذا كنا قد عرفنا اليوم عندنا على الأرض، وأنه ليل ونهار يُكوِّنان أربعاً وعشرين ساعة، فماذا يعني اليوم بالنسبة للكواكب الأخرى؟
لما عرفوا أفلاك الكواكب الأخرى التي تدور حول الشمس وجدوا(19/11739)
أقربها للشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، ثم نبتون، ثم بلوتو، وهو أبعد الكواكب عن الشمس.
ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أن يوم الزهرة مثلاً 244 يوماً بيومنا نحن، أما العام فيساوي 225 يوماً بيومنا، فكأن يوم الزهرة أطول من عامها، كيف؟ قالوا: لأن المدار مختلف عن مدار الأرض، فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه، والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشمس.
وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر ... } [لقمان: 29] ولك أن تلحظ دقة الأداء القرآني في الانتقال من الفعل المضارع {يُولِجُ ... } [لقمان: 29] إلى الماضي {سَخَّرَ ... } [لقمان: 29] ففي الكلام عن حركة الليل والنهار قال {يُولِجُ ... } [لقمان: 29] ولما تكلم عن الشمس والقمر قال: {سَخَّرَ ... } [لقمان: 29] لماذا؟
قالوا: لأن التسخير تم مرة واحدة، ثم استقر على ذلك، أما إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل فأمر مستمر يتكرر كل يوم، فناسبه المضارع الدالّ على التكرار.
وقوله تعالى: {كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [لقمان: 29] أي: إلى غاية محدودة؛ لذلك نسمي العمر النهائي: الأجل. والمراد بالأجل المسمى يوم القيامة، فكأن الخالق سبحانه ضمن لنا استمرار الشمس والقمر إلى قيام الساعة، فاطمئنوا.
ثم أيُّ عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كله منذ خلقه الله وإلى قيام الساعة، دون صيانة ودون قطعة غيار؛ ذلك لأنه مبني على التسخير القهري الذي يمنع الاختيار، فليس للشمس أنْ تمتنع(19/11740)
عن الشروق وكذلك القمر، ومن العظمة في الألوهية هذه الرحمانية الرحيمة التي تحتضن الجميع المؤمن بها والكافر.
وفي هذه الآية ورد التعبير بلفظ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [لقمان: 29] وفي مواضع أخرى ورد بلفظ {لأَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [الرعد: 2] باللام بدلاً من إلى، وكذلك في سورتي فاطر (13) والزمر (5) ، ولكل من الحرفين معنى {إلى أَجَلٍ ... } [لقمان: 39] تعطينا الصورة لمشية الشمس والقمر قبل وصولهما الأجل، إنما {لأَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [فاطر: 13] أي: الوصول المباشر للأجل.
وكما أن لليل مهمة وللنهار مهمة، كذلك للشمس مهمة، وللقمر مهمة بيَّنها الله في قوله:
{هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً ... } [يونس: 5] .
وفي موضع آخر قال سبحانه: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] فالضياء للشمس فيه نور وحرارة، على خلاف نور القمر الذي يناسب حالماً لا حرارة فيه.
ومن عجائب أمر القمر أننا كُنَّا نحسبه قطعة من اللؤلؤ مضيئة في السماء، حتى إن الشعراء درجوا على تشبيه المحبوبة بالقمر، ولو عرفوا حقيقة القمر التي عرفناها نحن اليوم ما صحَّ منهم هذا التشبيه، فقد أطلعنا العلم أن القمر ما هو إلا حجارة وجسم معتم لا يضيء بذاته، إنما يعكس فقط ضوء الشمس؛ لذلك لما شبَّه أحد الشعراء محبوبته بالقمر أنكرتْ عليه هذا التشبه:(19/11741)
شبَّهْتُها بالبدْرِ فَاسْتضْحكتْ ... وقابَلَتْ قَوْلِي بالنُّكْر
أي: تكلفت الضحك.
وَسفَّهَتْ قوْلي وقَالَتْ متَى ... سَمُجْتُ حتى صِرْتُ كالبدْرِ
ولك أن تسأل فمن أين عرفت سماجة البدر، وأنه حجارة لا جمالَ فيها؟ تجيب هي حين تقول:
البَدْرُ لاَ يرنُو بعيْن كَما ... أَرْنُو ولاَ يَبْسِمُ عن ثَغْر
ولاَ يُميط المرْطَ عن نَاهدٍ ... ولا يشدُّ العقد في نَحْر
مَنْ قَاسَ بالبَدْر صَفائي فَلا ... زَالَ أَسِيراً في يَدِي هَجْري
إذن: فحقيقة القمر التي عرفناها أخيراً آية من آيات الله الظاهرة والباطنة في الكون أطلعنا الله عليها بسلطان العلم، فلما تيسَّر للبشر الصعود إلى سطحه عرفنا أنه جسم مُعْتم، وصخور لا تنير بذاتها، إنما تعكس أشعة الشمس، فتصل إلينا هادئة حالمة، وكأن القمر كما يقولون: (يصنع من الفسيخ شربات) .
ومن حكمة الخالق سبحانه في خَلْق الشمس والقمر أن تكون الشمس ميزاناً لمعرفة اليوم، والقمر لمعرفة الشهر، وهو الأصل في التكليفات، لأن له شكلاً مميزاً في أول الشهر على خلاف الشمس؛ لذلك يقول سبحانه: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب ... } [يونس: 5] .
وتتجلى عظمة التكليف الإلهي وارتباطه بالقمر في فريضة الحج مثلاً، بحيث يتنقل موعد الحج على مدار العام كله، فمرة يأتي في الصيف، وأخرى في الشتاء. . إلخ مما يُيسِّر للحجاج ما يناسب كلاً(19/11742)
منهم من الجو الملائم، ويقطع الأعذار في التخلف عن أداء هذه الفريضة.
إذن: بالتوقيت القمري يأتي الحج في كل أوقات السنة؛ لذلك قال البعض: إن ليلة القدر دائرة في العام كله إذا ما قارنا التوقيت الشمسي بالتوقيت القمري، فإنِ اتفقنا على أن ليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان، فإنها ستوافق أول يناير مثلاً، وفي العام التالي توافق الثاني، ثم الثالث وهكذا. . وهذا من رحمة الله تعالى بعبادة. .
ثم يقول سبحانه: {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 29] وما دام أنه سبحانه خبير بما تعملون، فهو الذي يهييء لكم صلاح العمل بخبرته وحكمته وقدرته وقيوميته؛ لذلك شرع لكم الأعمال التي تنظم حركة حياتكم وحركة عبادتكم؛ لذلك نجد رمضان مثلاً يدخل بالليل فنقول هذه الليلة من رمضان، أما يوم عرفة فيدخل بيومه لأنه يوم مجموع له الناس.
وقوله: {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 29] معطوفة على {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ ... } [لقمان: 29] فالتقدير: وألم تر أن الله بما تعملون خبير.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق ... } .(19/11743)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قوله تعالى: {ذَلِكَ. .} [لقمان: 30] إشارة إلى ما تقدم ذِكْره من دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر، ذلك كله {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير؛ لأن الذي خلقه وأبدعه حق {بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30]
وما دام الله تعالى هو (الحق) فما يدَّعونه من الشركاء هم الباطل {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل. .} [لقمان: 30] ، فلا يوجد في الشيء الواحد حَقَّان، فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل، فالحق واحد ومقابله الباطل. وأيُّ باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عَزَّ وَجَلَّ؟
كيف وهي حجارة صوَّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون الله، والحجارة جماد من جمادات الأرض، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات، عبد للنبات، وعبد للحيوان، وعبد للإنسان؛ لأنه مُسخّر لخدمة هؤلاء جميعاً.
فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرَّمك ربك وجعل لك عقلاً مفكراً تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ تعبد أدنى أجناس الوجود، وتتخذها شريكاً مع الله، وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللات أو بالعزى، وألقتْه على الأرض، وربما كُسرت ذراعه، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله، إذن {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل. .} [لقمان: 30]
لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس: إنها لا تنشب بين حقين؛ لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقَّان، إنما هو حق واحد،(19/11744)
والآخر لا بُدَّ أن يكون باطلاً، أو تنشأ بين باطلين، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول؛ لأن الباطل زهوق.
والعاقبة لا بُدَّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين، أما الباطل فإنه زَهُوق، إنما تطول المعركة إنْ نشبت بين باطلين، فليس أحد الطرفين فيها أهلاً لنصرة الله، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما، ولا يردهما إلا مذلَّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء.
لذلك نرى هذه الظاهرة أيضاً في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءاً كبيراً من هذه التركة، حتى إذا ما صَفَتْ مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسم ما بقي.
واقرأ إنْ شئت حديث رسول الله صلى الله عليهم وسلم: «مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر» ومعنى: مهاوش يعني التهويش أو كما نقول (بيهبش) من هنا ومن هنا، وطبيعي أن يُذهِب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه.
وسبق أن أعطينا مثلاً لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته، فيجد ابنه مريضاً حرارته مرتفعة، فيسرع به إلى الطبيب(19/11745)
ويصيبه الرعب، ويتراءى له شبح المرض، فينفق على ابنه المئات، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون، فالأول أصاب ماله من مهاوش، والآخر أصابه من الحلال.
فقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق. .} [لقمان: 30] يعني: أن الحق هو الظاهر وهو الغالب، فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول: نعم، قد يعلو الباطل لكن إلى حين، وهو في هذه الحالة يكون جندياً من جنود الحق، كيف؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صَوْلَة لا بُدَّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه.
إذن: لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض، ويظهر لها علتها، فتطلب الدواء، فالألم جندي من جنود الشفاء، وقلنا سابقاً: إن الكفر جندي من جنود الإيمان.
لذلك لا تحزن إنْ رأيتَ الباطل عالياً، فذلك في صالح الحق، واقرأ قول ربك عَزَّ وَجَلَّ: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الرعد: 17] يعني: يأخذ كل وادٍ على قدره وسِعَته من الماء {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً ... } [الرعد: 17] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل ... } [الرعد: 17] أي: مثلاً لكل منهما. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً ... } [الرعد: 17] يعني: مطروداً مُبْعداً من الجفوة {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17](19/11746)
وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى أنه {الحق. .} [لقمان: 30] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} [لقمان: 30] العلي الكبير يقولها الله تعالى، ويقولها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونقولها نحن؛ لأن الله قالها؛ ولأن النبي الصادق أخبرنا بها، لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بالله.
لذلك يعلمنا ربنا - تبارك وتعالى - أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به، كما ورد في الآيات السابقة: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25]
فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول: الحمد لله؛ لأنها شهادة ممَّنْ كفر بالله وكذَّب رسوله وحاربه، وأيضاً تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبَّى على منهج الله وكذَّب رسوله حين يصيبه مرض مثلاً، أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبَّى على الله؟ هذا الذي أَلِف التمرد على الله: أيتمرد إنْ جاءه الموت.
واقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ... } [الإسراء: 76] أي: لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، بالله أرأيتم إنساناً أحاطتْ به الأمواج، وأشرف على الهلاك يدعو يقول: يا هبل؟ إذن: الله هو العلي وهو الكبير، وغيره شرك وباطل.
وسبق أن ضربنا مثلاً للإنسان، وأنه لا يغشُّ نفسه، ولا يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما يطلقون عليه، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة(19/11747)
الصحية، ويتهمه بعدم الخبره لكن حين مرض ولده وأحسَّ بالخطر أخذ الولد وتسلَّل به في ظلام الليل، وذهب إلى الطبيب.
فلله وحده العلو، ولله وحده الكبرياء، بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتُلجئه إلى ضرورة لا مخرجَ منها لا يقول إلا: يالله يا رب.
فالله هو العليُّ بشهادة مَنْ كفر به، ثم أردف صفة (العلى) بصفة (الكبير) ؛ لأن العلى يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو، لكن الحق سبحانه هو العلي، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك ... } .(19/11748)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض الآيات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً آخر للآيات التي بيْن أيدينا في الأرض فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله. .} [لقمان: 31] ألم تر: يعني ألم تعلم {أَنَّ الفلك. .} [لقمان: 31] أي: السفن.
وربما أن سيدنا رسول الله لم يَرَ هذه السفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السفن العملاقة التي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله(19/11748)
سبحانه: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24]
ومتى وُجِدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوَّنة من عدة أدوار. لم توجد إلا حديثاً، إذن: فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]
ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه الآيات التي تثبت صِدْق القرآن وصِدْق رسول الله في البلاغ عن الله.
وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ الإسلامي، وقرأت في سيرة رسول الله أن المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله هؤلاء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل الله عليَّ {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس ... } [المائدة: 67] فوقفت المرأة عند هذه الآية وقالت: والله لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته.
وقلنا في معنى {أَلَمْ تَرَ. .} [لقمان: 31] أنها بمعنى ألم تعلم، لأن إعلام الله لك أوثق من رؤية عينيك.
وكلمة {تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله. .} [لقمان: 31] الجري: حركة تودع فيها مكاناً إلى مكان آخر، هذا التوديع إما أن تمشي الهُوَيْنَا أو تجري. لكن ما هي نعمة الله في جريها؟ أولاً كانت أول سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدُّسُر، وكان(19/11749)
الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلاً فإنها تغطس بمقدار هذا الثقل، حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.
وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات، فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء. والآن نرى السفن العملاقة والتي تُصنع من الحديد، والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء السائل الليِّن ويجري به، ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد، حتى وإنْ كانت تسير عكس جريان الماء، ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه الريح، ويسمون هذه الحركة (تسفيح) .
لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ ... } [الشورى: 33]
وكأن الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا أن أقل الأشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الأشياء كثافة، وانظر إنْ شئتَ إلى جرارات النقل الثقيل، هذه الجرارات العملاقة التي تحمل عدة أطنان من الحديد مثلاً على أي شيء تسير وتتحرك؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والذي يأخذ قوته من هذا الضغط، بحيث إذا زدتَ في ضغط هذه العجلات تقوي على نفسها فتنفجر.
وقوله تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ. .} [لقمان: 31] أي: من عجائبه في كونه في البحار، ففي الماضي كنا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلا السمك الذي يصطاده الصيادون، أما الآن ومع تطور(19/11750)
علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر مما نراه على اليابسة.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] قوله تعالى: {لِّكُلِّ صَبَّارٍ. .} [لقمان: 31] توحي بأن آيات الله في كونه كثيرة، لكن على الإنسان أنْ يبذل جهداً في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبَّاراً على مشقة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله فقد وجب علينا الشكر {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] والشكر لا يكون إلا عن نعمة جدَّت لم تكُنْ موجودة من قبل.
إذن: الحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]
وتقديم صبَّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يُؤتى نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ ... } .(19/11751)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
معنى {غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ. .} [لقمان: 32] يعني: غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال: {كالظلل. .} [لقمان: 32] جمع ظُلَّة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ... } [الأعراف: 171]
وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتماً ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهراً من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين. .} [لقمان: 32] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لا بُدَّ أن يُخلصوا لله؛ لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.
فإنْ قُلْتَ: ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام.(19/11752)
قلنا: إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 172] فشهدوا.
فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه - عَزَّ وَجَلَّ - فيكون كمَنْ قال الله فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124]
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوضح لنا هذه المسألة بقوله: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصرِّانه أو، يُمجِّسانه» .
فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدتْ أن الله هو الرب، لكن إذا تضبَّبت فلا بُدَّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.
إذن: التديُّن طَبْع في النفس، لكن التديُّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتديناً، لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام.(19/11753)
لكن نقول لمن عبد الأصنام: لا بُدَّ أنْ يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لا بُدَّ أن تُلجئك الأحداث إلى أنْ تلوذ به؛ لذلك يقولون في المثل (اللي متحبش تشوف وجهه، يُحوجك الزمن لقفاه) .
فأنتم أعرضتم عن الله وكفرتم به، فلما نزلت بكم الأحداث وأحاطت بكم الأمواج صِرْتم أرانب، فلماذا الآن تلجئون إلى الله؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبُّرهم حتى على الله؟
ثم يقول تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ. .} [لقمان: 32] وكان ينبغي عليهم بعد أنْ نجاهم وأسعفهم، كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به، وأنْ يطيعوه، وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي زلزلتهم، إلا أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والإعراض عن الله، وطاوع نفسه وشهوته.
هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للابتلاء والتمحيص، فإنه ينتكس ولا يرعوى على خلاف المؤمن، فإنه إن تعرَّض لمثل هذا الاختبار يزداد إيماناً ويقيناً.
والمقتصد هو البين بين، تأخذه الأحداث والخطوب، فتردُّه إلى الله حال الكرب والشدة، لكنه إذا كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح، بدليل أن الله تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعاً آخر منهم غير مقتصد {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]
فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع الإيماني، لكنه لما نجا غرَّته الدنيا من جديد، ومنهم الجاحد الختَّار أي: الغادر.(19/11754)
ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبَّار وختَّار، وبين شكور وكفور.
ثم يخاطب الحق سبحانه الناس، فيقول: {ياأيها الناس اتقوا ... } .(19/11755)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعاً في الآخرة، وسبق أنْ ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الأرض: يارب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم، وقالت البحار: نغرقه ... إلخ، فكان الرد من الخالق عَزَّ وَجَلَّ «دعوني وخلقي، فلو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم» .
وقوله تعالى: {اتقوا رَبَّكُمْ. .} [لقمان: 33] التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك وتحميك؛ لذلك يقول تعالى في آية(19/11755)
أخرى {واتقوا النار ... } [آل عمران: 131] وهما بمعنى واحد؛ لأن معنى اتقوا الله: اجعلوا بينكم وبين صفات جلال ربكم وانتقامه وجبروته وقاية، وكذلك في: اتقوا النار.
فالخطاب هنا عام للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم، فالله تعالى يريد أن يُدخلهم جميعاً حيِّز الإيمان والطاعة، ويريد أنْ يعطيهم ويمنّ عليهم ويعينهم، وكأنه سبحانه يقول لهم: لا أريد لكم نِعَم الدنيا فحسب، إنما أريد أنْ أعطيكم أيضاً نعيم الآخرة.
وكذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان رحيماً حتى بالكافرين والمعاندين له، كما ذكرنا في قصة اليهودي الذي اتهموه ظلماً بسرقة درع أحد المسلمين، وقد عزَّ على المسلمين أنْ يُرمى واحد منهم بالسرقة، فجعلوها عند اليهودي، وعرضوا الأمر على سيدنا رسول الله، فأداره في رأسه: كيف يتصرف فيه؟
فأسعفه الله، وأنزل عليه: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله ... } [النساء: 105] لا بين المؤمنين فحسب {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] أي: لا تخاصم لصالح الخائن، وإن كان مسلماً، فالناس جميعاً سواء أمام مسئولية الإيمان.
وفَرْق بين: اتقوا ربكم واتقوا الله؛ لأن عطاء الربوبية غير عطاء الألوهية، عطاء الربوبية إيجاد من عَدَم، وإمداد من عُدْم، وتربية للمؤمن وللكافر، أما عطاء الألوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ للأوامر، فاختار هنا الرب الذي خلق وربَّى، وكأنه سبحانه يقول للناس جميعاً: من الواجب عليكم أن تجعلوا تقوى الله شكراً لنعمته عليكم، وإنْ كنتم قد كفرتُم بها.
ولا تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا، إنما {واخشوا يَوْماً(19/11756)
لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ. .} [لقمان: 33] أي: خافوا يوماً تُرجعون فيه إلى ربكم، وكلمة (يوم) تأتي ظرفاً، وتأتي اسماً مُتصرِّفاً، فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقول: خِفْت شدة الملاحظة يوم الامتحان، فالخوف من الحدث، لا من اليوم نفسه، أمَّا لو قلت خفت يوم الامتحان، فالخوف من كل شيء في هذا اليوم، أي من اليوم نفسه.
فالمعنى هنا {واخشوا يَوْماً. .} [لقمان: 33] لأن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء فيه، وفي هذا اليوم {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ. .} [لقمان: 33] خصَّ هنا الوالد والولد؛ لأنه سبحانه نصح الجميع، ثم خصَّ الوالدين في الوصية المعروفة
{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ ... } [لقمان: 14]
ثم ذكر حيثيات هذه الوصية وقال: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ ... } [لقمان: 14] فجعل لهما فضلاً ومَيْزة ومنزلة عند الله، حتى أصبحا مظنة النفع حتى يوم القيامة، فأراد سبحانه أنْ يُبينَّ لنا أن نفع الوالد لولده ينقطع في الآخرة، فكلٌّ منهما مشغول بنفسه، فلا ينفع الإنسان حتى أقرب الناس إليه.
وفي سورة البقرة: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ... } [البقرة: 48] أي: مطلق النفس، لا مجرد الوالد والولد، إنما عامة الناس لا ينفع أحد منهم أحداً أيّاً كان.
والآية بهذا اللفظ وردت في موضعين: اتفقا في الصدر، واختلفا في العَجُز، وهي تتحدث عن نَفْسين: الأولى هي النفس الجازية أي: التي تتحمل الجزاء، والأخرى هي النفس المجزَّية التي تستحق العقوبة.
فالآية التي نظرت إلى النفس المجزَّى عنها، جاء عَجُزها {وَلاَ يُقْبَلُ(19/11757)
مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ... } [البقرة: 123]
ومعنى: عَدْل أي فدية، فالنفس المجزيّ عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن تعرض الفدية، فلا يقبل منها فدية، لكنها لا تيأس، بل تبحث عَمَّنْ يشفع لها من أصحاب الجاه والمنزلة يتوسط لها عند الله، وهذه أيضاً لا تنفع.
أما النفس الجازية، فأول ما تعرض تعرض الشفاعة، فإنْ لم تُقبل عرضت العدل والفدية؛ لذلك جاء عَجز الآية الأخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل. إذن: ذَيْل الآية الأولى عائد على النفس المجزىَّ عنها، وذيل الآية الثانية يعود على النفس الجازية.
وهنا {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ. .} [لقمان: 33] لأن الوالد مظنّة الحنان على الولد، وحين يرى الوالد ولده يُعذَّب يريد أنْ يفديه، فقدَّم هنا (الوالد) ثم قال: {وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً. .} [لقمان: 33] فقدم المولود، وكان مقتضى الكلام أنْ نقول: ولا يجزي ولده عن والده، فلماذا عدل عن ولد إلى مولود؟
الكلام هنا كلام رب، وفرْق كبير بين ولد ومولود؛ لأن المسلمين الأوائل كان لهم آباء ماتوا على الكفر، فظنوا أن وصية الله بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة، فأنزل الله هذه الآية تبين لهؤلاء ألاَّ يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئاً عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر.
لذلك لم يقل هنا ولد، إنما مولود، لأن المولود هو المباشر للوالد، والولد يقال للجد وإنْ علا فهو ولده، والجد وإنْ علا والده، فإذا كانت الشفاعة لا تُقبل من المولود لوالده المباشر له، فهي من(19/11758)
باب أَوْلَى لا تُقبل للجدِّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود، فالمسألة كلام رب حكيم، لا مجرد رَصْف كلام.
لكن، متى يجزي الوالد عن الولد، والمولود عن والده؟ قالوا: الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج منه العطف والرعاية، فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه الألم، أما الولد فلا يدفع عن أبيه الألم لأنه كبير، إنما يدفع عنه الإهانة، فالوالد يشفع في الإيلام، والولد يشفع في الإهانة، فكل منهما مقام.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ. .} [لقمان: 33] عرفنا أن الوعد: إخبار بشيء يسر لم يَأْت وقته، وضده الوعيد، وهو إخبار بشيء يؤذي لم يأْتِ وقته بعد، لكن ما فائدة كل منهما؟
فائدة الوعد أنْ تستعدَّ له، وتأخذ في أسبابه، فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يُحقِّق لك هذا الوعد كأنْ تَعِد ولدك مثلاً بجائزة إنْ نجح في الامتحان، وعلى العكس من ذلك الوعيد؛ لأنه يُخوِّفك من عاقبته فتحترس، وتأخذ بأسباب النجاة منه.
إذن: الوعد حق، وكذلك الوعيد حق، لكنه خصَّ الوعد لأنه يجلب للنفس ما تحب، أمّا الوعيد فقد يمنعها من شهوة تحبها، ووضحنا هذه المسألة بأن الحق - سبحانه وتعالى - يتكلم في النعم أن منها نِعَم إيجاب، ونِعَم سلب.
واقرأ في ذلك قول ربك: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36]
فإذا كانت الجنة وما فيها نعماً تستحق الشكر، ويمتنّ الله بها علينا، فأيُّ نعمة في الشواظ والنار والعذاب؟ قالوا: هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه، وتنجو منه(19/11759)
قبل أنْ تقع فيه، نعمة لأن الله لم يأخذنا على غِرَّة، ونبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه.
ووَعْد الله حقٌّ؛ لأنه وعد ممَّنْ يملك الوفاء بما وعد، وإنفاذ ما وعد به، أما غير الله سبحانه فلا يملك أسباب الوفاء، فوعده لا يُوصَف بأنه حق؛ لذلك قال سبحانه في سورة الكهف: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ... } [الكهف: 23 - 24]
فأنت وإنْ كنتَ صادقاً فيما وعدتَ به إلا أنك لا تضمن البقاء إلى أنْ تفي بما وعدتَ، فإنْ بقيت فقد تتغير الأسباب فتحول بينك وبين الوفاء، وأنت لا تملك سبباً واحداً من هذه الأسباب.
إذن: تأدب ودَع الأمر لمَنْ يملك كل أسباب إنفاذ الوعد، وقُلْ سأفعل كذا إن شاء الله، حتى إذا لم تنفذ يكون لك حجة فتقول: أردتُ لكن الله لم يشأ.
وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يريد أنْ يداري كذبنا ويستره علينا، يريد ألاَّ يفضحنا به، وأخرجنا من هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه، وكأن قدر الله في الأشياء صيانة لعبيده من عبيده. لذلك كثيراً ما نقول حينما لا نستطيع الوفاء: هذا قدر الله، وماذا أفعل أنا، والأمر لا يُقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء.
وما دمنا قد آمنا بقدر الله والحكمة منه، فلا تغضب مني إنْ لم أفِ لك وأنت كذلك، والعاقل يعلم تماماً حين يقضي أمراً لأحد أن قضاء الأمر جاء معه لا به، فالقدر قضاء، ووافق قضاؤه قضاء الله للأمر، فكأن الله كرَّمه بأنْ يقضي الأمر على يديه، لذلك قلنا: إن الطبيب المؤمن يقول: جاء الشفاء معي لا بي، وأن الطبيب يعالج والله يشفي، إذن: لا يُوصَف الوعد بأنه حقٌّ إلا وعد الله عَزَّ وَجَلَّ.(19/11760)
وما دام وعد الله حقاً فعليك أنْ تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعَّدك عليه بشرٍّ، وألاَّ تغرك الحياة {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا. .} [لقمان: 33] أي: بزينتها وزُخْرفها، فهي سراب خادع ليس وراءه شيء، واقرأ قول الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]
والحق سبحانه يضرب لنا مثلاً للدنيا، لا ليُنفِّرنا منها، وإنما لنحتاط في الإقبال عليها، وإلا فحبُّ الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للآخرة ومضمار للتسابق إليها.
يقول تعالى في هذا المثل: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا ... } [الكهف: 45] فسماها دنيا، وليس هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح ... } [الكهف: 45] نعم، كذلك الدنيا تزدهي، لكن سرعان ما تزول، تبدأ ابتداءً مقنعاً مغْرياً، وتنتهي انتهاءً مؤسفاً.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} [لقمان: 33] والغَرور بالفتح الذي يغرُّك في شيء ما، والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقول:
أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التدَلُّل ... وإنْ كنت قَدْ أَزْمعتِ صَرْمي فأَجْمِلِي
أغرَّك مني أنَ حبَّكِ قَاتِلي ... وأَنَّكِ مَهْما تأْمُري القَلْبَ يفعَلِ
فمعنى غرَّك: أدخل فيك الغرور، بحيث تُقبل على الأشياء،(19/11761)
وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى ضوئه.
والغَرُور بالفتح هو الشيطان، وله في غروره طرق وألوان، فغرور للطائعين وغرور للعاصين، فلكل منهما مدخل خاص، فيغرّ العاصي بالمعصية، ويوسوس له بأن الله غفور رحيم، وقد عصا أبوه فغفر الله له. لذلك أحد الصالحين سمع قول الله تعالى: {ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 6 - 7] فأجاب هو: غرَّني كرمه، لأنه خلقني وسوَّاني في أحسن صورة، وعاملني بكرم ودلَّّلني، حتى أصابني الغرور بذلك، ولو أنه عَزَّ وَجَلَّ قسا علينا ما اغتررنا.
وكان لأحدهم دَيْن خمسة صاغ فضة عند آخر، فردَّها إليه، فلما نظر فيها الدائن وجدها ممسوحة فأعادها إليه، فقال المدين: والله لو كنت كريماً لقبلتها دون أنْ تنظر فيها.
فأخذ الواعظ هذه الواقعة وأراد أنْ يعظ بها الدائن، وكان يصلي صلاةً لا خشوعَ فيها، فقال له: إن صلاتك هذه لا تعجبني، فهي نَقْر لا خشوع فيها، أرأيت لو أن لك دَيْنا فأعطاك صاحب الدين نقوداً ممسوحة قديمة أكنت تقبلها؟ فقال الرجل: والله لو كنتُ كريماً أقبلها ولا أردها.
ثم يقول الحق سبحانه مختتماً سورة لقمان: {إِنَّ الله عِندَهُ ... } .(19/11762)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
بعد أن حذرنا ربنا - تبارك وتعالى - من الغرور في الحياة الدنيا يُذكِّرنا أن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وقيامه وساعة {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة. .} [لقمان: 34] والساعة لا تعني القيامة فحسب، إنما لكل منا ساعته، لأنه مَنْ مات فقد قامت قيامته.
لماذا؟ لأنه انقطع عمله، ولا يمكنه تدارك ما فاته من الإيمان أو العمل الصالح، فكأن قيامته قامت بموته.
وقلنا: إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها، وإنْ كان عمر الدنيا على الحقيقة من لَدُن آدم - عليه السلام - إلى قيام الساعة، لكن ماذا استفدتَ أنت من عمر غيرك؟
إذن: لا ينبغي أن تقول: إن الدنيا طويلة؛ لأن عمرك فيها قصير، ثم إنك لا تعلمه، ولا تستطيع أنْ تتحكم فيه، وكما أبهم الله الساعة أبهم الأجل؛ لأن في إبهامه أنفع البيان، فلما أبهم الله الأجل جعل النفس البشرية تترقبه في كل لحظة، فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت.
وهكذا أشاع الموت في كل الزمن، وما دام الأمر كذلك فلا بُدَّ أن ينتبه الإنسان ويخشى أن يموت وهو على معصية، فالإبهام هنا هو عَيْن البيان.
وقلنا: إن الذين ماتوا من لَدُن آدم عليه السلام يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة، فإذا ما قامت القيامة {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] لماذا؟ قالوا: لأن قياس الزمن إنما يتأتى بالأحداث، فحيث لا توجد أحداث لا يوجد زمن.
ومثَّلْنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ومع ذلك لما سأل بعضهم بعضاً {كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا(19/11763)
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ... } [الكهف: 19]
لماذا؟ لأن النوم يخلو من الأحداث، فلا يشعر النائم فيه بالزمن، كما أنهم لما رأى بعضهم بعضاً بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة، ولم تتغير هيئته، فأقصى ما يمكن تصوُّره أن يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم.
وكذلك الحال في قصة العُزير الذي قال الله عنه: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ... } [البقرة: 259] ؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها الإنسان.
ثم أخبره ربه {بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ... } [البقرة: 259] ويريد الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق الرجل في قوله يوماً أو بعض يوم، وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام، فيقول سبحانه: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ... } [البقرة: 259] أي: لم يتغير.
وهذا دليل على صِدْقه في يوم أو بعض يوم
{وانظر إلى حِمَارِكَ ... } [البقرة: 259]
وهذا دل على صدق الحق - تبارك وتعالى - في قوله {مائَةَ عَامٍ ... } [البقرة: 259] فكلا القولين صادق؛ لأن الله تعالى هو القابض الباسط، يقبض الزمن في حق قوم، ويبسطه في حق آخرين.
وهذه الآية جمعتْ خمسة أمور استأثر الله تعالى بعلمها: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34]
فهل هذه هي كل الغيبيات في الكون؟ نقول: في الكون غيبيات(19/11764)
كثيرة لا نعرفها، فلا بُدَّ أن هذه الخمس هي المسئول عنها، وجاء الجواب على قدر السؤال، بالله لو هَبَّتْ الريح، وحملتْ معها بعض الرمال، أنعرف أين ذهبت هذه الذرات؟ وفي أي ناحية، أنعرف ورق الشجر كم تساقط منها؟
هذه كلها غيبيات لا يعلمها أيضاً إلا الله، أما نحن فلا نعلم حتى عدد النِّعَم التي أنعم الله بها علينا {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ... } [إبراهيم: 34]
إذن: فهذه نماذج لما استأثر الله بعلمه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]
فلله تعالى في كونه أسرار لا تُحصى، أجَّل الله ميلادها؛ لنعلم أننا في كل يوم نجهل ما عند الله، وكل يوم يطلع علينا العلماء والباحثون بجديد من أسرار الكون - هذا ونحن لا نزال في الدنيا، فما بالنا في الآخرة، وفي الجنة إن شاء الله؟
وقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها فقال: «فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
والإنسان يكتسب المعلومات، إما برؤية العين، أو بسماع الأذن، ومعلوم أن رقعة السمع أوسع من البصر؛ لأنك لا ترى إلا ما تراه عيناك، لكن تسمع لمرائي الآخرين، ثم أنت تسمع وترى موجوداً،(19/11765)
لكن هناك ما لا يخطر على قلب بشر يعني: أشياء غيبية لم تطرأ على بال أحد، وفي ذلك يقول سبحانه: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]
وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه، أن رجلاً من محارب، اسمه الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله: أريد أنْ أعرف متى الساعة، وقد بذرْت بذري، وأنتظر المطر فمتى ينزل؟ وامرأتي حامل، وأريد أن تلد ذكراً، وقد أعددت لليوم عُدَّته، فماذا أُعِد لغد؟ وقد عرفت موقع حياتي، فكيف أعرف موقع مماتي؟
هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند الله تعالى {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
.} [لقمان: 34] .
وعجيب أنْ نرى من خَلْق الله مَنْ يحاول أن يستدرك على مقولة الله في هذه الغيبيات الخمس، كالذين حاولوا أنْ يتنبأوا بموعد قيام الساعة، وقد كذبوا جميعاً، ولو قُدِّر لهم الإيمان بالله، والعلم كما قاله الله في قيام الساعة ما تجرأ منهم أحد على هذه المسألة.
وقلنا: إن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائماً، وفي كل وقت، حتى الذين لا يؤمنون بها ويشكُّون فيها، وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها، واستعدوا لأهوالها، كما أخفى الله عن الإنسان ساعة موته ومكان أجله، وجعل الموت يدور على(19/11766)
العباد على غير قاعدة.
فمنهم مَنْ يموت بعد دقائق من مولده، ومنهم مَنْ يعمر مئات السنين، كما أنه سبحانه لم يجعل للموت مقدمات من مرض أو غيره، فكم من مريض يُعافى، وصحيح يموت، كما يقولون: كيف مريضكم؟ قال: سليمنا مات، وصدق القائل:
فلا تَحْسَب السُّقْم كأْسَ الممات ... وإنْ كَان سُقْماً شَديد الأثَر
فرُبَّ عليل تَرَاهُ اسْتفَاق ... ورُبّ سِلَيم تَرَاه اسْتتر
كذلك الموت لا يرتبط بالسِّن:
كم بُودرت غادة كعَابٌ ... وغُودِرَتْ أمُّها العَجُوزُ
يجوُزُ أنْ تبطئ المنَايَا ... والخُلْدُ في الدَّهْرلا لا يَجُوزُ
إذن: أخفى الله القيامة وأخفى الموت؛ لنظل على ذُكْر له نتوقعه في كل لحظة، فنعمل له، ولنتوقع دائماً أننا سنلقى الله، فنعد للأمر عُدته؛ لأن مَنْ مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انقطع عمله، ففي إبهام موعد القيامة وساعة الموت عَيْن البيان لكل منهما، فالإبهام أشاعه في كل وقت.
وقوله: {وَيُنَزِّلُ الغيث. .} [لقمان: 34] وهذا أيضاً، ومع تقدُّم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة. . إلخ، وربما صَحَّتْ حساباتهم، لكن فاتهم أن الله أقداراً في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيراً ما نُفَاجأ بتغيُّر درجة الحرارة أو اتجاه الريح، فتنقلب كل حساباتنا.
لذلك من عجائب الخَلْق أنك كلما اقتربتَ من الشمس وهي مصدر الحرارة تقِلُّ درجة الحرارة، وكلما ابتعدت عنها زادت درجة(19/11767)
الحرارة، إذن: المسألة ليست روتينية، إنما هي قدرة لله سبحانه، والله يجمع لك الأسباب ليثبت لك طلاقة قدرته التي تقول للشيء: كُنْ فيكون.
ألسنا نُؤمر في الحج بأن نُقبِّل حجراً ونرمي آخر، وكل منهما إيمان وطاعة، هذا يُباس وهذا يُداس، هذا يُقبَّل وهذا يقنبل، لماذا؟ لأن الله تعالى يريد منا الالتزام بأمره، وانصياع النفس المؤمنة للرب الذي أحيا، والرب الذي كلَّف.
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام. .} [لقمان: 34] هذه أيضاً من مفاتح الغيب، وستظل كذلك مهما تقدمت العلوم، ومها ادَّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الأرحام، والذي أحدث إشكالاً في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه أذكر أم أنثى، فهذه الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس، فتوهموا أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام، وبناءً عليه ظنوا أن هذه المسألة لم تَعُدْ من مفاتح الغيب التي استأثر الله بها.
ونقول: أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوَّن ووضحتْ معالمه، واكتملتْ خِلْقته، أما الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - فيعلم ما في الأرحام قبل أنْ تحمل الأم به، ألم يُبشِّر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن لا نعلم هذا الغيب بذواتنا، إنما بما علّمنا الله، فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنما مُعلَّم غيب.
والله - تبارك وتعالى - يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات،(19/11768)
ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين أوصى ابنته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قبل أن يموت وقال لها: يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك، فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الإخوة سوى محمد وعبد الرحمن، ومن الأخوات أسماء، لكن كان الصِّديق في هذا الوقت متزوجاً من بنت خارجة، وكانت حاملاً وبعد موته ولدتْ له بنتاً، فهل تقول: إن الصِّدِّيق كان يعلم الغيب؟ لا، إنما أُعِلم من الله. إذن: الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.
ثم إن الطبيب يعلم الآن نوع الجنين، إما من صورة الأشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة الجنين، وهذا لا يُعتبر علماً للغيب، و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها: أنت إنْ شاء الله ستلدين كذا أو كذا، وهذا لا يحدث أبداً.
ثم يقول سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً. .} [لقمان: 34] الإنسان يعمل، إما لدنياه، وإما لأُخْراه، فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش، وإن كان من مسألة التكليف، فالنفس إما تعمل الخير أو الشر، الحسنة أو السيئة، والإنسان في حياته عُرضَة للتغيُّر.
لذلك يقال في الأثر: «يا ابن آدم، لا تسألني عن رزق غدٍ، كما لو أطالبك بعمل غد» .
وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34] وهذه المسألة حدث فيها إشكال؛ «لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر الأنصار(19/11769)
أنه سيموت بالمدينة حينما وزع الغنائم على الناس جميعاً ما عدا الأنصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئاً؛ لأن رسول الله حرمهم، لكن سيدنا رسول الله جمعهم وتلطَّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال: والله لو قلتم أني جئت مطروداً فآويتموني فأنتم صادقون، وفقيراً فأغنيتموني فأنتم صادقون. . لكن الأ تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير، وترجعون أنتم برسول الله» ، وقال في مناسبة أخرى «المحيا محياكم، والممات مماتكم» .
إذن: نُبِّئ رسول الله أنه سيموت بالمدينة، والله يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.
.} [لقمان: 34] نقول: الأرض منها عام ومنها خاصّ، فأرض المدينة شيء عام، نعم سيموت بالمدينة، لكن في أيِّ بقعة منها، وفي أي حجرة من حجرات زوجاته، إذن: إذا علمتَ الأرض العامة، فإن الأرض(19/11770)
الخاصة ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد.
يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها، ويخاف الموت، وكان يستشير في ذلك المنجِّمين والعرافين، فأراد الله أنْ يقطع عليه هذه المسألة، فأراه في المنام أن يداً تخرج من البحر وتمتد إليه، وهي مُفرَّجة الأصابع هكذا، فأمر بإحضار مَنْ يُعبِّر له هذه الرؤيا، فكان المتفائل منهم، أو الذي يبغي نفاقه يقول له: هي خمس سنوات وآخرون قالوا: خمسة أشهر، أو خمسة أيام أو دقائق.
إلى أن انتهى الأمر عند أبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال له: إنما يريد الله أن يقول لك: هي خمسة لا يعلمها إلا الله، وهي: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .} [لقمان: 34]
وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة لا يعلمها أحد، فمن المناسب أن يكون ختام الآية {إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]
إذن: الحق سبحانه يريد أنْ يُريح خَلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس، وكل ما يجب أن نعلمه أن المقادير تجري بأمر الله لحكمة أرادها الله، وأنها إلى أجل مسمى، وأن العلم بها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، بالله ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ لا شيء أكثر من أنك ستعيش نَكِداً حزيناً طول الوقت لا تجد للحياة لذة.
لذلك أخفى الله عنَّّا هذه المسألة لنُقبِل على الله بثقتنا في مجريات قدر الله فينا.(19/11771)
الم (1)
هذه من الحروف المقطَّعة المبنية على الوقف، على خلاف آيات القرآن التي بُنِيتْ كما قُلْنا على الوصل من أول القرآن إلى آخره، بل على وصل آخره بأوله؛ لذلك لا ينبغي أن تقرأ القرآن على الوصل، ما دام نَفَسُكَ يساعدك، ولا تقف إلا إذا انقطع النفَس، فتقف وتُسكِّن الحرف الذي وقفتَ عليه.
وقد قال علماء القراءات: وليس في القرآن مِنْ وقف وجب؛ لأنه(19/11775)
بُني على الوصل، فلا تقف إلا إذا ضاق نَفَسُك؛ لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف، وتُرسم في المصحف (صِلى، قِلى، ج) ، لكن الأصل الوصل.
وقلنا: إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس، وهي آخر القرآن لم تأْتِ ساكنة، إنما متحركة بالكسر (الناسِ) ؛ لأن الله تعالى قدَّر حلَّكَ في الناس فجعلك ترحل إلى بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، فلا تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله، وسمَّيْنا قارئ القرآن لذلك (الحالّ المرتحل) .
وهنا تأتي {الم} [السجدة: 1] بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقتْ في آخر سورة لقمان، وكأنها مُلْحقة بها، فهي سِرٌّ استأثر الله تعالى بعلمه، ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها؛ لذَلك كل مَنْ فسَّر الحروف المقطَّعة في بدايات السور لا بُدَّ أن يقول بعدها: والله أعلم بمراده؛ لأن تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد؛ لذلك نحن لا نقول هذه الكلمة في كل آيات القرآن، إنما في هذه الآيات والحروف بالذات.
وكيف بنا حين يجمعنا الله تعالى إنْ شاء الله في مقعد صِدْق عند مليك مقتدر، كيف بنا حين نسمع هذا القرآن مباشرة من الله عَزَّ وَجَلَّ؟ لا شكَّ أننا سنسمع كلاماً كثيراً غير الذي سمعناه، ومعاني كثيرة غير التي توصَّلنا إليها في اجتهاداتنا، وعندها سنعرف مرادات الله تعالى في هذه الحروف، وسنعرف كم قَصُرَتْ عقولنا عن فهمها، وكم كنا أغبياء في فَهْمنا لمرادات ربنا.
وقوله تعالى {الم} [السجدة: 1] عادةً يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصُّ الكتاب العزيز.(19/11776)
وهنا يقول سبحانه: {تَنزِيلُ الكتاب لاَ ... } .(19/11777)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
مادة (نزل) وردتْ في القرآن بلفظ: نزل، ونزَّل، وأنزل، أنزل تدل على التعدية، يعني: أن الله تعالى عدَّى القرآن من اللوح المحفوظ، إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا، وهذا الإنزال من الله تعالى.
أما نزَّل فالتنزيل مهمة الملائكة؛ لذلك يقول تعالى في الإنزال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] أي: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم تتنزَّل به الملائكة مُنجَّماً حسب الأحداث، وفي ذلك يقول تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193]
ويقول سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ ... } [الإسراء: 105] فقد كان محفوظاً عندنا في اللوح المحفوظ {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 193] ثم نزل به الروح الأمين جبريل.
وما دام {نَزَلَ بِهِ ... } [الشعراء: 193] فهذا يعني أن القرآن نزل معه، فقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] تساوي تماماً {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ ... } [الإسراء: 105] . فالنزول يُنسَب مرة إلى القرآن، ومرَّة إلى الروح الأمين.
ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع، وما دُمْتَ تتلقى من جهة أعلى منك، فإيَّاك أنْ يضل بك الفكر لناحية أخرى.(19/11777)
لذلك يقول تعالى مخاطباً رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر التكليف: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } [الأنعام: 151] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ. أي: أقبل، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو: أقبل دانياً إلى متعالٍ، تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في الملأ الأعلى.
تعالَ يعني: لا تأخذ من نفسك ولا من مُسَاوٍ لك، إنما ارتفع وخُذْ من الأعلى، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم، وخُذْ من الذي شرَّع لك؛ لأنه لا بُدَّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم؛ لأن علمه أوسع، فلا يُشَرِّع لك اليوم ما ينقضه غداً.
ثم إنَّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق - تبارك وتعالى - وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها، فلا يُشرِّع لك إلا ما يُصلحك، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع، كما نرى في تشريعات البشر للبشر.
وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانوناً جاء يخدمهم، وليكونوا هم أول المنتفعين به؛ لذلك سرعان ما تهاوى؛ لأن شرط المشرِّع الحق ألاَّ ينتفع هو بما يُشرِّع، وعليه فلا مشرِّع حقٍّ إلا الله.
لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضَّهم الأحداث، وتخفق قوانينهم في حَلَّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام.
ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون}
[التوبة: 33] وفي موضع آخر {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8](19/11778)
قالوا لنا: هذا يعني أن الإسلام ظاهر على الأديان منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فما بالنا نرى الآن أكثر أهل الأرض من غير المسلمين؟
فقلت في الرد عليهم: والله لو فهمتُم أسرار اللغة، وتأملتُم هذه الآية لوجدتم أن الرَّد فيها، فواحدة تقول: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [الصف: 8] ، والأخرى تقول {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33]
إذن: فالكفر والشرك موجودان مع وجود الإسلام، وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلاء، أو أنْ يُقْضَى عليهم قضاء مبرماً، إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه، ويلجئون إلى أحكامه، رغم عدم إيمانهم به، وهذا أبلغ في الظهور، أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به؛ لأنك لا تجد حلاً لقضاياك إلا فيه.
وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع الله في مسألة الطلاق، وفي مسألة تعدُّد الزوجات، واتهموا الإسلام بالوحشية. . إلخ، ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرِّعوا الطلاق، وأنْ يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان، فماذا جرى؟ فنقول لهم: هل أسلمتم وآمنتم؟ لا، إنما لجأنا إليه؛ لأن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا.
فهذه إذن شهادة العدو لدين الله، وهذا هو أعظم الإظهار للإسلام على هذه الأديان؛ لأنهم أسلموا، لقالوا عنهم: أخذوا بهذا الشرع لأنهم لو أسلموا، إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون.
ومعنى {لاَ رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] أي: لا شكَّ فيه، وقلنا: إن النسب في القضايا. أي نسبة شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها، فلو قُلْنا: الأرض كروية هذه قضية جزم بها(19/11779)
الآن، ونستطيع التدليل على صحتها دليلاً حسياً، فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها، وعليها دليل في الكون.
فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها، فهي بين ثلاث حالات: إما فيها شكّ، أو ظنّ، أو وهم: الشك أنْ تتساوى الكِفَّتان: الإثبات والنفي، والظن أن تغلب جانب الإثبات فلا تجزم به إنما ترجِّحه، فإنْ غلَّبْتَ الأخرى وجعلتها هي الراجحة، فهذا توهم.
وهنا قال سبحانه {لاَ رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] لا شكَّ فيه، فنفى الشكَّ، وهو تساوي النفي والإثبات، وما دام قد نفى التساوي، فهذا يعني أنه أراد أنْ يثبت الأعلى. أي: أنه حقٌّ لا يرقى إليه الشك.
وجملة {لاَ رَيْبَ فِيهِ. .} [السجدة: 2] جملة اعتراضية بين {الكتاب. .} [السجدة: 2] ، وبين {مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] وما دام أنه من {مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] فلا بُدَّ أنه حقٌّ لا ريب فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ ... } .(19/11780)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
عجيب أنْ يقابلَ العربُ كلامَ الله بهذا الاتهام، وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان، وقد بلغوا في هذا شأناً عظيماً، حتى جعلوا للكلام معارض وأسواقاً، كما نقيم الآن المعارض لمنتجاتنا، ولا يُعرض في المعارض هذه إلا السلع الجيدة محلّ الفخر، فقبل الإسلام كان في عكاظ وذي المجاز مضمار للقول وللأداء البياني بين الأدباء والشعراء.(19/11780)
فعجيبٌ منهم ألاَّ يميزوا كلام الله عن كلام البشر، خاصة وقد تحدَّاهم وتحدَّى فصاحتهم وبلاغتهم أنْ تأتي بآية واحدة من مثله، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف، فتحدَّى القرآن للعرب يُحسَبُ لهم، وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم، فهو - إذن - شهادة لهم، ويكفيهم أن الله تعالى أدخلهم معه في مجال التحدي.
ولما عجزوا عن الإتيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله، فمرة يقولون: شاعر، ومرة: ساحر، وأخرى يقولون: مجنون، ومرة يقولون: بل يُعلِّمه ذلك أحد الأعاجم. . إلخ، وهذا كله إفلاس في الحجة، فهم يريدون أنْ يُكذِّبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أما القرآن في حدِّ ذاته، فلا يَخْفى عليهم أنه كلام الله، وأن البشر لا يقولون مثل هذا الكلام، بدليل أن الوليد بن المغيرة لما سمعه قال: «والله، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغْدِق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه» .
لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعناً اعترفوا بأنه من عند الله، لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على هذا الرجل بالذات: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فكانوا(19/11781)
ينتظرون أنْ يُنزَّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مِلَك من الملوك، لكن أنْ ينزل على محمد هذا اليتيم الفقير، فهذا لا يُرضيهم، وقد ردَّ القرآن عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ... } [الزخرف: 32]
يعني: إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها، فهل نترك لهم أمور الآخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم؟ والرسالة رحمة من الله يختصُّ بها مَنْ يشاء من عباده {والله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } [الأنعام: 124]
وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن مُعْجِز، وأنه من عند الله لا غُبَار عليه، والذي قرأه منهم، وأيقن أنه حق قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
وهذا كلام لا يقول به عاقل، وقد دلَّ على غبائهم وحُمْقهم، وكان الأَوْلَى بهم أنْ يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه.
وقد ردَّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول الله، وفنَّدها جميعاً، وأظهر بطلانها، لما قالوا عن رسول الله إنه مجنون ردَّ الله عليهم:
{ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4]
والمجنون لا يكون أبداً على خلق عظيم؛ لأنه محكوم بالغريزة لا يختار بين البدائل والتصرفات كالحيوان، ولا ينشأ عن ذلك خُلق كريم.(19/11782)
أما الإنسان السَّويُّ فإنه يختار بين البدائل المتعددة، فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردُّ عليه. بمثل هذا الاعتداء، وقد يفكر في المثلية، وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح، واحد يكظم غيظه وآخر يزيل كل أثر للغيظ، ويبغي الأجر على ذلك من الله، عملاً بقوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ ... } [النور: 22] وكأن الله يشجعنا على عمل الخير.
لذلك لما سُئل الحسن البصري: كيف يطلب الله منَّا أنْ نُحسن إلى مَنْ أساء إلينا؟ قال: هذه مَرَاق في مجال الفضائل، وقد أباح الله لك أنْ تردَّ الإساءة بمثلها {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى: 40] لكن بترك الباب مفتوحاً أمام أريحية النفس المؤمنة {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ... } [الشورى: 40]
ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل، فإن الخَلْق كلهم عيال الله، وهم عنده سبحانه سواء، فماذا لو اعتدى أحد عيالك على الآخر؟ لا شكَّ أنك ستكون في جانب المظلوم، فتأخذه في حضنك وترعاه وتعطف عليه، وكذلك الحق - تبارك وتعالى - يكون في جانب عبده إذا ظلم. وقد قال أحدهم: ألاَ أُحسن إلى مَنْ جعل الله في جانبي؟
من هنا يقولون: أنت لا تكسب كثيراً من الأخيار، إنما كل كسب(19/11783)
لك يأتي من الأشرار حين يسيئون إليك وتحسِن إليهم؛ لذلك يقولون: فلان هذا رجل طيب، لكن مَنْ يمشي معه لا يستفيد منه حسنة أبداً، لماذا؟ يقولون: لأنه خادم للجميع، وجعل خدَّه (مداساً) لمن معه، فلا يجعل أحد (يستفتح) منه بحسنة.
ورُوي عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه تبسَّم في مجلس مع أصحابه، فقالوا: ما يُضحك يا رسول الله؟ فقال: «رأيتُ ربي، وقد أجلس بين يديه خَصْمين، فقال أحدهما: يا ربِّ إن هذا ظلمني فخُذْ لي حقِّي منه، فقال: كيف آخذ لك حقك منه؟ قال: أعطني من حسناته بقدر ما أساء إليّ، فقال: ليست له حسنات، فقال: فخُذْ من سيئاتي واطرح عليه، فقال أَوَيرضيك ألاَّ تكون لك سيئة؟ قال: إذن، يا رب كيف أقضي حقي منه؟ قال: انظر يمينك، فنظر الرجل يمينه، فوجد قصوراً وبساتين وجِنَاناً، مما لا عَيْنٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، فقال: لمَنْ هذه يا ربِّ؟ قال: لمن يدفع ثمنها، فقال: وما ثمنها يا رب؟ قال: أنْ تأخذَ بيد أخيك إلى الجنة، فعجبتُ من رَبِّ يُصِلح بين عباده» .
هذا عن قولهم عن رسول الله: مجنون، أما قولهم: ساحر.
فالردُّ عليها ميسور، فإذا كان محمد ساحراً، سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضاً؟ فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس ساحراً، بل هذا كذب وافتراء على رسول الله.
أما قولهم: شاعر، فهذا عجيب منهم، وهم أمة كلام وبلاغة،(19/11784)
وهم أكثر خَلْق الله تمييزاً للشعر من النثر، وخير مَنْ يفرق بين الأساليب وطرق الأداء، وقد تولى الله تعالى الردَّ عليهم، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ ... } [يس: 69]
وفي سورة الحاقة، يقول سبحانه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41 - 42]
فلما خابتْ كُلُّ هذه الحيل، وكذبتْ كل هذه الافتراءات قالوا: بل له شيطان يُعلِّمه، وكانوا يقولون ذلك للشاعر البليغ الذي لا يُشَقُّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الأداء، حتى جعلوا لهؤلاء الجن مكاناً خاصاً بهم، فقالوا (وادي عبقر) ، وهو مسكن هؤلاء الجن الذي يُلْهِمون البشر ويُعلِّمونهم.
والشعر كلام موزون مُقفَّى، وله بحور معروفة، فهل القرآن على هذه الشاكلة؟ لا، إنما هو افتراء على رسول الله، كافترائهم عليه هنا: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه. .} [السجدة: 3]
فقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ. .} [السجدة: 3] أم تعني أن لها مقابلاً: يعني: أيقولون كذا؟ أم يقولون: افتراه، فماذا هذا المقابل؟ المقابل {تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} [السجدة: 2] فالمعنى: أيُصدِّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين، وأنه لا رَيْبَ فيه؟ أم يقولون افتراه محمد، فأَمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلام السابق عليها.
وقوله: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ. .} [السجدة: 3] نعرف أن (بل) تأتي للاستدراك، لكنها هنا ليست للاستدراك، إنما لإبطال قولهم: {افتراه. .} [السجدة: 3] كما لو قُلْت: زيد ليس عندي بل(19/11785)
عمرو، فأفادتْ الإضراب عما قبلها، وإثبات الحكم لما بعدها، وهم يقولون افتراه والله يقول: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ. .} [السجدة: 3ٍ فكلامهم واتهامهم باطل، والقرآن هو الحق من عند الله.
وقُلْنا: إن {الحق. .} [السجدة: 3] هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير؛ لذلك فالحقائق ثابتة لا تتغير أبداً، كيف؟ هَبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها مُدَّع ومُدَّعًى عليه وشهود، واجتمعوا جميعاً أمام القاضي، وقد يحدث أن يُغيِّر أحدهم أقواله، أو يشهد الشهود شهادة زور.
لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض، ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة؛ ذلك لأن الواقع شيء واحد، ولو أنهم يصفون واقعاً لا تفقوا فيه، ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبِطله وتُحِقّ وتغلب الحق الذي لا يمكن أن يتناقض.
كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان، يدَّعي أحدهما على الاخر أنه أخذ منه مالاً ولم يردّه إليه، فقال المدَّعَي عليه: بل رددته إليه في مكان كذا وكذا، فأنكر المدَّعى، فقال القاضي للمدَّعَى عليه: اذهب إلى هذا المكان، فلعل هذا المال وقع منك هناك، فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت، فقال القاضي للمدعى: لقد أبطأ صاحبك، فقال: أبطأ؛ لأن المكان بعيد، فوقع في الحقيقة التي كان ينكرها.
ثم يقول سبحانه: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ. .} [السجدة: 3] ومعلوم أنه سيدنا رسول الله جاء بشيراً ونذيراً، لكن خصَّ هنا النذير؛ لأنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة، وإصلاح الفاسدلا بُدَّ أن يسبق ما يُبشر به، ولم يأْتِ ذكر البشارة هنا؛ لأنهم(19/11786)
ما سمعوا للنذارة، وما استفادوا بها.
لكن قوله تعالى: {مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ. .} [السجدة: 3] تصطدم لفظياً بقوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وليس بين هذه الآيات تناقض؛ لأن المعنى: ما أتاهم من نذير قريب، ولا مانع من وجود نذير بعيد، كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل ... } [المائدة: 19]
وإلا، فمن أين عرفوا أن الله تعالى خالق السموات والأرض، كما حكى القرآن عنهم: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ ... } [لقمان: 25] فهذا أثر من آثار الرسل السابقين، كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق، والذين سماهم الله الحنفاء، وهم الذين لم يسجدوا لصنم، ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية.
وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3] لعل تفيد الرجاء، والرجاء من الله كأنه واقع متحقق؛ لأن الله تعالى يحب لعباده جميعاً أنْ يؤمنوا به؛ ليأخذوا جميل عطائه في الآخرة، كما أخذوا عطاءه في الدنيا، وهم جميعاً خَلْقه وصَنْعته، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي: « ... دعوني وما خلقت، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا إلىَّ فأنا طبيبهم. .» .(19/11787)
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون: {الله الذي ... } .(19/11788)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يخبرنا الحق - تبارك وتعالى - أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان، وهو المكرَّم الأول في هذا الكون، وجميع الأجناس في خدمته حيواناً ونباتاً وجماداً، فهو سيد في هذا الكون، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه، فكان عليه أولاً أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره.
وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره، وهي خادمة له، فكان لزاماً عليه أنْ يتأمل هذه المسألة: كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم؟
إذن: لا بد أن لي عمراً آخر أطول من هذا، عمراً يناسب تكريم الله لي، ويناسب سيادتي في هذا الكون، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا، لا أعيش مع الأسباب، إنما مع المسبب سبحانه، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديَّ دون تعب ودون سَعْى، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمَنْ يطيع المرقى المعطي.(19/11788)
لذلك، الحق - سبحانه وتعالى - يلفتنا ويقول: صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك، لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ... } [غافر: 57]
لماذا؟ لأن الناس أعماراً محددة، مهما طالت لا بُدَّ أن تنتهي إلى أجل، ثم إن هذه الأعمار لا تًسْلم لهم، إنما تنتابها الأغيار، فالغنيّ قد يفتقر، والصحيح قد يمرض، والقوي قد يضعف، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان، ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة؛ لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك، أمَّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله.
فإذا اقرَّ - حتى الكفار - بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن: فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى.
ومسألة خَلْق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أنْ يقول: كيف خُلقت ولا حتى كيف خُلق الإنسان؛ لأن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها؛ لذلك يقول تعالى: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51]
فسماهم الله مُضلِّين، والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل، ويصرفك عن الحق، وقد رأينا فعلاً هؤلاء المضلِّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض.
إذن: خَلْق السماوات والأرض مسألة لا تُوخَذ إلا ممَّنْ خلق؛(19/11789)
لذلك قَصَّ لنا ربنا - تبارك وتعالى - قصة خَلْق آدم، وقصَّ لنا قصة خلق السماوات والأرض، لكن الخَلْق حدث وفعل، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله، والإشكال هنا في قوله تعالى {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
.} [السجدة: 4] . فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن؟
الفِعْل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمناً، حيث نوزع جزيئات الفعل على جزئيات الزمن، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور، إنما يقول: للشيء كن فيكون، أما قوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] فقد أوضحناها بمثال، ولله المثل الأعلى.
قلنا: أنت حين تصنع الزبادي مثلاً تأتي بالحليب، ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوَّل إلى زبادي، فهل تقول: إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعاً أو ثماني ساعات؟ لا، إنها استغرقتْ مجرد إعداد المواد اللازمة، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض، إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة.
كذلك الحق - تبارك وتعالى - خلق السماوات والأرض بأمره (كُنْ) ، فتفاعلت هذه الأشياء مُكوِّنه السماوات والأرض.
ومسألة خلق السماوات والأرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن، أربع منها تكلمْن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما، وثلاث تعرضتْ لخَلْق السماوات والأرض وما بينهما، ففي الأعراف مثلاً، وفي يونس، وهود،(19/11790)
والحديد. تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط.
وفي الفرقان والسجدة وق. فتكلَّمتْ عن البينية، فكأن السماوات والأرض ظرف خُلق أولاً، ثم خُلِق المظروف في الظرف، وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ تُعِدَّ الظرف أولاً، ثم تضع فيه المظروف.
وقوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] الله يخاطب بهذه الآيات العرب، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر، فكيف يقول سبحانه {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. .} [السجدة: 4] ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر؟
نقول: المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا، ألم يقل سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] أي: في الدنيا.
وقال عن اليوم في الآخرة: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ(19/11791)
كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا، ولليوم في الآخرة.
والحق سبحانه لم يُفصِّل لنا مسألة الخَلْق هذه إلا في سورة (فُصِّلَت) فهي التي فصَّلَتْ القول في خَلْق السماوات والأرض، وهذه من عجائب هذه السورة.
فقال تعالى: {قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... } [فصلت: 9 - 10] هذه ستة أيام. {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ... }
[فصلت: 11 - 12] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام.
إذن: كيف نُوفِّق بين ستة أيام في الإجمال، وثمانية أيام في التفصيل؟ قالوا: الأعداد يُحمل مُجْملها على مفصَّلها؛ لأن المفصَّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض، أما المجمل فهو النهاية.
وأَعْد معي قراءة الآيات: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ... } [فصلت: 9 - 10] وهذا كله من لوازم الأرض {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ... } [فصلت: 10] أي: أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها.
فالمعنى: في تتمة أربعة أيام، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة، كما لو قلت: سِرْتُ من القاهرة إلى طنطا في ساعة، وإلى الأسكندرية في ساعتين، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين.(19/11792)
فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام، فالزمن تتمة للزمن؛ لأن الحدث يُتمِّم الحدث، إذن: المحصلة النهائية ستة أيام، وليس هناك خلاف بين الآيات {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في (فَصِّلت) .
وقوله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش. .} [السجدة: 4] الحق - سبحانه - تبارك وتعالى - يخاطب الخَلْق بما يُقرِّب الأشياء إلى أذهانهم؛ لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أنْ يستتبَّ لهم الأمر.
فمعنى {استوى. .} [السجدة: 4] صعد وجلس واستقر، كل هذه المعاني تناسب الآية، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11]
فكما أن لله تعالى وجوداً ليس كوجودك، وسَمْعاً ليس كسمعك، وفعلاً ليس كفِعْلك، فكذلك له سبحانه استواء، لكن ليس كاستوائك، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلاً عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة، كلٌّ على حسب ما يناسبه، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد، فهل نُسوِّى بينا وبين الخالق عَزَّ وَجَلَّ؟
فالمعنى إذن {ثُمَّ استوى عَلَى العرش. .} [السجدة: 4] استتبَّ له أمر الخَلْق، {مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ. .} [السجدة: 4] الوليُّ: مَنْ يليك، ويكون قريباً منك، وإليه تفزع في الأحداث، فهو ملجؤك الأول. والشفيع: الذي يشفع لك عند مَنْ يملك أمرك، فالوليُّ هو الذي ينصرك بنفسه، أمَّا الشفيع فهو يتوسط لك عند مَنْ(19/11793)
ينصرك، فليس لك وليٌّ ولا شفيع من دون الله عَزَّ وَجَلَّ.
لذلك يقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ... } [الإسراء: 67] فلا أحد ينجيكم، ولا أحدَ يُسعفكم إلا الله {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4]
كأن هذه المسألة يجب أنْ تكون على بالك دائماً، فلا تغفل عن الله؛ لأنك ابْنُ أغيار، والأحداث تتناوبك، فلا يستقرّ بك حال، فأنت بين الغِنَى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف.
لذلك تذكَّر دائماً أنه لا وليَّ ولا نصير لك إى الله، وإذا استحضرتَ ذلك دائماً اطمأنَّ قلبك، ولم لا وأنت تستند إلى ولَّ وإلى نصير لا يخذلك أبداً، ولا يتخلى عنك لحظة، فإذا خالط هذا الشعورُ قلبَك أقبلتَ على الأحداث بجسارة، وإذا أقبلتَ على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئاً؛ لأن الذي يخاف الأحداث يُضعِف قوته الفاعلة.
فمثلاً صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغاراً لا عائلَ لهم لو راجع نفسه لقال لها: وَلِمَ الخوفُ على العيال من بعدي، فهل أنا خلقتهُم، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباءً متعددين؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم، وصَدَق الذي قال مادحاً: أنتَ طِرْتَ باليُتْم إلى حَدِّ الكَمالِ
وقال آخر:
قَال ذُو الآبَاءِ لَيْتِى لاَ أبَا لِي ... ولَم لا؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أنْ يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش مَنْ له أب وأم.(19/11794)
إذن: فالإنسان حينما يعلم أن له سنداً من ألوهية قادرة وربوبية لا تُسلمه يستقبل الحوادث بقوة، ويقين، ورضا، وإيمان بأنه لن يُسْلَم أبداً ما دام له إيمان برب، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قَسْراً في وقت الشدة، حين يخذله الناس وتُعْييه الأسباب، فلا يجد إلا الله - حتى ولو كان كافراً لقال في الشدة: يارب.
وقوله تعالى: {مِّن دُونِهِ. .} [السجدة: 4] يعني: لا يوجد غيره، وإنْ وُجِد غَيْرٌ فبتحنين الله للغير عليك، فالخير أيّاً كان فمردُّه إلى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء ... } .(19/11795)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
في هذه الآية ردٌّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الله تعالى قادر وخالق، لكنه سبحانه زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، فخلق النواميس، وخلق القوانين، ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون، ونقول: لا بل هو سبحانه {يُدَبِّرُ الأمر. .} [السجدة: 5] أي: أمْر الخَلْق، وهو سبحانه قيُّوم عليه.
وإلا فما معنى {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ... } [البقرة: 255] إن قُلْنا بصحة ما تقولون؟ بل هو سبحانه خلق الكون، ويُدبِّر شئونه على عينه عَزَّ وَجَلَّ، والدليل على قيوميته تعالى على خَلْقه أنه خلق الأسباب على رتابة خاصة، فإذا أراد سبحانه خَرْق هذه الرتابة(19/11795)
بشواذ تخرج عن القوانين المعروفة كما خرق لإبراهيم - عليه السلام - قانون الإحراق، وكما خرق لموسى - عليه السلام - قانون سيولة الماء، ومسألة خَرْق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى، ودليل على أن أمر الخَلْق ما يزال في يده سبحانه.
ولو أن المسألة كما يقول الفلاسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من تلقاء نفسه، ولو كان الأمر كذلك لانطفأتْ النار التي أُلقِي فيها إبراهيم عليه السلام مثلاً.
لذلك لما سُئِل أحد العارفين عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ما شأن ربك الآن، وقد صحَّ أن القلم قد جفَّ؟ قال: أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويضع آخرين.
إذن: مسألة الخَلْق إبداء لا ابتداء، فأمور الخَلْق مُعدَّة جاهزة مُسْبقاً، تنتظر الأمر من الله لها بالظهور.
وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] فكلمة {يَقُولَ لَهُ ... } [يس: 82] تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أنْ يقول الله له: اظهر إلى حيِّز الوجود.(19/11796)
فالحق سبحانه {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض. .} [السجدة: 5] ثم تعود إليه سبحانه النتائج {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ. .} [السجدة: 5] فالله سبحانه يرسل إلى الأرض، ثم يستقبل منها؛ لأن المدبِّرات أمراً من الملائكة لكل منهم عمله واختصاصه، وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند البشر، فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل، ثم لا يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل، بل ويحاسبهم كلاً بما يستحق.
والملائكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] فالعود سيكون للملائكة، وخَطْو الملائكة ليس كخَطْوِك؛ لذلك الذي يعمله البشر في ألف سنة تعمله الملائكة في يوم.
ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان - عليه السلام - حين قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38]
وهذا الطلب من سليمان - عليه السلام - كان على ملأ من الإنس والجن، لكن لم يتكلم بشريٌّ، ولم يتصدَّ أحد منهم لهذا العمل، إنما تصدّى له عفريت، وليس جِنِّياً عادياً، والعفريت جنى ماهر له قدراته الخاصة، وإلا ففي الجن أيضاً من هو (لبخة) لا يجيد مثل هذه المهام، كما في الإنسان تماماً.
قال العفريت: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ... } [النمل: 39] وهذا يعني أنه سيتغرق وقتاً، ساعة أو ساعتين، أما الذي عنده علم من الكتاب فقال: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ... } [النمل: 40](19/11797)
يعني: في طرفة عين لما عنده من العلم؛ لذلك لما رأى سليمانُ العرشَ مستقراً عنده في لمح البصر، قال: {قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ... } [النمل: 40]
إذن: الفعل يستغرق من الزمن على قدْر قوة الفاعل، فكلما زادتْ القوة قَلَّ الزمن، وقد أوضحنا هذه المسألة في كلامنا على الإسراء والمعراج.
ومعنى: {مِّمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] أي: من سنينكم أنتم.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذلك عَالِمُ الغيب. .} .(19/11798)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
قوله تعالى {ذلك. .} [السجدة: 6] إشارة إلى تدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم متابعة الأمر ونتائجه، هذا كله لأنه سبحانه {عَالِمُ الغيب والشهادة. .} [السجدة: 6] وأنه سبحانه {العزيز الرحيم} [السجدة: 6] فالحق سبحانه يُعلِّمنا أن الآمر لا بد أنْ يتابع المأمور.
وقلنا: إن عالم الغيب تعني أنه بالأوْلى يعلم الشهادة، لكن ذكر الحق سبحانه علمه بالشهادة حتى لا يظن أحد أن الله غَيْب، فلا يعلم إلا الغيب، وقد بيَّنّا معنى الشهادة هنا حينما تكلَّمنا عن قوْل الله تعالى: {يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110]
والجهر أو الشهادة يعني الجهر المختلط حين تتداخل الأصوات، فلا تستطيع أنْ تُميِّزها، مع أنها جهر أمامك وشهادة، أما الحق سبحانه فيعلم كل صوت، ويردُّه إلى صاحبه، فعِلْم الجهر هنا أقوى من علم الغيب.(19/11798)
ومعنى {العزيز. .} [السجدة: 6] أي: الذي لا يُغلَب ولايُقهر، فلا يلويه أحد من علمه، ولا عن مراداته في كَوْنه، ومع عِزَّته فهو سبحانه (الرحيم) .(19/11799)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
الخَلْق إيجاد من عدم بحكمة، ولغاية ومهمة مرسومة، وليس عَبَثاً هكذا يخلق الأشياء كما اتفق، فالخالق - عَزَّ وَجَلَّ - قبل أنْ يخلق يعلم ما يخلق، ويعلم المهمة التي سيؤديها؛ لذلك يخلق سبحانه على مواصفات تحقق هذه الغاية، وتؤدي هذه المهمة.
وقد يُخيَّل لك أن بعض المخلوقات لا مهمةَ لها في الحياة، أو أن بعضها كان من الممكن أنْ يُخلَق على هيئة أفضل مما هي عليها.
ونذكر هنا الرجل الذي تأمل في كون الله فقال: ليس في الإمكان أبدعُ مما كان. والولد الذي رأى الحداد يأخذ عيدان الحديد المستقيمة، فيلويها ويُعْوِجها، فقال الولد لأبيه: لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها؟ فعلَّمه الوالد أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها، وتأمل مثلاً الخطَّاف وآلة جمع الثمار من على الأشجار، إنها لو كانت مستقيمة لما أدَّتْ مهمتها.
وفي ضوء هذه المسألة نفهم الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن النساء: «إنهن خُلِقْنَ من ضلع، وإن أعوج ما في(19/11799)
الضلع أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمه كسرته، وإنْ تركته لم يَزَلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء» .
وحين تتأمل الضلوع في قفصك الصدري تجد أنها لا تؤدي مهمتها في حماية القلب والرئتين إلا بهذه الهيئة المعْوَجة التي تحنو على أهم عضوين في جسمك، فكأن هذا الاعوجاج رأفة وحُنُو وحماية، وهكذا مهمة المرأة في الحياة، ألاَ تراها في أثناء الحمل مثلاً تترفق بحملها وتحافظ عليه، وتحميه حتى إذا وضعتْه كانت أشدَّ رفقاً، وأكثر حناناً عليه؟
إذن: هذا الوصف من رسول الله ليس سُبَّة في حق النساء، ولا إنقاصاً من شأنهن؛ لأن هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المتمم لمهمتها؛ لذلك نجد أن حنان المرأة أغلب من استواء عقلها، ومهمة المرأة تقتضي هذه الطبيعة، أما الرجل فعقله أغلب ليناسب مهمته في الحياة، حيث يُنَاط به العمل وترتيب الأمور فيما وُلِّي عليه.
إذن: خلق الله كلاً لمهمة، وفي كل مِنَّا مهما كان فيه من نقص ظاهر - مَيْزة يمتاز بها، فالرجل الذي تَراه لا عقلَ له ولا ذكاءَ عنده تقول: ولماذا خلق الله مثل هذا؟ لكن تراه قويَّ البنية، يحمل من الأثقال والمشاقّ ما لا تتحمله أنت، والرجل القصير مثلاً، ترى أنت عيبه في قِصَر قامته، لكن يراها غيرك ميزة من مزاياه، وربما استدعاه للعمل عنده لهذه الصفة فيه.
وحين تتأمل مثلاً عملية التعليم، وتقارن بين أعداد التلاميذ في(19/11800)
المرحلة الابتدائية، وكم منهم يصل إلى مرحلة التعليم العالي. وكم منهم يتساقطون في الطريق؟ ولو أنهم جميعاً أخذوا شهادات عليا لما استقام الحال، وإلاَّ فمَر للمهن المتواضعة والحرف وغيرها.
إذن: لا بُدَّ أنْ يوجد هذا التفاوت؛ لأن العقل الواحد يحتاج إلى آلاف ينفذون خطته، وقيمة كل امرئ ما يُحسنه مهما كان عمله.
لذلك قلنا: إنه لا ينبغي لأحد أنْ يتعالى على أحد؛ لأنه يمتاز عنه في شيء ما، إنما ينظر فيما يمتاز به غيره؛ لأن الخالق عَزَّ وَجَلَّ وزّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ويكفي أن تقرأ قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ ... } [الحجرات: 11]
فالله تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. .} [السجدة: 7] لأن لكل مخلوق مهمة مُهيّأ لها، وتعجب من تصاريف القدر في هذه المسألة فتجد أخوين، يعمل أحدهما في العطور، ويعمل الآخر في الصرف الصحي، وتجد هذا راضياً بعمله، وهذا راضٍ بعمله.
حتى أنك تجد الناس الذين خلقهم الله على شيء من النقص أو الشذوذ حين يرضى الواحد منهم بقسمة الله له وقدره فيه يسود بهذا النقص، أو بهذا الشذوذ، وبعضنا لاحظ مثلاً الأكتع إذا ضرب شخصاً بهذه اليد الكتعاء، كم هي قوية {وكم يخافه الناس لأجل قوته} وربما يجيد من الأعمال ما لا يجيده الشخص السوَّي.
فإنْ قلتَ: إذا كان الخالق سبحانه أحسن كل شيء خلقه، فما بال الكفر، خلقه الله وما يزال موجوداً، فأيُّ إحسان فيه؟
نقول: والله لولا طغيان الكافرين ما عشق الناسُ الإيمانَ، كما أنه لولا وجود الظلم والظالمين لما شعر الناس بطَعْم العدل. إذن:(19/11801)
فالحق سبحانه يخلق الشيء، ويخلق من ضده دافعاً له.
ثم يقول سبحانه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} [السجدة: 7] فالإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات بدأه الله من الطين، وهو أدنى أجناس الوجود، وقلنا: إن جميع الأجناس تنتهي إلى خدمة الإنسان. الحيوان وهو أقربها للإنسان، ثم النبات، ثم الجماد، ومن الجماد خُلِق الإنسان.
وقد عوَّض الله عَزَّ وَجَلَّ الجماد الخادم لباقي الأجناس حين أمر الإنسان المكرَّم بأن يُقبِّله في فريضة كُتبت عليه مرة واحدة في العمر، وهي فريضة الحج، فأمره أن يُقبِّل الحجر الأسود، وأنْ يتعبد لله تعالى بهذا التقبيل؛ لذلك يتزاحم الناس على الحجر، ويتقاتلون عليه، وهو حجر، وهم بشر كرَّمهم الله، وما ذلك إلا ليكسر التعالي في النفس الإنسانية، فلا يتعالى أحد على أحد.
وسبق أنْ بيّنا أن المغرضين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله قالوا: إن الله تعالى قال في مسألة الخَلْق مرة {مِّن مَّآءٍ ... } [المرسلات: 20] ومرة {مِن تُرَابٍ ... } [الكهف: 37] ومرة {مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ومرة {مِن صَلْصَالٍ ... } [الحجر: 33] ومرة {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] . . الخ، فأيُّ هذه العناصر أصل للإنسان؟
وقلنا: إن هذه مراحل مختلفة للشيء الواحد، والمراحل لا تقتضي النية الأولية، فالماء والتراب يُكوِّنان الطين، فإذا تُرك الطين حتى تتغير رائحته فهو الحمأ المسنون، فإذا تُرك حتى يجفَّ ويتجمد فهو الصلصال، فهذه العناصر لا تعارض بينها، ويجوز لك أنْ تقول: إن الإنسان خُلِق من ماء، أو من تراب، أو من طين.
. . إلخ.
والمراد هنا الإنسان الأول، وهو سيدنا آدم - عليه السلام - ثم(19/11802)
أخذ الله سلالته من ماء مهين، والسلالة هي خلاصة الشيء، فالخالق سبحانه خلقنا أولاً من الطين، ثم جعل لنا الأزواج والتناسل الذي نتج عنه رجال ونساء.
ثم يحتفظ الخالق سبحانه لنفسه بطلاقة القدرة في هذه المسألة، وكأنه يقول لك: إياك أنْ تفهم أنني لا أخلق إلا بالزوجية، إنما أنا أستطيع أنْ أخلق بلا زوجية كما خلقْتُ آدم، وأخلق من رجل بلا امرأة كما خلقتُ حواء، وأخلق من امرأة بلا رجل كما خلقتُ عيسى عليه السلام.
وقد تتوفر علاقة الزوجية ويجعلها الله عقيماً لا ثمرةَ لها، وهكذا تناولت طلاقة القدرة كل ألوان القسمة العقلية في هذه المسألة، واقرأ إنْ شئتَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]
إذن: هذه مسألة طلاقة قدرة للخالق سبحانه، وليست عملية (ميكانيكية) ، لأنها هِبَة من الله {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً ... } [الشورى: 49] ولاحظ أن الله قدَّم هنا الإناث، وهم الجنس الذي لا يفضِّله الناس أن يُولد لهم، ولكن تجد الذي يرزقه الله بالبنت فيفرح بها، ويعلم أنها هِبَة من الله يُعوِّضه الله بزوج لها يكون أطوعَ له من ولده.
كما أنه لو رضي صاحب العُقْم بعُقْمه، وعلم أنه هِبَة من الله لَعَّوضه الله في أبناء الآخرين، وشعر أنهم جميعاً أبناؤه، ولماذا نقبل هبة الله في الذكور وفي الإناث، ولا نقبل العقم، وهو أيضاً هبة الله؟
ثم ألستَ ترى من الأولاد مَنْ يقتل أباه، ومَنْ يقتل أمه؟ إذن:(19/11803)
المسألة تحتاج منّا إلى الرضا والتسليم والإيمان بأن العُقْم هبة، كما أن الإنجاب هبة.
ثم إن خَلْق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين جاء من البداية على صورته التامة الكاملة، فخلقه الله رجلاً مستوياً، فلم يكُنْ مثلاً طفلاً ثم كبر وجرتْ عليه سنة التطور، لا إنما خلقه الله على صورته، أي: على صورة آدم.
والبعض يقول: خلق الله آدم على صورته أي على صورة الحق، فالضمير يعود إلى الله تعالى، والمراد: على صورة الحق لا على حقيقة الحق، فالله تعالى حيٌّ يَهَب من حياته حياة، والله قوي يهب من قوته قوة، والله غنيٌّ يهب من غِنَاه غِنَي، والله عليم يَهبُ من علمه علماً.
لذلك قيل: «تخلَّقوا بأخلاق الله» ؛ لأنه سبحانه وهبكم صفات من صفات تجلِّيه، وقد وهبكم هذه الصفات، فاجعلوا للصفة فيكم مزية وتخلَّقوا بها، فمثلاً كُنْ قوياً على الظالم، ضعيفاً متواضعاً للمظلوم، على حَدِّ قول الله تعالى في صفات المؤمنين: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29]
وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين ... } [المائدة: 54]
وهذه الصفات المتناقصة تجتمع في المؤمن؛ لأنه ليس له طبع واحد، إنما الموقف والتكليف هو الذي يصبغه ويلويه إلى الصفة المناسبة.(19/11804)
وقلنا: إن علماء التحاليل في معاملهم أثبتوا صِدْق القرآن في هذه الحقيقة، وهي خَلْق الإنسان من طين حينما وجدوا أن العناصر المكوِّنه لجسم الإنسان هي ذاتها العناصر الموجودة في التربة، وعددها 16 عنصراً، أقواها الأكسوجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم النيتروجين، ثم الصوديوم، ثم الماغنسيوم، ثم البوتاسيوم. . الخ.(19/11805)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
النسل هو الأنجال والذرية، والسلالة: خلاصة الشيء تُسلُّ منه كما يُسلُّ السيف من غمده، فالسلالة هي أجود ما في الشيء، ولذلك نقول: فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد. يعني: في مقام المدح. حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها.
هذا النسل وهذه السلالة خلقها الله من ماء، وهو منيٌّ الرجل وبويضة المرأة.
هذا الماء وصفه الله بأنه {مَّهِينٍ} [السجدة: 8] لأنه يجري في مجرى البول، ويذهب مذهبه إذا لم يصل إلى الرحم، وفي هذا الماء المهين عجائب، ويرحم الله العقاد حين قال: إن أصول ذرات العالم(19/11805)
كله يمكن أن تُوضع في نصف كستبان الخياطة، وتأمل كم يقذف الرجل في المرة الواحدة من هذا المقدار؟ إذن: المسألة دقة تكوين وعظمة خالق، ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل، فهي تحمل: لونه، وجنسه، وصفاته. . الخ.
وسبق أن قلنا في عالم الذر: إن في كل منا ذرة وجزيئاً حياً من لَدُنْ أبيه آدم عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ ... } .(19/11806)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
وهذه التسوية كانت أولاً للإنسان الأول الذي خلقه الله من الطين، كما قال سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وقد مَرَّ آدم - عليه السلام - في هذه التسوية بالمراحل التي ذكرت، كذلك الأمر في سلالته يُسوِّيها الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - وتمر بمثل هذه المراحل: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. . الخ، ثم تُنفخ فيه الروح.
وإذا كان الإنسان لم يشهد كيفية خَلْقه، فإن الله تعالى يجعل من المشَاهد لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا، فإنْ كنَّا لم نشهد الخَلْق فقد شاهدنا الموت، والموت تَقْضٌ للحياة وللخَلْق، ومعلوم أن نَقْض(19/11806)
الشيء يأتي على عكس بنائه، فإذا أردنا مثلاً هدم عمارة من عدة أدوار فإن آخر الأدوار بناءً هو أول الأدوار هدماً.
كذلك الحال في الموت، أول شيء فيه خروج الروح، وهي آخر شيء في الخَلْق، فإذا خرجت الروح تصلَّب الجسد، أو كما يقولون (شضَّب) ، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة الصلصالية، ثم يُنتن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم يتحلل هذا الجسد ويتبخر ما فيه من مائية، وتبقى بعض العناصر التي تتحول إلى تراب ليعود إلى أصله الأول.
إذن: خُذْ من رؤيتك للموت دليلاً على صِدْق ربك - عَزَّ وَجَلَّ - فيما أخبرك به من أمر الخَلْق الذي لم تشهده.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. .} [السجدة: 9] سبق أن تكلمنا عن هذه الأعضاء، وقد قرر علماء وظائف الأعضاء مهمة كل عضو وجارحة، ومتى تبدأ هذه الجارحة في أداء مهمتها، وأثبتوا أن الأذن هي الجارحة الأولى التي تؤدي مهمتها في الطفل، بدليل أنك إذا وضعتَ أصبعك أمام عين الطفل بعد ولادته لا (يرمش) ، في حين يفزع إنْ أحدثت َ بجواره صوتاً: ذلك لأنه يسمع بعد ولادته مباشرة، أما الرؤية فتتأخر من ثلاثة إلى عشرة أيام.
لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم، وبها يتم الاستدعاء، أما العين فلا تعمل أثناء النوم.(19/11807)
وهذه المسألة أوضحها الحق سبحانه في قصة أهل الكهف، فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة، والكهف في صحراء بها أصوات الرياح والعواصف والحيوانات المتوحشة؛ لذلك ضرب الله على آذانهم وعطَّل عندهم هذه الحاسة كما قال سبحانه: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] .
إذن: الأذن هي أول الأعضاء أداءً لمهمتها، ثم العين، ثم باقي الأعضاء، وآخرها عملاً الأعصاب، بدليل أن الطفل تصل حرارته مثلاً إلى الأربعين درجة، ونراه يجري ويلعب دون أن يشعر بشيء، لماذا؟ لأن جهازه العصبي لم ينضج بَعْد، فلا يشعر بهذه الحرارة.
لذلك نجد دائماً القرآن يُقدِّم السمع على البصر، ويتقدم البصرَ إلا في آية واحدة هي قوله تعالى: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ... } [السجدة: 12] لأنها تصور مشهداً من مشاهد القيامة وفيه يفاجأ الكفار بأهوال القيامة، ويأخذهم المنظر قبل أنْ يسمعوا الصوت حين ينادي المنادي.
ومن عجائب الأداء البياني في القرآن أن كلمة أسماع يقابلها أبصار، لكن المذكور هنا: {السمع والأبصار. .} [السجدة: 9] فالسمع مفرد، والأبصار جمع، فلماذا أفرد السمع وجمع البصر؟
قالوا: لأن الأذن ليس لها غطاء يحجب عنها الأصوات، كما أن للعين غطاءً يُسْدل عليه ويمنع عنها المرئيات، فإن فهو سمع واحد لي ولك وللجميع، الكل يسمع صوتاً واحداً، أما المرئيات فمتعددة، فما تراه أنت قد لا أراه أنا.(19/11808)
ولم يأْتِ البصر مفرداً - في هذا السياق - إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى، فلا بُدَّ أنْ يكون واحداً.
ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخَلْق؛ لأن الإنسان يُولَد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الإسراء: 78]
إذن: فهذه الأعضاء ضرورية لوجود الإنسان الخليفة في الأرض، وبها يتعايش مع غيره، ولا بُدَّ له من اكتساب المعلومات، وإلاَّ فكيف سيتعايش مع بيئته؟
وقلنا: إن الإنسان لكي يتعلم لا بُدَّ له من استعمال هذه الحواس المدركة، كل منها في مناطه، فاللسان في الكلام، والعين في الرؤية، والأذن في السمع، والأنف في الشم، والأنامل في اللمس.
وقلنا: إن هذه الحواس هي أمهات الحواس المعروفة، حيث عرفنا فيما بعد حواسَّ أخرى؛ لذلك احتاط العلماء لهذا التطور، فأطلقوا على هذه الحواس المعروفة اسم «الحواس الظاهرة» ، وبعد ذلك عرفنا حاسة البَيْن التي نعرف بها رقَّة القماش وسُمْكه، وحاسة العضل التي نعرف بها الثقل.
إذن: حينما يُولَد الإنسان يحتاج إلى هذه الحواس ليتعايش بها ويدرك ويتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه، ولو أن الإنسان يعيش وحده ما احتاج مثلاً لأنْ يتكلم، لكنه يعيش بطبيعته مع الجماعة،(19/11809)
فلا بُدَّ له أن يتكلم ليتفاهم معهم، وقبل ذلك لا بُدَّ له أنْ يسمع ليتعلم الكلام.
وعرفنا سابقاً أن اللغة وليدة السماع، فالطفل الذي يُولَد في بيئة عربية ينطق بالعربية، والذي يعيش في بيئة إنجليزية ينطق الإنجليزية وهكذا، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، فإذا لم تسمع الأذن لا ينطق اللسان.
لذلك سبق أن قلنا في سورة البقرة في قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ ... } [البقرة: 18] أن البَكَم وهو عدم الكلام نتيجة الصمم، وهو عدم السماع، فالسمع - إذن - هو أول مهمة في الإنسان، وهو الذي يعطيني الأرضية الأولى في حياتي مع المجتمع من حولي.
ومعلوم أن تعلُّم القراءة مثلاً يحتاج إلى معلم أسمع منه النطق، فهذه ألف، وهذه باء، هذه فتحة، وهذه ضمة. . الخ، فإذا لم أسمع لا أستطيع النطق الصحيح، ولا أستطيع الكتابة.
وبالسماع يتم البلاغ عن الله من السماء إلى الأرض؛ لذلك تقدَّم ذِكْر السمع على ذِكْر البصر.
والحق سبحانه لما تكلَّم عن السمع بهذه الصورة قال: أنا سأُسْمع أسماء الأشياء، فهذه أرض، وهذه سماء. . الخ، لذلك حينما نُعلِّم التلميذ نقول له: هذه عين، وهذه أذن.
وبعد أنْ يتعلم التلميذ من مُعلِّمه القراءة يستطيع بعد ذلك أنْ يقرأ بذاته، فيحتاج إلى حاسّة البصر في مهمة القراءة، فإذا أتم تعليمه واستطاع أن يصحح قراءته بنفسه، واختمرت عنده المعلومات التي اكتسبها بسمعه وبصره استطاع أنْ يقرأ أشياء أخرى غير التي قرأها(19/11810)
له معلمه، واستطاع أن يربي نفسه ويُعلِّمها حتى تتكون عنده خلية علمية يستحدث من خلالها أشياء جديدة، ربما لا يعرفها معلمه، وهذه مهمة الفؤاد {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. .} [السجدة: 9]
فالمعاني تتجمع بهذه الحواس، حتى يصير الإنسان سَوياً لديه الملَكة التي يتعلم بها، ثم يُعلِّم هو غيره.
واللغة المنطوقة لا تُتعلَّم إلابالسماع، فأنا سمعت من أبي، وأبي سمع من أبيه، وتستطيع أنْ تسلسل هذه المسألة لتصل إلى آدم عليه السلام أبي البشر جميعاً، فإنْ قلتَ: فممَّنْ سمع آدم؟ نقول: سمع الله حينما علَّمه الأسماء كلها: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]
وهذا أمر منطقي؛ لأن اللغة المسموعة بالأذن لا يمكن لأحد اختراعها، ومع ذلك يوجد مَنْ يعترض على هذه المسألة، يقول: هذا يعني أن اللغة توقيفية، لا دخْلَ لنا فيها. بمعنى: أننا لا نستحدث فيها جديداً.
ونقول: نعم، اللغة أمر توقيفي، لكن أعطى الله آدم الأسماء وعلَّمه إياها، وبهذه الأسماء يستطيع أنْ يتفاهم على وضع غيرها من الأسماء في المعلومات التي تستجد في حياته.(19/11811)
وإلا، فكيف سمَّينْا (الراديو والتليفزيون. . الخ) وهذه كلها مُستجدات لا بُدَّ لها من أسماء، والاسم لا يوجد إلا بعد أنْ يوجد مُسمَّاة، وهذه مهمة المجامع اللغوية التي تقرر هذه الأسماء، وتوافق على استخدامها، وقد اصطلح المَجْمع على تسمية الهاتف: مسرة. والتليفزيون: تلفاز. . الخ.
إذن: أتينا بهذه الألفاظ واتفقنا عليها؛ لأنها تعبر عن المعاني التي نريدها، وهذه الألفاظ وليدة الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام، فاللغة بدأت توقيفية، وانتهت وضعية.
وقوله تعالى بعد هذه النعم: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] دليل على أن هذه النعم تستوجب الشكر، لكن قليل منَّا مَنْ يشكر، وكان ينبغي أن نشكر المنعم كلما سمعنا، وكلما أبصرنا، وكلما عملتْ عقولنا وتوصلتْ إلى جديد.
لذلك، كان شكر المؤمن لربه لا ينتهي، كما أن أعياده وفرحته لا تنتهي، فنحن مثلاً نفرح يوم عيد الفطر بفطرنا وبأدائنا للعبادة التي فرضها الله علينا، وفي عيد الأضحى نفرح؛ لأن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - تحمَّل عنَّا الفداء بولده، لكي يعفينا جميعاً من أنْ يفدي كل منَّا، ويتقرب إلى الله بذبح ولده، وإلا لكانت المسألة شاقة علينا؛ لذلك نفرح في عيد الأضحى، ونذبح الأضاحي، ونؤدي النُّسُك في الحج.
وما دام المؤمن ينبغي له أن يفرح بأداء الفرائض وعمل الطاعات، فلماذا لا نفرح كلما صلَّينا أو صُمْنا أو زكَّيْنا؟ لماذا لا نفرح عندما نطيع الله بعمل المأمورات، وترْك المنهيات؟ لماذا لا نفرح في الدنيا حتى يأتي يوم الفرح الأكبر، يوم تتجمع حصيلة هذه الأعمال، وننال ثوابها الجنة ونعيمها؟(19/11812)
واقرأ إن شئت قول ربك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 9 - 10](19/11813)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
معنى {ضَلَلْنَا فِي الأرض. .} [السجدة: 10] أي: غِبْنا فيها، واندثرتْ ذراتنا، بحيث لا نعرف أين ذهبت، وإلى أيِّ شَيء انتقلت، إلى حيوان أم إلى نبات؟ إذا حدث هذا {أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. .} [السجدة: 10] يعني: أيخلقنا الله من جديد مرة أخرى؟
والحق سبحانه يرد عليهم: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] بل تفيد الإضراب عن كلامهم السابق، وتقرير حقيقة أخرى، هي أنهم لا ينكرون البعث والحشر، إنما ينكرون لقاء الله {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} [السجدة: 10] لأن مسألة الحشر مستحيل أنْ ينكروها؛ لأن الدليل عليها واضح.
كما قال سبحانه: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] والذي خلق من العدم أولاً قادر على الإعادة من موجود، لأن ذراتك وخاماتك موجودة، فالإعادة أسهل من البَدْء؛(19/11813)
لذلك قال سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ... } [الروم: 27]
إذن: تكذيبهم ليس للبعث في حَدِّ ذاته، إنما للقاء الله وللحساب، لكنهم ينكرون البعث؛ لأنه يؤدي إلى لقاء الله، وهم يكرهون لقاء الله، فينكرون المسألة من بدايتها.(19/11814)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
تلحظ هنا أنهم يتكلمون عن البعث {وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [السجدة: 10] ومعلوم أن البعث إيجاد حياة، فإذا بالقرآن يُحدِّثهم عن الوفاة، وهي نقْضٌ للحياة، ليُذكِّرهم بهذه الحقيقة.
ومعنى {يَتَوَفَّاكُم. .} [السجدة: 11] من توفيت دَيْناً من المدين. أي: أخذتهُ كاملاً غيرَ منقوص، والمراد هنا الموت، والتوفِّي يُنسَب مرة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]
ويُنسَب لملك الموت {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ... } [السجدة: 11] ويُنسب إلى أعوانه من الملائكة {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]
لأن مسألة الموت أمرها الأعلى بيد الخالق سبحانه، فهو وحده واهب الحياة، وهو وحده صاحب الأمر في نَقْضها وسَلْبها من صاحبها؛ لذلك حرَّم الله القتل، وجعل القاتل ملعوناً؛ لأنه يهدم(19/11814)
بنيان الله، فإذا قدَّر الله على إنسان الموت إذِن لملَك الموت في ذلك، وهو عزرائيل.
إذن: هذه المسألة لها مراحل ثلاث: التوفِّي من الله يأمر به عزرائيل، ثم يأمر عزرائيلُ ملائكته الموكِّلين بهذه المسألة، ثم ينفذ الملائكةُ هذا الأمر.
وتأمل لفظة {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ... } [الأنعام: 61] أي: أخذتْه كاملاً، فلم يقُلْ: أعدمتُه مثلاً؛ لذلك نقول قُبضت روحه أي: ذهبتْ إلى حيث كانت قبل أن تُنفخ فيه، ذهبت إلى الملأ الأعلى، ثم تحلَّل الجسد وعاد إلى أصله، وذاب في الأرض، جزئية هنا وجزئية هناك، كما قالوا: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [السجدة: 10]
فالذي يُتوفَّى لم يُعدم، إنما هو موجود وجوداً كاملاً، روحه وجسده، والله قادر على إعادته يوم القيامة؛ لذلك لم يقُلْ أعدمنا. وهذه المسألة تحلُّ لنا إشكالاً في قصة سيدنا عيسى - عليه السلام - فقد قال الله فيه: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ... } [آل عمران: 55]
فالبعض يقول: إنه عليه السلام تُوفِّي أولاً، ثم رفعه الله إليه. والصواب أن واو العطف هنا تفيد مطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، واقرأ إنْ شئتَ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ ... } [الأحزاب: 7]
والخطاب هنا للنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونوح عليه السلام قبله.(19/11815)
فالمعنى هنا أن الله تعالى قدَّم الوفاة على الرفع، حتى لا يظن أحد أن عيسى - عليه السلام - تبرأ من الوفاة، فقدَّم الشيء الذي فيك شكٌّ أو جدال، وما دام قد توفّاه الله فقد أخذه كاملاً غير منقوص، وهذا يعني أنه لم يُصْلَب ولم يُقتل، إنما رفعه الله إليه كاملاً.
وقوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت. .} [السجدة: 11] جاءت ردّا على قولهم: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [السجدة: 10] فالحق الذي قال أنا خلقتُ الإنسان لم يقُلْ وأنا سأعدمه إنما سأتوفاه، فهو عندي كاملٌ بروحه وبذراته التكوينية، والذي خلق في البَدْء قادر على الإعادة، وجمع الذرات التي تشتتت.
وقوله عن ملك الموت {الذي وُكِّلَ بِكُمْ. .} [السجدة: 11] أي: يرقبكم ولا يغفل عنكم، يلازمكم ولا ينصرف عنكم، بحيث لا مهربَ منه ولا فكَاك، كما قال أهل المعرفة: الموت سهم انطلق إليك فعلاً، وعمرك بمقدار سفره إليك، فهو واقع لا محالة. كما قلنا في المصيبة وأنها ما سُمّيت مصيبة إلا أنها ستصيبك لا محالة.
وقوله: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] أي: يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون ... } .(19/11816)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
تصوِّر لنا هذه الآية مشهداً من مشاهد يوم القيامة، يوم يُساق(19/11816)
المجرم ذليلاً إلى ما يستحق من العذاب، كأنْ ترى مجرماً مثلاً تسوقه الشرطة وهو مُكبِّل بالقيود يذوق الإهانة والمذلّة، فتشفى نفسك حين تراه ينال جزءاه بعد أنْ أتعب الدنيا وأداخ الناس.
وفي هذا المشهد يخاطب الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أول مخاطب، ثم يصبح خطاباً لأمته: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ. .} [السجدة: 12] أي: حالة وجودهم أنهم ناكسو رءوسهم. وتقدير جواب الشرط: لرأيتَ أمراً عجيباً يشفى صدرك مما فعلوه بك.
ونلحظ في هذا الأسلوب دقة الأداء في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى. .} [السجدة: 12] فلم يقل مثلاً: ولو تعلم؛ لأن إخبار الله كأنه رؤيا العين، فحين يخبرك الله بأمر، فاعلم أنه أصدق من عينك حين ترى؛ لأن عينك قد تخدعك، أما إخبار الله لك فهو الحق.
ومعنى {نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ. .} [السجدة: 12] النكس هو جَعْل الأعلى أسفل، والرأس دائماً في الإنسان أعلى شيء فيه.
وقد وردتْ هذه المادة في قوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام حين حطم الأصنام، وعلَّق الفأس على كبيرهم: {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65]
فبعد أنْ عادوا إلى رشدهم واتهموا أنفسهم بالظلم انتكسوا وعادوا إلى باطلهم، فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 65]
وورد هذا اللفظ أيضاً في قوله تعالى: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} [يس: 68](19/11817)
والمعنى: نرجعه من حال القوة والفتوة إلى حال الضعف والهرم وعدم القدرة، كما قال سبحانه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ... } [النحل: 70]
فبعد القوة يتكئ على عصا، ثم لا يستطيع السير فيحبو، أو يُحمل كما يُحمل الطفل الصغير، هذا هو التنكيس في الخَلْق، وحين نتأمله نقول: الحمد لله لو عافانا من هذه الفترة وهذه التنكيسة، ونعلم أن الموت لُطْف من الله ورحمة بالعباد، أَلاَ ترى أن مَنْ وصل إلى هذه المرحلة يضيق به أهله، وربما تمنَّوْا وفاته ليستريح وليستريحوا؟
وتنكيس رءوس المجرمين فيه إشارة إلى أن هذه هي العاقبة فاحذر المخالفة، فمَنْ تكبر وتغطرس في الدنيا نُكِّسَتْ رأسه في الآخرة، ومَنْ تواضع لله في الدنيا رُفِعت رأسه، وهذا معنى الحديث الشريف: «من تواضع لله رفعه» .
وفي تنكيس رءوس المجرمين يوم القيامة معنى آخر؛ لأن الحق - سبحانه وتعالى - سيفعل في كل مخالف في الآخرة من جنس ما فعل في الدنيا، وهؤلاء الذين نكَّس الله رءوسهم في الاخرة فعلوا ذلك في الدنيا، واقرأ إن شئتَ قول ربك: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ... } [هود: 5]
أي: يطأطئون رءوسهم؛ لكي لا يواجهوا رسول الله، فللحق صَوْلة وقوة لا يثبت الباطل أمامها؛ لذلك نسمع من أصحاب الحق:(19/11818)
تعالَ واجهني، هات عيني في عينك، ولا بُدَّ أنْ يستخزي أهل الباطل، وأنْ يجبنوا عن المواجهة؛ لأنها ليست في صالحهم.
وهذا العجز عن المواجهة يدعو الإنسان إلى ارتكاب أفظع الجرائم، ويصل به إلى القتل، والقتل لا يدل على القوة، إنما يدل على عجز وضعف وجُبْن عن المواجهة، فالقاتل أقرَّ بأنه لا يستطيع أنْ يواجه حياة عدوه فقتله، ولو كان قوياً لواجه حياته.
ومن العذاب الذي يأتي من جنس ما فعل الإنسان في الدنيا قول الله تعالى في الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35]
سبحان الله، كأنها صورة طبق الأصل مما فعلوه في الدنيا، فالواحد منهم يأتيه طالب العطاء فيعبس في وجهه، ثم يُعرض عنه، ويعطيه جنبه، ثم يعرض عنه ويعيطه ظهره، ويأتي العذاب بنفس هذا التفصيل. إذن: فعلى العاقل أن يحذر هذه المخالفات، فمن جنسها يكون العذاب في الآخرة.
وهؤلاء المجرمون حال تنكيسهم يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] هذا كلامهم، ومع ذلك لم يقل القرآن: قالوا أبصرنا وسمعنا، فحَذْف الفعل هنا يدل على أن القول ليس سهلاً عليهم؛ لأنه إقرار بخطئهم الأول وإعلان لذَّلة التوبة.
وقلنا: إن هذه هي الآية الوحيدة التي تقدَّم فيها البصر على السمع؛ لأن الساعة حين تأتي بأهوالها نرى الهول أولاً، ثم نسمع ما نراه.(19/11819)
لذلك يقول تعالى مُصوِّراً أثر هذا الهول: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2]
وفي معرض حديثنا السابق عن الحواس: السمع والبصر والفؤاد فاتنا أنْ نذكر آية مهمة جاءت على غير هذا الترتيب، وهي قول الله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7]
فجاء الفؤاد هنا أولاً، وجمع الفؤاد مع السمع في الختم لأنهما اشتركا فيه، أما البصر فاختص بشيء آخر، وهو الغشاوة التي تُغطِّي أبصارهم؛ ذلك لأن الآية السابقة في السمع والبصر والفؤاد كانت عطاءً من الله، فبدأ بالسمع، ثم البصر، ثم ترقى في العطاء إلى الفؤاد، لكن هنا المقام مقام سلب لهذه النعم، فيسلب الأهم أولاً، فأتى بالفؤاد ثم السمع ثم الأبصار.
لكن أي شيء أبصروه؟ وأي شيء سمعوه في قولهم {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] ؟ أول شيء يبصره الكافر يوم القيامة {وَوَجَدَ الله عِندَهُ ... } [النور: 39] وحده سبحانه ليس معه شريك من الشركاء الذين عبدوهم في الدنيا، وليس لهم من دونه سبحانه وليٌّ، ولا شفيع، ولا نصير.
ومعنى {وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] أي: ما أنزلته يا رب على رسولك، ونشهد أنه الحق وصدَّقنا الرسول في البلاغ عنك، وأنه(19/11820)
ليس مُفْترياً، ولا هو شاعر، ولا هو ساحر، ولا هو كذاب.
لكن، ما فائدة هذا الاعتراف الآن؟ وبماذا ينفعهم وهو في دار الحساب؟ لا في دار العمل والتكليف؟! وما أشبه هذا الاعتراف باعتراف فرعون قبل أنْ يغرق: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ ... } [يونس: 90] لذلك ردَّ الله عليه: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91]
فقولهم: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] إقرار منهم بأنهم كانوا على خطأ، وأنهم يرغبون في الرجوع إلى الصواب، كما قال سبحانه في موضع آخر: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ... } [المؤمنون: 99 - 100] ، وردَّ الله عليه: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 100]
ثم كشف حقيقة أمرهم: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]
وهنا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهل يكون اليقين في هذا الموقف؟ اليقين إنما يكون بالأمر الغيبي، وأنتم الآن في اليقين الحسيِّ المشَاهدَ، فهو إذن يقين لا يُجدى.(19/11821)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا ... } .(19/11822)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
هنا قد يسأل سائل: لماذا جعل الله الناسَ: مؤمناً وكافراً، وطائعاً وعاصياً؟ لماذا لم يجعلنا جميعاً مهتدين طائعين؟ أهذا صعب على الله سبحانه؟ لا، ليس صعباً على الله تعالى، بدليل أنه خلق الملائكة طائعين مُنفِّذين لأوامره سبحانه {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
كذلك الأرض والسماء والجبال. . الخ، كلها تُسبِّح الله وتعبده {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ... } [النور: 41]
وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... } [الإسراء: 44] ، وبعد ذلك يعطي الله تعالى لبعض خَلْقه معرفة هذا التسبيح، كما قال في حق داود عليه السلام: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ ... } [الأنبياء: 79]
نعم، هي تُسبِّح أيضاً مع غير داود، لكن الميزة أنها تشترك معه في تسبيح واحد، كأنهم (كورس) يرددون نشيداً واحداً.
وعرفنا في قصة الهدهد وسليمان - عليه السلام - أنه كان يعرف قضية التوحيد على أتمَّ وجه، كأحسن الناس إيماناً بالله، وهو الذي قال عن بلقيس ملكة سبأ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24](19/11822)
وقال {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25]
والحق سبحانه وتعالى - حينما يريد أنْ يُدلِّل لخَلْقه على قدرته يجعل من الضعف قوة، ومن القوة ضعفاً، وانظر إلى حال المؤمنين الأوائل، وكم كانوا أذلة مستضعفين، فلما أسلموا رفعهم الله بالإسلام وجعلهم سادة.
ومشهورة قصة الصِّدِّيق أبي بكر لما أَدخل عليه المستضعفين أمثال: عمار وبلال. . وترك صناديد قريش بالباب، فعاتبه أبوه على ذلك: كيف يُدخِل العبيد ويترك هؤلاء السادة بالباب؟ فقال أبو بكر: يا أبي، لقد رفع الإسلام الخسيسة، وإذا كان هؤلاء قد ورمتْ أنوفهم أن يدخل العبيد قبلهم، فكيف بهم حين يُدخِلهم اللهُ الجنةَ قبلهم؟
وعجيب أن يصدر هذا الكرم من الصِّدِّيق أبي بكر، مع ما عُرِف عنه من اللين ورِقَّة القلب والحلم.
وهذا لون من تبديل الأحوال واجتماع الأضداد، وقد عرض الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة في قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 29 - 30] يعني: يسخرون منهم ويهزأون بهم، كما نسمع من أهل الباطل يقولون للإنسان المستقيم (خدنا على جناحك) .(19/11823)
وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، إنما إذا عادوا إلى أهلهم كرروا هذا الاستهزاء، وتبجحوا به، وفرحوا لإيذائهم لأهل التقوى والاستقامة: {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 31 - 33] لكن يُنهي الحق سبحانه هذا الموقف بقوله: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} ثم يسألهم الله {عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}
[المطففين: 34 - 36]
فهنا يقول الحق سبحانه: لا تفهموا أن أحداً تأبى عليَّ، من خَلْقي، إنما أردتُ لهم الاختيار، ثم أخبرتهم بما أحبّ أنْ يفعلوه، فيريد الله أن يعلم علم وقوع بمَنْ آمن به، وهو يملك ألاَّ يؤمن. وإلا فهو سبحانه عالم أزلاً؛ ليكون الفعل حجة على أصحابه، إذن: إياك أنْ تظنَّ أنك باختيارك كسرت قهر العلى.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الذين أَلِفوا التمرد على الله إيماناً به، فكفروا وتمردوا على طاعته فعصوه. . الخ نقول لهم: ما دُمْتم قد تعودتم التمرد على أوامر الله، فلماذا لا تتمردون على المرض مثلاً أو على الموت؟ إذن: أنت عبد رغم أنفك.
يقول سبحانه هنا: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. .} [السجدة: 13] أي: لَجعل الناس كالملائكة، وكالمخلوقات المسيَّرة التي لا اختيار لها، وسبق أنْ قُلْنا: إن المخلوقات كلها خُيِّرت في حمل الأمانة، وليس الإنسان وحده، لكن الفرق أن ابن آدم أخذ الاختيار مُفصَّلاً، وبقية الخَلْق أخذوا الاختيار جملة، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72](19/11824)
ومعنى الهداية في {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. .} [السجدة: 13] أي: هدى المعونة، وإلا فقد هدى اللهُ جميعَ الناس هُدى الدلالة على طريق الخير، فالذي اخذ بهدى الدلالة وقال على العين والرأس يأخذ هدى المعونة، كما قال سبحانه: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17]
ولكي نفهم الفرق بين الهديين، اقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ... } [فصلت: 17] أي: دللناهم وأرشدناهم {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى ... } [فصلت: 17]
ثم يقول سبحانه: {ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]
الحق سبحانه يريد أنْ يثبت لخَلْقه أنه هو الأَوْلَى بالحكمة في الخَلْق، بدليل أن الذي يشذ عن مراد الله لا بُدَّ أن يفسد به المجتمع، كما نرى المجتمعات تشقى بكفر الكافر، وبعصيان العاصي.
والحق سبحانه يترك الكافر يكفر باختياره، والعاصي يعصي باختياره ليؤذي الناس بإثم الكافر وبإثم العاصي، وعندها يعودون إلى تشريع الله ويلجئون إلى ساحته سبحانه، ولو أن الناس عملوا بشرع الله ما حدث فساد في الكون ولا خَلَلٌ في حياتهم أبداً.
لذلك نفرح حينما ينتقم الله من أهل الكفر ومن أهل المعصية، ونقول: الحمد لله الذي أراح منهم البلاد والعباد.
إذن: مخالفة منهج الله في القمة كفراً به سبحانه، وفي غيرها معصية لأمره هو الذي يبين مزايا الإيمان وحلاوة التشريع. وقلنا:(19/11825)
إن التشريع يجب أنْ يأخذه المكلَّف أَخْذاً أَخْذاً كاملاً بما له وبما عليه، فالله كلَّفك ألاَّ تسرق من الناس، وكلَّف الناسَ جميعاً ألاَّ يسرقوا منك.
ومعنى {ولكن حَقَّ القول مِنِّي. .} [السجدة: 13] أي: وقع وثبت وقُطع به، ويأتي هذا المعنى بلفظ سبق، كما في {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين}
[الصافات: 171] وفي قصة نوح عليه السلام: {فاسلك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول ... } [المؤمنون: 27]
وقال تعالى حكاية عن الكفار في حوارهم يوم القيامة: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ} [الصافات: 31]
ومعنى {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] عرفنا أن الله تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلاً يملأونها، وخلق النار وخلق لها أهلاً يملأونها، فليس فيهما أزمة أماكن، فالجنة أُعِدَّتْ لتسع جميع الخَلْق إنْ آمنوا، وكذلك النار أُعِدَّتْ لتسع الخَلْق جميعاً إنْ كفروا.
لذلك حين يذهب أهل الجنة إلى الجنة يرثون أماكن أهل النار فيها، كما قال سبحانه: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]
والجِنَّة: أي الجِنّ والعفاريت.(19/11826)
ثم يقول الحق سبحانه: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ ... } .(19/11827)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
والتقدير: ذوقوا العذاب، كما جاء في آية أخرى {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48] ويُقال هذا لزعماء ورءوس الكفر {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]
واختار حاسة التذوق؛ لأن كل وسيلة إدراك قد تتصل بلون من ألوان الترف في الحياة، أمَّا الذوق فيتصل بإمداد الحياة، وهو الأكل والشرب، وبهما قوام حياة الإنسان، فهما ضرورتان للحياة لا مجردَ ترف فيها.
وفي موضع آخر، يُبيِّن لنا الحق سبحانه أثر الإذاقة، فيقول عن القرية التي كفرت بربها: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] وتصور أن يكون الجوع لباساً يستولي على الجسم كله، وكأن الله تعالى يريد أنْ يُبين لنا عضة الجوع، التي لا تقتصر على البطن فحسب، إنما على كل الأعضاء، فقال {لِبَاسَ الجوع ... } [النحل: 112] لشمول الإذاقة، فكأن كل عضو في الجسم سيذوق ألم الجوع، وهذا المعنى لا يؤديه إلا اللفظ الذي اختاره القرآن.
وقد فطن الشاعر إلى هذه الشمولية التي تستولي على الجسم كله، فقال عن الحب الإلهي حين يستشرف في القلب ويفيض منه ليشمل كلَّ الجوارح، فقال:(19/11827)
خَطَراتُ ذِكْرِكَ تَسْتثير مودَّتي ... فأُحِسُّ منها في الفُؤادِ دَبيبَا
لا عُضْوَ لي إلاَّ وَفِيه صَبَابةٌ ... فَكأنَّ أَعْضَائي خُلِقْنَ قُلُوبَا
وعِلَّة هذه الإذاقة {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ. .} [السجدة: 14] أي: يوم القيامة الذي حدَّثناكم عنه، وحذَّرناكم من أهواله، فلم نأخذكم على غِرَّة، لكن نبهناكم إلى سوء العاقبة، فلا عذرَ لكم الآن، وقد ضخَّمنا لكم هذه الأهوال، فكان من الواجب ان تلتفتوا إليها، وأنْ تعتبروا بها، وتتأكدوا من صِدْقها.
أما المؤمنون فحين يروْنَ هذا الهول وهذا العذاب ينزل بالكفرة والمكذِّبين يفرحون؛ لأن الله نجاهم بإيمانهم من هذا العذاب.
وتكون عاقبة نسيان لقاء الله {إِنَّا نَسِينَاكُمْ. .} [السجدة: 14] فأنتم نسيتم لقاء الله، ونسيتم توجيهاته، وأغفلتم إنذاره وتحذيره لكم، ونحن تركناكم ليس هملاً، إنما تركناكم من امتداد الرحمة بكم، فقد كانت رحمتي تشملكم في الدنيا، ولم أخصّ بها المؤمنين بي، بل جعلتُها للمؤمن وللكافر.
فكل شيء في الوجود يعطي الإنسان مطلق الإنسان طالما أخذ بالأسباب، لا فرق بين مؤمن وكافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فننساكم من هذه الرحمة التي لا تستحقونها، بل: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]
فإنْ كنتم قد تمردتم على الله وكفرتم به في دنيا محدودة، وعمرك فيها محدود، فإن العذاب الواقع بكم اليوم خالد باقٍ دائم، فخسارتكم كبيرة، ومصيبتكم فادحة.(19/11828)
وقلنا: إن العمل في الدنيا للآخرة يمثل معادلة ينبغي أنْ تُحلّ حلاً صحيحاً، فأنت في الدنيا عمرك لا يُحسب بعمرها، إنما بمدة بقائك فيها، فهو عمر محدود، أما الآخرة فخلود لا ينتهي، فلو أن النعيم فيهما سواء لكان امتداد الزمن مرجحاً للآخرة.
ثم إن نعيمك في الدنيا على قدر إمكاناتك وحركتك فيها، أما نعيم الآخرة فعلى قدر إمكانات الله في الكون، نعيم الدنيا إما أنْ يفوتك أو تفوته أنت، ونعيم الآخرة باقٍ لا يفوتك أبداً لأنك مخلد فيه.
إذن: هي صفقة ينبغي أنْ تُحْسبَ حساباً صحيحاً، وتستحق أن نبيع من أجلها الدنيا بكل ما فيها من غالٍ ونفيس؛ لذلك سماها رسول الله تجارة رابحة.
وقال سبحانه وتعالى عن الكافرين {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا ... } .(19/11829)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
الخرور: السقوط بغير نظام ولا ترتيب، كما جاء في قوله تعالى {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ ... } [النحل: 26] وفي موضع آخر قال سبحانه في هذا المعنى: {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ ... } [الإسراء: 107] أي: من قبل القرآن {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 107 - 108]
فالخرور أنْ تهوي إلى الأرض ساجداً دون تفكير، وكل سجود(19/11829)
في القرآن يتلو هذه المادة (خرَّ) دليل على أنها أصبحتْ مَلَكة وآلية في المؤمن، بل ويؤكدها الحق سبحانه بقوله: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} [الإسراء: 107] لأنه سجود يأخذ الذقن، فهو متمكن في الذلّة، وهو فوق السجود الذي نعرفه في الصلاة على الأعضاء السبعة المعروفة.
ولم يُذكر الخرور مع الركوع إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى في شأن داود: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]
وفي موضع آخر قال سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109] فكلما ازدادوا ذِلَّة ازدادوا خشوعاً، فكأنهم عشقوا التكليف، وأحبوا أوامر الله؛ لذلك بالغوا في الذلة والعبودية لله تعالى، وهذه المسألة تفسر لنا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء» .
ففي السجود تضع وجهك وجبهتك، وهي رمز العلو والرِّفْعة تضعها على الأرض خضوعاً لله عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ ... } .(19/11830)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
التجافي يعني الترك، لكن الترك قد يكون معه شوق ويصاحبه ألم، كما تودع حبيباً وتتركه وأنت غير زاهد فيه ولا قَالٍ له، أما الجفوة فترك فيه كراهية للمتروك، فهؤلاء الؤمنون الذين يتركون مضاجعهم كأن جنوبهم تكره المضجع وتجفوه؛ لأنها تتركه إلى لذة أبقى وأعظم هي لذة الاتصال بالله ومناجاته.
ونذكر هنا إن الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما ذهب ليدفن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وقف عند قبر رسول الله وقال: السلام عليك يا سيدي يا رسول الله، قَلَّ عن صفيتك صبري، ورقَّ عنها تجلُّدي، إلا أن لي في التعزي بعظيم فُرْقتك وفادح مصيبتك موضع تأسٍّ - يعني: الذي تحمَّل فَقْدك يا رسول الله يهون عليه أيُّ فَقْد بعدك - فلقد وسدتُك يا رسول الله في ملحودة قبرك، وفاضت بين سَحْري ونَحْري نفسك، أما ليلي فمُسهَّد، وأما حزني فَسَرْمَد، إلى أنْ يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، هذا وستخبرك ابنتك عن حال أمتك وتضافرها على هضمها ... فَأصْغِها السؤال، واستخبرها الحال، هذا ولم يَطلُّ منك العهد، ولم يخْلُ منك الذكر.
ثم لما أراد أنْ ينصرف عن قبر حبيبه قال: والسلام عليك سلام(19/11831)
مُودِّع، لا قال ولا سئم، فإنْ انصرف فلا عن ملالة، وإنْ أُقِم فلا عن سوء ظنَّ بما وعد الله به عباده الصابرين.
فقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع. .} [السجدة: 16] أي: تكرهها وتجفوها، مع أنها أعزُّ ما يركن إليه الإنسان عند راحته، فالإنسان حين تدبّ فيه الحياة، ويستطيع أنْ تكون له قوة ونشاط يعمل في الحياة، فالعمل فرع وجود الحياة، وبالقوة يمشي، وبالقوة يحمل الأثقال.
فإذا ما أتعبه الحِمْل وضعه عن نفسه ليستريح، لكنه يستطيع أن يمشي بدون حمل، فإنْ أتعبه المشي وقف، فإذا أتعبه الوقوف جلس؛ لذلك يحدث أن تقول لصاحبك: لو سمحت احمل عني هذا الحِمْلَ فيقول: يا شيخ، هل أنا قادر أن أحمل نفسي؟
إذن: التعب في هذه الحالة ناشئ من ثِقَل الجسم على القدمين فيتعبه الوقوف، إلاَ ترانا إذا أطال الإمام في الصلاة مثلاً نراوح بين القدمين مرة على هذه، ومرة على هذه، أما القعود فيريح الإنسان؛ لأنه يُوسِّع دائرة العضو المحتمل، فثِقَل الجسم في حالة القعود يُوزَّع على المقعدة كلها، فإذا بلغ به التعب حداً بحيث أتعبه القعود فإنه يستلقي على جنبه، ويمد جسمه كله على الأرض فيتوزع الثقل على كل الأعضاء، فلا يحمل العضو إلا ثقله فقط.
فإنْ شعر الإنسان بتعب بعد هذا كله تقلَّب على جنبه الآخر أو على ظهره، هذه كلها ألوان من الراحة لجسم الإنسان، لكنه لا يرتاح الراحة الكاملة إلا إذا استغرق في النوم، ويُسمُّون هذا التسلسل متواليات عضلية.(19/11832)
والدليل على أن النوم راحة تامة أنك لا تشعر فيه بالألم الذي تشعر به حال اليقظة - إنْ كنت تتألم من مرض مثلاً - وهذه كلها متواليات يمر بها المؤمن، وبالتالي إذا مات استراح أكثر، ثم إذا بُعِث يوم القيامة ارتاح الراحة الكبرى، فهي مراحل نمرُّ بها إلى أنْ نرتمي في حضن خالقنا عَزَّ وَجَلَّ.
إذن: فالمضاجع آخر مرحلة في اليقظة، ولم تأْتِ إلا بعد عدة مراحل من التعب، ومع ذلك شوق المؤمنين إلى ربهم ورغبتهم في الوقوف بين يديه سبحانه يُنسبهم هذه الراحة، ويُزهِّدهم فيها، فيجفونها ليقفوا بين يدي الله.
وفي موضع آخر قال تعالى عنهم: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] ثم يقول سبحانه: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ. .} [السجدة: 16] أي: يدعون ربهم وهم على حال التعب، كأن الدعاء مجرد الدعاء يريحهم، لماذا ولم يُحَابوا بعد؟ قالوا: لأنهم وضعوا حاجاتهم وطلبهم عند قادر على الإنفاذ، ثم إن حلاوة لقائهم بربهم في الصلاة تُنسيهم التعب الذي يعانون.
والمؤمنون يدعون ربهم {خَوْفاً وَطَمَعاً. .} [السجدة: 16] أي: خوفاً مما حدث منهم من تقصير في حق الله، وأنهم لم يُقدِّموا لله تعالى ما يستحق من التقوى ومن الطاعة {وَطَمَعاً. .} [السجدة: 16] أي: في المغفرة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16] والمراد هنا الزكاة.
لذلك نرى في قوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع. .} [(19/11833)
السجدة: 16] أن هذا التجافي كان بقصد الصلاة؛ لأن القرآن عادةً ما يقرن بالصلاة بالزكاة، فقال بعدها: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16](19/11834)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
قلنا: إن الحق سبحانه أخفى أسرار الخير عن الخَلْق، ولم يُعْطهم منها إلا على قدر حاجتهم منها، فإذا أراد سبحانه أنْ يُجازي عباده المؤمنين لا يجازيهم بما يعملون من خيرات الدنيا وإمكاناتهم فيها، إنما يجازيهم بما يعلم هو سبحانه، وبما يتناسب مع إمكانات قدرته.
وهذه الإمكانات لا نستطيع نحن التعبير عنها؛ لأن ألفاظ اللغة لا تستطيع التعبير عنها، ومعلوم أن الإنسان لا يضع الاسم إلا إذا وُجد المسمى والمعنى أولاً؛ لذلك قال تعالى في التعبير عن هذا النعيم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ. .} [السجدة: 17]
وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الجنة: «فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خظر على قلب بشر» إذن: كيف نُسمِّي هذه الأشياء؟ وكيف نتصَّورها وهي فوق إدراكاتنا؟ لذلك سنفاجأ بها حين نراها إنْ شاء الله.(19/11834)
ثم أَلاَ ترى أن الحق سبحانه حينما يعرض علينا طرفاً من ذكر الجنة لا يقول لنا الجنة كذا وكذا، إنما يقول: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون ... } [الرعد: 35] أي: أن ما نعرضه عليك ليس هو الجنة، إنما شبيه بها، أما هي على الحقيقة ففوق الوصف الذي تؤديه اللغة، فأنا أعطيكم الصورة القريبة لأذهانكم.
ثم يُنقى الحق سبحانه المثل الذي يضربه لنا من شوائبه في الدنيا، وتأمل في ذلك قول الله تعالى عن نعيم الجنة: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ... } [محمد: 15] وكانت آفة الماء عندهم أن يأسن ويتغير في الجرار، فنقَّاه الله من هذه الآفة.
وكذلك في {وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ... } [محمد: 15] وكان العربي إذا سار باللبن يحمض فيعافه {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ... } [محمد: 15] وآفة خمر الدنيا أنها تغتال العقل، وتذهب به، وليس في شربها لذة؛ لذلك نرى شاربها والعياذ بالله يتجرَّعها مرة واحدة، ويسكبها في فمه سَكْباً، دليلاً على أنها غير طيبة، وهل رأيت شارب الخمر يمتصُّها مثلاً كما تمتص كوباً من العصير، وتشعر بلذة شربه؟
وقد وصف الله خمر الآخرة بقوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 47](19/11835)
ثم يقول سبحانه: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ... } [محمد: 15] فوصف العسل بأنه مُصفَّى؛ لأن آفة العسل عندهم ما كان يعلَق به من الحصى والشوائب حين ينحدر من بيوت النحل في الجبال، فصفَّى الله عسل الآخرة من شوائب العسل في الدنيا.
ومهما بلغ بنا ترف الحياة ونعيمها، ومهما عَظْمَتْ إمكاناتنا في الدنيا، فلن نرى فيها نهراً من الخمر، أو من اللبن، أو من العسل، ثم إن هذه الأنهار تجري في الجنة بلا شطآن، بل ويتداخل بعضها في بعض دون أن يطغى أحد منها على الآخر، وهذه طلاقة القدرة التي لا حدود لها.
إذن: الحق سبحانه حين يشرح لنا نعيم الجنة، وحين يَصفُها يعطينا المثال لا الحقيقة، ثم يُنقِّى هذا المثال مما يشوبه في الدنيا.
ومن ذلك أن العربي كان يحب شجرة السِّدر أي النبق، فيستظل بظلها، ويأكل ثمرها، لكن كان ينغص عليه هذه اللذة ما بها من أشواك لا بُدَّ أنْ تؤذى مَنْ يقطف ثمارها، فلما ذكرها الله تعالى في نعيم الجنة قال عنها: {فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} [الواقعة: 28] أي: منزوع الشوك، فالمتعة به تامة لا يُنغِّصها شيء.
ولما تكلم عن نساء الجنة قال سبحانه عن الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 74] فنفى عنهن ما يُنغِّص على(19/11836)
الرجل جمال المرأة في الدنيا، وطمأنك أنها بِكْر لم ينظر إليها أحد قبلك.
لهذا قال تعالى عن نعيم الجنة {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ. .} [السجدة: 17] والقرة والقُرور أي: السكون، ومنه قرَّ في المكان أي: استقر فيه، والمعنى أن الإنسان لا يستقر في المكان إلا إذا وجد فيه راحته ومُقوِّمات حياته، فإذا أردتَ أنْ تستقر في مكان أو تشتري شقة مثلاً تسأل عن المرافق والخدمات من ماء وكهرباء وطرق. . الخ.
حتى نحن في تعبيراتنا العامية وفي الريف الذي يحتفظ لنا بخصائص الفطرة النقية التي لم يَشُبْها زيف الحضارات ولا زخرفة المدينة، وهذه الفطريات تستهوي النفوس وتجذبها، بدليل أن الإنسان الحضاري مهما بلغ القمة وسكن ناطحات السحاب، وتوفرتْ له كل كماليات الحياة لا بُدَّ أنْ يأتي اليوم الذي يلجأ فيه إلى أحضان الطبيعة، فلا ترتاح نفسه، ولا تستقر إلا في الريف، فيقضي هناك عدة أيام حيث تهدأ هناك نفسه، وتستريح من ضوضاء المدينة، والبعض يسمونها (الويك إند) .
فمعنى (قرة العين) أي: استقرارها على شيء بحيث لا تتحول عنه إلى غيره، والعين لا تستقر على الشيء إلا إذا أعجبها، ورأتْ فيه كل ما تصبو إليه من متعة.
ومن ذلك قولنا (فلان عينه مليانة) يعني: لا يحتاج مزيداً من المرائي غير ما يراه (وفلان عينه فارغة) يعني: لا يكتفي بما يرى، بل يطلب المزيد، فينظر هنا وهناك.(19/11837)
ففي الجنة تقرّ العيون بحيث لم يَعُدْ لها تطلعات، فقد كَمُلَتْ لها المعاني، فلا ينبغي لها أنْ تطمع في شيء آخر إلا الدوام.
لذلك يخاطب الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ... } [طه: 131]
فالإنسان إذا كانت عينه فارغة تراه زائغ العينين، ينظر هنا وهناك، ولو كانت عينه (مليانة) لانتهى عندها.
ومن معاني مادة (قرَّ) القُرُّ وهو البرد الشديد، وهذا المعنى يَكْنُون به عن سرور النفس، فالعين الباردة أي: المسرورة، أما العين الساخنة فهي الحزينة المتألمة.
ومن المعاني أيضاً لقرور العين سكونها وعدم حركتها لِعلَّة أو عمى، ومن ذلك قول المرأة التي دخلتْ على الخليفة فقالت: أقرَّ الله عينك، وأتمَّ عليك نعمتك.
ففهم الحاضرون أنها تدعو له، فقال: والله ما دعتْ لي، إنما دعتْ علي، فهي تقصد أقرَّ الله عينك يعني: أسكنها لا تتحرك، وأتمَّ عليك نعمتك. أي: أزالها؛ لأن النعمة إذا تمتْ زالت، فلا شيء بعد التمام إلا النقصان.
ثم يُعلِّل الحق سبحانه هذا النعيم الي أخفاه لعباده المؤمنين في الجنة بأنه {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وهذه أثارت معركة بين العلماء هي معركة الأحباء: فريق قال إن المؤمن يدخل الجنة بعمله، كما نصَّتْ هذه الآية أي: أن الجنة بالعدل لا بالفضل، وفريق قال: بل يدخل الجنة بفضل الله، كما جاء في قول الحق سبحانه(19/11838)
وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لن يدخل أحدٌ الجنةَ بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» .
فلما حميَتْ هذه المعركة أرادوا أنْ يوحدوا هذين الرأيين، ويُوفِّقوا بينهما، فقالوا: لقد سبق الله تعالى المكلف بالإحسان، فخلق له مُقومات حياته قبل أنْ يوجد، ثم تركه يرتع في نِعَمه دون أنْ يطالبه بشيء حتى بلغ سِنَّ التكليف.
فإذا ما كلَّفه الله بعد سابق نعمه عليه، فعليه أنْ يطيع هذا التكليف جزاء ما سبق من إحسان الله إليه الإحسان الأول، وبذلك يكون الجزاء في الآخرة ليس على العمل، إنما محْض فضل من الله على عباده.
إذن: حينما تؤدي ما كلَّفك ربك به كأنك تجازي ربك بطاعته على سابق إحسانه إليه، فكأن الجنة ونعيمها زيادة وفضل من الله، فالله سبحانه له الفضل عليك في الأولى، وله الفضل عليك في الآخرة.
ثم إن الحق - تبارك وتعالى - حين يُشرع لك ويكلِّفك، فشَرْعه وتكليفه في ذاته فضل، أَلاَ ترى أن الحسنة عنده سبحانه بعشر أمثالها، وأنها تضاعف إلى أضعاف كثيرة، ونحن مِلْكه سبحانه، يعطينا أو لا يعطينا.(19/11839)
وبعض أهل المعرفة والشطح يقولون: الله قدَّم الإحسان أولاً، فيجب على العبد أن يأتي بالإحسان جزاء الإحسان؛ لأنه {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60]
وحين يُحسِن العبد في التكليف يُحيِّيه ربه بإحسان آخر، فيرد العبد على إحسان ربه إليه بالإحسان، وهكذا يتواصل الإحسان بين العبد وربه إلى ما لا نهاية.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً ... } .(19/11840)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
أولاً: نلحظ في اللفظ أن مؤمناً وفاسقاً جاءت بصيغة المفرد، فكان القياس أنْ نقول: لا يستويان، إنما سياق القرآن {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وسبق أنْ قُلْنا: إن (من وما) الموصولتين تأتي للمفرد أو للمثنى أو للجمع، وللمذكر وللمؤنث، فمرة يراعي السياق لفظها، ومرة يراعى معناها.
والمعنى هنا {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] الحق سبحانه لا يتكلم عن المفرد، إنما عن الجمع، أو أنها قيلت رداً لحالة مخصوصة بين مؤمن وكافر وأراد الحق سبحانه أن يعطيها(19/11840)
العموم لا خصوص السبب، فراعى السياق خصوص السبب في مؤمن وكافر، وراعى عموم الموضوع فقال {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] والقاعدة الفقهية تقول: إن العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين جادل علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. فقال له: أنا أشبُّ منك شباباًً، وأجلد منك جَلَداً، وأذرب منك لساناً، وأحدُّ منك سناناً، وأشجع منك وجداناً، وأكثر منك مَرَقاً، فردَّ عليه عليٌّ - كرَّم الله وجهه - بما يدحض هذا كله ويبطله، فقال له: اسكت يا فاسق، ولا موهبة لفاسق.
والمعنى: إنْ كنت كما تقول فقد ضيعتَ هذا كله بفسقك، حيث استعملتَ قوة شبابك وجَلَدك وذَرَب لسانك وشجاعة وجدانك في الباطل وفي المعصية، وفي الصدِّ عن سبيل الله.
وهكذا جمعتْ الآية بين خصوصية هذا السبب في {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] وبين عموم الموضوع في {لاَّ(19/11841)
يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، فهذا الحكم ينسحب على الجمع أيضاً.
وجاء قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] كأنه جواب للسؤال {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] لكن، لماذا لم يأت الجواب مثلاً: لا يستوي المؤمن والفاسق؟ قالوا: لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم.
كما لو قال لك صديق: لقد مررتُ بأزمة ولم تقف بجانبي. فتستطيع أنْ تقول له: وقفتُ بجانبك يوم كذا ويوم كذا - على سبيل الخبر منك، لكن الإخبار منك يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، فتلجأ إلى أسلوب آخر لا يستطيع معه الإنكار، ولا يملك إلا الاعتراف لك بالجميل فتقول بصيغة السؤال: ألم أقدم لك كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وأنت لا تسأله إلا إذا وثقتَ بأن جوابه لا بُدَّ أنْ يأتي وَفْق مرادك وعندها يكون كلامه حجة عليه.
لذلك طرح الحق سبحانه هذه المسألة في صورة سؤال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً. .} [السجدة: 18] ولا بد أن نقول نحن في جواب هذا السؤال: لا يستوي مؤمن وفاسق، ومَنْ يقُلْ بهذا فقد وافق مراد ربه.
وما دام أن المؤمن لا يستوي والفاسق، فلكل منهما جزاء يناسبه: {أَمَّا الذين آمَنُواْ ... } .(19/11842)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
وإنْ كانت لفظة (مؤمن) جاءت مفردة، فقد أوضحتْ هذه الآية(19/11842)
أن المراد الجمع {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات. .} [السجدة: 19] أي: العموم؛ لأنه أُخِذ مما كان مفرداً جمعاً، وهذا دليل على أن هذا المفرد في جنسه جمع كثير، كما في قوله تعالى {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] فالإنسان مفرد يُستثنى منه الجمع {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ... } [العصر: 3] لأن لفظة الإنسان هنا تدل على الجماعة، و (ال) فيها ال الاستغراقية.
فالحق سبحانه ينقلنا من المؤمن إلى العموم {أَمَّا الذين آمَنُواْ. .} [السجدة: 19] ومن الفاسق إلى {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ ... } [السجدة: 20] فهما جماعتان متقابلتان لكل منهما جزاؤه الذي يناسبه:
{أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى. .} [السجدة: 19] والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ إليه ليحفظه من كل مكروه، كما قال تعالى في شأن عيسى وأمه مريم عليهما السلام: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يعني: يمكنهما الاستقرار فيها؛ لأن بها مُقوِّمات الحياة (ومعين) يعني: عيْن ماء.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابن نوح حين قال لأبيه: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء ... } [هود: 43] فنبَّهه أبوه وحذره، فقال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ ... } [هود: 43]
ونلحظ في هذه القصة حنان الأبوة من سيدنا نوح حين قال {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي ... } [هود: 45] لكن ربه عَزَّ وَجَلَّ لا يتركه على هذه القضية، إنما يُصحِّحها له {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ... } [هود: 46]
إذن: فالبنوة هنا ليست بنوة نسب، إنما بنوة إيمان وعمل، أَلاَ(19/11843)
ترى أن سيدنا رسول الله قال لسلمان الفارسي وهو من غير العرب بالمرة: «سلمان منا آل البيت» .
وإنْ كان النسب ينفع من الآباء إلى الأبناء، فهذه ليست خصوصية للأنبياء، إنما لكل الناس، كما قال سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ... } [الطور: 21]
وإلحاق الأبناء بالآباء في الحقيقة كرامة للآباء أنْ يجدوا أولادهم معهم في الجنة جزاء إيمان الآباء وعملهم الصالح، فإنْ كان الأولاد دون سِنِّ التكليف فطبيعي أنْ يلحقوا بالآباء، بل وتكون منزلتهم أعظم من منزلة آبائهم؛ لأن الأطفال الذين يموتون قبل الرُّشْد ليس لهم أماكن محددة، إنما ينطلقون في الجنة يمرحون فيها كما يشاؤون.
وقد مثَّلنا لذلك بالولد الصغير تأخذه معك في زيارة أحد الأصدقاء، فتجلس أنت في حجرة الجلوس، بينما الولد الصغير يجري في أنحاء البيت، ويدخل أي مكان فيه لا يمنعه أحد، لذلك يسمون الأطفال (دعاميص) الجنة.(19/11844)
والبعض هنا يثير مسألة أن الإنسان مرتهن بعمله، ولا ينتفع بعمل غيره، فكلٌّ مُعلَّق من (عرقوبه) كما نقول، فالبعض يسأل: لماذا إذاً نصلى على الميت، والصلاة عليه ليست من عمله؟ فإنْ كانت الصلاة عليه لها فائدة تعود عليه فقد انتفع بغير عمله، وإن لم تكُنْ لها فائدة فهي عبث، وحاشَ لله أنْ يضع تشريعاً عبثاً.
ونقول: هل صليت على كل ميت مؤمناً كان أو كافراً؟ لا إنما نصلي على المؤمن، إذن: صلاتك أنت عليه نتيجة إيمانه، وجزء من عمله، ولولا إيمانه ما صلَّينا عليه.
نعود إلى معنى كلمة (المأوى) ، فالجنة مأوى المؤمن، تحفظه من النار وأهوالها {نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] أي: جزاء عملهم الصالح، والنزُل هو المكان المعَدّ لينزل فيه الضيف الطارئ عليك؛ لذلك يسمون الفندق (نُزُل) ، فإذا كانت الفنادق الفاخرة التي نراها الآن ما أعَدَّه البشر للبشر، فما بالك بما أعدَّهُ ربُّ البشر لعباده الصالحين؟(19/11845)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
{فَسَقُواْ. .} [السجدة: 20] من الفسوق أي الخروج، نقول: فسقتْ البلحة يعني خرجن عن قشرتها، والمراد هنا الذين خرجوا عن طاعة الله وعن مطلوبات الحق سبحانه {فَمَأْوَاهُمُ النار. .} [السجدة: 20] قلنا: إن المأوى هو المكان الذي تأوي إليه، فيحميك من كل مكروه، فكيف تُوصف به النار هنا؟(19/11845)
قالوا: المأوى المكان الذي ينزل فيه الإنسان على هواه وعلى (كيفه) ، أما هؤلاء فينزلون هنا رغماً عنهم، أو أن الكلام هنا على سَبْق التهكم والسخرية، كما قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]
ومعلوم أن البشرى لا تكوم إلا بالشيء السَّار، ومثل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، وهذا كثير في أسلوب القرآن؛ لأنه أسلوب يؤلم الكافرين، ويحطّ من شأنهم.
ثم يُصوِّر لنا الحق سبحانه ما فيه أهل النار من اليأس: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَ. .} [السجدة: 20] وفي موضع آخر قال عنهم {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] إذن: لا أمل لهم في الخروج، ولا حتى في الموت الذي يريحهم مما هم فيه، بل تردهم الملائكة في العذاب، ويقولون لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20]
فالإذاقة تعدَّتْ اللسان واستولتْ على كل الأعضاء، فكل ذرة فيه تذوق عذاب النار جزاء ما كانوا يكذبون بها في الدنيا، حيث كذِّبوا بالأصل، وهو الرجوع إلى الله يوم القيامة.
ثم إن عذاب الفاسقين لا يقتصر على عذاب الآخرة، إنما سيكون لهم عذاب آخر يذوقونه في الدنيا:
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى ... } .(19/11846)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{العذاب الأدنى. .} [السجدة: 21] أي: القريب والمراد في الدنيا {دُونَ العذاب الأكبر. .} [السجدة: 21] أي: عذاب الآخرة، وهذا العذاب الذي سيصيبهم في الدنيا مظهر من مظاهر رحمة الله حتى بالكافرين والفاسقين؛ لأن الله تعالى علَّله بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]
إذن: المراد ما يلحقهم من عذاب في دار التكليف كالأَسْر والذلَّة والهوان من كثرة المؤمنين وقوتهم، ألم يركب عبد الله بن مسعود مع ما عُرِف عنه من ضآلة الجسم على أبي جهل في إحدى الغزوات، وقد طرحه في الأرض وداسه بقدمه، ويُرْوى أن أبا جهل نظر إليه وهو على هذه الحال وقال: لقد ارتقيتَ مُرْتقىً صعباً يا رُويعي الغنم.
ووصف العذاب في الآخرة بأنه العذاب الأكبر؛ لأنه العذاب المحيط الذي لا مهرب منه ولا ملجأ.(19/11847)
وقوله سبحانه {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] أي: رجاء أنْ يعودوا إلى ساحة الإيمان. وقلنا: إن لعلَّ تفيد الرجاء المحقق إنْ كان الفعل من الله عَزَّ وَجَلَّ، أما الرجاء هنا فرجاء في العبد الذي يملك الاختيار؛ لذلك رجع منهم البعض، ولم يرجع الآخرون.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ... } .(19/11848)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
هنا أيضاً يعرض علينا ربنا - تبارك وتعالى - هذه القضية في صورة هذا السؤال التقريري، كأنه سبحانه يقول لنا: أنا رضيت ذمتكم يا عبادي، فقولوا لي: هل يوجد أحد أظلم ممَّنْ ذُكِّر بآيات ربه، ثم أعرض عنها. والمنطق الطبيعي أن نقول: لا أحدَ أظلم من هذا. وهذا إقرار مِنّا بهذه الحقيقة؛ لذلك عرضها الحق سبحانه في صورة سؤال بدل الإخبار بها.
ومعنى {ذُكِّرَ. .} [السجدة: 20] أي: أن رسالات الله إلى خَلْقه ما هي إلا تذكير بعهد الإيمان القديم الذي أخذه الله على عباده حين قال سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 172] وسبق أنْ قُلْنا إن في كل منّا ذرةً شهدتْ هذا العهد، وعلى كل منا أنْ يحفظ إشراقات هذه الذرة في نفسه بأنْ يُغذِّيها بالحلال، ويُعوِّدها الطاعة لتبقى فيه إشراقات الإيمان.
كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10](19/11848)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْءَآتَيْنَا مُوسَى ... } .(19/11849)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
والإيتاء يختلف، فهناك مَنْ يُؤْتَى بمنهج أو بمعجزة أو بهما معاً، وهناك إيتاء لكتاب موقوت، لزمن موقوت، لقوم موقوتين، وإيتاء آخر لكل الأزمان لكل الأمكنة.
و {الكتاب} [السجدة: 23] أي: التوراة {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ} [السجدة: 23] أي: في شك {مِّن لِّقَآئِهِ. .} [السجدة: 23] لقاء موسى عليه السلام أم لقاء الكتاب؟ إنْ كان لقاء موسى فهو تبشير بأن الله سيجمع بين سيدنا رسول الله وهو حَيٌّ بقانون الأحياء وموسى عليه السلام الميت بقانون الأموات، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان حديث الإسراء والمعراج في أنهما التقيا فيه صادقاً.
لذلك في القرآن آية ينبغي أن نقف عندها، وأن نتأملها بيقظة، وهي قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]
هذا تكليف من الله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنْ يسأل الرسل، فمتى يسألهم؟ فهذه الآية تنبئ بأنهم لا بُدَّ أنْ يلتقوا. فهذه الآية في لقاء موسى والأخرى في لقاء كل الرسل. إذن: علينا أن نصدق بحديث(19/11849)
الإسراء والمعراج، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اجتمع بإخوانه من الأنبياء وصلى بهم ودار بينهم حوار.
أما إذا كان المعنى {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ. .} [السجدة: 23] أي: لقاء الكتاب، فالتوراة كما قلنا أصابها التحريف والتبديل، وزِيدَ عليها وكُذِب فيها، لكن سيأتيك يا محمد من أهل التوارة أمثال عبد الله بن سلام مَنْ يعرفون التوراة بلا تحريف ويُسرُّون إليك بها، هؤلاء الذين قال الله فيهم: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
ألم يواجه عبد الله بن سلام قومه من اليهود، فيقول لهم: كيف تُكذَّبون بمحمد، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، فتقولون لهم: لقد أطلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، لقد تجمعتم من شتى البلاد التي اضطهدتكم، وجئتم إلى يثرب تنتظرون مَقْدِم هذا النبي، فما بالكم تكذَّبونه؟
وقال القرآن عنهم: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ... } [البقرة: 89](19/11850)
ومن لقاء الكتاب الذي وعد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما رُوي عن عبد الله بن سلام أنه لما أراد أنْ يؤمن أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ - يعني: يتبجحون بالكذب - فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فاسألهم عني يا رسول الله قبل أنْ أعلن إسلامي، فلَما اجتمع اليهود سألهم رسول الله: ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وابن حبرنا ... فقال عبد الله: أما وقد قالوا ما قالوا يا رسول الله فأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا: شرُّنا وابن شرنِّا.
فقال عبد الله: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْتٌ؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] أي: جعلنا الكتاب هدى، وهذا دليل على أن منهم مهتدين بدليل شهادة القرآن لهم: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]
وقوله تعالى في الآية بعدها: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ... } .(19/11851)
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
أئمة: ليس المقصود بالإمامة هنا السلطة الزمنية من باطنهم، إنما إمامة القدوة بأمر الله؛ لذلك قال سبحانه: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا. .} [(19/11851)
السجدة: 24] ، فهم لا يصدرون في شيء إلا على هدى من الله.
وفي سورة الأنبياء قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]
الإيقان: هو الإيمان الذي لا يتزعزع، ولا يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، يعني: أصبحت مسألة مُسلَّماً بها، مستقرة في النفس.(19/11852)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
تلحظ على أسلوب الآية أنها لم تقل مثلاً: إن ربك يفصل بينهم، إنما استخدمت الضمير المنفصل (هو) ليفيد التأكيد والاختصاص، فالمعنى لا أحدَ يفصل بينهم في القيامة إلا الله، كما قال سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]
إذن: جاءت (هو) لتقطع الشك في وجود الغير.
ولك أنْ تتأمل هذا الضمير في هذه الآيات، ومتى استعمله الأسلوب، يقول تعالى في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي ... } [الشعراء: 77] أي: الأصنام {اإِلاَّ رَبَّ العالمين الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 77 - 81]
فاستخدم الضمير الدالّ على الاختصاص في الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء، وهذه الأفعال مظنة أنْ يدعيها أحد لنفسه، أما الإحياء والإماتة فهي لله وحده لا يمكن أنْ يدَّعيها أحد؛ لذلك جاءت بدون هذا التوكيد، فهي مسألة مُسلَّم بها لله تعالى.(19/11852)
والشك يأتي في مسألة الفصل يوم القيامة؛ لأن الله تعالى جعل الملائكة المدبرات أمراً لتدبر أمر الخلق، وقال سبحانه {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ... } [الرعد: 11] أي: تبعاً لأمر الله فيه، فقد يفهم البعض أن للملائكة دوراً في الفصل بين الناس يوم القيامة، كما أن لهم مهمة في الدنيا.
وتأمل هنا أن الله تعالى ذكر لفظ الربوبية فقال {إِنَّ رَبَّكَ. .} [السجدة: 25] ولم يقُلْ: إن الله، والربوبية كما قُلْنا عطاء وتربية، وكأنه سبحانه يقول: اطمئنوا فالذي سيتولَّى مسألة الفصل هو ربكم.
وقوله سبحانه: {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25] لأن الفصل لا يكون إلا عن نزاع، والنزاع لا بُدَّ أن يكون عن قضية تريد مراجعة من حكم حاكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ ... } .(19/11853)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
الحق - سبحانه وتعالى - تكلم عن الرسالة التي أرسل بها رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليؤكد في الناس عقيدة أعلى، وهي عقيدة الوجود للإله الواحد الذي لا شريك له، ثم بيَّن أن لنا مع الله لقاء آخر حين تنتهي هذه(19/11853)
الدنيا الفانية، ثم نستقبل حياة خالدة، إما إلى جنة إنْ شاء الله، وإما إلى نار ونعوذ بالله.
والحق سبحانه حين يعرض آياته في الكون يعرضها لتثبت أنه هو الذي خلق هذه الآيات العجيبة، فلم يتركنا سبحانه ننظر وننصرف إنما لفتنا ونبَّهنا إلى وجوب النظر إلى آياته في الكون، وحين يأتي مَنْ يريد أنْ يُنبه عقلك فاعلم أنه لا يريد أنْ يخدعك، أو أن يأخذك على غرَّة، فربك يقول لك: استقبل كلامي هذا بمنتهى التدُّبر والتذكُّر والتعقُّل.
ولو لم يكُنْ واثقاً من أنه سيصل بالتدبُّر والتعقُّل والتذكر إلى الغاية التي يريدها لما نبَّه عقلَك لآياته، كما ترى عارض السلعة الجيدة الواثق من جودتها يعرضها عليك، ويكشفها لك، ويدعوك إلى فحصها وتأمُّل ما فيها، فهو لا يفعل ذلك إلا لثقته في بضاعته وأنها ستنال رضاك.
أما صاحب السلعة المغشوشة فيخدعك ويسلك معك أساليب اللفَّ والدوران والتغرير، فحين تدهب مثلاً لشراء حذاء وجاء ضيقاً يقول لك: سيتسع بعدما تمشي فيه، فإنْ جاء واسعاً يقول لك: أحضر لك واحداً أوسع؟ ليوهمك أنه ضيِّق، وأساليب هؤلاء مكشوفة لا تخفى على أحد، فالذي يريد أنْ يغشَّ أو يخدع يلف القضايا ليسترها عن عقلك المتدبر المتذكر المتمعن.
أما الحق سبحانه، فكثيراً ما قال في قرآنه: أفلا يسمعون، أفلا يعقلون، أفلا يتدبرون القرآن؛ لذلك من مصلحة الدعوة أنْ يتعقلها الناس، وأن يتدبروها، في حين أن بعض أصحاب الديانات الأخرى يقول لك حين تناقشه: أبعِدْ العقل عن هذه المسألة، لماذا؟ لأنه(19/11854)
واثق أنها لو بُحثَتْ بالعقل لردها العقل ولم يقبلها - والحق سبحانه يريد إلاَّ يترك عذراً لأحد في البلاغ، فالدعوة قد بلغتْ الجميع بلاغاً سليماً واضحاً، تلك آيات الله في الكون.
ثم يأتي الحق سبحانه بآيات معجزة ليثبت صِدْق الرسول، فيجعلها تخالف نواميس الكون فيما نبغ فيه القوم ليقطع عليهم الحجة، ثم يأتي بآيات الأحكام التي تحمل المنهج بافعل ولا تفعل، ويُبيِّن أنَّ صلاح حركة الحياة في تطبيق هذا المنهج ويترك للمخالفات أن تُظهِر بعض العيوب، فإذا ما نظرتَ إلى عيب أو عورة في المجتمع عرفتَ أنها نتيجة طبيعية لمخالفة منهج الله، فكأن المخالفة ذاتها من مُؤكِّدات الحكم.
ثم يُبيِّن سبحانه أنه أرسل رسلاً كثيرين من لَدُنْ آدم عليه السلام؛ لأن الإنسان الذي هو خليفته في الكون تصيبه غفلة حين ينخرط في أسباب الدنيا، وتأخذ عليه كل فكره وكل همه، فينسى ما طلب الله منه، فمن عادة الإنسان ألاَّ يتذكر إلاَّ ما ينفعه النفع العاجل.
لذلك نجد كثيراً من الناس ينسى ما للناس عنده، ويتذكر ما له عندهم.
فالحق سبحانه يقول: أنا لم يَعُدْ لخَلْقي عندي حجة، فقد نثرتُ لهم آيات الكون المُلْفتة، وهي آيات واضحات لم يدَّعها أحد لنفسه، ومع كثرة الملحدين والكافرين لم نَرَ أبداً من ادَّعى خَلْق الشمس أو القمر، ولم يقُلْ أحد: إنني أُسيِّر الريح، أو أُنبِت الزرع، أو أُنزِل الماء من السحاب.
والحق سبحانه يُنبهنا أيضاً: لا تنْس أيها الإنسان أنك خليفة لله في الأرض، وإياك أنْ تظن أنك أصيل فيها، فساعةَ تظن أنك أصيل(19/11855)
في الدنيا يتخلى الله عنك، ويتركك لنفسك فتهلك، كما حدث لقارون حين وسَّع الله عليه في الدنيا، فاغترَّ بما في يده، وظن أنه من سعيه وعلمه وجهده.
فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض ... } [القصص: 81] لينبه الناس جميعاً أن المال ليس مال صاحبه، إنما هو مُستْخلف فيه، ولو كان ماله لحافظ عليه، فالحق يردُّ الناس بالأحداث إلى طبيعة الفطرة الخلافية، لأن فساد الكون يأتي من اعتبار الإنسان نفسه أصيلاً في الكون.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الإنسان إذا نظر في الكون نظرة فاحصة عادلة لَعلِم ما يأتي: أن كل شيء لم تتدخل فيه يَدُ الإنسان سليم، ويؤدي مهمته على أكمل وجه، وأن كل فساد في الكون إنما هو من تدخُّل الإنسان فيه بغير قانون ربه، ولو تدخَّل فيه بقانون ربه لَصَلُحت له الأشياء التي تدخَّل فيها، كما صَلُحَتْ له الأشياء التي لم يتدخل فيها.
وقلنا: إنك إذا رأيتَ عواراً في الكون فاعلم أنه نتيجة حقٍّ مُضيَّع من حقوق الله، فحين ترى فقيراً يتضوَّر جوعاً أو عرياناً لا يملك ما يستر عورته، فاعلم أن الأغنياء قصَّروا في أداء حق الله في الزكاة؛ لأن الله تعالى شرعها بحساب، فلو أن القادر أخرج الزكاة المفروضة في ماله لما بقي في المجتمع المحيط به محتاج.
ثم يريد منا الحق سبحانه أن نحافظ في نفوسنا على إيمان الفطرة، وعلى الذرة الإيمانية الأولى التي لم تدخلها الشهوة، ولم يخالطها النسيان، هذه الذرة التي شهدت العهد الأول الذي قال الله فيه:(19/11856)
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} [الأعراف: 173]
أي: قبل أنْ تأخذكم شهوات الدنيا ونسيانها فتُنكروا هذه الشهادة، وتقولون: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172 - 173]
فالذي يحافظ على هذه الذرة، وعلى هذه اللمسة الربانية التي وضعها الله فيه بيده، وعلى العهد الذي أخذه الله عليه يبقى له نور هذه الفطرة، وتظل هذه النورانية متأججة في نفسه، فإن أهملها طمستْها الذنوب والغفلة.
لذلك فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضرب لنا المثل فيقول: «تُعرض الأمانة - أي: التكاليف الاختيارية من الله - على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيُّما قلب أُشْرِبها نُكتَتْ فيه نكتة بيضاء، وأيُّما قلب أنكرها نُكِتت فيه نكتة سوداء حتى تكون على قلبين: أبيض مثل الصَّفا، لا تضره فتنة ما دامتْ السماوات والأرض، والآخر أسود مُربَاداً كالكوز مجَخَّياً ممقوتاً، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكراً» .
فالطاعات أو الذنوب تتراكم على القلب كما تُصَفُّ عيدان الحصير عوداً بجوار عود، فيبيضّ القلب بالطاعات، أو يسودّ بالمعاصي.(19/11857)
والإنسان منه مادة ومنه روح، الروح في المادة تعطيها الحياة والحركة والفهم والفكر والتصرف، وهما قبل أن يلتقيا كانا مُسبِّحَيْن لله تعالى، فكل شيء في الوجود مُسبِّح {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ... } [النور: 41]
وعلى الإنسان أنْ يفهم هذه الحقيقة، وأن يحافظ على الطبيعة الإيمانية في ذراته ومكوناته لتظل مشرقة نيَّرة بنور الإيمان، فإنْ غفل عن هذه الطبيعة حدثتْ الأغيار، وحدث عدم الانسجام بين ذراته في الذات البشرية، فحين تحمل إرادتُك الجسمَ والروحَ على المعصية يكرهك جسمك، وتكرهك روحك؛ لأنك خالفتَ منهج خالقها - عَزَّ وَجَلَّ - فهي مُسبّحة عابدة وأنت لاهٍ غافل عَاصٍ؛ لذلك تلعنك روحك وتلعنك أبعاضك.
ومن رحمة الله بالعاصي أن ينام فترتاح أبعاضه، وترتاح روحه من معاصيه، وتأخذ راحتها في عبادة ربها، حيث لا منازع لها، ولا معاند من إرادة صاحبها، لذلك يشعر الإنسان بالراحة عند النوم، ويقوم منه نشيطاً لما حدث من انسجام وتعادل بين ذرات ذاته أثناء النوم.
لذلك ورد أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت تنام عينه ولا ينام قلبه؛ لأن أبعاضه منسجمة دائماً في نومه وفي يقظته، فإذا رأيتَ(19/11858)
إنساناً يغلب عليه أنه مُنْهك القوى فاعرف أنه قد أتعب ذراته، وأنها تودُّ الخلاص منه بالنوم، وكأنها تقول له نَمْ فلم تَعْدُ صالحاً للتعايش معي.
إذن: الحق سبحانه يُنبِّهنا دائماً من هذه الغفلة بواسطة الرسل، ثم يترك سبحانه للرسالات التي سبقتْ أدلة تؤيد الرسل الموجودين، وتعينهم على أداء مهمتهم؛ لذلك يقول لنا: انظروا إلى الرسل الذين سبقوا، وكيف كانت عاقبة المكذِّبين بهم.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون. .} [السجدة: 26] كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 6 - 10]
فهذه الأهرامات التي يَفِد إليها الناس، والتي تُعَدُّ مزاراً سياحياً هي آية من آيات الله تقوم دليلاً على هلاك أصحابها من المكذِّبين للرسل، فالحق سبحانه لم يترك لأحد من خَلْقه عذراً بعد أنْ كشف له الآيات الكونية تشهد بوحدانيته تعالى وألوهيته، والمعجزات التي(19/11859)
تثبت صدق الرسل في البلاغ عن ربه، ثم آيات الأحكام التي تحمل أقضية الحياة، والتي لا يمكن لبشر أنْ يستدرك عليها، والتي تحمل الحلَّ الشافي والدواء الناجع لكل داءات المجتمع.
وبعد ذلك تركت لهم تكذيب المكذِّبين أمام أعينهم، كما قال سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]
فها هي آثار عاد وثمود وغيرهم ما تزال شاهدةً عليهم، بعضها فوق الأرض، ومعظمها مطمور تحت طبقات الثَّرى؛ لذلك نجد أن كل الآثار القديمة يجدونها في الحفريات تحت الأرض، ولم لا وقد كانت العاصفة تهبُّ الهبَّة الواحدة، فتبتلع القافلة بأكملها، فما بالك بهبَّات الرياح من أيام عاد حتى الآن. إذن: خذوا عبرة من مصير هؤلاء.
ومعنى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] يهدي: أي: يدلُّ ويرشد ويُبيِّن ويُوضّح، والهداية لها عناصر ثلاثة: هاد ومهديٌّ والشيء المهْدَى إليه، ومادة: (هدى) تُستعمل في كتاب الله ثلاثة استعمالات:
الأول: أنْ يُذكر الهادي، وهو الله عَزَّ وَجَلَّ، والثاني: أن يُذكر المهديّ وهم الخَلْق، والثالث: وهو أنْ يُذكر المهدي إليه، وهي الغاية التي يريدها الله.
وهذا الفعل يأتي مرة متعدِّياً بنفسه، كما في سورة الفاتحة: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] أي: يا الله، فالله هو الهادي، ونحن المهديون، والغاية هي الصراط المستقيم.
ومرة يُعدَّى الفعل باللام، كما في {الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا ... } [(19/11860)
الأعراف: 43] فلم يَقُلْ: هِدانا هذا، ومرة يتعدى بإلى كما في {. . والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]
فتلحظ أن الهادي واحد وهو الله تعالى، والمهديّ هو الخَلْق، لكن المهْدَي إليه هو المختلف، أما في هذه الآية فالأمر مختلف، حيث يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] فلم تدخل اللام على المهْدى إليه، إنما دخلتْ على المهدى، فلم يقُلْ الحق سبحانه: أو لم يَهْدِ الله هؤلاء القوم لكذا.
فلماذا؟
قالوا: لأن بعض الناس يظنون أن الله حين يهدي إلى الطريق يُحمِّلك مشقات التكاليف؛ لذلك نرى بعض الناس ينفرون من التكاليف ويروْنَ فيها عبئاً عليهم، ومن هنا عبد بعضهم الأصنام، وعبد بعضهم الشمس أو القمر. . الخ؛ لأنها آلهة بدون منهج وبدون تكاليف، ليس لها أوامر، وليس عندها نَواهٍ، وما أيسر أنْ يعبد الإنسان مثل هذه الآلهة التي لا مطلوبات لها.
والذي يرى في التكاليف مشقة، ويراها عبئاً عليه يراها كذلك؛ لأنها تصادم مراد نفسه في الشهوات وتحدُّ من رغباته، ومرادات النفس ربما أعطتْك لذة عاجلة، لكن يعقبها حسرة وشر آجل.
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يتحمل مشقة المذاكرة والدرس طمعاً في التفوق الذي ينتظر حلاوته، وآخر يفضل اللذة السريعة العاجلة فيلعب ولا يهتم، فيلاقي مذلَّة الفشل والاحتقار آخر العام.
إذن: عليك أنْ تقرن بين مشقة العمل والنتيجة والثمرة التي تنالها من ورائه، وعندها تهون عليك مشقة التكاليف؛ لأن ما ينتظرك من(19/11861)
الأجر عليها أعظم مما قدَّمتَ وأبقى.
فالحق سبحانه يريد منا أنْ نُقبل على التكاليف، ونعرف أنها لمصلحتنا نحن، وأنها في الحقيقة تشريف لنا لا تكليف؛ لأن الذي كلفني لا يحتاج مني إلى هذا، ولا ينتفع من عبادتي بشيء، بل هو سبحانه يتحنن إليَّ؛ لأكون أهلا لإنعامه وجديراً بفضله وكرمه.
ألم يقُلْ سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ... } [إبراهيم: 7] فالمسألة إذن منك وإليك، فالله سبحانه له صفات الكمال قبل أنْ يخلق عباده.
فاللام في {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ. .} [السجدة: 26] أي: لصالحهم ومن أجلهم، وليس عليهم، فالهدى لصالح المهدي لا الهادي، ولو فهم الإنسان هذه الحقيقة وعرف أن الهداية راجعة إليه لَقبَّل يد مَنْ بلَغه عن الله هذا الفضل.
ويؤكد هذا المعنى - لمن فطن - قوله تعالى عن المؤمنين: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ... } [لقمان: 5] فالهدى ليس حِمْلاً يحملونه، إنما مطية يركبونها إلى الغاية النبيلة التي أرادها الله لهم.
فما الذي بيَّنه الله للمؤمنين ودلَّهم عليه؟
يقول سبحانه: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. .} [السجدة: 26] أي: انظروا إلى المخالفين للرسل من قبلكم، وكيف أخذهم الله فلم يُمكِّنهم من رسله، بل انتصر الرسل عليهم.
وكم هنا تفيد الاستفهام عن العدد، وهي بمعنى كثير، كما تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك أي: مرات كثيرة لا تُعَدُّ،(19/11862)
والمراد أننا بيَّنا لكم كثيراً من الأمم التي عادتْ رسلها، وكيف كانت عاقبتهم وغايتهم التي انتهوا إليها. {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40]
ومن مصلحتنا أن يُبيِّن الله لنا عاقبة المكذبين؛ لأنه ينبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه. وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن قوله تعالى - من سورة الرحمن: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36] فاعتبر الشواظ والنار من النِّعم التي ينبغي ألاَّ نُكذِّب بها، لماذا؟ لأنه نبَّهنا إليها حتى لا نقع فيها.
وقوله تعالى: {مِّنَ القرون. .} [السجدة: 26] القرن حدده العلماء بمائة عام، لكن هذه المائة تتداخل، ويقترن فيها عدة أجيال يجتمعون على مذهب أو مبدأ واحد، فالقرن يقرن بين الجد والابن والحفيد، هذا إنْ أردتَ الزمن وحده، فإنْ قُرِن الزمن بعصر دين من الأديان أو نبي أو ملك، فقد يطول القرن إلى الألف عام، كما في قرن نوح عليه السلام.
فالقرن مرتبط بما قُرن به؛ لذلك نقول: العصر الجاهلي، عصر صدر الإسلام، عصر بني أمية، العصر العباسي، عصر المماليك،(19/11863)
وما نزال حتى الآن نقول عن عصرنا: العصر الحديث.
والحق سبحانه يبين لنا في الحياة التي نعيشها أن الزمن متغير، إلى أعلى في الماديات، وإلى أدنى في المعنويات، فكلما تقدَّم الزمن انحلَّ الناس من رِبْقة الدين وتفلَّتوا منه؛ ذلك لأن الارتقاءات المادية ينتج عنها حضارات تستهوي النفوس وتغريها، والنتيجة انحدار في القيم وفي الدين، ولو أن الارتقاء كان متساوياً لسار الأمران في خطين متوازيين.
لذلك يقول تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً ... } [يونس: 24]
ثم إنك لو نظرتَ إلى جزئيات الحضارة في الكون تجد أن الأمم صاحبة الحضارات لم تستطع أنْ تجعل لنفسها وقاية من اندحار حضارتهم، ولم يستطيعوا صيانتها. حتى العصور التقدمية: كنا في العصر الحجري، ثم عصر البخار، ونحن الآن في عصر الفضاء.
إذن: نحن مرتقون فقط في الماديات، لكن منحدرون في المعنويات، لكن هل هذا الارتقاء المادي جاء عن امتلاك لمعالم هدى الله في الأرض؟ لا، لأن الله تعالى بيِّن لنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
فأنا الذي أنزلتُ، وأنا الذي ضمنتُ حفظه، فلم أتركه لكم تحفظوه، إذن: المسألة عن عجز منا، وإلا فكتاب البداية موجود حجة علينا.
وقوله تعالى: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ. .} [السجدة: 26] أي: أنني لا ألقى القضايا بدون حجة أو دليل، بل هي شاخصة أمامكم تمرون(19/11864)
بها، وتروْنَها ليل نهار، كما قال سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137 - 138]
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] فالله يحضُّهم على أنْ يستمعوا إلى سِيَر المكذِّبين المعاندين، وما حاق بهم من انتقام الله منهم.
وبالله: الإنسان مهما قَصُر عمره، ألم يَرَ ظالماً، وألم يَرَ مصرع هذا الظالم وعاقبة ظلمه، فإنْ لم يَرَ ظالماً ألم يُحدَّث عنه؟ إذن: مما يصلح حال الناس أنْ يستمعوا إلى حكايات عن الظالمين وعن نهايتهم، وما ينزل بهم من الانتقام الذي لا ينتظر الآخرة، بل يُعَجِّل لهم في الدنيا.
وفي ذلك حكمة لله بالغة؛ لأن الظالم ربما لا يرعوى ولا يرجع في الدنيا عن ظلمه، فيظل يُعربد في الخَلْق ما أحياه الله، لكن إنْ مسَّه شيء من العذاب، فلربما عاد إلى رُشْده، وإن لم يَعُدْ كان عبرة لغيره.
لذلك قال أهل المعرفة: لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه. وربما مَنْ رآه ظالماً يراه مظلوماً، ومَنْ أراد أن يرى نهاية ظالم فلينظر إلى مصارع الظالمين قبله.
وتأمل قول ربك: {وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً ... } [الأنعام: 129] فكأن الظالم له رسالة، هي أن ينتقم من ظالم مثله، وهكذا يُهلك الله هؤلاء بعضهم ببعض؛ لأن الخيِّر طيِّب القلب لا يؤدب ظالماً، فإن اعتديتَ عليه غلب عليه طابع التسامح والعفو.
ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكفار مكة: «اذهبوا فأنتم(19/11865)
الطلقاء» فكأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول للخيِّر: اجلس أنت واسترح، واترك الأشرار لي، فسوف أرسل عليهم من هو أشرّ منهم ليؤدبهم.
واختار الحق هنا حاسة السمع {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] لأنها وسيلة الإدراك المناسبة للموقف، فبها نسمع ما يُحكَى عن الظالمين وبها نعتبر، وفي موضع آخر سيقول {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] ويقول: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} [يس: 68] فيُنوِّع لنا، ويُقلِّب كل وسائل الإدراك لينبهنا من خلالها.
والمعنى {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] ما يُرْوَى لهم عن مصارع الظالمين، لقد نبهناهم وذكَّرناهم، ومع ذلك أشركوا وجعلوا سمعهم (ودن من طين، وودن من عجين) .(19/11866)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
أولاً لك أن تلحظ هنا توافق النسق القرآني بين صدر الآيات وعَجُزها، ففي الآية السابقة قال سبحانه {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ... } [السجدة: 26] أي: يدلُّ ويرشد، والكلام فيها عن قصص تاريخي، فناسبها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26] أما هنا فالكلام عن مشاهد(19/11866)
مرئية، فناسبها {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] فهذا ينبغي أنْ يُسمع، وهذا ينبغي أنْ يُرى.
وفي الآية السابقة قال سبحانه {أَهْلَكْنَا ... } [السجدة: 26] لنعتبر بإهلاك المكذبين في الماضي، أما هنا فيلفتنا إلى آية من آياته في الكون، فيأتي الفعل {نَسُوقُ المآء. .} [السجدة: 27] بصيغة المضارع الدالّ على التجدّد والاستمرار، ففي كل الأوقات يسوق الله السحب، فينزل منها المطر على الأرض (الجرز) أي: المجدبة، فتصبح مُخضرة بأنواع الزروع والثمار، وهذه آية مستمرة نراها جميعاً، ولا تزال في الحال وفي الاستقبال، ولأن هذه الآية واقعة الآن تحتاج منا المشاهدة والتأمل قال في ختامها {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27]
وفي موضع آخر قال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} [الكهف: 7 - 8] فالجُرُز هي الأرض المقطوع منها النبات، إما لأن الماء شحَّ عليه فجفَّ، وإما أنه استُحصد فحصدوه.
ومعنى {نَسُوقُ المآء. .} [السجدة: 27] السَّوْق: حَثٌّ بسرعة؛ لذلك تقول للذي يتعجلك (ما لك سايقنا كده) ، ومعلوم أن السَّوْق يكون من الوراء، على خلاف القيادة، فهي من الأمام، فالذي تسوقه تسوقه وهو أمامك، تراه فلا يتفلت منك، ولو كان خلفك فهو عُرْضة لأنْ يهرب منك، فلا تشعر به.
والسَّوْق مرة يكون للسحاب، كما في قول الله تعالى {والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ... } [فاطر: 9]
ومرة يكون السَّوْق للماء نفسه كما في هذه الآية، وسَوْق الماء له عدة مظاهر: فالله يسوق الماء من السحاب إلى الأرض، فإذا نزل(19/11867)
إلى الأرض ساقه في الأنهار، أو سلكه ينابيع في الأرض ليحتفظ لنا به لحين الحاجة إليه.
فربُّنا - عَزَّ وَجَلَّ - جعل لنا خزانات للماء تحت الأرض، لا لنحرم منه حين يوجد، لكن لنجده حين يُفقد، وكون الماء ينابيع في الأرض يجعلنا نتغلب على مشاكل كثيرة، فالأرض تحفظه لنا، فلا يتبخر ولا نحتاج إلى بناء السدود وغيرها، مما يحفظ لنا الماء العَذْب.
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقياً - أرض خصبة - قبلتْ الماء، فأنبتت الكلأ والعُشْب، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فشرب الناس منه وسَقُوا أنعامهم وزروعهم، وكان منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم» .
فهذه أنواع ثلاثة من الأرض تمثل انتفاع الناس بالعلم، فالأولى تسمك الماء، وتُخرِج الزرع، والثانية تمسك الماء حتى ينتفع الناس به، ولك أن تسأل: فما فائدة الثالثة: القيعان التي لا تُمسِك ماء، ولا تنبت كلأ؟ ولماذا خلقها الله إذن؟
نقول: هذه القيعان هي التي تسلك الماء في باطن الأرض، وصدق الله: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22] وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} [الملك: 30](19/11868)
إذن: هذه القيعان لها مهمة يعرفها مَنْ فَطِن لهذه المسألة، وإلا فالله تعالى لم يخلق شيئاً عبثاً أبداً، كذلك يكون انتفاع الناس بالعلم، فمنهم مَنْ نرى أثر علمه خيراً عاجلاً، ومنهم مَنْ يتأخر نَفْع علمه للأجيال القادمة.
ثم إياك أنْ تظن أنَّ الماء حين يسلكه اللهُ ينابيع في باطن الأرض يسيح فيها، أو يحدث له استطراق سائلي يختلط فيه العذب بالمالح، لا. . إنما يسير الماء العَذْب في شبه أنابيب ومسارب خاصة، يجدونها حتى تحت مياه الخليج المالحة.
وهذه من عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق عَزَّ وَجَلَّ، وكما يوجد برزخ بين المائيْن على وجه الأرض {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] كذلك هناك برزخ للماءين تحت الأرض.
فالحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى هذه الآية المشاهدة {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز. .} [السجدة: 27] نعم، هذه آية نشاهدها جميعاً، لكن المراد هنا مشاهدة تمعُّن وتذكّر وعظة وتعقُّل، نهتدي من خلالها إلى قدرة الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
وقوله سبحانه {أَنَّا نَسُوقُ. .} [السجدة: 27] فيه دليل على قيُّوميته تعالى على الخلق، فإنْ كان سَوْق الماء يتم بواسطة الملائكة المكلفين به، إلا إنه تعالى صاحب الأمر الأول والمتتبع لعملية تنفيذه.
وقدَّم الحق سبحانه الأنعامَ على الإنسان في الأكل من الزرع، مع أنها كلها مملوكة للإنسان؛ لأن الأنعام في الغالب ما تأكل من(19/11869)
الزرع، وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد، ليأكل منه الإنسان، وأيضاً هو سبحانه حين يطعم الأنعام فإنما يطعم مَنْ جعله له فاكهة طعام، وهي الأنعام.
وأشرنْا إلى أن دِقَّة البيان القرآني اقتضتْ أنْ تختم هذه الآية المشاهدة بقوله تعالى: {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} [السجدة: 27] لأن هذه مسألة تتعلق بالبصر.
ولك أن تقرأ في مثل هذه الدقَّة قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 71 - 72]
فقال في الأولى {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] لأنها تتكلم عن آية الليل، والسمع هو وسيلة الإدراك فيه، وقال في الأخرى {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 72] لأنها تتكلم عن آية النهار، والبصر هو وسيلة الإدراك في النهار، إذن: نلحظ دقَّة الأداء وإعجازه؛ لأن المتكلم إله ورب، فلا بُدَّ أنْ تجد كل لفظة في مكانها المناسب.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَقُولُونَ متى هذا ... } .(19/11870)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28)
(متى) يُستفهم بها عن الزمان، والاستفهام بها يدل على أنك استبطأت الشيء فاستفهمتَ: متى يحدث؟
الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين بُعِث أخبر قومه أنه مُرْسَل إليهم بمنهج من الله، وقد أيده الله بالمعجزات، وأخبرهم بمصير مَن اتبعه ومصير مَنْ(19/11870)
خالفه، وأن ربه - عَزَّ وَجَلَّ - ما كان ليرسله إليهم، ثم يُسلْمه أو يتخلى عنه، فهو لا بُدَّ منتصر عليهم، فهذه سنة الله في أنبيائه ورسله، حيث قال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173]
لذلك قلنا: إذا رأيت موقفاً لم ينتصر فيه المسلمون، حتى في حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحياة الصحابة، فاعلم أن الجندية عندهم قد اختلتْ شروطها، فلم يكونوا في حال الهزيمة جنوداً لله متجردين.
وحين نتأمل الأحداث في (أحُد) نجد أن الله تعالى يقول للمسلمين: لا تظنوا أن وجود رسول الله بينكم يحميكم أو يُخرِجكم عن هذه القضية، فهذه سنة الله في كونه لا تتبدل.
ففي (أُحُد) خالف المسلمين أوامر رسول الله، حين نزل الرماة وتركوا أماكنهم طمعاً في الغنائم، فالتفَّ عليهم المشركون، وكانت النتيجة لا نقول انهزموا إنما هم لم ينتصروا؛ لأن المعركة (ماعت) والرسول موجود بينهم.
والبعض يرى في هذه النتيجة التي انتهتْ إليها الحرب في أُحُد مأْخذاً، فيقول: كيف يُهزم جيش يقوده رسول الله؟ وهذه المسألة تُحسَب للرسول لا عليه، فالرسول لن يعيش بينهم دائماً، ولا بُدَّ لهم أن يروْا بأعينهم عاقبة مخالفتهم لأمر رسول الله، وأنْ يشعروا(19/11871)
بقداسة هذه الأوامر، ولو أنهم انتصروا مع المخالفة لفقدوا الثقة في أوامر رسول الله بعد ذلك، ولِمَ لا وقد خالفوه في أُحُد وانتصروا!!
كذلك في يوم حنين الذي قال الله فيه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ... } [التوبة: 25]
وكان من إعجاب المؤمنين بكثرتهم أن يقول أبو بكر نفسه: لن نُغْلَب اليوم عن قلة، لذلك لقَّنهم الله تعالى درساً، وكادوا أنْ يُهزموا، لولا أن الله تداركهم في النهاية برحمته، وتحوَّلت كفَّة الحرب لصالحهم، وكأن التأديب جاء على قدر المخالفة.
فالحق سبحانه يُعلِّمنا امتثال أمره، وأنْ نخلص في الجندية لله سبحانه، وأن ننضبط فيها لنصل إلى الغاية منها، فإنْ خالفنا حُرِمْنا هذه الغاية؛ لأنني لو أعطيتُك الغاية مع المخالفة لما أصبح لحكَمي مكان احترام ولا توقير.
وهنا يحكي الحق - تبارك وتعالى - عن المشركين قولهم لرسول الله: {متى هذا الفتح. .} [السجدة: 28] أي: النصر الذي وعدكم الله به، وقد كان هذا النصر غاية بعيدة المنال أمام المؤمنين، فما زالوا قلَّة مُستْضعفة.
لذلك لما نزل قول الله تعالى:
{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب عمر حتى قال: أيُّ جمع هذا، ونحن لا نستطيع أنْ نحمي أنفسنا؟ لكن الحق سبحانه لم يُطل عليهم هذا الوضع، وسرعان ما جاءتْ بدر، ورأى عمر بعينه كيف تحقَّق وعد الله، وكيف هُزِم جَمْع المشركين، ورددها بنفسه بعد المعركة: نعم يا رب، سَيُهزم الجمع ويولون الدبر.(19/11872)
ومن العجيب أنْ يدل رسول الله على الكفار وعلى أصحابه وأنصاره بفيض الله عليه، وأنه أخبره بنتيجة المعركة قبل حدوثها، فيقف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أرض بدر، ويشير بعصا في يده إلى مصارع المشركين: هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة، وهذا مصرع الوليد. . الخ.
فمَنْ يستطيع أنْ يحدد نتيجة معركة بهذا التفصيل، والمعركة أَخْذٌ وردّ وكرّ وفرّ واختلاط، مع أنهم لم يخرجوا لحرب، إنما خرجوا لملاقاة قافلة قريش التجارية، فما بالك لو خرجوا على حال استعداد للحرب، وهذه سيأخذها الكفار قياساً يقيسون عليه قوة المسلمين الوليدة، وسيقذف الله بهذه النتيجة الرعب في قلوب الكفار، ولم لا وقد انتصرتْ القلة المستضعفة غير المجهزة علة الكثرة المتعجرفة المستعدة للحرب.
والاستفهام هنا {متى هذا الفتح ... } [السجدة: 28] ليس استفهاماً على حقيقته، إنما يراد به الاستهزاء والسخرية، وجواب الله على هذا الاستفهام يحدد نيتهم منه، فهم يستبعدون هذا النصر وهذه الغلبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين، لكنهم يستبعدون قريباً، ويستعلجون أمراً آتياً لا ريب فيه.
وقد سجَّل القرآن عليهم مثل هذا الموقف في قوله تعالى حكاية عن الكفار يقولون لرسولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70]
كلمة (الفتح) إنْ جاءت مُعرَّفة بأل فخيرها مضمون، فاعلم أنها(19/11873)
نعمة محروسة لك سينالك نفعها، فإنْ جاءت نكرة فلا بُدَّ لها من متعلق يوضح الغاية منها: أهذا الفتح لك أم عليك؛ فقوله تعالى في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] دلَّ على أن هذا الفتح لصالحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو غُنْم لا غُرْم، كما يقولون في حسابات البنوك: له وعليه.
أما الأخرى، ففي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ... } [الأنعام: 44]
إذن: تنبَّه لما يفتحه الله عليك؛ ولا تغتَرَّ به، وتأمَّل: أهو لك أم عليك؟ وإياك أنْ تُطغيك النعمة إذا (زهزهتْ) لك الدنيا، فلعلها استدراج وأنت لا تدري، فالفتح يحتمل المعنيين، واقرأ إنْ شئتَ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض ... } [الأعراف: 96] أي: احذروا هذه النعمة لا تطغيكم.
وكلمة (الفتح) تأتي بمعانٍ متعددة، يحددها السياق، كما قلنا في كلمة العين، فتأتي بمعنى العين الباصرة. تقول: رأيت فلاناً بعيني، وتقول: جُدْت على فلان بعيْن مني أي: بالذهب أو الفضة، وتقول: سمحتُ له أنْ يروي أرضه من عيني أي: عين الماء، وتقول: هؤلاء عيون فلان أي: جواسيسه.
وهذا يسمونه: المشترك اللفظي.
وكلمة (الفتح) تستخدم أولاً في الأمر المادي، تقول: فتحتُ الباب أي: أزلت مغاليقه، وهذا هو الأصل في معنى الفتح. فالحق سبحانه يقول في قصة سيدنا يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ... } [يوسف: 65] ففتحوا متاعهم الفتح المادي الذي يزيل عنه الأربطة.(19/11874)
وقد يُراد الفتح المعنوي، كما في قول الله تعالى: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ... } [البقرة: 76] أي: بما أعطاكم الله ومنحكم من الخير ومن العلم.
ويأتي الفتح بمعنى إظهار الحق في الحكم بين حق وباطل وتجلية الأمر فيه؛ لذلك يسمى أهل ُ اليمن القاضي (الفاتح) .
ويأتي بمعنى النصر والغلبة، كما في هذه الآية التي معنا: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة: 28] ولا بد أنْ يقول المؤمنون في إجابة هذا السؤال: نحن لا نقول أننا صادقون أو كاذبون في هذا الخبر؛ لأن هذه مسألة بعيدة عنا، ولا دخْلَ لنا بها، إنما هي من الله الذي أخبرنا هذا الخبر، فنحن لا نُوصَف فيه، لا بصدق ولا بكذب.
ولكي يكون الإنسان عادلاً ينبغي أنْ ينسب الفعل إلى فاعله، أرأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أخبر قومه خبر إسرائه قال: «لقد أُسْرِي بي الليلة من مكة إلى بيت المقدس» ولم يقل سريت ومع ذلك سأله القوم: أتدَّعى أنك أتيتها في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وهذه مغالطة منهم، لا عدم فهم لمقالة رسول الله؛ لأنهم أمة كلام، ويفهمون جيداً معاني الألفاظ.
إذن: رسول الله ما سَرَى بذاته، إنما أَسْرى الله به، فمَنْ أراد أن يبحث هذه المسألة فليبحثها في ضوء قدرة الله، وكيف يكون الزمن بالنسبة لله تعالى، وقلنا: إن الفعل الذي يستغرق زمناً هو(19/11875)
الفعل العلاجي، إنما ربنا - تبارك وتعالى - لا يعالج الأفعال، فقط يقول كُنْ فيكون، والفعل يتناسب مع زمنه تناسباً عكسياً، فكلما زادت قوة الفاعل قَلَّ زمن الفعل. وعليه لو نسبتَ حادثة الإسراء إلى قوة الحق تبارك وتعالى لوجدتَ الزمن لا زمن.
ثم يجيب الحق تبارك وتعالى عن سؤالهم {متى هذا الفتح. .} [السجدة: 28] بما يفيد أنه سؤال استبعاد واستهزاء، فيقول سبحانه: {قُلْ يَوْمَ الفتح ... } .(19/11876)
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
أي: لِمَ تسألون عن يوم الفتح؟ وماذا ينفعكم العلم به؟ إن يوم الفتح إذا جاء أُسْدل الستار على جرائمكم، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن تنفعكم فيه توبة أو إيمان، ولن يُنْظِرَكم الله إلى وقت آخر.
ومعلوم أن الإيمان لا ينفع صاحبه إلا إذا كانت لديه فُسْحة من الوقت، أما الإيمان الذي يأتي في النزع الأخير، وإذا بلغت الروح الحلقوم فهو كإيمان فرعون الذي قال حين أدركه الغرق: {قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90] فردَّ الله عليه هذا الإيمان {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 91]
الآن لا ينفع منك إيمان؛ لأنك مُقْبل على الله، وقد فات أوان العمل، وحَلَّ أوان الحساب، الإيمان أنْ تؤمن وأنت حريص صحيح تستقبل الحياة وتحبها، الإيمان أن تؤمن عن طواعية.(19/11876)
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [السجدة: 29] أي: ليس لكم الآن إمهال؛ لأن الذي خلقكم يعلم سرائركم، ويعلم أنه سبحانه لو أمهلكم لَعُدْتم لما كنتم عليه {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر ... } .(19/11877)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
هذا المعنى كما نقول في العامية (اديني عرض كتافك) أي: انصرف عنهم، فلم يَعُدْ بينك وبينهم لقاءٌ، ولا جدوى من مناقشتهم والتناظر معهم فقد استنفدوا كل وسائل الإقناع، ولم يَبْقَ لهم إلا السيف يردعهم، على حَدِّ قول الشاعر:
أنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عَقِّبْ بعدَها وَعيداً ... فَإنْ لَمْ يُغْنِ أَغَنَتْ عَزَائمهُ
فقد بلَّغهم رسول الله وأنذرهم، لقد بشَّرهم بالجنة لمن آمن، وحذرهم النار لمن كفر فلم يسمعوا. إذن:
فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أو حَدّ مُرْهَف ... فالعاقل الوحي يقنعه، والجاهل السيف يردعه.
وقوله سبحانه: {وانتظر. .} [السجدة: 30] أمر من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: انتظر وعدي لك بالنصر والغلبة، وقلنا: إن وعد الله محقق، حيث لا توجد قوة أخرى تمنعه من إنفاذ وعده، أما الإنسان فعليه حين يَعِد أنْ يتنبه إلى بشريته، وأنه لا يملك شيئاً من أسباب تنفيذ ما وعد به.
لذلك يُعلِّمنا ربنا: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن(19/11877)
يَشَآءَ الله ... } [الكهف: 24] وتعليق أمرك على مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ يحميك أن تكون كاذباً إذا لم تَفِ بما وعدتَ به، فأسباب الوفاء بالوعد لا يملكها البشر، إنما يملكها خالق البشر سبحانه، فإذا وعد فاعلم أن وعده متحقق لا محالة.
وقلنا: إنك حين تقول لصاحبك مثلاً: سأقابلك غداً أو سأفعل لك كذا وكذا، نعم أنت صادق وتنوي الوفاء، لكنك لا تملك في الغد سبباً واحداً من أسباب الوفاء، فلربما طرأ لك طارئ، أو منعك مانع، وربما تغيَّر رأيك. . الخ.
وفَرْق بين انتظار رسول الله حين ينفذ أمر ربه {وانتظر} [السجدة: 30] وبين {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} [السجدة: 30] فانتظار رسول الله لشيء محقق، له رصيد من القوة والقدرة، أما انتظارهم فتسويل نفس ووسوسة شيطان، لا رصيد لها من قوة وإنقاذ.
ومعنى {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} [السجدة: 31] أي: ينتظرون أن يحدث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيء يمنعه من تبليغ رسالة ربه، وهذا حمق منهم، فقد كان عليهم أن يعلموا أن الرسول مُؤيَّد من الله مُرْسَل من قِبَله لهدايتهم، وما كان الله تعالى ليرسل رسولاً ثم يُسْلمه أو يخذله، فسنة الله في الرسل أن لهم الغلبة مهما قويتْ شوكة المعاندين لهم.
إذن: لا سبيلَ إلى ذلك، ولا سبيلَ أيضاً إلى الخلاص منه أو حتى تخويفه ليرتدع، ويدع ما يدعو إليه من منهج ربه.
وقد ورد هذا الانتظار في موضع آخر بلفظ (التربص) في قوله تعالى: {تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين} [الطور: 31]
وفي قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين ... } [(19/11878)
التوبة: 52] أي: ماذا تنتظرون منا ونحن أمام حُسْنيين: إما النصر والغلبة عليكم، وساعتها ندحركم ونُذلكم. أو الشهادة التي تضمن لنا حياة النعيم الباقية الخالدة
{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فتربصوا ... } [التوبة: 52]
يعني: تربَّصوا بنا، فنحن أيضاً نتربص بكم، لكن فَرْق بين تربُّصنا وتربُّصكم.
وهذه السورة سميت (السجدة) أولاً: لأن بها سجدة تلاوة ينبغي أن نسجد الله شكراً عندها، والسجود يمثل منتهى الخضوع للحق - تبارك وتعالى - فإذا جاءت هذه الآية التي تهز كيان الإنسان يعلمنا ربنا أن ننفعل لهزَّة الكيان، وأن نسارع بالسجود، ولا ننتظر سجودنا بعد ذلك في الصلاة.
فكأن في هذه الآية آمراً قوياً وسراً عظيماً استدعى أنْ نُخرِج السجود عن موقعه بأمر مَنْ شرع السجود الأول. إذن: لا بُدَّ أن في آيات سجود التلاوة طاقاتٍ جميلة من نِعَم الله تُذكِّرني به.
والحق سبحانه يريد أنْ يشعر الخَلْق أنهم يستقبلون نعماً جديدة، لا يكفي في شكرها السجود الرتيب الذي نعرفه، فيشرع لها سجوداً خاصاً بها.
وفي السورة أيضاً بعض الإشارات التي وقف عليها العارفون وقالوا: إنها تضع نماذج لصيانة النفس الإنسانية، وعدم بُعْدها عن حكمة خالقها، ومن هذه الإشارات أن العين ترى الأشياء فتقول: هذا حسن، وهذا قبيح، ذلك من مجرد الشكل الخارجي، لكن على المرء أنْ يتأمل الأشياء ويعرف معنى القبح.(19/11879)
القبح ليس ما قَبُحَ في نظرك، إنما القبيح الذي يُخرِج الحُسْن التكليفي عن مناطه؛ لأن الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - خلق كل شيء جميلاً، كما قال سبحانه: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ... } [السجدة: 7]
فإذا قَبُحَ الشيء في نظرك فاعلم أنك نظرتَ إلى جانب الشكل، وأهملتَ جوانب أخرى، وقُلْ إنني لم أتوصل إلى سرِّ الجمال فيه.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الخالق سبحانه نثر المواهب بين خَلْقه بحيث تجد مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فلا تنظر إلى جانب واحد فتقول: هذا غني، وهذا فقير، لكن انظر إلى الجوانب الأخرى.
ويُرْوَى أن سيدنا نوحاً عليه السلام رأى كلباً أجرب فبصق عليه، فأنطق الله الكلب الأجرب، وقال له: أتعيبني أم تعيب خالقي؟ والمعنى أنه خلقني لحكمة، ولمعنى من المعاني.
وصدق القائل:
للِقُبْح وَقْتٌ فِيهِ يَظْهر حُسْنُه ... وَيُحمد مَنْ غشَّ البناءَ لَدَى الهَدْم
كذلك نثر الحق سبحانه حكمه، ونثر خيره في كتابه، فلا تغنى آية عن آية، ولا تغني كلمة عن كلمة، ولا حرف عن حرف، لكن البصائر التي تَتلَقَّى عن الله هي التي تستطيع أنْ تقف على أسرار الله.(19/11880)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
قوله تعالى: {ياأيها النبي. .} [الأحزاب: 1] نداء لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمنادي هو الحق سبحانه، رسول الله لقبه، واسمه محمد، واسمه أحمد كما ذُكر في القرآن، والإنسان حين يُولَد يُوضع له اسم يدل على مُسمَّاه، بحيث إذا أطلقه الواضع انصرف إلى المسمى، والقوم الذين سُمُّوا لهم محيط يُعرفون فيه، وغيرهم بنفس الأسماء لهم محيط آخر، فمحمد هذا المحيط غير محمد هذا المحيط.(19/11883)
وتعريف الإنسان يكون بالاسم أو بالكُنْية أو باللقب، فالاسم هو العلم الذي يُوضع لمسمّى ليُعلَم به ويُنادَى به، ويُميّز عن غيره، أما الكنية فاسم صُدِّر بأب أو أم كما نقول: أبو بكر، وأم المؤمنين، فإنْ سُمِّي بد بدايةً وجُعِل عَلَماً على شخص فهو اسم، وليس كنية، أما اللقب فما أشعر برفعة أو ضِعةً كما تقول: فلان الشاعر أو الشاطر. . إلخ.
فإذا أُطِلق الاسم الواحد على عدة مسميات، بحيث لا تتميز بعضها عن بعض وجب أنْ تُوصَف بما يميزها كأسرة مثلاً عشقتْ اسم محمد فسمَّتْ كل أولادها (محمد) فلا بُدَّ أن نقول: محمد الكبير، محمد الصغير، محمد الأوسط. . الخ.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له اسم وكُنْية ولقب، أما اسمه فمحمد وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل ... } [آل عمران: 144] . {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله ... } [الأحزاب: 40] . {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ... } [الفتح: 29] . {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ ... } [محمد: 2]
وورد باسم أحمد في موضع واحد هو: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ... } [الصف: 6] وسبق أنْ تكلَّمنا في علة هذه التسمية.
أما كنيته: فأبو القاسم، ولقبه: رسول الله.(19/11884)
وهكذا استوفى سيدنا رسول الله العَلَمية في أوضاعها الثلاثة: الاسم، والكُنْية، واللقب.
واللقب يضعه أيضاً الأب أو الأم أو الناس المحيطون بالإنسان، إما يدل على الرفعة تفاؤلاً بأنه سيكون له شأن، أو يدل على الضِّعَة، وهذه في الغالب تحدث في الأولاد الذين يُخاف عليهم العين، فيختارون لهم لقباً يدل على الحِطّة والضِّعة وما أشبهه (بالفاسوخة) يُعلِّقونها على الصغار مخافة العين.
أما لقب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد اختاره له ربه عَزَّ وَجَلَّ، وطبيعي أنْ يأتي لقبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُشْعِراً برفعة أيما رفعة، فهي ليست عند الخلق فحسب، إنما رفعةَ عند الخالق، فلما وَلِد رسول الله أسماه جده بأحب الأسماء عنده، وقال: سمَّيْته محمداً ليُحمد في الأرض وفي السماء.
ولما وُلِد القاسم كُنِّى به رسول الله فقيل: أبو القاسم، فلما اختاره الله للرسالة وللسفارة بينه تعالى وبين الخَلْق لقّبه برسول الله وبالنبي، وهذان اللقبان على قدر عظيم من الرفعة لو جاءت من البشر، فما بالك وهي من عند الله، فأنت حين تضع المقاييس تضعها على قَدْر معرفتك وإمكاناتك.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسول الله ونبي الله بمقاييس الله، فهو إذن مُشرّف عندكم، مُشرَّف عند مَنْ أرسله و {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } [الأنعام: 124](19/11885)
فأحبُّ شيء في الإعلام برسول الله أن نقول: محمد، أو أبو القاسم، أو رسول الله، أو النبي، والحق سبحانه حين نادى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُنَاده باسمه أبداً، فلم يقُلْ يا محمد، إنما بلقبه الذي يُشعر برفعته عند الحق سبحانه، فقال في ندائه: {ياأيها النبي ... } [الأنفال: 65] ، {ياأيها الرسول ... } [المائدة: 41]
ولو تتبعت نداء الله للرسل من لَدُنْ آدم عليه السلام لا تجد رسولاً نُودِي بغير اسمه إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما لفظ (محمد) فقد ورد في القرآن، لكن في غير النداء، ورد على سبيل الإخبار بأن محمداً رسول الله.
وحتى في الإخبار عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخبر الله عنه بلقبه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... } [التوبة: 128]
وقال: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} [الفرقان: 30]
إذن: في النداء استقل بيا أيها النبي، ويا أيها الرسول، أما في الإخبار فلا بُدَّ أنْ يذكر اسمه (محمد رسول الله) ، وإلا فكيف يعرف أنه رسول الله؟ فيخبر به أولاً اسماً ومُسمّى.
ونُودِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بياأيها النبي، وياأيها الرسول تعظيماً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونحن حين نريد أنْ نُعظِّم مَنْ ننادي نسبق الاسم بمقدمات، نقول: يا سيدي فلان، يا فضيلة الشيخ، يا صاحب العزة. . الخ.
وقد تقدمتْ (أَيُّهَا) على المنادي هنا؛ لأن الاسم المنادى المحلَّى بأل لا يُنادى مباشرة إلا في لفظ الجلالة (الله) فنقول: يا الله، فكأن الحق سبحانه توحَّد حتى في النداء، هذا في نداء المفرد.(19/11886)
والحق سبحانه نادى رسوله بياأيها النبي، وياأيها الرسول، الرسول هو سفير بين الله وبين خَلْقه؛ ليُبلغهم منهجه الذي يريد أنْ تسير عليه حياتهم فالرسول مُبلِّغ، أما النبي فمُرْسَل أيضاً من قِبلَ الحق سبحانه، لكن ليس معه شرع جديد، إنما يسير على شرع مَنْ سبقه من الرسل، أما فهو فقدوة وأُسْوة سلوكية لقومه.
ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جمع الأمرين معاً، فهو نبي ورسول له خصوصيات أُمِر بها، ولم يُؤْمَر بتبليغها - وهذه مسائل خاصة بالنبوة - وله أمور أخرى أُمِر بها، وأُمِر بتبليغها.
ومعلوم من أقوال العلماء أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسول بالمعنى الاصطلاحي، وإلا فَهُم جميعاً مُرْسَلون من قِبَل الله.
وكلمة (النبي) مأخوذة من النبأ وهو الخبر الهام، فالخبر يكون من البشر للبشر، فإنْ كان من خالق البشر فهو نبأ أي: أمر عظيم ينبغي الاهتمام به، وأصله من النَّبوَة، وهي الشيء العالي المستدير في وسط شيء مسْتَوٍ.
فحين تقول: رأيتُ فلاناً اليوم، هذا لا يُسمَّى نبأ إنما خبر؛ لذلك قال سبحانه: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1 - 2] أي: الخبر الهائل الذي هزَّ الدنيا كلها، وملأ الأسماع، وزلزل العروش.
ثم يقول سبحانه مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {اتق الله. .} [الأحزاب: 1] سبق أنْ قُلْنا: إن الكلام العربي مُقسَّم إلى خبر وإنشاء، فالخبر نسبة كلامية، فإنْ كان لها معنى ومدلول فهي نسبة واقعية، والخبر هو القول الذي يُوصَف بالصدق إنْ طابق الواقع، ويُوصَف بالكذب إن خالف.(19/11887)
أما الإنشاء فهو مقابل الخبر يعني: قوْلٌ لا يُوصَف بصدق ولا بكذب، كأن تقول لإنسان: قِفْ، فهذا أمر لا يقال لقائله: صادق، ولا كاذب.
فقوله تعالى لنبيه {اتق الله. .} [الأحزاب: 1] هذه نسبة كلامية من الله لرسوله، ليحدث مدلول هذا الأمر، وهو التقوى، لكن أكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير تقي حتى يأمره ربه بالتقوى؟
نقول: ليس بالضرورة أنْ يكون الرسول عصى، فيأمره الله بتقواه، لكن الحق سبحانه ينشئ مع رسوله كلاماً بداية دون سابقة عصيان. أو: أنه الأمر الأول بالتقوى كما تقول لولدك في بداية الدراسة: اجتهد وذاكر دروسك، وأنت تعرف أنه مجتهد، لكن لا بُدَّ من تقرير المبدأ في بداية الأمر.
ثم إن الحدث يحدث في أزمنة ثلاثة: ماضٍ وحال ومستقبل، فإذا طلب من شخص فعل شيء هو مقيم عليه بالفعل كقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ... } [النساء: 136]
فالحق سبحانه يأمرهم بالإيمان، مع أنه وصفهم وخاطبهم بلفظ الإيمان؛ لأن المعني: أنتم آمنتم قبل أنْ أُكلمكم، وهذا الإيمان السابق لكلامي ماضٍ، وأنا أريد منكم أنْ تُحدِثوا إيماناً جديداً، حالاً ومستقبلاً، أريد أنْ تُجدِّدوا إيمانكم، وأنْ تستَمروا عليه.
فمعنى {ياأيها النبي اتق الله. .} [الأحزاب: 1] أي: واصل تقواك حالاً، كما فعلتها سابقاً، وواصلها مستقبلاً، فلا تنقطع عنها أبداً.
أو: أن تقوى الله أمر يلصق الإنسانَ بربه، والله كلَّف بأشياء،(19/11888)
ثم أباح لك من جنس التكليف أشياء، فإذا قال الله لرسوله {اتق الله. .} [الأحزاب: 1] فهي غير قوله لنا: اتقوا الله، فالأمر لنا نحن بالتقوى، أي: نفِّذ ما فُرِض عليك، أما في حق رسول الله فهي بمعنى: ادخل في مقام الإحسان، وجدَّده دائماً؛ لأن مراقي القبول من الله لا تنتهي، كما أن كمالات العطاء في الله لا تنتهي.
لذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من استوى يوماه فهو مغبون» أي: من استوى يومه مع أمسه في قُرْبه من الله فهو خاسر، لماذا؟ لأنه ينبغي للمؤمن أنْ يزيد في قُرْبه وفي مودته، وعلاقته بالله يوماً بعد يوم؛ لأن نِعَم الله عليك متوالية تستوجب شكراً متوالياً، وحمداً دائماً.
كما أن الحق سبحانه لا يكتفي من رسوله بما يكتفي به من سائر الخلق، إذن: فالتقوى بالنسبة لرسول الله غير التقوى بالنسبة لسائر الخَلْق، التقوى في حق رسول الله مجالها أوسع، وللرسول مع الله فيوضات لا تنتهي.
لذلك حين يناديك ربك للصلاة في كل يوم خمس مرات، فاعلم أن فضله عليك غير مكرر، بل فضله متجدد، فعطاؤه لك في الظهر(19/11889)
غير عطائه لك في العصر، غير عطائه لك في المغرب، وهكذا تكون التقوى عملاً متواصلاً ممتداً.
ولذلك يحذرنا أهل الخير أن نداوم مع الله في شيء من الطاعة، ثم نقصر عنها، كذلك يحذرنا الشرع أنْ ننذر الله ما لا نستطيع الوفاء به، لأنك بالنذر تفرض على نفسك الطاعة، فأجمِلْ بك أنْ تظل في مقام التطوع، إنْ خفّت نفسك للطاعة أدِّها، وإنْ قصُرت فلا شيء عليك.
وكونك تفرض على نفسك شيئاً من الطاعات من جنس ما فرض الله عليك. يعني: أنك أحببتَ الطاعة وحَلَتْ لك العبادة، حتى زدتَ الله منها، فقلت مثلاً: نذرتُ لله أن أصلي من الركعات كذا، أو أتصدَّق بكذا من المال؛ لأنك رأيتَ في الصلوات الخمس إشراقات وفيوضات من الله فزدْتَ منها.
والحق سبحانه يطلب منا حين ينادينا للصلاة أنْ نسعى للمسجد، ومع أن الأرض كلها مسجد وكلها طهور، لكن المسجد خُصِّص للصلاة، فينبغي أنْ تُؤدَّى فيه، وأنت في صلاة ما دُمْتَ تسعى للصلاة، فمَنْ كان بعيد البيت عن المسجد عليه أنْ يأتي الصلاة في سكينة ووقار، ولا يخرج عن هذا السَّمْت حتى وإنْ تأخر عن تكبيرة الإحرام.
وقد ورد في حديث سيدنا رسول الله: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتموا» .(19/11890)
وهناك مطلوب إيمان ومطلوب إحسان: مطلوب الإيمان هو ما فرضه الله عليك، وجاء في الحديث القدسي: «ما تقرَّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إلىّ مما افترضته عليه»
فإنْ أردتَ أن تتقرب إلى الله فتقرَّب إليه بما يحب، ومن جنس ما فرضه عليك، فالله أمرك بصلاة وصيام وزكاة، فإنْ حَلَتْ لك هذه العبادات فزدْ منها فوق ما فرضه الله عليك، وحين تزيد اعرف أنه مسَّتْكَ نورانية الإشراق في العبادة فقلت: الله يستحق مني فوق ما كلَّفني، وهذا هو مقام الإحسان.
وسبق أنْ تحدثنا عن هذا المعنى في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18]
وهل فرض الله على عبده ألاَّ يهجع إلا قليلاً من الليل؟ لا بل لك أنْ تُصلي العشاء، وتنام حتى صلاة الفجر، كذلك في الاستغفار، أما الذي لا يهجع من الليل إلا قليلاً ويقوم في السَّحَر للاستغفار، فلا بُدَّ أنه حَلَتْ له العبادة، وحلا له الوقوف في حضرة ربه - عَزَّ وَجَلَّ - فدخل في مقام الإحسان.
ثم الإحسان نوعان: إحسان كم، وإحسان كيف، إحسان الكم بأنْ تزيد على ما فُرِض عليك، فتصلي فوق الفرض وتُزكِّي فوق الفرض، أما إحسان الكيف فبأنْ تخلص في عبادتك لله، وأنْ تعبد الله(19/11891)
كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك يعني: إذا لم يكُن لديك الإشراق والشفافية التي تريك الله، فلا أقلَّ من أنْ تعبده على أنه يراك.
وساعة تدخل في مقام الإحسان فأنت حرٌّ إذن فيما تقدم من الإحسان، كما قال سبحانه: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ ... } [التوبة: 91] على حسب ما تخفّ نفسك للطاعة، خفَّتْ لخمس ركعات، خفَّتْ لعشر، خفَّت لخمسة بالمائة في الزكاة، خفَّتْ لعشرة. . الخ أنت حر.
ألا ترى أن الحق سبحانه لما تكلم عن هذا المقام قال: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] أما في الزكاة المفروضة فقال: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24]
إذن {ياأيها النبي اتق الله. .} [الأحزاب: 1] أي: تقوى تناسب مقامك من ربك؛ لأن عطاءات الله سبحانه لا تتناهى، كما أن كمالاته لا تتناهى، لذلك كان سيدنا رسول الله يقدم الليل حتى تتفطر قدماه ولما سألته السيدة عائشة: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً» .
يعني: العبادة لا تكون لمجرد الثواب والمغفرة، إنما هناك درجات وارتقاءات أخرى.(19/11892)
والتقوى: قلنا أنْ تجعل بينك وبين ما يمكن أنْ ينشأ منه ضرر لك وقاية، لكن كيف نجعل بيننا وبين ربنا سبحانه وقاية، ومهمة التقوى أن تندمج مع الله في معيته؟ هذا في حق مَنْ يتحكم جيداً في نفسه، ويحملها على منهج الله.
قالوا: لأن لله تعالى صفات جلال وصفات جمال، ولكل صفة منها مطلوب، فالله تعالى غفور رحيم، وهو أيضاً سبحانه القهار الجبار المنتقم، الله سبحانه هو الضار وهو النافع، إذن: فصفات الجمال هي التي تُؤتي الإنسان الخير الذي يحبه، وصفات الجلال هي التي تتسلط على مَنْ يخالف. فعلى العبد دائماً أنْ يظل خائفاً من صفات الجلال راجياً صفات الجمال.
إذن: تقوى الله تكون بأنْ تجعل بينك وبين صفات الجلال وقاية؛ لأنك لستَ مطيقاً لهذه الصفات، ولا تطيق مسَّة خفيفة من النار، وهي جند من جنود الله فاحذرها.
وعرفنا في مسألة الشفاعة أن الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما، وأن الله يُشفِّع بعض المؤمنين، ويُشفِّع الأنبياء والملائكة، ثم بعد ذلك تبقى شفاعة أرحم الراحمين، فكيف يشفع الله عند الله؟(19/11893)
قالوا: أي تشفع صفات الجمال عند صفات الجلال، فحين يذنب العبد ذنباً تتسلط عليه صفات الجلال لتعاقبه، فتتصدى لها صفات الجمال، وتشفع عندها لتسقط ما لها عنده من حق.
ثم يقول سبحانه مخاطباً رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين.
.} [الأحزاب: 1] فهل حين يتقي رسول الله ربه أيطيع الكافرين والمنافقين؟ قالوا: جمع القرآن بين الأمر بالتقوى والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين على الالتزام، تقول: أكرم فلاناً وفلاناً أيضاً، فلم تقل لا تكرم إلا فلاناً، إذن: فعطف لا تُطع الكافرين والمنافقين على {اتق الله. .} [الأحزاب: 1] بالالتزام.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما جاء جاء على نظام كوني أعده الله تعالى لخَلْقه، وحين خلق الله الخَلْق أخذ على الإنسانية كلها بكل أفرادها من آدم إلى أن تقوم الساعة - أخذ عليهم العهد {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ... } [الأعراف: 172] فشهدوا لله تعالى قبل أنْ تتهيأ لهم المعاصي والشهوات.
فإذا أصابت الناسَ غفلةٌ أو نسُوا هذا العهد بعث الله لهم من رسله مَنْ يُذكِّرهم؛ لذلك خُوطِب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ... } [الرعد: 7]
وقال سبحانه عن الرسل: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ... } [النساء: 165] يعني: ليسوا منشئين تقوى وطاعة، إنما مذكرون بقضية معلومة سَلَفاً من الأزل، وما هم إلا مبشرين بالثواب لمن أطاع، ومنذرون بالعذاب لمن عصى، والحق سبحانه يريد من عباده أن يكونوا على ذكر دائم لهذه الحقيقة وألاَّ يغفلواعنها.
والغفلة تأتي إما من شهوة النفس أو كسلها عن مطلوب شاق(19/11894)
للعبادة أو وسوسة من غير مطيع في أذنك، سواء أكان من شياطين الإنس أو من شياطين الجن، كما قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ ... } [الأنعام: 112]
وقلنا: إن المنحرف يحسد المستقيم على استقامته، لكنه لا يستطيع أنْ يتحمل تبعات هذه الطاعة، فلا أقلَّ من أنْ يحاول أنْ يجذب المستقيم إليه، فيوسوس له ويصرفه عن صفة الكمال التي له؛ لذلك حين يوسوس لك صاحبك بشيء من معصية الله فأول شيء ينبغي أنْ تفطن إليه أنه يكرهك، ولا يريد لك الخير الذي يعجز هو عن إدراكه، فهو لا يريد لك أنْ تتميز عليه بشيء.
إذن: الكافرون والمنافقون الذي يصادمون دعوة الرسل لم يقدروا على أنْ يحملوا أنفسهم على منهج الله، ولا أنْ يلتزموا كما التزم المؤمنون، فلا أقلَّ من أنْ يحولوا بين المؤمنين وبين المنهج الجديد الذي جاء به رسول الله.
وقلنا: إن الرسول لم يأتِ إلا لضرورة، هي انطماس معالم المنهج عند المرسل إليهم، وانعدام الرادع في النفس البشرية أولاً ثم في المجتمع ككل، فالإنسان حين يغفل تُذكِّره النفس اللوامة وتردُّه عن المعصية، فإذا ما ضعف سلطان هذه النفس تحكمتْ فيه النفس الأمَّارة بالسوء وصرفتْه عن الخير كله، فلم يَبْقَ له رادع إلا في المجتمع الإيماني الذي يقوم بدوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذه هي ميزة الخيرية في هذه الأمة التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله ... }
[آل عمران: 110](19/11895)
فإذا انطمس هذا المبدأ في المجتمع أيضاً حتى لم يَعُدْ فيه آمر بمعروف ولا نآهٍ عن منكر، فلا بُدَّ أنْ تتدخّل السماء بإيقاظ جديد برسول جديد، لكن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من شرفها عند ربها وشرفها برسولها أن الله منحها هذه الخيرية، بحيث لا يعدم فيها الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر أبداً؛ لذلك لا يجيء رسول بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنها أمة مأمونة.
ولا بُدَّ للأمة التي توفرتْ لها هذه المناعة الجماعية الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر أنْ يكون لها وَعْيٌ إيماني وفهم جيد لهذه المهمة، وقد وردت فيها مذكرة الإيضاح التفسيرية من سيدنا رسول الله حين قال: «مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» .
فالمشرِّع قدَّر عدم الاستطاعة، فجعل لكل خطوة من أمر بمعروف أو نهى عن منكر مجالاً: متى أُغيِّر المنكر بيدي؟ ومتى أُغيره بلساني؟ ومتى أغيره بقلبي؟
أغيره بيدي فيمن أملك الولاية عليه، حيث أتمكن من التغيير، فإنْ كان المُنْكَر ممن لا ولايةَ لي عليه، فعلىَّ أنْ أغيره بلساني في ضوء قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ ... } [النحل: 125] بالأسلوب الحسن الجميل،(19/11896)
لكن تجد بعض الدعاة يدعون على غير بصيرة، فيغفلون مسألة الاستطاعة، ولا يجعلون لعدم الاستطاعة مجالاً، ويميلون إلى تغيير المنكر كله باليد، وهذا مخالف لأمر رسول الله.
فإنْ توقعتَ أنْ يصيبك ضرر فلتغير المنكر بقلبك؛ لأن الهدف أن تستقطب المنحرف إلى جهة الاعتدال، وهذا لا يتم إلا باللين وبالرفق حتى تجمع عليه شدتين: الأولى أنْ تُخرِجه مما يألف، والثانية: أنْ تُخرِجه عما يألفه بما يكرهه.
ويخطئ الكثيرون في فهم تغيير المنكر بالقلب فيظنون مثلاً أن تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر لا يرضيك وأنا أنكره، هذا مجرد إنكار باللسان والله لا يريد كلمة تخرج من أفواههم، إنما يريد منا عمل القلب الذي يتبعه عمل الجوارح، فقالبك في هذا الإنكار تابع لقلبك.
فحين ترى مَنِ استشرى في العصيان والطغيان وأنت لا تقدر على نهيه، لا بيدكَ ولا بلسانك، ولا تستطيع مواجهته، فعليك أن تكون كارهاً لعمله معرضاً عنه، مهملاً له، فلا تجامله في حزن ولا تُهنِّئه في فرح ولا تساعده إن احتاج. . الخ.
عليكْ أنْ تعزله عن مجتمعك، فإذا فعل معه الجميع هذا الفعل، وسلكوا معه هذا المسلك سقط واحده وارتدع.
لذلك لم نر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صنع سجناً للمسلمين المخالفين، إنما جعل سجنهم في عزل المجتمع الإيماني لهم، أو سجن المجتمع عنهم، لا يكلمهم ولا يتعامل معهم، حتى الزوجة عزلها الشرع عن زوجها لا يقربها حتى يقضي الله في أمره.(19/11897)
أتذكرون قصة كعب بن مالك، وكيف عزله المجتمع الإيماني وكان من الثلاثة الذين خُلِّفوا عن رسول الله في غزوة تبوك، حتى قاطعه أقرب الناس إليه، فلما تسوَّر الحديقة على ابن عمه وقال: تعلم أني أحب رسول الله فلم يرد عليه.
وتأتي زوجة هلال إلى رسول الله وقد كان أحد الثلاثة أيضاً، وتقول: يا رسول الله، إن هلالاً رجل كبير السن، ليس له ما للرجال في النساء، فقال لها: اخدميه لكن لا يقربنك. وقد ظل هؤلاء في هذه العزلة حتى أن القرآن قال فيهم: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ... } [التوبة: 118]
هكذا التزم المسلمون الأوائل بشرع الله، واستطاعوا لا نقول سجن المخالف، إنما سجن المجتمع عنه، وهذه المسألة هي سبب الأزمة التي تعيشها بلدنا الآن، فالمجرم الذي يعيش بيننا، أليس معلوماً لأهل المنزل الذي يعيش فيه، بل لأهل الحي والشارع؟
فهل ذهب واحد منهم إلى تاجر فقال له: أعطني كذا فقال:(19/11898)
لا ليس عندي وقطاعه؟ هل سلَّم واحد منهم على شخص، فلم يردّ عليه السلام؟
إذن: المجتمع كله يتحمل هذه المسئولية، ويتحمل الإثم عليها؛ لأنه تستَّر على هؤلاء، لدرجة أن نقول: إن المجتمع نفسه مجرم أكثر من المجرمين.
وينبغي قبل أنْ نتكلم عن المجرم نتكلم معه نحاوره وننصحه ونحسن إليه قبل أن نقاطعه، نفهم هذا المعنى من قول سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» ولم يقل على سلطان جائر. فقبل أنْ نفضحه ونُشنَّع عليه يجب أنْ نتكلم معه، وأنْ ننصحه حتى يعلم أنك تريد به الخير، وتريد أنْ ترده إلى الجادة فيقبل منك، وعلى الأقل لا يضرك، إنما آفتنا أننا نُشنِّع على المجرم، وربما نُحمِّله فوق الصدق الواحد ألف كذب لمجرد كراهيتنا له.
لذلك قال العربي في صفات الناس: إنْ علموا الخير أخفوه، وإنْ علموا الشر أذاعوه، وإنْ لم يعلموا كذبوا.
إذن: معنى التغيير بالقلب أن يكون قالبك موافقاً لقلبك، وهذه لا تُكلِّفك شيئاً، على خلاف التغيير باليد أو باللسان؛ لذلك وصفه رسول الله بأضعف الإيمان، يعني أنها مسألة يقوم بها الضعيف.
وبعزل المجتمع عن المجرم تنتهي ظاهرة الإجرام، وما استشرى الإجرام إلا حين خاف الناس من المجرمين وتملّقوهم وتودَّدوا إليهم ربما لاتقاء شَرِّهم، ولم لا يزداد المجرم في إجرامه والأمر كذلك؟(19/11899)
لذلك جعل الشارع الحكيم الدية في القتل الخطأ ليست على القاتل وحده، إنما على العاقلة أي: على جميع العائلة لأنها المنوط بها تقويم أبنائها، والأخذ على أيدي المنحرف منهم؛ لأنها هي التي ستتحمل العاقبة، وبذلك يحدث التوازن في المجتمع.
والحق - سبحانه وتعالى - حين وضع المنهج الذي يُنظِّم حياة الخَلْق يريد سبحانه الخير لخلقه، وهو سبحانه صاحب الخير ولا ينتفع منه بشيء، فلو أن الخَلْق جميعاً كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في مُلْك الله شيئاً.
ثم هو سبحانه خلق الإنسان، وحدد مهمته في الحياة، ووضع له قانون صيانته فيها، كما أن صانع الآلة يحدد الهدف منها قبل صناعتها، وحدد لها قانون صيانتها، فالذي صنع الغسالة مثلاً رأى كيف تتعب المرأة في عملية غسيل الملابس، فصنع هذه الآلة لتقوم بهذه المهمة، ولم يحدث أنْ صنع صانع آلة، ثم قال: انظروا في أيِّ شيء يمكن أنْ تُستخدم.
لذلك، فَشَلُ العالم كله يأتي من أن الخَلْق يريدون أنْ يحددوا مهمة الإنسان، ويضعوا له قانون صيانته، ويغفلون أنه صنعة الله، والذي يحدد مهمة الصَّنْعَة هو صانعها.
والحق سبحانه حدَّد لنا مهمتنا في الحياة قبل أنْ يستدعينا إليها،(19/11900)
واقرأ إنْ شئتَ قوْلَ ربك: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 1 - 3]
فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له المنهج، وحدِّد له مهمته وقانون صيانته في قرآنه الكريم، كما يحدد الصانع مهمة صَنْعته أولاً، فإنْ حدث في هذه الصنعة عَطَب فيجب أنْ تُردَّ إلى الصانع، وإلى قانون الصيانة بافعل ولا تفعل؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق، وهو الذي يعلم ما يصلح صنعته ويضمن سلامتها، واقرأ إنْ شئتَ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]
ويقول تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول ... } [النساء: 59]
إذن: فآفة المجتمع البشري أولاً: أنه يريد أن يُحدِّد لخَلْق الله مهمتهم، وأن يتدخل في صنعة ليست صنعته. ثانياً: حين يفسد المجتمع يجعلون له قوانين إصلاحية من عندهم، وهل تركنا الله بدون منهج، وبدون قانون صيانة؟
لقد كان سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قدوتنا إذا حزبه أمر أو عَزَّ عليه شيء يُهْرع إلى ربه، ويقف بين يديه في الصلاة، كما تعرض أنت آلتك أو جهازك على المهندس المختص، فيصلح لك ما فيه من عطب، وهذه مسألة مادية يصلحها المهندس بشيء مادي.
أما الحق سبحانه فغيب، فحين يصلحك أنت أيها العبد يصلحك بقانون الغيب، بحيث لا تدري أنت كيف أصلحك، المهم حين تعرض نفسك على ربك وعلى خالقك - عَزَّ وَجَلَّ - تعود مُنْشرح الصدر، راضياً طِّيب النفس.
الحق سبحانه يقول لرسوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين. .} [(19/11901)
الأحزاب: 1] لأنهم أهل فساد يمارسونه وينتفعون به؛ لذلك لا بُدَّ أنْ يصادموا الحق، وأنْ يعترضوا طريقه، وأساس الفساد في الكون أنْ يحب الإنسان أنْ يأخذ خير غيره، وأن يكون دمه من عرق الآخرين، فإذا جاء مَنْ يعدل هذا الميزان المائل وقفوا له بالمرصاد؛ لأن دعوته تتعارض ومنافعهم.
والحق سبحانه بيَّن لنا على مدى موكب الرسل جميعاً أنه ما من رسول إلا كان له أعداء ومعاندون، لكن سنة الله في الرسل أنْ تكون لهم الغَلَبة في نهاية الأمر، كما قال سبحانه:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173]
إذن: فالله تعالى يريد منا الاستقامة على منهجه، وأهل الفساد يريدون الانحراف عن هذا المنهج، واقرأ: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... } [الأنعام: 153] يعني: استقامة على إطلاقها، فمَنْ منكم يرينا فيه التواءً أو اعوجاجاً؟ {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ... } [الأنعام: 153]
فالصراط المستقيم واحد، وسبيل الحق واحد، أما الباطل والفساد فله سُبْل شتى، وقد نبهنا سيدنا سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى هذه القضية حين خَطَّ للصحابة خطاً واحداً مستقيماً، وعلى جانبيه خطوطاً، ثم تلا: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ(19/11902)
السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ... } [الأنعام: 153]
وتعلَّمنا في علم الهندسة أن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين، فلو خَطَّ مهندس طريقاً مستقيماً بين بلدين مثلاً تراه لو انحرف في بداية الطريق عدة سنتيمترات فإنها تبعده عن البلدة الأخرى عدة كيلو مترات.
إذن: الطريق المستقيم هو الذي يُسهِّل لك السفر، ويقرب لك المسافة، أما السبل المتعددة فإنها تهدر مجهودك وتشقُّ عليك، حتى أنت في لغتنا العامية تقول لصاحبك: (تعال دغُري) أو تقول (بلاش لف ودوران) كذلك يقول لك ربك: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل ... } [الأنعام: 153]
وإن كان طريق الحق واحداً، فطرق الضلال متعددة، فواحد فساده من ناحية المال، وواحد من ناحية النساء، وواحد يفسده المنصب والسلطان. . إلخ.
فإذا ما جاء رسول من عند الله يكبح جماح هؤلاء لا بُدَّ أن يتصادموا معه؛ لذلك ينبه الحق - تبارك وتعالى - نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أول مراتب التقوى أن تتقي الله وحده، ثم لا تُطِع الكافرين والمنافقين؛ لأنهم يريدون أنْ يأخذوك للشر والله يريدك للَخير.
وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين. .} [الأحزاب: 1] تعني: أنه لا مانع أن تطيع غيرهم من أصحاب الرأي والمشورة من المؤمنين فيما لم يأتكَ فيه أمر من الله؛ لذلك «نزل سيدنا رسول الله في غزوة بدر على رأَي الصحابي الجليل الحباب بن المنذر لما قال(19/11903)
له: يا رسول الله، أهذا منزلٌ أنزلكه الله، أم هو الحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» بل هو الحرب والمكيدة «، فقال: إذن هذا ليس لك بمنزل.
وقد أشار سلمان الفارسي على رسول الله بحفر الخندق فأخذ بمشورته، والقاعدة الشرعية تقول: لا اجتهاد مع النص، فإذا لم يكُنْ في المسألة نصٌّ فلا مانع من أنْ تطيع المؤمنين الناصحين لك، المشيرين عليك بالخير.
فالحق سبحانه لم يمنه عن رسوله نُصْح الناصحين، ولم يحرمه مشورة أهل الرأي.
وقد اختلف الناس حول استشارة الحاكم: أهي ملزمة له أم غير ملزمة؟ وإجابة هذا السؤال في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله ... } [آل عمران: 159]
فللحاكم أنْ يسمع المشورة، وأنْ يقارن بين الآراء ويفاضل بينها، ثم يكون له وحده القرار النهائي {فَإِذَا عَزَمْتَ ... } [آل عمران: 159] أي: أنت وحدك.
وفي العالم المعاصر نرى الأنظمة إذا احتاجت إلى أَخْذ الآراء في موضوع ما ترجح الجانب الذي به الرئيس، وهذا لا يصح، فالآراء(19/11904)
تنير للرئيس الطريق، وتوضح له الصورة، وله هو القرار الأخير؛ لأن الحيثية التي انتخبته من خلالها أنك تشهد له بالتفوق، إذن: فهو الذي يرجح أحد الآراء.
وفَرْق بين المشورة والتفويض، فحين يُفوِّض رئيس الدولة شخصاً أو هيئة لدراسة أمر من الأمور، أو اتخاذ قرار، فهي صاحبة الرأي، وحين تعرض عليه ما توصلتْ إليه يعطيها الموافقة؛ لأنه فوَّضها في هذا الأمر، إذن: التفويض يجيز لك اتخاذ القرار، أمَّا المشورة فتقف عند عرض الرأي فحسب.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يريد الخروج لغزوة أُحُد، لكن لما شاور صحابته أشاروا عليه بالخروج لما عندهم من العزة والحماس لنصرة دين الله، وظلوا برسول الله حتى استعد للحرب، ولبس لها ملابسها، ثم عادوا إلى رأيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عدم الخروج. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كان لنبي يلبس لامة الحرب ... » .
وحدث ما حدث في أُحُد ولم ينتصر المسلمون، أما أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فلم يستمع لمشورة المسلمين في حرب الردة وصمَّم عليها، وقال: والله لأقاتلنهم ولو بالذر يعني: بالحصى، وانتصر(19/11905)
الصِّديق، وإليه يرجع الفضل في إنقاذ دين الله من فتنة كادت تذهب به.
إذن: فاجعلوا من اختيار الله لرسوله صلى الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرجِّحاً، فيأخذ منكم جميع الآراء، ويستشيركم، ثم ينفذ هو ما يراه مناسباً.
وهنا فَرْق بين الكافرين والمنافقين، ولدينا بعض المصطلحات التي ينبغي أن نكون على علم بمدلولها: الإيمان والكفر والنفاق والجحد.
الإيمان: الإنسان منا له قلب يحمل النوايا، وله قالب يعبر عنها، كما قال الشاعر:
إنَّ الكَلاَم لَفِي الفُؤادِ وإنَّمَا ... جُعِلَ اللسَانُ عَلَى الفُؤادِ دَليلاً
فالإيمان هو الحق الذي يعتقده القلب، ويقتنع به، ويوافقه اللسان والقالب، أما إنْ وافق اللسان القلب في الباطل فهذا هو الكفر.
لذلك قلنا: إن الكافر منطقي مع نفسه؛ لأنه نطق بما في قلبه، لكنه غير منطقي مع الحق لأنه جحده بقلبه وجحده بلسانه، فليس عنده اختلاف بين القلب واللسان.
أما النفاق فهو أنْ يعتقد القلب الكفر ويضمره، ويعلن اللسان كلمة الإيمان، فالمنافق يخالف لسانُه قلبَه، فهو غير منطقي لا مع الحق ولا مع نفسه؛ لذلك كان المنافق في الدَّرْك الأسفل من النار، لأنه أشرُّ من الكافر.
لذلك لما طلب سيدنا رسول الله من القوم أنْ يقولوا: لا إله إلا الله قالتها القلة المؤمنة، وامتنعت الكثرة الكافرة، لماذا؟ لأنهم(19/11906)
يعرفون معناها، وإلا لَقَالوها من بداية الأمر، وانتهت المواجهة بين الإيمان والكفر، فعدم نُطْقهم بها دليل على فهمهم لها ولمطلوباتها.
أما الجاحد فعلى النقيض من المنافق، فهو مقتنع في نفسه، لكنه لا يقدر على النطق بما يقتنع به من الحق؛ لذلك يقول تعالى عنهم: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ... } [النمل: 14]
ولما طال الجدل بينهم وبين رسول الله قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] بدل أن يقولوا: فاهدنا إليه.
وبعد أنْ قالوا في القرآن أنه سحر، وأنه أساطير الأولين. . الخ زهق باطلهم، وكشف الله جحودهم، حين حكى قولهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
إذن: فالقرآن لا غبارَ عليه وهو حق، لولا أنه نزل على هذا الرجل بالذات، ولو نزل على عظيم من عظماء مكة أو المدينة لآمنَّا به، وهكذا أثبتوا إيمانهم بالقرآن، والقرآن يستوجب أنْ يؤمنوا أيضاً بمحمد.
ومعلوم أن الإسلام صاح صيحته الأولى في أُذن مَنْ؟ في أذن كفار مكة وسادة قريش والجزيرة كلها، وقد كانت لهم الكلمة المسموعة والمنزلة الرفيعة بين العرب جميعاً لقيامهم على خدمة الحجيج، ووقوع بلادهم على طرق التجارة بين الشمال والجنوب.
إذن: الإسلام لم يستضعف جماعة ليعلن فيهم صيحته الأولى، إنما اختار السادة، لكن الله تعالى لم يشأ أنْ ينتصر الإسلام في مكة؛ لأنه لو انتصر فيها لكان من الممكن أن يقال: قوم من قريش(19/11907)
تعصبوا لواحد منهم ليسودوا به العالم كما سادوا الجزيرة.
لذلك لما أعلن سيدنا رسول الله دعوته بين قومه أسرعوا إليه يقولون: يا محمد إنْ كنتَ تريد مُلْكاً ملّكناك علينا، وإنْ كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا. . فقال قولته المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِره الله، أو أهلك دونه» .
فشاء الله أن تكون الصرخة الأولى في أذن السادة أصحاب الكلمة والسلطة في مكة، وأن تكون نصرة الدين في المدينة، لتعلم الدنيا كلها أن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، وليست العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد.
ونفهم أيضاً من قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين. .} [الأحزاب: 1] أن غير الكافرين وغير المنافقين لا يكون لهم أمر يُطاع مع أمر رسول الله؛ لأن المؤمن برسول الله يتلقَّى من رسول الله.
لذلك يُعَدُّ من الخطأ بمكان أن نقول: كيف فعل رسول الله كذا وكذا؟ فنناقشه ونستدرك عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكيف تجعل من نفسك أيها المؤمن ميزاناً وحَكَماً يحكم على أفعال الرسول ويضعها في الميزان؟(19/11908)
كمن يناقشون مثلاً مسألة تعدد الزوجات، ويصل بهم الحدُّ إلى انتقاد رسول الله، وكأنه يُجري له محاكمة.
وكيف نعارض رسول الله في هذا، والله تعالى لم يعارضه، ولم يُقِلْه من مسألة الرسالة، بل ارتضى الله فِعْل رسوله وباركه، فلا تجعل من نفسك مقياساً على رسول الله؛ لأن الأصل أنه هو المقياس الذي نقيس عليه أفعالنا، فنسأل: أفعل رسول الله ذلك أم لم يفعل؟ فإنْ فعل فعلنا.
ومن هذا المنطلق سُمِّي الصَّديق صِدِّيقاً، فلما حدَّثوه أن رسول الله يخبر أنه أتى بيت المقدس في ليلة قال: إنْ كان قال فقد صدق.
والحق سبحانه حين ينهى رسوله عن طاعة الكافرين والمنافقين إنما يُبيِّن له طبيعتهم، وحقيقة عدائهم له، فهُمْ غير مخلصين له، وعليه أن يتهم أمرهم إنْ أمروه ويتهم نهيهم إنْ نَهوْه، وكيف يُخلِصون في أمره أو نهيه، وقد جاء ليصادم سيادتهم، ويكسر جبروتهم وكفرهم؟
وهَبْهم مخلصين لك لأنك من قريش، ويريدون نصرتك فينقصهم في نُصْحهم لك العلم والحكمة، فلا يصح إذن أنْ تقارن بين طاعة الله وطاعة هؤلاء، مهما كانوا مخلصين لك.
كما نلحظ أن القوم فعلاً طلبوا من رسول الله أشياء، فكأن الله نبهه قبل أنْ يطلبوا منه إلى ما يُطلب منه من مخالفتهم وعدم طاعتهم، والطاعة فيها مطيع ومطاع، وهم يريدون ان يكونوا(19/11909)
مطاعين، ورسول الله طائع ممتثل لأمرهم، لكن كيف تقلب المسألة بهذا الشكل، وما جاء رسول الله إلا ليُشرِّع للناس فيطيعوه، فهو الذي يأمر، وهو الذي يُطاع.
فكأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: كيف أقارن بينكم وبين ربي؟ وقد ثبت ذلك فقد جاء أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل والوليد بن المغيرة والأعور السلمي وانضم إليهم وفد ثقيف، جاءوا جميعاً إلى المدينة واجتمعوا بعبد الله بن أُبيٍّ، وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، وقد أمَّنهم رسول الله فقالوا: يا محمد كُفَّ عن آلهتنا: اللات والعزى ومناة، واشهد بأن شفاعتهم تُقبل عند الله، ونريد أن تحفظ لنا كرامتنا ومهابتنا بين العرب، فمتِّعنا بآلهتنا سنة وأقرنا على ذلك، ونتركك وشأنك مع ربك.
فنهاه الله {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين. .} [الأحزاب: 1] لأنك لا ينبغي أن تتراجع أمامهم في شيء أبداً، وإلاّ لكنتَ خاضعاً لهذه السيادة المزعومة، ولأعطيتهم الفرصة حين تطاوعهم؛ لأنْ يقولوا: لقد أطاعنا محمد فيصيرون هم الهادين، وأنت المهدي.
ثم إن هذا الأمر بعدم طاعتهم وهم القادة والصناديد وما زالت الدعوة وليدة تحتاج إلى مهادنة مع أعدائها، وربما يقول قائل: ولِمَ لم يهادنهم رسول الله حتى يشتدَّ عود الدعوة، فهم سادة القوم وأصحاب الكلمة والمهابة؟ لكن منطق الحق يرفض هذه المهادنة، ويرفض أن يعتمد رسول الله إلا على الله؛ لذلك قال في الآية(19/11910)
بعدها:
{وَتَوَكَّلْ على الله وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 3]
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1] فالعلم غير الحكمة، العلم أن تعلم القضايا، أمّا الحكمة فأنْ تُوظِّف هذه القضايا في أماكنها، فالعلم وحده لا يكفي، فالصفتان متلازمتان متكاملتان، كما في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 18]
فالقوي إنْ كان خائناً لم تنفعك قوته، كذلك إنْ كان الأمين ضعيفاً فلا تنفعك أمانته؛ لذلك لما اشتكى أمير المؤمنين إلى أحد خاصته من أهل العراق، يقول: إن استعملتُ عليهم القوي يَفْجُروه، وإن استعملتُ عليهم الضعيف يُهينَوه، فقال له: إن استعملت عليهم القوي فلك قوته وعليه فجوره، فقال له أمير المؤمنين: ما دُمْتَ قد عرفتََ هذا فلا أُوَلِّى عليهم غيرك.
إذن: فالعلم يعطيك قضايا الخير كله، والحكمة أنْ تضع الشيء في موضعه، والقضية في مكانها.
ثم يقول الحق سبحانه: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ ... } .(19/11911)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
نلحظ هنا نهياً بين أمرين: الأول {ياأيها النبي اتق الله ... } [الأحزاب: 1] والاخر: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ. .} [الأحزاب: 2] وبينهما النهي: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ... } [الأحزاب: 1] ووقوع هذا النهي بين هذين الأمرين ترتيب طبيعي؛ لأنك إذا اتقيتَ الله ستُعلى منهج الحق، وهذا يؤذي أهل الباطل وأهل الفساد المستفيدين به، فلا بُدَّ أنْ يأتوا إليك يوسوسون في أُذنك ليصرفوك عن منهج ربك، وعليك إذن أنْ ترد الأمر إلى ما يوحى إليك وأنْ تتبعه.
وقلنا: إن الوحي: إعلام بخفاء، فإنْ كان علانية فلا يُعَدُّ وحياً، ولله تعالى في وحيه وسائل كثيرة مع جميع خَلْقه، فيوحي سبحانه إلى الجماد؛ لأنه قادر على أن يخاطب الجماد، كما في قوله سبحانه وتعالى عن الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5]
ويوحي إلى النحل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]
ويُوحى إلى غير رسول أو نبي: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي ... } [المائدة: 111]
وقال: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } [القصص: 7]
هذا هو الوحي في معناه العام، أما الوحي الخاص فيكون من الله تعالى لرسول مُرْسَل من عنده إلى الخَلْق، وله طرق متعددة، فمرةَ يكون بالنفث في الروع، ومرة يكون بالوحي بكلام لا يُرى قائله، ولا يُعرف مصدره، ومرة يكون عن طريق رسول ينزل به من الملائكة.
يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ... } [الشورى: 51](19/11912)
والقرآن الكريم لم يأْتِ بالإلهام ولا بالكلام من وراء الغيب والحُجُب، إنما جاء عن طريق رسول مَلَك نزل به على رسول الله، فثبت القرآن من هذا الطريق.
ولا بُدَّ في هذه المسألة من التقارب بين الرسول الملَك، والرسول البشر، فلكل منهما طبيعته الخاصة، ولكي يلتقيا لا بُدَّ من أمرين: إما أنْ يرتفع البشر إلى مرتبة الملائكية بحيث يستقبل منها، أو ينزل الملَك إلى مرتبة البشرية بحيث يستطيع أنْ يُلقنها.
لذلك جاء في الحديث أن جبريل عليه السلام نزل إلى مجلس رسول الله في صورة بشرية ليُعلِّم الناس أمور دينهم. وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الوحي تأخذه قشعريرة، ويتصبب جبينه عرقاً، حينما يأتيه جبريل بالوحي، وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغ به الجهد حتى يقول: زمِّلوني زمِّلوني، دثِّروني دثِّروني.
وإذا جاءه الوحي وهو جالس مع أصحابه وركبته على ركبة أحدهم يشعر لها بثقل كأنها الجبل، أو يأتيه الوحي وهو على دابة فكانت تئط، لذلك فتر عن رسول الله الوحي بعد فترة ليستريح من هذا الإجهاد، وتبقى له حلاوة ما أُوحي إليه، فيتشوق إليه من جديد.(19/11913)
وبعدها خاطبه ربه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 1 - 4]
والهدف حينما يكون غالياً، والغاية سامية يهون في سبيلها كل جهد، وقد عاد الوحي إلى رسول الله بعد شوق، وخاطبه ربه بقوله: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 4 - 5]
إذن: ثبت القرآن بالوحي عن طريق الرسول الملَك، ولم يثبت بالإلهام أو النفث في الرَّوْع، أو الكلام من وراء حجاب، يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ... } [الشورى: 52]
والوحي هنا: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ. .} [الأحزاب: 2] مِنْ مَنْ؟ {مِن رَبِّكَ. .} [الأحزاب: 2] ولم يقل مثلاً رب الخلق، نعم هو سبحانه رب الخَلْق جميعاً، لكن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيد الخلق، فهو رب الخلق من باب أَوْلَى، وكلمة (ربك) تدل على الحب وعلى الاهتمام، وأنه تعالى لن يخذلك أبداً، وما اتصاله بك إلا للخير لك ولأمتك.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب: 2] الخبير مَنْ وصل إلى منتهى العلم الدقيق، ومنه قولنا: اسأل أهل الخبرة. يعني: لا يسأل أهل العلم السطحي، فالخبير هو الذي لا يغيب عنه شيء.
وتلحظ أن الآية السابقة خُتمتْ بقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب: 1] أي: عليماً بما يُشرِّع، حكيماً يضع الأمر في موضعه، وقال هنا: {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [الأحزاب: 2] أي: بما ينتهي إليه أمرك مع التشريع، استجابةً أو رفضاً، فربُّك لن يُشرِّع لك ثم يتركك، إنما يَخْبُر ما تصنع، ولو حتى نوايا القلوب.(19/11914)
فالخبرة تدل على منتهى العلم وعلى العلم الواسع، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى في قصة لقمان: {يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16]
فالخبرة تدل على العلم الواسع الذي لا تفوته جزئية مهما صغرت، واللطف هو التغلغل في الأشياء مهما كانت دقيقة، وقلنا: إن الشيء كلما لَطُفَ عَنُفَ.
فكأن الحق سبحانه يقول لرسوله: اطمئن، فمهما صُودِمتَ من خصومك، ومهما تألَّبوا عليك، فربُّك من ورائك لم يتخلى عنك، وهؤلاء الخصوم خَلْقي، وأنا معطيهم الطاقات المفكرة والطاقات العاقلة والطاقات المتآمرة، وسوف أنصرك عليهم في كل مرحلة من مراحل كيدهم لك.
لذلك لم يقووا عليك مناظرة ولا جدلاً، ولم يقدروا عليك حين بيَّتوا لك ليضربوك ضربة رجل واحد، فيتفرق دمك بين القبائل، وخرجتَ من بينهم سالماً تحثو التراب على رؤوسهم، حتى لما استعانوا عليك بالسحر وبالجن أخبرتُك بما يدبرون لك، ولم أُسِلْمْك لكيدهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَتَوَكَّلْ على الله ... } .(19/11915)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
يعني: إياك أن تظن أن واحداً من هؤلاء سوف يساعدك في أمرك، او أنه يملك لك ضراً ولا نفعاً، فلا تُحسِن الظن بأوامرهم لا(19/11915)
بنواهيهم، ولا تتوكل عليهم في شيء، إنما توكل على الله.
ولا بُدَّ أن نُفرق هنا بين التوكل والتواكل: التوكل أن تكون عاجزاً في شيء، فتذهب إلى مَنْ هو أقوى منك فيه، وتعتمد عليه في أن يقضيه لك، شريطة أن تستنفد فيه الأسباب التي خلقها الله لك، فالتوكل إذن أن تعمل الجوارح وتتوكل القلوب.
وقد ضرب لنا سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مثلاً توضيحياً في هذه المسألة بالطير، فقال: «لو توكلتم على الله حقَّ توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً» .
أما التواكل فأنْ ترفضَ الأسباب التي قدمها الله لك، وتقعد عن الأَخْذ بها، وتقول: توكلت على الله، لا إنما استنفد الأسباب الموجودة لك من ربك، فإنْ عزَّتْ عليك الأسباب فلا تيأس؛ لأن لك رباً أقوى من الأسباب؛ لأنه سبحانه خالق الأسباب.
لذلك، كثير من الناس يقولون: دعوتُ الله فلم يستجب لي، نقول: نعم صدقت، وصدق الله معك؛ لأن الله تعالى أعطاك الأسباب فأهملتها، فساعة تستنفد أسبابك، فثِقْ أن ربك سيستجيب لك حين تلجأ إليه.
واقرأ قوله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء ... } [النمل: 62] والمضطر هو الذي عزَّتْ عليه الأسباب، وخرجتْ عن(19/11916)
نطاق قدرته كما حدث لسيدنا موسى - عليه السلام - حين حاصره فرعون وجنوده حتى قال قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]
نعم، مدركون؛ لأن البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، هذا رأي البشر وواقع الأمر، لكن لموسى منفذ آخر فقال: (كلا) يعني لن نُدْرَك {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] قالها موسى رصيد إيماني وثقة في أن الله سيستجيب له.
والبعض يقول: دعوتُ الله في كذا وكذا، وأخذت بكل الأسباب، فلم يستجب لي، نقول: نعم لكنك لَسْتَ مضطراً، بل تدعو الله عن ترف كمن يسكن مثلاً في شقة ويدعو الله أنْ يسكن في فيلا أو قصر، فأنت في هذه الحالة لست مضطراً.
ثم يذكر الحق سبحانه حيثية التوكل على الله، فيقول: {وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 3] أي: يكفيك أنْ يكون الله وكيلك؛ لأنه لا شيء يتأبَّى عليه، ولا يستحيل عليه شيء.
وأحكي لكم قصة حدثت بالفعل معنا، وكنا نسير مع بعض الإخوان فرأينا رجلاً مكفوف البصر يريد أنْ يعبر الشارع فقلنا لزميل لنا: اذهب وخذ بيده، فنزل وعبر به الشارع ثم قال له: إلى أين تذهب؟ قال: إلى المنزل رقم كذا في هذا الشارع، فأخرج صاحبنا من جيبه عشرة جنيهات ووضعها في يد الرجل، فلما أمسك بورقة العشرة جنيهات لم يلتفت إلى المعطي، إنما رفع وجهه إلى السماء وقال: لا شيء يستحيل عليك أبداً، ثم قال لصحابنا: يا بني أرجعني مكان ما كنت! {فقد قضيت حاجته التي كان يسعى لها} !
نعم {وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 3] لأنه لا تعوزه أسباب، ولا(19/11917)
يُثنيه عن إرادته شيء
{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ ... } [النحل: 96]
وفي التوكل ملحظ آخر ينبغي أنْ نتنبه إليه، هو أنك إذا توكلتَ على أحد يقضي لك أمراً فاضمن له أنْ يعيش لك حتى يقضي حاجتك، فكيف تتوكل على شخص وتُعلِّق به كل آمالك، وفي الصباح تسمع نعيه: مات فلان؟
إذن: لا ينبغي أن تتوكل إلا على الله الحي الذي لا يموت: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ... } [الفرقان: 58] واستغنِ بوكالة الله عن كل شيء {وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 3]
ثم يقول الحق سبحانه: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ ... } .(19/11918)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ترتبط هذه الآية بالآيات قبلها، فقد ذكر الله تعالى معسكرين: معسكراً يحب أنْ يُطاع، فقال تعالى لرسوله {ياأيها النبي اتق الله ... } [الأحزاب: 1] وقال: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ ... } [الأحزاب: 2] وبينهما معسكر آخر نُهِي رسول الله عن طاعته {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ... } [الأحزاب: 1]
إذن: نحن هنا أمام معسكرين: واحد يمثل الحق في أجلي معانيه وصوره، وآخر يمثل الباطل، وللقلب هنا دَوْر لا يقبل المواربة، إما أنْ ينحاز ويغلب صاحب الحق، وإما أنْ يغلب جانب الباطل، وما دمت أنت أمام أمرين متناقضين لا يمكن أنْ يجتمعا، فلا بُدَّ أن تُغلِّب الحق؛ لأن الله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. .} [الأحزاب: 4] إما الحق وإما الباطل، ولا يمكن أن تتقي الله وتطيع الكافرين والمنافقين؛ لأن القلب الذي يميل ويغلب قلب واحد.
ومعلوم أن القلب هو أهم عضو في الجسم البشري فإذا أصيب الإنسان بمرض مثلاً يصف له الطبيب دواءً، الدواء يُؤخذ عن طريق الفم ويمرُّ بالجهاز الهضمي، ويحتاج إلى وقت ليتمثل في الجسم، فإنْ كانت الحالة أشدَّ يصف حقنة في العضل، فيصبُّ الدواء في الجسم مباشرة، فإنْ كان المرض أشد يُعْطَى حقنة في الوريد لماذا؟
ليصل الدواء المطلوب جاهزاً إلى الدم مباشرة، ليضخه القلب إلى جميع الأعضاء في أسرع وقت. إذن: فالدم هو الذي يحمل خصائص الشفاء والعافية إلى البدن كله، والقلب هو (الموتور) الذي يؤدي هذه المهمة؛ لذلك عليك أنْ تحتفظ به في حالة جيدة، بأن تملأه بالحق حتى لا يفسده الباطل.(19/11919)
وسبق أنْ أوضحنا أن الحيز الواحد لا يمكن أنْ يسع شيئين في وقت واحد فما بالك إنْ كانا متناقضين؟ وقد مثَّلْنا هذه العملية بالزجاجة الفارغة إنْ أردتَ أن تملأها بالماء لا بُدَّ أنْ يخرج منها الهواء أولاً ليدخل مكانه الماء.
كذلك الحال في المعاني، فلا يجتمع حق وباطل في قلب واحد أبداً، وليس لك أنْ تجعل قلباً للحق وقلباً للباطل؛ لأن الخالق جعل لك قلباً واحداً، وجعله محدوداً لا يسع إلا إيمانك بربك، فلا تزاحمه بشيء آخر.
ويُرْوَى أنه كان في العرب رجل اسمه جميل بن أسد الفهري وكان مشهوراً باللسَنِ والذكاء، فكان يقول: إن لي قلبين، أعقل بواحد منهما مثل ما يعقل محمد، فشاء الله أنْ يراه أبو سفيان وهو منهزم بعد بدر، فيقول له: يا جميل، ما فعل القوم؟ قال: منهم مقتول ومنهم هارب، قال: وما لي أراك هكذا؟ قال: مالي؟ قال: نعل في كفِّك، ونعل في رِجْلك، قال: والله لقد ظننتهما في رجلي، فضحك أبو سفيان وقال له: فأين قلباك؟
وإذا كان القلب هو المضخة التي تضخ الدم إلى كل الجوارح والأعضاء حاملاً معه الغذاء والشفاء والعافية، كذلك حين تستقر عقائد الخير في القلب، يحملها الدم كذلك إلى الجوارح والأعضاء،(19/11920)
فتتجه جميعها إلى طاعة الله، فالرِّجْل تسعى إلى الخير، والعين لا تنظر إلا إلى الحلال، والأذن تسمع القول فتتبع أحسنه، واللسان لا ينطق إلا حقاً.
فكل الجوارح إذن لا تنضح إلا الحق الذي تشرَّبته من طاقات الخير في القلب.
لذلك يُعلِّمنا سيدنا رسول الله هذا الدرس، فيقول: «إن في الجسد مضغة، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
ثم يأخذ الحق سبحانه من مسألى اجتماع المتناقضين في قلب واحد مقدمة للحديث عن قضايا المتناقضات التي شاعتْ عند العرب، فيقول سبحانه: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ. .} [الأحزاب: 4]
وقد شاع في الجاهلية حين يكره الرجل زوجته، يقول لها: أنت عليَّ كظهر أمي، ومعلوم أن ظهر الأم مُحرَّم على الابن حرمة مؤبدة، لذلك كانوا يعتبرون هذه الكلمة تقع موقع الطلاق، فلما جاء الإسلام لم يجعلها طلاقاً، إنما جعل لها كفارة كذب؛ لأن الزوجة ليست أماً لك، وحدد هذه الكفارة إما: عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكيناً، أو صيام ستين يوماً.(19/11921)
وهذه المسألة تناولتها سورة (قد سمع) {الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً ... } [المجادلة: 2] أي: كذباً، لأن الزوجة لا تكون أماً.
فالحق سبحانه جاء بمتناقض، وأدخل فيه متناقضاً آخر، فكما أن القلب الواحد لا تجتمع فيه طاعة الله وطاعة الكافرين والمنافقين، فكذلك الزوجة لا تكون أبداً أماً، فهي إما أم، وإما زوجة.
كذلك وُجد عند العرب تناقض آخر في مسألة التبني، فكان الرجل يستوسم الولد الصغير، أو يرى فيه علامات النجابة فيتبناه، فيصير الولد ابناً له، يختلط ببيته كولده، ويرثه كما يرثه ولده، وله عليه كل حقوق الابن.
وهذه متناقضة أيضاً كالسابقة، فكما أن الرجل لا يكون له قلبان، وكما أن الزوجة لا تكون أماً بحال، كذلك المتبنَّى لا يكون ولداً، فيقول سبحانه: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ. .} [الأحزاب: 4]
الدعيُّ: هو الذي تدعى أنه ابنٌ وليس بابن، وكان هذا شائعاً عند العرب، وأراد الله سبحانه أنْ يبطل هذه العادة، ومثلها مسألة الظِّهار، فألغى القرآن هذه العادات، وقال: ضعوا كل شيء موضعه، فجعل للظهار كفارة، ونهى عن التبني بهذه الصورة.
والحق سبحانه ساعةَ يريد أنْ يلغي حكماً يقدم صاحب الدعوى نفسه ليطبق هو أمام الناس؛ لذلك جعل سيدنا رسول الله يبدأ بنفسه، ويبطل التبني الذي عنده.
تعلمون أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تزوج من السيدة خديجة، وكان(19/11922)
لها منزلة عند رسول الله، وقد اشترى لها حكيم بن حزام عبداً من سوق الرقيق هو زيد بن حارثة، وكان من بني كلب، سرقه اللصوص من أهله، وادعوْا أنه عبد فباعوه، ثم أهدتْه السيدة خديجة لسيدنا رسول الله، فصار مولىً لرسول الله، يخدمه طيلة عدة سنوات، وما بالكم بمَنْ يكون في خدمة رسول الله؟
لقد أحبَّ زيدٌ رسول الله، وعَشِق خدمته، وقال عن معاملته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له:
«لقد خدمتُ رسول الله عشر سنين، فما قال لشيء فعلتُه: لِمَ فعلتَه، ولا لشيء تركتُه لِمَ تركتَه» .
وفي يوم من الأيام، رآه واحد من بني كَلْب في طرقات مكة، فأخبر أهله به، فأسرع أبو زيد إلى مكة يبحث عن ولده، فدلُّوه عليه، وأنه عند محمد، فذهب إلى سيدنا رسول الله، وأخبره خبر ولده، وطلب منه أنْ يعود معه إلى بني كلب.
ولكن، ما كان رسول الله ليتخلَّى عن خادمه الذي يحبه كل هذا الحب، فقال لأبيه: خيِّره، فإنِ اختاركم فخذوه، وإن اختارني فأنا له أبٌ، فلما خيَّروه - قال سيدنا زيد: والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً.
عندها أحب رسول الله أن يكافئه على هذا الموقف، وعلى(19/11923)
تمسّكه بخدمته، فتبنّاه كما تتبنى العرب، وسمَّوْه بعدها: زيد بن محمد.
فلما أراد الحق سبحانه أنْ يبطل التبني بدأ بمتبنَّى رسول الله، ليكون هو القدوة لغيره في هذه المسألة، فكيف أبطل الله تعالى هذه البنوة؟
كان سيدنا رسول الله قد زوَّج زيداً من ابنة عمته زينب بنت جحش، أخت عبد الله بن جحش، وقد تعب رسول الله في إقناع عبد الله وزينب بهذه الزيجة التي رفضتها زنيب، تقول: كيف أتزوج زيداً وهو عبد وأنا سيدة قرشية؟
ثم تزوجته إرضاءً لرسول الله، وعملاً بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ... } [الأحزاب: 36]
لكنها بعد الزواج تعالتْ عليه، أنها من السادة، وهو من العبيد، فكَرِه زيد ذلك، ولم يُطِقْ فأحبَّ أنْ يطلقها، فذهب إلى رسول الله وشكا إليه ما كان من زينب، وعرض عليه رغبته في طلاقها.
فقال له رسول الله: أمسك عليك زوجك، فعاوده مرة أخرى فقال(19/11924)
له: أمسك عليك زوجك فعاوده زيد، عندها علم رسول الله أن رغبتهما في الطلاق، وكراهيتهما للحياة الزوجية أمر قدري، أراده الله لحكمة، ولأمر تشريعي جديد، شاء الله أنْ يُوقِع البغض بين زيد وزينب، فبُغْض زينب لزيد كان تعالياً واستكباراً، وبُغْض زيد لزينب كان اعتزازاً بالنفس.
ولكي يبطل الحق سبحانه تبنَّي رسول الله لزيد قضى بأن يتزوَّج رسول الله من زينب بعد طلاقها من زيد، ومعلوم أن امرأة الابن تحرم على أبيه، فزواج سيدنا رسول الله من زينب يعني أن زيداً ليس ابناً لرسول الله، ويبطل عادة التبني، والأثر المترتب على هذه العادة.
وقد أحسَّ رسول الله بشيء في نفسه، وتردَّد في هذا الزواج مخافة أنْ يقول الناس، إن محمداً أوعز إلى زيد أنْ يُطلِّق زينب ليتزوجها هو، كما يقول بعض المستشرقين الآن، وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يضمر حبَّ زينب في نفسه، وهذا كلها افتراءات على رسول الله، فالذي يحب امرأة لا يسعى جاهداً لأنْ تتزوج من غيره، وحين يريد زوجها أنْ يُطلِّقها لا يقول له: أمسِكْ عليك زوجك.
ثم لا ينبغي لأحد أنْ يخوض فيما أخفاه رسول الله في نفسه، من أنه عاشق أو مُحِبٌّ، لكن انظر فيما أبداه الله، فالذي أبداه الله هو الذي يُخفيه رسول الله، واقرأ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب: 37]
إذن: الذي كان يُخفيه رسول الله هو أنه يخاف أنْ تتكلَّم به العرب، وأنْ تقول فيه ما لا يليق به في هذه المسألة.(19/11925)
ويقول تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] لماذا؟ {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ ... } [الأحزاب: 37]
وهكذا قرَّر الحق سبحانه مبدأ إبطال التبني في شخص رسول الله.
والحق سبحانه حينما يبطل عادة التبني إنما يبطل عادة ذميمة، تُقوِّض بناء الأسرة، وتهدم كيانها، تؤدي إلى اختلاط الأنساب وضياع الحقوق، فالولد المتبنّي يعيش في الأسرة كابنها، تعامله الأم على أنه ابنها، وهو غريب عنها، كذلك البنت تعامله على أنه أخوها، وهو ليس كذلك، وفي هذا من الفساد مَا لا يخفى على أحد.
وأيضاً، فكيف يكون الأب الذي جعله الله سبباً مباشراً لوجودك وتأتي أنت لتردَّ هذه السببية، وتنقلها إلى غير صاحبها، وأنت حين تنكر النبوة السَّببية في أبيك فمن السهل عليك - إذن - أنْ تنكر المسبِّب الذي خلق أولاً، ولِمَ لا وقد تجرأت على إنكار الجميل.
وكذلك الذي ينكر البنوة السببية يتجرأ على أنْ ينسب الأشياء إلى غير أهلها، فينسب العبادة لغير مستحقها، وينسب الخَلْق لغير الخالق.
وإلا، فلماذا يحثُّنا الحق دائماً على برِّ الوالدين؟ ولماذا قرن بين عبادته سبحانه وبين الإحسان إلى الوالدين في أكثر من موضع من(19/11926)
كتابه العزيز، فقال سبحانه: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [النساء: 36] وقال: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً ... } [الإسراء: 23]
قالوا: لأن الأب هو سبب الوجود المباشر، فإذا لم تبره، وأنكرتَ أبوته وتمردْتَ عليها، فلعلَّك تتمرد أيضاً على سبب الوجود الأصلي، فالوالدان لهما حق البر والإحسان، حتى لو كانا كافرين.
لذلك، لما سُئِل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أيسرق المؤمن؟ قال: نعم، أيزني المؤمن، قال: نعم، أيكذب المؤمن؟ قال: لا؟ . فالشرع حين يضع للجريمة حَداً وعقوبة، فهذا إيذان بأنها ستحدث في المجتمع المسلم، أما الكذب فلم يضع له الشارع حدّاً، مع أنه أشد من السرقة، أوعظم من الزنى، لماذا؟
قالوا: لأن المؤمن لا يُتصوَّر منه الكذب، ولا يجترئ هو عليه؛ لأنه إنْ عُرِف عنه الكذب وقال أمامك: أشهد أنْ لا إله إلا الله يمكنك أنْ تقول له: أنت كاذب.
ثم يقول الحق سبحانه: {ذلكم. .} [الأحزاب: 4] أي: ما تقدَّم من جَعْل الزوجة أماً، أو جَعْل الدَّعي ابناً، فالزوجة لا تكون أبداً أماً؛ لأن الأم هي التي ولدتْ، كذلك لا يكون للولد إلا أب واحد {ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ. .} [الأحزاب: 4] وهل يكون القول إلا بالأفواه؟ فماذا أضافتْ الأفواه هنا؟ قالوا: نعم، القول بالفم، لكن أصله في الفؤاد، وما اللسان إلا دليل على ما في الفؤاد، كما قال الشاعر:(19/11927)
إنَّ الكَلامَ لَفِي الفُؤاد وَإنَّما جُعِلَ اللسَانُ علَى الفُؤَادِ دَليلاً
إذن: لا بدَّ أنْ يكون الكلام نسبة في القلب، منها تأتي النسبة الكلامية، فهل ما تقولونه له واقع، هل الزوجة تكون أماً؟ وهل الولد الدعيُّ يكون ابناً. فهذا كلام من مجرد الأفواه، لا رصيد له في القلب ولا في الواقع، فهو - إذن - باطل، أما الحق فما يقوله الحق سبحانه {والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] والحق هو أن يكون المعتقد في القلب مطابقاً للكائن الواقع.
فالإنسان قد يتكلم بكلام استقر في قلبه حتى صار عقيدة عنده، وهو كلام غير صحيح، فحين يخبر بهذا الكلام لا يُسمَّى كاذباً لأنه أخبر على وَفْق اعتقاده، مع أن الخبر كاذب، فهناك فَرْق بين كذب الخبر، وكذب المخبر.
فالحق سبحانه يعاملنا في الأمر المعتقد في القلب: إنْ كان له واقع، فهو صِدْق في الخبر، وصِدْق في المخبر، وإنْ كان المعتقد لا واقعَ له فهو كذب في الخبر، وصدق في المخبر.
إذن: الأمر المعتقد يكون حقاً، إنْ كان له واقع، ويكون كاذباً إنْ لم يكُنْ له واقع، فإذا لم يكُنْ هنك اعتقاد في القلب أصلاً فهو مجرد كلام بالفم، وهذا أقل مرتبةً من القول الذي تعتقده وهو غير واقع.
فمعنى {والله يَقُولُ الحق} [الأحزاب: 4] أي: الواقع الذي يجب أنْ يعتقد، والإعجاز هنا ليس في أن الله تعالى يقول الحق الواقع بالفعل، إنما ويخبر بالشيء فيقع في المستقبل على وَفْق ما أخبر سبحانه.(19/11928)
واقرأ قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]
فالحق سبحانه صادق حين يقول ما كان، ويصدق حين يقول ما سيكون.
والحق سبحانه حين يقول: {والله يَقُولُ الحق. .} [الأحزاب: 4] كأنه يقول: قارنوا بين قولين: قَوْل بالأفواه، وقول بالواقع والاعتقاد، وإذا كان قَوْل الله أقوى من الاعتقاد فقط فهو من باب أَوْلَى أقوى من القول بالأفواه فقط.
وقوله تعالى: {وَهُوَ يَهْدِي السبيل} [الأحزاب: 4] يهدي السبيل إلى القول الحق.
ثم يقول الحق سبحانه: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ ... } .(19/11929)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
معنى {ادعوهم لآبَآئِهِمْ. .} [الأحزاب: 5] يعني: قولوا: زيد بن حارثة، لكن كيف يُنزع من زيد هذا التاج وهذا الشرف الذي منحه له سيدنا رسول الله؟ نعم، هذا صعب على زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لكنه {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله. .} [الأحزاب: 5] لا عندكم أنتم.
و {أَقْسَطُ. .} [الأحزاب: 5] أفعل تفضيل، نقول هذا قِسْط وهذا أقسط، مثل عدل وأعدل، ومعنى ذلك أن الذي اختاره رسول الله من نسبة زيد إليه يُعَدُّ قِسْطاً وعدلاً بشرياً، في أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحسَّ بالبنوة(19/11929)
وصار أباً لمن اختاره وفضَّله على أبيه.
لكن الحق سبحانه يريد لنا الأقسط، والاقسط أنْ ندعو الأبناء لآبائهم {فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ. .} [الأحزاب: 5] أي: نُعرِّفهم بأنهم إخواننا في الدين.
ومعنى الموالي: الخدم والنصراء الذين كانوا يقولون لهم «العبيد» ، فالولد الذي لا نعرف له أباً هو أخ لك في الله تختار له اسماً عاماً، فنقول مثلاً في زيد: زيد بن عبد الله، وكلنا عبيد الله تعالى.
والبنوة تثبت بأمرين: بالعقل وبالشرع، فالرجل الذي يتزوج زواجاً شرعياً، وينجب ولداً، فهو ابنه كوناً وشرعاً، فإذا زَنَت المرأة - والعياذ بالله - على فراش زوجها، فالولد ابن الزوج شَرْعَاً لا كوناً؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر.
كذلك في حالة الزوجة التي تتزوج مرة أخرى بعد وفاة زوجها أو بعد طلاقها، لكنها تنجب لستة أشهر، فتقوم هنا شبهة أن يكون الولد للزوج الأول، لذلك يُعَدُّ ابناً شَرْعاً لا كوناً؛ لأنه وُلد على فراشه.
فإن جاء الولد من الزنا - والعياذ بالله - في غير فراش الزوجية فهو ابنه كوناً لا شرعاً؛ لذلك نقول عنه «ابن غير شرعي» .
كما أن في قوله تعالى: {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله. .} [الأحزاب: 5] تشريفاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلو قال تعالى: هو قسْط لكان عمل النبي إذن جَوْراً وظلماً، لكن أقسط تعني: أن عمل النبي قِسْط وعَدْل.(19/11930)
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ. .} [الأحزاب: 5] يُخْرجنا من حرج كبير في هذه المسألة، فكثيراً ما نسمع وما نقول لغير أبنائنا: يا بني على سبيل العطف والتودد، ونقول لكبار السن: يا أبي فلان احتراماً لهم.
فالحق سبحانه يحتاط لنا ويُعفينا من الحرج والإثم، لأننا نقول هذه الكلمات لا نقصد الأُبوّة ولا البنوة الحقيقية، إنما نقصد تعظيمَ الكبار وتوقيرهم، والعطف والتحنُّن للصغار، فليس عليكم إثْمٌ ولا ذَنْبٌ في هذه المسألة، إنْ أخطأتم فيها، والخطأ هو ألاَّ تذهب إلى الصواب، لكن عن غير عَمْد.
وإذا كان ربنا - تبارك وتعالى - قد رفع عنا الحرج، وسمح لنا باللغو حتى في الحلف بذاته سبحانه، فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان ... } [المائدة: 89] فكيف لا يُعفينا من الخرج في هذه المسألة؟
ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] سبق أنْ قُلْنا: أن الفعل إذا أُسْنِد إلى الحق سبحانه انحلَّ عنه الزمن، فليس مع الله تعالى زمن ماض، وحاضر ومستقبل، وهو سبحانه خالق الزمن.
لذلك نقول: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] يعني: كان ولا يزال غفوراً رحيماً؛ لأن الاختلاف في زمن الحدث إنما ينشأ من صاحب الأغيار، والحق سبحانه لا يطرأ عليه تغيير.
لذلك نخاف نحن من صاحب الأغيار لأنه مُتقلِّب، ويقول أهل المعرفة: تغَّيروا من أجل ربكم - يعني: من الانحراف إلى الاستقامة - لأن الله لا يتغير من أجلكم، أنت تتغير من أجل الله، لكن الله لا يتغير من أجل أحد، وما دام الحق سبحانه كان غفوراً رحيماً، وهو سبحانه(19/11931)
لا يتغير، فبالتالي سيبقى سبحانه غفوراً رحيماً.
وتلحظ في أسلوب القرآن أنه يقرن دائماً بين هذين الوصفين غفور ورحيم؛ لأن الغفر سَلْب عقوبة الذنب، والرحمة مجيء إحسان جديد بعد الذنب الذي غُفِر، كأن تُمسِك في بيتك لصاً يسرق، فلك أنْ تذهب به للشرطة، ولك أن تعفو عنه وتتركه ينصرف إلى حال سبيله، وتستر عليه، وبيدك أنْ تساعده بما تقدر عليه ليستعين به على الحياة، وهذه رحمة به وإحسان إليه بعد المغفرة.
وقد عُولجَتْ هذه المسألة في قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } [النحل: 126] وهذا التوجيه يضع لنا أول أساس من أسس المغفرة؛ لأنك لا تستطيع أبداً تقرير هذه المثلية، ولا تضمن أبداً إذا عاقبتَ أنْ تعاقب بالمثل، ولا تعتدي؛ لذلك تلجأ إلى جانب المغفرة، لكي لا تُدخِل نفسك في متاهة اعتداء جديد، يُوجب القصاص منك.
وسبق أنْ حكْينا قصة المرابي الذي اشترط على مدينه إذا لم يسدِّد ما عليه في الوقت المحدد أن يأخذ رطلاً من لحمه، فلما تأخر اشتكاه المرابي عند القاضي، وذكر ما كان بينهما من شروط، فأقرَّه القاضي على شرطه، لكن ألهمه الله أنْ يقول للمرابي: نعم خُذْ رطلاً من لحمه، لكن بضربة واحدة، فإنْ زِدْتَ عنها أو نقصْتَ وفَّيناها من لحمك أنت، عندها تراجع المرابي، وتنازل عن شَرْطه.
إذن: أجاز لك الشرع القصاصَ بالمثل ليجعل هذه المرحلة صعبة التنفيذ، ثم يفتح لك الحق سبحانه باب العفو والصفح في المرحلة الثانية: {وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14](19/11932)
ثم يُفسرها بحيثية أخرى، فيقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134]
ومعنى كظم الغيظ أنني لم أنفعل انفعالاً غضبياً ينتج عنه ردّ فعل انتقامي، وجعلتُ غضبي في قلبي، وكظمتُه في نفسي، وهذه المرحلة الأولى، أما الثانية فتُخرِج ما في نفسك من غَيْظ وغضب وتتسامح وتعفو.
ثم المرحلة الثالثة أنْ ترتقي إلى مرتبة الإحسان، فتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك، وهذه رحمة، والرحمة؛ أنْ يميل الإنسان بالإحسان لعاجز عنه، فإنْ كان الأمر بعكس ذلك فلا تُسمَّى رحمة، كأن يميلَ العبدُ بإحسان إلى سيده.
هذه صور أتتْ فيها الرحمة بعد المغفرة، وهذا هو الأصل في المسألة، وقد تأتي الرحمة قبل المغفرة، كأنْ تُمسك باللص الذي يسرق فتشعر أنه مُكْره على ذلك، وليس عليه أمارات الإجرام، فيرقّ له قلبك، وتمتد يدك إليه بالمساعدة، ثم تطلق سراحه، وتعفو عنه، فالرحمة هنا أولاً وتبعتها المغفرة.
بعد ذلك لقائل أنْ يقول: ما موقف زيد بعد أنْ أبطل الله تعالى التبني، فصار زيدَ بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد؟ وكيف به بعد أنْ سُلِب هذه النعمة وحُرِم هذا الشرف؟ أضِفْ إلى ذلك ما يلاقيه من عنتَ المرجفين، وألسنة الذين يُوغرون صدره، ويُوقِعون بينه وبين رسول الله، وهو الذي اختاره على أبيه.
لا شكَّ أن الجرعة الإيمانية التي تسلَّح بها زيد جعلتْه فوق هذا كله، فقد تشرَّب قلبه حبّ رسول الله، ووقر في نفسه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة(19/11933)
مِنْ أَمْرِهِمْ ... } [الأحزاب: 36]
ثم تأتي الآيات لتوضح للناس: لستم أحنَّ على زيد من محمد، لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوْلى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم، لا بزيد وحده.
ثم يقول الحق سبحانه: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... } .(19/11934)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
فالمعنى: إذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَوْلَى بالمؤمنين جميعاً من أنفسهم فما بالكم بزيد؟ إذن: لستُم أحنَّ على زيد من الله، ولا من رسول الله، وإذا كنتم تنظرون إلى الوسام الذي نُزِع من زيد حين صار زبد ابن حارثة بعد أنْ كان زيدَ بن محمد.
فلماذا تُغمضون أعينكم عن فضل أعظم، ناله زيد من الله تعالى حين ذُكِر اسمه صراحة في قرآنه وكتابه العزيز الذي يُتْلَى ويُتعبَّد بتلاوته إلى يوم القيامة، فأيُّ وسام أعظم من هذا؟ فقوله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ... } [الأحزاب: 37] قَوْل خالد يَخلُد معه ذِكْر زيد، وهكذا عوَّض الله زيداً عما فاته من تغيير اسمه.
وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ. .} [الأحزاب: 6] ما المراد بهذه الأولوية من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟(19/11934)
قالوا: هي ارتقاءات في مجال الإحسان إلى النفس، ثم إلى الغير، فالإنسان أولاً يُحسن إلى نفسه، ثم إلى القرابة القريبة، ثم القرابة البعيدة، ثم على الأباعد؛ لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ابدأ بنفسك، ثم بمَنْ تعول» .
ويقولون: أوطان الناس تختلف باختلاف هِمَمها، فرجل وطنه نفسه، فيرى كل شيء لنفسه، ولا يرى نفسه لأحد، ورجل وطنه أبناؤه وأهله، ورجل يتعدَّى الأصول إلى الفروع، ورجل وطنه بلده أو قريته، ورجل وطنه العالم كله والإنسانية كلها.
فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعدَّى خيره إلى الإنسانية كلها على وجه العموم، والمؤمنين على وجه الخصوص؛ لذلك «كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا مات الرجل من أمته وعليه دَيْن، وليس عنده وفاء لا يُصلِّي عليه ويقول:» صَلُّوا على أخيكم «» .
والنظرة السطحية هنا تقول: وما ذنبه إنْ مات وعليه دَيْن؟ ولماذا لم يُصَلِّ عليه الرسول؟(19/11935)
قالوا: لم يمنع الرسولُ الصلاة عليه وقال: صَلُّوا على أخيكم؛ لأنه قال في حديث آخر: «مَنْ أخذ أموال الناس يريد أداءها - لم يَقُل أدّاها - أدى الله عنه» .
أما وقد مات دون أنْ يؤدي ما عليه، فغالب الظن أنه لم يكُنْ ينوي الأداء؛ لذلك لا أصلي عليه، فلما نزل قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ. .} [الأحزاب: 6] صار رسول الله يتحمل الدَّيْن عمَّنْ يموت من المسلمين وهو مدين، ويؤدي عنه رسول الله، وهذا معنى {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ. .} [الأحزاب: 6] فالنبي أَوْلى بالمسلم من نفسه.
ثم ألم يَقُلْ سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمام عمر: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من: نفسه، وماله، والناس أجمعين» ولصدْق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مع نفسه قال: نعم يا رسول الله، أنت احبُّ إليَّ من أهلي ومالي، لكن نفسي.
. فقال النبي صلى الله عليه السلام: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه» فلما رأى عمر أن المسألة عزيمة فَطِن إلى الجواب الصحيح، فلا بُدَّ أن الله أنطق رسوله بحُبٍّ غير الحبَ الذي أعرفه، إنه الحب العقلي، فمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحبُّ إليه من نفسه، والإنسان حين يحب الدواء(19/11936)
المرَّ إنما يحبه بعقله لا بعاطفته، وكما تحب الولد الذكي حتى ولو كان ابناً لعدوك، أما ابنك فتحبه بعواطفك، وتحب مَنْ يثني عليه حتى ولو كان غيباً مُتخلِّفاً.
ومشهورة عند العرب قصة الرجل الغني الذي روقه الله بولد متخلف، وكَبر الولد على هذه الحالة حتى صار رجلاً، فكان الطالبون للعطاء يأتونه، فيُثْنون عَلى هذا الولد، ويمدحونه إرضاء لأبيه، وطمعاً في عطائه، مع أنهم يعلمون بلاهته وتخلُّفه، إلى أن احتاج واحد منهم، فنصحوه بالذهاب إلى هذا الغنى، وأخبروه بنقطة ضَعْفه في ولده.
وفعلاً ذهب الرجل ليطلب المساعدة، وجلس مع هذا الغني في البهو، وفجأة نزل هذا الولد على السُّلم كأنه طفل يلعب لا تخفى عليه علامات البَلَه والتخلف، فنظر الرجل إلى صاحب البيت، وقال: أهذا ولدك الذي يدعو الناس له؟ قال: نعم، قال: أراحك الله منه، والأرزاق على الله.
وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ. .} [الأحزاب: 6] أي: أن أزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمهات للمؤمنين، وعليه فخديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أم لرسول الله بهذا المعنى؛ لأنه أول المؤمنين؛ لذلك كانت لا تعامله معاملة الزوجة، إنما معاملة الأم الحانية.
ألاَ تراها كيف كانت تحنُو عليه وتحتضنه أول ما تعرَّض لشدة الوحي ونزول الملَك عليه؟ وكيف كانت تُطمئنه؟ ولو كانت بنتاً صغيرة لاختلفَ الأمر، ولاتهمتْه في عقله. إذن: رسول الله في هذه المرحلة كان في حاجة إلى أم رحيمة، لا إلى زوجة شابة قليلة الخبرة.(19/11937)
وزوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعْتبرن أمهات للمؤمنين به؛ لأن الله تعالى قال مخاطباً المؤمنين: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ... } [الأحزاب: 53] لماذا؟ لأن الرجال الذين يختلفون على امرأة توجد بينهم دائماً ضغائن وأحقاد.
فالرجل يُطلِّق زوجته ويكون كارهاً لها، لكن حين يتزوجها آخر تحلو في عينه مرة أخرى، فيكره مَنْ يتزوجها، وهذه كلها أمور لا تنبغي مع شخص رسول الله، ولا يصح لمن كانت زوجة لرسول الله أن تكون فراشاً لغيره أبداً؛ لذلك جعلهن الله أمهات للمؤمنين جميعاً، وهذه الحرمة لا تتعدى أمهات المؤمنين إلى بناتهن، فمَنْ كانت لها بنت فلتتزوج بمَنْ تشاء.
إذن: لا يجوز لإنسان مؤمن برسول الله ويُقدِّره قدره أنْ يخلفه على امرأته.
لذلك كان تعدد الزوجات في الجاهلية ليس له حَدٌّ معين، فكان للرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء، فلما جاء الإسلام أراد أنْ يحدد العدد في هذه المسألة، فأمر أنْ يُمسك الرجل أربعاً منهن، ثم يفارق الباقين، بمعنى أنه لا يجمع من الزوجات أكثر من أربع.
أما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أمسك تسعاً من الزوجات، وهذه المسألة أخذها المستشرقون مَأخذاً على رسول الله وعلى شرع الله، كذلك مَنْ لَفّ لَفَّهم من المسلمين.(19/11938)
ونقول لهؤلاء: أنتم أغبياء، ومَنْ لفَّ لفكم غبي مثلكم؛ لأن هذا الاستثناء لرسول الله جاء من قول الله تعالى له: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ... } [الأحزاب: 52]
يعني: إنْ ماتت إحداهن لا تتزوج غيرها، حتى لو مُتْنَ جميعاً لا يحل لك الزواج بغيرهن، في حين أن غيره من أمته له أنْ يتزوج بدل إحدى زوجاته، إنْ ماتت، أو إنْ طلقها، وله أنْ يُطلِّق منهن مَنْ يشاء ويتزوج مَنْ يشاء، شريطة ألاَّ يجمع منهن أكثر من أربع، فعلى مَنْ ضيَّق هذا الحكم؟ على رسول الله؟ أم على أمته؟ إذن: لا تظلموا رسول الله.
ثم ينبغي على هؤلاء أنْ يُفرِّقوا بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، فكَوْن رسول الله يكتفي بهؤلاء التسع لا يتعدَّّاهن إلى غيرهن، فالاستثناء هنا في المعدود، فلو انتهى هذا المعدود لا يحلّ له غيره، ولو كان الاستثناء في العدد لجاز لكم ما تقولون.
ومن ناحية أخرى: حين يمسك الرجل أربعاً، ويفارق الباقين من زوجاته لهن أنْ يتزوجن بغيره، لكن كيف بزوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنْ طلق خمساً منهن، وهُنَّ أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد من أمته الزواج منهن؟ إذن: الخير والصلاح في أنْ تبقى زوجات الرسول في عصمته.
وما دام {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ. .} [الأحزاب: 6] كذلك يجب أن يكون المؤمنون أوْلى برسول الله من نفسه، ليردُّوا له هذه التحية، بحيث إذا أمرهم أطاعوه.
ثم يقول تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين} [الأحزاب: 6](19/11939)
كلمة {وَأُوْلُو الأرحام} مأخوذة من الرحم، وهو مكان الجنين في بطن أمه، والمراد الأقارب، وجعلهم الله أوْلى ببعض؛ لأن المسلمين الأوائل حينما هاجروا إلى المدينة تركوا في مكة أهلهم وأموالهم وديارهم، ولم يشأ أنصار رسول الله أن يتركوهم بقلوب متجهة إلى الأزواج.
فكانوا من شدة إيثارهم لإخوانهم المهاجرين يعرض الواحد منهم على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، وهذا لوْن من الإيثار لم يشهده تاريخ البشرية كلها؛ لأن الإنسان يجود على صديقه بأغلى ما في حوزته وملكه، إلا مسألة المرأة، فما فعله هؤلاء الصحابة لون فريد من الإيثار.
وحين آخى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين المهاجرين والأنصار هذه المؤاخاة اقتضت أنْ يرث المهاجر أخاه الأنصارى، فلما أعزَّ الله الإسلام، ووجد المهاجرون سبيلاً للعيش أراد الحق سبحانه أنْ تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، فلم تَعُدْ هناك ضرورة لأنْ يرث المهاجر أخاه الأنصاري.
فقررت الآيات أن أُولى الأرحام بعضهم أولى ببعض في مسألة الميراث، فقال سبحانه: {وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين. .} [الأحزاب: 6] فقد استقرت أمور المهاجرين، وعرف كل منهم طريقه ورتبَّ أموره، والأرحام في هذه(19/11940)
الحالة أوْلَى بهذا الميراث.
وقوله تعالى: {وَأُوْلُو الأرحام. .} [الأحزاب: 6] تنبيه إلى أن الإنسان يجب عليه أنْ يحفظ بُضْعة اللقاء حتى من آدم عليه السلام؛ لأنك حين تتأمل مسألة خَلْق الإنسان تجد أننا جميعاً من آدم، لا من آدم وحواء.
يُرْوى أن الحاجب دخل على معاوية، فقال له: رجل بالباب يقول: إنه أخوك، فقال معاوية: كيف لا تعرف إخوتي، وأنت حاجبي؟ قال: هكذا قال، قال: أدخله، فلما دخل الرجل سأله معاوية: أي إخوتي أنت؟ قال: أخوك من آدم، فقال معاوية: نعم، رحم مقطوعة، والله لأَكونَنَّ أول مَنْ يصلها.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً. .} [الأحزاب: 6] الحق سبحانه يترك باب الإحسان إلى المهاجرين مفتوحاً، فمَنْ حضر منهم قسمة فَليكُنْ له منها نصيب على سبيل التطوع، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [النساء: 8]
وقوله سبحانه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6] أي: في أم الكتاب اللوح المحفوظ، أو الكتاب أي: القرآن.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية عامة لموكب الرسل جميعاً: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ ... } .(19/11941)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
كلمة (إذ، إذا) ظرف لحدث، تقول: إذا جاءك فلان فأكرمه، فالإكرام مُعلّق بالمجئ، والمعنى هنا: واذكر إذْ أخذ الله من النبيين ميثاقهم، وهذه قضية عامة في الرسل جميعاً، ثم فصلَّها الحق سبحانه بقوله: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ. .} [الأحزاب: 7]
الميثاق: هو العهد يُؤخذ بين اثنين، كالعهد الذي أخذه الله تعالى أولاً على الخَلْق جميعاً، وهم في مرحلة الذَّرِّ، والذي قال الله عنه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ... } [الأعراف: 172]
فما العهد الذي أخذه الله على النبيين؟ العهد هنا هو: الاصطفاء والاختيار من الله لبشر أنْ يكون رسولاً وسفيراً بين الله تعالى والخلق، وحين يصطفي الله رسولاً ليبلِّغ الناس شرع الله، هذا الاصطفاء لا يرد، إذن، فهو عرض مقبول، وحين يقبله الرسول كأنه أخذ عهداً وميثاقاً من الله تعالى بأنْ يحمل رسالة الله إلى الخَلْق، فهي - إذن - مسألة إيجاب وقبول.
فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ. .] [الأحزاب: 7] الآخذ هو الحق سبحانه، والمأخوذ منه هم النبيون، والميثاق: العهد الموثَّق، والعهد تعاهد وتعاقد بين طرفين على أمر يُحقِّق الصالح عندهما معاً، ولو اختلف واحد منهما ما تَمَّ العقد، فإنْ كان الطرفان متساويين اشترط كل منهما ما يراه لنفسه في العقد.
فإنَّ كان الميثاق من الأعلى إلى الأدنى فهو الذي يأخذ العهد للأدنى، لماذا؟ لأنك جعلتَه في مرتبة أنْ يعطي عهداً، ويُوثق بينك وبينه أشياء؛ لذلك يقول الحق سبحانه: {وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ ... } [المائدة: 7]
والمواثقة مفاعلة بين الطرفين: أنتم واثقتُموه به وهو واثقكم به؛ لأن(19/11942)
الرسل حين يختارهم الله، لا شكَّ أنه سبحانه يعلم حيث يجعل رسالته، فإذا اختار الله رسولاً، فقبول الرسول للرسالة ارتضاء منه بما يريده الله من العهد.
وهل رأينا رسولاً في موكب الرسالات عُرِضَتْ عليه الرسالة فرفضها؟ إذن: قبول الرسالة كأنه العهد، جاء من طرف واحد في إملاء شروطه؛ لأنه الطرف الأعلى، وحيثية التوثيق في أن الله اختاره، وجعله أهْلاً للاصطفاء للرسالة.
لذلك رأينا في قصة سيدنا موسى - عليه السلام - لما اصطفاه الله للرسالة آنس من نفسه أنها مسألة كبيرة بالنسبة له، لكن لم يردَّها، إنما طلب من الله أنْ يسانده في هذه المسئولية أخوه هارون، فقال للحق سبحانه وتعالى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ... } [القصص: 34]
فلم يقل: أنا لا أصلح لهذه المسألة، إنما أذعن لأمر الله، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ومسألة العقدة التي في لسانه يستعين عليها بأخيه.
إذن: كلمة (الميثاق) تدور حول الشيء المؤكَّد الموثَّق، ومنه قوله تعالى عن الأعداء:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق ... } [محمد: 4]
ثم يأتي تفصيل هذه القضية العامة: {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ(19/11943)
وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ. .} [الأحزاب: 7]
قوله (مِنْكَ) أي من سيدنا رسول الله، خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن لماذا قدَّم محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نوح عليه السلام، وهو الأب الثاني للبشرية كلها بعد آدم عليه السلام؟
نعلم أن البشرية كلها من سلالة آدم عليه السلام، إلى أنْ جاء عهد نوح عليه السلام، فانقسموا إلى مؤمن وكافر، ثم جاء الطوفان ولم يَبْقَ على وجه الأرض إلا نوح ومَنْ آمن به، فكان هو الأب الثاني للبشر بعد سيدنا آدم.
لذلك يقول البعض: إن نوحاً عليه السلام رسالته عامة، كما أن رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عامة. ونقول: عمومية نوح كانت لمن آمن به ولأهل السفينة في زمن معلوم ومكان محدد، أما رسالة محمد فهي عامة في كل الزمان، وفي كل المكان.
أما تقديم ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً؛ لأن الواو هنا عادة لا تقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، إنما هي لمطلق الجمع، ثم قدم رسول الله لأنه المخاطب بهذا الكلام، ومن إكرامه الله لرسوله أنْ يبدأ به في مثل هذا المقام، ثم لهذا التقديم ملحظ آخر نفهمه من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن نفسه «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» .
ثم يخصُّ بالذكر هنا نوحاً؛ لأنه الأب الثاني للبشر، ثم إبراهيم وموسى وعيسى، فإبراهيم، لأن العرب كانت تؤمن به، وتعلم أنه(19/11944)
أبو الأنبياء، وتُقدِّر علاقته بالكعبة ورَفْع قواعدها، وأنه قدوة في مسألة الذَّبْح والسَّعي وغيرها.
وموسى وعيسى؛ لأن اليهودية والمسيحية ديانتان معاصرتان لدعوة رسول الله، حيث كان اليهود في المدينة، والنصارى في نجران، وهما أهل الكتاب الذين كان بينهم وبين رسول الله مواقف شتى، وكانت لهم في الجزيرة العربية السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة العمرانية والسيادة الحربية، وكأنهم هم أصحاب هذه البلاد.
ومن العجيب أن هؤلاء كان الله سبحانه - في ميثاقهم مع أنبيائهم - يدخرهم ليشهدوا لمحمد بصِدْق دعوته؛ لذلك كانوا يستفحتون بمحمد على الذين كفروا ويقولون لعبدة الأصنام: لقد أطلّ زمان نبي سنتبعه، وتقتلكم به قتْل عاد وإرم، فكانوا يعرفون زمان رسول الله وموطنه، وأنه سيُبعث في أرض ذات نخل، ومن صفاتها كذا وكذا، لذلك لما قطَّعهم الله في الأرض أمماً وشتتهم، جاء المشتغلون منهم بالعلم إلى يثرب ينتظرون بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لذلك يقول تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
إذن: فأهل الكتاب كان من المفترض فيهم أنْ يشهدوا لرسول الله بِصدْق الرسالة، لكن يحكي القرآن عنهم بعد هذا كله: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين}
[البقرة: 89]
فكيف إذن تم هذا التحول؟ وكيف تنقلب عقيدة القلب إلى تمرُّد القالب؟ قالوا: إنها السلطة الزمنية التي أحبوا أنْ تبقى، وأنْ تدوم لهم. فقد بُعِث الرسول وهم أهل مال وتجارة وأهل حِرَف وعمارة،(19/11945)
وخافوا من رسول الله ومن الدين الجديد أن يسلبهم هذه المكانة، وأنْ يقضي على هذه السيادة، لذلك قال القرآن عنهم: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [البقرة: 90]
لهذا خصَّ بالذكْر هنا موكب الأنبياء موسى وعيسى عليهما السلام.
ونلحظ أن السياق ذكر موسى عليه السلام، ولم يذكر له أباً، أما في عيسى عليه السلام فقال: {وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ. .} [الأحزاب: 7] وهذا دليل على أنه يؤكد الأصالة في الإنجاب، فالأب هو الأصل إنْ وَجِد مع الزوجة، فإنْ لم يوجد الأب فالأبوة للزوجة؛ لذلك نسب عليه السلام إلى إمه.
وجاءت هذه المسألة لتبرهن على طلاقة القدرة الإلهية، فمسألة الخَلْق ليست عملية ميكانيكية تخضع لقانون، إنما هي قدرة الله التي خلقتْ آدم بدون أب ولا أم، وخلقت حواء من أب دون أم، وخلقتْ عيسى عليه السلام من أم بدون أب، وخلقتْ سائر الخَلْق من أب وأم، وهكذا استوفى الخَلْق القسمة العقلية في كل صورها.
وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [الأحزاب: 7] أي: من الأنبياء، والميثاق الغليظ أي المؤكد، فقد وسّعه الله وأكده حينما أخبر أنبياءه ورسله أنهم سيُضطهدون وسيُحاربون من أممهم.
لذلك لم يُوصَف الميثاق بأنه غليظ إلا في هذا الموضوع، وفي علاقة الرجل بالمرأة حين يطلقها، وقد فرض لها مهراً، فينبغي أنْ يُؤديه إليها، ولو كان قنطاراً، يقول سبحانه: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21](19/11946)
فسمّى الميثاق بين الزوجين ميثاقاً غليظاً أي: قوياً ومتيناً؛ لأنه في العِرْض، ولم يُوصَف الميثاق فيما دون ذلك بأنه غليظ.
وهذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الرسل المذكِّرين المبشِّرين المنذرين جاء تفصيله في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81]
والشيء الذي شهد الله عليه لا يحتاج إلى قضاء، لكن لماذا أخذ الله هذا العهد؟ قالوا: لأن الذي لا يؤمن بإله ليس لديه دين يتعصَّب له حين يأتي رسول جديد، لكن من الصَّعب على الإنسان أن يكون له دين، ثم يأتي رسول جديد ليزحزحه عن دينه، وهنا تكمن المشقة التي يعانيها الرسل.
لذلك قال الله تعالى للرسل: من تمام ميثاقكم أن تقولوا لأقوامكم إذا جاءكم رسول مُصدِّق لما معكم لتُؤمنن به ولتنصرنه، ثم أقررهم على ذلك، وأشهدهم عليه فشهدوا، والمعنى: إياكم أن تتركوا أممكم التي تؤمن بكم بدون أنْ تضعوا لهم هذه القاعدة، ففيها الوقاية لهم.(19/11947)
ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيَسْئَلَ الصادقين عَن ... } .(19/11948)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
اللام هنا في {لِّيَسْأَلَ. .} [الأحزاب: 8] لام التعليل، فالمعنى أننا أخذنا من النبيين الميثاق، لكن لن نتركهم دون سؤال {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ ... } [الأحزاب: 7] لماذا؟ {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ. .} [الأحزاب: 8] لكن إذا كان المبلِّغ صادقاً، فكيف يسأل عن صدقه؟
سؤال الصادق عن صِدْقه ليس تبكيتاً للصادق، إنما تبكيتاً لمن كذَّب به، سنسأل الرسل: أبلغتم هؤلاء؟ ويقول تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ... } [المائدة: 109] ويسأل الله القوم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا ... } [الأنعام: 130]
فالاستفهام هنا للتقريع والتبكيت لمن كذَّب.
أو: يكون المعنى {لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ. .} [الأحزاب: 8] أي: أنتم بشَّرتم بأن الإله واحد، فأنتم صادقون؛ لأنكم أخذتُمْ هذه مني، ولما قامت الساعة ولم تجدوا إلهاً آخر يحمي الكافرين، إذن: فقد صدقت فيما أخبرت به، وصدقتم فيما بلغتم عني، حيث لم تجدوا في الآخرة إلا الإله الواحد.
لذلك يقول سبحانه: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] ولو كان معه سبحانه إله آخر لَدافع عن هؤلاء الكافرين، ومنعهم من العذاب.
كذلك يسأل الرسل عن البعث الذي وعد الله به، وبلَّغوه لأممهم،(19/11948)
وعن الحساب وما فيه من ثواب وعقاب، وكأن الحق سبحانه يسألهم: هل تخلَّف شيء مما أخبرتكم به؟ هل قصرت في إثابة المحسن أو معاقبة المسيء؟ إذن: صدق كلامي كله.
كما تجلس مع ولدك مثلاً تراجع معه المواد الدراسية، وتحثُّه على المذاكرة فيُوفَّق في الامتحان، ثم تسأله: ماذا فعلت في إجابة السؤال الفلاني؟ فأنت لا تقصد الاستفهام، إنما تستعيد معه أمجاد ما أنجزه بالفعل تسأله عن توفيق الله له، كذلك الحق سبحانه يستعيد مع الرسل وَقَفْتهم لدين الله وإعلاءَهم كلمة الحق في هذه الساعة ولا مردَّ لها.
إذن: فسؤال الصادقين عن صدقهم تكريم لهم، وشهادة بأنهم أدَّوْا ما عليهم، وهو كذلك تبكيت لمن كذَّب بهم.
ثم يقول سبحانه: {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً} [الأحزاب: 8] والفعل الماضي هنا دليل على أن كل شيء معدٌّ وموجود سَلَفاً، ولن ينشيء الحق سبحانه شيئاً جديداً، كذلك قال عن الجنة {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]
وسبق أنْ أوضحنا أن الله تعالى خلق الجنة لتسع الناس جميعاً إنْ آمنوا، وخلق النار كذلك تسع الناس جميعاً إن كفروا، يعني: لن تكون هناك أزمة أماكن، فإذا ما أخذ أهل الإيمان أماكنهم من الجنة(19/11949)
تتبقى أماكن الذين كفروا شاغرة، فيقول تعالى للمؤمنين: خذوها أنتم: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]
وقد وصف العذاب مرة بأنه أليم، ومرة بأنه مهين، ومرة بأنه عظيم، ومرة بأنه شديد، ولكل منها ملحظ، فالأليم يُلحظ فيه القسوة والإيلام، والعذاب المهين يُلحظ فيه إهانة المعذَّب والنيل من كرامته، فمن الناس مَنْ يحاول التجلُّد، ويُظهر تحمل الألم وعدم الاكتراث به، في حين يؤلمه أنْ تنال من كرامته، فيناسبه العذاب المهين.(19/11950)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
أراد الحق سبحانه أنْ يُدلِّل على قوله لرسوله في الآيات السابقة: {وَتَوَكَّلْ على الله وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 3] فجاء بحادثة جمعتْ كل فلول خصومه، فقد سبق أن انتصر عليهم متفرقين، فانتصر أولاً على كفار مكة في بدر، وانتصر على اليهود في بني النضير وبني قينقاع، وهذه المرة اجتمعوا جميعاً لحربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومع ذلك لن يؤثر جمعهم في الصدِّ عن دعوتك، وسوف تُنصَر عليهم بجنود من عند الله.
إذن: فحيثية (وتوكل على الله) هي قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 9] النعمة: الشيء الذي يخالط الإنسان بسعادة وبِشْر وطلب استدامته، وهذه الصفات لا تتوافر إلا في الإيمان؛ لأن استدامة النعمة فيه تعدَّتْ زمن الدنيا إلى زمن آخر دائم وباقٍ في الآخرة، وإنْ كانت نعمة الدنيا على قَدْر أسبابك وإمكاناتك، فنعمة الآخرة على قَدْر المنعمِ سبحانه، فهي إذن: نعمة النعم.(19/11951)
والله تعالى يخاطب هنا المؤمنين، ومعنى الإيمان هو اليقين بوجود إله واحد له كل صفات الجلال والكمال، والله سبحانه يكفي العقل أنْ يهتدي إلى القوة الخالقة الواحدة التي لا تعاند، لكن ليس من عمل العقل أنْ يعرف مثلاً اسم هذا الإله، ولا أن يعرف مراده، فكان ولا بُدَّ من البلاغ عن الله.
وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بمَنْ يطرق علينا الباب، فنتفق جميعاً بالعقل على أن طارقاً بالباب، هذا هو عمل العقل، لكن أمن عمل العقل أن نعرف مَنْ هو؟ أو نعرف مقصده من المجيء؟ وهذا ما نسميه التصور.
فآفة العقل البشري أنه لم يقنع بالتعقل للقوة القاهرة الفاعلة، فكان يكفيه أن يتعقل أن وراء هذا الكون قوةً، هذه القوة لها صفات الكمال التي بها أوجدتْ هذا الكون، فإنْ أردنا معرفة ما هي هذه القوة فلابُدَّ أنْ نترك هذا الطارق ليخبرنا عن نفسه، ويفصح عن هدفه وسبب مجيئه، ولا يتم ذلك إلا من خلال رسول يأتي من عند الله يخبرنا عن هذه القوة، عن الله، عن أسمائه وصفاته ومنهجه الذي ارتضاه لخَلْقه، وما أعدَّه الله لمَنْ أطاعه من النعيم، وما أعدَّه لمَنْ عصاه من العذاب.
فإنْ كذَّبنا هذا الرسول، وطلبنا دليلاً على صِدْقه في البلاغ أخرج لنا من المعجزات ما يؤيده وما يحملنا على تصديقه؛ لأنه أتى بلونٍ مما ننبغ فيه نحن، وفن من فنوننا، ومع ذلك عجزنا عن الإتيان بمثله.
إذن: فالتعقُّل أول مراحل الإيمان: لذلك فإن أبسط ردٍّ على مَنْ يعبدون غير الله أن نقول لهم: بماذا أمرتكم آلهتكم؟ وعمَّ نهتْكم؟ وماذا أعدَّتْ لمن أطاعها؟ وماذا أعدَّت لمنْ عصاها؟ ما المنهج الذي تستعبدكم به؟(19/11952)
فكان من منطق العقل ساعةَ يأتينا رسول من عند الله أنْ نستشرف له، ونُقبل عليه، ونسأله عن اللغز الذي لا نعرفه من أمور الحياة والكون، كان علينا أن نستمع له، وأن ننصاع لأوامره؛ لأنه ما جاء إلا ليُخرجنا من مأزق فكري، ومن مأزق عقلي لا يستطيع أحد مِنَّا أنْ يُحلِّله، كان على القوم أن يتلهفوا على هذا الرسول، لا أن يعادوه ويعاندوه، لما لهم من سلطة زمنية ظنوها باقية.
وقوله تعالى: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 9] ما هو الذكر؟ العقل حين يتلقَّى المعلومات من الحواسِّ يقارن بينها ويُغربلها، ثم يحتفظ بها في منطقة منه تمثل خزينة للمعلومات، وما أشبه العقل في تلقي المعلومات بلقطة (الفوتوغرافيا) التي تلتقط الصورة من مرة واحدة، والناس جميعاً سواء في تلقي المعلومات، المهم أن تصادف المعلومة خُلوّ الذِّهْن مما يشغله.
وهذه المنطقة في العقل يسمونها بؤرة الشعور، وهي لا تلتقط إلا جزئية عقلية واحدة، فإذا أردتَ استدعاء معلومة من الحافظة، أو من حاشية الشعور، فالذاكرة هي التي تستدعي لك هذه المعلومة، وتُخرِجها من جديد من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
ثم هناك ما يُسمَّى بتداعي المعاني، حين يُذكِّرك شيء بشيء آخر، وهناك المخيِّلة، وهي التي تُلفِّق أو تُؤلِّف من المعلومات المختزنة شيئاً جديداً، ونسميه التخيُّل، فالشاعر العربي حين أعجبه الوشم باللون الأخضر على بشرة شابة بيضاء تخيَّلها هكذا.(19/11953)
خَوْدٌ كأنَّ بَنَانَهَا فِي ... نَقْشِهِ الوَشْمِ المُزَرَّدْ
سَمَكٌ مِنَ البللَّوْرِ فِي ... شَبَكِ تكوَّنَ مِنْ زَبَرْجَدْ
فهذه صورة تخيُّلية خاصة بالشاعر، وإلا فَمْن مِنَّا رأى سمكاً من البللور في شبك من زبرجد؟ فللشاعر نظرته الخاصة للصور التي يراها، وسبق أنْ ذكرنا الصورة التي رسمها الشاعر للأحدب، فقال:
قَصُرَتْ أَخَادِعُه وغَاصَ قَذَالُه ... فَكأنَّهُ مُترِّبصٌ أنْ يُصْفَعَا
وكأنَّمَا صُفِعَتْ قفَاهُ مرةً ... فَأحسَّ ثانيةً لَهَا فَتَجمَّعا
ومنذ القِدَم يعتبر الشعراء محلاً للحب وللمشاعر، لكن يخرج علينا هذا الشاعر بصورة أخرى جديدة من نَسْج خياله، فيقول:
خَطَرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَودَّتيِ ... فَأُحِسُّ مِنْها فِي الفُؤادِ دَبيبا
لاَ عُضْوَ لِي إلاَّ وَفيهِ صَبَابَةٌ ... فَكأنَّ أَعْضَائي خُلِقْنَ قُلُوبَا(19/11954)
فمعنى: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 9] لا تمروا على النعم بغفلة لرتابتها عندكم، بل تذكروها دائماً، واجعلوها في بؤرة شعوركم؛ لذلك جعل الله الذكر عبادة، وهو عبادة بلا مشقة، فأنت حين تصلي مثلاً تستغرق وقتاً ومجهوداً للوضوء وللذهاب للمسجد، كذلك حين تزكي تُخرِج من مالك، أما الذكْر فلا يُكلِّفك شيئاً.
لذلك في سورة الجمعة حينما يستدعي الحق سبحانه عباده للصلاة، يقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ... } [الجمعة: 9] فهنا حركتان: حركة إيجاب بالسعي إلى الصلاة، وحركة سَلْب بترْكِ البيع والشراء، وكلّ ما يشغلك عن الصلاة.
ثم يقول تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً ... } [الجمعة: 10]
وفي موضع آخر قال:
{وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] فإياك أن تظن أن الله يريد أنْ تذكره ساعة الصلاة فحسب، إنما اذكره دائماً وأبداً، وإنْ كانت الصلاة لها ظرف تُؤدِّي فيه، فذِكْر الله لا وقتَ له؛ لذلك جعله الله يسيراً سهلاً، لا مشقة فيه، لا بالوقت ولا بالجهد، فيكفي في ذِكْر الله أنْ تتأمل المرائي التي تمر بها ويقع عليها نظرك لترى فيها قَدرة الله.
والحق سبحانه يُذكِّرنا بنعمه؛ لأن النعمة بتواليها على النفس البشرية تتعوَّد عليها النفس، ويحدث لها رتابة، فلا تلتفت إليها، فأنت مثلاً ترى الشمس كل صباح، لكن قلَّما تتذكر أنها آية من آيات الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - ونعمة من نعمه؛ لأنك تعوَّدت على رؤيتها، وأصبحت رتيبة بالنسبة لك.(19/11955)
كذلك يلفتنا الحق سبحانه إلى نعمه حين يسلبها من الآخرين، فحين ترى السقيم تذكَّر نعمة العافية، وحين ترى الأعمى تذكَّر نعمة البصر. . الخ وساعتها ينبغي عليك أنْ تشكر المنعم الذي عافاك مما ابتلى به غيرك، إذن: فهذه الشواذ جعلها الله وسائل للإيضاح وتذكيراً للخلق بنِعَم الخالق.
والنعمة وردتْ هنا مفردة، وكذلك في قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد وقف أعداء الإسلام من المستشرقين أمام هذه الآية يعترضون على أن النعمة فيها مفردة، يقولون: فكيف تُعَدُّ؟ وهذا الاعتراض منهم ناشئ عن عدم فَهْم لمعاني وأساليب القرآن.
ونقول: الذي تروْنه نعمة واحدة، لو تأملتُم فيها لوجدتم بداخلها نِعَماً متعددة تفوق العَدَّ؛ لذلك استخدم القرآن هنا (إنْ) الدالة على الشك؛ لأن نِعَم الله ليست مظنَّة العَدِّ والإحصاء كرمال الصحراء، هل تعرَّض أحد لعدِّها؟ لأنك لا تقبل على عَدِّ شيء إلا إذا كان مظنَّةَ العَدِّ، وإحصاء المعدود.
لذلك، فالحق سبحانه يوضح لنا: إنْ حاولتم إحصاء نِعَم الله - وهذا لن يحدث - فلن تستطيعوا عدَّها، مع أن الإحصاء أصبح عِلْماً مستقلاً، له جامعات وكليات تبحث فيه وتدرسه.
ولك أنْ تأخذ نعمة واحدة من نِعَم الله عليك، ثم تتأمل فيها وفي عناصرها ومُكوِّناتها وفوائدها وصفاتها، وسوف تجد في طيَّات النعمة الواحدة نِعَماً شتَّى، فالتفاحة مثلاً في ظاهرها نعمة واحدة، لكن في ألوانها ومذاقها وعناصر مكوناتها ورائحتها واختلاف وتنوُّع هذا كله نِعَم كثيرة.(19/11956)
والحق سبحانه جعل نِعَمه عامة للمؤمن وللكافر؛ لأنه سبحانه جعل لها أسباباً، مَنْ أحسَنَ هذه الأسباب أعطتْه، حتى لو كان كافراً.
ثم نلاحظ في قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أنها وردتْ في القرآن مرتين، ولكل منهما تذييل مختلف، فمرَّة يقول تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ، ومرة يقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18]
وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لو عامل المنعَم عليهم من الخَلْق بما يقتضيه إيمانهم، وما يقتضيه كفرهم، لأعطى المؤمن وسلَبَ الكافر، لكنه سبحانه غفور رحيم بخَلْقه، فبهاتين الصفتين يُنعِم سبحانه على الجميع، وما ترفلون فيه من نِعَم الله عليكم أثر من آثار الغفران والرحمة، فغفر لكم معايبكم أولاً، والغفر: أنْ تستر الشيء القبيح عَمَّن هو دونك.
ثم الرحمة، وهي أنْ تمتدَّ يدك بالإحسان إلى مَنْ دونك، وسبق أنْ أوضحنا أن المغفرةَ تسبق الرحمةَ، وهذه هي القاعدة العامة، لكن قد تسبق الرحمةُ المغفرةَ؛ ذلك لأن السَّلب للشيء المذموم ينبغي أن يسبق النعمة، أو: أنْ دَفْع الضرر مُقدَّم على جَلْب المنفعة.
وقد مثَّلْنا لذلك باللصِّ تجده في دارك، فتستر عليه أولاً حين لا تسلمه للبوليس، ثم يرقّ له قلبك، فتمتد يدُك إليه بالإحسان، وهنا تسبق المغفرة الرحمةَ، وقد تتصرف معه بطريقة أخرى، بحيث تقدَّم فيها الرحمةَ على المغفرة، والمغفرة لا تكون إلا من الأعلى للأدنى، فتستر على القبيح قُبْحه، وأنت أعلى منه، فلا يقال مثلاً للخادم: إنه ستر على سيده.(19/11957)
ثم يرسل لنا الحق - سبحانه وتعالى - هذه البرقية الدالَّة على تأييده سبحانه لعبادة المؤمنين: {إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الأحزاب: 9]
فالجنود تُؤذِن بالحرب، وجاءت نكرة مُبْهمة، ثم جاءت نهاية هذه المعركة في هاتين الجملتين القصيرتين {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا. .} [الأحزاب: 9] ولم يذكر ما هية هؤلاء الجنود، إلا أنهم من عند الله، جاءوا لردِّ هؤلاء الكفار وإبطال كيدهم.
ثم يأتي بمذكرة تفسيرية توضح مَنْ هم هؤلاء الجنود: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ ... } .(19/11958)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
هذا وَصف لما جرى في غزوة الأحزاب التي جمعتْ فُلول أعداء رسول الله، فقد سبق أنْ حاربهم مُتفرِّقين، والآن يجتمعون لحربه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فجاءت قريش ومَنْ تبعها من غطفان وأسد وبني فزارة وغيرهم، وجاء اليهود من بني النضير وبني قريظة، وعجيب أنْ يجتمع كل هؤلاء لحرب الإسلام على ما كان بينهم من العداوة والخلاف.
وقلنا: إن أهل الكتاب كانوا يستفتحون برسول الله على كفار مكة، ثم جاءت الآيات لتجعل من أهل الكتاب شهداء على صِدْق رسول الله، فقال تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
ولو قدَّر أهل الكتاب هذه الشهادة التي قرنها الحق سبحانه بشهادته، لَكَان عليهم أنْ يؤمنوا بصِدْق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والمعنى {إِذْ جَآءُوكُمْ. .} [الأحزاب: 10] أي: اذكر يا محمد وتخيَّل وتصوَّر إذ جاءكم الأحزاب، وتجمَّعوا لحربك {مِّن فَوْقِكُمْ. .} [الأحزاب: 10] أي: من ناحية الشرق، وهُمْ: غطفان، وبنو قريظة، وبنو النضير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ. .} [الأحزاب: 10] أي: من ناحية الغرب وهم قريش، ومَنْ تبعهم من الفزاريين والأسديين وغيرهم {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار. .} [الأحزاب: 10] أي: اذكر إذ زاغت الأبصار، ومعنى زاغ البصر أي: مال، ومنه قوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17]
ف (زاغت الأبصار) يعني: مالتْ عن سَمْتها وسنمها، وقد خلق الله العين على هيئة خاصة، بحيث تتحرك إلى أعلى، وإلى أسفل، وإلى اليمين، وإلى الشمال، ولكل اتجاه منها اسم في اللغة، فيقولون: رأى أي: بجُمْع عَيْنه، ولمح بمؤخَّر مُوقِه، ورمق أي: من ناحية أنفه. . الخ(19/11959)
فسَمْت العين وسَنمها أنْ تتحرك في هذه الاتجاهات، فإذا فزعتْ من شيء أخذ البصر، مال عن سَمْته من التحول، لذلك يقول تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ ... } [الأنبياء: 97]
وقال: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] وشخوص البصر أنْ يرتفع الجَفْن الأعلى، وتثبت العين على شيء، لا تتحرَّك إلى غيره.
وفي موضع آخر قال تعالى عن المنافقين والمعوِّقين: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ... } [الأحزاب: 19]
لأن الهول ساعة يستولي الأعين، فمرة تشخص العين على ما ترى لا تتعداه إلى غيره من شدة الهول، ومرة تدور هنا وهناك تبحث عن مفرٍّ أو مخرجٍ مما هي فيه، فهذه حالات يتعرَّض لها الخائف المفزَّع.
وقوله تعالى: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر. .} [الأحزاب: 10] معلوم ان الحنجرة أعلى القصبة الهوائية في هذا التجويف المعروف، فكيف تبلغ القلوبُ الحناجرَ؟ هذا أثر آخر من آثار الهول والفزع، فحين يفزع الإنسان يضطرب في ذاته، وتزداد دقَّات قلبه، وتنشط حركة التنفس، حتى ليُخيَّل للإنسان من شدة ضربات قلبه أن قلبه سينخلع من مكانه، ويقولون فعلاً في العامية (قلبي هينط مني)
وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10](19/11960)
أي: ظنوناً مختلفة تأخذهم وتستولي عليهم، فكلٌّ له ظنٌّ يخدم غرضه، فالمؤمنون يظنون أن الله لن يُسلمهم، ولن يتخلى عنهم، والكافرون يظنون أنهم سينتصرون وسيستأصلون المؤمنين، بحيث لا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.
ونلحظ في هذه الآية أن الحق سبحانه لا يكتفي بأنْ يحكي له ما حدث، إنما يجعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستحضر الصورة نفسه، فيقول له: اذكُرْ إذ حدث كذا وكذا.
ثم يقول الحق سبحانه: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون ... } .(19/11961)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون. .} [الأحزاب: 11] أي: اختُبِروا وامْتُحِنوا، فقَوِيُّ الإيمان قال: لن يُسلمنا الله. والمنافق قال: هي نهاية الإسلام والمسلمين {وَزُلْزِلُواْ. .} [الأحزاب: 11] الزلزلة هي الهزة العنيفة التي ينشأ عن قوتها تَخْلخل الأشياء، لكن لا تقتلعها، والمراد أنهم تعرَّضوا لكرب شديد زلزل كيانهم، وميَّز مؤمنهم من منافقهم؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين ... } .(19/11961)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
المنافقون هم أنفسهم الذين في قلوبهم مرض، فهما شيء واحد، وهذا العطف يُسمُّونه «عطف البيان» .
والغرور أنْ تخدع إنساناً بشيء مُفْرح في ظاهره، محزن في باطنه، تقول: ما غرَّك بالشيء الفلاني كأن في ظاهره شيئاً يخدعك ويغرّك، فإذا ما جئتَ لتختبره لم تجده كذلك.(19/11962)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{وَإِذْ. .} [الأحزاب: 13] هنا أيضاً بمعنى: واذكر {وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ. .} [الأحزاب: 13] يثرب: اسم للبقعة التي تقع(19/11962)
فيها المدينة، وقد غيَّر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسمها إلى (طَيْبة) .
ومعنى: {لاَ مُقَامَ لَكُمْ. .} [الأحزاب: 13] أي: في الحرب {فارجعوا. .} [الأحزاب: 13] يعني: اتركوا محمداً وأتباعه في أرض المعركة واذهبوا، أو {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} [الأحزاب: 13] أي: على هذا الدين الذي تنكرونه بقلوبكم، وتساندونه بقوالبكم.
ثم يكشف القرآن حيلة فريق آخر يريد الفرار {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي. .} [الأحزاب: 13] أي: في عدم الخروج للقتال {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ. .} [الأحزاب: 13] أي: ليست مُحصّنة، ولا تمنع مَنْ أرادها بسوء. يقال: بيت عورة إذا كان غير مُحْرز، أو غير محكم ضد مَنْ يطرقه يريد به الشر، كأن يكون منخفضاً أو مُتهدِّم الجدران يسهل تسلُّقه، أو أبوابه غير محكمة. . إلخ.
كما نقول في العامية (مَنَطٌّ) ، لكن الحق سبحانه يثبت كذبهم، ويبطل حجتهم، فيقول {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} [الأحزاب: 13] إنما العلة في ذلك {إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب: 13] أي: من المعركة إشفاقاً من نتائجها ومخافةَ القتل.
ثم يقول سبحانه: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ... } .(19/11963)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 14] أي: البيوت: {مِنْ أَقْطَارِهَا} [الأحزاب: 14] من نواحيها {ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة} [الأحزاب: 14] أي: طُلب منهم الكفر {لآتَوْهَا} [الأحزاب: 14] يعني: لكفروا. {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ(19/11963)
يَسِيراً} [الأحزاب: 14] يعني: ما يجعل الله لهم لُبْثاً وإقامة إلا يسيراً، ثم ينتقم الله منهم.(19/11964)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)
{عَاهَدُواْ الله. .} [الأحزاب: 15] أخذ الله عليهم العهد وقَبلوه، وهو ما حدث في بيعة العقبة حين عاهدوا رسول الله على النُّصْرة والمؤازرة. أو: يكون الكلام لقوم فاتتهم بدر وفاتتْهم أُحُد، فقالواك والله لئن وقفنا في حرب أخرى لنبلونّ فيها بلاءً حسناً.
وعَهْد الله هو الشيء الذي تعاهد الله عليه، وأول عهد لك مع الله تعالى هو الإيمان به، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالله فانظر إلى ما طلبه منك وما كلَّفك به، وإياك أنْ تُخِلَّ بأمر من أموره، لأن الاختلال في أي أمر تكليفي من الله يُعَد نقصاً في إيمانك بالله، فلا يليق بك أنْ تنقض ما أكَّدته من الأيْمان، بل يلزمك أن توفي به؛ لأنك إنْ وفَّيْتَ بها وُفِّي لك بها أيضاً، فلا تأخذ الأمر من جانبك وحدك، ولكن انظر إلى المقابل.(19/11964)
واعلم أن الله مُطلع عليك، يعلم خفايا الضمائر وما تُكِنّه الصدور، فاحذر حينما تعطي العهد أنْ تعطيه وأنت تنوي أنْ تخالفه، إياك أنْ تعطي العهد خداعاً، فربك - سبحانه وتعالى - يعلم ما تفعل.(19/11965)
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
قوله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {قُل} [الأحزاب: 16] أي: لهؤلاء الذين يريدون الفرار من المعركة {لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل} [الأحزاب: 16] والقرآن هنا يحتاط لمسألة إزهاق الروح، وسبق أن تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل؛ لذلك يقول تعالى عن نبيه محمد: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ ... } [آل عمران: 144]
فالموت لا يقدر عليه إلا واهب الحياة سبحانه، ويكون بنقض الروح أولاً بأمر خالقها، ثم يتبعه نَقْض البنية، أما القتل فيقدر عليه الخَلْق، ويتم أولاً بنقض البنية الذي يترتب عليه إزهاق الروح؛ لأن البنية لم تَعُدْ صالحة لاستمرار الروح فيها، بعد أنْ فقدتْ المواصفات المطلوبة لبقاء الروح.
والفرار لن يُجدِي في هذه المسألة؛ لأن لها أجلاً محدداً، سواء أكان بالله واهب الحياة، أو كان بفعل واحد من الخَلْق عصى أمر الله، فهدم البنية التي بناها الله، وما جدوى الفرار من المعركة، وقد رأينا مَنْ شهد المعارك كلها، ثم يموت على فراشه، كخالد بن الوليد الذي(19/11965)
يقول: لقد شهدتُ مائة زَحْف أو زهاءها، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برُمْح، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامتْ أعين الجبناء.
ثم يناقشهم القرآن: هَبُوا أنكم فررتُم من الموت أو القتل، أتدوم لكم هذه السلامة؟ أتخلدون في هذه الحياة؟ {وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 16] وسرعان ما تنتهي الحياة، وتواجهون الموت الذي لا مَفَرَّ منه، وكلنا ذاهب إلى هذا المصير.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ ... } .(19/11966)
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
المعنى: قل لهم يا محمد مَن الذي {يَعْصِمُكُمْ. .} [الأحزاب: 17] أي: يمنعكم {مِّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً. .} [الأحزاب: 17] كما قال في موضع آخر: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ ... } [هود: 43]
فإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا عاصمَ لهم؛ لأنه لا يمتنع أحد مع الله؛ لأنه لا يوجد معه سبحانه إله آخر يدفع السوء عن هؤلاء.(19/11966)
والإشكال الذي يحتاج إلى توضيح هنا قوله تعالى: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً. .] [الأحزاب: 17] فكيف تكون العصمة من الرحمة؟ قالوا: يعصم هنا بمعنى يمنع، والمعنى: لا يمنع أحد من أعدائكم رحمة الله إنْ أراد الله بكم رحمة.
ونلحظ على سياق الآية أنها جاءت بأسلوب الاستفهام، ولم تأْتِ على صورة الخبر، فلم يَقُلْ القرآن لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل يا محمد، لا يُعصَم أحد من الله إنْ أرادكم بسوء، لأن الجملة الخبرية محتملة للصدق وللكذب، إنما شاء الله أن يجعلها جملة إنشائية استفهامية؛ ليقرروا هم بأنفسهم هذه الحقيقة، كأنه تعالى يقول لهم: لقد ارتضيتُ حكمكم أنتم، ولو لم يكُنْ الحق سبحانه واثقاً من أن الجواب لن يأتي إلا: لا أحدَ لَمَا جاء بالأسلوب في صورة استفهام، إذن: فالاستفهام هنا آكد في تقرير صِدْق هذه الجملة.
كذلك أنت تلجأ إلى هذا الأسلوب في الردِّ على مَنْ ينكر جميلك، فتقول: ألم أُحْسِن إليك يوم كذا وكذا؟ فلا يملك عندها إلا الإقرار.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [الأحزاب: 17] الولي: هو القريب منك، وأنت لا تُقرِّب منك إلا مَنْ ترجو نفعه، هو الذي يليك أو يُواليك، فحبُّه يسبق الحدث، فإذا ما جاء الحدث حمله حبُّه لك على أنْ يدافع عنك.
والنصير: قريب من معنى الولي، ويدافع أيضاً عنك، لكن يأتي دفاعه بعد الحدث، وقد يكون ممَّنْ لا قرابةَ بينك وبينهم.
والمعنى: حين يريد الله أحداً بسوء فلن يجد أحداً يمنعه من الله، لا الولّي ولا النصير.(19/11967)
ثم يقول الحق سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ... } .(19/11968)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
قد: حرف يفيد التحقيق، خاصة إذا جاءتْ من الحق سبحانه، ويأتي معها الفعل في صيغة الماضي، لكن هنا {قَدْ يَعْلَمُ ... } [الأحزاب: 18] فجاء الفعل بصيغة المضارع، وهذا يعني أن الحدث الذي يقع الآن سيثبت أن الله يعلم المُعوِّقين، وقد علم أزلاً.
فإنْ قُلْتَ: فالحق سبحانه يعلم قبل أنْ يكون هناك تعويق، نقول: فَرْق بين أنْ يعلم الأمر قبل أنْ يقع، وأنْ يعلمه إذ يقع، فقد يقول قائل: علمتُ وسوف تجازيني على ما تعلم سابقاً، لكن لو تركتني في المستقبل لن تحدث مني مخالفة. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يؤكد هذا الأمر. والمعوِّق: هو الذي يضع العوائق أمام مرادك، ويُثبِّط هِمَّتك ويُخذِّلك.
وقوله: {هَلُمَّ إِلَيْنَا. .} [الأحزاب: 18] يعني: أقبل وتعال. وكلمة (هلم) تأتي هكذا بصيغة المفرد دائماً مع المفرد والمثنى والجمع،(19/11968)
ومع المذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا ... } [الأنعام: 150] أي: هاتوا، وهذه هي اللغة الفصيحة.
وفي لغة من لغات تهامة يُلحقون بها علامة التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فيقولون: هلم وهلمي وهلما وهلموا، ولجمع الإناث هَلُمْنَ.
وقوله تعالى: قوله {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] البأس أي: الحرب، كما جاء في قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ ... } [الأنبياء: 80]
وقال سبحانه: {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس ... } [البقرة: 177] ففَرْق بين البأس والبأساء: البأس أي: الحرب. أما البأساء، فكل ما يصيب الإنسان من مكروه في غير ذاته كفَقْد ولد، أو خسارة مال. . إلخ، أما الضراء فما يصيب الإنسان في ذاته، كمرض أو نحوه.
ومن ذلك قول الله تعالى عن سيدنا داود: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ ... } [الأنبياء: 80]
والمراد: صناعة الدروع التي يلبسها الإنسان على مظانِّ المقَاتِل فيه، وعلى أجهزته الحيوية كالصدر والقلب والرأس، ولها غطاء خاص (الخوذة) ، وتُصنع الدروع مُسنَّنة. أي: بها تموُّج وتجاويف، بحيث تتلقى ضربات السيف بإحكام، فلا تنفلت الضربة إلى مكان آخر فتؤذيه.
لذلك يقول تعالى لنبيه داود عن هذه الصنعة {وَقَدِّرْ فِي السرد ... } [سبأ: 11] أي: في إحكام هذه الحلقات المتداخلة.(19/11969)
وفَرْق أيضاً هنا بين لَبُوس ولباس: اللباس هو ما يقي الإنسان تقلبات الجو، ويستر عورته أثناء الأمن وسلام الحياة، وهذه هي الملابس العادية التي يرتديها الناس.
وفيها يقول الحق سبحانه: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81]
أما كلمة (لَبُوس) فهي المُعدَّة لحالة الحرب كالدروع ونحوها؛ لذلك جاءت بصيغة دالة على التضخيم (لَبُوس) .
وهذه الآية تلفتنا إلى مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز، فالآية هنا ذكرت (الحَرَّ) ، ولم تذكر شيئاً عن المقابل له، وهو البرد، والعلماء عادةً ما يلجئون إلى تقدير هذا المحذوف عند تفسير الآية، فيقولون: أي تقيكم الحر والبرد، يريدون أنْ يكملوا أسلوب القرآن، وهذا لا يجوز.(19/11970)
وحين نمعن النظر في هذه الآية، نجد أن الله تعالى خلق الظلال لتقينا حرارة الشمس، وجعل اللباس، وكذلك جعل لنا الأكنان في الجبال، والله خلق الحرَّ على هذه الصورة التي لا يتحملها الإنسان؛ لأن للحر مهمة في حياتنا، فحرارة الشمس تخدمك في أمور كثيرة، وإنْ كانت تضايقك بعض الوقت، فالحق سبحانه أبقاها لتؤدي مهمةَ خير لك، ثم حَمَاك بالظل واللباس والأكنان من شِّرها.
فإنْ قُلْتَ: فهذه الأشياء تقيني أيضاً البرد، نقول: إياك أنْ تظن أن الدفء يأتيك من غطاء ثقيل أو ملابس شتوية، إنما الدفء من ذاتك أنت، فأنت تدفئ (البطانية) والفراش الذي تنام عليه، بدليل أنك ساعة تأتي فراشك لتنام تجده بارداً، ثم بعد مرور ساعات الليل تجده في الصباح دافئاً.
إذن: فحرارتك الذاتية انتقلَتْ إلى الغطاء فأدفأَته، وكل ما يؤديه الغطاء أنه يحفظ حرارة جسمك بداخله، فلا تتبدد في الهواء المحيط بك.
لذلك، لما درس العلماء مسألة حرارة جسم الإنسان وجدوا فيها مظهراً من مظاهر قدرة الله، فالإنسان تُشع منه حرارة تكفي في أربع وعشرين ساعة لِغَلْي سبعة عشر لتراً من الماء، ومعدل هذه الحرارة في الجسم 37ْ ثابتة في قيظ الحر وبرد الشتاء، مما يدل على أن لجسمك ذاتية منفصلة تماماً عن الجو المحيط بك.
ومن عجائب خَلْق الإنسان أن هذه الحرارة تتفاوت من عضو إلى عضو آخر، والجسم واحد، فأعضاء حرارتها ما بين 7درجه - 9درجه كالأنف والأذن والعين، ولو زادتْ حرارة العين عن هذا المعدل(19/11971)
تنفجر، أما الكبد فحرارته 40 درجه. . إلخ، ومعلوم أن الحرارة تُحدِث استطراقاً في الجسم الواحد، وفي المكان الواحد.
ومن عجائب خَلْق الإنسان في هذه المسألة العَرَق الذي يتصبب منك في حالة تعرضك للحرارة الشديدة، فيخرج العرق من مسامِّ الجسم، ليُلطف من درجة حرارته، ويُحدِث عملية تبريد، كالتي نراها مثلاً في موتور السيارة، حتى عندنا في الفلاحين تجد الفلاح من كثرة عمله في الأرض وكثرة عرقه تتكون على جسمه طبقة مثل الجير، وهذه أملاح تخرج مع العرق؛ لذلك يكثر في هؤلاء الفلاحين أكل (المش) و (المخللات) لتعويض نسبة الأملاح المفقودة مع العرق، إذن: فالحق سبحانه لم يقل (والبرد) ، لأن الدفء كما رأينا ذاتي.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18] وهذه القلة مستثناه: إما من الإتيان، أو أنهم يأتون البأس، لكن قلة منهم يُقاتلون بهمة ونشاط، والباقون أتوْا ذَرَّاً للرماد في العيون - كما يقولون ولئلا يُتهموا بالتخلف عن رسول الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا ... } .(19/11972)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
قوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 19] الشح في معناه العام هو البخل، لكن الشحيح الذي يبخل على الغير، وقد يكون كريماً على نفسه وعلى أهله، أما البخيل فهو الذي يبخل حتى على نفسه؛ لذلك قال تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 19] ليس على أنفسهم.
وأنت حين تتأمل الصفات المذمومة في الكون تجدها ضرورية لحقائق تكوين الكون، وتجد لها مهمة؛ لذلك فَطِن الشاعر إلى هذه المسألة، فقال:
إنَّ الأشحَّاءَ أسْخَى الناسِ قَاطِبةً ... لأنَّهم مَلكُوا الدُّنيا وَمَا انتفَعُوا
لم يَحْرِمُوا الناسَ من بَعْضِ الذي مَلكُوا ... إلاَّ لِيُعْطَوْا هُموا كُل الذِي جمَعُوا
وآخر يرى للبخيل فضلاً عليه، فيقول:
جُزِى البخيلُ عليَّ صالحةً ... مِنَّّى لخِفَّتِهِ علَى نَفْسِي
نعم، البخيل خفيف على النفس؛ لأنه لم يَجُدْ عليك بشيء يأسرك به، ولم يستعبدك في يوم من الأيام بالإحسان إليك، فهو خفيف على نفسك؛ لأنك لستَ مديناً له بشيء.
وهذا على حَدِّ قول الشاعر:(19/11973)
أَحْسِنْ إلىَ النَّاسِ تَسْتعبدِ قُلُوبَهُم ... وطَالَما اسْتعبَد الإنْسانَ إحْسَانُ
فالبخل وإنْ كان مذموماً، فقد ركزه الله في بعض الطباع ليعين التضاد، ومعنى «يعين التضاد» أن البخل مقابله الكرم، والبخيل يعاون الكريم على أداء مهمته، فالكريم عادة (إيده سايبه) ، ينفق هنا وهناك حتى ينفد ما معه، ومن أهل الكرم مَنْ يلجأ إلى أنْ يبيع أرضه أو بيته في سبيل كرمه، فمَنْ يشتري منه إذن إذا لم يكُنْ هناك مَنْ يكنز المال ويبخل به؟
إذن: لو نظرتَ إلى كل شيء في الوجود تجد له مهمة، حتى إنْ كان مذموماً، ثم إن البخيل كثيراً ما يكون ظريفاً لا يخلو مجلسه من ظُرْفه، فقد كنا في بواكير شبابنا نشرب السجائر، فكان الواحد منا يُخرج علبة السجائر يوزعها على الحاضرين، وربما لا تكفي واحدة فأخرج الأخرى، وكان في مجلسنا واحد من هؤلاء، فنظر إليَّ في غَيْظ وقال (يا قلبك يا أخي) .
وقد كانت هذه السجائر سبباً في أننا جُرْنا على شبابنا، فكان لها أثر بالغ علينا في الكِبَر، فليحْمِ الشباب شبابهم ولا يدمروه بمثل هذه الخبائث المحرمة.
ثم يقول سبحانه: {فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ. .} [الأحزاب: 19] أي: في ساعة الفزع، يأخذ الفزع أبصارهم، فينظرون هنا وهناك، لا تستقر أبصارهم، ولا تسكن إلى شيء، زاغتْ أبصارهم {كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت. .} [الأحزاب: 19]
ومن ذلك الخبر: «إنكم لتكثرون عند الفزع، وتَقلُّون عند الطمع» .
كان هذا حالهم عند الخوف والفزع {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ. .} [الأحزاب: 19] معنى {سَلَقُوكُمْ. .} [الأحزاب: 19](19/11974)
آلموكم وآذوكم بألسنتهم، وقالوا لكم: أعطونا حقنا، فقد حاربنا معكم، ولولا نحن ما انتصرتُمْ على عدوكم، إلى غير ذلك من التطاول بالقول والإيذاء والتأنيب.
وهذا كله من معاني (السلق) ومنه: سلق اللحم ونحوه، وهو أنْ يغلي في الماء دون أنْ تضيف إليه شيئاً، ومثله السلخ، فكلها معانٍ تلتقي في الإيلام.
وعادةً ما تجد في اللغة إذا اشترك اللفظان في حرفين، واختلفا في الثالث تجد أن لهما معنى عاماً يجمعهما كما في سلق وسلخ، وفي: قطف، وقطر، وقطم. وكلها تلتقي في الانفصال.
وقوله تعالى: {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ. .} [الأحزاب: 19] حداد يعني: حادة فصيحة بملء الفم، كما في قوله تعالى: {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22]
ومعنى {أَشِحَّةً عَلَى الخير. .} [الأحزاب: 19] بعد أنْ قال {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ. .} [الأحزاب: 19] أكدَّ هذا المعنى بقوله {أَشِحَّةً عَلَى الخير. .} [الأحزاب: 19] أي: في عمومه.
{أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ. .} [الأحزاب: 19] لأنهم لو آمنوا لَعلموا أن الشحَّ، شُحَّ عليهم هم، وليس في صالحهم؛ لأن الكريم يستزيد من الله العطاء، أما الشحيح فليس له زيادة؛ لذلك يقول تعالى: {هاأنتم هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ... } [محمد: 38]
وربك حين يراك تنفق مما أعطاك يزيدك؛ لأنك مؤتمن على الرزق؛ لذلك يقول أحد الصالحين: اللهم إنك عوّدتني خيراً، وعوَّدْتُ(19/11975)
خلقك خيراً، فلا تقطع ما عوَّدتني حتى لا أقطع عن الناس ما عوَّدتهم. إذن: فالعطاء استدرار لنعمة الله، وسبب للمزيد منها.
وهَبْ أن لك عدة أولاد، أعطيتَ لواحد منهم جنيهاً مثلاً، فذهب واشترى به حلوى، ثم وزَّعها على إخوته، ولم يُؤثِر نفسه عليهم، لا بُدَّ أنك ستأتمنه، وتعطيه المزيد؛ لأن الخير في يده يفيض على الآخرين.
ونتيجة عدم الإيمان {فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} [الأحزاب: 19] أي: أنهم عملوا، لكن أعمالهم لا رصيدَ لها من إيمان؛ لذلك أحبطها الله أي: جعلها غير ذات جدوى ولا فائدةَ تعود عليهم. وهذه القضية أوضحها القرآن في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18]
وهذا الإحباط أمر يسير على الله تعالى، لكن أفي حَقَّ الله تعالى نقول: هذا صعب، وهذا يسير؟ قالوا: كلُّ أمر الله يسير؛ لأنه تعالى لا يفعل بمعالجة الشيء إنما يفعل سبحانه بكن، وسبق أن مثلنا لمعالجة الأفعال بمَنْ يريد أنْ ينقل مثلاً عشرة أرادبّ من القمح، فإنه لا يستطيع إلا أنْ يحملها مُجزَّأة، فينقل (الجُوال) من هنا إلى هناك، ثم الآخر، إلى أنْ ينتهي من الكمية كلها، ويأخذ في هذا العمل وقتاً يتناسب مع قوته.
فلما تقدَّم العلم، وتطوَّر الفكر الإنساني رأينا الآلة التي تحمل كل هذه الكمية وتنقلها في حركة واحدة، وبمجرد الضغط على مجموعة من الأزرار والمفاتيح، فإذا كان العبد المخلوق لله عَزَّ وَجَلَّ قد استطاع أنْ يصل إلى هذا التيسير، فما بالك بالخالق عَزَّ وَجَلَّ؟(19/11976)
لذلك يقول تعالى:
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] ولا تتعجب من هذه المسألة؛ لأن ربك أعطاك في ذاتك شيئاً منها، لماذا تستبعد فِعْل الله تعالى بكُنْ، وأنت ترى جوارحك تنفعل لمجرد إرادتك للفعل، مجرد رغبتك في القيام ترى نفسك قد قُمْتَ، دون حتى أن تأمر جوارحك وعضلاتك بالقيام.
فإنْ قلتَ: فلماذا لا يأمر الإنسان جوارحه وأعضاءه بما يريد؟ نقول: لأنك لا تملك أنْ تأمرها، فهي تنقاد لك ولمرادك بأمر الله، فالأشياء كلها إنما تأتمر بأمر الخالق سبحانه، ولا تتخلف عن أمره أبداً، ألم تقرأ عن السماء {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2]
فالسماء مع عِظَم خَلْقها تسمع وتطيع أمر خالقها؛ أما أنت أيها العبد، فأيَّ شيء تأمر، وأنت لا تعرف أصلاً ما تأمره؟ وهل تعرف أنت العضلات والأعضاء والأعصاب التي تشترك بداخلك لأداء عملية القيام؟ لذلك ولعدم علمك بما تأمره جعل الله أعضاءك وجوارحك تنفعل لمجرد إرادتك.
أما هو سبحانه فيقول (كُنْ) لأنه خالق كل شيء، وكل شيء مؤتمر بأمره، وقال سبحانه (كُنْ) حتى لا تقولها أنت، فكأنها سبقتْ منه سبحانه لصالحك أنت، وأنت تفعل من باطن كُنْ الأولى التي توزَّعَتْ علينا جميعاً.(19/11977)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
القرآن الكريم يحكي هذا الموقف عن المنافقين، ويكشف نواياهم السيئة، فبعد أنْ تجمَّع الأحزاب وخرجوا لمحاربة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يزال هؤلاء المنافقون {يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ ... .} [الأحزاب: 20] فهذا التجمُّع يخيفهم ويروعهم؛ لذلك لم يُصدِّقوه، فقد رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينتصر على أعدائه متفرقين، وهذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها أعداء الإسلام على اختلافهم.
إذن: استبعد المنافقون تجمُّع الأحزاب هذا التجمع، وبعد ذلك ينفضون دون أنْ يصنعوا حَدَثاً يُذكر في التاريخ.
والحُسْبان: ظن، أي: ليس حقيقة.
{وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب ... } [الأحزاب: 20] أي: إنْ يتجمع الأحزاب يودُّ المنافقون لو أنهم بادون أي: مقيمون في البادية بعيداً عن المدينة؛ لأنهم يخافون من مطلق التجمع، ولأنهم إنْ بَقَوْا في المدينة إما أنْ يحاربوا الأحزاب وهم غير واثقين من النصر، وإما ألاَّ يحاربوا فيصيرون أعداءً للمسلمين.
فهم يريدون - إذن - أنْ يعيشوا في النفاق، وألاَّ يخرجوا منه؛ لذلك يودون عيشة البادية مع الأعراب، ومن بعيد {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ ... } [الأحزاب: 20] أي: ما حدث لكم في هذه المواجهة.
ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة: {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 20] أي: درْءاً للشبهات، وذَرّاً للرماد في العيون، إذن: لا تأْسَ عليهم، ولا تحزن لتخلُّفهم.(19/11978)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
أسوة: قدوة ونموذج سلوكي، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبلِّغ عن الله منهجه لصيانة حركة الإنسان في الحياة، وهو أيضاً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُسْوة سلوك، فما أيسر أنْ يعظ الإنسانُ، وأنْ يتكلَّم، المهم أنْ يعمل على وَفْق منطوق كلامه ومراده، وكذلك كان سيدنا رسول الله مُبلِّغاً وأسوة سلوكية؛ لذلك قالت عنه السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «كان خلقه القرآن» .
لكن، ما الأسوة الحسنة التي قدَّمها رسول الله في مسألة الأحزاب؟ لمَّا تجمَّع الأحزاب كان من دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم مُنزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» .
وجعل شعاره الإيماني فيما بعد «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» وما دام(19/11979)
هذه شعار المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهو لكم أُسْوة.
وقال تعالى عن المؤمنين في هذه الغزوة: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ... } [البقرة: 214]
وفي بدر يقول أبو بكر: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
ولقائل أنْ يقول: إذا كان الله تعالى قد وعد نبيه بالنصر، فَلِم الإلحاح في الدعاء؟ نقول: ما كان سيدنا رسول الله يُلح في الدعاء من أجل النصر؛ لأنه وَعْد مُحقَّق من الله تعالى.
واقرأ قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} [الأنفال: 7]
فالرسول لا يريد الانتصار على العِير، وعلى تجارة قريش، إنما يريد النفير الذي خرج للحرب.
وقوله تعالى: {فِي رَسُولِ الله. .} [الأحزاب: 21] كأن الأُسْوة الحسنة مكانها كل رسول الله، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظرف للأُسْوة الحسنة في كل عضو فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ففي لسانه أُسْوة حسنة، وفي عينه أُسْوة حسنة، وفي يده أُسْوة حسنة. . إلخ، كله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُسْوة حسنة.(19/11980)
هذه الأُسْوة لمَنْ؟ {لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21]
وصف ذكر الله بالكثرة؛ لأن التكاليف الإيمانية تتطلب من النفس استعداداً وتهيؤاً لها، وتؤدي إلى مشقة، أما ذِكْر الله فكما قُلْنا لا يكلفك شيئاً، ولا يشق عليك؛ لذلك قال تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ... } [العنكبوت: 45]
يعني: أكبر من أيِّ طاعة أخرى؛ لأنه يسير على لسانك، تستطيعه في كل عمل من أعمالك، وفي كل وقت، وفي أيِّ مكان، ولذلك قُلْنا في آية الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً ... } [الجمعة: 10](19/11981)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
أي: لما رأى المؤمنون الأحزاب منصرفين مهزومين {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ. .} [الأحزاب: 22] أي: هذا النصر، وهذا الوعد الذي تحقق ما زادهم {إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب: 22]
وهذه المسألة دليل من أدلة أن الإيمان يزيد وينقص، فالإيمان يزيد بزيادة الجزئيات التي تُعليه، فبعد الإيمان بالحق - سبحانه وتعالى - هناك إيمان بالجزئيات التي تثبت صِدْق الحق في كلِّ تصرف.
وتسليماً: أي لله في كلِّ ما يُجريه على العباد.(19/11981)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
نزلت هذه الآية في جماعة من المؤمنين صادقي الإيمان، إلا أنهم لم يشهدوا بدراً ولا أُحُداً، ولكنهم عاهدوا الله إنْ جاءت معركة أخرى لَيُبَادِرُونَّ إليها، ويبلُون فيها بلاءً حسناً.
وورد أنها نزلت في أنس بن النضر، فقد عاهد الله لما فاتته بدر لو جاءت مع المشركين حرب أخرى لَيبلونَّ فيها بلاء حسناً، وفعلاً لما جاءت أُحُد أبلى فيها بلاءً حسناً حتى استشهد فيها، فوجدوا جسده في نيِّفاً وثمانين طعنةً برمح، وضربة بسيف، وهذا معنى(19/11982)
{صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ. .} [الأحزاب: 23]
وساعة تسمع كلمة {رِجَالٌ. .} [الأحزاب: 23] في القرآن، فاعلم أن المقام مقام جدٍّ وثبات على الحق، وفخر بعزائم صُلْبة لا تلين، وقلوب رسخ فيها الإيمان رسوخ الجبال، وهؤلاء الرجال وَفَّوا العهد الذي قطعوه أمام الله على أنفسهم، بأنْ يبلُوا في سبيل نصرة الإسلام، ولو يصل الأمر إلى الشهادة.
وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ. .} [الأحزاب: 23] قضى نحبه: أي أدَّى العهد ومات، والنحب في الأصل هو النذر، فالمراد: أدى ما نذره، أو ما عاهد الله عليه من القتال، ثم اسْتُعمِلَت (النحب) بمعنى الموت.
لكن، ما العلاقة بين النذر والموت؟ قالوا: المعنى إذا نذرتَ فاجعل الحياةَ ثمناً للوفاء بهذا النذر، وجاء هذا التعبير {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ. .} [الأحزاب: 23] لتعلم أن الموت يجب أن يكون منك نذراً. أي: انذر لله أنْ تموت، لكن في نُصْرة الحق وفي سبيل الله، فكأن المؤمن هو الذي ينذر نفسه وروحه لله، وكأن الموت عنده مطلوب ليكون في سبيل الله.
فالمؤمن حين يستصحب مسألة الموت ويستقرئها يرى أن جميع الخَلْق يموتون من لُدن آدم عليه السلام حتى الآن؛ لذلك تهون عليه حياته ما دامت في سبيل الله، فينذرها ويقدمها لله عن رضا، ولِمَ لا وقد ضحيتَ بحياة، مصيرها إلى زوال، واشتريتَ بها حياة باقية خالدة مُنعَّمة.
وقد ورد في الأثر: «ما رأيتُ يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت» ومع أننا نرى الموت لا يُبقى على أحد فينا إلا أن كل(19/11983)
إنسان في نفسه يتصور أنه لن يموت.
وحَقٌّ للمؤمن أنْ ينذر نفسه، وأنْ يضحي بها في سبيل الله؛ لأن الله يقول: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} [آل عمران: 169 - 171]
وهذه الحياة التي عند الله حياة على الحقيقة، لأن الرزق سِمة الحيِّ الذي يعيش ويأكل ويشرب.
. إلخ، وإياك أنْ تظن أنها حياة معنوية فحسب.
وقد تسمع مَنْ يقول لك: هذا يعني أنني لو فتحتُ القبر على أحد الشهداء أجده حياً في قبره؟ ونقول لمن يحب أنْ يجادل في هذه المسألة: الله تعالى قال: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ ... } [آل عمران: 169] ولم يقل: أحياء عندك، فلا تحكم على هذه الحياة بقانونك أنت، لا تنقل قانون الدنيا إلى قانون الآخرة.
والمؤمن ينبغي أن يكون اعتقادة في الموت، كما قال بعض العارفين: الموت سهم أُرسِل إليك بالفعل، وعمرك بقدر سفره إليك.
والقرآن حين يعالج هذه المسألة يقول تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الذي خَلَقَ الموت والحياة ... } [الملك: 1 - 2] فقدَّم الموت على الحياة، حتى لا نستقبل الحياة بغرور الحياة، إنما نستقبلها مع نقيضها حتى لا نغترَّ بها.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ. .} [الأحزاب: 23] أي: ينتظر الوفاء بعهده مع الله، وكأن الله تعالى يقول: الخير فيكم يا أمة محمد(19/11984)
باقٍ إلى يوم القيامة {وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] معنى التبديل هنا: أي ما تخاذلوا في شيء عاهدوا الله عليه ونذروه، فما جاءت بعد ذلك حرب، وتخاذل أحد منهم عنها، ولا أُدخِل أحد منهم الحرب مواربة ورياء، فقاتل من بعيد، أو تراجع خوفاً من الموت، بل كانوا في المعمعة حتى الشهادة.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِّيَجْزِيَ الله الصادقين ... } .(19/11985)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
تأمل هنا رحمة الخالق بالخَلْقِ، هذه الرحمة التي ما حُرم منها حتى المنافق، فقال سبحانه: {وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. .} [الأحزاب: 24]
وسبق أنْ تحدثنا عن صفتي المغفرة والرحمة وقلنا: غفور رحيم من صيغ المبالغة، الدالة على كثرة المغفرة وكثرة الرحمة، وأن القرآن كثيراً ما يقرن بينهما، فالمغفرة أولاً لستر العيب والنقائص، ثم يتلوها الرحمة من الله، بأن تمتد يده سبحانه بالإحسان.
وقد أوضحنا ذلك باللص تجده في بيتك، فتشفق عليه، ثم تمتد إليك يدك بالمساعدة التي تعينه على عدم تكرار ذلك. وقلنا: إن الغالب أن تسبق المغفرةُ الرحمةَ، وقليلاً ما تسبق الرحمةُ المغفرةَ.
وقلنا: أنه يشترط في المغفرة أن تكون من الأعلى للأدنى، فإذا(19/11985)
ستر العبد على سيده قبحاً لا يقال: غفر له، وكذلك في الرحمة فإن مال الأقل بالإحسان إلى الأعلى لا يقال رحمة؛ لأنه قد يعطيه عِوَضاً عما قدَّم له أو يعطيه انتظار أنْ يرد إليه ما أعطاه مرة أخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَرَدَّ الله الذين ... } .(19/11986)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
الغيظ: احتدام حقد القلب على مقابل منافس، والمعنى: أن الله تعالى ردَّ الكافرين والغيظ يملأ قلوبهم؛ لأنهم جاءوا وانصرفوا دون أنْ ينالوا من المسلمين شيئاً {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً. .} [الأحزاب: 25] ليس الخير المطلق، إنما لم ينالوا الخير في نظرهم، وما يبتغونه من النصر على المسلمين، فهو خير لهم وإنْ كان شراً يُرادَ بالإسلام.
وقد رد الله الكافرين إلى غير رَجْعة، ولن يفكروا بعدها في الهجوم على الإسلام؛ لذلك قال سيدنا رسول الله بعد انصرافهم خائبين: «لا يغزونا أبداً، بل نغزوهم نحن» وفعلاً كان بعدها فتح مكة.
وقوله تعالى: {وَكَفَى الله المؤمنين القتال. .} [الأحزاب: 25] أي:(19/11986)
أن ردَّ الكافرين لم يكُنْ بسبب قوتكم وقتالكم، إنما تولَّى الله ردَّهم وكفاكم القتال، صحيح كانت هناك مناوشات لم تصل إلى حجم المعركة، ولو حدثت معركة بالفعل لكانت في غير صالح المؤمنين؛ لأنهم كانوا ثلاثة آلاف، في حين كان المشركون عشرة آلاف.
إذن: كانت رحمة الله بالمؤمنين هي السبب الأساسي في النصر؛ لذلك ذُيلت الآية بقوله تعالى: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25] قوياً ينصركم دون قتال منكم، وعزيزاً: أي يغلب ولا يُغلب.
هذا ما كان من أمر قريش وحلفائها، أما بنو قريظة فيقول الله فيهم: {وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم ... } .(19/11987)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
معنى {ظَاهَرُوهُم ... } [الأحزاب: 26] أي: عاونوهم {مِن صَيَاصِيهِمْ ... } [الأحزاب: 26] أي: من حصونهم وقلاعهم {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب ... } [الأحزاب: 26] أي: الخوف وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرَّقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ... } [المنافقون: 4] .
ألم يُحدِّثنا صحابة رسول الله أنهم كانوا يستعملون السواك، فظن الكفار أنهم يسنُّون أسنانهم ليأكلوهم، هذا هو الرعب الذي نصر الله به عباده المؤمنين.(19/11987)
ومعنى {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ... } [الأحزاب: 26] أي: المقاتلين الذين يحملون السلاح {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب: 26] وهم النساء والذراري وغيرهم مِمَّنْ لا يحملون السلاح.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ... } .(19/11988)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
معنى {وَأَوْرَثَكُمْ ... } [الأحزاب: 27] أي: أعطاكم أرضَ وديار وأموال أعدائكم من بعد زوالهم وانهزامهم {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ... } [الأحزاب: 27] أي: أماكن جديدة لم تذهبوا إليها بعد، والمراد بها خيبر، وكأن الله يقول لهم: انتظروا فسوف تأخذون منهم الكثير {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: 27] .
وهكذا انتهى التعبير القرآني من قصة الأحزاب.(19/11988)
وينبغي علينا الآن أنْ نستعرض القصة بفلسفة أحداثها، وأن نتحدث عَمَّا في هذه القصة من بطولات، ففيها بطولات متعددة، لكل بطل فيها دور.
وتبدأ القصة حين ذهب كل من حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وكانا من قريظة، ذهبا إلى قريش في أماكنها، وقالوا: جئناكم لنتعاون معكم على إبطال دعوة محمد، فأتُوا أنتم من أسفل، وننزل نحن من أعلى، ونحيط محمداً ومن معه ونقضي عليهم.
وكان في قريش بعض التعقُّل فقالوا لحيي بن أخطب وصاحبه: أنتم أهل كتاب، وأعلم بأمر الأديان فقولوا لنا: أديننا الذي نحن عليه خير أم دين محمد؟ فقال: بل أنتم أصحاب الحق.
سمعتْ قريش هذا الكلام بما لديها من أهواء، وكما يقال: آفة الرأي الهوى؛ لذلك لم يناقشوه في هذه القضية، بل نسجوا على منواله، ولم يذكروا ما كان من أهل الكتاب قبل بعثته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنهم كانوا يستفتحون على الكافرين برسول الله ويقولون لهم: لقد أطلَّ زمان نبي جديد نتبعه ونقتلكم به قَتْلَ عاد(19/11989)
وإرم، لقد فات قريشاً أنْ تراجع حيي بن أخطب، وأن تسأله لماذا غيَّرتم رأيكم في محمد؟
ثم جاء القرآن بعد ذلك، وفضح هؤلاء وهؤلاء، فقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] .
فكانت هذه أول مسألة تغيب فيها العقول، ويفسد فيها الرأي، فتنتهز قريش أول فرصة حين تجد مَنْ يناصرها ضد محمد ودعوته، ومن هنا اجتمع أهل الباطل من قريش وأحلافها من بني فزارة، ومن بني مرة، ومن غطفان وبني أسد والأشجعيين وغيرهم، اجتمعوا جميعاً للقضاء على الدين الوليد.
ثم كانت أولى بطولات هذه المعركة، لرجل ليس من العرب، بل من فارس عبدة النار والعياذ بالله، وكأن الحق سبحانه يُعد لنصرة الحق حتى من جهة الباطل، إنه الصحابي الجليل سلمان الفارسي،(19/11990)
الذي قضي حياته جَوَّالاً يبحث عن الحقيقة، إلى أنْ ساقتْه الأقدار إلى المدينة، وصادف بعثة رسول الله وآمن به.
وكان سلمان أول بطل في هذه المعركة، حين أشار على رسول الله بحفر الخندق، وقال: يا رسول الله كنا - يعني في فارس - إذا حَزَبنا أمرُ القتال خندقنا يعني: جعلنا بيننا وبين أعدائنا خندقاً، ولاقت هذه الفكرة استحساناً من المهاجرين ومن الأنصار، فأراد كل منهم أن يأخذ سلمان في صَفِّه، فلما تنازعا عليه، قال سيدنا رسول الله لهم «بل سلمان منا آل البيت» وهذا أعظم وسام يوضع على صدر سلمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه.
وهذه الفكرة دليل على أن الحق سبحانه يُجنِّد حتى الباطل لخدمة الحق، فنحن لم يسبق لنا أنْ رأينا خندقاً ولا أهل الفارسي الذين جاءوا بهذه الفكرة، لكن ساقها الله لنا، وجعلها جُنْداً من جنوده على يد هذا الصحابي الجليل، لنعلم كما قال تعالى {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ ... } [الأنفال: 24] .
وقد أوضحنا هذا المعنى في قصة فرعون الذي كان يذبح الأطفال(19/11991)
بعد النبوءة التي سمعها، ثم يأتيه طفل على غير العادة يحمله إليه الماء، وهو في صندوقه، ولا يخفي على أحد أنَّ أهله قصدوا بذلك إبعاده عن خطر فرعون، ومع ذلك حال الله يبين فرعون وبين ما في قلبه، فأخذ الولدَ وربَّاه في بيته.
وقد أحسن الشاعر الذي عبَّر عن هذا المعنى، فقال:
إذاَ لَمْ تُصَادِفْ في بنَيكَ كَافِرٌ ... فَقَد كَذَب الراجي وَخَاب المُؤمِّلُ
فَمُوسىَ الذِي ربَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ ... ومُوسىَ الذي ربَّاهُ فرعَوْنُ مُرْسَلُ
البطل الثاني في هذه المعركة رجل يُدْعَى نعيم بن مسعود الأشجعي، جاء لرسول الله يقول: يا رسول الله لقد مال قلبي للإسلام، ولا أحد يعلم ذلك من قومي، فقال له رسول الله: «وما تغني أنت؟ ولكن خذِّل عنا» أي: ادفع عنا القوم بأيِّ طريقة، أبعدهم عنّا، أو ضلِّلهم عن طريقنا، أو قُلْ لهم أننا كثير ليرهبونا. . إلخ.(19/11992)
هذا رجل كان بالأمس كافراً، فماذا فعل الإيمان في قلبه، وهو حديث عهد به؟ نظر نُعَيْم، فرأى قريشاً وأتباعها يأتون من أسفل، وبني قريظة وأتباعهم يأتون من أعلى، فأراد أنْ يدخل بالدسيسة بينهما، فذهب لأبي سفيان، وقال: يا أبا سفيان، أنا صديقكم، وأنتم تعلمون مفارقتي لدين محمد، ولكني سمعت هَمْساً أن بني قريظة تداركوا أمرهم مع محمد، وقالوا: إن قريشاً وأحلافهم ليسوا مقيمين في المدينة مثلنا، فإنْ صادفوا نصراً ينتصرون، وإنْ صادفوا هزيمة فروا إلى بلادهم، ثم يتركون بني قريظة لمحمد؛ لذلك قرروا ألاَّ يقاتلوا معكم إلاَّ أنْ تعطوهم عشرة من كبرائكم ليكونوا رهائن عندهم.
سمع أبو سفيان هذا الكلام، فذهب إلى قومه فقال لهم: أنتم المقيمون هنا، وليس هذا موطن بني قريظة، وسوف يتركونكم لمواجهة محمد وحدكم، فإنْ أردتم البقاء على عهدهم في محاربة محمد، فاطلبوا منهم رهائن تضمنوا بها مناصرتهم لكم.
بعدها ذهب أبو سفيان ليكلِّم بني قريظة في هذه المسألة، فقال: هلك الخفُّ والحافر - يعني: الإبل والخيل - ولسنا بدار مقام لنا، فهيا بنا نناجز محمداً - هذا بعد أنْ مكثوا نيِّفاً وعشرين يوماً يعدون ويتشاورون - فقالوا له: هذا يوم السبت، ولن نفسد ديننا من أجل قتال محمد وعلى كل حال نحن لن نشترك معكم في قتال، إلا أنْ تعطونا عشرة من كبرائكم يكونون رهائن عندنا، ساعتها علم أبو سفيان أن كلام نعيم الأشجعي صِدْق، فجمع قومه وقال لهم:(19/11993)
الأرض ليست أرض مقام لنا، وقد هلك الخف والحافر، فهيا بنا ننجو.
قالوا: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما جاء نعيم بن مسعود، وأخبر رسول الله بما حدث، ووجد رسول الله الجو هادئاً، فقال: «ألا رجل منكم يذهب فيُحدِّثنا الآن عنهم، وهو رفيقي في الجنة؟» والمراد: أن يندسَّ بين صفوف الأعداء ليعلم أخبارهم.
ومع هذه البشارة التي بشر بها سيدنا رسول الله مَنْ يؤدي هذه المهمة، لم يَقُمْ من الحاضرين أحد، ودَلَّ هذا على أن الهول ساعتها كان شديداً، والخطر كان عظيماً، وكان القوم في حال من الجهد والجوع والخوف، جعلهم يتخاذلون عن القيام، فلم يأنس أحد منهم قوة من نفسه يؤدي بها هذه المهمة.
لذلك كلَّف رسول الله يُدْهي حذيفة بن اليمان بهذه المهمة قال حذيفة: ولكن رسول الله قال لي: لا تُحدِث أمراً حتى ترجع إليَّ، فلما ذهبتُ وتسللتُ ليلاً جلستُ بين القوم، فجاء أبو سفيان بالنبأ من بني قريظة، يريد أنْ يرحل بمَنْ معه، فقال: ليتعرَّف كل واحد منكم على جليسة، مخافة أن يكون بين القوم غريب.
وهنا تظهر لباقة حذيفة وحُسْن تصرفه - قال: فأسرعتُ وقلت لمَنْ على يميني: مَنْ أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، وقلت لمَنْ على يساري: مَنْ أنت؟ قال: عمرو بن العاص، وسمعت أبا سفيان(19/11994)
يقول للقوم: هلك الخفُّ والحافر، وليستْ الأرض دارَ مقام فهيا بنا، وأنا أولكم، وركب راحلته وهي معقولة من شدة تسرُّعه، قال حذيفة: فهممتُ أن أقتله، فأخرجت قوسي ووترتُها وجعلت السهم في كبدها، لكني تذكرت قول رسول الله «لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني» فلم أشأْ أن أقتله، فلما ذهبت إلى رسول الله وجدته يصلي، فلما أحسنَّ بي فَرج بين رجليه - وكان الجو شديد البرودة - فدخلتُ بين رجليه فنثر عليَّ مُرْطه ليدفئني، فلما سلم قال لي: ما خطبك فقصصت عليه قصتي.
وبعد أنْ جند الحق سبحانه كلاً من نعيم الأشجعي وحذيفة لنصرة الحق، جاءت جنود أخرى لم يروْهَا، وكانت هذه الليلة باردة، شديدة الرياح، وهبَّتْ عاصفة اقتلعتْ خيامهم، وكفأتْ قدورهم وشرَّدتهم، ففرَّ مَنْ بقي منهم.
وهذا معنى قوله تعالى: {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب: 25] {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ... } [المدثر: 31] .
بعد أنْ ردَّ الحق سبحانه كفار مكة بغيظهم، وكفى المؤمنين القتال أراد أنْ يتحوَّل إلى الجبهة الأخرى، جبهة بني قريظة، فلما رجع رسول الله من الأحزاب لقيه جبريل عليه السلام فقال: أوضعتَ لأْمتَك يا محمد، ولم تضع الملائكة لأمتها للحرب؟ اذهب فانتصر لنفسك من بني قريظة، فقال رسول الله للقوم:
«مَنْ كان سامعاً(19/11995)
مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة» .
فاختلف الصحابة حول هذا الأمر: منهم مَنْ انصاع له حرفياً، وأسرع إلى بني قريظة ينوي صلاة العصر بها، ومنهم مَنْ خاف أنْ يفوته وقت العصر فصلى ثم ذهب، فلما اجتمعوا عند رسول الله أقرَّ الفريقين، وصوَّب الرأيين.
وكانت هذه المسألة مرجعاً من مراجع الاجتهاد في الفكر الإسلامي، والعصر حَدَثٌ، والحدث له الزمان، وله مكان، فبعض الصحابة نظر إلى الزمان الرأي الشمس توشك أنْ تغيب فصلَّي، وبعضهم نظر إلى المكان فلم يُصَلِّ إلا في بني قريظة؛ لذلك أقر رسول الله هذا وهذا.
وينبغي على المسلم أنْ يحذر تأخير الصلاة عن وقتها؛ لأن العصر مثلاً وقته حين يصير ظِلُّ كل شيء مِثْلَيْه وينتهي بالمغرب، وهذا لا يعني أن تُؤخِّر العصر لآخر وقته، صحيح إنْ صليْتَ آخر الوقت لا شيء عليك، لكن مَنْ يضمن لك أن تعيش لآخر الوقت.
إذن أنت لا تأثم إنْ صلّيْت آخر الوقت، تأثم في آخر لحظة من حياتك حين يحضرك الموت وأنت لم تُصَلِّ؛ لذلك يقول سيدنا(19/11996)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خير الأعمال الصلاة لوقتها» فليس معنى امتداد الوقت إباحة أنْ تُؤخَّر.
وفي مسألة الأحزاب بطولة أخرى لسيدنا علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وقد ظهرت هذه البطولة عندما وجد الكفار في الخندقة نقطة ضعيفة، استطاعوا أنْ يجترئوا على المسلمين منها، وأن يقذفوا منها خيولهم، فلما قذفوا بخيولهم إلى الناحية الأخرى، فجالت الخيل في السبخة بين الخندق وجبل سلع، ووقف واحد من الكفار وهو عمرو بن ود العامري وهو يؤمئذ أشجع العرب وأقواها حتى عدَّوْه في المعارك بألف فارس.
«وقف عمرو بن ود أمام معسكر المسلمين يقول وهو مُشْهِر سيفه: مَنْ يبارز؟ فقال علي لرسول الله: أبارزه يا رسول الله؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اجلس يا علي، إنه عمرو «فأعاد عمرو: أين جَنّتكم التي وعدتم به مَنْ قُتِل في هذا السبيل؟ أجيبوني.
فقال علي: أبارزه يا رسول الله؟ قال: اجلس يا علي، إنه عمرو» وفي الثالثة قال عمرو: وَلَقَدْ بُحِحْتُ من النِّداءِ بجمعِكُمُ هَلْ مِنْ مُبَارِزْ(19/11997)
وَوقفْتُ إذ جَبُنَ المشجَّعُ مٌُوْقِفَ القرْن المنَاجزْ
إنَّ الشَّجاعَة في الفَتَى والجودَ مِنْ خير الغرائِز
عندها انتفض علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقال: أنا له يا رسول الله، فأَذِن له رسول الله، فأشار علي لعمرو، وقال:
لاَ تَعجَلَنَّ فَقَدْ أتَاكَ مجيب صوتِكَ غير عَاجِز
ذُو نية وبَصيرة والصِّدْقُ مُنجِي كُلَّ فَائزْ
إنِّي لأَرْجُو أنْ أُقيم عَلْيك نَائِحةَ الجنَائزْ_
مِنْ ضَرْبةٍ نَجْلاَء يَبْقَى ذِكْرُهَا عِنْدَ الهَزَاهِزْ أي: الحروب.
وكانت لسيدنا رسول الله درع سابغة اسمها ذات الفضول، فألبسها رسول الله علياً وأعطاه سيفه ذا الفقار وعمامته السحاب، وكانت تسعة أكوار، وخرج علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لمبارزة عمرو بن ود، فضرب عمرو الدرقة فشقَّها، فعاجله على بضربة سيف علي عاتقه أردتْهُ قتيلاً، فقال عليٌّ ساعة وقع: الله أكبر سمعه رسول الله فقال: «قُتِل عدو الله» . ثم حدثت زوبعة العِثْيَر - وهو غبار الحرب - فحَجبت المعركة،(19/11998)
فذهب سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ليرى ما حدث، فوجد علياً يمسح سيفه في درع عمرو بن ود، فقال: الله أكبر، فقال رسول الله: «قُتِل وأَيْم الله» .
ومن الأخلاق الكريمة التي سجَّلها سيدنا علي في هذه الحادثة أنه بعد أنْ قتل عَمْراً سأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَلاَ سلبْتَ دِرْعه، فإنه أفخر درع في العرب» ؟ فقال علي: والله لقد بانت سوأته، فاستحييت أنْ أصنع ذلك. ثم أنشد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه، وهو يشير إلى عمرو:
نَصَر الحجَارةَ من سَفَاهَة رَأْيه ونَصَرْتُ ربَّ مُحمدٍ بصَوابي
فصَددْتُ حِينَ تركْتُه مُتجدِّلاً كالجِذْعِ بين دَكَادِكَ ورَوَابي
وعَفَفْتُ عن أثْوَابهِ وَلَو أنّني كنتُ المُقَنْطَر بَزَّنِي أثْوابِي(19/11999)
وفي هذه الواقعة قال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو لم يكن لك يا علي غيرها في الإسلام لَكَفَتْكَ» «.
لذلك قال العارفون بالله كأن علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حُسِد حين قتل عمرو بن ود، فأصابته العين في ذاته، فقُتِل بسيف ابن ملجم، ومن هنا قالوا: أعزّ ضربة في الإسلام ضربة عليٍّ لعمرو بن ود، وأشأم ضربة في الإسلام ضربة ابن ملجم لعلي.
وفي المعركة بطولة أخرى لسيدنا سعد بن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حيث يقول: ضربني يوم الأحزاب حِبَّان بن قيس بن العَرِقة، وقال: خُذْها وأنا ابن العَرِقة - فقلت: عرَّقَ الله وجهك في النار، فلما أصابني في أكحلي - والأكحل هو: العِرْق الذي نضع فيه الحقنة، ومنه يخرج دم الفَصْد والحجامة.
فقلت: اللهم إنْ كانت هذه آخر موقعة بيننا وبين قريش فاجعلني شهيداً، وإنْ كنت تعلم أنهم يعودون فأبقني لأشقي نفسي مِمَّنْ أخرج رسول الله وآذاه، ولا تُمِتْني حتى أشفى غليلي من بني قريظة.(19/12000)
وقد كان، فبعد أنْ مكث الأحزاب وبنو قريظة قرابة خمسة وعشرين يوماً دون قتال، وانتهى الأمر بالمفاوضات اختار سيدنا رسول الله سعد بن معاذ ليكون حكَماً في هذه المسألة، فحكم سعد بقتل المقاتلين منهم، وأسر الذراري والنساء والأموال، فلما بلغ هذا الحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«لقد حكمتَ فيهم حكم ربك من فوق سبع سماوات» .
ثم ثار الجرح على سيدنا سعد حتى مات به، فحملوه إلى خيمة رسول الله بالمسجد، فجاءت الملائكة تقول لرسول الله: مَنْ هذا الذي مات، وقد اهتزَّ له عرش الرحمن؟ قال: «إنه سعد بن معاذ» .
وقد قال تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} [الأحزاب: 26] .
وفي قوله تعالى: {وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ... } [الأحزاب: 27] بشارة للمسلمين بأن البلاد ستُفتح لهم دون قتال، وهذا حال جمهرة البلاد(19/12001)
التي دخلها الإسلام، فغالبية هذه البلاد فُتِحَتْ بالأُسوْة السلوكية للمسلمين آنذاك، وبذلك نستطيع أن نردَّ على مَنْ يقول: إن الإسلام انتشر بحدِّ السيف.
وإذا كان الإسلام انتشر بحَدِّ السيف، فأيُّ سيف حمل المسلمين الأوائل على الإسلام وكانوا من ضعاف القوم لا يستطيعون حتى حماية أنفسهم؟ إذن: لا شيء إلا قدوة السلوك التي حملت كل هؤلاء على الإيمان.
وسبق أن ذكرنا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وما أدراك ما عمر قوة وصلابةً يقول حين سمع قول الله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
قال: أيُّ جمع هذا، ونحن لا نستطيع حماية أنفسنا؟ مما يراه من ضعف المسلمين وبطش الكافرين.
ثم لو انتشر الإسلام بالسيف لأصبح سكان البلاد التي دخلها الإسلام كلهم مسلمين، ولَمَا كانت للجزية وجود في الفقه الإسلامي، إذن: بقاء الجزية على مَنْ لم يؤمن دليل على بطلان هذه المقولة، ودليل على عدم الإكراه في الدين، فالفتح الإسلامي كفل حرية العقيدة {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ... .} [الكهف: 29] وعليه الجزية لبيت مال المسلمين مقابل ما تقدمه الدولية إليه من خدمات.
فالجزية التي تتخذونها سُبة في الإسلام دليل على أن الإسلام(19/12002)
أقرَّكم على دينكم، إنما حَمْل السيف كان فقط لحماية الاختيار في الدعوة، فأنا سأعرض الإسلام على الناس، ومن حقي أنْ أقاتل مَنْ يعارضني بالسلاح، من حقي أن أعرض الإسلام كمبدأ، فمَنْ آمن به فعلى العين والرأس، ومَنْ لم يؤمن فليَبْقَ في ذمتنا.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى بيوت أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول سبحانه: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ... } .(19/12003)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
لسائل أنْ يسأل: ما سِرُّ هذه النقلة الكبيرة من الكلام عن حرب الأحزاب وحرب بني قريظة إلى هذا التوجيه لزوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
قالوا: لأن مسألة الأحزاب انتهتْ بقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ... } [الأحزاب: 27] فربما طلبت زوجات الرسول أنْ يُمتِّعهن وينفق عليهن، مما يفتح الله عليه من خيرات هذه البلاد، فجاءتْ هذه الآية: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ... } [الأحزاب: 28] لتقرر أن الإسلام ما جاء ليحقق مزيَّة لرسول الله، ولا لآل رسول الله، حتى الزكاة لا تصح لأحد من فقراءبني هاشم.
لكن مجيء الآية هكذا بصيغة الأمر: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ... } [الأحزاب: 28] دليل على حدوث شيء منهن يدلّ على تطلعهن إلى زينة الحياة ومُتَعها. وقد رُوِي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(19/12003)
أنهن اجتمعْنَ يسألْنَ رسول الله النفقة، وأنْ يُوسِّع عليهن بعد أنْ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الكفار: لن يغزونا، بل نغزوهم وبعد أنْ بشَّرتهم الآيات بما سيُفتح من أرض جديدة.
وقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] يعني: ليس عندي ما تتطلَّعْن إليه من زينة الدنيا وزخرفها، ومعنى {فَتَعَالَيْنَ ... } [الأحزاب: 28] نقول: تعاليْن يعني: أقبلْنَ، لكنها هنا بمعنى ارتفعْنَ من العلو، ارتفعْنَ عن مناهج البشر والأرض، وارتقينَ إلى مناهج خالق البشر، وخالق الأرض؛ لأن السيادة في منهج الله، لا في مُتَع الحياة وزخرفها.
وقد ورد هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... } [الأنعام: 151] فتعالوْا أي: ارتفعوا عن قوانين البشر وقوانين الأرض إلى قوانين السماء؛ لأنه يُشترط فيمَنْ يضع القانون ألاَّ يفيد من هذا القانون، وأن يكون مُلِماً بكل الجزئيات التي يتعرض لها القانون والبشر مهما بلغتْ قدرتهم، فإنهم يعلمون شيئاً ويجهلون آخر؛ لذلك لا ينبغي أَنْ يُقنِّن لهم إلا خالقهم عَزَّ وَجَلَّ.
ومعنى {أُمَتِّعْكُنَّ ... } [الأحزاب: 28] أي: أعطيكُنَّ المتعة الشرعية التي تُفْرض للزوجة عند مفارقة زوجها، والتي قال الله فيها:(19/12004)
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 241] .
وقوله {وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] التسريح هنا يعني الطلاق {سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] ذلك يدلُّ على أن المفارقة بين الزوجين إنْ تمتْ إنما تتم بالجمال أي: اللطف والرقة والرحمة بدون بشاعة وبدون عنف؛ لأن التسريح في ذاته مفارقة مؤلمة، فلا يجمع الله عليها شدتين: شدة الطلاق، وشدة العنف والقسوة.
ولك أنْ تلحظ أن لفظ الجمال يأتي في القرآن مع الأمور الصعبة التي تحتاج شدة، واقرأ قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... } [يوسف: 83] والصبر يكون جميلاً حين لا يصاحبه ضَجَر، أو شكوى، أو خروج عن حَدِّ الاعتدال.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرض على زوجاته التسريح الجميل الذي لا مشاحنةَ فيه ولا خصومةَ إنْ اخترْنَهُ بأنفسهن، وما كان رسول الله ليمسك زوجة اختارتْ عليه أمراً آخر مهما كان.
وللعلماء كلام طويل في هذه المسألة: هل يقع الطلاق بهذا التخيير؟ قالوأ: التخيير لَوْنٌ من حب المفارقة الذي يعطي للمرأة - كما نقول مثلاً: العِصْمَة في يدها - فهي إذن تختار لنفسها، فإنْ قَبِلت الخيار الأول وقع الطلاق، وإن اختارت الآخر فَبِها ونعمتْ، وانتهتْ المسألة.(19/12005)
وأمرُ الله لرسوله أن يقول لزوجاته هذا الكلام لا بُدَّ أنْ يكون له رصيد من خواطر خطرتْ على زوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَمَّا رأيْنَ الإسلام تُفْتح له البلاد، وتُجبى إليه الخيرات، فتطلَّعْن إلى شيء من النفقة.
وكلمة الأزواج: جمع زوج، وتُقال للرجل وللمرأة، والزوج لا يعني اثنين معاً كما يظن البعض، إنما الزوج يعني الفرد الذي معه مثله من جنس، ومثله تماماً كلمة التوأم، فهي تعني (واحد) لكن معه مثله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ... } [الذاريات: 49] يعني: ذكر وأنثى، فالذكر وحده زوج، والأنثى وحدها زوج، وهذه القسمة موجودة في كل المخلوقات. وتُجمع زوج أيضاً على زوجات.
ونلحظ في الأسلوب هنا أن الحق سبحانه حين يعرض على رسوله أنْ يُخيِّر زوجاته بين زينة الدنيا ونعيم الآخرة يستخدم (إنْ) الدالة على الشكِّ، ولا يستخدم مثلاً (إذَا) الدالة على التحقيق، وفي هذا إشارة إلى عدم المبالغة في اتهامهن، فالأمر لا يعدو أنْ يكون خواطر جالتْ في أذهان بعض زوجاته.
وتعلمون أن سيدنا رسول الله جمع من النساء تسعاً معاً، منهن خمسٌ من قريش، وهُنَّ: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة ابنة أبي أمية، ومن غير قريش: صفية بنت حيي بن أخطب الذي ذكرنا قصته في الأحزاب، ثم جويرية بنت الحارث من بني المصطلق، ثم ميمونة بنت الحارث الهلالية - ومَنْ ذهب عند التنعيم وجد هناك بئر ميمونة، ثم زينب بنت جحش من بني أسد، هؤلاء هُنَّ أمهات المؤمنين التسعة اللائي جمعهنَّ رسولُ الله معاً.(19/12006)
فلما سألْنَ رسول الله النفقة كانت أجرأهُنَّ في ذلك السيدة حفصة بنت عمر، وقد حدث بينها وبين رسول الله مُشَادّة في الكلام، فقال لها: «ألا تحبين أنْ أستدعي رجلاً بيننا؟» فوافقتْ، فأرسل إلى عمر، فلما جاء قال لها رسول الله: تكلَّمي أنت - يعني: اعرضي حاجتك - فقالت: بل تكلم أنت، ولا تقل إلا حقاً.
أثارت هذه الكلمة حفيظة سيدنا عمر، فهاج وقام إلى ابنته فوجأها، فحجزه رسول الله فتناولها ثانية فوجأها، ثم قال لها: إن رسول الله لا يقول إلا حقاً، ووالله لولا أنَّا في مجلسه ما تركتُك حتى تموتي، فقام رسول الله من المجلس ليفضَّ هذا النزاع، وذهب إلى حجرته، واعتكف بها، وقاطع الأمر كله مدة شهر.
وتأمل قول الله تعالى: {إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا ... } [الأحزاب: 28] فأيُّ وَصْف أحقر، وأقلّ لهذه الحياة من أنها دُنْيا؟ وما فيها من مُتَع إنما هي زينة، يعني: ترف في المظهر، لا في الجوهر، كما قال سبحانه في موضع آخر: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد ... } [الحديد: 20] ثم يعرض رسول الله على زوجاته الخيار الثاني المقابل للحياة الدنيا: {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ ... .} .(19/12007)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
المتأمل جانبيّ التخيير هنا يجد أن المقارنة بينهما أمر صَعْب يوحي(19/12007)
برفض التخيير بين طرفي هذه المسألة، فمَنْ يقبل أنْ تكون له حياة دنيا مقابل الله، وأن تكون له زينتها مقابل رسول الله، ثم زِدْ على ذلك الدار الآخرة التي لم يُذكَر قبالتها شيء في الجانب الآخر، ثم إن الحياة الدنيا التي لم يُذكَر قبالتها شيء في الجانب الآخر، ثم إن الحياة الدنيا التي نعيشها حتى لو لم تُوصَفْ بأنها دنيا كان يجب أنْ يُزهد فيها.
والحق أنهن فَهِمْنَ هذا النص واخترْنَ الله ورسوله والدار الآخرة، ومَنْ يرضى بها بديلاً: والحمد لله. {وَكَفَى الله المؤمنين القتال ... } [الأحزاب: 25] .
ثم يأتي جزاء مَن اختار الله ورسوله والدار الآخرة {فَإِنَّ الله أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 29] المحسنة هي الزوجة التي تعطي من الرحمة والمودة الزوجية فوق ما طُلب منها.(19/12008)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
الحق - سبحانه وتعالى - بعد أنْ خيَّر زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاخترْنَ الله ورسوله والدارالآخرة أراد سبحانه أنْ يُعطيهن المنهج والمباديء التي سيسِرْنَ عليها في حياتهن، ونلحظ أن آية التخيير كانت من كلام النبي عن ربه، أما هنا فالكلام من الله مباشرة لنساء النبي.
{يانسآء النبي ... } [الأحزاب: 30] فبداية المسألة {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ... } [الأحزاب: 28] فلما اخترْن الله ورسوله والدار الآخرة كأنهن ارتفعْنَ إلى مستوى الخطاب المباشر من الله تعالى، كأنهن حقَّقْنَ المراد من الأمر السابق {فَتَعَالَيْنَ ... } [الأحزاب: 28] .
كلمة {نِسَآءَ ... } [الأحزاب: 30] نعلم أنها جمع، لكن لا نجد لها(19/12008)
مفرداً من لفظها، إنما مفردها من لفظ آأخر هو امرأة، وفي اللغة جموع تُنُوسِي مفردها بشهرة مفرد آخر أرقّ أو أسهل في الاستعمال، وامرأة أو (مَرة) يصح أيضاً من (امرؤ) ، وهذه اللفظة تختلف عن ألفاظ اللغة كلها، بأن حركة الإعراب فيها لا تقتصر على الحرف الأخير إنما تمتد أيضاً إلى الحرف قبل الأخير، فنقول: قال امْرُؤُ القيس، وسمعت امْرَأَ القيس، وقرأت لامْرِيء القيس.
وبعض الباحثين في اللغة قال: إن (نساء) من النَّسْأ والتأخير، على اعتبار أن خَلْقها جاء متأخراً عن خَلْق الرجل، ومفردها إذن (نَسْءٌ) وإنْ كان هذا تكلفاً لا داعيَ له.
وبعد هذا النداء {يانسآء النبي} [الأحزاب: 30] يأتي الحكم الأول من المنهج الموجَّه إليهن: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ ... } [الأحزاب: 30] نلحظ أن الحق سبحانه لم يبدأ الكلام مع نساء النبي بقوله مثلاً: مَنْ يتق الله منكن، إنما بدأ بالتحذير من إتيان الفاحشة؛ لأن القاعدة الشرعية في التقنين والإصلاح تقوم على أن «درء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة» كما أننا قبل أنْ نتوضأ للصلاة نبريء أنفسنا من النجاسة.
ومثَّلْنَا لذلك وقُلْنا: هَبْ أن واحداً رماك بتفاحة، وآخر رماك بحجر، فأيهما أَوْلَى باهتمامك؟ لا شكَّ أنك تحرص أولاً على ردِّ الحجر والنجاة من أذاه، وكذلك لو أردتَ أنْ تكون ثوبك مثلاً وهو مُتسخ، لا بُدَّ أن تغسله أولاً.(19/12009)
لذلك بدأ الحق سبحانه التوجيه لنساء النبي بقوله {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ... } [الأحزاب: 30] لكن الفاحشة أمر مستبعد، فكيف يتوقع منتهي الذنوب من نساء رسول الله؟ قالوا: ولم لا، وقد خاطب الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... } [الزمر: 65] .
ومعلوم أن رسول الله ليس مظنة الوقوع في الشرك، إذن: فالمعنى، يا محمد ليس اصطفاؤك يعني أنك فوق المحاسبة، كذلك الحال بالنسبة لنسائه: إنْ فعلَتْ إحداكن فاحشة، فسوف نضاعف لها العذاب، ولن نستر عليها لمكانتها من رسول الله، فإياكُنَّ أنْ تظننَّ أن هذه المكانة ستشفع لكُنَّ، وإلا دخلتْ المسألة في نطاق إذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد، وإذا سرق الشريف تركوه.
إذن: منزلة الواحدة منكُنَّ ليست في كونها مجرد زوجة لرسول الله، إنما منزلتها بمدى التزامها بأوامر الله، وإلا فهناك زوجات للرسل خُنَّ أزواجهن واقرأ: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} [التحريم: 10] .(19/12010)
ولك أن تسأل: هذا حكم الفاحشة المبيِّنة، أنْ يُضاعَف لها العذاب، فما بال الفاحشة منهن إنْ كانت غير مُبيِّنة؟
قالوا: هذا الحكم خاصٌّ بنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإن حدث من إحداهن ذنب بينها وبين نفسها فهو ذنب واحد مقصور عليها، فإنْ كان علانيةً فهو مُضَاعف؛ لأنهن أسوة وقدوة تتطلع العيون إلى سلوكهن، فإنْ ظهرت منهن فاحشة كان تشجيعاً للأخريات، ولم لا وقد جاءت الفاحشة من زوجة النبي.
فمضاعفة العذاب - إذن - لأن الفساد تعدَّى الذات إلى الآخرين، وأحدث قدوة سوء في بيت النبي، فاتسحقتْ مضاعفة العذاب، لأنها آتْ شعور رسول الله، ولم تُقدِّر منزلته وفضَّلَت عليه غيره لتأتي معه الفاحشة، وهذا يستوجب أضعاف العذاب، فإنْ ضاعف لها الله العذاب ضعفين فحسب، فهو رِفْق بها، ومراعاة لماضيها في زوجية رسول الله.
كذلك إنْ فعلتْ إحداهن حسنة، فلها أجرها أيضاً مُضَاعفاً؛ لأنها فعلتْ صالحاً في ذاتها كأيِّ إنسانه أخرى، ثم أعطتْ قدوة حسنة، وأُسْوة طيبة لغيرها.
فإنْ أخذْنا في الاعتبار حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سَنَّ سنة حسنة، فَلَهُ أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة، ومَنْ سَنَّ سنة سيئة فعليه وِزْرها، ووِزْر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة» .(19/12011)
علمنا أن أجر الحسنة لا يُضاعف فقط مرتين، إنما بعدد ما أثَّرت فيه الأسوة، وفَرْق بين الضِّعْف والضُّعْف. الضِّعْف: ضِعْف الشيء أي مثله، أما الضُّعف فهو فَقْد هذا المثل، فهو أقلُّ.
ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً} [الأحزاب: 30] يعني: مسألة مضاعفة العذاب أمر يسير، ولن تغني عنكُنَّ منزلتكُنَّ من رسول الله شيئاً، فهذا أمر لا يسألني فيه أحد، ولا أحابي فيه أحداً، ولا بُدَّ أن أُسَيِّر الأمور كما يجب أن تكون، ولا يعارضني فيها أحد، لذلك كثيراً ما تُذيَّل أحكام الحق سبحانه بقوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 220] فالعزة تقتضي أن يكون الحكم ماضياً لا يُعدِّله أحد، ولا يعترض عليه أحد.
وهذا المعنى واضح في قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم}
[المائدة: 116 - 118] .(19/12012)
فقوله: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ... } [المائدة: 118] يقتضي أن يقول: فإنك غفور رحيم، لكن الحق سبحانه عدل إلى {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] لأن الذنب الذي وقع فيه القوم ذنب في القمة، في الألوهية التي أخذوها من الله وجعلوها لعيسى عليه السلام، وهذا بمقتضى العقل يستوجب العذاب الشديد، لكن الحق سبحانه لا يُسأل عما يفعل، يُعذِّب مَنْ يشاء، ويغفر لمَنْ يشاء، فإنْ غفر لهم فبصفة العزة التي لا يعارضها أحد، فكأن المنطق أن يُسأل الله: لماذا لم تُعذِّب هؤلاء على ما ارتكبوه؟ لذلك دخل هنا من ناحية العزة، التي لا تُعارَض، والحكمة التي لا تخطيء.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه مسألة الفاحشة، وما يترتب عليها من عقاب ذكر سبحانه المقابل، فقال تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ ... .} .(19/12013)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
معنى {يَقْنُتْ ... } [الأحزاب: 31] أي: يخضع لله تعالى الخضوع التام، ويخشع ويتذلَّل لله في دعائه، واختار الحق سبحانه القنوت؛ لأنه سبحانه لا يحب من الطائع أنْ يُدِلَّ على الناس بطاعته؛ لذلك يقول العارفون: رُبَّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثتْ عِزَّاً واستكباراً.(19/12013)
أو {وَمَن يَقْنُتْ ... } [الأحزاب: 31] أي: بالغ في الصلاح، وبالغ في الورع حتى ذهب إلى القنوت، وهو الخضوع والخشوع.
والنتيجة {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ... } [الأحزاب: 31] فالآية السابقة تقرر مضاعفة العذاب لمن تأتي بالفاحشة، وهذه تقرر مضاعفة الأجر لمن تخضع لله وتخشع وتعمل صالحاً.
{وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] أي: أعددناه وجهّزناه لها من الآن، فهو ينتظرها.
وحين تتأمل الأسلوب القرآني في هاتين الآيتين تطالعك عظمة الأداء، فحين ذكر الفاحشة ومضاعفة العذاب جاء الفعل {يُضَاعَفْ ... } [الأحزاب: 30] مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، أما في الكلام عن القنوت لله، فقال {نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا ... } [الأحزاب: 31] فجاء الفعل مُسْنداً إلى الحق سبحانه مباشرة، وكأن الحق سبحانه لم يُرِدْ أنْ يواجه بذاته في مقام العذاب، إنما واجه العذاب فقط.
ومجرد بناء الفعل {يُضَاعَفْ ... } [الأحزاب: 30] للمجهول يدل على رحمة الله ولُطْفه في العبارة، فالحق سبحانه يحب خَلْقه جميعاً، ويتحبب ويتودد إليهم، ويرجو من العاصي أنْ يرجع ويفرح سبحانه بتوبة عبده المؤمن أكثر من فرح أحدكم حين يجد راحلته وقد ضلَّتْ منه في فلاة.
وجاء في الأثر: «يا ابن آدم، لا تخافنَّ من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا ينفد أبداً، يا ابن آدم، لا تخْشَ من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبداً، يا ابن آدم، خلقتُكَ(19/12014)
للعبادة فلا تلعب - والمراد باللعب العمل الذي لا جدوى منه - وقسمتُ لك رزقك فلا تتعب» .
والمراد هنا لا تتعب، ولا تشغل قلبك، فالتعب يكون للجوارح، كلما جاء في الحديث الشريف: «مَنْ بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له» ولما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يداً خشنة من العمل قال: «هذه يد يحبها الله ورسوله» .
فالتعب تعب القلب، فالشيء الذي يطيقه صدرك، وتقدر على تحمُّله لا يُتعبك؛ لذلك نجد خالي الصدر من الهموم يعمل في الصخر وهو هاديء البال، يغني بحداء جميل ونشيد رائع يُقوِّي عزيمته، ويعينه على المواصلة، فتراه مع هذا المجهود فَرِحاً منشرحَ الصدر.
وقد فطن الشاعر العربي لهذه المسألة فقال:
لَيْسَ بحمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهر ... مَا الحمْلُ إلاَّ مَا وَعَأهُ الصَّدْرُ
فالمعنى: أتعب جوارحك، لكن لا تُتعِب قلبك، والكَلَل والتعب لا يأتي على الجوارح إنما على القلب، فأتعب جوارحك في العمل الجاد النافع الذي تأخذ من ثمرته على قدر حاجتك، وتفيض بالباقي على غير القادرين.(19/12015)
ثم يقول: «فإنْ أنتَ رضيتَ بما قَسمتْهُ لك أرحْتَ قلبك وبدنك وكنتَ عندي محموداً، وإنْ أنت لم تَرْضَ بما قََسَمْتُه لكَ فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا تركضُ فيها ركْضَ الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قَسَمْتُه لك، وكنت عندي مذموماً، يا ابن آدم، خلقتُ السماوات والأرض ولم أَعْيَ بخلقهن، أَيُعْييني رغيفٌ أسوقه لك. . يا ابن آدم، لا تطالبني برزق غد كما لم أطالبك بعمل غدٍ، يا ابن آدم أنا لم أَنْسَ مَنْ عصاني، فكيف بمَنْ أطاعني؟»
وشاهدنا هنا قوله تعالى في آخر الحديث القدسي: «يا ابن آدم، أنا لك محب فبحقي عليك كُنْ لي مُحِباً»
فربُّك يظهر لنا بذاته في مقام الخير وجلب النفع لك، أما في الشر فيشير إليك من بعيد، ويلفت نظرك برِفْق.
كما نلحظ في أسلوب الآية قوله تعالى - والخطاب لنساء النَّبِي {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ ... } [الأحزاب: 31] ولم يقل تقنت. . ثم أنَّثَ الفعل في {وَتَعْمَلْ صَالِحاً ... } [الأحزاب: 31] فمرة يراعي اللفظ، ومرة يراعي المعنى، وسبق أنْ قُلْنا إن (مَنْ) اسم موصول يأتي للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث.
ونقف أيضاً هنا عند وصف الرزق بأنه كريم {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] قلنا: إن الرزق كل ما يُنتفع به من مأكل، أو مشرب، أو ملبس، أو مسكن، أو مرافق، وقد يأتي في صورة معنوية كالعلم والحلم. . إلخ، وهذا الرزق في الدنيا لا يُوصف بأنه(19/12016)
كريم، إنما الكريم هو الرازق سبحانه، فلماذا وصف الرزق بأنه كريم؟
قالوا: فَرْق بين الرزق في الدنيا والرزق في الآخرة، الرزق في الدنيا له أسباب، فالسبب هو الرازق من ولد أو والٍ أو أجير أو تاجر. . إلخ فالذي يجري لك الرزق على يديه هو الذي يُوصف بالكرم، أما في الآخرة فالرزق يأتيك بلا أسباب، فناسب أنْ يُوصف هو نفسه بأنه كريم، ثم فيها ملحظ آخر: إذا كان الرزق يوصف بالكرم، فما بال الرازق الحقيقي سبحانه؟
ثم يقول الحق سبحانه: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ ... } .(19/12017)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
كلمة (أحد) تُستخدم في اللغة عدة استخدامات، فنقول مثلاً في العدد: أحد عشر إنْ كان المعدودُ مذكراً، وإحدى عشرة إن كان المعدود مؤنثاً، أما في حالة النفي فلا تُستعمل إلا بصيغة واحدة (أحد) ، وتدل على المفرد والمثنى والجمع، وعلى المذكر والمؤنث، فتقول: ما عندي أحد، لا رجلٌ ولا امرأة ولا رجلان ولا امرأتان، ولا رجال ولا نساء، لذلك جاء قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
وقوله سبحانه: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء ... } [الأحزاب: 32] هذه خصوصية لهن؛ لأن الأشياء تمثل أجناساً وتحت الجنس النوع،(19/12017)
فالإنسان مثلاً جنس، منه ذكر ومنه أنثى، وكل نوع منهما تحته أفراد، والذكر والأنثى لم يفترقا إلى نوعين بعد أنْ كانا جنساً واحداً، إلا لاختلاف نشأ عنهما بعد اتفاق في الجنس فالجنس حَدٌّ مُشترك: حيٌّ ناطق مفكر، فلما افترقا إلى نوعين صار لكل منهما خصوصيته التي تُميِّزه عن الآخر.
كما قلنا في الزمن مثلاً، فهو ظرف للأحداث، فإنْ كانت أحداثَ حركة فهي النهار، وإنْ كانت أحداثَ سُكُون فهي الليل، فالليل والنهار نوعان تحت جنس واحد هو الزمن، ولكل منهما خصوصيته، وعلينا أن نراعي هذه الخصوصية، فلا نخلط بينهما.
وتأمل قول الله تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 1 - 4] .
فالليل والنهار متقابلان متكاملان لامتضادان، كذلك الذكر والأنثى، ولكلٍّ دوره ومهمته الخاصة، فإنْ حاولتَ أنْ تجعلَ الليل نهاراً، أو الذكر أنثى أو العكس، فقد خالفتَ هذه الطبيعة التي اختارها الخالق سبحانه.
وحكينا قصة الرجل الذي مرَّ على عمدة القرية، فوجده يضرب غفيراً عنده، فدافع عن الغفير وقال للعمدة: لماذا تضربه يا عم إبراهيم؟ قال: مررتُ عليه ووجدتُه نائماً، فقال الرجل: نام؛ لأنه قضي النهار يروي لك أرضك، ومَنْ يحرث لا يحرس.
إذن: تحت الجنس النوع، وهذا النوع غير متكافيء؛ لأنه لو تساوى لكان مكرراً لا فائدة منه، إنما يختلف الأفراد ويتميزون؛ لذلك لا تظن أنك تمتاز عن الآخرين؛ لأن الله تعالى وزَّع المواهب بين خَلْقه، فأنت تمتاز في شيء، وغيرك يمتاز في شيء آخر، ذلك ليرتبط(19/12018)
الناس في حركة الحياة ارتباطَ حاجةٍ، لا ارتباطَ تفضُّل كما قُلْنا.
لذلك، فالرجل الذي يكنس لك الشارع مُميِّزٌ عنك؛ لأنه يؤدي عملاً تستنكف أنت عن أدائه، وإذا أدَّى لك هذا العامل عملاً لا بُدَّ أنْ تعطيه أجره، في حين إذا سألك مثلاً سؤالاً وأنت العالم أو صاحب المنصب ... إلخ فإنك تجيبه، لكن دون أنْ تأخذ منه أجراً على هذا الجواب، وقد مكثتَ أنت السنوات الطوالَ تجمع العلم وتقرأ وتسمع، إلى أنْ وصلتَ إلى هذه الدرجة، وصارت لك خصوصية، إذن: لكل منا، ذكر أو أنثى، فردية شخصية تُميِّزه.
هنا يقول الحق سبحانه لنساء النبي {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء ... } [الأحزاب: 32] هذه هي الخصوصية التي تُميِّزهن عن غيرهن من مطلق النساء، فمطلق النساء لَسْنَ قدوة، إنما نساء النبي خاصة قدوة لغيرهن من النساء وأُسْوة تُقتدى.
والشرط بعد هذا النفي {إِنِ اتقيتن ... } [الأحزاب: 32] يعني: أن زوجيتهن لرسول الله ليست هذه ميزة، إنما الميزة والخصوصية في تقواهن لله، وإلا فهناك من زوجات الأنبياء مَنْ كانت غير تقية.
وقوله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ... } [الأحزاب: 32] أي: اقْطَعْنَ طريق الفاحشة من بدايته، ولا تقربن أسبابها، واتركْنَ الأمور المشتبهة فيها. ومعنى الخضوع بالقول أنْ يكون في قول المرأة حين تخاطب الرجال ليونة، أو تكسُّر، أو ميوعة، أو أن يكون مع القول نظرات أو اقتراب.
فإذا اضطرِرِتُنَّ لمحادثة الرجال فاحذرْنَ هذه الصفات {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ... } [الأحزاب: 32] والمعنى: أنا لا أتهمكُنَّ، إنما الواحدة منكُنَّ لا تضمن الرجل الذي تُحدِّثه، فربما كان في قلبه(19/12019)
مرض، فلا تعطيه الفرصة.
وليس معنى عدم الخضوع بالقول أنْ تُكلِّمْنَ الناسَ بغلظة وخشونة، إنما المراد أن تكون الأمور عند حدودها؛ لذلك يقول سبحانه بعدها {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} [الأحزاب: 32] فلما نهى القرآن عن التصرف غير المناسب عرض البديل المناسب، وهو القول المعروف، وهو من المرأة القول المعتدل والسماع بالأذن دون أنْ تمتد عينها إلى مُحدِّثها؛ لأن ذلك ربما أطمعه فيها، وجرَّاه عليها، وهذا ما يريد الحق سبحانه أنْ يمنعه.
لذلك حُكِي أن رجلاً رأى خادمته على الباب تُحدِّث شاباً وسيماً، وكان يسألهَا عن شيء، إلا أنها أطالتْ معه الحديث، فضربها ربُّ البيت ونهرها على هذا التصرف، وفي اليوم التالي جاء شاب آخر يسألها عن نفس الشيء الذي سأل عنه صاحبه بالأمس، فبادرته بالشتائم والسُّباب بعد أنْ ظهر لها ما في قلب هذا، وأمثاله من مرض.
وفي موضع آخر من هذه السورة سيأتي: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59] ؛ لأن الرجل حين يجد المرأة محتشمة تستر مفاتن جسمها لا يتجزأ عليها، ويعلم(19/12020)
أنها ليستْ من هذا الصنف الرخيص، فيقف عند حدوده.
وقد قال الحكماء: أما إذا رأيتَ امرأةً تُظهر محاسنها لغير محارمها وتُلِحُّ في عرض نفسها على الرجال، فكأنها تقول للرجل (فتح يا بجم) تقول للغافل تنبه. فتستثير فيه شهوته، فَيَتَجَرَأْ عليها.
فالحق سبحانه يريد لزوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولاً أنْ يُكلِّمْنَ الناس من وراء حجاب، وأنْ يُكلِّمْنَ الناس بالمعروف كلاماً لا لينَ فيه، ولا ميوعة حتى لا يَتعرَّضْنَ لسوء، ولا يتجزأ عليهن بذيء أو مستهتر.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية ... } .(19/12021)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
معنى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ... } [الأحزاب: 33] الزمنها ولا تُكثِرْن الخروج منها، وهذا أدب للنساء عامة؛ لأن المرأة إذا شغلتْ نفسها بعمل المطلوب منها في بيتها وفي خدمة زوجها وأولادها ومصالحهم لما اتسع الوقت للخروج؛ لذلك كثيراً ما يعود الزوج، فيجد زوجته مُنهمِكة في أعمال البيت، وربما ضاق هو نفسه بذلك؛ لأنه لا يجدها متفرغة له.
إذن: المرأة المفلسة في بيتها هي التي تُكثِر الخروج، وتقضي(19/12021)
مصالح بيتها من خارج البيت، ولو أنها تعلمتْ الصناعات البسيطة لَقضَتْ مصالح بيتها، ووفَّرتْ على زوجها، وقد حكوا لنا عن النساء في دمياط مثلاً، كيف أن المرأة هناك تعمل كل شيء وتساعد زوجها، حتى أن البنت تتعلم حرفة، ولا ترهق أباها عند زواجها، بل وتوفر من المال ما يساعد زوجها بعد أن تتزوج.
وقوله تعالى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ... } [الأحزاب: 33] كلمة التبرج من البُرْج، وهو الحصن، ومعنى تبرَّج أي: خرج من البرج وبرز منه، والمعنى: لا تخرجن من حصن التستر، ولا تبدين الزينة والمحاسن الواجب سَتْرُها.
وقال {تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ... } [الأحزاب: 33] أي: ما كان من التبرج قبل الإسلام، وكانت المرأة - ونعني بها الأَمَة لا الحرة - تبدي مفاتن جسمها، بل وتظهر شبه عارية، وكُنَّ لا يجدْنَ غضاضة في ذلك، وقد رأينا مثل هذا مثلاً في إفريقيا.
أما الحرائر في الجاهلية، فكانت لهُنَّ كرامة وعِفّة، في حين كانت تُقام للإماء أماكن خاصة للدعارة والعياذ بالله؛ لذلك لما أخذ رسول الله العهد على النساء المؤمنات ألاَّ يَزْنين قالت امرأة أبي سفيان: أو تزني الحرة يا رسول الله؟ يعني: هذا شيء مستنكف من الحرة، حتى في الجاهلية.
ومن معاني البرج: الاتساع، فيكون المعنى: لا تُوسِّعْنَ دائرة التبرج التي حددها الشرع، وهي الوجه والكفان.(19/12022)
وفي موضع آخر، قال تعالى: {والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ... } [النور: 60] .
وتعجب من المرأة تبلغ الخمسين والستين، ثم تراها تضع الأحمر والأبيض، ولا تخجل من تجاعيد وجهها، ولا تحترم السنَّ التي بلغتْها.
ثم يقول سبحانه: {وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة ... } [الأحزاب: 33] كثيراً ما قرن القرآن بين الصلاة والزكاة، وبدأ بالصلاة؛ لأنها عمدة التكاليف كلها، وإنْ كنتَ في الزكاة تنفق بعض المال، والمال فرع العمل، والعمل فرع الزمن، فأنت في الصلاة تنفق الزمن نفسه وتضحي به، فكأنك في الصلاة تنفق نسبة سبعة وتسعين ونصف بالمائة، فضلاً عن الاثنين ونصف نسبة الزكاة.
كما يُفهم من إيتاء الزكاة هنا أن للمرأة ذمتها المالية الخاصة المستقلة عن ذمة الغير من أب أو زوج أو غيره، بدليل أن الله كلفها بإيتاء الزكاة، لكن الحضارة الحديثة جعلتْ مال المرأة قبل الزواج للأب، وبعد الزواج للزوج، ثم سلبتْ المرأة نسبتها إلى أبيها، ونسبتها بعد الزواج لزوجها.
وهذه المسألة أشدُّ على المرأة من سَلْبها المال؛ لأن نسبتها لزوجها طمْسٌ وتَعَدٍّ على هُويتها، وانظر مثلاً إلى السيدة عائشة، فما زلنا حتى الآن نقول «عائشة بنت أبي بكر» ولم يقل أحد انها عائشة امرأة محمد.(19/12023)
ثم يقول تعالى: {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ... } [الأحزاب: 33] لأن المسألة لا تقتصر على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إنما هناك أمور أخرى كثيرة تحتاج طاعة الله وطاعة رسول الله.
ونلحظ هنا أن الآية عطفت رسول الله على ربه تعالى، وجاء الأمر واحداً {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ ... } [الأحزاب: 33] وحين نستقريء هذا الأمر في القرآن الكريم نجده مرة يُكرِّر الفعل، فيقول: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ... } [التغابن: 12] .
ومرة: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول ... } [آل عمران: 132] .
ومرة يقول تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ ... } [النساء: 59] .
وهذه الصيغ، لكلٍّ منها مدلول ومعنى، فساعةَ يقول: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، كأن لله في الأمر طاعةً في الإجمال، وللرسول طاعة في التفصيل، فالحق سبحانه أمر بالصلاة وأمر بالزكاة أَمْرَ إجمال، ثم بيَّن الرسول ذلك وفصَّل هذا الإجمال، فقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلي» وقال: «خُذُوا عنِّي مناسككم» .(19/12024)
إذن: تكرر الفعل هنا؛ لأن لله طاعةً في إجمال الحكم، وللرسول طاعة في تفصيله، فإنْ جعل الفعل واحداً {وَأَطِيعُواْ الله والرسول ... } [آل عمران: 132] فهذا يعني توارد أمر الله تعالى مع أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالطاعة إذن واحدة، وهَبْ أن الله تعالى له فِعْل، ورسوله له فِعْل، فلا يفصل أحدهما عن الآخر، بدليل قوله تعالى: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... } [التوبة: 74] .
فلم يَقُلْ: وأغناهم رسوله حتى يقول قائل: كل منهما يُغْنى بقدرة، انما جاء الفعل واحداً {أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ ... } [التوبة: 74] واقرأ أيضاً قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] ولم يقل: يرضوهما.
أما قوله تعالى: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ ... } [النساء: 59] فلم يُكرِّر الأمر بالطاعة مع أولي الأمر؛ لأنه لا طاعة لوليِّ الأمر إلا من باطن طاعة الله، وطاعة رسول الله.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] الرجس بالسِّين هو الرِّجز بالزاي، وهو القذارة، سواء أكانت حسية كالميتة مثلاً، وكالخمر، أو معنوية كالآثام والذنوب، وقد جمعتْها الآية: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وقد يُراد بالرجس: النفاق والمرض.
وكلمة (أهل) تُقال: لعشيرة الرجل، لكنها تُطلَق في عُرْف الاستعمال على امرأته، ومن بقية الاصطلاحات لهذا المعنى ما نقوله الآن حين نذهب لزيارة صديق مثلاً فنقول: معي الأهل أو الجماعة، والبعض يقول: معي الأولاد، ونقصد بذلك الزوجة، لماذا؟ قالوا:(19/12025)
لأن أمر المرأة مبنيٌّ على الستر، فإذا كان اسمها مبنياً على الستر، فكذلك معظم تكليفاتها مبنية على الستر في الرجل، ونادراً ما يأتي الحكم خاصاً بها.
لذلك، السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، وكانت قد هاجرت إلى الحبشة، فلما عادت سألتْ: أنزلَ شيء من أمر المرأة في غَيْبَتي؟ فقالوا لها: لم ينزل شيء، فذهبت إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: يا رسول الله، ما أعظم خيبتنا وخسارتنا، فليس لنا في الأحكام شيء، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنكن مستورات في الرجال» .
ومع ذلك نزل القرآن الكريم بقوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين(19/12026)
فُرُوجَهُمْ والحافظات والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] .
وتلحظ في هذه الآية أيضاً {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] أنها تتحدث عن النساء، لكنها تراعي مسألة سَتْر المرأة فتعود إلى ضمير الذكور {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ... } [الأحزاب: 33] ولم تقُلْ عنكُنَّ، كذلك في {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ويصحّ أنه يريد أهلَ البيت جميعاً رجالاً ونساءً.(19/12027)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
قوله تعالى {واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ ... } [الأحزاب: 34] أي: نساء النبي {مِنْ آيَاتِ الله ... } [الأحزاب: 34] أي: آيات القرآن الكريم {والحكمة ... } [الأحزاب: 34] أي: حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو: أن عطف الحكمة على آيات الله من عطف الصفة على الموصوف، لكن القول الأول أَوْلَى ما دام أن الأمر فيه سعة.
ومعنى {واذكرن ... } [الأحزاب: 34] قلنا: إن الذكْر استحضار واستدعاء معلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، والمعنى: استحضر ذِكْر الله واجعلْه على بالك دائماً؛ لذلك قال تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ... } [العنكبوت: 45] أي: أكبر من أيِّ عبادة؛ لأن العبادات كما ذكرنا تحتاج إلى استعداد، وإلى وقت، وإلى مشقة، وإلى تفرُّغ وعدم مشغولية.
أمَّا ذكر الله فهو يجري على لسانك في أيِّ وقت، وبدون استعداد(19/12027)
أو مشقة، ويلهج به لسانك في أي وقت، وعلى أي حال أنت فيه، واقرأ في ذلك قوله تعالى من سورة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] فما دام أن الذكر هو أنْ تجعل الله على بالك، فلا يمنعك من ذلك سَعْيٌ ولا عمل؛ لأن الذِّكْر أخف العبادات وأيسَرُها على النفس، وأثقلها في الميزان.
ثم تأمل: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [الأحزاب: 21] .
فمن عظمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن باله لم يَخْلُ لحظة من ذكر ربه أبداً؛ لذلك ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال عن نفسه: «تنام عيني، ولا ينام قلبي» .
ثم تُختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [الأحزاب: 34] اللطف هو الدقِّة في تناول الأشياء وحُسْن تأتِّي الأمور مهما كانت وسائلها ضيقة، وسبق أنْ أوضحنا هذا المعنى وقلنا: إن الأشياء الضارة مثلاً كما لطُفَتْ عَنُفتْ، فالحديد الذي تجعله على النوافذ ليحميك من الذئاب، غير الحديد الذي يحميك من الثعابين، أو من الناموس والذباب. . إلخ؛ لذلك نجد أن أفتك الأمراض تأتي من الفيروسات اللطيفة التي لم تُعرف.
وحُسْن التأتِّي للأمور يعني التغلغل في الأشياء مهما دَقَّتْ، فقد تُضطر مثلاً لأنْ تُدخِل يدك في شيء ضيق لتتناول شيئاً بداخله، فلا تستطيع، فتستعيَن على ذلك بالولد الصغير؛ لأن يده ألطف من يدك، أو تستعين على ذلك بآلة أدقّ لتؤدي بها هذا الغرض.(19/12028)
ووَصْف اللطيف يُتمِّمه وصف الخبير، فإذا كان اللطيف يعني الدقة في تناول الأشياء وحُسْن التأتِّي، فالخبرة تعني معرفة الموضع، فاللطف لا يتأتي إلا بالخبرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين ... } .(19/12029)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
قلنا: إن هذه الآية نزلة تطيباً لخاطر السيدة أسماء بنت عميس زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب، لما حدَّثَتْ سيدنا رسول الله في(19/12029)
أمر الأحكام، وأنها تنزل وتتوجَّه في الغالب إلى الرجال، ويبدو أنها حدَّثَتْ رسول الله في أمر النساء، وأن منهن مثل الرجال مسلمات ومؤمنات. . إلخ.
ونلحظ أن الآية بدأت بذكر الإسلام، ثم الإيمان، فأيّهما يسبق الآخر؟ ونجد إجابة هذا السؤال في قول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ... } [الحجرات: 14] .
فالإسلام أنْ تؤدي أعمال الإسلام بصرف النظر، أكان أداؤك لها عن إيمان أو عن غير إيمان؟ لأن الإسلام تلقِّي حكم، أما الإيمان فأنْ تؤمن بمَنْ حكم، وتُصدِّق مَنْ بلَّغك هذا الحكم، وعليه فالإيمان سابق للإسلام.
لذلك جاءت هذه الآية لتفضح هؤلاء الأعراب الذين تستروا وراء الأعمال الظاهرة للإسلام، وهم غير مؤمنين بها، وقد يأتي الإيمان بعد الإسلام حين تؤدي أعمال الإسلام فتحلُو لك، وتجذبك إلى الإيمان والتصديق.
لذلك، فرح هؤلاء الأعراب لقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ ... } [الحجرات: 14] وقالوا الحمد لله؛ لأن (لَمَّا) لا تدخل إلا على ما يمكن أنْ يجيء، كأن تقول: لَمَّا يثمر بستاننا، وثد أثمرتْ البساتين، والمعنى: أنه سيثمر فيما بعد.
قالوا: لأن هناك كثيراً من الأحكام أنت لا تؤمن بالذي حكم بها إلا إذا أدركتَ حلاوتها، فالرجل الذي جاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وطلب منه أنْ يبيت عنده، أو: أنْ يضيفه، فسأله إبراهيم(19/12030)
عليه السلام عن دينه فقال: إنه مجوسي، فردَّ الباب في وجهه، فعاتبه ربه في ذلك، وقال له: يا إبراهيم تريده أنْ يغير دينه لضيافة ليلة، وأنا أَسَعُه طوال عمره وهو كافر بي؟ فأسرع إبراهيم في إثر الرجل حتى لحق به ودعاه إلى بيته، فقال الرجل: ألم تنهرني منذ قليل، فماذا حدث؟ فقال: لقد عاتبني ربي فيك، فقال الرجل: نِعْم الربّ ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، أشهد ألاَّ إله إلا الله.
وقد اشتملتْ هذه الآية على عشر صفات، بدأت بالمسلمين والمسلمات، وانتهت بالذاكرين الله كثيراً والذاكرات، وكأن الله تعالى أوجد مراد السيدة أسماء بنت عُميس في هذه الصفات العَشْر التي جمعتْ الرجال والنساء، واشتملت على كل أنواع التكليف، وهي برقية تدلُّ على أن حكم المرأة التكليفي مطمور في باطن الرجل، وهذه هي الأصول.
ومعنى {والقانتين ... } [الأحزاب: 35] المداومون على عبادة الله وطاعته في خشوع وتضرُّع كما نفهم من قوله تعالى {والمتصدقين والمتصدقات ... } [الأحزاب: 35] أن للمرأة ذمتها المالية المستقلة وحرية التصرُّف في مالها بغير إذن زوجها إذا كانت تملك إرثاً أو هبة من زوجها أو من غيره، فلا ولايةَ عليها من أحد.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة في كلامنا عن الزكاة، وهذه من مَيْزات المرأة في الإسلام، حيث كانت قبل الإسلام، وحتى في الحضارات الحديثة تابعة لأبيها أو لزوجها، والصدقة تشمل الزكاة؛ لأن الله قال فيها: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين والعاملين عَلَيْهَا ... } [التوبة: 60] .(19/12031)
فالصدقة هي العنوان الأعم، ومعناها أنك صدَّقْتَ الحق سبحانه حين استأمنك على خير، فاستنبط بمجهودك وسعيك في أرض الله التي خلقها، فكأنك تُحقِّق ما كان من سيدنا أبي بكر حين سأله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ماذا صنع بماله الذي كسبه في الغنيمة؟ قال تصدَّقْتُ به كله، فقال له: «وماذا أبقيتَ لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله. فلما سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: تصدَّقْتُ بنصفه، ولله عندي نصفه.
فكلٌّ منهما تصرَّف في ماله تصرُّفاً منطقياً يناسبه.
وإنْ كانت الزكاة يُراد بها نماء المال وطهارته، فالصدقة عطاء لا يُرَاد به إلا وجه الله وثوابه في الآخرة، فكأن المتصدِّق يريد أنْ يبرَّ، وأنْ يعترف لله المعطي بالفضل؛ لأن الله مكَّنه من مال لم يُمكِّن منه الضعيف، ولا غير القادر.
ثم ذكر الحق سبحانه تكليف الصوم {والصائمين والصائمات ... } [الأحزاب: 35] والصوم أخذ حُكْماً فريداً من بين أحكام التكاليف كلها، والحق سبحانه جعل لكل تكليف من التكاليف (كادر خاص) في الجزاء إلا الصوم، فليس له (كادر) محدد، لذلك قال عنه الحق سبحانه: «إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به» يعني: قرار عالٍ فوق الجميع، فلماذا أخذ الصوم هذه المنزلة؟(19/12032)
قالوا: لأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يعبد بها بشرٌ بشراً أبداً، فمن الممكن مثلاً في شهادة أنْ لا إله إلا الله أنْ يأتي مَنْ يمدح آخر، فيقول له: ليس في الكون إلا أنت، أنت النافع وأنت الضار، وهناك من قال عن نفسه: أنا الزعيم الأوحيد، كذلك في الصلاة نرى مَنْ يخضع ويسجد لغير الله كما نخضع ونسجد نحن في الصلاة، وكذلك في الزكاة نتقرب إلى العظيم أو الكبير بالهدايا له أو لمن حوله.
لكن، هل قال بشر لبشر: أنا أصوم شهراً، أو يوماً تقرُّباً إليك؟ لا. . لأن الصيام للغير المماثل تذنيب للمصوم له لا للصائم؛ لأنه سيُضطرّ لأنْ يظل طوال اليوم يراقبك، أكلتَ أم لم تأكل؟
ولأن الصوم هو العبادة الوحيدة التي لم يتقرب بها بشر لبشر قال الله عنها في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به «يعني: جزاؤه خارج المقرر كما قلنا.
ومن عظمة تكليف الصوم أيضاً أن الله تعالى أحلَّ لنا أشياء، وحرَّم علينا أشياء أخرى تحريماً أبدياً، فالذي تحمَّل التكليف أَلِفَ الحلال ولم يألف ما حُرِّم عليه، ورسختْ هذه العقيدة في نفسه، حتى أن الحرام لا يخطر بباله أبداً، فلم يأْتِ على باله مرة مثلاً أنْ يشرب الخمر، أو يأكل الميتة، فهذه مسألة منتهية بالنسبة له، فأراد الله تعالى أنْ يديم لذَّة التكليف على البشر، ففرضَ الصومَ الذي يُحرِّم عليك اليوم ما كان مُحلَّلاً لك بالأمس ومألوفاً حتى صار عادة.
إذن: هناك فَرْق بين دوام العادة ولذة العبادة، وتأمل مثلاً يوم الفطر، والفطر عادة لك في غير هذا اليوم، وأنت حر تفطر أو لا تفطر، فإذا ما جاء يوم عيد الفطر أخرجك ربك من العادة إلى(19/12033)
العبادة، وجعله تكليفاً أنْ تفطر قبل الخروج للصلاة.
ثم يقول تعالى: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات ... } [الأحزاب: 35] جاءتْ مسألة حِفْظ الفروج بعد ذكر الصيام؛ لأن الصيام امتناعٌ عن شهوتَيْ البطن والفرج، شهوة البطن جعلها الله تعالى لحفظ الحياة بالطعام والشراب، وشهوة الفرج جعلها الله تعالى لحفظ النوع بالنكاح والتناسل.
قُلْنا: إن الله تعالى أرضى السيدة أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها الممثِّلة لجنس النساء، فذكر أنواع التكاليف مرة للمذكَّر، ومرة للمؤنث، لكنه راعي في ذلك سَتْر المرأة، وهنا أيضاً يُراعي هذه المسألة، فيقول: {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات ... } [الأحزاب: 35] حينما تكلم عن المذكَّر قال {والحافظين فُرُوجَهُمْ ... } [الأحزاب: 35] ولم يقُلْ: والحافظات فروجهن؛ لأن أمر النساء ينبغي أنْ يُسْتر وأنْ يُصَان.
ثم يقول سبحانه {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات ... } [الأحزاب: 35] ويعود إلى مسألة السَّتْر مرة أخرى في قوله: {أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] فقال (لهم) على سبيل التغليب، وسَتْر المرأة في الرجل، وهذه مسألة مقصودة يُراد بها شرف للمرأة، وصيانة لها، لا إهمالها كما يدَّعي البعض، ومن هذه الصيانة ما نقوله نحن عن المرأة: معي أهلي أو الأولاد أو الجماعة، ونقصد بذلك سَتْرها وصيانتها لا إهمالها، أو التقليل من شأنها.(19/12034)
فكأن الحق سبحانه حينما أرضى السيدة أسماء نيابةً عن المرأة المسلمة، فذكر ما ذكر من جمع المؤنث الذي يقابل جمع المذكر، أراد أنْ يبني حول المرأة سياجاً من الستر في كل شيء حتى في التكاليف.
ونلحظ على سياق الآية هنا أيضاً أنه قدَّم المغفرة على الأجر؛ لأن القاعدة كما قُلْنا: إن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، والحق سبحانه يُعد لعباده الأجر على الحسنة التي فعلوها، مع أنه سبحانه لا ينتفع منها بشيء إنما يعود نَفْعها على المكلَّف نفسه، ’فهو يستفيد بالطاعة وينال عليها الأجر في الآخرة.
أما الحق سبحانه فغنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، واقرأ الحديث القدسي: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً» .
إذن: نحن المستفيدون من التكاليف، ففيها صلاحُنَا في الدنيا، ثم نأخذ عليها الأجر يوم القيامة.
لذلك نجد الكثير من الرسل يقولون لأقوامهم: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... } [الشعراء: 109] كأنه يقول: الذي أؤديه لكم من تبليغ دعوة الله في عرف الاقتصاد والتبادل يقتضي أنْ آخذَ عليه أجراً؛ لأنني أؤدي لكم خدمة، لكن ماذا سآخذ منكم أيها العرايا وأجري عالٍ لا يقدر عليه المكلَّف {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [يونس: 72] فهو(19/12035)
وحده القادر على أنْ يجازيني بما أستحق.
ووَصْف الأجر بأنه عظيم يدلُّ على كِبَر في الحجم، ونَفَاسة في الصفات، وامتداد في الزمن، وهذه هي عناصر العظمة في الشيء، وأيُّ أجر عظيم من أجر الله لعباده في الآخرة؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ... } .(19/12036)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
جمعتْ هذه الآية أيضاً بين المذكر والمؤنث في {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ... } [الأحزاب: 36] فهي امتداد للآية السابقة، فهي تخدم ما قبلها، وتخدم أيضاً ما بعدها، وما به أصل السبب؛ لأنها نزلتْ في عبد الله بن جحش وأخته زينب، حين رفضا زواج زينب من زيد بن حارثة، فالمؤمن عبد الله بن جحش، والمؤمنة أخته زينب من حيث هما سبب لنزول الآية، وإلا فهي لجميع المؤمنين وجميع المؤمنات.
وسبق أنْ ذكرنا قصة زيد بن حارثة، وملخصها أنه سُرِق من أهله، وبِيع في سوق العبيد على أنه عبد، فاشتراه حكيم بن حزام،(19/12036)
ثم وهبه للسيدة خديجة أم المؤمنين، فوهبته خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فصار مَوْليً لرسول الله.
وبينما هو ذات يوم بالسوق، إذ رآه جماعة من قومه فعرفوه، وأخبروا أباه أنه بالمدينة، فجاءه أبوه وأعمامه، وحكَوْا لرسول الله قصته، وطلبوا عودته معهم، فقال رسول الله: خيِّروه، فإن اختاركم فهنيئاً لك، وإن اختارني، فَمَا كان لي أنْ أُسْلِمه، فردَّ زيد وقال: والله ما كنت لأختار على رسول الله أحداً.
فأراد سيدنا رسول الله أنْ يكافيء زيداً على هذا التصرف، فنسبه إليه على عادة العرب في هذا الوقت، فسمَّاه زيد بن محمد.
فلما أراد الحق سبحانه أن ينهي هذه العادة، ومثلها عادة الظهار، نزل قوله سبحانه: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ... } [الأحزاب: 4] .
فكما أن الرجل لا يكون له إلا قلب واحد، كذلك لا يكون له إلا أب واحد، وشاء الله أنْ يبدأ بمُتَبنَّي رسول الله؛ ليكون نموذجاً تطبيقياً عملياً أمام الناس، وكانت هذه الظاهرة يترتب عليها أنْ يرث المتبنَّي من المتبنِّي بعد موته، وأنْ تُحرم زوجة المتبنَّي أنْ يتزوجها المتبنِّي.
صحيح أن القضاء على هذه العادة قضاءٌ على نظام اجتماعي فاسد موجود في الجزيرة العربية، لكنه في الوقت نفسه دليل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تبنَّي كما يتبنَّى العرب، وأن الله تعالى أبطل من(19/12037)
رسول الله هذا التصرّف؛ وهذا سيفتح الباب أمام معاندي رسول الله أنْ يَشْمتوا فيه، وأن تتناوله ألسنتهم؛ لذلك عالج الحق سبحانه هذه القضية علاج ربٍّ بإنفاذ الأمر في نُصْرة حبيب له، فلم يُشوِّه عمل الرسول، إنما جعل فِعْله عَدْلاً، وحكمه سبحانه أعدل، فقال: {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ... } [الأحزاب: 5] .
والمعنى: إنْ كُنتم جعلتم من العدل والمحبة أنْ تكفلوا هؤلاء الأولاد، وأنْ تنسبوهم إليكم، فهذا عَدْل بشريٌّ، لكن حكم الله أعدل وأقْسَط، وشرفٌ لرسول الله أنْ يردَّ اللهُ حكمه إلى حكم ربه، وشرفٌ لرسول الله أن يكون له الأصل في المسألة، وأنه يحكُم، فيردّ الله حكمه إلى حكمه، فهذا تكريم لرسول الله.
فقوله تعالى {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ... } [الأحزاب: 5] يعني: أن فِعْل محمد كان قسْطاً وعَدْلاً بقانون البشر، وقد جاء محمد ليُغيِّر قوانين البشر بقوانين ربِّ البشر، وبهذا خرج سيدنا رسول الله من هذا المأزق.
أما زيد فقد عوَّضه الله عما لحقه من ضرر بسبب انتهاء نسبه إلى رسول الله، فصار زيد بن حارثة بعد أنْ كان زيد بن محمد، عوَّضه الله وأنصفه بأنْ جعله العَلَم الوحيد من صحابة رسول الله الذي ذُكر اسمه في القرآن الكريم بنصِّه وفصِّه، فقال سبحانه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ... } [الأحزاب: 37] فَخُلَد زيد في كتاب يُتْلى، ويُتعبد بتلاوته إلى يوم القيامة.
وعلاقة زيد بن حارثة بما نحن بصدده من قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ... } [الأحزاب: 36] أنه تزوج من السيدة زينب بنت جحش، زوَّجه إياها رسول الله، وقد نزلتْ هذه الآية في زينب،(19/12038)
وفي أخيها عبد الله.
ومعنى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ ... } [الأحزاب: 36] معنى (ما كان) أي: أنه شيء بعيد، لا يمكن أنْ يَرِد على العقل، أي: أنه أمر مُسْتبعد غير مُتصوَّر، وكان المنفية تدل على جَحْد هذه المسألة، فالمؤمن والمؤمنة، ما دام أن الإيمان باشر قلبيهما لا يمكن أنْ يتركا أمر الله وحكمه، أو أمر رسوله إلى اختيارهما.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ ... } [الأحزاب: 36] وإلا فلا إيمانَ لا بالله، ولا برسول الله.
فإنْ قُلْتَ: كيف وقد أثبتَ الله الاختيار؟ نقول: هناك فرق بين اختيارٍ داخل في التكليف، إنْ شئْتَ فعلْته أو لم تفعله، وشيء في إيجاد التكليف بداية، فليس للعباد دخْل في إيجاد الشيء المكلَّف به، إنما إذا كلَّفتهم أنا، فأنا صاحب التكليف، وكونهم يطيعونه أو لا يطيعونه، فهذا أمر آخر، ليس للعباد أن يقترحوا التكليف على هواهم؛ لأن التكليف لي، ولهم الاختيار في طاعته وفي قبوله، وما دام قد ثبت أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسول الله فكان من الواجب عليهم أنْ يرتضوا الأمر، وألاَّ يُعرضوا عنه إلى غيره.
وقصة طلاق زيد وزينب، ثم زواج سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منها(19/12039)
قصة خاضَ فيها المستشرقون والمغرضون كثيراً، وتجرأوا على سيدنا رسول الله بكلام لا ينبغي في حقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومن قولهم أن محمداً أحبَّ زينب وأرادها لنفسه، فأمرها أن تشاغب زيداً حتى يطلقها فيتزوجها.
ونقول لهؤلاء الأغبياء: أولاً زينب بنت جحش الأسدية هي بنت عمة رسول الله، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُكلَّفاً بإدارة أموالها ورعاية شئونها، وقد نشأتْ تحت عينه، ولو أرادها لنفسه لتزوَّجها بداية، وهذا بنصِّ القرآن:
{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ ... } [الأحزاب: 37] فإن أردت أن تعرف ما أخفاه رسول الله فخذه مما أبداه الله والذي أبداه الله قوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ ... } [الأحزاب: 37] وهذا يهدم كلَّ ادعاءاتكم على رسول الله.
أما قولهم بانشغال قلب رسول الله بزينب، فنقول: ولماذا تجعلون انشغالَ قلب محمد انشغالاً جنسياً؟ ولوتتبِعتُم القصة من أولها لظهر لكم غير ذلك، فحينما أرسل رسول الله مَنْ يخطب زينب ظنَّ أخوها عبد الله وأختها حَمْنة أنه جاء ليخطبها لرسول الله، فلما علموا أنه يخطبها لمولاه زيد غضبوا جميعاً، فكيف تتزوج السيدة القرشية وبنت عمة رسول الله من عبد، لكن لما علموا أن الأمر من الله أذعنُوا له ووافقوا.
ثم بعد أنْ تزوجتْ زينب من زيد تعالتْ عليه، بل وشعر أنها تحتقره لهذا الفارق بينهما، فكان زيد يشتكي لرسول الله سوءَ معاملة زوجته له، وأنها كما نقول (منكدة عليه عيشته) ، وأنها تعيش معه في بيت الزوجية بالقالب لا بالقلب، لكن حبه لرسول الله كان يمنعه من طلاقها، وهو أيضاً لا يريد أن يخسر هذا الشرف الذي ناله(19/12040)
بالزواج من ابنة عمة رسول الله.
وكان سيدنا رسول الله في كل مرة يشتكي فيها زيدٌ من زينب يقول له {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله ... } [الأحزاب: 37] ولو أرادها الرسول لنفسه لقال له طلِّقها، ولوجد الفرصة أمامه سانحة.
ويجب أن نبحث هنا علاقة المرأة بالرجل، فالخالق سبحانه خلق الرجل للمرأة، والمرأة للرجل؛ لذلك نجد المرأة العربية أم إياس، وهي تُوصي ابنتها لما خطبها الحارث، تقول: «أيْ بُنية، إنك لو تُركْتِ بلا نصيحة لكنت أغنى الناس عنها، ولو أن امرأة استغنتْ عن الزوج لغني أبويها وشَدَّة حاجتهما إليها لكنتِ أغنى الناس، ولكن الرجال للنساء خُلِقْن، ولهُنّ خُلِق الرجال، وأن النصيحة لو تركتْ لفضل أدبٍ لتركت لذلك منك، ولكنها تذكرةٌ للغافل ومعونة للعاقل» .
وقلنا: إن الإنسان يستطيع أنْ يعيش أفضل ما يكون من مأكل ومَشْرب وملبس ومسكن، لكنه مع ذلك لا يستغني بحال عن الزوجة والمرأة كذلك؛ لذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرتُ الزوجة أن تسجد لزوجها» .
لماذا؟ لأن الزوج يعطيها ما يعطيه الأب والأم والإخوة، ويزيد على ذلك مما يقدرون ولا يستطيعون.
الشاهد أن المرأة للرجل، والرجل للمرأة، مهما وضعوا من أسوار من عِزٍّ أو من جبروت، أو غيره.(19/12041)
إن المسألة بالنسبة لزيد كانت صعبة؛ لأن الله تعالى جعل للزواج ثلا مراحل، وردتْ في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ... } [الروم: 21] .
فالأولى أنْ يسكن الزوج إلى زوجته، وأنْ يطمئن إليها، ويرتاح بجوارها حين تمسح عنه عرقه، وتحتويه بعد تعب اليوم ومشاق الحياة، فإن امتنع السَّكَن بسبب مُنغِّصات للحياة، فليكُنْ بينهما مودة تجمعهما، ولِمَ لا، وأنت حين تصاحب صديقاً مثلاً مدة طويلة تجد له مودة في قلبك، وتجد أن لهذه المودة ثمناً، فتتحمله إنْ أخطأ، وتسامحه إنْ أساء، فما بالك بالزوجة، أليست أحق بهذه المودة؟
فإذا ما فُقِدَت المودة أيضاً، فليبْقَ بين الزوجين التراحم، فليرحم كل منهما الآخر إنْ أصابه الكِبَر أو المرض، أو غير ذلك.
وقد وصل زيد مع زينب إلى مرحلة فقد فيها السَّكَن والمودة والرحمة بسبب ما بينهما من فارق.
أمر آخر، إنْ كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد فكَّر في أمر زينب، فلماذا تعدلون به إلى التفكير في الغريزة؟ ولماذا لا تعدلون به إلى مرتبة الإنصاف، وهو الذي أرغم زينب على الزواج من زيد، وهي الشريفة القرشية، وهو العبد المملوك، فلما وضعها في هذا المأزق أراد أنْ يُطيِّب خاطرها، ويصلح ما كان منه بأنْ يضمها إليه، فتصير إحدى أمهات المؤمنين.
ثم مَنِ الذي منع رسولاً قال الله عنه أنه بشر من أن تكون له هذه الرغبة، وكل الرسل السابقين كان لهم هذه - هذا على فرض رغبة رسول الله في زينب - لكن الناس لم يُحسِنُوا الظن.(19/12042)
والذي يدلُّنا على أن هذه المسألة كانت ترتيباً ربانياً صِرْفاً ما نجده من الرياضية الإيمانية بين كل من سيدنا رسول الله، ومولاه زيد، وابنة عمته زينب، فقد جمعهم الثلاثة رياضة إيمانية كما نقول نحن الآن: فلان عنده روح رياضية.
يعني: يتقبل الهزيمة بروح عالية بدون عداوات أو أحقاد، فلقد انصاع الجميع لأمر الله بهذه الروح الإيمانية.
أما الذين يأخذون من قوله تعالى في حق رسوله {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب: 37] يأخذونها سُبَّة في حقِّ الرسول، فعليهم أنْ يعلموا أنَّ الخشية نوعان: خشية من شيء تخاف أنْ يضرك، وخشية استحياء، فالخشية في {وَتَخْشَى الناس ... } [الأحزاب: 37] خشية استحياء، ويكفي أن الحق سبحانه قال في حق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ... } [الأحزاب: 53] .
فالخشية هنا تعني خَوْف رسول الله من ألسنة الكفار التي ستخوض في حقه، والتي ستقول إن محمداً تزوَّج من امرأة مُتبنَّأه، لكن غاب عن هؤلاء أن الله تعالى ألغي مسألة التبني، فليس لهم(19/12043)
حجة، وطبيعي أن يخاف رسول الله من ألسنة الكفار؛ لأنه جاء لنقض عادات وتقاليد جاهلية، وكان هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول مَنْ تحمَّل تبعة هذا التغيير؛ لأنه جاء على يديه وفي شخصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وسيدنا رسول الله حين يستحي من زواجه من زينب أو من كلام الناس، فإنما يريد أنْ يبريء عِرْضه وساحته، مما يشين، وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدفع الشبهة عن نفسه دائماً، لذلك
«لما رآه بعض أصحابه مع امرأة، فمالوا عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خشيةَ أنْ يتسببوا له في حرج، فناداهما رسول الله:» على رِسْلكما إنها صفية «فقالوا: نحن لا نشك فيك يا رسول الله، فقال:» إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم «» .
فرسول الله يريد أن ينفض عن نفسه أيَّ شبهة، يريد ألا يجعل لأحد جميلاً عليه، بأنه ستر على رسول الله.
ولا أدلَّ على حيائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قصته مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح، فلما دخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكة فاتحاً ومنتصراً كان قد أهدر دم عبد الله بن سعد بن أبي السرح؛ لأنه نال كثيراً من رسول الله، فجاء عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يستأمن لعبد الله من رسول الله - يعني: يطلب له الأمان - فما ردَّ عليه رسول الله، وكان ينتظر أن يقوم رجل من القوم فيقتل عبد الله، لكن عثمان أعادها مراراً على(19/12044)
رسول الله حتى أنه استحي من عثمان فأمِّن عبد الله، فلما أمَّنه أخذه عثمان وانصرف من مجلس رسول الله.
فقال رسول الله لصحابته: «ألم يكن فيكم رجل رشيد يقوم إليه فيقتله؟» يعني: قبل أن يُكلِّمه عثمان فيكون قد سبق السيف العذل كما يقولون، فقام عبد الله بن بشر وقال: يا رسول الله، لقد كانت عيني في عينك، أنتظر إشارة منك لأقتله، لكنك لم تفعل، فقال سيدنا رسول الله - انظر إلى العظمة «ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين» .
أذكر أنه كان لنا أستاذ، هو سيدنا الشيخ موسى شريف رَحِمَهُ اللَّهُ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وكان رجلاً له مدد من الله، وقد فسر لنا هذه الآية، وكنا نذاكر دروسنا قبل أن نحضر درسه، وكان يصطفيني من بين إخواني الموجودين أمثال الشيخ حسن جاد، والدكتور خفاجة وأبي العينين وغيرهم، ليسألني عن مذاكرتنا وما وقف أمامنا من قضايا، فناداني وكان قد علم من أبي اسم أمي، فناداني بها فتقدَّمت إليه، فضربني على قفاي ضربة انحلَّتْ معها القضية التي كانت تقف أمامنا، تماماً كما تضرب الذي يعاني من (الزغطة) ضربة على ظهره فتذهب.
ولما حدَّثنا الشيخ عن قصة سيدنا عثمان هذه جاء في اليوم التالي وقال: يا أولاد، رأينا الليلة سيدنا عثمان بحيائه، فقلت له:(19/12045)
كيف تستأمن لرجل قال في رسول الله كذا وكذا؟ فقال لي: ألاَ تعلم أن الله يحب مَنْ تاب، فقلت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يقل: «أنا رأيت رسول الله - ما الذي جعلك تقبل شفاعة عثمان؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟
فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بطبيعته كان شديد الحياء.
ثم يقول تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً} [الأحزاب: 36] وهنا ثلاثة توكيدات: قد الدالة على التحقيق وبعدها الفعل الماضي، ثم المفعول المطَلق ضلالاً، ثم وصف هذا الضلال بأنه مبين.
والضلال هو عدم الاهتداء إلى الطريق المؤدِّي إلى الغاية، لكن قد يضلّ إنسانٌ طريقه، ثم يأتي مَنْ يفتح عليه ويدلُّه، أما هذا الذي يعصي الله ورسوله، فضلاله ضلال مبين لا يجد مَنْ يدلُّه، ولا مَنْ يهديه أبداً؛ لأن هذا الطريق الذي يسير فيه مُوصِّل إلى الآخرة، وليس هناك شيء من ذلك.
كانت هذه (لقطة) لسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع عثمان وعباد بن بشر أوضحتْ صفة الحياء في رسول الله، نعود بعدها إلى ما كنا بصدده من الحديث عن الرياضة الإيمانية التي جمعتْ بين رسول الله وكل من زيد وزينب.(19/12046)
وكان سيدنا رسول الله إذا غاب زيد يذهب فيسأل عنه، فذهب مرة، فرأى زينب منشغلة في أمور بيتها، وكانت زينب على حالة طيبة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تبارك الله أحسن الخالقين» كما ترى مثلاً ابنتك في مظهر حسن، فتقول: ما شاء الله.
وكأن رسول الله أراد أنْ يُطيِّب خاطرها، أو يرفع من روحها نظير ما أجبرها عليه من الزواج بزيد، ونظير أنها تعيش معه على مضض، فلما جاء زيد قالت له: لقد جاء رسول الله وسأل عنك وقال لي: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال لها: يا زينب أرى أنْ تكوني لرسول الله؛ لأنك وقعت في قلبه، وأرى أنْ أُطلِّقك ليتزوجك رسول الله، فبدا عليها الارتياح، وتعجبتْ كأنها لم تصدق: إذا طلَّقْتني أتزوج برسول الله، كان هذا الحوار مجرد كلام.
وبالله لو قيل هذا الكلام في غير هذا الموقف، ولواحد غير زيد لغلي الدم في عروقه، وفعل ما أفعل، إنما تأمل الرياضة الإيمانية التي تحلَّي بها زيد.
يقول تعالى في هذه المسألة: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ ... } .(19/12047)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
معنى {وَإِذْ تَقُولُ ... } [الأحزاب: 37] واذكر جيداً وأدِرْ مسألة زيد في رأسك، اذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه بالإيمان - والمراد زيد وأنعمتَ عليه بالعتق أولاً، وأنعمت عليه بقانون البشرية بأنْ جعلْتَه ابناً لك وأنعمتَ عليه بأن زوَّجته، وهو عبد، من قرشية، هي ابنة عمتك، ثم أنعمتَ عليه حين قُلْت له {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله ... .} [الأحزاب: 37] .
لكن، لماذا قُلْتَ له هذه الكلمة يا محمد؟ أخوفاً من كلام الناس أنْ يقولوا: تزوَّج من امرأة مُتبنَّاه؟ كيف وهذا مقصود من الله تعالى، إنه يريد أن يُنهي عادة التبني، وأنْ يُنهيها على يدك أنت، فأنت تخفيه خوفاً من كلام الناس، وقد أبداه الله حين أخبرك بهذه المسألة، وأن نهايتها ستكون على يديك بأنْ تتزوج امرأة مُتبنَّاك {والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب: 37] فدعْكَ من الناس.
لذلك قال سبحانه في موضع آخر: {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله ... } [الأحزاب: 39] .
وسبق أن أوضحنا أن خشيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم تكن خشية خوف من شيء يضره، إنما خشية استحياء ليدفع رسول الله الشبهة عن نفسه.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ... } [الأحزاب: 37] الوطر: هو الأشياء التي تناسب معاش الرجل، فمعناه الغاية أو الحاجة، وسبق أن قُلْنا: إن وطر الرجل من زوجته أن تكون سكناً، فإن لم يكُنْ، فمودة تجمعهما، فإنْ لم يَكُنْ فرحمة متبادلة.
وقد افتقد زيد في زوجته كل هذه المراحل، فلم يجد معها، لا السكن، ولا المودة، ولا الرحمة، فلماذا - إذن - يستمر في الارتباط بها؟ لذلك كان يذهب إلى رسول الله، فيشتكي له ما يلاقي(19/12048)
من زينب، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول له:
{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله ... .} [الأحزاب: 37] .
وتأمل هنا هذه الرياضة الإيمانية بين سيدنا رسول الله وزيد وزينب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما طلِّق زيدٌ زينب تركها رسول الله لتقضي عدَّتها، فلما قضتْ العِدَّة قال: يا زيد اذهب إلى زينب فاخطبها عليَّ، فما هذه العظمة؟ رسول الله يبعث المطلق ليخطب له المطلَّقة، وهذا يدل على ثقته في زيد، وأنه قد قضي وطره من زينب، ولم يَعُدْ فيها حاجة.
ويدخل زيد على زينب، فيقول لها: أبشري يا زينب، لقد بعثني رسول الله لأخطبك له، فقالت: والله لا أجيب حتى أسجد شكراً لله، فقامت زينب فسجدتْ، عندها عاد زيد إلى رسول الله، فأخبره ما كان من زينب فجاءها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فدخل عليها بلا استئذان.
تُرى لماذا يدخل عليها سيدنا رسول الله بلا استئذان؟ قالوا لأنها حينئذ صارت زوجته، كما قال سبحانه {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا.
. .} [الأحزاب: 37](19/12049)
أي: زوَّجه الله بها من فوق سبع سماوات.
لذلك كانت السيدة زينب حين تجلس مع زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهذه أيضاً من الرياضيات الإيمانية - تقول لهن: إني لأفتخر عليكن جميعاً بأنك زوجكُنَّ أولياؤكن، أما أنا فزوَّجني ربي، فلا تجرؤ إحداهن على الردِّ عليها.
ليس هذا فحسب، إنما تُدِلُّ أيضاً على سيدنا رسول الله، فتقول له: يا رسول الله، أنا أُدِلُّ عليك بثلاث، فيضحك سيدنا رسول الله ويقول: أما الأولى؟ فتقول: أما الأولى فجدِّي وجدُّك واحد، وأما الثانية فلأن الله زوَّجني من فوق سبع سماوات، وأما الثالثة فلأن سفيري في الزواج لم يكُن زيداً، إنما كان جبريل.
فأيُّ عظمة هذه التي نلاحظها في هذه القصة، وأيُّ رياضة إيمانية عالية من رسول الله وصحابته؟
إذن: لم يتزوج رسول الله من زينب، إنما زوَّجه ربه؛ لذلك نقول للمغرمين بالخوض في هذه المسألة، يحسبونها سُبَّة في حق رسول الله: افهموا الفرق بين زُوِّج وتزوج. تزوج أي: بنفسه(19/12050)
وبرغبته، إنما زُوِّج أي زوَّجه غيره، وكلمة {زَوَّجْنَاكَهَا ... } [الأحزاب: 37] تحتوي على الفعل زوَّج والضمير (ن) فاعل يعود على الحق سبحانه، والكاف لخطاب رسول الله، وهي مفعول أول، والهاء تعود على السيدة زينب، وهي مفعول ثانٍ للفعل زوَّج.
فرسول الله في هذه المسألة، وفي كل زوجاته لم يخالف عن أمر الله. فلتكونوا منصفين؛ لأن المسألة ليستْ عند محمد، إنما عند رب محمد، واقرأوا إن شئتم: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] .
ثم هَبُوا - جدلاً - أن محمداً فعلها، ما العيب فهيا وقد كان التعدُّد موجوداً، ولم ينشيء رسول الله تعدُّداً، كان التعدُّد موجوداً في الأنبياء والرسل، وفيكم وعندكم.
أما الذين يتهمون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه وسَّع على نفسه، فتزوَّج تسعاً، وضيَّق على أمته بأربعة، فالرد على ذلك أن الله تعالى حكم بأن زوجات الرسول أمهاتٌ للمؤمنين، وما دُمْنَ أمهات للمؤمنين، فليس لأحد أنْ يتزوَّجهُنَّ بعد رسول الله، أمّا غيرهن من المؤمنات فإنْ كان مع الرجل سبعة مثلاً، فعليه أنْ يفارق ثلاثة منهن، وهؤلاء الثلاثة سيجدْنَ مَنْ يتزوج بهنَّ، إذن: على الرسول أنْ يُمسِك زوجاته كلهن، وعلى غيره من المؤمنين أنْ يفارقوا ما زاد على أربع.(19/12051)
شيء آخر: تظنون أن رسول الله وسَّع الله له هذه المسألة، والحقيقة أن الله ضيَّق عليه إذا ما قارناه بغيره من عامة المؤمنين، فالمؤمن له أنْ يمسك أربعَ زوجات، فإذا ماتت إحداهن تزوج بأخرى، وإنْ طلَّق إحداهن تزوج بدلاً منها، فإن مُتْنَ جميعاً أو طلَّقهن، فله أنْ يتزوَّج غيرهن حتى يكمل الأربعة، وهكذا يكون للمؤمن أن يتزوَّج بعدد كثير من النساء.
أما رسول الله - نعم تزوج تسعاً - لكن خاطبه ربه بقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] فمَن الذي ضيِّق عليه إذن؟ محمد أم أمته؟
ثم يا قوم تنبهوا إلى الفرق بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود، هل استثني الله نبيه في العدد من أربع إلى تسع، أم استثناه في معدود بذاته، استثناه في المعدود لا في العدد، لأنه لو استثناه في العدد لكان له إذا ماتتْ إحدى زوجاته أنْ يتزوَّج بأخرى، إنما وقف به عند معدود بذاته، بحيث لو ماتوا جميعاً ما كان له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنْ يتزوَّج بعدهن.
وبعد ذلك أظلَّ الحكمُ على رسلو الله هكذا؟ لا، إنما كان في بداية الأمر وبعد ذلك حينما استقرتْ الأمور وأَمِن الله رسولَه قال له: افعل ما تشاء، لأنك مأمون على أمتك.(19/12052)
ثم نقول: هَبُوا أن رسول الله له اختيار في هذه المسألة، ولم تكن مُسْبقة، ألم يُؤدِّ فِعْلُه هذا إلى إلغاء عادة التبني؟ ثم أنُزِعَتْ الرسالة من رسول الله بعد أنْ فعل ما فعل؟ إذن: لا يتناقض مراد الله ومراد رسول الله.
والذين تناولوا سيدنا رسول الله في هذه المسألة مثل الذين تناولوا سيدنا يوسف - عليه السلام - لما قال الله فيه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ... } [يوسف: 24] وكأنهم أكثر غيرةً على يوسف من ربه عَزَّ وَجَلَّ، نعم همَّ بها يوسف أي: فكَّر فيها أو غير ذلك، ولن نقول لكم على الصواب لتظلوا في حيرتكم، لكن أنزعَ الله منه الرسالةَ بعد ما همَّ بها؟ إذن: همُّه بها لم يناقض الرسالة، فما تقولونه في هذه المسألة فضول منكم.
ثم تأتي العلة في هذه المسألة {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً ... } [الأحزاب: 37] ثم تختم الآية بما لا يدع مجالاً للشك في رسول الله: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] أي: لا بُدَّ أن يحدث، ولن يترك لأيِّ شخص آخر، حتى لا تفسد القضية في إلغاء عادة التبني، إذن، فزواج رسول الله من امرأة مُتبنَّاه ما كان إلا لرفع الحرج عن جميع المؤمنين، والآن يصح لكل مُتبنٍّ أن يتزوج امرأة مُتبنَّاه.(19/12053)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ ... } [الأحزاب: 38] أي:(19/12053)
إثم أو ملامة {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ ... } [الأحزاب: 38] أي: كيف تلومون رسول الله على تنفيذ أمر فرضه الله له وتأمل {فَرَضَ الله لَهُ ... } [الأحزاب: 38] أي: لصالحه ولم يقُلْ فرض عليه؟ ما دام أن الله هو الذي فرض هذا، فلتُصعِّدوا الأمر إليه، فليس لرسوله ذنب فيه.
وهذه المسألة تشبه تماماً مسألة الإسراء، فحين أخبر سيدنا رسول الله قومه بخبر الإسراء قالوا: يا محمد أتدَّعي أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وهذا غباء منهم لأن محمداً لم يقل: سريْت إنما قال: أُسْرِي بي. فالذي أسري به ربه - عَزَّ وَجَلَّ - إذن: المسألة ليست من فعل محمد، ولكن من فعل الله.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً توضيحياً - ولله المثل الأعلى - قُلْنا: هَبْ أن رجلاً قال لك: أنا صعدتُ بولدي الصغير قمة (إفرست) أتقول له: كيف صعد ولدك قمة (إفرست) ؟
لكن انتفعنا الآن بقول المكذِّبين: أتدَّعي يا محمد أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؛ لأن غباء المكذِّب يؤدي به إلى عكس ما قصده من غبائه، فهذا القول اتخذناه الآن دليلاً للرد على مَنْ يقولون بأن الإسراء كان رؤيا، أو كان بالروح دون الجسد.
فلو قال رسول الله: رأيتُ في الرؤيا أني أتيتُ بيت المقدس ما(19/12054)
قالوا هذه المقالة، إذن: فَهِمَ القومُ أن رسول الله أتي بيت المقدس بروحه وجسده، وإلا ما قارنوا بين ذهابهم وذهابه، فالذين عاصروا هذه الحادثة قالوا هذه المقالة، فكيف نأتي اليوم لنقول: إن الإسراء كنا مناماً، أو كان بالروح دون الجسد؟
وقوله تعالى: {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ... } [الأحزاب: 38] أي: إخوانه من الرسل السابقين، أو فيما كان قبل الإسلام من التعدُّد، فلم يكُنْ رسول الله بدَعاً في هذه المسألة.
{وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] تلحظ أن الآية السابقة خُتِمَتْ بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] فلقائل أن يقول نعم مفعولاً في هذا الوقت الذي حدثتْ فيه هذه الأحداث؛ لذلك قال هنا {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] أي: أن ما حدث لرسول الله كان مقدراً أزلاً، ولا شيء يخرج عن تقدير الله، وقد صَحَّ أن القلم قد جَفَّ على ما كُتِب، وعلى ما قُدِر.(19/12055)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
وكأن الحق سبحانه يُعيدنا إلى قوله تعالى في نبيه محمد: {وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } [الأحزاب: 37] فالرسل(19/12055)
لا يخشوْنَ شيئاً في البلاغ عن الله، فكأنه تعالى نفى عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تكون خشيته في البلاغ، إنما خشيته استحياؤه مخافة أنْ تلوكه ألسنة قومه، وإلاَّ فَهُمْ لا يملكون له شيئاً يضره أو يخيفه.
نلحظ هنا أن {الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله ... } [الأحزاب: 39] هذه العبارة مبتدأ لم يُخبر عنه؛ لأن قوله تعالى {وكفى بالله حَسِيباً} [الأحزاب: 39] ليس خبراً لهذا المبتدأ، إنما هو تعليق عليه، فأين خبر هذا المبتدأ؟ قالوا: تقديره، الذين يُبلِّغون رسالات الله. . لا يمكن أنْ يُتَّهموا بأنهم خشنوا الناس من أجل البلاغ.
{وكفى بالله حَسِيباً} [الأحزاب: 39] أي: أنكم لن تحاسبوهم، إنما سيحاسبهم الله، وكان مقتضى الحساب مع رسول الله إنْ فعل ما لا يصحّ منه أنْ تسحب منه الرسالة، وأنْ يأتي الله بنبي آخر، ولم يحدث شيء من هذا.
ثم يعود السياق إلى أمر آخر في قضية التبني، فيقول سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ... } .(19/12056)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قال سبحانه {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ... } [الأحزاب: 40] لأن علاج قضية التبني أهمُّ من أُبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأحد منكم أن يكون أبوه رسول الله؛ لأن أبوته لآخر لا تنفعه بشيء، إنما ينفعه البلاغ عن الله، وأن يحمل له منهج ربه الذي يسعده في دينه ودنياه.(19/12056)
إذن: ففرحكم برسول الله كرسول أَوْلَى من فرحكم به كأب، وإلاَّ فما أكثر من لهم آباء، وهم أشقياء في الحياة لا قيمة لهم.
وقوله {مَّا كَانَ ... } [الأحزاب: 40] النفي هنا يفيد الجحود، فهو ينكر ويجحد أنْ يكون محمدا أَباً لأحد من رجالكم، وتأمل عظمة الأداء القرآني في كلمة {مِّن رِّجَالِكُمْ ... } [الأحزاب: 40] ولم يَقُلْ مثلاً أبا أحد منكم، لماذا؟ قالوا: لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أباً لعبد الله وللقاسم ولإبراهيم، وكانوا جميعاً منهم، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبوهم، فجاءت كلمة {رِّجَالِكُمْ ... } [الأحزاب: 40] لتُخرج هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم لم يبلُغوا مبلغ الرجال، فمحمد ما كان أبداً أبا أحد من الرجال، وإنْ كان أباً لأولاد صغار لم يصلوا إلى مرحلة الرجولة.
وقوله {ولكن ... } [الأحزاب: 40] أي: أهم من أُبوَّته أن يكون رسول الله {ولكن رَّسُولَ الله ... } [الأحزاب: 40] ليس هذا فحسب، ولكن أيضاً {وَخَاتَمَ النبيين ... } [الأحزاب: 40] أي: الرسول والنبي الذي يختم الرسالات، فلا يستدرك عليه برسالة جديدة.
وهذه من المسائل التي وقف عندها المستشرقون معترضين، يقولون: جاء في القرآن: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ... } [آل عمران: 81] .
ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ضمن الأنبياء الذين أُخذَ عليهم هذا العهد، بدليل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ... } [الأحزاب: 7] .
إذن: أخذ الله العهد على الأنبياء أنه من ضمن مبادئهم أنْ يُبلِّغوا قومهم بمقدم رسول جديد، وأنه إذا جاءهم عليهم أن يؤمنوا به، وأنْ ينصرونه، كما بشَّر مثلاً عيسى عليه السلام برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(19/12057)
فقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ ... } [الصف: 6] .
فكيف يخبر الله عن محمد أنه خاتم النبيين وهو واحد منهم؟ نقول: نعم هو واحد منهم، لكن إنْ كانوا قد أُمِروا بأنْ يُبشِّروا وأنْ يُبلغوا أقوامهم برسول يأتي، فقد أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَبلِّغ قومه أنه خاتم الأنبياء والرسل.
لذلك يُرْوَى أن رجلاً ادَّعَى النبوة في زمن المأمون، فأمر به فَوُضِع في السجن، وبعد عدة أشهر ظهر رجل آخر يدعي النبوة، فرأى المأمون أن يواجه كل منهما الآخر، فأحضر المدعي الأول وقال له: إن هذا الرجل يدَّعي أنه نبي، فماذا تقول فيه؟ قال: هو كذاب؛ لأنني لم أرسل أحداً - فارتقى إلى منزلة الألوهية، لا مجدر أنه نبي.
والمرأة التي ادَّعَتْ النبوة أيضاً في زمن المأمون لما أوقفها أمامه يسألها قالها لها: ألم تعلمي أن رسول الله قال: لا نبيَّ بعدي؟ قالت: بلى، ولكنه لم يقل لا نبية بعدي!
ثم يختم الحق سبحانه هذه المسألة بقوله: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 40] وما دام أن الله تعالى عليهم بكل شيء فليس لأحد أنْ يعترض؛ لأنه سبحانه هو الذي يضع الرسول المناسب في المكان المناسب والزمان المناسب، وقد علم سبحانه أن رسالة محمد تستوعب كل الزمان وكل المكان.(19/12058)
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين ... } .(19/12059)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
أمرنا ربنا سبحانه بذكره ذِكْراً كثيراً؛ لأن الذكْر عمدة العبادات وأيسرها على المؤمن؛ لذلك نجد ربنا يأمرنا به عند الانتهاء من العبادات كالصلاة والصيام والحج، وجعله سبحانه أكبر فقال {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ... } [العنكبوت: 45] .
والذكر شغل الذاكرة، وهي منطقة في المخ، قُلْنا: إن المعلومة يستقبلها الإنسان في بؤرة شعوره، فإذا أراد أنْ يحفظ بها لحين الحاجة إليها حفظها في الحافظة، أو في حاشية الشعور، فأنت مثلاً ترى شخصاً فتقول: هذا الرجل لم أَرَهُ منذ عشرين سنة، وآخر مرة رأيته كان في المكان الفلاني.
إذن: الذكر لشيء كان موجوداً في بؤرة الشعور، الذكر يعني قضية موجودة عندك بواقع كان لها ساعة وجودها، لكن حصلتْ عنها غفلة نقلتها إلى حاشية الشعور أو الحافظة، بعد ذلك نريد منك ألا تنساها في الحاشية أو في منطقة بعيدة بحيث تحتاج إلى مجهود لتذكرها، إنما اجعلها دائماً في منطقة قريبة لك، بحيث يسهل عليك تذكُّرها دون عناء.
وكذلك ينبغي أنْ يكون ذكرك لله، فهو القضية الحيوية التي ينبغي أنْ تظلَّ على ذِكْر لها دائماً وأبداً، وكيف تنسى ذكر ربك وقد أخذ عليك العهد، وأنت في عالم الذرِّ، وأخذ منك الإقرار بأنه سبحانه(19/12059)
ربُّك، الحق سبحانه خلق العقل ليستقبل المعلومات بوسائل الإدراك، كما قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .
فكأن السمع والبصر هما عُمْدة الحواسِّ، وبهما نعلم ما لم نكُنْ نعلمه حين نزولنا من بطون أمهاتنا، ونحن حين نستقبل المعلومات يظن بعض الناس أن الناس يختلفون في ذلك ذكاء وبلادةً، فواحد يلتقط المعلومة من مرة واحدة، وآخر يحتاج إلى أنْ تعيدها له عدة مرات.
والواقع أن العقل مثل آلة (الفوتوغرافيا) يلتقط المعلومة من مرة واحدة شريطةَ أن يكون خالياً ومستعداً لاستقبالها غير مشغول بغيرها؛ لأن بؤرة الشعور لا تسع ولا تستوعب إلا فكرة واحدة، وهذه المسألة تناولناها في قوله تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... } [الأحزاب: 4] .
فالإنسان الذكي هو الذي لا يشغل باله بأمرين في وقت واحد، ولا يفكر في شيء وهو بصدد شيء آخر، فإذا كانت بُؤْرة الشعور خالية فالناس جميعاً سواسية في التقاط المعلومة.
لذلك، المدرس الموفّق هو الذي يستطيع أنْ يجتذب إليه انتباه التلاميذ، ولا يعطيهم الفرصة للانشغال بغير الدرس، وهذا لا يتأتى إلا بالتلطُّف إليهم وإشراكهم في الدرس بالأسئلة من حين لآخر، ليظل التلميذ متوقعاً لأنْ يسألَ فلا ينشغل، لذلك رأينا أن الطريقة الحوارية هي أنجح طرق التدريس، أما طريقة سَرْد المعلومات فهي تجعل المدرس في وادٍ والتلاميذ في واد آخر، كل منهم يفكر في شيء يشغله.(19/12060)
وسبق أنْ قُلْنا: إن الطالب حين يعلم بأهمية درس من الدروس فيذاكره وهو ذاهب للامتحان وهو يصعد السلم إذا جاءه هذا الدرس يجيب عنه بنصه، لماذا؟ لأنه ذاكره في الوقت الحرج والفرصة ضيقة لا تحتمل انشغالاً ولا تهاوناً، فيلتقط العقل كل كلمة ويُسجِّلها، فإنْ أراد استرجاعها جاءت كما هي، لماذا؟ لأنها صادفتْ العقل خالياً غير مشغول.
وتأمل عظمة الخالق سبحانه في مسألة التذكُّر، فالذاكرة جزء صغير في المخ، فكيف بالطفل الصغير الذي لا يتجاوز الثامنة يحفظ القرآن كاملاً ويُعيده عليك في أيِّ وقت، ونحن نتعجب من شريط التسجيل الذي يحفظ لنا حلقة أو حلقتين.
والقرآن ليس حفظاً فحسب، إنما معايشة، فحروف القرآن ملائكة، لكل حرف منه ملك، والملَك يحب مَنْ يودُّه، فإذا كنتَ على صلة بالقرآن تكثر من تلاوته، فكأنك تود الملائكة، فساعة تريد استرجاع ما حفظت تراصتْ لك الملائكة، وجرى القرآن على لسانك. فإنْ هجرْته هجرك، وتفلَّت من ذاكرتك؛ لذلك حذرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من هجر القرآن، فقال: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تفصياً من الإبل في عقلها» .
وسبق أنْ قُلْنا: إن الذكر هو العبادة الوحيدة التي لا تكلفك شيئاً، ولا تُعطل جارحة من جوارحك، ولا يحتاج منك إلى وقت، ولا إلى مجهود، وليس له وقت مخصوص، فمَنْ ذكر الله قائماً وذكر(19/12061)
الله قاعداً وذكر الله على جَنْبه عُدَّ من الذاكرين - هذا بالنسبة لوضعك - ومَنْ ذكر الله بُكْرة، وذكر الله أصيلاً، أو غدواً وعشياً، أصبح من الذاكرين - هذا بالنسبة للزمان.
ومن قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حْولَ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثلاثين مرة في اليوم كُتِبَ من الذاكرين، ومَنِ استيقظ ليلاً فأيقظ أهله، وصلَّى ركعتين فهو من الذاكرين.
إذن: فذِكْر الله مسألة سهلة تستطيع أنْ تذكر الله، وأنت تعمل بالفأس، أو تكتب بالقلم، تذكر الله وأنت تأكل أو تشرب. . إلخ فذكر الله وإنْ كان أكبر إلا أنه على المؤمن سهل هَيِّن.
وقوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب: 42] التسبيح: هو التقديس، والتقديس هو التنزيه، فعن أيِّ شيء نُنزه الله؟ قالوا: ننزه الله في ذاته، وفي أفعاله، وفي صفاته، فالله تعالى له وجود، ولك أنت وجود، وللنهر وللجبل وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجود ما سواه، وجوده تعالى عن غير عدم، أما وجود ما سواه فوجود عن عدم، هذا في الذات.
أما في الأفعال، فالله تعالى له فِعْل كما أن لك فعلاً، لكن نزِّه ربك أنْ يكون فعله كفعلك، وهذا ما قلناه في حادثة الإسراء والمعراج، وفي الفرق بين سَرَى وأسرى به، فإذا كان الفعل لله تعالى فلا تنظر إلى الزمن لأنه ليس فعلك أنت، بل فعلْ الله، وفعل الله بلا علاج، إنما يقول للشيء: كٌنْ فيكون.
وقلنا: إنه حتى في طاقات البشر نجد الفعل يأخذ من الزمن على قدر قوة فاعله، فالولد الصغير ينقل في ساعة ما ينقله الكبير في(19/12062)
دقيقة، فلو قِسْتَ فعلَ الله بقدرته تعالى وجدت الفعل بلا زمن.
كذلك نُنزه الله في صفاته، فالله تعالى له سمع نُزِّه أن يكون كسمعك، وله وجه نُزِّه أنْ يكون كوجهك. . إلخ كل هذا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11] .
وحين تستعرض آيات التسبيح في القرآن تجدها كثيرة، لكن للتسبيح طابع خاص إذا جاء في استهلالات السور، ففي أول الإسراء: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ... } [الإسراء: 1] .
فبدأت السورة بتنزيه الله لما تحتويه من أحداث عجيبة وغريبة؛ لذلك قال بداية {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ ... } [الإسراء: 1] فالله له التسبيح والتقديس ثابت قبل أنْ يفعل، وسبحان الله قبل أنْ يوجد المسبِّح، كما أنه تعالى خالق قبل أنْ يوجد من خلق، فهو بالخالقية فيه أولاً خلق، كما قلنا في الشاعر: تقول فلان شاعر، هل لأنك سمعت له قصيدة أم هو شاعر قبل أن يقولها؟ هو شاعر قبل أنْ يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال:
والمتتبع لألفاظ التسبيح في القرآن يجد أنه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق المسبِّحين في قوله {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ. .} [الإسراء: 1] ثم بعد أن خلق الله الخَلْق {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض ... } [الحشر: 1] .
وما يزال الخلق يُسبِّح في الحاضر: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض ... } [الجمعة: 1] فتسبيح الله كان وما يزال إلى قيام الساعة، لذلك يأمر الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه أمته ألاَّ يخرج عن هذه المنظومة المسبِّحة، فيقول له: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] .(19/12063)
وجاء الأمر بذكر الله وبعد الأمر بتسبيحه تعالى، وكأنه يقول لك كلما ذكرته: نزِّهه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً، فمن مصلحتك في رحلة الحياة ألاَّ يكون لله مثيل ولا شبيه ولا نظير ولا نِدٌّ؛ لأن الجميع سيكونون تحت عَدْله سبحانه، فتنزيه الله لمصلحَتك أنت أيها المسبِّح.
وسبق أنْ ذكرنا في ذلك قول أهل الريف (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فوجود كبير فوق الجميع يحميك أنْ يتكبر أحد عليه، إذن: عظمته تعالى وكبرياؤه من أعظم النعم علينا، فساعة تُسبِّحه وتُنزِّهه أحمد الله لأنه مُنزَّه، أحمد الله أنه لا شريك له، وأن الناس جميعاً عنده سواء، أحمد الله لأن كلامه وأمره نافذ على الجميع، أحمد الله أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وليس بينه وبين أحد من خَلْقه نَسَب.
وكيف لا نذكر الله ولا نسبّحه ونحمده، وهو سبحانه الذي خلق الخَلْق، وقبل أنْ يخلقهم رتَّب لهم غاياتهم - والخَلْق: إيجاد على تقدير لغاية - بل وأعدَّ لهم ما يخدمهم، فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله، فقبل أنْ يخلقه خلق له.
ثم ما كلفك بمنهجه مباشرة، إنما تركك تربع في نعمه، منذ ميلادك إلى سِنِّ البلوغ بدون تكليف، ومعنى البلوغ أنْ تصل سنَّ الرشد فتُقبل على الله بعقل وفكر، فالدين ليس تقليداً إنما عقدة واقتناع.
وسبق أنْ شبَّهنا نضج الإنسان بنضج الثمرة، فالثمرة لا تحلو إلا حين تنضج بذرتها، وتصير صالحة للإنبات إنْ زُرعت، وهذه من عظمة الخالق سبحانه، ولو أن الثمرة تحلو وتستوي قبل نُضْج(19/12064)
بذرتها لأكلنا الثمار مرة واحدة، ولما انتفع بها أحد بعدنا، ومثَّلْنا لذلك ببذرة البطيخ إن وجدتها سوداء صلبة فاعلم أن ثمرتها استوت وحَلَتْ وصارتْ صالحة للأكل، وهذه المسألة جعلها الخالق سبحانه لحفظ النوع.
شيء آخر: بعد أن بلغتْ سنَّ التكليف، أجاءك التكليف مستوعباً لكل حركة في حياتك؟ أجاء قَيْداً لك؟ حين تتأمل مسائل التكليف تجدها في نطاق محدود أمرك الله فيه بافعل كذا ولا تفعل كذا، وهذه المنطقة لا تشغل أكثر من خمسة في المائة من حركة حياتك، وترك لك نسبة الخمسة والتسعين أنت حُرٌّ فيها، تفعل أو لا تفعل، فأيُّ عظمة هذه {وأيُّ رحمة التي يعاملنا بها ربنا عَزَّ وَجَلَّ} وهذا إنْ دلَّ فإنما يدلُّ على حبِّ الخالق سبحانه لخَلْقه وصنعته. أفلا يستوجب ذلك منَّا ألاَّ نغفل عن ذكره، وأن نكثر من تسبيحه وشكره، في كل غدوة وعشية.
والأعظم من هذا كله أنه - سبحانه وتعالى - جعل ذكْرك له وتسبيحك إياه لصالحك أنت، وفي ميزانك؛ لذلك قال في الآية التي بعدها: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... } .(19/12065)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
معنى {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ... } [الأحزاب: 43] الصلاة هي الدعاء، والدعاء لا يكون إلا بطلب الخير للداعي، ولا يدعو إلا قادر على هذا الخير، وعليه كيف نفهم هذا المعنى؟ أيدعو ربنا نفسه تبارك(19/12065)
وتعالى؟ قالوا: إذا كانت نهاية الصلاة طلبَ الخير، وهذا الخير إذا طلب حصل، فالحق سبحانه هو الداعي، وهو الذي يملك مفاتح الخير كله، فهو الذي يُصلِّي عليكم، وهو الذي يعطيكم، وهو الذي يرحمكم.
وأيضاً يُصلِّي عليكم الملائكة {وَمَلاَئِكَتُهُ ... } [الأحزاب: 43] وقد أخبرنا سبحانه عنهم أنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] .
وقال: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] .
والملائكة أقسام: منهم المكلفون بخدمتنا ومنافعنا في الأرض، ومنهم مَنْ يحفظنا من الأحداث التي قد تفاجئنا بإقدار الله لهم عليها، ومنهم الحفظة والكرام الكاتبون، وهؤلاء الملائكة المتعلقون بنا هم الذين أُمروا بالسجود لآدم عليه السلام في قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] .
وهذا دليل على أنهم سيكونون في خدمته.
وكأن الله تعالى قال لإبليس: طلبتُ منك أنْ تسجد لآدم، وطلبت من الملائكة وأنت معهم، فإنْ كنتَ من الملائكة فينبغي أن تستجيب، وإنْ لم تكُنْ من الملائكة وحشرتك بطاعتك في زمرتهم كان يجب عليك أنْ تطيع لأن الأعلى منك سجد.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثَل، ولله تعالى المثل الأعلى قُلْنا: إذا أعلن في أحد الدواوين الحكومية أن الرئيس سيزور هذ الديوان يوم كذا، وعلى الوزراء أنْ يصطفُّوا لتحيته، ألم يشمل هذا الأمر وكلاء الوزارة من باب أَوْلى؟(19/12066)
فإذا قال الله للملائكة: اسجدوا لآدم وكان معهم إبليس وهو أقلّ منهم، فكان عليه أنْ يسجد. ثم إنْ كنتَ يا إبليسُ أخذتَ منزلة أعلى من الملائكة بالطاعة، فلا بُدَّ أنْ تكون طاعتك لله على هذه المنزلة، فأنت مَلُوم على أيِّ حال، إلا أنه كان من الجن، والجن مختار، ففسق عن أمر ربه.
وهناك نوع آخر من الملائكة لا دخلَ لهم بالإنسان ولا بدنياه، وهم الملائكة العالون أو المهيَّمون، وهم الذين قال الله فيهم لما أبى إبليس أنْ يسجد قال له ربه: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] .
وهؤلاء العالون لم يشملهم الأمر بالسجود؛ لأنهم لا يدرون شيئاً عن آدم، وليس لهم علاقة به، وأخصُّهم حَمَلة العرش وهم أكرم الملائكة، وهؤلاء هم الذين يُصلُّون عليكم بعد أنْ صلَّى الله عليكم؛ لذلك يُبيِّن لنا الحق سبحانه هؤلاء الملائكة ودورهم في الصلاة علينا والاستغفار لنا، فيقول سبحانه: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ... } [غافر: 7] .
فهؤلاء هم أخصُّ الملائكة وأكرمهم يُسبِّحون بحمد ربهم ويؤمنون به، لكن ما فائدة (يؤمنون به) بعد أن سبَّحوه؟ قالوا: لأن التسبيح قد يكون عن خوف ورهبة، أما تسبيح هؤلاء فتسبيح عن حبٍّ وعن إيمان، وأنه سبحانه وتعالى يستحق أنْ يُسبَّح، ومن مهام هؤلاء أيضاً أنهم يستغفرون للذين آمنوا، وإنْ لم تكن لهم علاقة(19/12067)
بالناس وليسوا في خدمتهم، إلا أنهم يُصَلُّون عليهم ويستغفرون لهم.
إذن: نقول الصلاة من مالك الدعوة القادر على الإجابة رحمة وعطف وحنان، والصلاة ممَّنْ دونه دعاء للقادر المالك للخير، فهم يدعون الله للمؤمنين ويستغفرون الله لهم، بل ويبالغون في الدعاء ويتعطَّفون فيه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] .
بل لم يقفوا عند حَدِّ طلب النجاة للمؤمنين من النار، إنما يطلبون لهم الجنة {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [غافر: 8] .
ثم يزيدون على ذلك: {وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [غافر: 9] .
ووالله، لو أراد المؤمن أنْ يدعو لنفسه ما وجد أعمَّ ولا أشمل من دعاء الملائكة له، فبعد أنْ طلبوا له المغفرة والنجاة من النار لم يتركوه هكذا في أهل الأعراف، لا هُمْ في الجنة، ولا هُمْ في النار، إنما سألوا الله لهم الجنة عملاً بقوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ... } [آل عمران: 185] .
وهذه المسألة من المسائل التي وقف أمامها المستشرقون، فقالوا: إنها تتناقض مع الحديث النبوي: «ما من يوم تطلع شمسه إلا وينادي ملكان يقول أحدهما: اللهم أَعْط مُنفقاً خَلَفاً، ويقول(19/12068)
الآخر: اللهم أعْط مُمسكاً تَلَفاً» ، فكيف تقولون: إن الملائكة يدعون للناس بالخير وهم يدعون عليهم بالشر؟
وهم معذورون في اعتراضهم؛ لأن ملكاتهم لا تستطيع فَهْم المعاني في الحديث الشريف، والتناقض في نظرهم في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» ، فالأولى واضحة لا تناقض فيها؛ لأنها دعوة بالخير، أما الثانية فهي دعوة بالشر. «اللهم أعْط ممسكاً تلفاً» .
ولو تأملوا نصَّ هذه العبارة لوجدوا فيها الجواب، فالتلف يُعطي أم يؤخذ؟ المفروض أنه يُؤخذ، فحين يقول رسول الله: «اللهم أعط ممسكاً تلفاً» فاعلم أنه عطاء لا أَخْذٌ وإن كان في ظاهره تلفاً، والمعنى أن شيئاً شغلك، وفتنك فتصيبك فيه مصيبة تخلصك منه فتعود إلى ربك، إذن: هو أَخْذ في الظاهر عطاء في الحقيقة.
ثم يبيّن لنا الحق سبحانه العلَّة في صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين، فيقول {لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ... } [الأحزاب: 43] فكأن منهج الله بافعل ولا تفعل هو أول صلاة الله علينا؛ لأنه الوسيلة التي تُخرجنا من الظلمات إلى النور، وجاء هنا بالشيء الحسِّيِّ لنقيس عليه المعنوي، فأنت في النور ترى طريقك وتهتدي إلى غايتك بلا معاطب، أمَّا في الظلام فتتخبط خُطَاك وتضلّ الطريق في الظلام، تسير على غير هُدى، وعلى غير بصيرة، فتحطم الأضعف منك، ويُحطِّمك الأقوى منك.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوجِّهنا حين ننام بالليل أنْ نطفيء المصابيح فيقول: «(19/12069)
واطفئوا المصابيح إذا رقدتم» وقد أثبت العلم أن للأنوار المضاءة أثناء النوم تأثيراً ضاراً على صحة الإنسان، وأنه لا يرتاح في الضوء الراحة التامة لما يصيبه أثناء النوم من إشعاع الضوء، كما حذرونا أيضاً من التعرُّض لأضواء التليفزيون مثلاً.
إذن: للنور مهمة، وللظلمة مهمة - هذا في الحسِّيات.
كذلك منهج الله بافعل ولا تفعل هو النور المعنوي الذي يقيك العطب، ويمنحك الإشراقات التي تهتدي بها في دروب الحياة، لذلك قال تعالى بعدها: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 43] .
لكن إنْ كان سبحانه رحيماً بالمؤمنين، فما بال الكافرين؟ قالوا: هو سبحانه بالكافرين رحمن، فالله تعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة؛ لأن رحمن الدنيا يعني أن خيره يعُمُّ الجميع المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما في الآخرة فتتجلَّى صفة الرحيم؛ لأن رحمته في الآخرة تخصُّ المؤمنين دون غيرهم.
والحق سبحانه حين يقول: {الله نُورُ السموات والأرض ... } [النور: 35] لا يعني هذا وَصْفاً لذاته سبحانه، إنما يعني أنه سبحانه نور السماوات والأرض أي: مُنوِّرهما كما نقول: المصباح نور المسجد.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بقول أبي تمام في مدح المعتصم:(19/12070)
إقْدَامُ عَمروٍ في سَمَاحةِ حاتم ... في حِلْم أحنْفَ في ذَكَاءِ إيَاسِ
وعمرو مضرب المثل عند العرب في الشجاعة، وحاتم في الكرم، وأحنف بن قيس في الحِلْم، وإياس بن معاوية في الذكاء، فقام إليه أحد الحاضرين وقال له - وكان حاقداً عليه -: أمير المؤمنين فوق ما تقول، أتُشبِّهه بأجلاف العرب؟ وأنشأ يقول:
وشبَّهه المدَّاح في البَأسِ والنَّدَى ... بمَنْ لوْ رآهُ كَانَ أصْغر خَادِمِ
فََفِي جَيْشهِ خَمْسونَ ألْفاً كعنتْر ... وفي خُزَّانِهِ أَلْفُ حَاتِمِ
عندها أطرق أبو تمام هُنيهة، ثم قال:
لاَ تُنكِرُوا ضَرْبي له مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلّ لِنُورِهِ ... مثَلاً من المشْكاةِ والنِّبراس
إذن: فالنور المعنوي يُجنّبك العطب المعنوي، كما أن النور الحسيَّ يُجنَّبك العطب الحسِّيَّ؛ لذلك قال سبحانه عن نوره {نُّورٌ على نُورٍ ... } [النور: 35] يعني: نور حِسّيّ يقيكم المعاطب الحسية، ونور معنوي يقيكم المعاطب المعنوية {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ... } [النور: 35] والمراد به هنا النور المعنوي الذي يهتدي به المؤمن ويسير عليه، أما الكافر فهو لا يعرف إلا النور الحسيَّ فقط.
فإنْ سألت: فأين نجد هذا النور يا رب؟ يُجيبك ربك: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ... } [النور: 36 - 37] .
فإنْ أردتَ النور الحق فهو في خَلْوتك مع ربك وفي بيته، حيث تتجلَّى عليك إشراقاته ويغمرك نوره.(19/12071)
وقبل أن نترك مسألة صلاة الله وصلاة الملائكة على المؤمنين نذكر صلاتنا نحن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عملاً بقوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] .
فالصلاة من الله تعالى تعني الحنان والرحمة والعطف، والصلاة من الملائكة تعني الدعاء والطلب من الذي يملك، أما الصلاة منا نحن على سيدنا رسول الله، فلبعض يظن أنها دعاء منا لرسول الله، وهي ليست كذلك؛ لأنك تقول في الصلاة على رسول الله: اللهم صَلِّ على محمد، فأنت لا تصلي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما تطلب من الله تعالى أنْ يصلي عليه، لكن كيف تطلب من الله أن يصلي على رسوله؟ قالوا: لأن كل خير ينال الرسول منثور على أمته.
والحق سبحانه وتعالى لم يدع محمداً يصلي عليه كل مَنْ آمن به، ثم لا يرد رسول الله عليه هذه التحية بصلاة مثلها، فقال سبحانه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ ... } [التوبة: 103] وكأنها رَدٌّ للتحية ولصلاة المؤمنين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ ... } .(19/12072)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
الكلام هنا عن الآخرة، وهذه التحية، وهذا السلام ليس منا، ولكن من الله، كما قال في موضع آخر {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] .
فالرحمة التي ننالها، والعطف والحنان من الله لنا في الدنيا(19/12072)
يعني: سداداً في حركة الحياة، واستقامة في السلوك، وراحةَ للبال، واطمئناناً للنفس، لكن مع هذا لا تخلو الدنيا من مُنغِّصات وأحداث تُصيبك، أما رحمة الله في الآخرة فهي سلام تام لا يُنغِّصه شيء، والإنسان أيضاً يتمتع بنعم الله في الدنيا، لكن يُنغِّصها عليه خشية فواتها.
أما في الآخرة فيتمتع متعة خالصة، لا ينغصها شيء، فالنعمة دائمة باقية لا يفوتها ولا تفوته، لقد كان في الدنيا في عالم الأسباب وهو الآن في الآخرة مع المسبِّب سبحانه الذي يقول: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
لكن، ما المراد بقوله تعالى: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ... } [الأحزاب: 44] أيوم القيامة للثواب، أَمْ يوم يلقوْنَهُ بالموت وبانتهاء الحياة، كما نقول مثلاً في الموت: فلان لقي ربه؟ قالوا: المؤمن لا يأتيه مَلَك الموت إلا إذا سلَّم عليه أولاً قبل أن يقبض روحه، فإذا سلم عليه فهذا يعني أنه من أهل السلام، وهذه أول مراتبه. وقد يكون المراد السلام التام الذي يَلْقاه المؤمن يوم القيامة حيث يجد سلاماً لا مُنغِّصات بعده.
لذلك نجد أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يعاني سكرات الموت تقول له السيدة فاطمة لما رأتْ ما يعانيه: واكرباه يا أبتاه، فيقول لها «لا كرب على أبيك بعد اليوم» فأيُّ كرب على رسول الله بعد أن ينتقل إلى جوار ربه، إلى السلام النهائي الذي لا خوفَ بعده.(19/12073)
ثم يقول سبحانه: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} [الأحزاب: 44] فوصف الأجر نفسه بأنه كريم، والذي يُوصَف بالكرم الذي أعدَّ الأجر، فوصف الأجر بأنه كريم يعني أن الكرم تعدَّى من الرب سبحانه الذي أعده إلى الأجر نفسه، حتى صار هو أيضاً كريماً.
ومثال ذلك قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} [الأحزاب: 31] فتعدَّى الكرم من الرازق إلى الرزق؛ لأن الرزق في الدنيا له أسباب بأيدي الخَلْق، لكن الرزق في الآخرة يأتيك بلا أسباب، وليس لأحد فيه شيء، ولماذ لا يُوصَف بالكرم وهو يأتيك دون سَعْي منك، وبمجرد الخاطر تستدعيه فتراه بين يديك.
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ ... } .(19/12074)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
الشاهد: هو الذي يؤيد ويُثبِّت الحق لصاحبه؛ لذلك يطلب القاضي شهادة الشهود ليأتي حكمه في القضية عن تحقيق وبيِّنة ودليل؛ لذلك يقولون إن القاضي لا يحكم بعلمه، إنما بالبينة حتى إنْ علم شيئاً في حياته العامة، ثم جاء أمامه في القضاء يتركه ويتنحَّى عنه لقاضٍ آخر يحكم فيه حتى لا يبني حكمه على علمه هو.
وحين نتأمل هذه المسألة تجد أن الله تعالى يريد أنْ يُوزِّع مسئولية الحكم على عدة جهات، حتى إذا ما صدر الحكم يصدر بعد تدقيق وتمحيص وتصفية لضمان الحق.(19/12074)
فنرى مثلاً إذا حدثتْ حادثة نذهب إلى القسم لعمل (محضر) بالحادث، (المحضر) يحيله ضابط الشرطة إلى النيابة، فتحيله النيابة للقاضي ليحكم فيه، ثم يُعَاد مرة أخرى للسلطة التنفيذية ليُنفَّذ، كل هذه الدورة يُراد بها تحري الحق ووضعه في نصابه.
فما بالك إذا كان الحق سبحانه هو الذي يشهد، وهو الذي يحكم، وهو الذي يُنفِّذ الحكم؟ لا شكَّ أن العدالة هنا ستكون عدالة مطلقة. فإنْ قلتَ: إذن عَلاَم يشهد رسول الله؟
قالوا: يشهد رسول الله أنه بلَّغ أمته، كما يشهد الرسل جميعاً أنهم بلَّغوا أممهم كما قال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] .
إذن: كل رسول شهيد على أمته، وأنت شهيد على هذه الأمة أنك قد بلَّغتها، لكن ميْزتُك على مَنْ سبقك من إخوانك الرسل أن تكون خاتمهم، فلا نبيَّ بعدك؛ ولذلك سأجعل من أمتك من يخلف الأنبياء الذين يأتون بعد الرسل في مهمتهم.
لذلك جاء في الحديث الشريف قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» .
إذن: ضمن الحق سبحانه في أمة محمد أنْ يوجد فيه مَنْ يقوم بمهمة الأنبياء في البلاغ، وهذا معنى {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس ... } [البقرة: 143] .(19/12075)
وكلمة الناس هنا عامة، تشمل آدم عليه السلام وذريته إلى قيام الساعة، فإنْ قلتَ كيف؟ نقول: يشهدون على الناس بشهادة القرآن أن الرسل قد بلَّغَتْ أممها، هذا بالنسبة لمن مضى منهم، أما مَنْ سيأتي فأنتم مطالبون بأن تشهدوا عليهم أنكم قد بلَّغتموهم، كما يشهد عليكم رسول الله أنه قد بلَّغكم.
إذن: فأمة محمد أخذت حظاً من النبوة، وهو أنها ستُسْتدعي وتشهد على الناس.
لذلك يُعِدّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمته لهذه المهمة، فيقول: «نضَّر اللهُ امرءاً، سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَنْ يسمعها، فرُبَّ مُبلَّغٍ أوعى من سامع» .
واقرأ أيضاً في ذلك قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... } [البقرة: 143] لماذا؟ {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً ... } [البقرة: 143] فهذه الأمة في الوسط، بحيث لا إفراط ولا تفريط، وما أشبهها بالميزان الذي لا تميل كفة عن الأخرى إلا بما يُوضعَ فيها، فهي كالميزان العادل الذي لا يميل هنا أو هناك.
وقوله سبحانه {وَمُبَشِّراً ... } [الأحزاب: 45] لمن استجاب لك بثواب الله، والبشارة هي الإخبار بالخير قبل أوانه {وَنَذِيراً ... } [الأحزاب: 45] أي: منذراً لمن لم يُصدقك بعقاب الله، والإنذار هو التخويف بشرٍّ لم يأْت أوانه {وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ ... } [الأحزاب: 46] أي: بأمر منه، لا تطَوُّعاً من عندك، فقد يأتي زعيم من الزعماء أو مصلح من(19/12076)
المصلحين بمنهج أو بأفكار من عنده ويبثُّها في مجتمعه.
فقوله تعالى: {بِإِذْنِهِ ... } [الأحزاب: 46] يبين الفرق بين الرسول والمصلح من البشر، فهذا الذي جاء به محمد من عند الله، وما بلَّغكم به إلا بأمر الله.
ويُشترط فيمَنْ يدعو إلى منهج الخير ثلاثة شروط:
الأول: ألاَّ ينتفع بشيء مما يدعو إليه، وهذا لا يوجد في بشر أبداً، وقد رأينا: حينما قنَّنَ الرأسماليون غَبَنُوا العمال، وحينما قنَّنَ الاشتراكيون غبنوا الرأسمالين. . وهكذا.
وذلك لأن البشر لهم أهواء مختلفة متعددة، وكلٌّ يريد أنْ يُقنِّن على هواه، وبما يخدم مصالحه، يريد أنْ يُسخِّر غيره لخدمة هواه، وبعد فترة قد تطول تفضحهم التجارب، ويفضحهم الواقع، وتُظهِر لهم أنفسهم مساويء ما قنَّنُوا حتى يثوروا هم على قوانينهم، وينتفضوا على أنفسهم، ويعودوا إلى تعديل هذه القوانين.
الشرط الثاني: أن يكون على علم بالأحداث المحتملة بعد أنْ يُقنِّن، وألاَّ تغيب عنه جزئية من جزئيات الموضوع، فيحتاج إلى تعديل القانون أو الاستدراك عليه.
ثالثاً: يُشترط فيمَنْ يُقنِّن أن يكون حكيماً فيما يُقنِّن، بحيث يضع الأمر في موضعه، فلا ينصف جماعة على حساب أخرى، وأن يكون الجميع أمامه سواء.
وحين تتأمل هذه الشروط الثلاثة تجدها لا تتوفر إلا في الحق سبحانه وتعالى، إذن: ينبغي ألاَّ ييُقنِّن للبشر إلا ربُّ البشر، وسبق(19/12077)
أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثال من المحسوسات، فالناس في الظلمة يحتاجون لبعض النور؛ ليهتدوا به إلى قضاء مصالحهم في الليل، فينير كلٌّ منا ليله بما يناسبه من وسائل الإضاءة، فواحد يشعل شمعة، وآخر لمبة (نمرة خمسة) وآخر لمبة (نمرة عشرة) ، وبعد ما استخدمنا الكهرباء رأينا اللمبة العادية والفوروسنت والنيون والكرستال ... إلخ.
إذن: أنتم تنيرون ظلمتكم على قدر إمكاناتكم، فإذا ما أشرقتْ شمس الصباح، أَتُبْقون على هذه الأنوار؟ لا بل يطفيء الجميع أنواره؛ لأن نور الشمس يأتي على قدر إمكانات خالقها عَزَّ وَجَلَّ، لذلك نقول: أطفئوا مصابيحكم، فقد طلعت شمس الله، فإذا كان ذلك في النور الحسيِّ فهو أيضاً ومن باب أَوْلَى في النور المعنوي، فإذا جاءك نور التشريع ونور المنهج من الله، فأطفيء ما عداه من تشريعات ومناهج.
وقوله تعالى: {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 46] شبّه الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالسراج، ولا تستقلّ هذا الوصف في حقِّ رسول الله، فليس معنى السراج أنه كالسراج الذي يضيء لك الحجرة مثلاً، إنما هو كالسراج الذي قال له عنه:
{وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ: 13] والمراد: الشمس.
فإذا قُلْتَ: فلماذا لم يُوصفَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه شمس، وقد قال تعالى عنها: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً ... } [يونس: 5] .
والشمس أقوى من السراج؟ قالوا: الكلام هنا كلام ربٍّ والأسلوب دقيق معجز، صحيح أن الشمس تنير الدنيا كلها، إنما أمة محمد مُكلَّفة أن تقوم بدعوته من بعده، فكأن رسول الله سراج،(19/12078)
والسراج تأخذ منه النور دون أنْ ينقص نورُه، لكن لا تستطيع أنْ تأخذ من الشمس.
وحين سطعتْ أنوار الهداية على لسان رسول الله محمد لم يَعُدْ للشرائع الأولى أنْ تتدخل على حدِّ قول المادح:
كَأنَّكَ شَمْسٌ والملُوكُ كَواكِبُ ... إذَا طلعَتْ لم يَبْدُ مِنْهُنَّ كوكَبُ
ثم يقول الحق سبحانه: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ ... } .(19/12079)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
نقول في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ لأن العدل أن تأخذ الجزاء المساوي للعمل، أو تأخذ حقك، أمَّا الفضل فأنْ تأخذ فوق حقك وزيادة، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ... } [يونس: 58] .
ويقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» لأنني حين أحسب عملي مقابل ما أعطاني ربي من نِعَم قبل أنْ أُخلق، وإلى أن أبلغ وأُكلَّف، أجد أنني لو قضيتُ حياتي كلها في طاعة ربي ما وفَّيتُ بحقه عليَّ.(19/12079)
ثم من ناحية أخرى تجد أن العبادة والطاعة نفعُها يعود إليك أنت، ولا ينتفع الله تعالى منها بشيء، فإذا كانت الطاعة والعبادة يعود نفعها إليك، إذن: فالثواب عليها يكون فضلاً من الله.
ومثَّلْنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بولدك تُشجِّعه على المذاكرة، وتُحضر له أدواته، وتنفق عليه طوال العام، فإذا ما نجح آخر العام أعطيْتَه هدية أو مكافأة، فهذه الهدية من باب الفضل.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تصلح بين متخاصمين، أو تُؤلِّف بينهما فقُلْ لهم: أتحبون أنْ أحكم بينكم بالعدل أم بالفضل؟ سيقولون لك: ليس هناك أفضل من العدل، وعندها لك أن تقول: بل الفضل أحسن من العدل؛ لأن العدل أنْ تأخذ حقك من خصمك، والفضل أنْ تترك حقَّك لخصمك لتأخذه من يد ربك عَزَّ وَجَلَّ.
وهذا ما رأيناه مُطبِّقاً في قصة الإفك بين سيدنا أبي بكر حين عفا عن مسطح بعد أن نزل قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] .
فمن أراد أنْ يغفر الله له ذنوبه فليغفر لأخيه زلَّته وسَوْأتَهُ.(19/12080)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ... } .(19/12081)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
في أول السورة خاطب الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ... } [الأحزاب: 1] وهنا خاطبه ربه بقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 48] فالأولى كانت في بداية الدعوة، حين أخذ الكفار يكيدون لرسول الله، فما بالك وقد قويتْ الدعوة، واشتدَّ عودها، لا بُدَّ أنْ يتضاعف كيْد الكافرين لرسول الله.
لذلك يكرر له مسألة {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ. .} [الأحزاب: 48] ولا يعني ذلك أنني سأُْسْلِمك، إنما أنا وكيلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً} [الأحزاب: 48] .
فإنْ قلت:: كيف والوكيل أقل من الأصيل؟ نقول: لا، فالأصيل ما وكَّل غيره، إلا لأنه عجز أنْ يفعل، فاختار الأقوى ليفعل له.
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا ... } .(19/12081)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
تتحدث الآية عن مسألة اجتماعية تخصُّ حفظ النوع، وحفظ النوع الإنساني لا يتأتَّى إلا بالزواج، وهو وسيلة التكاثر، وأولى مراحل الزواج مرحلة الخِطْبة، وكثيرون لا يفهمون معنى الخِطْبة وحدودها لكل من الرجل والمرأة، فالخِطبة مجرد أنْ يذهب طالب البنت إلى وليِّها ليقول له: أإذا تقدمتُ لطلب يد ابنتك أكون أهلاً للقبول؟
فيقول وليُّها: مرحباً بك، هذه تسمى خِطْبة، وربما لا يتقدم، فإنْ تقدَّم لها، له أنْ يراها مرة واحدة بين محارمها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للشاب الذي أراد الخطبة: «انظر إليها، فإنه أحْرَى أنْ يُؤدَم بينكما» .
وعجيب أنْ يخلط الناس بين الخِطْبة والعقد، فيعطون الخِطْبة صفة العقد، فإذا قيل الوليُّ الخاطبَ اتفق معه على المهر أو الشبكة وعلى كلِّ تفاصيل الزواج، وأباح له أنْ يجلس مع ابنته، وأنْ يتحدث معها، وربما يختلي بها، ويا ليتهم جعلوها عقداً، فأخرجوا أنفسهم من هذا الحرج.
فالخطبة إنْ عدل عنها الخاطب ما عليهم إلا أنْ يذهب إلى وليِّ البنت فيقول له: لقد طلبتُ منك يد ابنتك وأنا في حِلٍّ من هذا الأمر، أما العقد فلا يُفسخ قبل الدخول إلا بالطلاق، إذن: لا تجعلوها صورة خطبة وموضوعية عقد.(19/12082)
والحق سبحانه وتعالى يُبيِّن لنا في هذه الآية الكريمة ما يتعلَّق بأحكام الطلاق إنْ وقع قبل الدخول بالزوجة: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ... } [الأحزاب: 49] .
فالنكاح هنا مقصود به العقد فقط، وإلا لو قصد به المعنى الآخر لما قال {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ... } [الأحزاب: 49] والمسُّ كناية عن الجماع، وهو عملية دائماً يسترها القرآن بألفاظ لا تدل عليه حقيقة.
والحكم هنا {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ... } [الأحزاب: 49] فليس للزوج على زوجته عِدَّة إنْ طلَّقها قبل أنْ يدخل بها؛ لأن العِدَّة إنما كانت لحكمة: فالعدة في حالة الطلاق الرجعي تعطي للزوج فرصة أنْ يراجع زوجته، وأنْ يعيدها بنفسه إلى عصمته، والعدة تكون لاستبراء الرحم والتأكد من خُلوِّه من الحمل، وقد تكون العِدَّة، لا لهذا ولا لذاك، ولكن لأنه تُوفِّي عنها.
فالعِدَّة قبل الدخول لها حكم، وبعد الدخول لها حكم آخر، وهذا الفرق يتضح كذلك في مسألة المهر، فقبل الدخول للزوجة نصف(19/12083)
مهرها، كما قال سبحانه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ... } [البقرة: 237] وقال هنا: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] فإنْ سُمِّي المهر بين الطرفين فلها نصفه، وإنْ لم يُسَمَّ فلها نصف مهر المثْل.
أما العِدَّة بعد الدخول ففيها تفصيل، بحيث تختلف من حالة لأخرى بما يناسب الحالة التي تشرع فيها العِدَّة، والعِدَّة كما قلنا: تدل على أنها شيء معدود، فإنْ كانت المرأة من ذوات الحيض، فهي ثلاث حيضات، ليتأكد خلالها استبراء الرحم، لكن الرحم يستبريء من مرة واحدة، فلماذا جعلها الله ثلاث حيضات؟
قالوا: الهدف من ذلك إعطاء الزوج فرصة، فقد يراجع نفسه وتهدأ نفسه، فيراجع زوجته في هذه المدة، فالشرع هنا يراعي بناء الأسرة، أَلاَ ترى أن الحق سبحانه شرع التقاء الزوج بزوجته بكلمة: زوِّجني وزوَّجتك، أما في حالة الطلاق والفراق بين الزوجين، فجعله على ثلاث مراحل؛ لأن الله تعالى يريد ألاَّ يجعل للغضب العابر سبيلاً لنقْضِ كلمة الله في الزواج.
وأذكر أنهم كانوا يسألوننا سؤالاً وكأنه لغز: أو يعتدُّ الرجل؟ أو: أو ليس للمرأة عِدَّةٌ عند الرجل؟ قالوا: نعم، يعتدُّ الرجل في حالة واحدة وهي: إذا تزوج امرأة ثم طلقها، وأراد أن يتزوج بأختها، فعليه أن يمضي العدة ليحلَّ له الزواج بأختها.
أما عِدَّة التي انقطع عنها الحيض فثلاثة أشهر، وعدة الحامل أنْ تضع حملَها، أما عدة المتوفَّي عنها زوجها فأربعة أشهر وعشرة أيام، لكن ما الحكم إذا اجتمع للمرأة الحملُ مع وفاة الزوج، فكيف تعتدُّ؟ قالوا: تعتدُّ في هذه الحالة بأبعد الأجلين: الحمل، أو الأربعة أشهر وعشرة أيام.(19/12084)
ولك أنْ تسأل: لماذا كانت عِدَّة المطلَّقة ثلاثة أشهر، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام؟ قالوا: لأن هناك فَرْقاً بين الطلاق والوفاة بالنسبة لعلاقة الزوج بزوجته، سببه أن الذي خلق الذكر والأنثى جعل هناك كلمة تجمعهما، هذه الكلمة هي: زوِّجني وزوَّجتُك شريطة أنْ تكون علانية على رءوس الأشهاد، ولا تستهنْ بهذه الكلمة، فأنت لا تعلم ما الذي تصنعه هذه الكلمة في ذرات التكوين الإنساني، ولكنك تعرفها بآثارها.
وقلنا: هَبْ أنك تعرضتَ لشاب تعوَّد معاكسة ابنتك مثلاً، ماذا تصنع أنت؟ لا شكَّ أنك ستثور، ويفور دمك، وتأخذك الغَيْرة، وربما تعرضْتَ له بالإيذاء، أما إنْ جاء من الباب، وطلب يدها منك ترحب به وتسعد ويفرج الجميع، فما الذي حدث؟ وما الفرق بين الموقفين؟ فالذي أهاجك أنه تلصَّص عليها من غير إذن خالقها، لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله» .
«ويقول رسول الله لرجل كان مشهوراً بالغيرة على بناته، وقد جاء يدعو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى زواج إحدى بناته، فضحك رسول الله وقال:» جدع الحلال انف الغيرة «» .
فالعقد الذي يجمع الزوجين على كلمة الله يجعل الله به بين الزوجين سِيَالاً حلالاً عند كل منهما، ويلتقي هذان السيالان في الحلال وتحت مظلة الشرع الذي جمعهما.(19/12085)
وعادة ما يصاحب الطلاق بُغْضٌ من الطرفين، أو كُرْه من أحدهما للآخر؛ لذلك تكون العِدَّة بينهما ثلاثة أشهر أو وَضْع الحمل؛ لأن الكراهية التي حدثتْ بينهما تميت خلايا الالتقاء بين الأنسجة، وتُسرِع بانتهاء ما بينهما من سِيال وتطْعسه.
أما في حالة موت الزوج، فقد قطع النكاح قدرياً من الله، فعادة ما تكون الزوجة مُحبَّة لزوجها، حزينة على فَقْده، وتأتي فاجعة الموت، فتزيدها حُباً له، وفي هذه الحالة ليس من السهل أنْ ينتهي السيَّال بينهما؛ لذلك يشاء الخالق سبحانه أنْ يطيل أمد العِدَّة إلى أنْ ينتهي هذا السِّيال الذي جمعهما، فلا يدخل على سيال الرجل سيال جديد، فيحدث صراع بين السيالين؛ لذلك كانت عِدَّة المتوفي عنها زوجها أطول من عدة المطلقة.
وقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ... } [الأحزاب: 49] يعني: أن الطلاق قبل المسِّ والدخول كان موجوداً كما هو موجود الآن، ونحن نرى الطرفين أو أحدهما يتعجَّل العقد، رغم أنه غير مُستعد لنفقات الزواج، إنما يتعجله لمصلحة تعود عليه من هذا الارتباط.
وقد ذكر لنا التاريخ أن كثيراً من الأسر، خاصة الأسر العربية الأصيلة كانت تفعل ذلك، لكنهم لم يكونوا يسمحون للزوج في هذه الحالة أنْ يختلي بالزوجة، وإنْ كان عاقداً عليها، وبعض فيتاتنا لهن قصص مُشرِّفة في هذه المسألة.
ومما رُوى في هذا الصدد قصة بهيثة بنت أوس بن حارثة الطائي والحارث بن عوف، وهو سيد من سيادات بني مُرَّة، وكان للحارث ابن عوف صديق اسمه ابن سنان، وفي ليلة جلس الحارث يتسامر(19/12086)
مع صديقه ابن سنان فقال له: ترني لو أنني خطبتُ إلى أحد من العرب ابنته أيردّني؟ قالها وهو مُعْتَزٌّ بنفسه فخور بسيادته على قومه.
فلما رآه صاحبه على هذه الحالة قال له: نعم هناك مَنْ يردُّك، قال: مَنْ؟ قال: أوس بن حارثة الطائي، فنادي الحارث على غلامة وقال: أحضر المراكب، وهيا بنا إلى أوس بن حارثة الطائي، فذهبوا إليه، فوجدوه جالساً في فناء بيته، فلما رآه أوس قال له: ما الذي جاء بك يا حارث، فأقبل عليه الحارث، وقال: ويك يا أوس، ما الذي جاء بك؟ وتركه على دابته - قال: جئتُك خاطباً لابنتك، فقال له: لستَ هنك - يعني لستَ أهْلاً لها - فلوى الحارث زمام دابته منصرفاً، في حين بدا على ابن سنان الارتياح؛ لأن كلامه صدق في صاحبه.
فلما دخل أوس على امرأته سألتْه: مَنْ رجلٌ وقف معك فلم يُطل ولم ينزل؟ قال: إنه الحارث بن عوف سيد من سادات بني مُرَّة، فقالت: ولماذا لم تستنزله عندك؟ قال: لقد استحمق - يعني: ارتكب حُمْقاً - قالت: وكيف هذا؟ قال: إنه جاء يخطب ابنتي، قالت: عجباً أو لا تريد أن تُزوِّج بناتك؟ قال: بلى، قالت: فإذا كنتَ لا تُزوِّجهن من سادات العرب، فمَنْ تُزوِّجهن؟ يا أوس، اذهب فتدارك الأمر، قال: كيف وقد فرطَ مني ما فرط؟ قالت: الحقْ به، وقُلْ له: إنك جئتني وأنا مُغْضب من أمر لا دخْلَ لك فيه، ولما راجعتُ نفسي جئتُك معتذراً أطلب منك أنْ تعود، ولك عندي ما تحب.
فذهب الرجل، فلم يجد الركْبَ، فشدَّ على راحلته، حتى صار بينهما في الركْب، فالتفت ابنُ سنان، وقال: ابن عوف، هذا(19/12087)
أوس يلحق بنا، فقال: وماذا أصنع به امْضِ، فناداه أوس: يا حارث: اربع عليَّ ساعة، يعني: انتظرني - ولك عندي ما تحب، ففرح يا حارث وعاد معه.
عاد أوس إلى بيته، وقال لامرأته: ادْعي ابنتك الكبرى، فجاءت، فقال: با بُنيَّة إن الحارث بن عوف سيد بني مرة جاء ليخطبك فقالت: لا تفعل يا أبي، فقال: ولم؟ قالت: إنني امرأة في وجهي ردّة - يعني قُبْح يردُّ مَنْ يراني - وفي خُلُقي عُهْدة - أي عيب - وليس بابن عم لي فيرعى رحمي، ولا بجَار لك في بلدك فيستحي منك، وأخاف أنْ يكره مني شيئاً، فيُطلِّقني فيكون عليَّ فيه ما تعرف. فقال لها: قُومي، بارك الله فيك.
ثم قال لامرأته: ادْعِي ابنتك الوُسْطى فجاءتْ، فقال لها ما قال لأختها، فقالت: لا تفعل يا أبي، قال: ولم؟ قالت: أنا امرأة خرقاء - يعني: لا تُحسِن عملاً - وليست لي صناعة، وأخاف أنْ يرى مني ما يكره فيُطلِّقني، ويكون فيَّ ما يكون فقال لها: قومي بارك الله فيك، وادْعِي أختك الصغرى، وكانت هذه هي بُهَيْثة التي نضرب بها المثل في هذا الموقف.
لما عرض عليها أبوها الأمر قالت: افعل ما ترى يا أبي، قال: يا بُنيَّتي، لقد عرضتُه على أُختيك فأبتَاهُ، قالت: لكني أنا الجميلة وجهاً الصَّناع يداً، الرفيعة خُلُقاً، فإنْ طلَّقني فلا أخلفَ اللهُ عليه، فقال: بارك الله فيك. ثم قام إلى الحارث وقال: بُورِكَ لك يا حارث، فإنِّي زوَّجتك ابنتي بهيثة، فبارك الله لكما، قال: وأنا قبلتُ زواجها.(19/12088)
ثم قال لامرأته: هَيِّئي ابنتك، واصنعي لها فُسْطاطاً بفناء البيت، ولما صُنع الفسطاط حُملت إليه بهيثة، ودخل عليها الحارث، لكنه لم يلبث طويلاً حتى خرج، فسأله ابنُ سنان: أفرغتَ من شأنك؟ قال: لا والله، يا بن سنان، قال: ولم؟ قال: جئتُ لأقترب منها. فقالت: أعند أبي وإخوتي؟ والله لا يكون ذلك أبداً، فخرجتُ.
فقال: ما دامتْ لا ترضى وهي عند أبيها وإخوتها، فهيَّا بنا نرحل، فأمر بالرحيل، وسار الركب بهم طويلاً، ثم قال: يا بن سنان تقدَّم أنت - يعني: أعطنا الفرصة - 0 فتقدَّم ابن سنان بالركْبِ، وانحاز الحارث بزوجته إلى ناحية من الطريق ونصب خيمته، ثم دخل عليها فقالت له: ما شاء الله، أتفعل بي كما يُفعل بالسَّبِيَّة الأخيذة، والأَمَة الجليبة؟ والله لا يكون ذلك حتى أذهب إلى أهلك وبلدك، وتذبح لي الذبائح، وتدعو سادة العرب، وتصنع ما يصنعه مثلك لمثلي.
الشاهد هنا - وهو درس لبنات اليوم - أنها لم ترْضَ لزوجها، ولم تقبل منه في بيت أبيها، ولا في الطريق، ولم تتنازل عن شيء من عِزَّتها وكبريائها، مع أنها زوجته.
وفعلاً تمَّ لها ما أرادت، وذُبِحَتْ لها الذبائح، ودُعي لها سادات العرب، فلما دخل عليها وحاول الاقتراب منها، قالت: لقد ذكرتَ لي شرفاً ما رأيتُ فيك شيئاً منه، فقال: ولم؟ قالت: أتفرغُ لأمر النساء والعرب يقتلُ بعضُهم بعضاً - تريد الحرب الدائرة وقتها بين عبس وذبيان - اذهب فأصلح بينهما، ثم عُدْ لأهلك، فلن يفوتك مني شيء، فذهب الحارث وابن سنان، وأصلحا بين عبس وذُبْيان،(19/12089)
وتحمَّلا ديات القتلى ثلاثة آلاف بعير يُؤدُّونها في ثلاث سنوات، ثم عاد إليها، فقالت له: الآن لك ما تريد.
وهذه الآية {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ... } [الأحزاب: 49] بظاهرها أعطتْ فهماً لبعض الناس الذين يريدون أن يتحلَّلوا من أحكام الدين في أشياء قد ترهقهم: فمثلاً الذي طلَّق امرأته ثلاث مرات، واستوفى ما شُرِع له من مرات الطلاق حكمه أنه لا تحلُّ له زوجته هذه إلا بعد أن تنكَح زوجاً غيره، فيأتي مَنْ يقول - بناءً على الآية السابقة - ما دام النكاح هنا بمعنى العقد فهو إذن كَافٍ في حالة المرأة التي طُلِّقت ثلاث مرات، وأنها تحِلّ لزوجها الأول بمجرد العقد على آخر.
ونقول: لكن فاتك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فُوِّض من ربه بالتشريع وبيان وتفصيل ما جاء في كتاب الله من أحكام، كما قال سبحانه مخاطباً نبيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ... } [النحل: 44] .
فلو أن سُنَّة سول الله لم تتعرَّض لهذه المسألة، لَكانَ هذا الفهم جائزاً في أن مجرد العقد يبيح عودة الزوجة لزوجها ثانية، لكن الذي أناط الله به مهمة بيان القرآن وقال عنه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ... } [الحشر: 7] .
إذن: فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له حَقُّ التشريع، وقد بيَّن لنا المراد هنا في قوله(19/12090)
تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ... } [البقرة: 230] .
فأبقى كلمة النكاح على أنها مجرد العقد، ثم بيَّن المراد من ذلك، فقال للرجل: «حتى تذوق عسيلته، ويذوق عسيلتها» إذن: تمام الآية لا يجيز لمن يقول: إن مجرد العقد يبيح للرجل أن يعيد زوجته التي طُلِّقَتْ ثلاث مرات إلا بعد أن تذوق عُسَيْلته، ويذوق عُسيَلْتها، وهذه المسألة جعلها الله تأديباً للرجل الذي تعوَّد الطلاق، وسَهُلَ عليه النطق به، حتى صار على لسانه دائماً.
ومن رحمة الخالق بالخَلْق، ومن حرصه - تبارك وتعالى - على رباط الأسرة أنْ أحلَّ المرأة للرجل كما قلنا بكلمة زوَّجني وزوّجتك لكن عند الفراق لم يجعله بكلمة واحدة إنما جعله على مراحل ثلاث؛ لُيبقِي للمودة وللرحمة بين الزوجين مجالاً، فإنِ استنفد الزوج هذه الفرص، وطلَّق للمرة الثالثة فلا بُدَّ أن نحرق أنفك بأنْ تتزوج امرأتُكَ من زوجٍ غيرك زواجاً حقيقياً تمارس فيه هذه العملية، وهي أصعب ما تكون على الزوج.
ونلحظ هنا أن دقَّة التشريع أو صعوبته في كثير من المسائل لا يريد الله منه أنْ يُصعِّب على الناس، وإنما يريد أن يرهِّب من أنْ تفعل ذلك، يريدك أنْ تبتعد عن لفظ الطلاق، وألاَّ تلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى.(19/12091)
لذلك يُعلِّمنا سيدنا رسول الله فيقول: «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق» فالذين يعترضون على الطلاق في شرعنا، ويتعجَّبون كيف يفارق الزوجُ زوجته بعد العِشْرة الطويلة والحب والمودة يفارقها بكلمة، وفاتَ هؤلاء أن الطلاقَ وإنْ كان الأبغض إلا أنه حلالٌ، ويكفي أن الله تعالى جعله على مراحل ثلاث، وجعله لا يُستخدم إلا عند الضرورة، وحذَّؤ الرجل أنْ يتساهل فيه، أو يُجرِيه على لسانه، فيتعوَّده.
ونلحظ أن الحق سبحانه خصَّ المؤمنات في قوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ... } [الأحزاب: 49] مع أن المؤمن يُبَاح له أنْ يتزوج من الكتابية، مسيحية كانت أو يهودية، فكأن في الآية إشارةً لطيفة لمن أراد أنْ يتزوج فليتزوج مؤمنة، ولا يُمكِّن من مضجعه إلا مؤمنة معه، وهذا احتياط في الدين، فالمؤمنة تكون مأمونة على حياته وعلى عِرْضه، وعلى أولاده وماله، فإن غير المؤمنة لا تُؤتمن على هذا كله.
وقد رأينا بعض بعض شبابنا الذين ذهبوا إلى بلاد الغرب، وتزوجوا من أجنبيات، وبعد الزواج ظهرت النكبات والمصائب، فالأم لا تنسى أنها يهودية أو نصرانية، وتبثّ أفكارها، ومعتقداتها في الأولاد، إذن: فعلى المؤمن أنْ يختار المؤمنة؛ لأنها مؤتمنة عليه وعلى بيته.
وأذكر حين سافرنا إلى الخارج، كنا نُسْأل: لماذا أبحتُم لأنفسكم(19/12092)
أنْ تتزوجوا الكتابية، ولم تبيحوا لنا أن نتزوج المسلمة؟ وكان بعض الآباء يأتون ببناتهم اللائي وُلِدْن في ألمانيا مثلاً، وكانت البنت تُحاج والدها بهذه المسألة، لماذا لا أتزوج ألمانياً كما تزوجْتَ أنت ألمانية؟
فكنا نرد على بناتنا هناك: بأن المسلم له أن يتزوج كتابية؛ لأنه يؤمن بكتابها، ويؤمن بنبيِّها، لكن كيف تتزوجين أنت من الكتابي، وهو لا يؤمن بكتابك، ولا يؤمن بنبيك؟ إذن: فالمسلم مُؤْتَمن على الكتابية، وغير المسلم ليس مُؤتمناً على المسلمة.
وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس هذه المسألة: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ... } [البقرة: 237] .
ويمكن أنْ نُوفِّق بين هاتين الآيتين بأن الأولى نزلتْ فيمَنْ لم يُفْرض لها مهر، والثانية فيمَنْ فُرِض لها مهر، التي لم يُفرض لها مهر لها المتعة {فَمَتِّعُوهُنَّ ... } [الأحزاب: 49] والتي فُرض لها مهر لها نصفه، فكل آية تخصُّ وتعالج حالة معينة، وليس بين الآيتين نَسْخ.
وبعض العلماء يرى أنه لا مانع، إنْ فُرِضَ لها مهر أنْ يعطيها المتعة فوق نصف مهرها، وهذا رأي وجيه، فالعدل أنْ تأخذ نصف ما فُرِض لها، والفضل أنْ يعطيها المتعة فوق هذا النصف، وينبغي أنْ تبنى المعاملات دائماً على الفضل لا على مجرد العدل، وربنا عَزَّ وَجَلَّ يُعلِّمنا ذلك، حين يعاملنا سبحانه بفضله لا بعدله، ولو عاملنا بالعدل لهلكنا جميعاً.(19/12093)
لذلك جاء في دعاء الصالحين: اللهم عاملْنَا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. نعم، فإن لم يكُنْ في الآخرة إلا الحساب، فلن يكسب منا أحدٌ، وقد ورد في الحديث: «مَنْ نُوقِشَ الحساب عُذِّب» .
ويقول سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
فالفرح لا يكون إلا حين يشملك فضْل الله، وتعمُّك رحمته، وفي الحديث الشريف: «لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أنْ يتغمدني الله برحمته» .
فإنْ قُلْتَ: فكيف نجمع بين هذه النصوص من القرآن والسنة، وبين مكانة العمل ومنزلته في مثل قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] .
قالوا: صحيح أن للعمل منزلته وفضله، لكنك حين تعبد الله لا تُقدم لله تعالى خدمة بعبادتك له، إنما الخدمة مُقدَّمة من الله لك في مشروعية العبادة، وإلا فالله تعالى بكل صفات الكمال خلقك وخلق الكون كله لك، فإنْ كلَّفك بعد ذلك بشيء، فإنما هو لصالحك، كما تكلف ولدك بالجد والمذاكرة.(19/12094)
ثم لو أنك وضعتَ عملك في كِفَّة، ونِعَم الله عليك في كفة لما وفَّتْ أعمالك بما أخذْتَه من نِعَم ربك. إذن: إنْ أثابك بعد ذلك في الآخرة فإنما بفضله تعالى عليكَ ورحمته لك.
ومثَّلْنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - بقولك لولدك: لو نجحتَ آخر العام سأُعطيك هدية أو مكافأة، فمع أنه هو المستفيد من نجاحه إلا أنك تزيده؛ لأنك مُحِبٌّ له وتحب له الخير.
إذن: ينبغي أنْ نتعامل بهذه القاعدة، وأنْ نتخلَّق بهذا الخلق، خاصة في مثل هذه الحالة، حالة الزوجة التي طُلِّقَتْ قبل الدخول بها.
فإنْ قُلْتَ: ولماذا تأخذ الزوجة التي طُلِّقت قبل الدخول بها نصف المهر والمتعة أيضاً؟ نقول: هو عِوَض لها عن المفارقة، فإنْ كانت هي المُفَارقة الراغبة في الطلاق، فليس لها شيء من المهر أو المتعة، إنما عليها أنْ تردَّ على الزوج ما دفعه، كما جاء في حديث المرأة التي جاءت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تخبره أنها لا تريد البقاء مع زوجها، فقال لها: «رًدِّي عليه ما دفعه لك» وهذه العملية يسميها العلماء (الخُلْع) .
ثم بعد أن ذكر الحق سبحانه مسألة المتعة قال: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] .
السَّرْح في الأصل: شجر له ثمر، يوجد في البوادي، ترعاه الماشية وتحبه، فالكبيرة منها تأكل من أعلى الشجرة، أما الصغيرة(19/12095)
فيتعهدها الراعي إنْ كان عنده دقة رعاية، بأنْ يضرب بعصاه غصون الشجرة، فتتساقط منها بعض الأوراق، فيأكلها الصغار.
ومن ذلك قوله تعالى عن عصا موسى عليه السلام: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] .
ورُوى أن سيدنا عمر مرَّ على راعٍ فقال له: يا راع، فنظر الراعي إلى أمير المؤمنين، وقال: نعم يا راعينا - يعني: أنا راعي الغنم وأنت راعي الراعي، فكأنه لا يتكبر راعٍ على راعٍ - فقال عمر: يا هذا في الأرض التي تبعد عنك كذا وكذا سَرْح أجمل من هذا وأخصب، فاذهب إليه بماشيتك.
وهذا درس في تحمُّل مسئولية الرعية والحرص عليها، وكان عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه خير مَنْ تحمَّل هذه المسئولية، فيُرْوى أن سيدنا عمر وسيدنا عبد الرحمن بن عوف رأيا جماعة من التجار عابري السبيل يلجئون إلى المسجد للمبيت فيه، منهم مَنْ يحمل بضاعته، ومنهم مَنْ يحمل ثمن بضاعة باعها، فخافا أن يجتريء عليهم أحد فيسرقهم، فبات عمر وعبد الرحمن يتسامران حتى الفجر لحراسة هؤلاء العابرين.
وحتى الآن، في الفلاحين يقول الذاهب في الصباح إلى الحقول (نسْرَحْ) وللعودة آخر النهار (نروح) ، ثم تُدوول هذا اللفظ فأْطلق على كل خروج إلى شيء، ومن ذلك نقول: اعطني التسريح، فكأني كنت محبوساً فسمح لك بالخروج، ومن ذلك تسريح الزوجة.
لكن تسريح الزوجة وصفه الله تعالى بقوله {سَرَاحاً جَمِيلاً} [(19/12096)
الأحزاب: 49] وكل شيء وُصِف في القرآن بالجمال له مزية في ذاته، كما في {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. .} [يوسف: 18] وتسريح الزوجة عادة ما يصاحبه غضب وانفعال، فينبغي أنْ يكون التسريح جميلاً لا عنفَ فيه، كأنْ يُطيِّب خارطها بقوله: هذا قدرنا، وأرجو الله أن يُعوِّض عليك بخير مني أو غير ذلك، مما يراه مناسباً لتخفيف الخطْب عليها، ويكفي أن تتحمل هي ألم المفارقة ومصيبة الطلاق. وأيُّ جمال فيمَنْ يفارق زوجته بالسُّباب والشتائم، ويؤذيها بأن يمنعها حقاً من حقوقها.
وهذه الآية عالجتْ قضية هامة من قضايا الأسرة؛ لأنها مرادة للحق سبحانه، فالله تعالى خلق الإنسان الخليفة، وهو آدم عليه السلام، وخلق منه الزوجة ليُحقِّق منهما الخلافة في الأرض، لكن لماذا هذه الخلافة؟ قالوا: ليستمتعوا بآثار قدرة ربهم وحكمته في كونه، كما تسعد أنت حين تأتي لأولادك بما لَذَّ وطابَ من الطعام، وتفرح حين تراهم يأكلون ويتمتعون بما جئتَ به، تفرح لأنك عدَّيْتَ أثر قدرتك للغير - ولله تعالى المثل الأعلى -.
فما دام الحق سبحانه جعل الخليفة في الأرض ثم حدد مهمته، فقال: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا ... } [هود: 61] إذن: لا بُدَّ أنْ يضمن لهذا الخليفة مُقوِّمات حياته ومُقوِّمات استبقاء هذه الحياة لا تكتمل إلا بمُقوِّمات بقاء النوع، فإنه لن يعيش في الدنيا وحيداً لآخر الزمان.
واستبقاء الحياة يكون بالقوت؛ لذلك فإن ربك عَزَّ وَجَلَّ قبل أنْ يستدعيك إلى الوجود، وقبل أنْ يخلقك خلق لك، خلق لك الشمس والقمر والنجوم والكواكب والأرض والهواء والماء، فأعدَّ للخليفة كل مُقوِّمات حياته.
واقرأ قول الله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض(19/12097)
فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 10] .
إذن: فمخازن القوت مملوؤة {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] وما دام خالق البشر قدَّر لهم الأقوات مُقدَّماً، فليست لك أن تقول «انفجار سكاني» قُلْ: إنك قصرْتَ في استنباط هذا القوت بما أصباك من كسل أو سوء تخطيط.
ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] .
ومن الكفر بنعمة الله سَتْرها بالكسل والقعود عن استنباطها، وقد يَشْقي جيل بكسل جيل قبله، لذلك لما تنبَّهنا إلى هذه المسألة، وبدأنا نزرع الصحراء ونُعمِّرها انفرجتْ أزمتنا إلى حَدٍّ ما، ولو بكَّرْنا بزراعة الصحراء ما اشتكينا أزمة، ولا ضاقَ بنا المكان.
والحق سبحانه يُعلِّمنا أنه إذا ضاق بنا المكان ألاَّ نتشبثَ به، ففي غيره سعة، واقرأ: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ... } [النساء: 97] .
لذلك يخاطب الحق سبحانه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى في الخلوة الليلية معه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل ... } [المزمل: 20] إلى أن يقول: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى ... } [المزمل: 20] والمرضى غير قادرين على العمل، فعلى القادر إذن أنْ يعمل ليِسُدَّ حاجته وحاجة غير القادر {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله ... } [المزمل: 20] .(19/12098)
إذن: قانون الإصلاح الذي جعله الله لحياة البشر يقوم على دعامتين: الضرب في الأرض والسَّعْي في مناكبها، وفيه مُقوِّمات الحياة، ثم نقاتل في سبيل الله لبقاء الدعوة والمنهج، فالأولى للقالب، وبها نأكل ونشرب ونعيش، والأخرى للقيم.
فإنْ قعدتْ الأمة أو تكاسلتْ عن أيٍّ من هاتين الدعامتين ضاعتْ وهلكتْ وصارتْ مطمعاً لأعدائها؛ لذلك تجد الآن الأمم المتخلفة فقيرة، تعيش على صدقات الأمم الغنية؛ لأنها كفرتْ بأنعم الله وسترتها، ولم تعمل على استنباطها، قعدتْ عن الاستعمار والاستصلاح.
أما الأغنياء فعندهم فائض لا يُعْطي للفقراء، إنما يُرْمي في البحر ويُعدَم، لتظل لهم السيادة الاقتصادية، لذلك نستطيع أنْ نقول بأن شر العالم كله والفساد إنما يأتي بكفر نعم الله، إما بسترها وعدم استنباطها، أو بالبخل بها على غير الواجد.
ولأهمية القوت يأتي في مقدمة ما يمتنُّ الله به على عباده في قوله: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] .
وكما ضَمن الحق سبحانه للخليفة في الأرض مُقوّمات حياته ضَمِن له أيضاً بقاء نوعه ونَسْله، وجعل ذلك بالزواج الذي شرَّعه الله؛ ليأتي النسل بطريقة طاهرة شريفة، لا بطريقة خسيسة دَنِسة، وفَرْق بين هذا وذاك، فالولد الشرعي تتلقفه أيدي الوالدين وتتباهَى به، أما الآخر فإذا لم تتخلَّص منه أمه وهو جنين تخلصت منه بعد ولادته، لأنه عار عليها.
فالحق سبحانه شرع الزواج لطهارة المجتمع المسلم ونظافته وسلامته، مجتمع يكون جديراً بأن يتباهى به سيدنا رسول الله يوم القيامة، فقد ورد في الحديث الشريف: «تناكحوا تناسلوا، فإنِّي(19/12099)
مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة» .
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا ... } .(19/12100)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
الحق - تبارك وتعالى - لم يخاطب نبيه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باسمه العَلم أبداً، كما خاطب غيره من الأنبياء فقال: يا نوح، يا عيسى، يا موسى، يا إبراهيم. . إلخ، أما رسول الله، فناداه ربه بقوله {ياأيها النبي ... } [الأحزاب: 50] و {ياأيها الرسول ... } [المائدة: 41] .
ونداء الشخص باسمه العَلَم دليلٌ على أنه ليستْ له صفة مميزة، فإنْ ملك صفة مميزة نُودِي بها تقول: يا شجاع، يا شاعر. . إلخ، الآن الجميع يشتركون في العَلَمية. إذن: فنداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيأيها النبي، ويأيها الرسول تكريم له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقوله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... } [الأحزاب: 50] ما معنى {أَحْلَلْنَا ... } [الأحزاب: 50] هنا ما دام الحديث عن أزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قالوا: معناها أنها كانت في منطقة مُحرَّمة ثم أحلَّها الله له أي: جعلها حلالاً، وهذا المعنى يتضح بقوله تعالى بعدها {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... } [الأحزاب: 50] كأن رسول الله أخذ بالحِلِّ أولاً، بدليل أنه آتى الأجر والمهر.
ولقد كان للعلماء وَقْفة عند تسمية المهر أجراً، قالوا: كيف يُسمِّي المهر أجراً، ومعنى الأجر في اللغة: جُعْلٌ على منفعة موقوتة يؤديها المُستأجر للمُستأجِر، أما النكاح فليس موقوتاً، إنما من شروطه نية التأبيد والدوام؟
وللجواب على هذه المسألة نقول: لا يصح أنْ تُؤخَذ الآيات، منفصلة بعضها عن بعض، إنما ينبغي أنْ نجمع الآيات الواردة في نفس الموضوع جَنْباً إلى جنب؛ ليأتي فهمها تاماً متكاملاً.
فالحق سبحانه يقول في موضع آخر مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شأن زوجاته: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ... } [الأحزاب: 51] أي: تؤخر(19/12101)
استمتاعك بها {وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ... } [الأحزاب: 51] أي: تضمُّها إليك.
إذن: ما دم لك أن ترجيء أزواجاً منهن وتمنعهن من القسمة، ثم تضم غيرهن، فكأن المنفعة هنا موقوتة، فناسب ذلك أن يُسمَّى المهر أجراً.
والحق سبحانه يعطي نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل مراحل سيرته أزكى المواقف وأطهرها وأنبلها، فقوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... } [الأحزاب: 50] دليل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما انتفع بهن إلا بعد أنْ أدَّى مهرهن، في حين أن للإنسان أنْ يسمى المهر، ويدخل بزوجته دون أن يدفع من المهر شيئاً، ويكون المهر كله أو بعضه مُؤخَّراً، لكن تأخير المهر يعطي للمرأة حق أنْ تمتنع عن مضاجعته، فإنْ سمحَتْ له فهو تفضُّل منها. إذن: فرسول الله اختار أكمل شيء.
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليبُيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وجعله ربه أُسْوة سلوكية في الأمور التي يعزُّ على الناس أن يستقبلوها، فنفَّذها رسول الله في نفسه أولاً كما قلنا في مسألة التبني.
كذلك في مسألة تعدد الزوجات، فرسول الله أُرسِل والتعدد موجود عند العرب وموجود حتى عند الأنبياء السابقين، لكن أراد الله أنْ يحدد هذا التعدد تحديداً يمتص الزائد من النساء، ولا يجعله مباحاً في كل عدد، فأمر رسوله أن يقول لأمته: مَنْ كان عنده أكثر من أربع فليمسك معه أربعاً، ويفارق ما زاد عنهن، في حين كان عنده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسع زوجات.
فلو أن الحكم شمله، فأمسك أربعاً، وسَرَّح خمساً لأصابهُنَّ ضرر كبير، ولصِرْنَ مُعلَّقات؛ لأنهن زوجات رسول الله وأمهات(19/12102)
المؤمنين، وليس لأحد أن يتزوج إحداهن بعد رسول الله.
إذن: الحكم يختلف مع رسول الله، والعدد بالنسبة له أن يقتصر على هؤلاء التسعة بذواتهن، بحيث لو ماتت إحداهن أو طُلِّقت فليس له أنْ يتزوَّج بغيرها؛ لأن الله خاطبه بقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] .
وقد بيَّنا للمستشرقين الذين خاضوا في هذه المسألة أن رسول الله لم يُسْتثْن في العدد، إنما استُثنى في المعدود، حيث وقف عند هؤلاء التسع بذواتهن، وليس له أنْ يتزوج بأخرى، أما غيره من أمته فلن أنْ يتزوج ضِعْف أو أضعاف هذا العدد، شريطة ألاَّ يزيد عن أربع في وقت واحد.
وكلمة {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... } [الأحزاب: 50] جاءت قبل {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ... } [الأحزاب: 52] وقد ورد عن السيدة عائشة أنها قالت: ما مات رسول الله حتى أبيح له أنْ يتزوج ما شاء، فكيف ذلك؟
قالوا: لأن الله تعالى أراد أنْ يعطي لرسوله تميُّز الوفاء لأزواجه، فمع أن الله أباح له أنْ يتزوج بغيرهن، إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يفعل وفاءً لهُنَّ، والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يفعل ذلك لأنه كان إذا حُيي بتحية يُحييّ بأحسن منها أو يردُّها بمثلها، وقد رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أزواجه سابقة خير حين خيرَّهُنَّ فاخترْته وفضَّلْن العيش معه على زينة الدنيا ومتعها، فكأنه يردُّ لهم هذه التحية بأحسن منها.
ومجيء {أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... } [الأحزاب: 50] قبل {لاَّ يَحِلُّ لَكَ(19/12103)
النسآء مِن بَعْدُ ... } [الأحزاب: 52] دليل على تكريم الرسول ومعاملته معاملة خاصة، فالله قد أحل له قبل أنْ يُحرِّم عليه، ومثال هذا التكريم قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ... } [التوبة: 43] فسبُق العتاب بالعفو.
ونلحظ في قوله تعالى: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... } [الأحزاب: 50] أن الأزواج جاءت بصيغة المذكَّر ولم يقل زوجاتك؛ لأن الزوج يُطلق على الرجل وعلى المرأة، والزوج في اللغة هو الواحد المفرد ومعه غيره من جنسه، وليس الزوج يعني الاثنين كما يعتقد البعض، ومثلها كلمة (توأم) فهي تعني الواحد الذي معه غيره، فكل منهما يسمَّى توأماً، ومن ذلك قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين ... }
[الأنعام: 143] .
ثم يقول تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ ... } [الأحزاب: 50] نعرف أن ملْك اليمين يُقصَد به المرأة المملوكة، وجاء قوله تعالى: {مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ ... } [الأحزاب: 50] احتياط، فمِلْك اليمين بالنسبة لرسول الله جاء من طريق شرعي، جاء من الفيء والمراد أسرى الحروب.
وقد باشر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عملية السَّبْي بنفسه؛ لأن من الإماء حرائر أُخِذْنَ عُنْوة أو سُرِقْنَ، ومنهم من بيعتْ في سوق الرقيق على أنها أَمَة، وهذا ما رأيناه فعلاً في قصة سيدنا زيد بن حارثة، إذن: فقوله تعالى: {مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ ... } [الأحزاب: 50] أي: أنك ملكتها، وأنت واثق تمام الثقة أنها أمَة وَفَيءٌ أحله الله لك.
{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا(19/12104)
خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ... } [الأحزاب: 50] .
وكذلك أحلَّ الله لنبيه أنْ يتزوّج من بنات عمه، أو بنات عماته، أو بنات خاله، أو بنات خالاته، والعمومة: أقاربه من جهة أبيه، والخئولة أقاربه من جهة أمة، ونلاحظ أن رسول الله لم يتزوج لا من بنات عمه، ولا من بنات عماته، ولا من بنات خاله، ولا من بنات خالاته.
والمعنى أن الله تعالى أحلَّ له أنْ يتزوَّج من هؤلاء ما وُجد؛ لأن قرابته سيكونون مأمونين عليه، ومعينين له على أمره.
وحين تتأمل هذه الآية نجد أن العم والخال جاءت مفردة، في حين جاءت العمات والخالات جمعاً، لماذا؟ قالوا: لأن العم والخال اسم جنس، واسم الجنس يُطلَق على المفرد وعلى الجمع، بدليل أنك تجد اسم الجنس في القرآن يُستثنى منه الجمع، كما في {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1 - 3] .
فالإنسان اسم جنس مفرد، واستثني منه الذين آمنوا وهي جمع، أما العمَّات والخالات فليستْ اسم جنس؛ لذلك جاءتْ بصيغة الجمع المؤنث.
وأيضاً، لأن العم صِنْو الأب، فعلى فرض أنهم أعمام كثيرون، فهم في منزلة الأب، واقرأ في ذلك قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ... } [البقرة: 133] فدخل العَمُّ في مُجْمل الآباء.
وكذلك سَمَّي العمَّ أباً في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ... } [الأنعام: 74] ومعلوم أنه كان عمه.(19/12105)
وفي موضع آخر، جاءت عم بصيغة الجمع، وهو قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ ... } [النور: 61] .
فجاءت العم والخال هنا بصيغة الجمع، لماذا؟ قالوا: لأن الحديث هنا عن البيوت التي يُبَاح لك أنْ تأكل منها، وجاءت (بيوت) بصيغة الجمع، والعم له بيت واحد، فما دام قال بيوت فلا بُدَّ أنْ تأتي (أعمامكم) و (أخوالكم) بصيغة الجمع.
ثم يقول تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ... } [الأحزاب: 50] الوَهْب: انتقال ملكية بلا مقابل، نقول: فلان وهبك كذا يعني: أعطاه لك بلا مقابل، ليس بيعاً وليس بدلاً مثلاً.
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة: أتعجبُ لامرأة تبتذل نفسها، وتعطي نفسها لرجل هكذا مجاناً بلا مقابل، فنزل النص {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ... } [الأحزاب: 50] عندها قالت السيدة عائشة لسيدنا رسول الله: يا رسول الله، أرى الله يسارع إلى هواك، فقال لها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأنت يا عائشة، لو اتقيتِ الله لسارع في هواك» .(19/12106)
والمعنى: أن الله يسارع في هواي، لأنني سارعتُ في هواه، طلب مني فأدَّيْتُ؛ لذلك يُلبي لي ما أريد من قبل أنْ أطلب منه.
وقال {وامرأة مُّؤْمِنَةً ... } [الأحزاب: 50] لأن الهبة هنا خاصة بالمؤمنة، فإنْ كانت كتابية لا يصح أن تهبَ نفسها للنبي، لكن أتحل له المرأة بمجرد أن تهب نفسها له؟ قالوا: لا، إنما لا بُدَّ من القبول، فإنْ قالت المرأة لرسول الله: أنا وهبتُ نفسي لك لا بُدَّ أنْ يقبل هو هذه الهبة؛ لذلك علَّق على هذه المسألة بقوله {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا ... } [الأحزاب: 50] لأن المسألة مبنية على إيجاب وقبول.
وللعلماء كلام في هذه المسألة، فبعضهم قال: لم يأخذ رسول الله امرأة بهبة أبداً، وقال آخرون: بل عنده أربع موهوبات هُنَّ: ميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت خزيمة أم المساكين، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم.
وليس في هذا التعارض (فزورة) ، فمن السهل أنْ نجمع بين(19/12107)
هذين القولْين؛ لأن الله تعالى قال: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا ... } [الأحزاب: 50] فربما وهبَتْ نفسها للنبي، لكنه لم يُرِد، أو وهبتْ نفسها للنبي، فأراد أنْ يكرمها، وأنْ يجعل لها مهراً ويتزوجها.
وكلمة {يَسْتَنكِحَهَا ... } [الأحزاب: 50] مثل ينكحها، فهما بمعنىً واحد، مثل: عَجِل واستعجل.
ومعنى {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ... } [الأحزاب: 50] أن الله تعالى خَصَّ رسوله بأشياء ميَّزة بها؛ لأن مهمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليستْ مع نفسه هو، إنما مهمته مع الناس جميعاً، وليس للناس المعاصرين له فحسب، إنما جميع الناس حتى قيام الساعة.
إذن: فمشغولياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثيرة كبيرة، كما قال سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
لذلك أراد الحق سبحانه ألاَّ يشغله شيء عن مهمته هذه، وأراد أنْ يتوفر رسول الله لأداء هذه المهمة التي هو بصددها، بحيث إذا ما عشق عملية البلاغ عن الله واندمج فيها ومعها تموت في نفسه كلُّ الأهواء، ولا يبقى إلا انشغاله بمهمة الدعوة.
بدليل أن الوحي في أوله كان يجهد سيدنا رسول الله، وكان جبينه يتفصَّد عرقاً، ويذهب إلى أهله فربما يقول: زَمِّلوني زمِّلوني، ودثِّروني دثِّروني، ثم شاء الله تعالى أنْ يرفع عنه هذه المعاناة، وأنْ يريحه مما أنقض ظهره وأتعبه، ففتر الوحي فترة عن رسول الله حتى استراحتْ أعصابه، وهدأتْ طاقته، وبقيت معه حلاوة ما أوحي إليه هذه الحلاوة التي جعلتْ سيدنا رسول الله يتشوَّق للوحي من جديد، وشوقك إلى الشيء يُنسِيك التعب في سبيله.(19/12108)
وفي ذلك قوله تعالى: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 1 - 5] .
وعجيبٌ أن يقول المشركون عند انقطاع الوحي: إن ربَّ محمد قلاه، ففي الجفوة عرفوا أن لمحمد رباً يجفوه، أما حين الخلوة والجَلْوة قالوا: مُفْترٍ وكذَّاب وشاعر. . إلخ.
ومعنى {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] يعني: ستكون عودة الوحي خيراً لك من بدايته؛ لأنه جاءك أولاً فوق طاقتك فأجهدك، أما في الأخرى فسوف تستدعيه أنت بنفسك وتنتظره على شوق إليه، فطاقتك هذه المرأة مستعدة لاستقباله، قادرة على تحمُّله دون تعب أو إجهاد.
إذن: فالحق سبحانه جعل لرسوله ما يُيسِّر له أمر الاندماج في المستقبل، لذلك لما عاوده الوحي لم يتفصَّد جبينه عرقاً، ولا أُجهد كالمرة الأولى، لأن طاقة الشوق عنده وطاقة الحب تغلبتا على هذا التعب وهذا الاجتهاد.
ثم يقول سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ... } [الأحزاب: 50] أي: من العدد الذي حُدِّد بأربعة، ومن المهر الذي سُمِّي ساعة العقد، والمراد أن لكلٍّ حكمه وقانونه، فلكَ يا محمد حكم يناسبك، ولأمتك حكم.
وبمناسبة ما نحن بصدده من الحديث عن أحكام الزواج والتعدد يجدر بنا أن نشير إلى الضجة التي يثيرها أعداء الإسلام بسبب مسألة «تعدد الزوجات» ، مع أن التعدد في مصر لم يصل إلى حَدِّ الظاهرة، وليس وباءً كما يُصوِّره البعض.(19/12109)
فالذين أحصوا هذه المسألة وجدوا أن الذين عدَّدوا بزوجتين ثلاثة بالمائة، والذين عددوا بثلاث واحد في الألف، والذين عدَّدوا بأربع نصف في الألف، فلماذا إذن إثارة الناس ضد ما شرع الله، ثم ألم يمتصّ التعدد فائضاً من النساء؟
وتأتي الزوجة تشتكي: بعد أنْ عِشْتُ معه كذا وكذا، وخدمته كذا وكذا يتزوج عليَّ؟ فأقول لها: أضَرَّك أنتِ؟ تقول: نعم، أقول: لكنه نفع أخرى، فواحدة بواحدة، ولماذا ننظر إلى المتزوجة، ونغفل التي لم تتزوج، أليس من حقِّها هي الأخرى أن تتزوج؟
ثم إن المرأة التي قبلَتْ أن تكون الثانية ما قبلت إلا لأنها لم تستطع أنْ تكون الأولى، وكذلك الثالثة ما قبلتْ، إلا لأنها لم تستطع أن تكون الثانية.
. إلخ ثم نقول لهؤلاء: أألزمك ربك أنْ تعدد؟ هذه مسألة أباحها الشارع لحكمة، ولم يلزمك بها، فإنْ كان التعدد لا يعجبك فاكتفِ بواحدة.
والذين أثاروا الضجة في تعدُّد الزوجات أثاروا أكثر منك في مسألة مِلْك اليمين في الإسلام، وراحوا يتهمون الإسلام والمسلمين: كيف يجمَع الرجل فوق زوجاته كذا وكذا من ملْك اليمين؟
ومعلوم أن مِلْك اليمين كان موجوداً قبل الإسلام، وظل موجوداً حتى دعا القانون الدولي العام إلى منع ظاهرة العبودية، ودعا إلى تحرير العبيد، فسرَّح الناس ما عندهم من العبيد، وكان منهم مَنْ يشتري العبيد من أصحابهم ثم يُطلِق سراحهم.
ومن هؤلاء العبيد مَنْ كان يعود إلى صاحبه وسيده مرة أخرى يريد العيش في كنفه وفي عبوديته مرة أخرى؛ لأنه ارتاح في ظل(19/12110)
هذه العبودية، وعاش في حمايتها، وكان بعضهم يفخر بعبوديته ولا يسترها فيقول: أنا عتيق آل فلان.
والمنصف يجد أن مِلْك اليمين في الإسلام ليست سُبَّة فيه، إنما مفخرة للإسلام؛ لأن مِلْك اليمين وسيلته في الإسلام واحدة، هي الحرب المشروعة، فالإسلام ما جاء لينشيء رِقاً، إنما جاء لينشيء عتقاً.
الإسلام جاء والرق موجود، وكان العبيد يُباعون مع الأرض التي يعملون بها، ولا سبيل للحرية غير إرادة السيد في عِتْق عبده، في حين كانت منابع الرقِّ كثيرة متعددة، فكان المدين الذي لا يقدر على سداد دَيْنه يبيع نفسه أو ولده لسداد هذا الدين، وكان اللصوص وقُطَّاع الطرق يسرقون الأحرار، ويبيعونهم في سوق العبيد. . إلخ.
فلما جاء الإسلام حرَّم كل هذه الوسائل ومنعها، ولم يُبْقِ إلا منبعاً واحداً هو السَّبْي في حرب مشروعة، وحتى في الحرب ليس من الضروري أن ينتج عنها رِقٌّ؛ لأن هناك تبادلَ أسري، ومعاملة بالمثل، وهذا التبادل يتم على أقدار الناس، فالقائد أو الفيلسوف أو العالم الكبير لا يُفتدى بواحد من العامة، إنما بعدد يناسب قدره ومكانته، واقرأ في ذلك قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ... } [محمد: 4] .
لأن الحرب ما شُرِعَتْ في الإسلام ليُرغم الناسُ على الدين، لكن ليُحمي اختيارهم للدين، بدليل أن البلاد التي دخلها الفتح الإسلامي بقي فيها كثير من الناس على كفرهم، ثم ألزمهم دفع الجزية مقابل الزكاة التي يدفعها المسلم، ومقابل الخدمات التي تؤديها إليه الدولة.(19/12111)
ثم تأمل كيف يعامل الإسلام الأسري، وعلى المجتمع الظالم الذي ينتقد الإسلام في هذه الجزئية أن يعلم أن الذي أَسرْتَه في المعركة قد قدرْتَ عليه، وتمكَّنْتَ منه، وإنْ شئت قتلتَهُ، فحين يتدخَّل الشرع هنا ويجعل الأسير مِلْكاً لك، فإنما يقصد من ذلك حَقْن دمه أولاً، ثم الانتفاع به ثانية، إما بالمال حين يدفع أهله فديته، وإما بأنْ يخدمك بنفسه.
إذن: المقارنة هنا ليستْ بين رِقٍّ وحرية كما يظن البعض، إنما هي بين رِقٍّ وقتل.
إذن: مشروعية الرق في أسرى الحرب إنما جاءتْ لتحقِنَ دم المأسور، وتعطي الفرصة للانتفاع به، فإذا لم يتم الفداء ولا تبادل أسرى وظَلَّ أسيرك بيدك، فاعلم أن له أحكاماً لا يصح تجاوزها، فهو شريكك في الإنسانية المخلوقة لله تعالى، وما أباح الله لك أنْ تأسره، وأن تملكه إلا لكي تَحْقِنَ دمه، لا أن تُذِلَّهُ.
واقرأ قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إخوانكم خَولَكُم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمَنْ كان أخوه عنده فليُطْعمه مما يطعم، وليُلبِسْه مما يلبس، ولا يُكلِّفه ما لا يطيق، فإن كَلَّفه فَلْيُعِنه» .
فأيُّ إكرام للأسير بعد هذا، بعد أنْ حقن دمه أولاً، ثم كرَّمه بأنْ جعله أخاً لك، واحترم آدميته بالمعاملة الطيبة، ثم فتح له عدة منافذ تؤدي إلى عِتْقه وحريته، فإنْ كان للرقِّ في الإسلام باب واحد، فللحرية عدة أبواب، منها العتق في الكفارات وهي في تكفير الذنوب التي بين العبد وربه.(19/12112)
فإذا لم تكُنْ هناك ذنوب فقد رغَّبَنا الشرع في عِتْق الرقاب لاجتياز العقبة كما في قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] .
هذا إنْ كان الأسير رجلاً، فإنْ كان امرأة، ففيها نفس التفصيل السابق، وتُعامَل نفس المعاملة الطيبة يزيد على ذلك أن للأَمَة - وهي في بيت سيدها - وضعها خاصاً، فهي ترى سيدتها تتمتع بزوجها، وترى البنت تتزوج، فيأخذها زوجها إلى بيت الزوجية، إلى آخر مثل هذه الأمور، وهي تقف موقف المتفرج، وربما أخذتها الغيرة من مثل هذه المسائل، فيكرمها الله حين يُحلّها لسيدها، فيكون لها ما لسيدتها الحرة، فإذا ما أنجبتْ لسيدها ولداً صارت حُرَّة به، وهذا منفذ آخر من منافذ القضاء على الرق.
وقوله تعالى: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ... } [الأحزاب: 50] هذه هي الهبة الخالصة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أمته، كأن الله يقول لنبيه: لا نريد أنْ نُحمِّلك ضيقاً في أيِّ شيء لتفرغ أنت لمهمتك الصعبة. {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 50] .
ثم يقول الحق سبحانه: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ... } .(19/12113)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قوله {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ ... } [الأحزاب: 51] أي: تؤخر مَنْ تشاء من زوجاتك عن ليلتها {وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ... } [الأحزاب: 51] أي: تضم إليك، وتضاجع مَنْ تشاء منهن {وَمَنِ ابتغيت ... } [الأحزاب: 51] من طلبتَ من زوجاتك وقرَّبت {مِمَّنْ عَزَلْتَ ... } [الأحزاب: 51] أي: اجتنبتَ بالإرجاء والتأخير {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ... } [الأحزاب: 51] أي: لا إثم ولا حرج.
{ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ... } [الأحزاب: 51] أي: أنهُنَّ جميعاً سيفرَحْنَ، التي تضمها إليك، والتي تُرجئها وتؤخرها، وسوف يرضيْنَ بذلك؛ لأنهن يعلَمنَ أن مشيئتك في ذلك بأمر الله، فالتي ضمها رسول الله إيه تفرح بحب رسول الله ولقائه، والتي أُخِّرَتْ تفرح؛ لأن رسول الله أبقى عليها، ثم عاد إليها مرة أخرى وضمَّها إليه وقرَّبها، وهذا يدل على أن لها دوراً ومنزلة، وأيضاً حين يكون ذلك من تشريع رب محمد لمحمد، فإنه لا يعني أنه كرهها أو زهد فيها، فإنْ فعلْتَ ذلك يا محمد - مع أن فيه مشقة - فإنما فعلْتَه طاعة لأمر مَنْ؟ لأمر الله، فتأخذ ثواب الله عليه.
وحين نتأمل كلمة {تَقَرَّ ... } [الأحزاب: 51] تجد أنها كعامة كلمات القرآن (كالألماس) ، لكل ذرة تكوينية فيه بريق خاص وإشعاع؛ لذلك يقولون عنه: (دا بيلالي) ومع كثرة بريقه لا يطمس شعاعٌ فيه شعاعاً آخر، كذلك كلمات القرآن.
(قرَّ) وردتْ كثيراً في القرآن كما في {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ... } [القصص: 9] .
كلمة قرَّ معناها سكن، نقول: قَرَّ بالمكان أي: استقر فيه وسكن، والقرّ هو البرد، وقُرَّة العين تأتي بالمعنيين، فالعين تسكن(19/12114)
عند شيء ما، ولا تنتقل إلى غيره إنْ كان جميلاً يأسرها فلا تفارقه، يقولون: فلان قيْد النظر.
وفي المقابل يقولون: فلان عينه زائغة يعني: لا تستقر على شيء أو (عينه دشْعَة) عند إخواننا الذين ينطقون الجيم دالاً مثل (دِرْدَة) يقصدون جرجاً، والعين الجشعة بنفس المعنى، وفي المعنى السياسي يقولون: فلان له تطلُّعات يعني: كلما وصل إلى منصب نظر إلى الأعلى منه.
أما القُرُّ بمعنى البرودة، فَقُرَّة العين تعني: برودتها، وهي كناية عن سرورها؛ لأن العين لا تسخُن إلا في الحزن والألم؛ لذلك ثبت أخيراً أن حبة العين (ترمومتر) دقيق لحالة الجسم كله، وميزان لصحته أو مرضه.
ولأهمية العين نقول في التوكيد: جاءني فلان عينه، وسبق أن تحدثنا عن ظاهرة الاستطراق الحراري في جسم الإنسان وقلنا: إن من المعجزات في تكوين الإنسان أن الاستطراق الحراري في جسمه يتم بنظام خاص، بحيث يحتفظ كل عضو في الجسم بحرارة تناسبه، فإن كانت حرارة الجسم العامة والمثالية 37 - ومن العجيب أنها كذلك عند سكان القطب الشمالي، وهي كذلك عند سكان خط الاستواء - فإن حرارة الكبد مثلاً لا تقل عن 40 مئوية، أما العين فإذا زادت حرارتها عن عشر درجات تنفجر.
إذن: فقُرَّة عَيْن زوجات النبي وسُرورهن في مشيئته، حين(19/12115)
يُقرِّب إليه مَنْ يُقرِّب، أو يؤخر من يؤخر؛ لأن مشيئته نابعة من أمر الله له.
وقوله تعالى: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ... } [الأحزاب: 51] أي: في أيِّ الحالات، ثم جاء قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً} [الأحزاب: 51] ليشير إلى أن الرضا هنا ليس هو رضا القوالب، إنما يراد رضا القلب بتنفيذ أوامر الله دون أنْ يكون في النفوس دخائل أو اعتراض.
فالله سبحانه {وَكَانَ الله عَلِيماً ... } [الأحزاب: 51] يعلم ما في القلوب {حَلِيماً} [الأحزاب: 51] لا يجازيكم على ما يعلم من قلوبكم، ولو جازاكم على قَدْر ما يعلم لأتعبكم ذلك.
وتأمل حِلْم الله علينا ورحمته بنا في مسألة البدء ببسم الله، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلِّمنا أن كل عمل لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر أي: مقطوع البركة، فالإنسان حين يبدأ في الفعل لا يفعله بقدرته عليه، ولكن بتسخير مَنْ خلقه له، فحين تقول: بسم الله أفعل كذا وكذا، فإنك تفعل باسم الذي سخَّر لك هذا الشيء.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 12 - 13] .
فعليك أنْ تبدأ ببسم الله حتى إنْ كنتَ عاصياً لله، إياك أن تظنَّ أنك لسْتَ أهلاً لهذه الكلمة؛ لأن ربك حليم، ورحمن رحيم.(19/12116)
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ ... } .(19/12117)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
سبق أن تناولنا تفسير هذه الآية في إطار سياق الآيات السابقة، ونلخصها هنا في أن الحق سبحانه بدأ رسوله أولاً بأن أحلَّ له في قوله: {ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ... } [الأحزاب: 50] ثم قيد هذا التحليل هنا، فقال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] .(19/12117)
فالحق سبحانه يأتي بالمخفَّف في أشياء، ثم يأتي بالمثقّل؛ ليعلم القوم أن الله تعالى بدأ رسوله بالعطف والرحمة والحنان، ويُبيِّن فضله عليه، كما قال له سبحانه {عَفَا الله عَنكَ ... } [التوبة: 43] قبل أنْ يعاتبه بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ... } [التوبة: 43] .
وهذه الآية {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ ... } [الأحزاب: 52] توضح أنْ ما شُرِع لرسول الله في مسألة تعدُّد الزوجات غير ما شُرِع لأمته، فرسول الله استثناه الله تعالى في المعدود لا في العدد، والفرق بين الاستثناء في العدد والاستثناء في المعدود أن العدد يُدَار في أشياء متعددة، فلو أنه أباح له عدد تسع ثم تُوفِّين لَكَان له أن يتزوج بتسع أُخَر، وإنْ ماتت واحدة منهن له أن يتزوج بواحدة بدلاً منها.
لكن الاستثناء لم يكُنْ لرسول الله في العدد كأمته، إنما في المعدود، بحيث يقتصر على هؤلاء بخصوصهن، والحكمة في ذلك أن التي يفارقها زوجها من عامة نساء المؤمنين لها أنْ تتزوج بغيره، على خلاف زوجات رسول الله، فإنهن أمهات للمؤمنين، فلا يحل لهُنَّ الزواج بعد رسول الله.
ثم أوضحنا أن مسألة مِلْك اليمين ليستْ سُبَّة في جبين الإسلام، إنما هي ميزة من ميزاته، فالله مَلَك الرقبة ليحميها من القتل، والمقارنة هنا ليستْ بين رق وحرية، إنما بين رق وقتل كما أوضحنا، والذي يتأمل حال المملوك أو المملوكة في ظل الإسلام لا يسعه إلا الاعتراف بحكمة الشرع في هذه المسألة.(19/12118)
ثم يقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ ... } .(19/12119)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
الحق - سبحانه وتعالى - وزَّع الأمر بين رسول الله وبين أمته، فكما قال للرسول في أول السورة {ياأيها النبي اتق الله ... } [الأحزاب: 1](19/12119)
أمر أمته بذكْره وطاعته، وكما تكلَّم عن أمر يتعلَّق برسول الله تكلَّم كذلك عن أمر يتعلق بأمته في قوله {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ... } [الأحزاب: 49] .
بعد ذلك لرسول الله: {ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] ليُبيِّن عموم نَفْعه لأمته، فجازاه عن الأمة بأن يُصلُّوا عليه، وأنْ يتأدبوا حين دخولهم بيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال هنا: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ(19/12120)
لَكُمْ ... } [الأحزاب: 53] لأن التكليف لا بُدَّ أن يكون لمن آمن بالله. وقلنا: إن الحق سبحانه رب وإله، ومعنى (رب) أنه سبحانه خلق وربَّي وأنعم وتفضَّل، والخَلْق والتربية والإنعام والتفضُّل ليس خاصاً بالمؤمنين، بل لكل مَن استدعاه الله لوجود من مؤمنين وكافرين.
فالشمس تشرق على الجميع، والمطر يروى أرض المؤمن والكافر، والأرض تستجيب للكل، فالذي يُحسِن أَخْذ أسباب الله من عطاء الربوبية يأخذ النتيجة، وينال نصيبه موقَوتاً بمدى الربوبية في الدنيا {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] والله لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملاً.
فالمؤمن الذي لا يأخذ يد الله الممدودة له بالأسباب ويهملها يعيش مُتخلِّفاً عالةً على غيره، يعيش شحاذاً يستجدي قُوتَه حتى من الكافر، فإذا ما خَلَتْ الساحة للكافر، وأخذ هو بالأسباب، وأعطاها حقوقها أخذ هو عطاء الرب، وكان أَوْلَى بالمؤمن ألاَّ يترك عطاء ربه، يأخذه مَنْ لا يؤمن بالله، ثم يتخلف هو عن رَكْب الحضارة، وإنْ كانت الحضارة التي وصل إليها الكفار اليوم حضارة في الماديات فحسب.(19/12121)
أما القيم والأخلاقيات فقد انحدرتْ في هذه المجتمعات، بدليل أنك حين تذهب إلى هذه البلاد وتنزل مثلاً في فندق - كما نزلنا - تجد مكتوباً على باب الحجرة: إذا دخل عليك اللصوص فلا تقاوم، فإن حياتك أثمن مما معك، إذا خرجتَ إلى الشارع فلا تحمل من المال إلا بقدر ضرورياتك. إذن: ارتقوا في شيء، وانحدروا في أشياء.
وإذا كان مظهر ارتقائهم في الناحية الاقتصادية، فانظر إلى أعلى دَخْلٍ للفرد في العالم تجده في السويد، ومع ذلك تكثر عندهم الأمراض النفسية والعصبية والانتحار والجنون والشذوذ وغيرها من الأمراض الاجتماعية.
لقد تحضَّرتْ هذه البلاد حضارة مادية؛ لأنهم أخذوا بأسبابها، فأتقن كُلٌّ عمله، وأعطى وقت العمل للعمل، فما بين الثامنة إلى الثانية عشرة لا تجد إنساناً في الشارع، ولا تجد أحداً يجلس على (القهوة) مثلاً أو يضيع وقت العمل، وفي وقت الراحة يذهب الجميع إلى المطعم ليأكل (السندوتش) الجاهز، ثم يعود إلى عمله.
هكذا يعيش المجتمع المادي، فالذي لا يعمل فيه يموت من الجوع، والحمد لله أن شبابنا تنبهوا إلى أهمية العمل وتخلَّوْا عن الطفولة التي كانوا يعيشون فيها حتى الثلاثين، وهم عَالَة على الأبوين.
والحق سبحانه هنا يُعلِّمنا الأدب مع رسول الله، ويجعله لنا قدوة، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاش عيشة الكفاف مطعماً وملبساً ومسكناً، فليس عنده إلا عدة حجرات، لكل زوجة من زوجاته حجرة واحدة، فليس لديه حجرة صالون أو استقبال، فلا بُدَّ أن تتعلم الأمة آداب الدخول وآداب الزيارة في مثل هذه الحالة، وخاصة مع رسول الله في بيوته.
فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ... } [الأحزاب: 53] كلمة (بيوت) جمع بيت، وهو ما أُعِدَّ للبيتوتة أي: للمبيت فيه، والمبيت في الأغلب الأعَمِّ لليل، فهو محل السكون والبيات، أما النهار فهو محلُّ الحركة، ولا بد للإنسان بعد التعب والجهد أن يأوي بالليل إلى مكان يستريح فيه ويفيء إليه؛ لذلك سُمِّي البيت سكناً، كذلك سُمِّيت الزوجة سكناً للسبب نفسه.
فالبيت مسكن لإيواء القالب وراحته، والمرأة سَكَن لإيواء القلب وراحة النفس، فكلاهما ينبغي أن يكون مصدراً للراحة.
والبيت يُجمع على بيوت إنْ أردنا المسكن، ويجمع على أبيات إنْ أردنا البيت الشعري، وسُمِّي الشعر بيتاً عند العرب وهم أمة فصاحة وبيان؛ لأنه تأوي إليه المعاني، كما نأوي نحن إلى بيوتنا ونسكن فيها، كذلك المعاني تسكن بيت الشعر، فيصير البيت نفسه حكمة.
لذلك يقول أحمد شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ: لا يزال الشعر عاقلاً - يعني: لا زينة له من قولهم المرأة العاقل أي: التي لا زينة لها - ما لم تُزيِّنه الحكمة، فهو بدونها هراء لا فائدة منه.
ولا تزال الحكمة شاردة حتى يؤويها بيت من الشعر يُحفظ ويُتداول على مَرِّ العصور، كما نستشهد نحن الآن بأبيات المتنبي والمعري وشوقي. . إلخ.
والبيتوتة في كل شيء بحسبها، فالذين يعملون بالنهار بيتوتهم بالليل، والذين يعملون بالليل بيتوتهم بالنهار، وإنْ كان الأصل في البيات أن يكون ليلاً، وإياك أنْ تشغل إنساناً وقت بيتوته سواء أكانت بالليل أو بالنهار، فوقت العمل للعمل، ووقت السكن للسكن.(19/12122)
لذلك فإن أهل الحكمة عندنا في الفلاحين يقولون: (مَنْ يحرس) يعني: بالليل (لا يحرث) يعني: بالنهار؛ لأن الإنسان إنْ انشغل وقت راحته لا يجيد عمله ولا يتقنه.
بصرف النظر، أكان وقت الراحة في الليل أو في النهار، فأنت مثلاً حين تتأمل البلاد التي تشرق فيها الشمس ثلاثة أشهر أو ستة أشهر، وتغيب أيضاً ثلاثة أشهر أو ستة أشهر، هل نتصور أن يعمل أهل هذه البلاد طوال الثلاثة أشهر، وينامون ثلاثة أشهر؟ لا إنما يُقسِّمون هذه الفترة في ليل أو نهار إلى فترات: فترة للعمل، وفترة للراحة.
لذلك تجد من عظمة القرآن أنْ يحتاط لمثل هذه الأمور، فيقول سبحانه: {مِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ ... } [الروم: 23] فالنوم يكون بالليل، ويكون أيضاً بالنهار لمن تستدعي طبيعة عمله أن يعمل بالليل.
والبيت يكون على قدر إمكانات صاحبه، المهم أنْ يكون له مكان يأوي إليه ويستريح فيه، مهما قَلَّ، حتى لو كان مكاناً ضيِّقاً على قَدْر ما يسع الإنسان أنْ يضع جنبه على الأرض، فإنْ كان فيه مُتَّسع فبها ونِعْمت، وعلى طارق البيت أنْ يراعي مدى البيتوتة لمن يطرق عليه.
وكما يتفاوت الناس في البيوت، كذلك يتفاوتون في ترف الحياة وأسباب الراحة في البيت على حسب الإمكانات، وما دامت الراحة على قدر الإمكانات، فينبغي أنْ يتحلَّى كلٌّ بالرضا، وأنْ يربط بين عمله ودَخْله وبين ترف حياته، فقبل أنْ تفرض لنفسك حياة مترفة، افرض لها أولاً عملاً مترفاً بنفس المستوى، بحيث توفر منه إمكانات هذا الترف.(19/12123)
وكما يقول المثل (على قدر لحافظ مِدّ رجليك) فإذا كانت إمكاناتك لا تفر لك إلا الكفاف، فلتكُنْ راضياً به، وإنْ تمردَّتَ وطلبْتَ المزيد فلتتمرد أولاً على نفسك، ولتعمل العمل الذي يوفر لك ما تتطلع إليه.
وآفة الناس في اقتصادهم أنْ يحددوا مستوى الحياة أولاً، ثم يرغمون دخولهم وإمكاناتهم على هذا المستوى، فيحدث العجز، ولا تفي الإمكانات بالمتطلبات، إنما الواجب أنْ أُحدِّد مستوى حياتي على ضوء دَخْلي وإمكاناتي، وبذلك يعيش الإنسان سعيداً مرتاحاً لا يرهقه شيء، ولا يفوتنا ونحن نتحدث عن الدخول والإمكانات أنْ نراعي الحلال في الكسب وفي الإنفاق.
وإذا كانت البيوت وأسباب الراحة فيها بحَسْب إمكانات أصحابها، فينبغي أنْ تكون أحوالهم النفسية أيضاً على قدر إمكاناتهم حتى لا يمتليء قلب الفقير حِقْداً على صاحب النعمة.
إذن: لا بُدَّ لنا أن نتحلَّى بالرضا، وأنْ نقنع بما في أيدينا، ومَنْ يدريك لعل صاحب النعمة هذا ورثها، وإنْ كان لم يتعب هو فيها فقد تعب أباؤه وأجداده، وسبق أن قلنا: إن الذي يعرق عشر سنين من حياته يرتاح بقية عمره، والذي يعرق عشرين سنة يُريح أولاده، والذي يعرق ثلاثين يُريح أحفاده، ومَنْ ذا الذي عرق وكدَّ ولم يجد ثمرة عرقه؟
فمَنْ أراد أنْ يعيش محترماً مكرماً حال شيخوخته فليعمل في شبابه وحال قدرته، وليعرق قبل أنْ يأتيه يوم لا يجد فيه هذه القدرة؛ لذلك يراعي سيدنا رسول الله هذا المعنى في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:(19/12124)
«أعْطوا الأجير حقه قبل أنْ يجفَّ عرقه» .
أما الذين يتسكعون في الشوارع أو على القهاوي فليسوا أهلاً لهذه الحياة الكمرية حال شيخوختهم، كذلك العامل الذي لا يعطي للعمل حقه، أو لا يتقنه، أو يجلس يراقب صاحب العمل يتحيَّن الفرصة لإضاعة الوقت.
ومعلوم أن القرش إذا اكتسبه صاحبه دون وجه حق كان وبالاً عليه وفساداً لحاله؛ لأنه لم يعرق به.
واقرأ إنْ شِئْتَ قول سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أصاب مالاً من مهاوش، أذهبه الله في نهابر» والمهاوش هي الطرق غير المشروعة لجمع المال، وهو نفس المعنى الذي نقصده حين نقول مثلاً: فلان جمع هذا المال من (الهَبْش) أو (النتش) ، والنهابر هي الأبواب التي تُفتح لصرف هذا المال لا فائدة منه. وكثيراً ما نرى بعض الناس دخولهم ورواتبهم كبيرة، ومع ذلك يعيشون عيشة الفقراء، لا ترى عليهم ولا على أولادهم أثراً لهذه النعمة.
والناس يختلفون في نظرتهم إلى النعمة في أيدي الآخرين فقويُّ الإيمان ساعة يرى النعمة في يد غيره لا يحسده عليها، إنما يرى أنها فَضْل الله على عباده، وتراه يدعو لصاحب النعمة بالبركة، ويقول: والله إنه يستحق هذه النعمة وأكثر منها؛ لأنه جَدَّ واجتهد.(19/12125)
المؤمن يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم بارك له وأعطني من نعمك، المؤمن يرى في نعمة الدنيا نموذجاً مُصغَّراً نعمة الآخرة، فيقول: هذا ما أعدَّه البشر لأنفسهم، فكيف بما أعدَّه الله لخَلْقه؟ عندها يتراءى له نعيم الجنة، فيُقبل عليها بقلب يملؤه الإيمان واليقين، وهذه النظرة للنعمة عند الآخرين تسمى غِبْطة.
أما غير المؤمن - والعياذ بالله - فيحقد على صاحب النعمة، ويراه غير أَهْل لها، ويتمنى زوالها من عنده، ويحسده عليها، وهذا كله دليل على ضَعْف الإيمان والاعتراض على أقدار الله في خَلْقه.
ونُسمِّي المساجد بيوت الله، وسُمِّي المسجد بيت الله؛ لأنه جُعِل خصيصاً لكي نقابل فيه الله حينما نسمع نداء الصلاة؛ لذلك حذرنا رسول الله أنْ نُدخل الدنيا معنا بيوت الله، فحذَّر أنْ تُقعد الصفقات في المساجد، أو تُنشَد فيها الضالة، ولا أدلَّ على ذلك من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمن عقد صفقة تجارية في بيت الله: «لا بارك اللهُ لك في صفقتك» وقال لمن نشد ضالته في المسجد: «لا ردَّ اللهُ عليك ضالَّتك» .
لأن الإنسان يعيش طوال وقته للدنيا، فلا يجوز أن يأخذها معه حتى في وقت الصلاة، فوقت الصلاة للقاء الله، وهذا الوقت لا يعطل حركة حياتك، إنما يعطيك شحنة إيمانية تُقوِّيك على متابعة حركة حياتك، وسبق أن قلنا: إن هذه الشحنة أشبه بشحنة البطارية، فهل يقال لمن أخذ البطارية ليشحنها أنه عطَّل البطارية؟(19/12126)
كذلك أنت صَنْعة الله وخِلْقته، وما بالك بصنعة تُعرض على صانعها كل يوم خمس مرات، أيصيبها عطب بعد ذلك؟ وكذلك أنت حين تعرض نفسك على ربك، تأخذ من هذا اللقاء شحنة إيمان ويقين، وتتخلَّص من همومك ومشاكلك.
لذلك كان سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما حَزَبَه أمر فزع إلى الصلاة، ففي الصلاة ترمي بنفسك وترمي بهمومك ومشاكلك في (أحضان) ربك؛ لأنه سبحانه أعطى الكون أسباباً، فإذا عزَّتْ عليك الأسباب ولم تُفِدْكَ بشيء فاترُكْ الأسباب، والجأ إلى المسبِّب سبحانه.
وقلنا: إن المسجد بيت الله باختيار الخَلْق، أما بيت الله الحرام فهو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله الله قِبْلة كل البيوت، فإذا ما زُرْته ولو مرة واحدة أصلح حياتك كلها.
نعود إلى بيوت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما ينبغي أنْ يتحلى به المؤمنون من أدب في دخولها، وما يجب أنْ يُراعَي في دخول هذه البيوت بالذات؛ لأن لها طبيعة خاصة تناسب مهمة صاحبها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ ... } [الأحزاب: 53] يعني: لا تتهجَّموا عليها؛ لأنها ضيِّقة وليستْ فيها سعة للاستقبال في كل الأوقات، والإذن هنا مُقيَّد بالطعام {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ ... } [الأحزاب: 53] .
وحتى إذا دُعِيتَ إلى طعام رسول الله لا تذهبْ إليه قبل وقته، فإذا كان الغداء مثلاً الساعة الثانية، فلا تذهب أنت الساعة العاشرة؛ لأنه لا يليق أن تشغل رسول الله وله في بيته مهمات يجب ألاّ(19/12127)
ينشغلَ عنها، مهام مع ربه، ومهام مع أهل بيته، وهذا معنى: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ... } [الأحزاب: 53] أي: نضج الطعام واستوائه وإعداده، والفعل (إِنَي) على وزن رضا، وفي لغة: إني أني مثل: رمي رمياً.
وهنا تحذير للمؤمنين إذا دُعُوا إلى طعام رسول الله أنْ يدخلوا بيوته ينتظرون نُضْج الطعام، إنما عليهم ألاَّ يدخلوا إلا بعد نُضْج الطعام وإعداده، بحيث يقول لهم تفضلوا الطعام {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا ... } [الأحزاب: 53] فالطعام جاهز ومُعَدٌّ {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ... } [الأحزاب: 53] فكما نهاهم في أوَّليّة الطعام عن انتظار نُضْجه، كذلك نهاهم في آخريته عن عدم الجلوس بعده، إنما ينبغي عليهم إذا أكلوا أنْ ينتشروا.
والانتشار: أنْ يأخذ الشيء حيِّزاً أوسع من حجمه، والانتشار يُعينك على تحقيق الغاية، ألسْنَا ننشر الملابس بعد غَسلْها؟ لماذا؟ لأن نَشْر الغسيل يساعد على جفافه، ولو تركْتَه في حيِّزه الضيق لاحتاج أسبوعاً لكي يجفَّ، إذن: في الانتشار فائدة.
وسبق أنْ أوضحنا هذه الظاهرة بكوب الماء إذا تركْتَه مثلاً وسافرتَ لمدة شهر، فإنك ستعُود فتجده كما هو لم ينقص إلا القليل، لكن إنْ سكبْتَه في أرض الحجرة فسوف يجفّ قبل أنْ تخرج منها.
فقوله تعالى هنا {فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ... } [الأحزاب: 53] أي تفرَّقوا؛ لأن المكان الذي أنتم فيه في بيت النبي ضيِّق، إذن: ليذهب كُلٌّ إلى عمله، وماذا يُراد من المؤمن بعد أنْ تناول طعامه؟ أنْ يسعى في مناكب الأرض، لا أنْ يجلس خاملاً عَالةً على غيره، وتأمل أيضاً قول الله تعالى في سورة الجمعة:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة(19/12128)
فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله ... } [الجمعة: 10] .
إذن: أمر الحق سبحانه عباده المؤمنين بالانتشار؛ لأن له هدفاً وغايةً، فالهدف السعي وطلب الرزق، وماذا بعد أنْ تناولتهم طعامكم؟ أيليق بكم أنْ تقعدوا مثل (تنابلة السلطان) في بيت رسول الله، وأنتم تعلمون أنه يعيش عَيِشَة الكفاف في كل شئون حياته؟
ومن معاني الانتشار: السياحة، وهي مأخوذة من سَاح الماء إذا فَاض، وأخذ حيِّزاً أكبر، والانتشار أو السياحة ينبغي أنْ تكون مُنظمة كما تنتشر نقطة الماء على القماش، فتحدث فيه دائرة منتظمة.
كذلك في انتشاركم في الأرض للسعي في طلب الرزق يجب أنْ يكون بنظام معين، بحيث لا يحدث تكدُّس في مكان أو زحام، في حين يخلو مكان آخر لا يجد مَنْ يعمره، ويستنبط خيراته.
والسياحة في الأرض أو الانتشار فيها، الله تعالى يريده مِنَّا لغايتين:
الأولى: الضرب في الأرض وابتغاء رزق الله وفضله، كما قال الحق سبحانه وتعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله ... } [المزمل: 20] .
والضرب في الأرض ليس مجرد الانتشار فيها، إنما المراد العمل والكفاح واستخراج خيراتها؛ لأن الخالق سبحانه نثر القوت في أنحاء الأرض بالتساوي، ونثر فيها الخيرات؛ لذلك كل يوم تعطينا الأرض جديداً من نِعَم الله، كنا لا نعرف من خيرات الأرض إلا الزراعة، فلما تقدَّمَتْ العلوم والاكتشافات وتطوَّرت أدواته عرفنا المعادن والبترول(19/12129)
والكنوز المطمورة في أرض الله، وكل أثر كنزيٍّ في الأرض لا نستخرجه ولا نعرفه إلا بالضرب في الأرض، وسبق أن قلنا: الضرب إيقاع شيء بقوة.
كنا نتعجَّب من الناس الذين يسكنون البوادي والصحراء ونشفق عليهم، كيف يعيشون في هذا الجَدْب والقَحْط؟ ولماذا لا يتركون هذا المكان إلى غيره؟ والآن وبعد الاكتشافات البترولية صاروا هم أغنى الناس وتأتيهم كل خيرات الدنيا تحت أقدامهم. لماذا؟ لأنهم تمسَّكوا بأرضهم وبلادهم وصبروا عليها، حتى آن الأوان لجني خيراتها، ولو أنهم يئسوا منها ما نالوا كل هذا الخير.
وسبق أنْ أوضحنا أن خيرات الأرض متساوية، وشبهناها بقطاع طولي في البطيخة مثلاً، وإنْ تعددت ألوان هذه الخيرات واختلفت من مكان لآخر.
والأخرى: أن تكون السياحة للاعتبار والتأمل في آيات الله في كونه، فبالتنقل والسير في الأرض أرى آيات ليست موجودة في بيئتي، وفي ذلك يقول تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20] ويقول سبحانه في موضع آخر: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا ... } [الأنعام: 11] .
والمعنى أن السَّيْر في الأرض لابتغاء الرزق ينبغي أنْ يصاحبه نظر وتأمُّل لآيات الله.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي(19/12130)
النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ... } [الأحزاب: 53] أي: لا ينبغي أنْ تجلسوا بعد الطعام للحديث، وتجعلوها (سهراية) في بيت رسول الله، وهذا النهي كان له سبب وحادثة وقعتْ، فنزلت هذه الآية.
سيدنا رسول الله لم يُؤلِم وليمة في عُرْس من أعراسه إلا لزينب بنت جحش، فذبح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاة، وأعدَّ لهم الحَيْس، وهو التمر المخلوط بالزبد والسمن، ثم يوضع عليه اللبن الحامض أو الرايب.
فلما أكل الناس جلسوا يتحدثون، انتظر رسول الله أنْ يقوموا وينصرفوا، فلم يَقُمْ منهم أحد، وحياؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمنعه أنْ يقول لهم: قوموا، فأراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنْ يُظهِر لهم أنه يريد أنْ يقوم، وقام فعلاً وخرج، فلم يقُم منهم أحد ووجدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آخرين جالسين بالخارج، فعاد إلى مجلسه، فشعر القوم بما يريده رسول الله فانصرفوا.
يقول سيدنا أنس: فجئتُ فأخبرتُ رسول الله أنهم انطلقوا، فجاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودخل، فذهبت لأدخل وراءه، فألقى الحجاب بيني وبينه - يعني: لا أحد يدخل حتى أنت.
ومعنى: {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ... } [الأحزاب: 53] لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أنْ تنصرفوا، لكن يمنعه حياؤه، وهذا لأن المكان ضيِّق، ورسول الله في يوم عُرْس، وليس من المناسب الجلوس عنده.
{والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ... } [الأحزاب: 53] لذلك قالوا: حَسْب الثقلاء أن الله لم يحتملهم. هكذا حدثتنا الآية في صدرها عن:(19/12131)
آداب الدخول، وآداب الاستئذان، وآداب الأكل، وآداب الجلوس عند رسول الله.
ثم تحدَّثنا بعد ذلك عن الآداب التي يجب أنْ يتحلَّى بها المؤمنون في علاقتهم بزوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ... } [الأحزاب: 53] .
المتاع: أواني البيت التي لا تتيسَّر للجميع، فعادة ما يكون في الشارع أو الحارة بيت أو بيتان مَسْتوران، عندهم مثل هذه الأشياء: ماجور العجين، أو المنخل، أو الغربال، أو الهون. . إلخ.
ومثل هذه الأشياء عادة لا تتوفر للفقير، فيذهب إلى جاره فيستعيرها منه، وهذا ما قال الله فيه: {أَرَأَيْتَ الذي يُكَذِّبُ بالدين فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ الذين هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الماعون} [الماعون: 1 - 7] .
فالمتاع هو الماعون، وهو أدوات البيت التي يستعيرها منك جارك غير القادر على توفيرها في بيته.
إذن: الحق سبحانه في حين جعل للمؤمنين أدباً خاصاً مع رسول الله في الدخول عليه أو الأكل في بيته والجلوس عنده، لم يمنع الانتفاع بما عنده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من متاع البيت، ومتاع البيت يُطلَب بأنْ تطرق الباب على أهله تقول: أعطونا كذا وكذا، وعادة ما تُسْأل المرأة لأنها ربةُ البيت والمسئولة عن هذا المتاع، فإذا طلبتُم شيئاً من زوجات النبي فاطلبوه من وراء حجاب {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ.
. .} [الأحزاب: 53] .(19/12132)
سبق أنْ قُلْنا: إن المشاعر والإدراكات والمواجيد والعقائد التي تستقرُّ في النفس، هذه المظاهر الشعورية تتكون على مراحل ثلاث: آلة تدرك، ووجدان يستقبل، إما بالمحبة، وأما بالكراهية، ثم نفس تنزع، ومثَّلْنا لذلك بالوردة تراها في البستان جميلة نضرة، وتشُمُّ رائحتها زكية عطرة، فهذا إدراك بحاسة البصر وحاسة الشم، نتج عنه إعجاب ومواجيد، يترتب عليها أنْ تمدَّ يدك لتقطفها، وهذا هو النزوع.
والشرع لا يتدخل، لا في الإدراك، ولا في الوجدان، إنما يتدخل في النزوع، فَلَك أنْ ترى جمال الودرة كما تشاء، ولك أنْ تشمَّ عبيرها، لكن إن امتدَّتْ يدُكَ إليها قُلْنا لك: قف: أَهِي حَقٌّ لك؟ إنْ كانت حقك فَخُذْهَا، وإلا فهي مُحرَّمة عليك لأنها ليَستْ مِلْكك، وليس في هذا حَجْراً على حريتك؛ لأن الذي قيَّد حريتك في الاعتداء على مال الغير قيَّد حرية الآخرين في الاعتداء عليك، فأعطاك قبل أنْ يأخذ منك إذن: فالشرع في صالحك أنت.
نقول: الشرع لا يتدخل إلا عند مرحلة النزوع، إلا في علاقة الرجل بالمرأة والنظر إلى جمالها، فإنه يتدخل فيها من بدايتها، فيحظر عليك مجرد الإدراك، لأنك حين ترى جمال المرأة، وربما كانت أجمل من امرأتك أو لم يسبق لك الزواج، فإنك تُعجب بها.
وهذا الإعجاب لا بُدَّ أنْ يدعوك إلى النزوع، فكيف تنزع في هذه الحالة؟ والنزوع في هذه المسألة له شروط: أولها أنْ تأتيه من باب الحلال، فإنْ لم تكُنْ قادراً على باب الحلال، فإما أنْ تعفَّ نفسك، وإما أنْ تعربد في أعراض الآخرين، لذلك تدخَّل الشرع في هذه المسألة من أولها، ولم يتركك حتى تقع في المحظور وتنزع فيما لا يحلُّ لك؛ لأن المرأة الجميلة لا شكَّ تهيج في الرجل معاني خاصة.(19/12133)
وفي ذلك يقول الشاعر:
سُبْحانَ مَنْ خَلَق الجَماَ ... لَ والانْهِزَام لِسَطْوتِهِ
وَلَذَاكَ يأمْرنَا بغَضِّ الطَّرْف عنه لَرحمتِهِ ... من شاء يطْلبه فلا ... إلاّ بطُهْر شريعتِه
وبذَا يدُوم له التمتُّع ... هَأهُنَا وبجنَّتِهِ
أما الذي يدَّعي أن نظره إلى جمال المرأة لا يترك فيه هذا الأثر فهو مخالف للطبيعة، حتى وإنْ كان متزوجاً، وإياك أنْ تظن أن امرأة تُغني بجمالها عن جمال في سواها؛ لذلك يقولون: النساء كالخمر، كل مليحة بمذاق، فمهما كانت زوجتك جميلة، وفيها كل المواصفات التي تعجبك فسوف تجد في غيرها الجديد مما ليس فيها. إذن: من رحمة الله بك أنْ لا تدخل في هذه المسألة من أول مراحلها، فحرَّم مجرد النظر.
وإذا كان هذا في المعنى العام للناس، فكيف يكون مع زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد قال تعالى مخاطباً المؤمنين {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ... } [الأحزاب: 53] أي بالنظر إلى زوجاته؛ لأن النظر إدراك يتبعه أنْ تجد في نفسك شيئاً، صحيح أنت لا تستطيع أنْ تُقدِم؛ لأنهن أمهات المؤمنين، إنما سينشغل قلبك، ومجرد خواطر القلب هنا إيذاء لسيدنا رسول الله، بدليل أنه قال بعدها: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ.
. .} [الأحزاب: 53] .
ورُوِي أن رجلاص رأى السيدة عائشة قبل الحجاب فانبهر بها، فقال: والله إنْ مات رسول الله لأتزوجنَّ هذه الحميراء، وإنْ كان كفَّر عن هذه القَوْلة وحَجَّ ماشياً، وأعتق الرقاب، ليغفر الله له هذه الجرأة(19/12134)
على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فمعنى {ذلكم ... } [الأحزاب: 53] أي: أمرنا بأنْ تسألوهنَّ من وراء حجاب، وهذا الأمر احتياط للطرفين {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ... } [الأحزاب: 53] لقلوبكم أولاً، ولقلوبهن ثانياً.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] أي: لا ينبغي ولا يكون، وهذا يعني أنَّ شيئاً لم يحدث، بل مجرد الخاطر يُعَدُّ إيذاءً؛ لأنه في حق مَنْ؟ في حق رسول الله.
وقوله: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ... } [الأحزاب: 53] هذا تكريم لرسول الله ولأزواجه ليس في مدة حياته فحَسْب، إنما حتى بعد مماته؛ لأنهُنَّ أمهات للمؤمنين، وليس لأحد أنْ يتزوج منهن بعد رسول الله.(19/12135)
ومعلوم أن للزوجة بالنسبة لزوجها خصوصية، فعادةً في طبيعة التكوين الإنساني ترى الرجل عنده ألوان من الخير، فإنْ كان صاحب أريحية لا يمنعك شيئاً تتطلبه أو تستعيره منه، يعطيك من ماله، من متاع بيته، يعيرك سيارته. . إلخ.
إلا ما يتعلق بالمرأة، فإنه يغار حتى من مجرد أنْ تنظر إليها، ليس ذلك وهي في حوزته ومِلْكه، إنما حتى لو كان كارهاً لها، حتى لو طلقها يغار عليها أن تتزوج بآخر.
إذن المرأة هي المتاع الوحيد الذي يحتل هذه المنزلة، وينال هذا الحفظ وهذه الرعاية، لماذا؟ لأنها وعاء النَّسْل، وكأن الله تعالى يريد للأمة كثرة النسل شريطة أنْ يكون من طُهْر وعِفَّة ونقاء، فوضع في قلب الرجل حُبَّها والغيرة عليها.
لذلك، تأمل هذا الوصف الذي وصف الله به الأنصار لما استقبلوا المهاجرين، وأفسحوا لهم في أملاكهم وفي بيوتهم، فوصفهم الله وصفاً أرقى ما يُوصف به مكان في مكين.
فقال سبحانه: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان ... } [الحشر: 9] فكأنهم يسكنون في الإيمان {مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... } [الحشر: 9] .
وما استحق الأنصارُ هذا الوصفَ من الحق سبحانه إلا لإيثارهم إخوانهم المهاجرين وبَذْل شيء لم يبذله أحد قبلهم، حيث كان الواحد منهم يعرض على أخيه المهاجر أنْ يُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، وهذه هي المسألة التي تثبت أن إيمانَ هؤلاء طغي على كل ما عداه، وصار أحبَّ شيء إليهم حتى من المرأة، ومن الغيرة عليها.(19/12136)
وقوله تعالى: {إِنَّ ذلكم ... } [الأحزاب: 53] أي: ما سبق أنْ ذُكِر من سؤال أمهات المؤمنين من وراء حجاب، وألاَّ تؤذوا رسول الله، أو تنكحوا أزواجه من بعده، كل هذا {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} [الأحزاب: 53] وكيف يُؤْذَي رسولُ الله، وهو ما جاء إلا ليحمينا من الإيذاء في الدنيا في الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ ... } .(19/12137)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
فكأن في الآية إشارة تحذير: إياكم أنْ تسرقكم خواطركم في هذه المسألة؛ لأن ربكم لا تخفي عليه خافية، ولا يعزُبُ عن علمه شيء، وإنْ كانت الخواطر والهواجس لا يُحاسب عليها المرء، إلا أنها محظورة منهي عنها، إنْ كانت في حَقِّ رسول الله.
لقد ورد في الحديث الشريف: «مَنْ هَمَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة» هذا في الأمور العامة، أما إنْ تعلَّق الأمر برسول الله فلا؛ لأن مراد الحق سبحانه أنْ يُوفِّر طاقة رسول الله للمهمة التي فلا؛ لأن مراد الحق سبحانه أنْ يُوفِّر طاقة رسول الله للمهمة التي أُرسِل بها، وألاَّ يشغله عنها شاغل، وأيُّ مهمة أعظم من مهمة هداية العالم كله، ليس في زمنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإنما منذ بعثته وحتى قيام الساعة.
وقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً ... } [الأحزاب: 54] أي: أيّ شيء(19/12137)
مهما كان {أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] وعليم صيغة مبالغة في العلم؛ لأن عِلْم الله تعالى عِلْم أزليٌّ ليس مُتجدِّداً بتجدُّد الحدث، فالله يعلم قبل الفعل وأثناء الفعل وبعده.
لذلك قلنا: إن الزمن عندنا نحن ماض وحاضر ومستقبل، أما بالنسبة للحق سبحانه فليس هناك ماض ولا حاضر ولا مستقبل؛ لذلك يتكلم سبحانه عن المستقبل وكأنه ماض.
واقرأ مثلاً: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } [النحل: 1] وأتى فعل ماض ومع ذلك قال بعده {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ... } [النحل: 1] والاستعجال لا يكون إلا لشيء لم يَأْتِ وقته، فكأن (أتى) معناها بالنسبة لكم سيأتي، أما بالنسبة للحق سبحانه فإنه أتى بالفعل؛ لأن الزمن كله في علم الله سواء.
ومعنى: {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] أي: كان وما يزال عليماً؛ لأنه سبحانه ما دام كان عليماً، وهو سبحانه لا تتأتى فيه الأغيار، فهو سبحانه عليم فيما مضى ولا يزال؛ لأنه لا يتغير، فكان هنا لا تعني أن علمه تعالى نتيجة لحدثكم الذي أحدثتموه، إنما هو سبحانه عالم قبل أنْ يحدث منكم.
وهذه الآية من الآيات التي وقف عندها المستشرقون؛ ليستدركوا كما يظنون على كلام الله؛ لأنهم دائماً يتهموننا أننا ننظر إلى القرآن بقداسة، وأنه كلام الله فلا نُعمل فيه عقولنا، وأنهم حين يُدقِّقون في القرآن ويتجرَّأون على البحث فيه يجدون فيه مآخذ - على حَدِّ زعمهم.
ووَجْه اعتراضهم في قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ(19/12138)
الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] ومثله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29] .
يقولون: إذا كان الله يمتنُّ بعلم ما نُخفي، فما الميزة وما العظمة في علم ما نبدي؟
نقول: إياك حين تقرأ كلام الله أنْ تُحكِّم فيه عقلك قبل أنْ تؤمن أنه صادر من الله تعالى، وأن هذا كلامه سبحانه، وعندها أَدِرْ المسألة في عقلك وابحثها حتى تصل إلى الحكمة ووجه الإعجاز فيها.
فقوله تعالى {إِن تُبْدُواْ ... .} [الأحزاب: 54] الله لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جمهرة الناس، والإبداء من الجمهرة لا يمكن لك أن تحدد مصدر الفعل فيه، بحيث تردُّ كلَّ صوت، وكلَّ حركة إلى صاحبها.
وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالمظاهرة مثلاً التي تختلط فيها الأصوات وتعلوا الهتافات، وسمعنا مثلاً مَنْ ينادي بسقوط فلان، أنستطيع في هذه الحالة أنْ نحدد صاحب هذا الهتاف؟ لا لا نستطيع بسبب اختلاط وتداخل الأصوات، مع أنه جَهْر أعلنه صاحبه بأعلى صوته أبداه على الملأ، ومع ذلك لا تستطيع أنت تحديده.
أما الحق سبحانه، فيعلم الصوت، ويعلم صاحبه، ويعلم أثره ونتيجته، ويريد كل كلمة، بل وكل نَفَس إلى صاحبه، فالذين يحاولون التستُّر والاستخفاء في جمهرة الناس عليهم أنْ يحذروا إنْ شوَّشوا على الخَلْق، واستْخفوا منهم، فلن يستخفوا من الله، فالله لا تشتبه عليه اللغات، ولا تختلط عليه الأصوات.(19/12139)
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ ... } .(19/12140)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
بعد أنْ نزلت آية الحجاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ... } [الأحزاب: 53] اشتكى أقارب أمهات المؤمنين وقالوا: حتى نحن يا رسول الله؟ فأنزل الله هذه الآية. {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ ... } [الأحزاب: 55] .
ومعنى {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ ... } [الأحزاب: 55] أي: لا حرجَ ولا إثمَ أنْ يدخل عليهن هؤلاء المذكورون؛ لأن مكانتهم من المرأة معلومة، ولا يُخْشَى من دخولهم عليها، وهم: الأب، والابن، والأخ، وابن الأخ، وابن الأخت.
والكلام في {وَلاَ نِسَآئِهِنَّ ... } [الأحزاب: 55] وهي مضاف ومضاف إليه، والإضافة في اللغة تأتي بمعانٍ ثلاثة: بمعنى (مِنْ) مثل أردب شعير يعني: من شعير، وبمعنى (في) مثل (مكر الليل) أي: في الليل، وتأتي بمعنى (اللام) مثل مال زيد يعني لزيد، واللام هنا للملكية أو للاختصاص، فمعنى مال زيد يعني:(19/12140)
مِلْك لزيد، وتقول: لجام الفرس، فاللجام ليس مِلْكاً للفرس، إنما يختص به.
فهنا كلمة {نِسَآئِهِنَّ ... } [الأحزاب: 55] تأتي بمعنى (من) وبمعنى اللام أي: نساء لَهُنَّ، أو نساء منهن، ولا تأتي هنا بمعنى (في) إذن: فالمراد نساء منهن يعني: من قرابتهن أو نسائهن يعني: التابعين لهن مثل الخدم شريطة أنْ يكُنَّ مؤمنات؛ لأن المؤمنة هي المؤتمنة على المؤمنة، أما الكتابية أو الكافرة فلا يصح أنْ تقوم على خدمة المؤمنة؛ لأنها ربما تَصِفُها لقومها.
لذلك نلحظ دقة التعبير هنا في عدم ذِكْر الأعمام والأخوال؛ لأن العم أو الخال - رغم أنه في منزلة الوالد - إلا أنه قد يصف البنت لابنه، فإنْ كان العم أو الخال ليس له ولد، فالعلة مفقودة، ويجوز التساهل معهما - إذن - في الدخول في المرأة، وإبداء الزينة أمامهما.
وقوله تعالى: {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ... } [الأحزاب: 55] قلنا: إن مِلْك اليمين يأتي من الأسرى في حرب مشروعة، وقد باشرتَ أَسْره بنفسك، بمعنى أنه لم يكُنْ حراً، ثم أُخذ وبيع على أنه عبد، ثم بعد الأَسْر يمكن أن تأخذ مِلْك اليمين بأنْ تشتريه، أو تأخذه إرثاً، أو تأخذه هِبة، ومِلْك اليَمين قد يكون من النساء فتدخل في نسائهن، أو يكون من الصبيَان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء ... } [النور: 31] .
ويدخل في ذلك أيضاً التابعون الذين يعملون في البيت كالبوابين والسائقين والطباخين. . إلخ، والشرع يتساهل مع هؤلاء؛ لأن العرف الاجتماعي يأبى أنْ تنشأ علاقة بين هؤلاء وبين أهل البيت، فهؤلاء(19/12141)
التابعون يعملون في البيوت، وبها نساء وبنات جميلات، لكن كم من هؤلاء تجرّأ على أنْ ينظر إلى سيدته؛ ذلك لأن المركز الاجتماعي جعل بينهما حاجزاً.
ثم يقول سبحانه: {واتقين الله ... } [الأحزاب: 55] كأن الحق سبحانه يقول: لقد بينتُ لكُنَّ الحكم في الدخول على المرأة، وبينت الأنواع التي لا جناحَ عليكُنَّ في دخولهم، والحارس عليكُنَّ في هذا تقواكُنَّ لله، فتقوى الله هي التي تحملك على طاعته، وتمنعك من الخروج عنها، ويكفي بعد الأمر بالتقوى أنْ تعلم {إِنَّ الله كَانَ ... } [الأحزاب: 55] وما يزال {على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} [الأحزاب: 55] .
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ ... } .(19/12142)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخير لأمته مُبشِّراً للمؤمنين، نذيراً للكافرين، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على هداية قومه، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يألم ويحزن إنْ تفلَّتَ أحدٌ من يده، وخرج عن ساحة الإيمان، وكان يُكلِّف نفسه في أمر الدعوة فوق ما يطيق، وفوق ما طلب منه، حتى خاطبه ربه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] .(19/12142)
ومعلوم أن سيدنا رسول الله لم يُطلَب منه إلا البلاغ فحسَبْ، أما الهداية فمن الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه تعالى قال: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] .
فلشدة حرصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هداية قومه عاتبه ربه؛ لأنه شَقَّ على نفسه، فالعتاب هنا لصالحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما جاء في قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ... } [التحريم: 1] .
وهذا العتاب أشبه بعتابك لولدك الذي أرهق نفسه في المذاكرة، حتى أنك أشفقتَ عليه، فأنت لا تلومه على تقصير، إنما على المبالغة في عمل لا تطيقه قوته.
وقد ظهرت قمة حرْصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أمته حين أنزل الله عليه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 1 - 5] .
فالتقطها رسول الله من ربه وجعلها لأمته، فقال: «إذن: لا أرضى وواحد من أمتي في النار» .
فإذا كان رسول الله حريصاً عليكم بهذا الشكل، فهو يستحق منكم أنْ تُصلُّوا عليه؛ لأن كل خير يناله يعُمُّ عليكم، ويعود إليكم؛ لذلك قال سبحانه: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] .
وتلحظ أن الخبر {يُصَلُّونَ ... } [الأحزاب: 56] خبر عن الله والملائكة؛ فجمع الحق سبحانه بين صلاته وصلاة ملائكته، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرة(19/12143)
خطيباً يخطب، يقول: مَنْ يتَّقِ الله ورسوله يُثبْه الله، ومَنْ يعصهما يعاقبه الله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ له: «بِئْسَ خطيب القوم أنت» لماذا؟
قالوا: لأنه جمع بين الله تعالى ورسوله في: (ومن يعصهما) ، وكان عليه أنْ يقول: ومَنْ يَعْصِ الله ورسوله، فالله وحده هو الذي يجمع معه سبحانه مَنْ يشاء. قال سبحانه: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ... } [التوبة: 74] .
أما نحن، فليس لنا أبداً أنْ نأتي بصيغة تشريكية بين الله تعالى وأحد من خَلْقه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ... } [الأحزاب: 56] هكذا قال الله، وجمع معه سبحانه مَنْ يشاء من خَلْقه، وأنت لا يجوز لك أنْ تجمعَ هذا الجمع إلا إذا كنتَ تقرأه على أنه قرأن، فإن أردتَ أنْ تنشيء كلاماً من عندك فلا بُدَّ أن تقول: الله يُصلِّي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي.
لذلك احتاط علماء التفسير لهذه المسألة فقالوا أن (يصلون)(19/12144)
ليست خبراً للكل، إنما تقدير الخبر أن الله يصلي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي.
وإذا كان الله يُصلِّي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي، فماذا عنكم أنتم؟ يجب أنْ تُصلوا أنتم كذلك على النبي {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] .
سبق أنْ بينّا أن الصلاة من الله لها معنى، ومن الملائكة لها معنى، ومن المؤمنين المأمورين بها لها معنى، فكُلٌّ بحَسْبه، والصلاة في الأصل هي الدعاء، والدعاء يقتضي داعياً ومدعواً له ومدعواً، فمثلاً حين أدعو الله أنْ يغفر لفلان، فأنا الداعي، والله تعالى مدعو، وفلان مدعو له، فإذا كان المصلي والداعي هو الله عَزَّ وَجَلَّ، فمَنْ يدعو؟ إذن: معنى الدعاء لا يأتي مع الله تعالى.
لذلك قلنا: إنك لو نظرتَ إلى الأحداث تجد أن صاحبك مثلاً إذا قال لك أَعِدُك أنْ أعطيك غداً كذا وكذا، فهذا وَعْد منه، لا يملك هو من أسباب الوفاء به شيئاً، أما إنْ قال لك: أدعو الله أنْ يعطيك كذا وكذا، ونسب العطاء لله تعالى، فهذا أَرْجَى للتحقيق؛ لأنه منسوب إلى الله، فإنْ قبل الدعاء تحقق المطلوب، فإنْ كان الله تعالى هو الذي يأمر لك بهذا العطاء فلا بُدَّ أنْ تناله لا محالة.
إذن: الصلاة من الله ليست بمعنى الدعاء، إنما هي تنفيذ مباشر ورحمة شاملة وعامة، ويكفي من رحمته تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنْ جعله خاتم الرسل، فلا يستدرك عليه أحد، يكفيه من رحمته وإنعامه وثنائه عليه أنْ قرن اسمه باسمه؛ لذلك خاطبه بقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .(19/12145)
يكفيه من تكريم الله له أنه سيقبل شفاعته يوم القيامة، لا لأمته فحسب، إنما للخَلْق جميعاً، يكفيه أن الله تعالى خاطب كل رسله بأسمائهم المشخِّصة لهم، وخاطبه هو بالوصف المكرم في {ياأيها النبي ... } [الممتحنة: 12] و {ياأيها الرسول ... } [المائدة: 41] .
أما عن صلاة الملائكة، فهي دعاء، واقرأ: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم وَقِهِمُ السيئات وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} [غافر: 7 - 9] .
فإذا كان الخَلْق جميعاً محلَّ صلاة الملائكة واستغفارهم ودعائهم، حتى الذين أذنبوا منهم، ثم تابوا، فما بالك برسول الله، وهو هادي الناس جميعاً.
أما الصلاة من المؤمنين، فهي الاستغفار، واستغفارهم ليس لرسول الله، إنما هو استغفارهم لأنفسهم؛ لأن رسول الله جاء رحمةً لهم، وما دام جاء رحمةً لهم كان من الواجب ألاَّ يغيب توقيره عن بالهم أبداً فَهُمْ إنِ استغفروا، فاستغفار عن الغفلة عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو عن أنهم لم يتقدم اسمه، فيصلون عليه.
والمؤمن حين يُصلِّي على رسول الله، ماذا يملك من عطاء يُؤدِّيه لرسول الله؟ ماذا بأيدينا؟ لذلك تأمل لفظ صلاتك على رسول الله، إنك لا تقول أصلي، ولكن تقول: اللهم صَلِّ على محمد، أو صلَّى(19/12146)
الله على محمد، فتطلب مِمَّنْ هو أعلى منك أنْ يُصلي على رسول الله؛ لأنه لا يوجد عطاء عندك تُؤدِّيه لرسول الله.
إذن: فالصلاة من الله الرحمة العامة المطلقة، والصلاة من الملائكة الدعاء، والصلاة من المؤمنين الاستغفار.
لذلك «سُئِلَ سيدنا رسول الله: يا رسول الله تلك صلاة الله، وتلك صلاة الملائكة، فما الصلاةُ عليك؟ يعني كيف؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» قولوا اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العاملين، إنك حميدٌ مجيدٌ «» .
ودخل عليه صحابي، فقال: يا رسول الله، ما رأيتك بهذه الطلاقة والبِشْر قبل اليوم؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن جبريل جاءني فأخبرني أن مَنْ صلى عليَّ صلاة صلَّى الله بها عليه عشراً، وكُتِب له عشر حسنات ومُحي عنه عَشْر سيئات» .
وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: دخل رجل على رسول الله، فسأله: ما الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ذلك من العلم المكنون، ولولا أنكم سألتموني ما قلته: إن الله وكَّل بي ملكيْنِ، فإذا صلَّى واحد عليَّ قال الملكان: غفر الله لك. ويقول الله: آمين وتقول(19/12147)
الملائكة: أمين» .
سبحان الله: الله عَزَّ وَجَلَّ بذاته يُؤمِّن على دعاء الملكين.
وقالوا: الصلاة على رسول الله فَرْض على المؤمن، كالحج مرة واحدة من العمر، لكنها واجبة عليه عند كل ذِكْر لرسول الله، لذلك جاء في الحديث: «أبخل البخلاء من ذُكِرْتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ» .
وقوله تعالى بعدها: {وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] لك أنْ تلحظ في صدر الآية {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ... } [الأحزاب: 56] ولم يَقُلْ سبحانه ويسلمون، فلما أمر المؤمنين قال {صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] فزاد: وسلِّموا تسليماً.
قال العلماء: لأن الصلاة على رسول الله لا يزن إلا مع التسليم له بمعنى طاعته والإذعان لأمره، وأن تُسْلِم زمامك له في كل صغيرة وكبيرة، وإلاَّ فكيف تُصلِّي عليه وأنت تعصي أوامره، وقد قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65] .(19/12148)
ومن معاني التسليم أن نقول: السلام عليك أيها النبي كما نقول في التشهُّد، والسلام اسم من أسماء الله، ومعنى: السلام عليك يا رسول الله أي: جعل الله لك وقاية، فلا ينالك أحد بسوء.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ ... } .(19/12149)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
الإيذاء: إيقاع الألم من المؤذي للمؤذَي، سواء أكان الإيذاء بالقول أم بالفعل، والإيذاء بهذا المعنى أمر لا يتناسب مع الحق سبحانه وتعالى. إذن ما معنى: يؤذون الله؟
قالوا: الله تعالى لا يُؤذَي بالفعل؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، فهو أمر غير ممكن، أما القول فممكن، والإيذاء هنا يكون بمعنى إغضاب الله تعالى بالقول الذي لا يليق به سبحانه، كقولهم: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ ... } [آل عمران: 181] وبعضهم أنكر وجود الله.
وقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ ... } [المائدة: 64] .
وقولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله ... } [التوبة: 30] .
وبعضهم يسُبُّ الدهر، والله يقول في الحديث القدسي: «يؤذيني عبدي، وما كان له أنْ يؤذيني، يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أُقلِّبُ الليل والنهار» .(19/12149)
وهل الزمن له ذَنْب في الأحداث التي تؤلمك؟ الزمن مجرد ظرف للحدث، أما الفاعل فهو الله عَزَّ وَجَلَّ، إذن: لا تسبُّوا الدهر، فالدهر هو الله، وهم أنفسهم قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ... } [الجاثية: 24] .
كل هذا إيذاء بالقول، لكن ينبغي أنْ ننظر فيه: أهو كذب وبهتان؟ أم قول صادق يقوم عليه دليل؟ وقد يُؤذيك شخص بكلمة، لكنك لا تُؤذَي منها، وفي هذه الحالة يأخذ هو إثمها، وتسْلَم أنت من شرها وتسلم من ألمها. . فهذه الأقوال منهم في الواقع فيها إيذاء، لكن ليس لله تعالى، إنما إيذاء لهم، كيف؟
الحق - سبحانه وتعالى - حينما استخلف الإنسان في الأرض خلق له الكون قبل أنْ يخلقه فطرأ الإنسان على كون مُعَدٍّ لاستقباله، فيه مُقوِّمات بقاء الحياة، ومُقوِّمات بقاء النوع، ثم أعدَّ له أيضاً قانون صيانته، بحيث إنْ أصابه عطب استطاع أنْ يصلحه، هذا القانون هو منهجه سبحانه المحفوظ في كتابه، واقرأ قول الحق سبحانه: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1 - 4] .
فقانون الصيانة في القرآن موجود قبل أنْ يخلق الإنسانَ؛ لأن الإنسان خَلْق الله وصَنْعته خلقه الله في أحسن تقويم، وعلى أحسن هيئة، ويريد له أنْ يظل هكذا سويَّ التكوين في كل شيء، فإذا ما خرج هذا الخليفة المخلوق لله على قانون صيانته، فإنه ولا شكَّ لا بُدَّ أنْ يغضب الله، لأن الله يريد أنْ تظلَّ صنعته جميلة، كما أبدعها سبحانه.
إذن: فالذين أنكروا وجود الله، أو الذين أشركوا به، والذين(19/12150)
قالوا: «إن الله فقير ونحن أغنياء» أو قالوا: الملائكة بنات الله. . إلخ هذه الأقوال التي ترتب عليها غضب الحق سبحانه؛ لأنه خليفته في الأرض لم يُؤَدِّ المطلوب منه على حَسْب منهج الله.
ونقول لهؤلاء: إياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم خرجتم من قبضة الحق سبحانه، بل أنتم في قبضته، وتحت مشيئته، ولو شاء سبحانه لقهركم على طاعته، أو خلقكم على هيئة الصلاح لا تأتي منكم المعصية كما خلق الملائكة، إنما جعلكم مختارين فيما كلفكم به، مَنْ شاء آمن، ومَنْ شاء كفر، ليعلم مَنْ يقبل عليه بحب لا بقهر.
والدليل على ذلك أنكم مخلوقون، على هيئتين. هيئة لكم فيها اختيار وهي التكاليف، وهيئة مقبوضين في قبضة الحق سبحانه وهي القضاء، فما دمتم تعودتم التمرد على التكاليف، فلماذا لا تتمرَّدُون على أقدار الله فيكم، كالمرض والموت مثلاً؟
ومع ذلك ما دُمْتَ قد اخترْتَ الكفر وأنا رَب، ومطلوب مني أنْ أعينك على ما تحب، فسوف أختم على قلبك، بحيث لا يدخله الإيمان، ولا يخرج منه الكفر الذي تحبه. إذن: أنا جئت على مرادك مما يدل على أن كفرك بي لا يضرني ولا يؤذيني.
وقد ورد في الحديث القدسي: (يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضُرِّي فتضروني) .
وإنْ كانت لكم منطقة اختيار في الدنيا هي أمور التكاليف، فسيأتي يوم القيامة، ويمتنع الاختيار كله، فلا اختيارَ لأحد في شيء(19/12151)
يوم يقول الحق سبحانه {لِّمَنِ الملك اليوم ... } [غافر: 16] فلا يجيب أحد، لا مالك ولا مملوك، فيجيب الحق سبحانه على ذاته: {لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
هذا في معنى إيذاء الله تعالى، أما الإيذاء في حقِّ سيدنا رسول الله، فرسول الله بشر، يمكن أنْ يصيبه الإيذاء بالفعل والإيذاء بالقول، فكما قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء قالوا عن رسول الله: كاهن وساحر ومجنون وشاعر، ثم تعدَّى الإيذاء إلى الفعل الذي أصاب رسول الله وآلمه بالفعل.
ألم يُرْمَ بالحجارة حتى دَمِيتْ قدماه في الطائف؟ ألم يضعوا على ظهره الشريف سَلاَ البعير في مكة - أي سَقَط البعير - ألم تكسَر رباعيته يوم أحد ويُشَجُّ ويسيل دمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
فرسول الله ناله مع ربه - عَزَّ وَجَلَّ - إيذاء بالقول، ثم ناله إيذاء آخر بالفعل، إيذاء بشرى فيه إيلام، وقمة الإيذاء بالفعل ما يتعرَّض لأمر محارمه وأزواجه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(19/12152)
لذلك قال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ... } [الأحزاب: 53] أي: بمخالفة ما جاء به، أو بأنْ تتهموه بما ليس فيه، أو تتعرَّضوا له بإيلام حسي، ثم لم يخص من ألوان الإيذاء إلا مسألة الأزواج، فقال: {وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ... } [الأحزاب: 53] وذكر هذه المسألة بالذات صراحةً مراعاة لطبيعة النفس البشرية، فقد قلنا: إن الرجل يمكن أن يتجمل على أصحابه أو أحبابه بأغلى ما يملك، لكنه أبداً لا يقبل أن ينظر أحد إلى زوجته، يحميها ويغَارُ عليها من مجرد النظر.
لذلك فإن سيدنا حذيفة، وكان يحب امرأته، فقال لها: ألاَ تحبين أن تكوني معي في الجنة؟ فقالت: بلى، فقال لها: إذن إذا متُّ فلا تتزوجي بعدي - فهو يغار عليها حتى بعد موته - لأني سمعت رسول الله يقول:
«المرأة لآخر أزواجها» .
لكن هذا الحديث وُوجه بحديث آخر «لما سُئِل رسول الله: أيُّ نساء الرجل تكون معه في الجنة؟ فقال:» أحسنهن خلُقاً معه «» .
وقد رأى البعض تعارضاً بين هذين الحديثين، والواقع أنه ليس بينهما تعارض، لأن الآخرية هنا لا يُراد بها آخرية الزمن، إنما آخرية الانتقال، كما لو تمتعت برحلة جميلة مع أحد الأصدقاء منذ عشرين سنة، فلما ذكَّرته بها قال: كانت آخر متعة، مع أنك تمتعت بعدها برحلات أخرى.(19/12153)
فالمعنى: تكون لآخر أزواجها في المتعة، وإن كان مُتقدِّماً بحُسْن الخلق، إذن: فالمعنيان متفقان، لا تعارض بينهما.
ومسألة غَيْرة الرجل على المرأة لها جذور في تاريخنا وأدبنا العربي، ومن ذلك قول الشاعر:
أَهِيمُ بِدَعْدٍ مَا حيَيتُ فإن أَمُتْ ... فوَا أسَفَي مَنْ ذَا يهيمُ بهَا بَعْدي
فهو مشغول بها حتى بعد أنْ يموت، لكن يُؤْخذ عليه أنه شغل بمن يحل محله في هيامه بمحبوبته؛ لذلك كان أبلغ منه قَوْل الآخر:
أَهِيمُ بدَعْدٍ مَا حَييتُ فإن أَمُتْ ... فَلاَ صَلُحَتْ دَعْدٌ لذِي خُلَّةٍ بَعْدي
إذن: فهذه الغيرة مراتب ودرجات.
ويُحدِّثنا التاريخ أن أحد الخلفاء العباسيين - أظنه الهادي - كان يحب جارية اسمها غادر، ولشدة حبه لها قالوا إنه تزوجها، وفي خلوة من خلوات الهيام والعِشْق قال لها: عاهديني - لأن صحته لم تكُنْ على ما يرام - إذا أنا مِتُّ أن لا تتزوجي بعدي، وفعلاً أعطتْه هذا العهد، فلما مات الهادي لم تلبث أن نسيَتْ غادر عشقها للهادي، ونسيتْ حُزْنها عليه - وهذا من رحمة الله بنا أن كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصائب، فإنها تبدأ كبيرة ثم تصغر.
بعدها تزوجت غادر من أخي الهادي، وفي يوم من الأيام استيقظت فَزِعة صارخة، حتى اجتمع عليها مَنْ في القصر، وسألوها: ماذا بك؟ قالت: جاءني الهادي في المنام، وقال لي:
خَالَفْتِ عَهْدِي بَعْدَمَا ... جَاوَرْتُ سُكَّانَ المقَابرْ
ونكحْتِ غادرةً أخِي ... صَدَق الذِي سَمَّاكِ غَأدِرْ(19/12154)
لا يَهْنك الإلْفُ الجديدُ ... ولا عَدتْ عَنْك الدَّوائرْ
وَلَحقتِ بي مُنْذُ الصَّباح ... وصِرْتِ حَيْثُ ذهَبْتُ صائِر
وما كادت تنتهي من قولها حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وماتت لذلك، فالحق سبحانه يراعي هذه الغرائز الإنسانية وهذه الطبيعة، أَلا ترى أن عِدَّة المتوفَّي عنها زوجُها كانت سَنةً كاملة، كما في قوله تعالى: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ ... } [البقرة: 240] .
ثم جُعلَتْ عِدَّة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام احتراماً لهذه الغريزة في المرأة.
ثم يُبيّن الحق سبحانه الجزاء العادل لمن يؤذي الله ويؤذي رسول الله، فيقول سبحانه: {لَعَنَهُمُ الله ... } [الأحزاب: 57] أي: طردهم من رحمته {فِي الدنيا والآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} [الأحزاب: 57] .
ثم يعطينا الحق سبحانه إشارةً إلى أن هذا الجزاء العادل الذي أعدَّه لمن يؤذي الله ورسوله ليس تعصُّباً لله، ولا تعصباً لرسول الله، بدليل أن الذي يؤذي مؤمناً أو مؤمنة لا بُدَّ أن يُجازَي عن هذا الإيذاء، فسوَّى المؤمن والمؤمنة في إرادة الإيذاء بإيذاء الله، وبإيذاء رسول الله، فقال سبحانه: {والذين يُؤْذُونَ ... } .(19/12155)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
لما تكلم الحق سبحانه عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات خَصَّ هذا الإيذاء بقوله {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا ... } [الأحزاب: 58] لأن هناك إيذاءً مشروعاً أوجبه الله للذين يخرجون على حدوده، فحَدُّ الزنا والقذف وشرب الخمر. . إلخ كلها فيها إيذاء للمؤمن وللمؤمنة، لكنه إيذاء مشروع لا يُعاقب مَنْ قام به، كما في إيذاء الله ورسوله.
لذلك يقول تعالى في اللذين يأتيان الفاحشة: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ... } [النساء: 16] .
والحق سبحانه حين شرع هذه الحدود وهذا الإيذاء، إنما شرعه ليكون عقوبةً لمن يتعدَّى حدود الله، وتطهيراً له من ذنبه، ثم لتكون رادعاً للآخرين، فسيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما قرأ هذه الآية: {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات ... } [الأحزاب: 58] بكي فقال له جليسه: ما يُبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنني آذيتُ المؤمنين والمؤمنات، قال: يا أمير المؤمنين إنك تؤذي لتُعلِّم ولتُقوِّم والله تعالى أمرنا أن نرجم، وأن نقطع، فضحك عمر وسُرَّ.
بل أكثر من هذا يأمرنا الحق سبحانه في الحدود: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ... } [النور: 2] .
لأن الرأفة في حدود الله رحمة حمقاء، ولسنا أرحم بالخَلْق(19/12156)
من الخالق سبحانه، والله تعالى حين يُضخِّم العقوبة ويؤكد عليها، إنما يريد ألاَّ يجتريء على حدوده، وألاَّ نُعرِّض أنفسنا لهذه العقوبات، ولك أنْ تسأل حين تقرأ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ... } [البقرة: 179] .
كيف تكون الحياة في القتل؟ نعم، في القصاص حياة؛ لأنك حين تعلم أنك إنْ قتلتَ تُقتَل، فلن تُقدم أبداً على القتل، وبذلك حَمَى الله القاتل والمقتول، وهل يُعَدُّ هذا إيذاءً؟
ومعنى {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا ... } [الأحزاب: 58] أي: بغير جريمة تستحق الإيذاء، وكلمة {اكتسبوا ... } [الأحزاب: 58] قلنا: هناك فَرْق بين: فعل وافتعل، فعل أي الفعل الطبيعي الذي ليس فيه مبالغة ولا تكلُّف، أما افتعل ففِعْل فيه تكلُّف ومبالغة، كذلك كسب واكتسب، كسب: أنْ تأخذ في الشيء فوق ما أعطيت، كما لو اشتريت بخمسة وبِعْتَ بسبعة مثلاً فهذا كسْب، أما اكتسب ففيها زيادة وافتعال.
لذلك تجد في العُرْف اللغوي العام أن كسب تأتي في الخير واكتسب تأتي في الشر، مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت ... } [البقرة: 286] لها ما كسبتْ تفيد الملكية، وعليها تفيد الدَّيْن.
ذلك لأن الأمر الحلال يأتي طبيعياً تلقائياً، أما الحرام فيحتاج إلى محاولة وافتعال واحتياط، فحين تنظر مثلاً إلى زوجتك تكون طبيعياً لا تتكلف شيئاً، أما حين تنظر إلى امرأة جميلة في الشارع، فإنك تتلصص لذلك وتسرق النظرات، خشية أن يطلع أحد على فِعْلتِك، هذا هو الفرق بين الحلال والحرام.(19/12157)
وفي آية واحدة في كتاب الله جاء الفعل كسب في الشر، وذلك في قوله تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته فأولئك أَصْحَابُ النار ... }
[البقرة: 81] .
فلماذا؟ قالوا: لأن الآية فيمَنْ تعوَّد السيئات، وأحاطت به الخطايا حتى أصبحت عادة، وسَهُلَتْ عليه حتى صارت عنده كالحلال، يفعله بلا تكلُّف، بل ويجاهر به ويتباهى، هذا هو المجَاهر الذي قال فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كل أمتي مُعَافَى إلا المجَاهرين» وفيه: «ستر الله عليه وأصبح يفضح نفسه» .
وهذا الذي يُسَرُّ بالمعصية ويتباهى بها بلغ به الاحتراف أنه يستطيع أنْ يستر حركات انفعاله في الحرام، كأنها الحلال بعينه؛ لذلك جاء الفعل كسب هنا، وكأن السيئة أصبحت مَلكةً.
أذكر بمناسبة التكلُّف والافتعال في الحرام رجلاً من بلدتنا اسمه الشيخ مصطفى، ذهب إلى السوق لشراء بقرة، وأخذ النقود في جيبه، ومن حرصه وضع يده على جيبه خوفاً من اللصوص، فلما رأوه في السوق يمسك جيبه بيده عرفوا أنه ضالتهم، فكيف احتالوا ليسرقوه؟ لطخ أحدهم كتفه بروَث البهائم، ثم احتكَّ بالشيخ مصطفى، حتى اتسخت ملابسه فغضب، وأخذ ينظف ملابسه من الروث، ونسي مسألة النقود التي في جيبه فسرقوه.
وكما يأتي الحرام بافتعال، كذلك يكون العقاب فيه أيضاً افتعال(19/12158)
ومبالغة تناسب افتعال الفعل؛ لذلك يقول سبحانه في عقاب الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا: {فَقَدِ احتملوا ... } [الأحزاب: 58] ولم يَقُلْ حملوا، وفَرْق بين حمل واحتمل، حمل تُقال لما في طاقتك حَمْله، إنما احتمل يعني فوق الطاقة، وإنْ حملْته تحمله بمشقة، فالجزاء هنا من جنس العمل، فكما تفاعلْتَ وتكلَّفْتَ في المعصية كذلك يكون الجزاء عليها.
{فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 58] البهتان: أن تقول في غيرك ما ليس فيه، فالبهتان كذب، أمَّا الإثم: فأنْ ترتكب ذنباً في حقه بأن تؤذيه بصفة هي فيه بالفعل، لكنه يكره أنْ تصفِه بها، كما تقول للأعمى مثلاً: يا أعمى.
لذلك ورد في الحديث لما سُئل سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال: «إنْ كان فيه ما تقول فقد اغتبْتَهُ، وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بَهته» أي: كذبْتَ وافتريْتَ عليه.
ووصف الحق سبحانه الإثم هنا بأنه مبين {وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 58] يعني: جَليٌّ واضح؛ لأن الوضوح في الإثم إما أن يكون بأنْ تُقِر أنت به وتعترف بذنبك، وإما أنْ يكون بالبينة، فلو سألناك: أنت قلت لهذا الرجل يا أعمى، أتحب أنْ تُوصَف أنت بصفة تكرهها؟ لا بُدَّ أنْ تقول: لا أحب. إذن: فالإثم هنا واضح، ويكفي إقرارك به.
وينبغي أن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك كما علَّمَنَا سيدنا رسول الله، فكما أنه لا يُرضيك أنْ يسرق الناس منك، كذلك أنت(19/12159)
لا تسرق منهم، وكما يُؤذيك الإثمُ كذلك يؤذيهم.
ثم يأخذنا الحق سبحانه إلى أدب آخر من آداب الأسرة، فيقول سبحانه: {ياأيها النبي ... .} .(19/12160)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
نلحظ أن الأمر توجَّجه أولاً لأزواج النبي، ثم لبناته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا يعني أن رسول الله لا يأمر أمته بشيء هو عنه بنجوى، إنما يأمرهم بشيء بدأ فيه بأهل بيته، وهذا أدْعَى لقبول الأمر وتنفيذه، فقبل أنْ آمركم أمرت نفسي فلم أتميز عنكم بشيء.
لذلك جاء في سيرة القائد المسلم «طارق بن زياد» أنه لما ذهب لفتح الأندلس وقف بجنوده على شاطيء البحر، وأعداؤه على الشاطيء الآخر، ثم قال للجنود: أيها الناس أنا لن آمركم بأمر أنا عنه بنجوى، وإنني عند ملتقى القوم سابقكم، فمبارز سيِّدَ القوم، فإنْ قتلتُه فقد كُفيتم أمره، وإنْ قتلني فلن يعوزكم أمير بعدي.
أي: أنني سابقكم إلى القتال، ولن أرسلكم وأجلس أتفرج وأرقب ما يحدث، يعني: أنا لا أتميز عنكم بشيء.(19/12160)
وبهذه المساواة أيضاً ساد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - القوم وقاد العالم وهو يرتدي مُرقَّعته بالمدينة؛ لذلك لما رآه رجل وهو نائم تحت شجرة كعامة الناس قال: حكمتَ فعدلْتَ فأمنْتَ، فنمتَ يا عمر.
وكان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا أراد أنْ يأخذ قراراً في أمر من أمور رعيته يعلم أن الفساد إنما يأتي أولاً من الحاشية والأقارب والأتباع ومن مراكز القوى التي تحيط به؛ لذلك كان يجمع قرابته ويحذرهم: أنا اعتزمْتُ أنْ صدر قراراً في كذا وكذا، فوالذي نفسي بيده مَنْ خالفني منكم إلى شيء منه لجعلته نكالاً للمسملين، أيها القوم إياكم أنْ يدخل عليكم مَنْ يدَّعي صلته بي، فتعطونه غير حق مَنْ لم يعرفني، والله إنْ فعلتُم لأجعلنكم نكالاً للمسلمين.
وورود النص القرآني بلفظ {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ ... } [الأحزاب: 59] دليل على أن سيدنا رسول الله كان ينقل النص الذي جاءه، والصيغة التي تكلَّم الله بها دون أنْ يٌغيِّر فيها شيئاً، وإلا فقد كان بإمكانه أن ينقل الأمر لأزواجه، فيقول: يا أيها النبي أزواجك وبناتك يدنين عليهن من جلابيبهن. إنما نقل النص القرآني كما أُنزل عليه؛ ليعلم الجميع أن الأمر من الله، وما محمد إلا مُبلِّغ عن الله، فمَنْ أراد أنْ يناقش الأمر فليناقش صاحبه.
وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساعة نزلتْ عليه هذه الآية كُنَّ تسعة أزواج، كرَّمهن الله وخيَّرهن فاخترْنَ رسول الله، كان منهن خمس من قريش هُنَّ: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة، وسودة بنت زمعة، وثلاث من سائر العرب هُنَّ: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش، وجُويرية بنت الحارث من بني المصطلق، وواحدة من نسل هارون أخي موسى - عليهما السلام - هي السيدة صفية بنت حيي بن أخطب.(19/12161)
أما بنات رسول الله، فرسول الله أنجب البنين والبنات: البنون ماتوا جميعاً في الصِّغَر، أما البنات فأبقاهُنَّ الله حتى تزوَّجْنَ جميعاً، وهُنَّ: زينب، ورقية، وأم كلثوم.
وأصغرهن فاطمة، وهي الوحيدة التي بقيتْ بعد موت سيدنا رسول الله، أما زينب ورقية وأم كلثوم فقد مُتْنَ في حياة رسول الله.
ولفاطمة قصة في الضحك والبكاء؛ لذلك بعض العارفين كان يقول في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبزى} [النجم: 43] أن السيدة فاطمة حينما سُئلت ما الذي أبكاكِ وما الذي أضحكك؟ قالت: لأنني لما دخلتُ على أبي وهو مريض قال لي: إن هذا هو مرض الموت يا فاطمة فبكيت، ثم انصرفت فأشار إليَّ وقال لي: يا فاطمة ستكونين أول أهل بيتي لحوقاً بي فضحكت. لذلك لم تمكث فاطمة بعد رسول الله إلا ستة أشهر.
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أن لقاء الأموات يكون بمجرد الموت، وإلا لو كان اللقاء في البعث والقيامة لاستوى في ذلك مَنْ مات أولاً، ومَنْ مات آخراً، فدلَّ قوله: «ستكونين أول أهل بيتي لحوقاً بي» على أن لقاءه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بها سيكون بمجرد أنْ تموت.
الشاهد في هذه القصة أن أحدهم - أظنه الإمام علياً - قال لفاطمة: الله يقول {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] أما رسول الله فأبكاك أولاً، ثم أضحكك حتى لا يكون أضحك وأبكى كربه.(19/12162)
أما السيدة زينب فتزوجت العاص بن الربيع قبل أنْ يُحرَّم الزواج من الكفار، وقد أُسِر العاص في غزوة بدر، فذهبتْ زينب لتفديه، وقدمت قلادة كانَت معها، فلام رآها رسول الله وجد أنها قلادة خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قد وهبتْها لابنتها، فقال: إنْ رأيتم أنْ تردوا لها قلادتها وتفكُّوا لها أسيرها فافعلوا، فردَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر إلى مَنْ ينتفع به، فتنازلوا عن القلادة.
أما رقية وأم كلثوم فلهما حوادث، منها حوادث مؤسفة، ومنها حوادث مبهجة، أما المؤسف فإنَّ عتبة بن أبي لهب عقد على رقية، وأخوه عتيبة عقد على أم كلثوم، وكان هذا قبل بعثة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما بُعث رسول الله وحدث ما حدث بينه وبني أبي لهب وأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1 - 2] .
قال لابنه عتبة: رأسي ورأسك عليَّ حرام حتى تُطلِّق رقية فطلَّقها، بعدها مَرَّ عتبة على رسول الله، وفعل فَعْلةً فيها استهزاء برسول الله، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أكلك كلب من كلاب الله» .(19/12163)
أخبر عتبة أباه بما كان من دعاء رسول الله عليه، وكان أبو لهب يعلم صدْق رسول الله، وأن دعاءه مستجاب لا يرَدُّ، فخاف على ابنه، وأخذ يحتاط له، ويوصي به رفاقه في رحلات تجارته - وعجيب أنه مع هذا كله لم يؤمن.
وفعلاً كان عتبة في رحلات التجارة ينام في وسط القوم، وهم يحيطون به من كل جانب، وفي إحدى الليالي جاءه أسد، فأخذه من بين القوم، ولم يَبْقَ منه إلا ما يُعرف به.
علَّق على هذه الحادثة أحد المغرضين فقال: إن رسول الله قال: «أكلك كلب» وهذا أسد، فردَّ عليه أحد العارفين فقال: إذا نُسِب الكلب إلى الله، فلا بُدَّ أنْ يكون أسداً، فرسول الله لم يقل: كلب من كلابكم، إنما من كلاب الله.
هذا ما كان من أمر عتبة، أما عتيبة فقد طلَّق أم كلثوم، لكنه لم يتعرض لرسول الله بإيذاء، بل قالوا: إنه كان يستحي أنْ يواجه رسول الله، لذلك لم يَدْعُ عليه رسول الله.
أما الحادث المبهج في حياة رقية وأم كلثوم، فقد أبدلهما الله خيراً من عتبة وعتيبة، حيث تزوجت رقية من سيدنا عثمان، فلما ماتت تزوج بعدها من أم كلثوم؛ لذلك لُقِّب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بذي النورين، وكانت النساء يُغنين حين تزوج عثمان برقية:
أَحْسَن مَا رأى إنْسَانٌ ... رُقيَّة وزوجُها عُثْمَانُ(19/12164)
فانظر إلى عِظَم هذا العوض أنْ يُبدِلَهُمَا الله بعتبة وعتيبة مَنْ؟ عثمان، نعم العِوَض هذا، والعِوَض في مثل هذه المسائل إنما يتأتَّى بقبول القضاء في نظائره، فإذا أُصيب الإنسان فاستسلم وسلَّم الأمر لله؛ فقال كما علَّمنا رسول الله: «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أَجْرني في مصيبتي - أيّاً كانت هذه المصيبة - وأخْلُفْنِي خَيْراً منها» .
إذا قال ذلك وعلم أن لله حكمة في كل قضاء يقضيه لا بُدَّ أنْ يُعوِّضه الله خيراً، وأظن أن قصة السيدة أم سلمة مشهورة في هذا المقام، فلما توفي زوجها أبو سلمة حزنتْ عليه حزناً شديداً، ولما جاءها النسوة يُعزِّينها في زوجها قالت إحداهن: يا أم سلمة، قولي كما قال رسول الله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، اللهم أأجرني في مصيبتي، واخْلُفْني خيراً منها، فقالت: وهل هناك خير من أبي سلمة، يعني: هو في نظرها أحسن الناس وخيرهم.
لكنها مع هذا رضيَتْ بقضاء الله فما انقضَتْ عِدَّتها حتى طرق عليها طارق يقول: يا أم سلمة، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطبِك لنفسه، فضحكتْ لأن الله عوَّضها بمَنْ هو خير من أبي سلمة.(19/12165)
بعد أن أمر الحق سبحانه أزواج النبي وبناته أولاً بهذا الأدب ثِنَّى بنساء المؤمنين، فقال {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59] لأن أسرة رسول الله ليست أزواجه وبناته فحسب، إنما العالم كله، وكلمة (نساء) جمع، لا واحد له من لفظه، فمفرد أزواج زوج، ومفرد بنات بنت، أما (نساء) فمفردها من معناها، لا من لفظها، فتقول: امرأة، واسْتُثْقِل جمع امرأة على امرآت فقالوا: نساء وأصلها في اللغة من النسيء، قالوا: لأن المرأة أُجِّلَ خَلْقُها بعد خَلْق الرجل.
وفي اللغة: النَّسْء أي: التأخير والتأجيل، فقالوا: نساء.
ثم يذكر سبحانه الأمر الذي وُجِّه إلى زوجات النبي، وبناته ونساء المؤمنين جميعاً {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ... } [الأحزاب: 59] فالفعل {يُدْنِينَ ... } [الأحزاب: 59] مجزوم في جواب الطلب (قُلْ) مثل: اسكُتْ تسْلَم، ذاكر تنجح، وفي الآية شرط مُقدَّر: إنْ تَقُلْ لهُنَّ ادنين يُدنين.
كما في {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً ... } [الحج: 27] لأن الخطاب هنا للمؤمنات، وعلى رَأْسِهن أزواج النبي وبناته، وإنْ لم يستجب هؤلاء للأمر، فقد اختلَّ فيهِنَّ شرط الإيمان.
ومعنى: الإدناء: تقريب شيء من شيء، ومن ذلك قوله تعالى في وصف ثمار الجنة {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] أي: قريبة التناول سَهْلة الجَنْي، والمراد: يُدنين جلابيبهن أي: من الأرض لتستر الجسم. وقوله: {عَلَيْهِنَّ ... } [الأحزاب: 59] يدل على أنها تشمل الجسم كله، وأنها ملفوفة حوله مسدولة حتى الأرض.(19/12166)
وكلمة {جَلاَبِيبِهِنَّ ... } [الأحزاب: 59] مفردها جلباب، وقد اختلفوا في تعريفه فقالوا: هو الثوب الذي يُلْبس فوق الثوب الداخلي، فتحت الجلباب مثلاً (فانلة) أو قميص وسروال، ويجوز أن تكون الملابس الداخلية قصيرة، أما الجلباب فيجب أن يكون سابغاً طويلاً قريباً من الأرض.
وقالوا: الجلباب هو الخمار الذي يغطي الرأس، ويُضرب على الجيوب - أي فتحة الرقبة - لكن هذا غير كافٍ، فلا بُدَّ أنْ يُسدل إلى الأرض ليستر المرأة كلها؛ لأن جسم المرأة عورة، ومن اللباس ما يكشف، ومنه ما يصف، ومنه ما يلفت النظر.
وشرط في لباس المرأة الشرعي ألاَّ يكون كاشفاً، ولا واصفاً، ولا مُلْفِتاً للنظر؛ لأن من النساء مَنْ ترتدي الجلباب الطويل السَّابغ الذي لا يكشف شيئاً من جسمها، إلا أنه ضيِّق يصف الصَّدْر، ويصف الأرداف، ويُجسِّم المفاتن، حتى تبدوا وكأنها عارية.
لذلك من التعبيرات الأدبية في هذه المسألة قَوْل أحدهم - وهو على حق - إنَّ مبالغة المرأة في تبرُّجها إلحاح منها في عَرْض نفسها على الرجل. يعني: تريد أنْ تُلفت نظره، تريد أنْ تُنبِّه الغافل وكأنها تقول: نحن هنا. وإنْ تساهلنا في ذلك مع البنت التي لم تتزوج،(19/12167)
ربما كان لها عُذْر، لكن ما عذر التي تزوجت؟
ثم يُبيِّن الحق - تبارك وتعالى - الحكمة من هذا الأدب في مسألة اللباس، فيقول: {ذلك ... } [الأحزاب: 59] أي: إدناء الجلباب إلى الأرض، وسَتر الجسم، وعدم إبداء الزينة {أدنى ... } [الأحزاب: 59] أي: أقرب {أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ... } [الأحزاب: 59] .
فالمرأة المسلمة تُعْرف بزيِّها وحِشْمتها، فلا يجرؤ أحد على التعرض لها بسوء أو مضايقتها، فلباسها ووقارها يقول لك: إنها ليست من هذا النوع الرخيص الذي ينتظر إشارة منك، وليست ممَّنْ يَعْرض نفسه عَرْضاً مُهيِّجاً مستميلاً مُلْفتاً.
وقوله تعالى بعد ذلك وفي ختام الآية {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59] جاء وَصْف المغفرة والرحمة هنا ليشير إلى أن عقوبة الله ليست بأثر رجعي، فما سبق هذا الأمر من تجاوزات مغفور معفوٌّ عنه برحمة الله، والعبرة بسلوك المؤمنة بعد أنْ تسمع هذا الأمر بإدناء الجلباب والتستُّر.
والحق سبحانه بمثل هذا الأدب إنما يُؤمِّن حياة المرأة المسلمة، كيف؟ نقول: معنى التأمين أنْ نأخذ منك حال يُسْرك، وحين تكون واجداً، لنعطيك حينما تكون غير واجد.
كذلك الإسلام حين يستر جمال المرأة ومفاتنها حال شبابها ونضارتها يسترها حين تكبر، وحين يتلاشى الجمال، ويحلُّ محلَّه أمور تحرص المرأة على سترها، فالإسلام في هذه الحالة يحمي المرأة ويحفظ لها عِزَّتها.(19/12168)
ثم يقول الحق سبحانه: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون ... } .(19/12169)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
المتتبع لموكب الرسالات يجد أن الرسل واجهوا في نشر رسالتهم ثلاثة أصناف من البشر: صنف آمن، وصنف كفر، وصنف وقف متردداً بين الكفر والإيمان، وهؤلاء هم المنافقون.
ذلك؛ لأن الرسول حين يُبعث إنما يُبعَث لتغيير وضع اجتماعي بلغ من السوء درجةً لا يحتملها الناس، فالذي يعاني من هذا الوضع ينتظر هذا الرسول الجديد، فما أنْ يُبعث حتى يبادر إلى الإيمان به؛ لأنه جاء بمباديء جديدة، لا ظُلْم فيها، ولا قهر، ولا استبداد، ولا رشوة، ولا فساد.
إذن: مَنْ عضته هذه الأحداث، وشقى بهذا الفساد سارع إلى الإيمان، وكذلك آمن أهل مصر، وما إنْ دخلها الإسلام حتى أسرعوا إليه، لماذا؟ لأنهم شَقُوا قبله بحكم الرومان، وكذلك آمن الفُرْس بمجرد أنْ سمعوا بالإسلام، ورأوا الأسوة الحسنة في المسلمين بعد أنْ عَضَّهم فساد غير المسلمين.
ساعة يشْقَى الناسُ بفساد الأوضاع يتطلَّعون إلى منقذ، فإنْ(19/12169)
جاءهم اتبعو، خاصة إنْ كان منهم وله فيهم مَاضٍ مُشرِّف لم يُجربوا عليه كذباً ولا نقيصة.
وهذا ما رأيناه مثلاً في قصة إسلام سيدنا أبي بكر، فما أنْ أعلن محمد أنه رسول الله حتى سارع إلى الإيمان به دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟ لأنه عرف صِدْقه، وعرف أمانته، ووثق من ذلك.
ومثله كان إيمان السيدة خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فما إنْ جاءها رسول الله مُضطرباً مما لاقى من نزول المَلك عليه حتى احتضنته، وهدَّأتْ من رَوْعه، وأنصفته، وذهبتْ به إلى ورقة بن نوفل لتثبت له أنه على الحق، وأن الله تعالى لن يُسلمه ولن يتخلى عنه.
وكان مما قالتْ: «والله إنك لتقري الضيف، وتحمل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر ... » .
لذلك قال العلماء: إن السيدة خديجة كانت أول فقيهة في الإسلام قبل أنْ ينزل الإسلام.
وطبيعي أن يكون أهل الفساد والمستفيدون منه على النقيض، فهم ينتفعون بالفساد والاستبداد، ويريدون أن تظلَّ لهم سيادتهم ومكانتهم، وأنْ يظل الناسُ عبيداً لهم، يأكلون خيراتهم ويستذلونهم.
وهؤلاء الذين استعبدوا الناس، وجعلوا من أنفسهم سادةً بل آلهة، ويعلمون أن الرسول ما جاء إلا للقضاء على سيادتهم وألوهيتهم(19/12170)
الكاذبة، هؤلاء لا بُدَّ أن يصادموا الدعوة، لا بُدَّ أنْ يكفروا بها، وأن يحاربوها، حِفَاظاً على سيادتهم وسلطتهم الزمنية.
وعجيب أن نرى من عامة الناس مَنْ أَلِف هذه العبودية، ورضي هذه المذلة، واكتفى بأنْ يعيش في كَنَف هؤلاء السادة مهما كانت التبعاتُ، هؤلاء وأمثالهم هم الذين كقالوا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
فبعد أنْ جاءهم الرسول المنقذ ما زالوا يتطلعون إلى عظيم يستعبدهم.
وكلٌّ من هذيْن الفريقين (المؤمن، والكافر) كان منطقياً مع نفسه، فالمؤمن آمن بقلبه، ونطلق بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، لأنه لم ينطق بكلمة التوحيد، والإنسان قلبٌ وقالبٌ، ولا بُدَّ في الإيمان أنْ يوافق القالبُ ما في القلب.
أما الصنف الثالث وهو المنافق، فليس منطقياً مع نفسه، لأنه آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، فهو جبان يُظهر لك الحب، ويُضمِر الكره؛ لذلك جعلهم الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
لذلك، فالعرب لما سألهم رسول الله أنْ يقولوا: لا إله إلا الله، ليبطل بها سيادة زعماء الكفر أبوْا أن يقولوها، لماذا؟ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تُقال، إنما لها تبعات، ويترتب عليها مسئوليات لا يقدرون هم على القيام بها، ولو أنها كلمة تُقَال لقالوها، وانتهى العداء بينهم وبين رسول الله.
فمعنى لا إله إلا الله: لا عبودية إلا لله، ولا خضوعَ إلا لله، ولا تشريعَ إلا لله، ولا نافع إلا الله ... إلخ، وكيف تستقيم هذه المعاني مع مَنْ أَلِف العبودية والخضوع لغير الله؟(19/12171)
والحق - تبارك وتعالى - لما تكلّم هنا عن المنافقين خَصَّ المدينة، فقال سبحانه {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة ... } [الأحزاب: 60] فالنفاق لم يظهر في مكة، وهي مَعْقل الكفر والأصنام، إنما ظهر في المدينة، وهي التي آوَتْ مهاجري رسول الله، وكان غالبية أهلها من أهل الكتاب، وهم أقرب إلى الإيمان من الكفار، فلماذا هذه الظاهرة؟
قالوا: إن الإسلام كان ضعيفاً في مكة، وصار قوياً في المدينة، فالنفاق ظاهرة صحية للإسلام؛ لأنه لولا قوته ما نافقه المنافقون، فظهور النفاق في المدينة دليل على قوة الإسلام فيها، وأنه صارت له شوكة، وصارت له سطوة؛ لذلك نافق ضعافُ الإيمان؛ ليأخذوا خير الإسلام، وليحتموا بحماه، وإلا فالضعيفُ لا يُنَافَق.
نعم، ظهر النفاق في المدينة التي قال الله في حق أهلها: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ... } [الحشر: 9] .
ويقول عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها» .(19/12172)
وأيضاً القرآن هو الذي قال عن أهل المدينة: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق ... } [التوبة: 101] وهذا ليس استضعافاً للمدينة، إنما إظهار لقوة الإسلام فيها، بحيثُ أصبحتْ له سطوة وقوة تُنافَق.
هنا قوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون ... } [الأحزاب: 60] ساعة تسمع {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ ... } [الأحزاب: 60] فاعلم أن الله تعالى أقسم بشيء وهذا القول هو جواب القسم، والحق سبحانه لا يُقسِم إلا على الشيء العظيم، ونحن البشر نُقسِم لنؤكد كلامنا، كما تقول: والله إنْ ما حدث من فلان كذا وكذا سأفعل كذا وكذا.
أما الحق سبحانه، فكلامه صادق ونافذ دون قَسَم، فما بالُكَ إنْ أقسم؟ لذلك يقول بعض العارفين إذ سمع الله تعالى يُقسِم: مَنْ أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟
كلمة {المنافقون.
... } [الأحزاب: 60] مفردها منافق، مأخوذ من نَافَقاء اليربوع، واليربوع حيوان صغير يشبه الفأر، يعرفه أهل البادية، يعيش في جحور، فيترصدونه ليصطادوه ساعة يخرج من جٌحْره، لكن هذا الحيوان الصغير فيه لُؤْم ودهاء، فماذا يفعل؟ يجعل لجُحْره مدخلين، واحد معروف، والآخر مستتر بشيء، فإذا أحس بالصياد على هذا المدخل ذهب إلى المدخل الآخر؛ لذلك أشبه المنافق تماماً الذي له قلب كافر ولسان مؤمن.
وتلحظ أن المنافقين وصفهم الله هنا بصفات ثلاث {المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة ... } [الأحزاب: 60] فالعطف هنا لا يقتضي المغايرة، إنما عطف صفات مختلفة لشيء(19/12173)
واحد، وجاءتْ هذه الصفات مستقلةً؛ لأنها أصبحتْ من الوضوح فيهم، بحيث تكاد تكون نوعاً منفرداً بذاته.
وقد وصف القرآن في موضع آخر المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، فقال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8 - 10] .
وفي هذا دليل على أن الواو هنا أفادت عطف صفة على صفة، لا طائفة على طائفة، ومِثْله العطف في قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان ... } [الحشر: 9] فالدار أي المدينة، وكذلك الإيمان يُراد به المدينة أيضاً.
ومعنى {والمرجفون ... } [الأحزاب: 60] المرجف من الإرجاف، وهو الهزَّة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابت، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأو للإسلام قوةً حاولوا زعزتها وهزّها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث (الطابور الخامس) ، وهم الجماعة الذين يُروِّجحون الإشاعات، ويذيعون الإباطيل التي تُضِعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيراً ما قعد المنافقون يقولون: إن قبيلة فلان وقبيلة فلان(19/12174)
اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى مَنْ يفكر في الإسلام، أو يرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له: ألم تعلم أن فلاناً أخذه قومه، أو أخذه سيده وعذَّبه حتى الموت لأنه اتبع محمداً، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن: المرجِفُ يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه: لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس لَيكُونَنَّ لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول: لقد سكتنا على جرائمهم إلى أنْ قويَتْ شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإنْ نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أنْ يظنُّوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29 - 30] .
ومعنى لحن القول: أن يميلوا عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله: السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة (راعنا) فقالوا: راعونا يقصدون الرعونة.
وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8](19/12175)
فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولاً: لأنهم يتمنوْنَ العذاب.
ثانياً: لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض؛ لأن (يقولون) جمع، و (في أنفسهم) جمع، فكأن كلاً منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن: ألم يسأل واحد منهم نفسه: مَنِ الذي أعلم رسولَ الله بما في نفسي؟ أَلاَ يدل ذلك على أن محمداً موصول بربه، وأنه لا بُدَّ فاضحهم، وكاشفٌ مكنونات صدورهم، إذن: هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرَّة، إنما أعطاهم العهد وأمنَّهم ووسَّع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يُؤذُوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يتناجوْنَ بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، كما قال القرآن عنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ... } [المجادلة: 8] .
إذن: لم يَبْقَ إلا المواجهة على حَدِّ قول الشاعر:
أَنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقَّبَ بَعْدهَا ... وَعيداً فإنْ لم يُغْنٍ أغنَتْ عَزَائمهُ
لذلك يأتي جواب الشرط: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ... } [الأحزاب: 60] .
فجواب الشرط: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ... } [الأحزاب: 60] من الإغراء، وهو باب من أبواب الدراسات النحوية اسمه الإغراء، ويقابله التحذير، الإغراء: أنْ تحمل المخاطب وتُحبِّبه في أمر محبوب ليفعله، كما تقول لولدك مثلاً: الاجتهادَ الاجتهادَ.(19/12176)
أما التحذير فأنْ تُخوِّفه من أمر مكروه ليجتنبه، كما تقول: الأسدَ الأسدَ، أو الكسلَ الكسلَ.
فمعنى {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ... } [الأحزاب: 60] أي: نُسلِّطك عليهم، ونُغريك بمواجهتهم والتصدِّي لهم، فكأن هذه المواجهة صارتْ أمراً محبوباً يُغْري به؛ لأنها ستكون جزاءَ ما فزَّعوك وأقلقوك.
وما دمنا سنسلطك عليهم، وما دمتم ستصيرون إلى قوة وشوكة تُغري بعدوها، فلن يستطيعوا البقاء معكم في المدينة.
{ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] أي: في المدينة، وكلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] يمكن أنْ يكون المعنى: قليل منهم، أو قليل من الزمن ريَثْما يجدوا لهم مكاناً آخر، يرحلون إليه مُشيَّعين بلعنة الله.
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] .
الملعون: المطرود من رحمة الله، أو مطرودون من المدينة بعد أنْ كشف الله دخائلَ نفوسهم الخبيثة؛ لذلك طردهم رسول الله من المسجد؛ لأنهم كانوا من خُبْثهم ولُؤْمهم يدخلون المسجد، بل ويُصلُّون في الصف الأول، يظنون أن ذلك يستر نفاقهم.
لكن رسول الله كان يطردهم بالاسم: يا فلان، يا فلان، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعرفهم، ولم لا وقد قال الله له: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ... } [محمد: 30] .(19/12177)
ومعنى {أَيْنَمَا ثقفوا. .} [الأحزاب: 61] أي: وُجِدوا {أُخِذُواْ ... } [الأحزاب: 61] أي: أُسِروا {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] ولاحظ المبالغة في {وَقُتِّلُواْ ... } [الأحزاب: 61] والتوكيد في {تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] يعني: اقتلوهم بعنف، ولا تأخذكم فيهم رحمة جزاءَ ما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين.
ولأن المنافق الذي طُبع على النفاق صارت طبيعته مسمونة مُلوّثة لا تصفو أبداً، فالنفاق في دمه يلازمه أينما ذهب، ولا بُدَّ أنْ ينتهي أمره إلى الطرد من أي مكان يحل فيه.
لذلك، فمع أن الله تعالى قطَّعهم في الأرض أمماً، إلا أن كل قطعة منهم في بلد من البلاد لها تماسك فيما بينها، بحيث لا يذوبون في المجتمعات الأخرى فتظل لهم أماكن خاصة تُعرف بهم، وفي كل البلاد تعرف حارة اليهود، لكن لا بد أنْ يكتشف الناس فضائحهم، وينتهي الأمر بطردهم وإبادتهم، وآخر طرد لهم ما حدث مثلاً في ألمانيا.
وصدق الله حين قال فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167] .
ثم يقول الحق سبحانه: {سُنَّةَ الله فِي الذين ... } .(19/12178)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
بعد أن بيَّن الحق سبحانه نهاية أعدائه بالتقتيل وانتصار رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أوضح أن هذا ليس شيئاً جديداً في موكب الرسالات، إنما هي(19/12178)
سنة متُبعة ومتواترة، وهل رأيتم في موكب الرسالات رسولاً أرسله الله، ثم خذله أو تخلى عنه، وانتهى أمره بنصر أعدائه عليه؟
والسنة: هي الطريقة الفِطْرية الطبيعية المتواترة التي لا تتخلَّف أبداً، فالأمر إذا حدث مرة أو مرتين لا يسمى سُنة، فالسنة إذن لها رتابة واستدامة.
فالمراد بالسنة هنا غَلَبة الحق على الباطل {فِي الذين خَلَوْاْ ... } [الأحزاب: 62] يعني: الذين مَضَوْا من الأمم السابقة، وما زالتْ سنة الله في نصر الحق قائمة، وستظل إلى قيام الساعة؛ لأنها سنة.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] نعم لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها سنة مَنْ؟ سنة الله، والله سبحانه ليس له نظير، وليس له شريك يُبدل عليه، أو يستدرك على حكمه بشيء.
بعد ذلك أراد الحق سبحانه أنْ يخبرنا أن المنهج الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه وفيه أوامره، وفيه نواهيه، وفيه سبل الخلاص من الخصوم، هذا المنهج لا بُدَّ أنْ يٌحترمَ؛ لأنه سيُسلم الناس جميعاً إلى حياة أخرى يُستقبلون فيها استقبالاً، لا ينفعهم فيه إلا أعمالهم.
حياة أخرى يعيشون فيها مع المسبِّب سبحانه، لا مع الأسباب فإياكم أنْ تظنوا أن الله خلقكم ورزقكم وتنعمتُمْ بنعمه في الدنيا، وانتهت المسألة، وأفلت من عقابه مَنْ خرج على منهجه، لا بل تذكروا دائماً أنكم راجعون إليه، ولن تُفِلتوا من يده.(19/12179)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
سُئِل رسول الله كثيراً عن الساعة، والسؤال ظاهرة صحية إذا كان في الأمر التكليفي؛ لأن السؤال عن التكاليف الشرعية دليل على أن السائل آمن برسول الله، وأحبَّ التكليف، فأراد أنْ يبني حركة حياته على أسس إسلامية من البداية.
فعلى فرض أن الإسلام جاء على أشياء كانت مُتوارثة من الجاهلية فأقرَّها الإسلام، فيأتي مَنْ يسأل عن رأي الإسلام فيها حِرْصاً منه على سلامة دينه وحركة حياته.
لكن أراد الحق سبحانه أنْ يُهوِّن المسائل على الناس، فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... } [المائدة: 101] .
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «دعوني ما تركتكم، فإنما أُهلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» .
إذن: السؤال المطلوب هو السؤال عن الأمور التكليفية التي تهم المسلم، حتى وإنْ كانت من أمور الجاهلية، وقد أقرَّ الإسلام كثيراً منها، فالدية مثلاً في الإسلام جاءت من جذور كانت موجودة عند الجاهليين وأقرَّها الإسلام، وقد أمر الله تعالى المسلم بأنْ يسأل عن(19/12180)
مثل هذه المسائل في قوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
أما السؤال عن الساعة، فالساعة أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، فهو سؤال لا جدوى منه، لذلك لما سُئِل رسول الله: متى الساعة؟ قال للسائل: «وماذا أعددتَ لها» فأخذه إلى ما ينبغي له أنْ يسأل عنه ويهتمّ به.
وهذه الآية الكريمة {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة ... } [الأحزاب: 63] جاءت بعد معركة الإيذاء لله تعالى، والإيذاء لرسوله وللمؤمنين به، هذا الإيذاء جاء ممَّنْ لا يُؤمنون بالسماء، ولا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبلاغ عن الله بواسطة رسوله.
وإيذاء هؤلاء لله تعالى هو في الحقيقة إيذاء لأنفسهم؛ لأنه لا يصل إلى الله تعالى، والله يريد لهم الخير؛ لأنهم عباده وصَنْعته، فحين يخرجون على منهجه فإنما يؤذون أنفسهم، أما إيذاؤهم لرسول الله فقد آذوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أهله وفي نفسه، فقد تعرَّضوا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يتأبَّى عنه أيّ إنسان كريم، آذوْه بالقول وبالفعل، ومع ذلك صبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وصبر أصحابه، وقد أوذوا في أنفسهم وفي أموالهم.
والمتأمل يجد أن هذا الإيذاء مقصود وله فلسفة، فقد أراده الله تعالى ليُمحِّص المؤمنين، وليرى - وهو أعلم سبحانه - مَنْ يثبت على(19/12181)
الإيمان؛ لذلك قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] .
وسبق أن أوضحنا أن الإيمان ليس كلمةً تُقال، إنما الإيمان مسئولية وعمل، ولهذا السبب امتنع كفار مكة عن النطق بكلمة الإيمان؛ لأنهم يعلمون حقيقتها، وهم أهل بيان وفَهْم للأساليب وللمعاني.
وثبات سيدنا رسول الله وصبره هو والذين آمنوا معه دليل على أنهم أجرَوْا مقارنة بين هذا الإيذاء في الدنيا من بشر له قدرة محدودة، وإيذاء الله سبحانه في الآخرة، وهذا إيذاء يناسب قدرته تعالى، ولا يمكن أنْ يفرّ منه أحدٌ.
إذن: نقول: إن للإيذاء فلسفةً مقصودة، وإلا فقد كان من الممكن أن يأخذ الله أعداء دينه أَخْذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، وكما خسف بقارون الأرض، لكن أراد سبحانه أن يعذب هؤلاء بأيدي المؤمنين وبأيدي رسول الله، وربما لو نزلت بهم أخذه عامة لقالوا: آية كونية كالزلازل والبراكين مثلاً؛ لذلك قال تعالى مخاطباً المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ... } [التوبة: 14] .
ثم يُصبِّر الحق سبحانه نبيه ويُسلِّيه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77] .
إذن: ردُّ الحق سبحانه على هذا الإيذاء جاء على نوعين: نوع في الدنيا بأنْ ينصرَ اللهُ نبيَّه عليهم، كما بشَّره الله بقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .(19/12182)
والآخر رَدٌّ أخروي يوم القيامة؛ لذلك قال تعالى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة ... } [الأحزاب: 63] .
والسؤال الذي سُئِلَه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان متوجهاً إلى أمرين: الأول: إعجازي لأنهم كانوا يعملون من كتبهم وأنبيائهم بعض الأمور، فيريدون أنْ يُحرِجوا بها رسول الله حين يسألونه عنها، فلم يجدوا جواباً، وهم يعرفون أن رسول الله أُمِيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس أبداً إلى مُعلِّم، لكن الحق سبحانه كان يُسِعف رسوله ويُعلمه الجواب، فيجيب عليهم الجواب الصحيح، فيموتون غيظاً، ويتمحكون في أيِّ مسألة ليثبتوا لأنفسهم أن محمداً لا يعلمها.
من ذلك مثلاً سؤالهم عن أهل الكهف: كم لبثوا؟ فأجابهم الله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] فقالوا: نحن نعلم أنها ثلاثمائة، فمن أين هذه الزيادة؟ وجهلوا أن تقويت المناسك الإلهية في الدين إنما يقوم على التقويم الهلالي لا على حركة الشمس؛ لأن مُقْتضى ما تعطيه لنا الشمس أن نعلم بها بداية اليوم ونهايته، لكن لا نعرف بها أول الشهر ولا آخره.
أما التوقيت العربي الهلالي، فله علامة مميزة هي ظهور الهلال أول الشهر، وإذا ما قارنْتَ بين التقويم الهلالي والتقويم الميلادي تجد أن كل سنة هجرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الشمسية، فالثلاثمائة سنة الميلادية تساوي في السنة الهجرية ثلاثمائة وتسعة.
فكأنهم أرادوا تجهيل محمد، فنبَّههم الله إلى أنهم هم الجهلة. وعجيب أن يعترض اليهود على هذا التوقيت، مع أنه التوقيت العبادي لسيدنا موسى عليه السلام، ألم يقل سبحانه: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ ... } [الأعراف: 142] .(19/12183)
إذن: فقوله تعالى: {وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] فيه إعجاز أدائي بليغ، يدل على أنَّ التسْع سنين إنما جاءتْ زيادةً من داخل الثلاثمائة، وليستْ خارجة عنها.
ثم سألوه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن رجل جوَّال، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين ... } [الكهف: 83] .
فكان ينبغي أن يلفتهم ذلك إلى صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن يسألوا أنفسهم: من أين له هذا العلم، وهو الأميُّ الذي لم يجلس مرة إلى مُعلِّم؟
لذلك قلنا: إن الأُمية عَيْبٌ في كل إنسان، إلا أنها كانت شرفاً وميزة في رسول الله بالذات؛ لأنها تعني في حقِّ رسول الله أنه لم يُعلِّمه بشر كما اتهموه، إنما علمه ربه.
كذلك كانت الأمة الت نزل فيها القرآن أمة أمية، وهذا أيضاً شرف في حقها، فلو أن هذه الأمة كانت أمةَ علم وثقافة لقالوا عن الإسلام: إنه قفزة حضارية، لكنها كانت أمة أمية يسودها النظام القبلي، فلكل قبيلة قانونها ونظامها، ولكل قبيلة رئيسها، ومع ذلك خرج منهم مَنْ جاء بنظام عام يصلح لسياسة الدنيا كلها، إلى أنْ تقوم الساعة، وهذا لا يتأتَّى إلا بمنهج إلهي.
إذن: الأمية في العرب شرف، وعجزهم عن محاكاة القرآن، والإتيان بمثله أيضاً شرف لهم، فكوْن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأسلوب القرآن دليل على عظمتهم في هذا المجال، وإلا فأنت لا تتحدَّى الضعيف إنما تتحدَّى القوي في مجال التحدي، فكأن تحدِّى الله العرب شهادة منه سبحانه بأنهم أفصح الخَلْق؛ لذلك جاءهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه.(19/12184)
ثم يسأل اليهود رسول الله عن الساعة {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة ... } [الأحزاب: 63] وهم يسألون عن الساعة يعني: عن يوم القيامة؛ لأنهم ينكرونه، ومن مصلحتهم ألاَّ يكون هذا اليوم، حتى لا يقفوا موقف المساءلة والحساب على ما أجرموه في الدنيا من ظلم وشرك وعربدة وسَفْكٍ للدماء، ولَغْو في أعراض الناس.
ولو بحث هؤلاء قضية القيامة والحساب بالعقل - لا بنصوص القرآن - لوجدوا أنها أمر منطقي لا بُدَّ أنْ يحدث، فمثلاً نحن عاصرنا الحزب الشيوعي في روسيا سنة1917، ورأينا كيف أخذوا الإقطاعين والرأسماليين وعذَّبوهم، وفعلوا بهم الأفاعيل، وصادروا ممتلكاتهم جزاءً لهم على ظلمهم للناس، وكنا نقول لهم: نعم هذا أمر منطقي أنْ تقتصَّ من الظالم، لكن ما بال كثير من الظَّلمة الذين ماتوا أو لم تدركوهم وأفلتوا من قبضتكم؟
بالله، لو جاء شخص ودلّكم على مكان أحد الظلمة هؤلاء، ألستم تحمدون له هذه المساعدة؟ فكيف به لو قال: بل سأحضره وأحاسبه وأقتصّ منه، أليست هذه إعانة لكم على مهمة الانتقام من الظالمين؟
لذلك نقول: كان من الواجب أن يكون الشيوعيون أول الناس إيماناً بيوم القيامة وبالبعث والحساب ليتداركوا مَنْ أفلت من أيديهم.
شيء آخر: ألستم تضعون - في أيِّ نظام من أنظمتكم الوضعية - القوانين المنظمة؟ ما معنى القانون: القانون قواعد تحدد للمواطن ما له وما عليه، أليس في قوانينكم هذا مبدأ الثواب للمحسن، والعقاب للمقصر؟
إذن: كل مجتمع لا بُدَّ أن تكون فيه عناصر خارجة على نظامه،(19/12185)
وتستحق العقوبة، فمَنِ استطاع أنْ يُدلِّس على المجتمع، وأنْ يداري جريمته ما حظه من العقوبة، وقد استشرى فساده وكَثُر ظلمه؟
إذن: لا بُدَّ أنْ نؤمن بقدرة أخرى لا يَخْفَي عليها أحد، ولا يُدلِّس عليها أحد، ولا يهرب منها أحد، قدرة تعرف الخفايا وتفضحها وتحاسب أصحابها.
هذه القضية لا بُدَّ أنْ تسوقك إلى فطرية الإيمان بالله تعالى، وأنه سبحانه خبير عالم {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلا فِي ... } [الأنعام: 59] .
لماذا إذن تنكرون القيامة وأنتم في أنظمتكم الدنيوية تُجنِّدون الجواسيس والمخابرات، وتُحْصُون هَمْسَ الناس لمعرفة الذين يحتالون في ألاَّ يراهم القانون؟ أليس من فضل الله عليكم أنه سبحانه يعلم ما خَفِي عليكم ويقتصّ لكم من خصومكم؟
فقضية القيامة والحساب واضحة بالفطرة؛ لذلك تجد أن المنكرين لها هم الذين أسرفوا على أنفسهم ويخافون ما ينتظرهم من العقاب في هذا اليوم، ولا يملكون إلا إنكاره وعدم الاعتراف به، وكأن هذا الهروب هو الحل.
وسورة الكهف تعطينا نموذجاً لهؤلاء، وهو صاحب الجنة الذي قال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً ... } [الكهف: 36] بعد أنْ أسرف على نفسه وجحد نعمة الله عليه، ولما تنبَّه وراجع فطرته قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] .
فالتكذيب بيوم القامة هو الأغلب والآكد والشكّ في {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي ... } [الكهف: 36] يعني: وعلى فرض أَنِّي رُددْتُ إلى ربي يوم القيامة فسوف يكون لي عنده أفضل مما أعطاني في الدنيا، فكما أكرمني هنا سيكرمني هناك.(19/12186)
وهذا اعتقاط خاطيء وفَهْم أحمق، فالله تعالى لا يكرم في الآخرة إلا مَنْ أكرم نفسه باتباع منهجه في الدنيا، ومَنْ لم يكرم نفسه هنا بمنهج الله لا يكرمه الله في الآخرة.
لذلك كثيراً ما نسمع: دَعوْتُ فلم يُستجب لي، خصوصاً السيدات، جاءتني إحداهن تشتكي أنها توجهت إلى الله بالدعاء، ومع ذلك البنت لم تتزوج والولد كذا والزوج كذا. فكنت أقول لها (كتر خيرك) أولاً أنك عرفت أن لك رباً تفزعين إليه وقت الشدة كما قال سبحانه: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ... } [الأنعام: 43] .
إنما أسألك: هل أنت أجبت الله أولاً فيما طلبه منك كي تنتظري منه أنْ يُجيبك إلى ما طلبتِ؟ أأجبت الله في شعرك هذا؟ أأجبتِ الله في (شفايفك) وتغييرك لخِلْقة الله؟ فكانت لا تجد جواباً، إلا أنْ تقول: والله أنا قلبي (صافي) ولا أوذي أحداً. . إلخ.
إذن: أخذتم على الله أنكم دعوتُم فلم يَسْتجب لكم، ولم تأخذوا على أنفسكم أنه سبحانه دعاكم أولاً وناداكم فلم تستجيبوا لندائه، احرصوا أولاً على إجابة نداء الله، وثقوا أنه سبحانه سيجيبكم.
نعود إلى ما كنا بصدده من الحديث عن السؤال في القرآن الكريم، فسؤالهم عن الساعة إمَّا ليتأكد السائل أنها ستحدث، وإما لأنه يستبطئها ويريدها الآن.
ومادة السؤال جاءت كثيراً في كتاب الله؛ لأن القرآن لم ينزل على رسول الله جملةً واحدة، إنما نزل مُنجَّماً حَسْب الأحداث ليعطيهم الفرصة للسؤال، وجاء السؤال إما لتحدي رسول الله، وإما للاستزادة من أحكام الله التي أنزلها على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا جاء مِمَّنْ(19/12187)
عشقوا الإيمان، فأحبوا أنْ تُبني حركة حياتهم على هدى الإيمان.
حتى المسائل التي كانت لها جذور في الجاهلية راحوا يسألون عنها، لماذا، مع أن الإسلام أقرها؟ قالوا: لأنهم أرادوا أنْ يَبْنوا أعمالهم على العبادة، لا على العادة الجاهلية.
والقرآن حينما عرض لهذه الأسئلة قال مرة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى ... } [البقرة: 222] فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما سُئِل هذا السؤال لم يَقُلْ: هو أذى؛ لأن الجواب ليس من عنده، إنما هو مُبَلِّغ عن الله، والله هو الذي يقول، فقال {قُلْ هُوَ أَذًى ... } [البقرة: 222] فكلمة قُلْ هذه من مقول الله تعالى، وأنا أقولها كما هي.
لذلك نعجب ممن ينادي بحذف كلمة {قلْ} من القرآن، بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى في حين أنها دليل على صدق سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودليل على أن ما جاء به لس من عنده إنما من عند الله وهو مبلغ فحسب فربهُ قال له قل وهو يقولها كما هي {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو. .} [البقرة: 219] وفي موضع آخر: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين ... } [البقرة: 215] .
لكن قُلْ تأتي مرة مقترنة بالفاء، ومرة أخرى غير مقترنة بها، فلماذا؟ هذا مَلْمح إعجازي في أداء القرآن، لأن الجواب بقُلْ يعني أن السؤال قد حدث بالفعل، مثل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج ... } [البقرة: 189] .
أما الجواب حين يقترن بالفاء، فإنه يعني وجودَ شرطٍ، فالسؤال لم يحدث بالفعل، إنما سيحدث في المستقبل، كما في قوله تعالى:(19/12188)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] .
والمعنى: إن سألوك في المستقبل عن الجبال فقُلْ ينفسها ربي نَسْفاً، فالجواب مُعَدٌّ مسْبقاً لسؤال لم يُسأل بَعْد، لكنه لا بُدَّ أنْ يُسأل، وأنْ يقع منهم، وهذا وجه آخر من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وإلا فقد كان بإمكانهم ألاَّ يسألوا، لكن هيهات أنْ ينقض أحد كلام الله، أو ينقض علمه تعالى.
ما دام الله قال فلا بُدَّ أنْ يقولوا، وهذه المسألة أوضحناها في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] .
فحكم الله تعالى على هذا الكافر العنيد أنه سيموت على كفره، وسيكون مصيره وزوجته النار، وقد سمع أبو لهب وامرأته هذه الآية، وعرفوا صِدْقها، لكنه مع ذلك لم يؤمن ولو نفاقاً، وقد آمن مَنْ هو أشدُّ كفراً وعناداً، أمثال: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهما.
لكن الذي حكم وأخبر أنه لن يؤمن يعلم أنه سينتهي إلى هذه النهاية مهما حذَّره وأنذره؛ لذلك كان أبو لهب مثالاً لغباء الشرك، فلو أنه جاء في مَحْفل من محافل قريش بعد نزول هذه السورة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأحرجَ رسول الله وكذَّب القرآن، لكن لم يحدث شيء من هذا، وما كان ليحدث بعد أنْ قال الله، مع أنه حُرٌّ مختار.
وفي آية واحدة من كتاب الله وردت الإجابة عن السؤال غير مُصدَّرة (قُلْ) ولا (فقل) ، وهي قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ(19/12189)
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ... } [البقرة: 186] ، لماذا؟
قالوا: لأن السؤال هنا عن ذات الله تعالى؛ لذلك جعل الجواب منه سبحانه مباشرة بلا واسطة؛ لأن المقامَ مقامُ سؤال عن قريب مباشر لك، كذلك جاءتْ الإجابة مباشرة.
هذا عن السؤال، أما عن الساعة التي سألوا عنها، فكلمة الساعة حين نطلقها في هذا العصر نريد بها الآلة المعروفة التي تحدد أجزاء الوقت من ليل أو نهار بالسوية، فليس هناك ساعة أكبر من ساعة.
والعرب حينما اخترعوا الساعة أو المزولة، كانت ساعة دقَّاقة بالماء، وهي عبارة عن خزان يقطر منه الماء قطرة قطرة، وكلما نزلت قطرة الماء حرّكتْ عقارب الساعة بالتساوي، وسُمِّيت ساعة بالذات؛ لأن الساعة هي أقرب أجزاء الوقت لليل أو للنهار، وبعد ذلك عرفنا الدقيقة والثانية والجزء من الثانية.
وقد حرص العرب بالذات على حساب الوقت، وفكَّروا في آلة تضبطه؛ لأن الإسلام يقوم على عبادات موقوتة لا بُدَّ أنْ تُؤدَّي في وقتها، من هنا اخترعوا الساعة.
وكأن الحق سبحانه استعار فطرة البشرة منهم، حين سَمَّي القيامة (الساعة) فالساعة التي تنتظرونها هي آلة مواقيتكم في الحركة؛ لذلك قال شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ:
دَقَّاتُ قَلْبِ المْرءِ قَائِلةٌ لَهُ ... إنَّ الحَياةَ دَقَائِقُ وثَوانِ
والحق سبحانه يقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة ... .} [الروم: 55] أي القيامة: {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ... } [الروم: 55] أي ساعتكم وآلتكم التي تعارفتم عليها لضبط الوقت، فجمع سبحانه(19/12190)
بين الساعة الفاصلة بالقيامة، وبين الساعة التي هي جزء من الليل، أو من النهار.
والمعنى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة. .} [الأحزاب: 63] يعني: أتوجد أم لا توجد؟ وإذا كانت تُوجَد، قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70] .
الحق سبحانه تكلَّم في السؤال عن الساعة في موضعين: هنا {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] .
وفي سورة الشورى: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .
ونلحظ أولاً أن كلمة (قريب) جاءت بدون تأنيث، والساعة مؤنثة، فلم يَقُلْ قريبة، قالوا: لأن المراد وقت قيامها: وما يدريك لعل وقت قيامها قريب.
وقال اللغويون: إن (قريب) على وزن فعيل، وهذا الوزن يستوي فيه المذكَّر والمؤنث، كما في قوله سبحانه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
ثم في الآية الأولى جاء بالفعل تكون، فقال: {تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] وفي الأخرى قال: (قريب) لماذا؟ قالوا: لأن السؤال مرة يكون عن أصل الوجود، ومرة يكون عن شيء تابع لأصل الوجود،(19/12191)
وفي الدراسات النحوية نُدرِّس للتلاميذ كان وأخواتها، وهي فعل مَاضٍ ناقص، يرفع المبتدأ وينصب الخبر، وقد تأتي كان تامة تكتفي بفاعلها كما في {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ... } [البقرة: 280] يعني: إنْ وُجِد ذو عُسْرة.
إذن: إنْ أردتَ الوجود الأول فهي تامة، وإنْ أردتَ وجوداً ثانياً طارئاً على الوجود الأول فهي ناقصة، كما لو قُلْتَ: كان زيد مجتهداً، فأنت لا تتكلم عن الوجود الأول لزيد، إنما تتكلم عن شيء طرأ على وجوده، وهو اجتهاده، وهذه هي كان الناقصة؛ لأن الفعل ينبغي أنْ يدلَّ على زمن وحدث، والفعل كان دلَّ على زمن فقط، فاحتاج إلى خبر ليدل على الحدث، فكأنك قُلْتَ: اجتهد زيد. . في الزمن الماضي.
كذلك نقول في الوجود الأول وكان التامة: «كان الله ولا شيء معه» هذا هو الوجود الأعلى، فإنْ أردتَ شيئاً آخر مُتعلِّقاً بهذا الوجود الأول تقول: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 152] .
فالحق سبحانه في هاتين الآيتين يردُّ على الذين يسألون عن الساعة، إما لأنهم ينكرونها وجوداً، أو يؤمنون بها، ويسألون عن وقتها، فقال مرة: {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] ومرة {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] .
كلمة {وَمَا يُدْرِيكَ ... } [الشورى: 17] معنى الدراية: الإعلام، كما نقول: هل دريْتَ بالموضوع الفلاني، يعني: علمتَ به.(19/12192)