ومن عجائبها أيضاً أنك تشعر بحرارتها على الأرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مثلاً أو منطقة عالية تقلّ درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس، على خلاف ما لو أوقدتَ ناراً مثلاً فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها، أما الشمس فكلما اقتربت منها قلَّتْ درجة الحرارة، فمَنْ يقدر على هذه الظاهرة؟
فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له: إذن هي لك، إلى أن يأتي منازع يدَّعيها لنفسه، ولم يأت منازع يدَّعيها إلى الآن.
وقولهم: {افترى. .} [المؤمنون: 38] مبالغة منهم في حقِّ رسولهم؛ لأن الافتراء: تعمُّد الكذب، والكذب كما قلنا: أن يأتي الكلام مخالفاً للواقع، وقد يأتي الكلام مخالفاً للواقع لكن حسب علم صاحبه، فهو في ذاته صادق.(16/10034)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
سبحان الله، كأن تاريخ الرسالات يعيد نفسه مع المكذِّبين، وكأنه (أكلشيه) ثابت على ألسنة الرسل: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فيتهمونه ويُكذِّبونه ويقولون: ما أنت إلا بشر مثلنا، فتأتي النهاية واحدة: ربِّ انصرني بما كذَّبون، يعني: أبدلني بتكذيبهم نَصْراً.
هذه قَوْلة هود - عليه السلام - حين كذَّبه قومه، وقوْلة نوح، وقوْلة كل نبي كذَّبه القوم؛ لأن الرسول حين يُكذَّب من الرسل إليهم لا يفزع إلا إلى مَنْ أرسله؛ لأن مَنْ أرسله وعده بالنصرة والتأييد: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .(16/10034)
وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ. .} [الحج: 40] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171 - 172] .
فالمعنى: انصرني لأنك أرسلتني، وقد كذَّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة، ولم يَعُد لي إلا معونتك. والإنسان حين يستنفد كل الأسباب التي منحه الله إياها دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطراً داخلاً في قوله سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ. .} [النمل: 62] .
إذن: لا تلجأ إلى الله إلا بعد أنْ تؤدي ما عليك أولاً، وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك، لكن لا تقعد عن الأسباب وتقول: يا رب فالأرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة، فاعمل واستنفد أسبابك أولاً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب الله دعاءه.
لذلك نسمع كثيراً مَنْ يقول: دعوتُ الله ولم يستجب لي، ونقول له: أنت لم تَدْعُ بدعاء المضطر، أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده الأسباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك لا يُستجاب لك.
وهذه نراها حتى مع البشر، ولله تعالى المثل الأعلى: هَبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك بضاعة من الجمرك مثلاً، وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن، فليس من مهامك الحمل والتخزين فهذه مهمة العمال، لكن هَبْ أنك وجدت عاملاً ثقُلَ عليه حِمْله وكاد الصندوق أن يوقعه على الأرض، ماذا يكون موقفك؟ لا شكَّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لأنه فعل كل ما في وُسْعه، واستفرغ كل أسبابه وقواه، فلم تضِنّ أنت عليه بالعون.(16/10035)
كذلك ربك - عَزَّ وَجَلَّ - يريد منك أن تؤدي ما عليك ولا تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسباباً؛ لأن الأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه، فلا ترد يد الله بالأسباب لتطلب الذات بلا أسباب.
لذلك جاء قول الرسل الذين كُذبوا: {قَالَ رَبِّ انصرني. .} [المؤمنون: 39] ليس وأنا قاعد متخاذل متهاون، ولكن {بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39] يعني: فعلت كل مَا في وُسْعي، ولم يَعُدْ لي بهم طاقة.
فتأتي الإجابة على وجه السرعة: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} .(16/10036)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{عَمَّا قَلِيلٍ. .} [المؤمنون: 40] يعني: بعد قليل، ف (عن) هنا بمعنى بعد، كما جاء في قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19] يعني: بعد طبق.
أما {مَّا. .} [المؤمنون: 40] هنا فقد دلَّتْ على الظرف الزمني؛ لأن المراد بعد قليل من الزمن.
{لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] حين يقع بهم ما كانوا به يُكذِّبون، ويحلّ عليهم العذاب يندمون، لأنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم، فليس أمامهم إذن إلا الندم، وهذه المسألة دلَّتْ على أن الفطرة الإنسانية حين لا تختلط عليها الأهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق، وإنْ أخرجها الغضب إلى الباطل، فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب.
والحق - تبارك وتعالى - يعطينا أدلةً وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلام فيقول: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ(16/10036)
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] .
إلى أنْ قال سبحانه: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ. .} [المائدة: 30] فجاء القتل أثراً من آثار الغضب، والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه، وينبغي له أن يُسَرَّ لأنه حقق ما يريد، لكن {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] .
أي: بعد أن هدأتْ ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل، لماذا؟ لأن هذه طبيعة النفس البشرية التي لا يُطغيها ولا يُخرجها عن توازنها إلا الهوى، فإنْ خرج الهوى عادت إلى الاستقامة وإلى الحق، وكأن الله تعالى خلق في الإنسان مقاييس يجب ألاَّ تُفسدها الأهواء ولا يُخرِجها الغضب عن حَدِّ الاعتدال، لذلك يقولون: آفة الرأي الهوى.
لقد استيقظ قابيل، لكن بعد أنْ رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرُّعه، لكن الذكي يستيقظ قبل رَدِّ الفعل.
لكن، لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات: {لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] المتتبع لما حاق بالأمم المكذِّبة من العذاب والانتقام يجد أنه غالباً ما يكون في الصباح، كما قال تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 176 - 177] .
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] .
وقال سبحانه: {فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ} [القلم: 21] .
ذلك، لأن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي، فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب، ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة، على خلاف إنْ جاءهم العذاب أثناء النهار وهم مستعدون.
وندمهم على أنهم كذَّبوا أمراً ما كان ينبغي أن يُكذِّب وقد جَرَّ(16/10037)
عليهم الوَيْلات، والندم على خير فات من طبيعة النفس البشرية التي عادةً ما تغلبها الشهوة ويُغريها الحمق بردِّ الحق، ويمنعها الكِبْر من الانصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم، ويريد في ظنهم أنْ يستعلي عليهم، لكن حين يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون، ولاتَ ساعة مَنْدم.
إذن: فشهوة النفس تجعل الإنسان يقف موقفاً، إذا ما جُوزي عليه بالشدة يندم أنه لم يُنفذ ولم يطع، يندم على غطرسته في موقف كان ينبَغي عليه أنْ يتنازل عن كبريائه؛ لذلك يقولون: من الشجاعة أنْ تجبن ساعة.
ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو لا تقدر على مجابهته، ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا الموقف حين قال: لا أستطيع أن أحارب أمريكا، فالبعض فهم هذا القول على أنه ضَعْف وجُبْن، وهو ليس كذلك، إنما هو شجاعة من الرجل، شجاعة من نوع راقٍ؛ لأن من الشجاعة أيضاً أن تشجع على نفسك، وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك، وتصور لو دخل السادات مثل هذه الحرب فهُزِم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة لا تحسب العواقب. وقد رأينا عاقبة الجرأة على دخول حرب غير متكافئة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً. .} .(16/10038)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
ما دام الحق - تبارك وتعالى - توعّدهم وحدَّد لهم موعداً،(16/10038)
فلا بُدَّ أن يقع بهم هذا الوعيد في الوقت ذاته، وإلاَّ لو مَرَّ دون أن يصيبهم ما يندمون لأجله لانهدم المبدأ من أساسه، ما دام أن الله تعالى قالها وسجَّلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو.
{عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] فلا بُدَّ أن ينزل بهم العذاب في الصباح.
لذلك {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق. .} [المؤمنون: 41] لا بالظلم والعدوان، وفي موضع آخر قال سبحانه عنهم: {وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] والمعنيان يلتقيان، لأن الريح الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ.
{فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً. .} [المؤمنون: 41] الغثاء: ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات، فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب، والغثاء هو الزَّبَد الذي قال الحق سبحانه وتعالى عنه: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض. .} [الرعد: 17] .
وفي الحديث الشريف قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: «يوشك أن تتداعَى عليكم الأمم كما تتداعَى الأكلة إلى قصعتها - يعني: يدعو بعضهم بعضاً لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها - فقالوا: أمِنْ قِلَّة نحن يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل» يعني: شيئاً هيِّناً لا قيمةَ له يذهب سريعاً.
وقوله تعالى: {فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [المؤمنون: 41] أي: بُعداً لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كُنَّا نُمنِّيهم به ونَعِدهم به لو آمنوا،(16/10039)
وليس البُعد عن العذاب؛ لأن البعد مسافة زمنية أو مكانية، نقول: هذا بعيد، أي: زمنه أو مكانه، المراد هنا البُعْد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا.
والظلم: كما قلنا أخذْ حَقِّ الغير، والشرك هو الظلم الأعظم؛ لأنه ظلم في مسألة القمة، والبعض من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم؛ لأنك ظلمتَ الله سبحانه وتعالى، لأنك أنكرتَ وجوده وهو موجود، وأشركتَ معه غيره وهو واحد لا شريك له، نعم أنت ظلمتَ، لكن ما ظلمتَ الله؛ لأنه سبحانه لا يظلمه أحد، وإنْ كان الظلم - كما نقول - أَخْذ حَقِّ الغير، فحقُّ الله محفوظ وثابت له سبحانه قبل أن يُوجَد مَنْ يعترف له بهذا الحق، حقُّ الله ثابت مهما علاَ الباطل وتبجَّح أهل الضلال.
لذلك يقول عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى. .} [التوبة: 40] وفي المقابل: {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا. .} [التوبة: 40] ولم يقُل قياساً على الأولى: وكلمةَ الله العليا؛ لن معنى ذلك أن كلمة الله مرفوعةً على صورة الجملة الاسمية الدالّة على الثبوت {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا. .} [التوبة: 40] أي: دائماً ومهما عَلَتِ كلمة الكافرين. لماذا؟
قالوا: لأن عُلُو كلمة الكافرين في ذَاته عُلُوٌّ لكلمة الله، فإذا علا الكفر واستشرى شرُّه وفساده يعض الناس ويُوقِظ غفلتهم ويُنبههم إلى خِسَّة الكفر ودناءته وما جرّه عليهم من ظلم وفساد فينكروه ويعودوا إلى جادة الطريق، وإلى الحق الثابت لله عَزَّ وَجَلَّ.
إذن: فكلمة الله هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا، وكما يقولون: والضد يُظهر حُسْنه الضدّ. والله عَزَّ وَجَلَّ لا يُسْلِم(16/10040)
الحق، ولكن يتركه ليبلو غَيْره الناس عليه، فإنْ لم يغاروا عليه غار هو عليه.
وما داموا ما ظلموا الله، ولا يستطيعون ذلك، فما ظلموا إلا أنفسهم، وإنْ عُقل ظلمك لغيرك وأخذك لحقه فلا يُعقَل ظلمك لنفسك؛ لأنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها.(16/10041)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [المؤمنون: 31] فجاءتْ قرناً بصيغة المفرد؛ لأن الحديث مقصور على عاد قوم هود، أما هنا فقال تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً. .} [المؤمنون: 42] لأن الكلام سيأتي عن أمم ورسالات مختلفة ومتعددة، فجاءت (قروناً) بصيغة الجمع، متتابعة أو متعاصرة، كما تعاصر إبراهيم ولوط، وكما تعاصر موسى وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .(16/10041)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
تأملوا هذه الآية جيداً وارْعَوْها انتباهكم، فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تماماً، مثل أجَل الأفراد الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر، فقرْن بعد قَرْن، وأمة بعد أمة، تمرُّ بأطوار شتى كأطوار حياة الإنسان، ثم تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها.
فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة الله ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره الله وتنتشر دعوته ويتمسَّك الناس بها، ثم(16/10041)
تصيبهم غفلة وفتور عن منهج الله، فينصرفون عنه ويختلفون ويتفرقون، فيكون ذلك إيذاناً بزوالها ثم يخلفها غيرها؟
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلَّ محلَّها حضارات أخرى أقوى، نسمع عن حضارة قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن، نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية. . الخ حضارات تتوالى وتأخذ حظها من الرُّقيِّ والرفاهية، وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة، وتبدلهم بالجَلَد والقوة لِيناً وضَعْفاً، فيغفلوا عن أسباب رُقيِّهم وتقدُّمهم، فتنهدم حضارتهم ويحلُّ محلَّها أقوى منها وأصلب.
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} [الفجر: 6 - 10] .
وإلى الآن، ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية، وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات الحديثة وتنال إعجابهم، فيأتون إليها من كل أنحاء العالم، مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛ لأن الله تعالى قال في حقها: {التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 8] .
ومع ذلك لا نرى لهم أثراً يدل على عِظَم حضارتهم، ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها، أو تحتفظ لها بشيء، فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر.
كذلك أتباع الرسل يمرُّون بمثل هذه الدورة، فبعد قوة الإيمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم الضعف وسوء الحال، إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولاً جديداً.
{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون: 43] .
المعنى في الجملة الأولى واضح، فأيُّ أمة لا يمكن أنْ تسبق(16/10042)
أجلها الذي حدَّده الله لها، ولا يمكنْ أن تنتهي أو تقوَّص قبل أنْ يحلَّ هذا الأجل.
لكن ما المراد بقوله سبحانه: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} [المؤمنون: 43] كيف يتأتَّى ذلك؟ فهمنا: لا تسبق أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة، فلا يمكن أن تُقوَّض قبل خمس عشرة، أما كونها تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة، فكيف يتم ذلك؟
نقول: لا تستأخر يعني: من حيث الحكم هي لا تسبق الأجل وهي محكوم عليها بأنها لا تستأخر؛ لأن الاستئخار بعد بلوغ الأجل مستحيل، كما لو قلنا: شخص بلغ سِنَّ العشرين لا يقدر أن يموت في العاشرة. فالمعنى: الأصل فيه أنه لا يستأخر.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً. .} .(16/10043)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{تَتْرَا. .} [المؤمنون: 44] يعني: متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنَّها البعض فعلاً وهي ليست بفعل، بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى (تتراً) بالتنوين والفعل لا يُنوَّن، إذن: هي اسم، والألف فيها للتأنيث مثل حُبْلى.
أضِفْ إلى ذلك أن التاء الأولى تأتي في اللغة بدلاً من الواو، كما جاء في الحديث الشريف من نصيحة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «احفظ الله(16/10043)
يحفظك، احفظ الله تجدْه تجاهك - أو وجاهك» يعني: مواجهك.
فإذا أُبدلَتْ التاء الأولى في (تتراً) واواً تقول (وتراً) يعني: متتابعين فَرَْداً، والوتر هو الفَرْد.
ثم يقول سبحانه: {كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ. .} [المؤمنون: 44] فهذه طبيعة ولازمة من لوازم المرسل إليهم، وما من رسول أُرسل إلى قوم إلا كذّبوه، ثم يلجأ إلى ربه: {قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39] .
ولو لم يُكذَّب الرسول ما كان هناك ضرورة لإرساله إليهم، وما جاء الرسول إلا بعد أن استشرى الباطل، وعَمَّ الطغيان، فطبيعي أنْ يُكذِّب من هؤلاء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين يدافعون عنه بكل قواهم، وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل، وإلا لما كان هناك ضرورة لرسالات جديدة.
وقوله تعالى: {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً. .} [المؤمنون: 44] يعني: يمضي واحد ويأتي غيره من الرسل، أو نهلك المكذِّبين ثم يأتي بعدهم آخرون، فيكذبون فنهلكهم أيضاً.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ. .} [المؤمنون: 44] أحاديث: إما جَمْعاً لحديث كما نقول: أحاديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو جمع: أحدوثة. وهي المقولة التي يتشدَّق بها الجميع، وتلوكُها كل الألسنة، ومن ذلك قول الإنسان إذا كثُر كلام الناس حوله: (جعلوني حدوتة) يعني على سبيل التوبيخ والتقريع لهم.
فقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ. .} [المؤمنون: 44] كأنه لم يبْقَ منهم(16/10044)
أثر إلا أنْ نتكلم عنهم، ونذكرهم كتاريخ يُحْكَى، وفي موضع آخر قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ. .} [سبأ: 19] .
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم: {فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] يعني: بُعْداً لهم عن رحمة الله، وبُعْداً لهم عن نعيم الله الذي كان ينتظرهم، ولو أنهم آمنوا لنالوه.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا. .} .(16/10045)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
تكررت قصة موسى - عليه السلام - كثيراً ومعه أخوه هارون، كما قال: {اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} [طه: 31 - 32] والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة، لكنه جاء برسالتين: رسالة خاصة إلى فرعون ملخّصها: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ. .} [طه: 47] .
وجاء له بمعجزات تثبت صِدْق رسالته من الله، ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة الإيمان جزءاً من هذه الرسالة، إنما جاء هكذا عرضاً في المناقشة التي دارتْ بينهما.
والرسالة الأخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة.
وقوله: {بِآيَاتِنَا. .} [المؤمنون: 45] قلنا: إن الآيات جمع آية، وهي الشيء العجيب الملفت للنظر الفائق على نظرائه وأقرانه، والذي يكرم ويفتخر به. والآيات إما كونية دالّة على قدرة الله في الخَلْق كالشمس والقمر. . إلخ كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار. .} [فصلت: 37] .(16/10045)
ومهمة هذه الآيات الكونية أنْ تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة الإيمان به، فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقاً وقوة تمده وتديره، فَمنْ يمدُّ هذه الشمس بهذه القوة الهائلة؟ إن التيار الكهربائي إذا أنقطع تُطْفأ هذه اللمبة، فمَنْ خلق الشمس من عدم، وأمدِّها بالطاقة من عدم؟
إذن: وراء هذا الكون قوة ما هي؟ وماذا تطلب منا؟ وهذه مهمة الرسول أنْ يُبلغنا، ويُجيب لنا عن هذه الأسئلة.
وتُطلق الآية أيضاً على المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله.
وتُطلق الآية على آيات القرآن الحاملة للأحكام والحاوية لمنهج الله إلى خَلْقه.
ثم يقول تعالى: {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [المؤمنون: 45] فعطف {وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [المؤمنون: 45] على {بِآيَاتِنَا} [المؤمنون: 45] وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص؛ لأن الآيات هي السلطان، فالسلطان: الحجة. والحجة على الموجود الأعلى آيات الكون، والحجة على صِدْق الرسول المعجزات، والحجة على الأحكام الآيات الحاملة لها.
وسَمَّى معجزة موسى عليه السلام (العصا) سلطاناً مبيناً أي: محيطاً؛ لأنها معجزة متكررة رأينا لها عدة حالات: فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حيّة تلقَفُ الحيّات، ومرة يضرب بها البحر فينفلق، ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء، وفوق ذلك قال عنها: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] .(16/10046)
ومن معاني السلطان: القَهْر على عمل شيء أو الإقناع بالحجة لعمل هذا الشيء، لذلك كانت حجة إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لأتباعه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي. .} [إبراهيم: 22] يعني: كنتم رَهْن الإشارة، إنما أنا لا سلطان لي عليكم، لا سلطانَ قهر، ولا سلطان حجة.
لذلك قال في النهاية: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ. .} [إبراهيم: 22] والإنسان يصرخ إذا فزَّعه أمر لا حيلة له به، فيصرخ استنفاراً لمعين يُعينه، فمَنْ أسرع إليه وأعانه يقال: أصرخه. يعني: أزال سبب صراخه.(16/10047)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{فِرْعَوْنَ. .} [المؤمنون: 46] لقب لكل مَنْ كان يحكم مصر، مثل كِسْرى في الفرس، وقيصر في الروم، وتكلَّمنا عن معنى (الملأ) وهي من الامتلاء، والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابةً ومنزلةً، وهم أشراف القوم وصدور المجالس، ومنه قولهم: فلان قَيْد النواظر يعني: مَنْ ينظر إليه لا ينصرف عنه إلى غيره.
وقوله تعالى: {فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ} [المؤمنون: 46] والاستكبار غير التعالي، فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به، لكن يأبى أنْ يطيعه، ويأنف أن يصنع ما أمر به، أما العالي فهو الذي يظن أنه لم يدخل في الأمر من البداية.
ومن هنا جاء قوله تعالى لإبليس لما أبى السجود لآدم: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75](16/10047)
والعالون هم الملائكة المهيّمون في الله، والذين لا يدرون شيئاً عن آدم وذريته.(16/10048)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
اعترضوا أيضاً هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من الأمم السابقة، إنهم يريدون الرسول مَلَكَاً، كما جاء في موضع آخر: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] .
ومن الغباء أن يطلبوا ملَكاً رسولاً، فلو جاءهم الرسول ملكاً، فكيف سيكون أسْوة للبشر؟ وكيف سيروْنَه ويتلقّوْن عنه؟ إذن: لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر؛ لذلك يقول تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]
وستظل الشبهة قائمة، فما الذي يجعلك تُصدِّق أنه مَلَك؟
وقوله تعالى: {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون: 47] يعني: كيف نؤمن لموسى وهارون وقومهما - أي: بني إسرائيل - خدم لنا، يأتمرون بأمرنا، بل ونُذلّهم ونُذبِّح أولادهم، ونستحيي نساءهم، ونسومهم سوء العذاب؟
وسمّى ذلك عبادة، لأن مَنْ يخضع لإنسان، ويطيع أمره كأنه عبده.(16/10048)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
أي: بالغرق، وهذه قصة مشهورة معروفة، وجعلها الله مُثْلة وعِبرةً.(16/10048)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{الكتاب. .} [المؤمنون: 49] أي: التوراة، وفيه منهج الهداية {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [المؤمنون: 49] أي: يأخذون الطريق الموصّل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. .} .(16/10049)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم، والقرآن في حديثه عن عيسى عليه السلام مرة يقول: ابن مريم، ومرة يقول: عيسى بن مريم. وتسمية عيسى عليه السلام بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشَّر بغلام تستنكر ذلك، وتقول: كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب، لماذا؟ لأن الله(16/10049)
سماه ابن مريم، وما دام سماه بأمه، إذن: فلن يكون له أب.
وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملاً ولم يمسسها رجل؛ لأن عِرْض الفتاة أغلى وأعزّ ما تملك، لذلك مهّد الحق - تبارك وتعالى - لهذه المسألة، وأعدَّ مريم لاستقبالها، وأعطاها المناعة اللازمة لمواجهة هذا الأمر العجيب، كما نفعل الآن في التطعيم ضد الأمراض، وإعطاء المناعة التي تمنع المرض.
فلما دخل زكريا - عليه السلام - على مريم فوجد عندها رزقاً لم يأْتِ به، وهو كفيلها والمسئول عنها، سألها: {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله. .} [آل عمران: 37] وكان هذا الردّ من مريم عن فَهْم تام لقضية الرزق، ولم يكُنْ كلام دراويش، بدليل أنها قالت بعدها: {إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] .
وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه في بيته ولم يأْتِ هو به، حتى لا يدعَ لأولاده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم.
لقد انتفع زكريا - عليه السلام - بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة، نعم زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب، لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور، فلما سمعها من مريم خرجتْ إلى بُؤرة شعوره، وعند ذلك دعا الله أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتياً، وامرأته عاقر.
وكذلك انتفعت بها مريم حين أحسَّتْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ؛ لأن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ. .} [المؤمنون: 50] فأخبر(16/10050)
سبحانه عن المثنى بالمفرد {آيَةً. .} [المؤمنون: 50] لأنهما مشتركان فيها: مريم آية لأنها أنجبت من غير زوج، وعيسى آية لأنه وُلِد من غير أب، فالآية إذن لا تكون في أحدهما دون الآخر، وهما فيها سواء.
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة فيُقَدِّم عيسى في آية: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. .} [المؤمنون: 50] ويقدم مريم في آية أخرى: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] هذه العدالة في النص لأنهما سواء في الخيرية لا يتميز أحدهما على الآخر.
والآية هي الأمر العجيب الذي يُثبت لنا طلاقة قدرة الخالق في الخَلْق، وحتى لا يظن البعض أن مسألة الخَلْق مسألة (ميكانيكية) من أب وأم، لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن هذه القاعدة ليجعله الله دليلاً على قدرته تعالى، فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم، أو من أب فقط، أو من أم فقط، وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الأب والأم، لكن لا يوجد الإنجاب، إذن: المسألة إرادة لله عَزَّ وَجَلَّ، وطلاقة لقدرة إلهية لا حدودَ لها.
يقول سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً. .} [الشورى: 50] .
والآن نلاحظ أن البعض يحاول منع الإنجاب بشتى الوسائل، لكن إنْ قُدِّر له مولود جاء رغم أنف الجميع، ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها.
ثم يقول سبحانه: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. .} [المؤمنون: 50] من الطبيعي بعد أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد(16/10051)
من قومها وتُطارد، بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى أن يراها أحد، ألا ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء. .} [القصص: 25] على استحياء، لأنها ذهبت لاستدعاء فتىً غريب عنها، فما بالك بمريم حين يراها القوم حاملاً وليس لها زوج؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة.
لذلك لما سئل الإمام محمد عبده وهو في باريس: بأيِّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الإفك؟ فألهمه الله الجواب وهداه إلى الصواب، فقال: بالوجه الذي قابلتْ به مريمُ قومَها وقد جاءتْ تحمل ولدها؛ ذلك لأنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعناً في جبين الإسلام.
ولما كانت مريم بهذه الصفة تولاها الله ودافع عنها، فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين يرى مسألة حَمْلها، وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ. .} [الأنفال: 24] .
فإذا به يخدمها ويحنُو عليها؛ لأن الله أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا، وكل ما قاله في مجادلة مريم وفي الاستفسار عَمَّا حدث بطريقة مهذبة: يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة؟ فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت: نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلام أهل الإيمان والفهم عن الله.
لذلك آواها الله وولدها {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50](16/10052)
وساعةَ تسمع كلمة الإيواء تفهم أن شخصاً اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه، وكذلك كانت مريمُ مضطرة تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها. ولا بُدَّ في مكان الإيواء هذا أنْ تتوفر فيه مُقوِّمات الحياة، خاصة لمثل مريم التي تستعد لاستقبال وليدها، ومقومات الحياة: هواء وماء وطعام.
فانظر كيف أعدَّ الحق - سبحانه وتعالى - لمريم مكان الإيواء: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ.
.} [المؤمنون: 50] وهي المكان العالي عن الأرض المنخفض عن الجبل، فهو معتدل الجو؛ لأنه بين الحرارة في الأرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل.
{ذَاتِ قَرَارٍ. .} [المؤمنون: 50] يعني: توفرتْ لها أسباب الاستقرار من ماء وطعام، فالماء يأتيها من أعلى الجبال ويمرُّ عليها ماءً معيناً، يعني: تراه بعينك، والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي نزلت يجوارها.
ومعلوم أن الربوة هي أنسب الأماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى، ولا يتبقى فيها مياه جوفية تضرُّ بمزروعاتها؛ لأنها تتصرف في الأرض المنخفضة عنها.
لذلك ضرب لنا الحق - تبارك وتعالى - المثل للأرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر، فقال: {وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ. .} [البقرة: 265] .
إذن: اختار الله تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث لا تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره.
وبعد ذلك يتكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن قضية عامة بعد أن تكلَّم عن القرار ومُقوِّمات الحياة، وهي الطعام والشراب والهواء،(16/10053)
فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً. .} .(16/10054)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
لكن، كيف يخاطب الحق - تبارك وتعالى - الرسل جميعاً في وقت واحد؟ نقول: لأن القرآن الكريم هو كلام الله القديم، لم يأْتِ خاصاً بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنْ نزل عليه فهو إذن خطاب لكل رسول جاء.
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالأكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح: {واعملوا صَالِحاً. .} [المؤمنون: 51] ثم يقول سبحانه: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] كأن الحق سبحانه يقول: اسمعوا كلامي فيما آمركم به، فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لأنني الخالق الذي أعلم كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير، ولا تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إلا إذا أخذتم المطعم من الحلال الطيب.
وكما قلنا: إن صانع الآلة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها، وإلاّ تعطلتْ عن أداء مهمتها.
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالمطْعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلال، فيحدث انسجاماً بين هذه الذرات، وتعمل معاً متعاونة غير متعاندة، وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ أعانتك على الصالح.
فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت، كما لو وضعتَ للآلة وقوداً غير ما جُعِل لها، فافهموا هذه القضية؛ لأنني أنا الخالق فآمِنُوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين يصنع لكم صناعة، ويضع لكم قانون صيانتها.
إذن: أمر الحق سبحانه أولاً رسله بالأكل من الطيبات؛ لأن(16/10054)
العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم متوافق من داخله؛ لذلك في سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس، أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حارّ شيئاً من اللبن يفطر عليه، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أنها فقيرة لا تَملك شيئاً فأرسل إليها: من أين لك هذا اللبن؟ فأرسلت إليه: من شاة عندي، فبعث إليها: ومن أين لك بالشاة؟ قالت: اشتريتها بمال دبّرته. فشرب رسول الله من اللبن.
وإنْ كنا نحن لا نتحرى في مَطْعمنا كُلَّ هذا التحري، لكن هذا رسول الله الذي يُنفذ منهج الله كما جاءه، وعلى أكمل وجه. وفي الحديث الشريف: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. .} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟» .
نعم، كيف يُستجاب له وهو يدعو الله بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنَّسه وخالطه الحرام؟
وفي حديث سيدنا سعد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما قال لرسول الله: يا رسول الله ادْعُ الله لي أنْ أكون مُستجاب الدعوة، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «(16/10055)
يا سعد أطِبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة» .
ثم يُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] يعني: أعلم ما يُصلحكم، وما يجلب لكم الخير.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. .} .(16/10056)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
بعد أن تكلَّم الحق - سبحانه وتعالى - عن المعركة بين الإيمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن معركة أخرى لا تقلّ خطورة عن الأولى، وهي معركة الفُرْقة والاختلاف بين صفوف المؤمنين، ليحذرنا من الخلافات التي تشقُّ عصانا، وتفُتُّ في عَضُد الأمة وتُضِعفها أمام أعدائها، ونسمعهم الآن يقولون عنَّا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب - ليتفقوا أولاً فيما بينهم، ثم يُبشِّروا بالإسلام.
الأمة: الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد، وتُطلَق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه خصال الخير التي لا تجتمع إلا في أمة، لذلك سمَّى الله تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] .
أما قوله سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً. .} [المائدة: 48] فكيف نقول: إنها أمة واحدة؟
قالوا: لأن الدين يتكّون من أصول وعقائد، وهذه واحدة لا تختلف باختلاف الأديان، وأخلاق وفروع. وهذه تختلف من دين لآخر باختلاف البيئة؛ لأنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل عصر.(16/10056)
يقول تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ. .} [الشورى: 13]
إذن: فالأمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج، والأحكام الجزئية التي تتعرض لأقضية الحياة. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. .} [آل عمران: 50] .
وكانوا في الأمم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه، فلما جاء الإسلام خفَّف عن الناس هذا العَنت، وشرع لهم أنْ يغسلوه فيطهر.
وما دام أن أمتكم أمة واحدة {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} [المؤمنون: 52] يعني: اتقوا الله في هذه الأمة الواحدة وأبقوا على وحدتها، واحذروا ما يُفرِّقها من خلافات حول فروع إن اختلف البعض عليها اتهموا الآخرين بالكفر؛ لأنهم يريدون أنْ يَنْهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لأنفسهم.
والحق - تبارك وتعالى - يقول: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ. .} [الأنعام: 159] .
فالأمور التي أحكمها الله باللفظ الصريح المُحْكَم أصول لا خلافَ عليها ولا اجتهادَ فيها، وأما الأمور التي تركها سبحانه للاجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الآخرين، وإلا لو أراد الحق سبحانه لجعل الأمر كله مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد.
ومعنى {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ. .} [المؤمنون: 52] أن من عطاء ربوبيتي أنْ جعلْتُ لكم أموراً محكمة وعقائد ثابتة؛ لأن الاختلاف فيها يفسد(16/10057)
المجتمع، وتركتُ لكم أموراً أخرى تأتون بها أو تتركونها، كُلٌّ حسب اجتهاده؛ لأن الاختلاف فيها لا يترتب عليه فساد في المجتمع، وسبق أن مثَّلنا لهذه الأمور.
وقوله: {فاتقون} [المؤمنون: 52] يعني: بطاعة الأمر، فما أحكمتُه فأَحْكِموه، وما جعلتُ لكم فيه اجتهاداً فاقبلوا فيه اجتهاد الآخرين.
لكن، هل سمعنا قوْل الله وأطعْنَا؟ يقول سبحانه: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً. .} .(16/10058)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{زُبُراً} [المؤمنون: 53] يعني: قطعاً متفرقة، ومنه {آتُونِي زُبَرَ الحديد. .} [الكهف: 96] .
{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] يعني: كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به، وكأنها على الحق وغيرها على الباطل، يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس، ويُصوِّرون لهم أنهم أتوْا بما لم يأت به أحد من قبلهم، وتنبّهوا إلى ما غفل عنه الآخرون.
{بِمَا لَدَيْهِمْ. .} [المؤمنون: 53] بالرأي الذي يريدونه، لا بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه وتعالى.
من ذلك قولهم: إن الصلاة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة، وأن ذلك شرك في العبادة. . إلخ ولو أن الأمر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة.
إن على هؤلاء الذين يثيرون مثل هذه الخلافات أنْ يتفهموا الأمور(16/10058)
على وجهها الصحيح، حتى لا نكون من الذين قال الله عنهم: {فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] .
وما أفسد استقبال الأديان السابقة على الإسلام إلا مثل هذه الخلافات، وإلاّ فكل دين سبق الإسلام وخصوصاً الموسوية والعيسوية قد بشَّرَتْ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانوا وهم أهل كتاب ورسالة وعلى صلة بالسماء - يجادلون أهل الكفر من عبدة الأصنام يقولون: لقد أطلَّ زمان نبي يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
ومع ذلك: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ. .} [البقرة: 89] لماذا؟ لأنهم يريدون أن يحتفظوا بسلطتهم الزمنية.
كيف لا ينكرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كان أحدهم يستعد لتنصيب نفسه ملكاً على المدينة يوم أنْ دخلها رسول الله، فأفسد عليه ما أراد؟(16/10059)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{فَذَرْهُمْ. .} [المؤمنون: 54] يعني: دَعْهم، والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين، فورد فيهما يدع ويذر. وقد ورد هذا الفعل أيضاً في قوله تعالى: {وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة. .} [المزمل: 11] .(16/10059)
وفي قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث. .} [القلم: 44] .
والمعنى: ذرهم لي أنا أتولى عقابهم، وأفعل بهم ما أشاء، أو: ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا العقاب، وينزل بهم العذاب.
والغمرة: جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس، فلا يبقى له من أمل في الحياة إلا بمقدار ما في رئته لأكبر قدر من الهواء؛ لذلك يحرص الإنسان على أنْ يُمرِّن نفسه على أن تتسع رئته لأكبر قدر من الهواء.
ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة، وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الآخر: أيّهما يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس.
ويقول تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26] وتستطيع أن تُجري مع نفسك هذه المنافسة، بأن تأخذ نفساً عميقاً ثم تعد: واحد، اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء.
فالمعنى: ذَرْهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لأنهم كمن غمره الماء، وسرعان ما تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها: {حتى حِينٍ} [المؤمنون: 54] والحين مدة من الزمن قد تطول، كما في قوله تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا. .} [إبراهيم: 25] .
وقد تقتصر كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وكأن الله تعالى عَبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول.
ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيراً من المؤمنين:(16/10060)
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ. .} .(16/10061)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
هذه قضية شغلت كثيراً من المؤمنين حين يروْنَ الكافرين بالله مُرفَّهين مُنعّمين، في يدهم المال والنفوذ، في حين أن المؤمنين فقراء، وربما تشكّك البعض واهتزَّ إيمانه لهذه المتناقضات.
ونقول لهؤلاء: لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي، إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم وازدهرتْ حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان، فلما تخلَّوْا عن دينهم وقِيَمهم حَلَّ بهم ما هم فيه الآن.
لقد تقدم علينا الآخرون؛ لأنهم أخذوا بأسباب الدنيا، وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضاً بهذه الأسباب؛ لأنها من عطاء الربوبية الذي لا يُحرم منه لا مؤمن ولا كافر، فَمنْ أحسنه نال ثمرته وأخذ خيره.
قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] والأسباب يد الله الممدودة لخَلْقه، فَمنْ ردَّ يد الله إليه فلا بُدَّ أن يشْقى في رحلة الحياة.
وقد يكون تنعُّم هؤلاء مجرد ترف يجرُّهم إلى الطغيان، كما جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
لذلك فالحق - تبارك وتعالى - يعالج هنا هذه المسألة:(16/10061)
{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات. .} [المؤمنون: 55 - 56] أيظنون أن هذا خير لهم؟ لا، بل هو إمهال واستدراج ليزدادوا طغياناً.
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا} [التوبة: 85] .
وقوله تعالى: {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] (بل) : تفيد الإضراب عما قبلها وإثبات ما بعدها، إضراب عن مسألة تنعُّم هؤلاء؛ لأنها نعمة موقوته وزائلة، وهي في الحقيقة عليهم نقمة، لأنهم لا يشعرون، لا يشعرون أن هذه النعمة لا تعني محبتهم ورضانا عنهم، ولا يشعرون بالمكيدة وبالفخ الذي يُدبَّر لهم.
وسبق أن أوضحنا أن الله تعالى حين يريد الانتقام من عدوه يُمدّه أولاً، ويُوسِّع عليه ويُعلي مكانته، حتى إذا أخذه كان أَخْذه مؤلماً وشديداً.
وقوله تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات. .} [المؤمنون: 56] المسارعة ترد في كتاب الله على مَعَانٍ: مرة يتعدَّى الفعل بإلى، مثل: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ. .} [آل عمران: 133] ومرة يتعدى بفي، مثل: {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات. .} [المؤمنون: 61] فما الفرق بين المعنيين؟
سارع إلى كذا: إذا كنتَ خارجاً عنه، وتريد أن تخطو إليه خُطّىً عاجلة، لكن إنْ كنتَ في الخير أصلاً وتريد أنْ ترتقي فيه تقول: سارع في الخيرات. فالأولى يخاطب بها مَنْ لم يدخل في حيِّز الخير، والأخرى لمنْ كان مظروفاً في الخير، ويريد الارتقاء.(16/10062)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
الخشية: هي أشد الخوف، والإنسان قد يخاف من شيء، لكن يبقى عنده أمل في النجاة، ويتوقّع من الأسباب ما ينقذه ويُؤمِّن خوفه، لكن حين تخاف من الله فهو خوف لا منفذَ للأمل فيه، ولا تهبُّ فيه هَبّة تُشعرك بلطف.
ومعنى {مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57] الإشفاق أيضاً الخوف، وهو خوف يُمدَح ولا يُذم؛ لأنه خوف يحمل صاحبه ويحثّه على تجنُّب أسباب الخشية بالعمل الصالح، إنه إشفاق من الذنب الذي يستوجب العقوبة، كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفاً من الرسوب، وهكذا حال المؤمن يخاف هذا الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة، وهذا دليل الإيمان.
أمّا الإشفاق بعد فوات الأوان، والذي حكاه القرآن عن المجرمين: {وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا. .} [الكهف: 49] فهذا إشفاق لا فائدة منه؛ لأنه جاء بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل، فقد قامت القيامة ونُشِرت الكتب ولا أملَ في النجاة إذن.
ثم يقول الحق سبحانه: {والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ والذين هُم بِرَبِّهِمْ. .} .(16/10063)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
نلحظ في هذه الآيات أن الحق سبحانه حدثنا عن الإشفاق والخشية، ثم عن الإيمان بآيات الله، ثم في النهاية عن مسألة الشرك. وقد تسأل: لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك؟(16/10063)
نقول: لأن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن، والذي قال الله فيه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] فلا تظن أن الشرك فقط أن تجعل لله شريكاً، أو أن تسجد لصنم، فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان صاحبه مؤمناً.
لذلك، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُعلِّمنا الأدب في هذه المسألة، فيقول في دعائه: «اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك» .
فالإنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية لله، ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين الشيطان؛ لذلك وصف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.
كما أن الشرك الأكبر لا يتصور مِمَّن هذه الصفات المتقدمة صفاته.(16/10064)
ثم يقول الحق سبحانه: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. .} .(16/10065)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{يُؤْتُونَ. .} [المؤمنون: 60] يعني المال، وقال بعدها: {مَآ آتَواْ. .} [المؤمنون: 60] حتى لا يجعل لها حداً، لا العُشْر ولا نصف العُشر، يريد سبحانه أن يفسح لأريحية العطاء وسخاء النفس، لذلك جاءت {مَآ آتَواْ. .} [المؤمنون: 60] هكذا مُبْهمة حتى لا نظن أنها الزكاة، ونعرف أن الله تعالى يفتح المجال للإحسانية والتفضُّل، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله تعالى عنه: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15 - 16] .
والمحسن: الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه الله، لكن من جنس ما فرض الله عليه، فإن كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في الأداء القرآني، حيث يقول بعدها: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18] .(16/10065)
وهذه أمور فوق ما فرض الله عليهم، ولم يطلب منك أن تقوم الليل لا تنام، لكن صَلِّ العشاء ونَمْ حتى الفجر، وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذرايات: 19] ولم يقل (معلوم) لأن الآية لا تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة، إنما عن الصدقة والتطوع فوق ما فرض الله.
والإبهام في {مَآ. .} [المؤمنون: 60] جاء أيضاً في قول الله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم، وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ، ولتذهب الظنون في هَوْلها كل مذهب.
لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدُّوا أيديهم للآخرين بالعطاء، فلماذا يقول تعالى: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. .} [المؤمنون: 60] .
نقول: لأن العبرة ليست بمجرد العمل، إنما العبرة بقبول العمل، والعمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة، فهم إذن يعملون ويتحرَّوْن الإخلاص وأسباب القبول ويتصدّق أحدهم بالصدقة، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه، ومع ذلك يخاف عدم القبول، وهذه أيضاً من علامات الإيمان.
وكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ يَغَار عليك أنْ تعمل عملاً لا تأخذ عليه أجراً؛ لأنك إنْ رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء، فهذا إذن جَهْد مُهْدر لا فائدة منه، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك.
وفي الحديث القدسي: «الإخلاص سِرٌّ من أسراري أودعته(16/10066)
قلب مَنْ أحببت من عبادي، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده» .
والوجل: انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية، والخوف شيء يخيفك أنت، أما الخشية فهي أعلى من الخوف، وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه.
ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الآية {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ.
.} [المؤمنون: 60] جاءت في الرجل الذي يسرق، والذي يزني، والذي يشرب الخمر، لكن قلبه وَجلٌ من لقاء الله وخشيته، فما يزال فيه بقية من بقايا الإيمان والحياء من الله تعالى. وقالوا: إن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها فهمت هذا من الآية.
لكن هذا الفهم لا يستقيم مع قوله تعالى {يُؤْتُونَ. .} [المؤمنون: 60] أي: يؤتون غيرهم، فهناك إذن مُؤتٍ ومُؤْتىً له، ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال: يَأْتُون.
فالمراد: يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى كالزكاة والكفارات والنذور والحدود، أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والأمانات والعدالة في الحكم بينهم. . الخ فيؤدي المؤمن ما عليه من هذه الحقوق، وقلبه وَجِلٌ أَلاَّ يصاحب الإخلاص عمله فلا يقبل.(16/10067)
ثم يقول تعالى: {أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] فالمؤمن يؤدي ما عليه، ومع ذلك تراه خائفاً وَجِلاً؛ لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه، وهو ربه الذي يُجازيه على قّدْر إخلاصه، ويخاف أيضاً أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكاً في العمل، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر.
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين، لكن في طيها شيء من الرياء، وإنْ لم يَدْرِ الإنسان به، ومن ذلك قولهم: أفعل هذا لله ثم لك، أو: توكلت على الله وعليك. . الخ، فهذه العبارات وأمثالها تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزِّه الله منها، فلا نعطف على الله تعالى أحداً حتى لا نشركه مع الله، ولو عن غيرقصد.
لذلك يقول تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ويوم القيامة يطمئن أهل الإخلاص إلى الجزاء، ويُفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود الله تعالى، ولم يكن على بالهم حين عملوا: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ. .} [النور: 39] إذن: ما دُمْنَا سنفاجأ بوجود الحق، ولا شيء غير الحق، فليكُنْ عملنا للحق، ولا شيء لغير الحق.
{أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات. .} .(16/10068)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{أولئك. .} [المؤمنون: 61] أي: أصحاب الصفات المتقدمة {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات. .} [المؤمنون: 61] وفرْق بين أسرع وسارع: أسرع يُسرع يعني: بذاته، إنما سارع يسارع أي: يرى غيره(16/10068)
يسرع، فيحاول أنْ يتفوق عليه، ففيه مبالغة وحافز على المنافسة.
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في، فمعنى {يُسَارِعُونَ فِي الخيرات. .} [المؤمنون: 61] أنهم كانوا في حيِّز الخيرات ومظروفين فيه، لكن يحاولون الارتقاء والازدياد من الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] هل المسارعة هي عِلَّة أنهم سبقوا إلى الخيرات، أم أنْ سَبْقهم إلى الخيرات عِلّة المسارعة؟
في اللغة يقولون: سبب ومُسبب، وشرط وجزاء، وعلة ومعلول. فحين تقول: إنْ تذاكر تنجح، فالمذاكرة سبب النجاح، لكن هل سبقت المذاكرةُ النجاح؟ لا، بل وُجد النجاح أولاً في بالك، واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس، وبذلك وجد عندك دافع وخاطر، ثم أردت أنْ تحققه واقعاً، فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف.
إذن: فكل شرط وجواب: الجواب سبب في الشرط، والشرط سبب في الجواب، الجواب سبب في الشرط دافعاً له، والشرط سبب في الجواب واقعاً وتنفيذاً، فالنجاح وُجد دافعاً على المذاكرة، والمذاكرة جاءت واقعاً ليتحقق النجاح.
وكذلك في {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] فالمعنى: القصد أنْ يسبق فسارع، سارع في الواقع ليسبق بالفعل، لكن السبْق قبل المسارعة؛ لأن الذهن متهيء له أولاً وحقائقه واضحة.(16/10069)
إذن: الشرط والجزاء، والسبب والمسبب، والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب، وواقع هو الشرط.
ومعنى: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] يعني: هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه، كما لو طلبتُ منك شيئاً فتقول لي: هذا شيء صعب فأقول لك: وأنت لها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق. .} .(16/10070)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيَّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة، وأنه سبحانه ما كلّفك إلا بعد عِلْمه بقدرتك، وأنك تسع هذا التكليف، فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول: أنا أسعه أو لا أسعه، لكن أنظر إلى التكليف: ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك، وحين يعلم منك ربك عدم القدرة يُخفِّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك. والأمثلة على تخفيف التكاليف واضحة في الصلاة والصوم والحج. . الخ.
والآن نسمع مَنْ يقول: لم تَعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف، فالزمن تغيّر، والأعمال والمسئوليات كثرت، إلى غير ذلك من هذه الأقوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع الله. ونقول ما دام التكليف باقياً فالوُسْع بَاقٍ، والحق - سبحانه وتعالى - أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم.
إذن: أنا أنظر أولاً إلى التكليف، ثم أحكم على الوُسْع من التكليف، ولا أحكم على التكليف من الوُسْع.(16/10070)
ثم يقول سبحانه: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] المراد هنا كتاب أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته الأيدي، لكن: ما الحكمة من تسجيل الأعمال؟ وهل يُكذِّب العباد ربهم عَزَّ وَجَلَّ فيما سُجِّل عليهم؟
قالوا: الحكمة من تسجيل الأعمال أن تكون حجة على صاحبها، وليعلم أن الله ما ظلمه شيئاً؛ لذلك سيقول له ربه: {اقرأ كتابك. .} [الإسراء: 14] يعني: بنفسك حتى تُقام عليك الحجة، ولا يكون عندك اعتراض.
ثم قال بعدها: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [المؤمنون: 62] لأن الظلم لا يُتصوّر من الحق - سبحانه وتعالى - فالظلم نتيجة الحاجة، وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة عَمَّا عندك، فالظلم إذن نتيجة الحاجة، والحق سبحانه هو المعطي، وهو الغني الذي لا حاجةَ له إلى أحد، فلماذا يظلم؟
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره ليسُدّ حاجته أو شهوته، ولو كان قوياً لكفى نفسه بمجهوده.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ. .} .(16/10071)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{بَلْ. .} [المؤمنون: 63] حرف يدل على الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات الحكم للكلام بعدها. والغَمْرة كما قلنا: هي جملة الماء الذي يعلو قامة الإنسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه الهواء، وهو أول مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة.
فالإنسان يصبر على الطعام شهراً، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام لعشرة، إنما لا يصبر على النَّفَس إلا بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء، فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لأكبر كمية من الهواء، وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول، أما إن كانت الرئة مُعتَلّة، فإنها لا تتسع لكمية كبيرة، وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت الإنسان.
ومن التنفس جاءت المنافسة، كما في قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون} [المطففين: 26] ثم استُعمِلَتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لأن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة.
لذلك الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - حينما خلق هذه البِنْية الإنسانية جعل لها نظاماً فريداً في وقودها وغذائها على خلاف صَنْعة البشر، فلو منعتَ البنزين مثلاً عن السيارة توقفتْ، أمّا صنعة الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء، ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة، وقد علم الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب، وأخذْك منهما فوق حاجتك، فإنْ غاب عنك الطعام تغذَّى جسمك من هذا المخزن الرباني.
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول: نفس انصدت عن الأكل، والحقيقة أنه أكل فعلاً، وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه.(16/10072)
ومن حكمة الله أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم، الذي يتحول تلقائياً إلى أيِّ عنصر آخر يحتاجه الجسم، فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلات، ثم على العظام، وهي آخر مخزن للقوت في جسم الإنسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] .
أما الهواء فليس له مخزن إلا بقدْر ما تتسع له الرئة، فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فلا حيلة فيه، ومن رحمة الله بعباده ألاّ يُملِّك الهواء لأحد، فقد يملك الطعام وربما يملك الماء، أمّا الهواء الذي يحتاجه في كل نفَس، فقد جعله الله مِلْكاً للجميع، حتى لا يمنعه أحد عن أحد؛ لأنك لا تستطيع أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب، ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أنْ يرضى عنك.
ونلحظ هنا أن الغمرة لا تحتويهم هم، إنما تحتوي القلوب: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ. .} [المؤمنون: 63] وهذه بلوى أعظم؛ لأن القلب محلٌّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل، ويُميِّز بينها ويختار منها ويُرجّح، ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى هَدْيها تسير في حركة الحياة.
لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلاء أعظم؛ لأنه مُسْتودع العقائد والمبادئ التي تُنير لك الطريق.
والقلب هو محلُّ نظر الله إلى عباده، لذلك يقول سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا. .} [الأعراف: 179] .
وقال سبحانه: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ. .} [البقرة: 7] لأنهم أحبوا(16/10073)
الكفر واطمأنوا إليه، ولأنه سبحانه ربٌّ متولٍّ ربوبية الخلق، يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفراً؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر؛ لأنهم عشقوا الكفر وأحبّوه.
لذلك نقول لأهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه، ويبالغون بإقامة المآتم والسرادقات، ويقيمون ذكرى الخميس والأربعين وغيرها، وربما كان الابن عاقاً لوالديه في حياتهما، فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس، وهو كما قال الشاعر:
لاَ أَعْرِفنَّك بعْد الموتِ تَنْدِبني ... وفِي حََيَاتي مَا بَلَّغْتَني زَادَا
أو الأم التي فقدت وحيدها مثلاً، فتعيش حزينة مُكدّرة، وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته، نحذر هؤلاء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير الرضا والتسليم، فالحزن إنْ رأى بابه مُوارباً دخل وظَلّ معك ولازمك.
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه لا يرفع بلاءً عن عبده حتى يرضى به، ولنا القدوة في هذه المسألة بأبينا إبراهيم - عليه السلام - حين ابتلاه ربه بذبح ولده في رؤيا رآها، واعتبرها هو تكليفاً، ورضي بقدر الله وسلم لأمره، ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى لا يحرمه هذا الأجر ولا يأخذه على غِرّة، فيتغير قلبه عليه: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103 - 107] .(16/10074)
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء الله رفع عنهما البلاء، وجاءهما الفداء من الله لإسماعيل، بل وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، أجيال متعاقبة جاءتْ فضلاً من الله وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره، وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف:
سَلِّمْ لربك حُكْمه فَلحكْمةٍ ... يَقْضِيِه حتّى تسْتريح وتَغْنَما
واذكُرْ خليلَ اللهِ في ذَبْح ابنهِ ... إذْ قالَ خالقُه فَلمّا أسْلَما
إذن: إذا كانت القلوب نفسها في غمرة، فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ، وينشأ عن خرابه خراب حركة الحياة وانحراف السلوك. وقد أخذ القلب هذه الأهمية؛ لأنه معمل الدم، ومصدر سائل الحياة، فإنْ فسدَ لا بُدَّ أنْ ينضح على باقي الجوارح، فتفسد هي الأخرى، ولو كان القلب صالحاً فلا بُدّ أنْ ينضحَ صلاحه على الجوارح كلها فتصلح، كما جاء في الحديث الشريف: «ألا إن في الجسد مُضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
ثم يقول سبحانه: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] يعني الأمر لا يتوقف بهم عند مسألة العقائد، إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها، فالحق سبحانه لا يذكر لهم إلا قمم المخالفات ونماذج منها، إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا ويفعلون كذا، وإنْ كانوا هم أنفسهم لا يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم - عَزَّ وَجَلَّ - يعلم بطلاقة القدرة ما كان وما سيكون.(16/10075)
ومن عجائب قدرة الله أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا، ومع ذلك لم يعاند أحد الكفار، فيقول: إن الله حكم عليَّ بكذا، ولكني لن أفعل فيكون حكم الله عليه غير صحيح؛ لأن الحق سبحانه لا يتحكم فيما يجريه علينا فحسب، وإنما في اختيار العبد ومراده، مع أن العبد حُرٌّ في أن يفعل أو لا يفعل.
وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً. .} [المسد: 1 - 3] تفيد المستقبل، فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه سيكون في النار، وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين، ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك لا يؤمن ويموت كافراً؟
ثم ألم يَكُنْ بإمكان هذا (المغفل) أن يقف على ملأ ويقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ويدخل في الإسلام، فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلام الله وحكمه القديم لا يُردّ ولا يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الاختيار، هذا من طلاقة قدرة الله في فِعْله وعلى خَلْقه في أفعالهم.
فالمعنى: {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63] حكم لا يُرد ولا يُكذَّب، حتى وإنْ أخبر به صاحبه؛ لأن علم الله تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون، وكأن الحق سبحانه يقول: إن طلاقة القدرة ليست فيما أفعله فحسب، إنما يفعله غيري مِمَّنْ أعطيتُه حرية الاختيار.(16/10076)
ثم يقول الحق سبحانه: {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب. .} .(16/10077)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
يعني: بعد أن أشركوا بالله وكفروا به، وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسَّهم شيء من العذاب يجأرون ويصرخون، ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب الله؟
ومعنى {أَخَذْنَا. .} [المؤمنون: 64] كلمة الأخذ لها مجال واسع في كتاب الله، والأَخْذ: هو الاستيلاء بعنف على شيء هو لا يحبّ أنْ تستولي عليه، والأَخْذ يُوحي بالعنف والشدة، بحيث لا يستطيع المأخوذ الإفلات مهما حاول.
ومن ذلك قوله تعالى: {أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] يعني: أخذاً شديداً يتململ منه فلا يستطيع الفكاك.
وقوله: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة. .} [هود: 67] .
ويقول: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
ومعنى: {مُتْرَفِيهِمْ. .} [المؤمنون: 64] من الترف وهو التنعُّم؛ لأن الحياة تقوم على ضروريات تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفِّهها وتُثريها، فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات، يقال: ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح، وأترفته النعمة إذا أطغته، وأترفه الله يعني: وسّع عليه النعمة وزاده منها. وعلى قدر الإتراف يكون الأخذ أبلغَ والألم أشدَّ.
وسبق أن ذكرنا قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ. .} [الأنعام: 44] يعني: من منهج الله، لم نُضيِّق عليهم إنما: {فَتَحْنَا(16/10077)
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ. .} [الأنعام: 44 - 45] .
فهنا تكون النكاية أشدّ، والحسرة أعظم.
والكلام هنا عن كفار قريش، فكيف أخذهم الله وهم في ترف من العيش، حيث تصبُّ عندهم كل خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم؟
أخذهم الله حال ترفهم بالقَحْط والسنين؛ لذلك لما رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُترفوا بالنعمة وطغَوْا بها قال: «اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» .
واستجاب الله تعالى دعاء نبيه، فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و (العِلْهز) وهو شعر الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ جَفَّ وتجمد تحت حرارة الشمس، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب. .} [المؤمنون: 64] .
وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ. .} [المؤمنون: 64] .
يصرخون ويضجّون، فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلات يقول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين؟ إذن:(16/10078)
فادْعُ الله أنْ يُفرِّج عنا، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربه حتى فرج عنهم.
أو: يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر، حيث أذلَّهم الله، فقتل منهم مَنْ قتل، وأسر مَنْ أسر، وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم، وقد كانوا يُعذِّبون المؤمنين ويقتلونهم، ويقيمونهم في حَرِّ الشمس ويضعون الأحجار الكبيرة فوق بطونهم، حتى أنزل الله تعالى في هذه الحالة القاسية التي يعانيها المؤمنون: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر}
[القمر: 45] .
فيستقبلون الآية بتعجُّب: حتى يقول عمر: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، فليس هناك أيّ بادرة لنصر المؤمنين، فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه: صدق الله، سيُهزم الجمع وقد هُزِم.
وقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64] يجأر: يصرخ بصوت عالٍ، والإنسان لا يصرخ إلا إذا كان في محنة لا تقدر أسبابه على دفعها، فيصرخ طلباً لمن ينجده، ويرفع صوته ليُسمِع كل مَنْ حوله، كما يقولون (يجعر) .
والجؤار مثل الخوار يعني: يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالاً وسادة وطغاة، فلماذا لم تظلّوا سادة، لماذا تصرخون الآن؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا، وأن يتجلّدوا حتى لا يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا، كما يقول الشاعر:(16/10079)
وتجلُّدِي للِشَّامِتينَ أُرِيهُمو ... أَنِّي لريْبِ الدهْرِ لا أتضعْضَعُ
لكن، هيهات فقد حاق بهم العذاب، ولن يخدعوا أنفسهم الآن، فليس أمامهم إلا الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك.
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} .(16/10080)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
يرد عليهم الحق سبحانه: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم. .} [المؤمنون: 65] لأن مَنْ يجأر ينادي مَنْ ينصره وأنتم لن تُنصروا {إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} [المؤمنون: 65] لا تُنصرون من جهتنا؛ لأني أنصر أوليائي، وأنصر رسلي، وأنصر مَنْ ينصرني، فاقطعوا الظن في نصري لكم؛ لأنني أنا الذي أنزلتُ بكم ما جعلكم تجأرون بسببه، فكيف أزيله عنكم؟
وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه، وشجّع بعضهم بعضاً على التجرّؤ على القرآن وعلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويُصفِّقون لمن يخوض في حقهما: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 22 - 26] .(16/10080)
إذن: لا تجأروا لأنكم لن تُنصروا مِنّا، وكيف ننصركم بجؤاركم هذا، وقد انصرفتم عن آياتي؟(16/10081)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
كيف تستغيثون بالله وتجأرون إليه وأنتم تُلْقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود الله بالآيات الكونية، وتثبت لكم صِدْق الرسول بالمعجزات، وتحمل لكم منهج الله في الآيات حاملة الأحكام، ولكنكم عميتم عن ذلك كله.
ومعنى {فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون: 66] العقب: مؤخرة القدم، فبدل أن يمشي إلى الأمام كما خلقه الله وجعل له كشافات يُبصر بها الطريق، ويهتدي إلى موضع قدميْه، إذا به يمشي للخلف على عَقبه، وكأنهم أُخِذوا أَخْذاً غَيَّر عندهم دولاب السير، لماذا؟ لأنهم عَمُوا عن أسباب الهداية، فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى، كمَنْ يسير بظهره لا يعرف مواقع قدميْه، وهكذا فعلوا هم بأنفسهم.
وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات (مارشادير) ، ويحتاج فيه الإنسان لمن يُوجِّهه ويرشد حركته يميناً أو شمالاً؛ لأنه لا يرى.
فالمعنى: لا تَلُمْ إلا نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية، فبعد أنْ جاءتك وأصبحت بين يديك أغمضتَ عنها عينيك.
وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان: {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ. .} [الأنفال: 48] .(16/10081)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
مادة: كبر تأتي بكسر الباء للدلالة على العمر تقول: كَبِر فلان. يعني: كان صغيراً ثم كبر، وبضم الباء للشيء المعنوي وللقيم، كما في قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ. .} [الكهف: 5] يعني: عظمت.
ومعنى الاستكبار افتعال الكِبر وطلبه، مثل: استفهم يعني: طلب الفَهْم، في حين هو ليس كبيراً في ذاته، فهو محتاج إلى غيره. فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوِّمات الحياة وضرورياتها وترفها، لا يستمدها من أحد.
لكن الإنسان ضروريات حياته، وأسباب ترفه موهوبة له من غيره، فلا يصح له أنْ يتكبّر، فمَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان ... الخ، وهذه كلها أمور موهوبة لك، فالصحيح قد يصبح سقيماً، والغني قد يصبح فقيراً.
لذلك، فالكبرياء لله تعالى وحده؛ لأنه الواهب للغير، والمتفضِّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا به، ومن صفات جلاله وكماله سبحانه (المتكبر) ؛ لأنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين، ومن مصلحة الخلق أن يكون المتكبر هو الله وحده، حتى لا يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم.
وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه، فإنْ تكبّر عليك ربك، وأجري عليك قدراً؛ لأنك فعلت شيئاً وأنت واحد، فاعلم أنه يتكبر على الآخرين جميعاً وهم كثيرون، إنْ فعلوا بك هذا الشيء، إذن: فصفة الكبرياء لله عَزَّ وَجَلَّ في صالحك.
ومثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى: من مصلحة الأسرة ألاّ يكون لها إلا كبير واحد يُرجَع إليه، ومن أقوال العامة (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لأنه الميزان الذي تستقيم به الأمور ويُسيِّر دفّة الحياة.(16/10082)
وقلنا: إن من أسمائه تعالى (الكبير) ولا نقول: الأكبر مع أنها صيغة مبالغة، لماذا؟ لأن أكبر صيغة مبالغة عندنا نحن البشر، نقول: هذا كبير وذاك أكبر، وهذا قويٌّ وذاك أقوَى، ولا يقال هذا في صفته تعالى لأنك لو قُلْت: الله أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره، فهو سبحانه أكبر وغيره كبير، لذلك لا تُقال: الله أكبر إلا في النداء للصلاة.
إذن: المستكبر: الذي يطلب مؤهلات كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلات، والإنسان لا ينبغي له أن يتكبر إلا إذا ملك ذاتيات كبره، والمخلوق لا يملك شيئاً من ذلك.
ومعنى {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ. .} [المؤمنون: 67] الهاء في (به) ضمير مُبْهم، يُعرَّف بمرجعه، كما تقول: جاءني رجل فأكرمته، فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل. وفي الآية لم يتقدم اسم يعود عليه الضمير، لكن الكلام هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم، والقرآن الذي أُنزل عليهم معجزة ومنهاجاً، إذن: لا يعود الضمير إلا إلى واحد منهما.
أو: أن الضمير في (به) يعود إلى بيت الله الحرام، وقد كان سبباً لمكانة قريش ومنزلتهم بين العرب، وأعطاهم وَضْعاً من السيادة والشرف، فكانوا يسيرون في رحلات التجارة إلى اليمن وإلى الشام دون أن يتعرض لهم أحد، في وقت انتشر فيه بين القبائل السَّلْب والنهب والغارة وقطع الطريق.
وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لولا بيت الله الحرام الذي يحجُّه العرب كل عام، وخدمته وسدانته في أيدي قريش؛ لذلك استكبروا به على الأمة كلها، ليس هذا فقط، إنما تجرأوا أيضاً على البيت.(16/10083)
ويقول تعالى بعدها: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] السامر: الجماعة يسْمُرون ليلاً، وكانوا يجتمعون حول بيت الله ليلاً يتحدثون في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يشتمونه ويخوضون في حقه، وفي حق القرآن الذي نزل عليه.
وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر، والهُجْر هو فُحْش الكلام في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي القرآن.
فأمر هؤلاء عجيب: كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت الله الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟ كيف يخوضون في رسول الله الذي جاء ليطهر هذا البيت من الأصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب مع الله، ومع رسوله، ومع القرآن، يصدق فيه قول الشاعر:
أُعلِّمهُ الرمايةَ كُلَّ يوْمٍ ... فَلَمّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي
وكَمْ علِّمتُه نَظْمَ القَوافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِية هَجَانِي
لقد استكبر هؤلاء على الأمة كلها بالبيت، ومع ذلك ما حفظوا حُرْمته، وجعلوه مكاناً للسَّمَر وللهُجْر وللسَّفَه وللطيْش، ولكل مَا لا يليق به، فالقرآن عندهم أساطير الأولين، ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون. . وهكذا.
والحق - سبحانه وتعالى - يُنبِّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضُّل، فحينما جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق، وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة، ولم يكن لكم طاقة لردِّه ولا قدرةَ على حماية البيت، فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم(16/10084)
وسيادتكم بين القبائل، ولتجرأوا عليكم كما تجرأوا على غيركم، لكن حمى الله بيته، ودافع عن حرماته، حتى إن الفيل نفسه وعى هذا الدرس، ووقف مكانه لا يتحرك نحو البيت خاصة، ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير.
ويُرْوَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه: ابْرك محمود وارجع راشداً - يعني: انفد بجلدك؛ لأنك في بلد الله الحرام، وكما قال الشاعر:
حُبِسَ الفِيلُ بالمغَمَّس حَتَّى ... صَارَ يحبُو كَأنَّهُ مَعْقُورُ
وهكذا ردّهم الله مقهورين مدحورين، وحفظ لكم البيت، وأبقى لكم السيادة.
لذلك لاحظ الانتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5] يعني: مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح.(16/10085)
ثم يقول في أول قريش: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] يعني ما حَلَّ بأصحاب الفيل، فاللام في (لإِيلاَف) لام التعليل، يعني: حَلَّ ما حَلَّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء والصيف {إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف. .} [قريش: 2] وما دام أن الله تعالى قد حماكم وحمى لكم البيت، وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده لا شريك له {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] .
ثم يقول الحق سبحانه: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ. .} .(16/10086)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
في هذه الآية والآيات بعدها يريد - سبحانه وتعالى - أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد الآخر.
أولها: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول. .} [المؤمنون: 68] فالاستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع: ماذا جرى لهؤلاء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن، وهم أمة الفصاحة والبلاغة والبيان، وأمة القول بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلَّقوه على الجدار؟
لذلك لا يُعقل ألاَّ تفهموا القرآن، وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلاغة والفصاحة، لا بُدَّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه، بدليل قولكم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
وهكذا الكذاب يسرقه طبعه، وينمّ منطقه عما في ضميره،(16/10086)
فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على محمد؛ لأنه فقير من أوسط القوم، فالمسألة - إذن - منازعة سيادة وسلطة زمنية، لكن ألم يَدْرِ هؤلاء أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما جاء ليسلبهم سلطتهم، أو يعلو هو عليهم، إنما جاء ليحكمهم بمنهج الله، ويتحمل هو الأذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟
لقد جاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليأخذ الحكم ويحمل منهج الله تكليفاً لا تشريفاً، بدليل أنه عاش في مستوى أقلّ منكم، فلا ترى رسول الله إلا أقلهم طعاماً وأقلهم شراباً، أقلهم لباساً وأثاثاً، حتى أقاربه كانوا فقراء، ومع ذلك حرَّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء، كذلك يرث الناس وهم لا يرثون.
وبعد ذلك كله تقولون: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يبدو أنكم ألِفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة، ألِفتم العبودية لغير الله، وعَزَّ عليكم أن يحرركم الله من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم، جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق إلى العبودية للخالق عَزَّ وَجَلَّ.
ألم يقُلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن: «والله إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعْلى عليه» .
إذن: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول. .} [المؤمنون: 68] توبيخ، لأنهم فهموا القرآن، لكن حسدوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل عليه، وأن ينال دونهم هذه(16/10087)
المكانة، كما قال سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ. .} [النساء: 54] .
الأمر الثاني: {أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين} [المؤمنون: 68] يعني: جاءهم أمر غريب لا عهدَ لهم به، وهو أن يأتي رسول من عند الله، وهذه المسألة معروفة لهم، فمنهم إبراهيم عليه السلام، ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما، إذن: ليست مسألة عجيبة، بل يعرفونها جيداً، لكن ما منعهم في الأولى منعهم في هذه، إنه الحسد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لذلك يقول تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله. .}
[الزخرف: 87] .
الأمر الثالث: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون: 69] .
يعني: أنزَلَ عليهم رسولٌ من السماء لا يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث؟ إنهم يعرفونه جيداً، وقبل بعثته سَمَّوْه «الصادق الأمين» وارتضَوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر الأسود، وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم، ولم يجربوا عليه كذباً أوخيانة أو سَقْطة من سقطات الجاهلية.
وقد شرحت هذه المسألة في قول الله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ. .} [التوبة: 128] يعني: من جنسكم، ومن نوعكم، ومن قبيلتكم، ليس غريباً عنكم وهو معروف لكم: سلوكه وسيرته وخُلقه، وإذا لم تُجرِّبوا عليه الكذب مع الخَلْق، أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق؟
وهل رسول الله في أول بعثته لَمَّا أخبر الناس أنه رسول الله جاء(16/10088)
القرآن ليحمل الناس على الإيمان به؟ لا، إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن، أما مَنْ آمن بداية، بمجرد أنْ قال محمد: أنا رسول الله قال: صدقت، وأنه لم يكذب أبداً؛ لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول الله، فإنْ قال فالمسألة منتهية لأنه صادق لا يشكّ أحد منهم في صِدْقه.
لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قال أبو بكر في مسالة الإسراء والمعراج: إنْ كان قال فقد صدق، يحملها رسول الله تقديراً لأبي بكر ويقول: «كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسَىْ رهان» يعني: في الخُلُق الطيب والسلوك السَّويِّ «فسبقتُه للنبوة فاتبعني، ولو سبقني هو لاتبعتُه» .
«ولما نزل جبريل - عليه السلام - على سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الوحي فأجهده، فذهب إلى السيدة خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها عَمَّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند الله، ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل، وكان على علم بالكتب السابقة، فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال: إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى وليتني أكون حياً إذ يُخرجك قومك، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَوَمُخرجِيّ هم؟ «قال:» ما جاء أحد بمثل(16/10089)
ما جئت به إلا عُودِي، وإنْ يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً «.
ومع ذلك يظل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خائفاً قلقاً أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان، فتُطمئِنه السيدة خديجة، فهذا لا يعقل مع رسول الله، لذلك تقول له:» إنك لتصلُ الرحم، وتُكسِب المعدوم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر، والله لن يخذلك الله أبداً «.
ومن هنا أعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في الإسلام؛ لأنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات رسول الله قبل البعثة دليلاً على صِدْقه بعد البعثة؛ لذلك كانت أول مَنْ سُمِّيت بأم المؤمنين، حتى قال بعض العارفين: خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه في هذه السِّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلِّله، وقد قامت خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فعلاً بدور الأم لرسول الله فاحتضنته، وطمأنته ووقفت إلى جواره في أشدِّ الأوقات وأحرجها.
كما نلحظ في الآية: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ. .} [المؤمنون: 69] فأضاف الرسول إليهم يعني: رسول لهم، أما في الإضافة إلى الله تعالى: رسول الله، فالمعنى رسول منه، وهكذا يختلف المعنى باختلاف الإضافة.(16/10090)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
والمسألة الرابعة في توبيخ الله لهم: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ. .} [المؤمنون: 70] يعني: جنون، والجنون أنْ تتعطل الآلة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر، فتفعل الخير النافع، وتترك الشر الضارّ. ولننظر: أيّ خصلة من خصال الجنون في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ودَعْكَ من قضية الدين والإله إنما خُذْ خُلقه، والخلُق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه، حتى وإنْ كانوا ضد صفته، فالكذاب يحب الصادق، ويعترف أن الصدق شرف وكرامة، والبخيل يحب الكريم، والغضوب يحب الحليم، أَلاَ ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس، لكن لا يحب مَنْ يكذب عليه؟
أَلاَ ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته، ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره، حتى إن أهل الحكمة ليقولون: إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته، وتدوس قدمك على كرامته، ومَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإنْ أعنْتَه على أمره.
إذن: فالأخلاق مقاييسها واحدة، فقيسوا محمداً بأخلاقه، لا بالدين والرسالة التي جاء بها، انظروا إلى خُلقه فيكم، ولن يستطيع واحد منكم أنْ يتهمه في خُلقه بشيء، وما دام لا يُتَّهم في خُلقه فلا يُتهم كذلك في عقله؛ لأن العقل هو ميزان الخُلق وأساسه.
لذلك يقول ربه - عَزَّ وَجَلَّ - في حقِّه: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ(16/10091)
لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 1 - 4] فخلُقك العظيم أكبر دليل على أنك لستَ مجنوناً.
إذن: محمد بريء من هذه التهمة، والمسألة كلها كما قال تعالى: {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق. .} [المؤمنون: 70] فهذا عيبه في نظرهم؛ لأن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه، والبعض يرى الحق في الخير الذي يأتيه، فإنْ كان في شيء لا ينتفع منه فهو شَرٌّ؛ لذلك إنْ أردتَ أنْ تحكم على خَصْلة فاحكم عليها وهي عليك، لا وهي لك، فمثلاً أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب عليك، إذن: فخُذْ المسائل على أنها لك وعليك.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما قيّد حركتك في النظر إلى محارم الآخرين، لا تتبرم ولا تقُلْ: منعني متعة النظر. . الخ، لكن انظر إلى أنه قيّد عينيك وأنت واحد، وقيَّد عيون الآخرين عن محارمك وهم كثيرون.
ويقول تعالى بعدها: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] وطبيعي أن يكره أهل الباطل الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم، يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان، ويُقوِّم المعْوج في حركة الحياة، وكراهية أهل الباطل لرسول الله كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له لا تكذيب به، ينبغي أن نقول: طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فلا بُدَّ أنه الحق وإلاّ ما كرهوه.(16/10092)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
إذن: فالمسائل لا تسير على هَوَى المخلوق، إنما على مرادات الخالق؛ لأن الخالق سبحانه هو صانع هذا الكون، وكلُّ صانع يغَارُ على صَنْعته، وهذا مُشَاهد حتى في صنعة البشر، ولك أنْ تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صانعٍ ما صنعَه.
وعدالة الأشياء أن تسير على وَفْق مرادات الصانع، لا هوى المصنوع؛ لأن الأهواء تملكها الأغيار، فالإنسان لو سار في حركة حياته على وَفْق هواه لأخذ مَا ليس له، ولَقبل الرشوة، ومال إلى الفِسْق والانحراف؛ لأنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ولا ينظر العاقبة والمحصلة النهائية، لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته، ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد.
لذلك يقول الحق سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ. .} [المؤمنون: 71] ولك أن تقول: نعم، اتباع الأهواء يُفسِد الأرض، ويُفسِد حركة الحياة فيها، لكن كيف يُفسِد السماء؟ وهل لأحد قدرة عليها؟
ونقول: ألم يكُنْ من أمنيات هؤلاء: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً. .} [الإسراء: 90 - 92] .(16/10093)
إذن: من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء، ولو حتى على رؤوسهم، وأي فساد بعد هذا، وهكذا لو اتبعتَ أهواءهم لفسدَتْ السموات والأرض، ليس هذا وفقط بل {وَمَن فِيهِنَّ. .} [المؤمنون: 71] حيث سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود.
لذلك يقيد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الأهواء في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به» لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] .
وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضاً على هذه الآية {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] يقولون: يعني كلامه كله صحيح، فلماذا يُعدِّل له ربه بعض الأحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين نطق به كان ينطق عن هوى.
ولو فهم هؤلاء معنى الهوى ما كان منهم هذا الاعتراض، فالهوَى أن تعرف الحق، لكن هواك يصرفك عنه، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل حُكْماً وانصرف عنه، إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من الله شيء، ثم نزل الحكم من الله ليُعدِّل اجتهاد رسوله.
إذن: لم يكُنْ لرسول الله هَوَىً ينطق بمقتضاه، وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله، وتبليغ الرسول لأمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمانته في البلاغ عن ربه، وإلاَّ فلم يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل، لو أخفاه رسول الله تعصّباً لنفسه، أو لدفْع الخطأ عنه.(16/10094)
ومن ذلك قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ. .} [التحريم: 1] ويقول سبحانه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ. .} [التوبة: 43] .
وكان بوسع رسول الله أن يكتم هذه الآيات التي تعاتبه وتُعَدُّ مأخذاً عليه، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أميناً يقول ما له وما عليه، لذلك يقول عن ربه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] .
ثم يقول تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] و (بل) تفيد الإضراب عن الكلام السابق، وإثبات كلام جديد بعدها، والذكْر هنا يعني: الشرف والصِّيت والمكانة العالية، كما جاء في قوله تعالى عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ. .} [الزخرف: 44] .
وقوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] فكان يجب عليهم أن يحتضنوا هذا القرآن، ويرفعوه فوق رؤوسهم، ففيه مجدهم وشرفهم وعِزَّتهم، والعرب بدون القرآن لا ذِكْرَ لهم، فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل، ولا تستقر إلا على منابع الماء ومواضع الكلأ، كانوا بَدْواً تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق، كان الواحد منهم يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق.
وهذه من الأمور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية، فلم يكن(16/10095)
لديهم منهج يحكم حياتهم، عجيب أنْ ترى حب الغارة والاعتداء مع الشهامة والكرام في طبيعة واحدة، فهو يفعل ما يعِنُّ له، وما يخطر بباله، فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون، حتى قال فيهم الشاعر:
لا تمدحَنَّ ابْنَ عبَّادٍ وإنْ هطلَتْ ... كَفَّاهُ بالجُود حتَّى أشبَه الدِّيَمَا
فَإنَّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ ... يُعْطي ويمنَع لاَ بُخْلاً ولاَ كرَمَا
ومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصَّل فيها هذا الخُلق حتى عند الأطفال، وحتى أن الأب يهِمُّ بذبح ولده للضيف، لأنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه.
ويقول فيها الشاعر:
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصِبِ البطن مُرْملٍ ... ببيداءَ لم يَعْرف بها ساكنٌ رَسْما
أَخِي جَفْوةٍ فيه من الأُنْسِ وَحْشةٌ ... يرى البُؤْس فِيَها مِنْ شراسته نُعْمي
رَأَى شبحاً وِسْط الظّلام فَرَاعَه ... فَلما رأَى ضَيْفاً تشمَّر واهْتما
وقَالَ هَيَّا ربّاه ضَيْف ولا قِرَى!! ... بحقِّك لاَ تحرمْه تالليلةَ اللّحْمَا(16/10096)
وأفرد في شِعْب عَجُوزاً إزَاءَهَا ... ثَلاثَة أَشْباحٍ تَخَالهموا بُهْمَا
حُفاةً عُراةً مَا اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ... ولاَ عَرفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقوا طعْما
فَقالَ ابنُه لَمَّا رآهُ بحيْرةٍ ... أيَا أبْتِ اذْبحْني ويسِّر لَهُم طُعْما
ولاَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا ... يظنُّ لَنَا مَالاً فيُسِعُنا ذمّا
فروَّى قليلاً ثُمَّ أحجمَ بُرْهةً ... وَإنْ هُوَ لم يذبح فَتَاهُ فَقَد همَّا
فبَيْنَا هُمَا عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ ... قَد انتظمتْ من خَلْف مِسْحلها نَظْما
عطَاشاً تريد الماءَ فانْسَابَ نحوهَا ... علَى أنَّه مِنْها إلىَ دَمِها أَظْما
فَأَمهلَها حتَّى تروَّتْ عِطاشُها ... وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْا
فَخَرَّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ ... اكتنزَتْ لَحْماً وقد طُبِّقَتْ شحْما
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّها نَحْو قومهِ ... ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَدْمَى
وباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً ... لَضَيْفِهموا والأمم مِنْ بِشْرها أُمَّا
لقد تأصلتْ خَصْلة الكرم في العربي، حتى في الأطفال الصغار، فهو وإنْ كان فقيراً لكن لا يحب أن يُعرف عنه الفقر، يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء، وإنْ ناقض ذلك صفات أخرى ذميمة فيه.
والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم، وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة، وهذه حُسِبت لهم بعد ظهور الإسلام(16/10097)
وبعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من بينهم، فكيف لمثل هؤلاء أنْ يأتوا بهذه المعاني والأساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا عنهم وعن الإسلام: إنه قفزة حضارية.
ولو كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قارئاً لقالوا: قرأ لفلان وفلان، كما حكى عنهم الحق سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ. .} [النحل: 103] .
إذن: فذِكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن، ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم، ولم يهتموا بهذا القرآن، إنما أعرضوا عنه {فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71] .
أي: عن القرآن، وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين، لا يعرفون حتى مصلحتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. .} .(16/10098)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
(الخَرْج) : ما يخرج منك طواعية، أما الخراج فهو ما يخرج منك رغماً عنك، والزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فالخراج أبلغ من الخَرْج. والمراد بقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. .} [المؤمنون: 72] إنْ كنتَ تريد خَرْجاً فلا تأخذه من أيديهم، إنما خُذْه من ربك، فما عندهم ليس خَرْجاً بل خراج {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ. .} [المؤمنون: 72] .
فلا تأخذ الرزق إلا من يد الخير والبركة؛ لأن الحق سبحانه لا(16/10098)
يمنُّ على خَلْقه برزق يرزقهم به، فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم، كما لو دعوتَ صديقاً إلى طعام فإنك تُعِدُّ له ما يكفي عشرة، فما بالك حينما يُعِدُّ لك ربك عَزَّ وَجَلَّ؟
ثم يُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله تعالى {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [المؤمنون: 72] وهذه أحدثتْ إشكالاً عند البعض؛ لأن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق، فغيره سبحانه يرزق أيضاً، لكن هو خير الرازقين؛ لأنه يرزق الخَلْق بأصول الأشياء التي يرزقون منها غيرهم، فإنْ كنتَ ترزق غيرك مثلاً طعاماً فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره.
هو سبحانه خالق التربة، وخالق الماء، وخالق الهواء، وخالق البذرة، وما عليك إلا أنْ أعملتَ عقلك، واستخدمتَ الطاقات التي منحك الله إياها، فأخرجتَ هذا الطعام، فلو أنك جِئْتَ لأهلك بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر. . إلخ وقامت زوجتُك وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول: إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة: نَزِّهوا ألسنتكم عن قول: فلان رازق، ودَعُوها لقول الله تعالى؛ لأنه سبحانه هو خالق الرزق، وواجد أصوله، وما أنت إلا مُنَاول للغير.
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية، فما دام الخراجُ خراجَ ربك يا محمد، فهو خراج كثير وعطاء لا ينفد.(16/10099)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
الصراط المستقيم: الطريق المعتدل الذي لا عوجَ فيه ولا أمتاً، فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع بالصراط المستقيم الملايين.
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ تنظر إلى ما أخذه منك، فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير، ويأمرك برعاية اليتيم ليرعى أولادك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار.
فالشرع - إذن - يُؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير الله بالرضا؛ لأنك في مجتمع إيماني لن يتخلى عنك إن افتقرت، ولن يترك أولادك إنْ تيتَّموا، فالمجتمع الإيماني إنْ مات فيه الأب كان الجميع لليتيم آباء. أما إنْ ضاع اليتيم في مجتمع الإيمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر الله، ويُغري ضعاف الإيمان أنْ يقولوا: ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة لا يتكفل بهم أحد؟(16/10100)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{الصراط. .} [المؤمنون: 74] هو الطريق المستقيم الذي يُؤدِّي إلى الغاية بأقلّ مجهود، وفي أقل وقت ويوصلك إلى أفضل غاية. والطريق يأخذ حظه من العناية والاهتمام بقدر الغاية الموصِّل إليها،(16/10100)
فالطريق من القاهرة إلى الإسكندرية غير الطريق بين القرى والنُّجوع.
ومعنى: {لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 74] يعني: منحرفون عن الطريق، ولهم حَظٌّ في الاعوجاج وعدم الاستقامة؛ لذلك مَنْ يريد الصدق (تعال دوغري) يعني: من الطريق الذي لا اعوجاجَ فيه ولا مراوغةَ.
لكن، ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظِّم لهم حركة الحياة، ويجعلها تتساند لا تتعاند، ويعود مجهود الفرد على الباقين؟ لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟
قالوا: لأنهم مكذبون بالآخرة، ولو لم يكونوا مكذبين بالآخرة لآمنوا واتبعوا منهج الله؛ لأنهم سيئولون إلى الله أيلولةً، تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه. فالذي أفسد هؤلاء أنهم اتبعوا أهواءهم، وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف، وغفلوا عن الآخرة، وأنها دار النعيم الحقيقي الذي لا يفوتُك ولا تفوته.
كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] يعني: الحياة الحقيقية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ. .} .(16/10101)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
يعني: لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه، كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ. .} [يونس: 12] .(16/10101)
وليْتَه اكتفى عند هذا الحدِّ، إنما يتعدّى هذا، كما جاء في قوله تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً. .} [الزمر: 8] يقول كما قال قارون: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِي. .} [القصص: 78] يعني: هذا بمجهودي وتعبي، وقد كلمت فلاناً، وفعلت كذا وكذا.
لذلك كان طبيعياً أن يقول له ربه: ما دُمْتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك، فاحفظه بعلم عندك قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض. .} [القصص: 81] .
فأين الآن عِلْمك؟ وأيُّ علم هذا الذي لا يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟ ومعلوم أن استنباط الشيء أصعب من حفْظه وصيانته.
ومعنى {لَّلَجُّواْ. .} [المؤمنون: 75] تمادوا {فِي طُغْيَانِهِمْ. .} [المؤمنون: 75] والطغيان: مجاوزة الحدِّ؛ لأن الله تعالى جعل لكل شيء في الوجود حَدَّاً مرسوماً لا ينقص ولا يزيد، فإن اتبعتَ هذا الحدّ الذي رسمه الله لك استقمتَ واستقامتْ حركة حياتك بلا منازع، ولو طغى الشيء أفسد حركة الحياة، حتى لو كان الماء الذي جعل الله منه كل شيء حيٍّ، لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان سر الحياة حال اعتداله. ومنه قوله سبحانه: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] .
ويقال لمن جاوز الحدَّ: طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة، فإنْ تجاوز هذه أيضاً نقول: طاغوت.
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان {يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75] يعني: يتحيرون ويَعْمَوْن عن الرُّشْد والصواب، فلا يُميّزون بين خير وشر.(16/10102)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ. .} .(16/10103)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
استكان فلان لا تقال إلا لمَنْ كان مُتحركاً حركةً شريرة، ثم هدأ وسكن، نقول: فلان (انكَنّ) أو استكان وأصلها (كوْن) فالمعنى: طلب وجوداً جديداً غير الوجود الذي كان عليه، أو حالاً غير الحال الذي كان عليه أولاً، فقبل أنْ يستكين ويخضع كان لا بُدَّ مُتمرِّداً على ربه.
والوجود نوعان: وجود أولي مطلق، ووجود ثَانٍ بعد الوجود الأولي، كما نقول مثلاً: وُلِد زيد يعني وُجِد زيد وجوداً أولياً، إنما على أيِّ هيئة وُجد؟ جميلاً، قبيحاً. . هذه تحتاج إلى وجود آخر، تقول: كان زيدٌّ هكذا فعل وفاعل لا يحتاج إلى إخبار آخر لأنها للوجود الأول، لكن حين نقول: كان زيد مجتهداً، فهذا هو الوجود الثاني وهو الاجتهاد، وهو وجود ناتج عن الوجود الأول.
فكان الأولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ. .} [البقرة: 280] أي: وُجِد ذو عُسْرة،(16/10103)
ولا تحتاج في هذه الحالة إلى خبر.
ونقول: تمنّى فلان على الله أنْ يُوجَد له ولد، فكان محمد، يعني: وُجِد. أما كان الناقصة فتحتاج إلى خبر؛ لأن (كان) فِعْل يدل على زمان الماضي، والفعل لا بُدَّ أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك لا بُدَّ لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول: كان زيد مجتهداً، فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص، فكأنك قلتَ: زيد مجتهد.
ومعنى {فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ. .} [المؤمنون: 76] أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُنْ لأنفسهم ولا للناس، إنما استكانة لله بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة، لكنهم ما فعلوا وما استكانوا، لا في حال الرحمة وكَشْف الضر، ولا في حال الأَخْذ والعذاب، وكان عليهم أن يعلموا أن الله غيَّر حاله معهم، ومقتضى ذلك أن يُغيِّروا هم أيضاً حالهم مع الله، فيستكينوا لربهم ويخضعوا لأوامره.
{وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] الضراعة: هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في شيء، كما جاء في قوله تعالى: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ. .} [الأنعام: 43] يعني: لجئوا إلى الله وتوجَهوا إليه بالدعاء والاستغاثة.(16/10104)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
لقد فشلتْ معهم كل المحاولات، فما أجدَتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم، وما أجدى معهم العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم الله به، إذن: لم يَبْقَ لهم حجة ولا أملٌ في النجاة، ففتح الله(16/10104)
عليهم {بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ. .} [المؤمنون: 77] يعني: أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب مُغْلق تفاجئهم {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [المؤمنون: 77] آيسون من النجاة مُتحسِّرون على ما فاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. .} .(16/10105)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
الحق - سبحانه وتعالى - يقول: خلقتُ عبادي من عدم، وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من عدم، ثم جعلتُ لهم منهجاً ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم، لأن صاحب الصنعة أعلم بصنعته، وأعلم يما يصلحها، ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها، فالذي صنع الثلاجة مثلاً هل صنعها أولاً ثم قال لنا: انظروا في أيِّ شيء تفيدكم هذه الآلة؟ لا، إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها، والغاية منها، وكذلك خلق الله، ولله المثل الأعلى.
والذي خلق وحَدَّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد، ويجعلها تؤدي مهمتها على أكمل وجه، فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن أداء مهمتك التي خلقت لها، وهي عبادة الله وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى الله وإلى الرسول، كما ترد الآلة إلى صانعها العالم بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها، ونستنبط من هذه المسألة: إذا رأيتَ خللاً في الكون أو فساداً(16/10105)
في ناحية من نواحيه، وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن حُكْماً لله قد عُطِّل.
فمثلاً إنْ رأيتَ فقيراً جائعاً عارياً فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله تعالى: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 15] أو: أن القادرين العاملين حرموه حقّه الذي جعله الله له في أموالهم، وخالفوا قوله تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] .
لذلك، فالحق - سبحانه وتعالى - يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة ويسُدُّ حاجة المحتاجين، كما نرى مثلاً أحد الأثرياء يترك بلده، وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله وثرواته، وليس هناك لهذه النقلة إلا أنها خاطر سلَّطه الله عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع، ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين، فانتقل إلى بلد آخر قلَّت فيه الأموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك، بل عرض لك الآيات التي تلفتك إليه، وتُحنِّنك إلى التعرُّف عليه، وهي إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة الله تعالى، أو معجزات تثبت صِدْق الأنبياء في البلاغ عن الله؛ لأن الله تعالى لا يخاطب عباده كل واحد بمفرده، إنما يرسل رسولاً ليُبلِّغهم ثم يُؤيِّده بالمعجزة الدالة على صِدْقه في البلاغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك لا تعرف مَنْ هو هذا الخالق يأتي الرسول ليقول لك: إنه الله، وقد ضربنا لذلك مثلاً - ولله المثل الأعلى: هَبْ أن أحداً دَقَّ الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعاً على أن(16/10106)
طارقاً بالباب.
لكن مَنْ هو؟ لا أحد يعلم.
فالاتفاق هنا في التعقُّل، وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه، لكن مَنْ هو؟ وماذا يريد؟ لا بُدَّ لمعرفة هذه المسائل من بلاغ عن هذه القوة، وإياك أنْ تقول بالظن: هذا فلان وأنا أقول هذا فلان، إنما علينا أن ننتظر البلاغ منه لنعرف مَنْ هو، وما عليك إلا أنْ تقول: مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو عن نفسه، وعن سبب مجيئه، وماذا يريد. ثم بعد ذلك تأتي الآيات التي تحمل منهج الله، وتخبرك أنه يريد منك كذا وكذا.
الشاهد: أن هذه الآيات كلها تحتاج إلى وسائل لإدراكها، تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها، ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة. .} [المؤمنون: 78] .
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطاً الحواس الخمس الظاهرة أي: أن هناك حواسَّ أخرى لم يكتشفوها، وفعلاً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل، وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلاً، فهذه الأشياء لا تستطيع التعرّف عليها بالحواسِّ الخمس المعروفة.
وعُمْدة الحواس: السمع والبصر؛ لأنه إذا جاءني رسول يُبلِّغني عن الله لا بُدَّ أن أسمع منه، فإنْ كنتَ مؤمناً بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع، وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته الدالة على وجوده وقدرته، وتستدل بالصَّنْعة على الصانع، وبالخِلْقة على الخالق، وتقف على ما في كوْن الله من الدقة والإحكام والهندسة والإبداع.(16/10107)
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك، كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوَّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها خاصية الإحراق فلا تلمسها بعد ذلك، وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن الشطة مثلاً فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
فإن رآه بعد ذلك يقول (أوف) ، فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوَّنَتْ لديه نتيجة تجربة استقرتْ في فؤاده، وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته، وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة تتكوَّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن: من وسائل الإدراك تتكوَّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل، ويفاضل بينها حتى ينتهي إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمِّيها عقيدة يعني: شيء معقود عليه لا ينحلّ.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتِّبها دائماً هذا الترتيب: السمع والبصر والفؤاد لأنها عُمْدة الحواس، فالشمُّ مثلاً والتذوق واللمس لا نحتاج إليه إلا قليلاً، أما السمع والبصر فعليهما تقوم مسألة الدعوة: السمع لسماع البلاغ، والبصر لنرى آيات الله الدالة على قدرته تعالى.
وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلُّ على أنه ترتيب من خالق عن حكمة وعلم وقدرة، بحيث لا يأتي واحد منها قبل الآخر، كما أثبت علماء وظائف الأعضاء صِدْق هذا الترتيب، فأوّل أداة تؤدي مهمتها في الإنسان هي الأذن ثم العين، وتعمل من ثلاثة إلى عشرة أيام من الولادة، ثم من السمع والبصر(16/10108)
توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن: فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني. كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في الإنسان هو أيضاً الإدراك الوحيد الذي يصاحب الإنسان في كل أطواره، فالأذن تسمع مثلاً حتى في حالة النوم على خلاف العين؛ ذلك لأن بالسمع يتم الاستدعاء، لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال النوم.
كما أن العين لا ترى في الظلام ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية، وليست الأذن كذلك، فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الآذان، أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ولا تراه وقد يراه غيرك، إذن: فالمسموع واحد والمرائي متعددة، لذلك قال سبحانه: {السمع والأبصار. .} [المؤمنون: 78] .
فليس لك خيار في السمع، لكن لك خيار في الرؤية، فالمبصرات تتعدد بتعدُّد الأبصار، لكن السمع لا يتعدد بتعدُّد الأسماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن الله تعالى ضرب على آذانهم في الكهف ليناموا ولا تزعجهم الأصوات في هذه الصحراء الدويّة، ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق جميعاً لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة، ولأفزعتهم الأصوات.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11] .
كذلك من آيات الإعجاز في القرآن الكريم أن جميع الآيات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا الترتيب: السمع والأبصار، إلا في آية واحدة في موقف القيامة قالوا: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] .(16/10109)
فقدَّم البصر على السمع؛ لأن في القيامة تفجؤهم المرائي أولاً قبل أنْ تفجأهم الأصوات، وهذه من مظاهر الدقة في الأداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول: لا عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعاً لتسمع البلاغ عني من الرسول، وأعطيتُك عَيْناً لتلتفت إلى آيات الكون، وأعطيتُك فؤاداً تفكر به، وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلُّك على وجود الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
إذن: ما أخذتُك على غِرَّة، ولا خدعتُك في شيء، إنما خلقتُك من عدم، وأمددتُك من عُدم، ورتبتُ لك منافذ الإدراك ترتيباً منطقياً تكوينياً، فأيُّ عذر لك بعد ذلك. . وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم الأهواء، وتصْرفكم عن البلاغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الأذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق - عَزَّ وَجَلَّ - ما يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدُّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] لأن هذه نِعَم وآلاء وآيات لله، كان ينبغي أن تشكر حَقَّ الشكر.
البعض يقول في معنى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] أنه تعالى عبَّر عن عدم الشُّكْر بالقلة، وهذا الفهم لا يستقيم هنا؛ لأن الله تعالى أثبت لعباده شكراً لكنه قليل، وربك - عَزَّ وَجَلَّ - يريد شكراً دائماً يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك، فساعة ترى الأعمى الذي(16/10110)
حُرِم نعمة البصر يتخبَّط في الطريق تقول الحمد لله، تقولها هكذا بالفطرة؛ لأنك تعيش وتتقلب في نعَم الله، لكن لا تتذكرها إلا حين ترى مَنْ حُرِم منها.
لذلك، إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر الله المنعم قُلْ عند النعمة، أو عند رؤية ما يعجبك في أهل أو مال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أَلاّ ترى أن الله تعالى جعل الحسد لينبهنا: إنْ أردتَ صيانة النعمة فلا تنسَ المنعِمَ؛ لأنه وحده القادر على حِفْظها وصيانتها، وجعلتَ حفظها إلى مَنْ صنعها. ولا يُصاب الإنسان في النعمة إلا إذا غفل عن المنعم وترك الشُّكْر عليها.
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن الله، وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات التقليدية، وفي أحد الأعوام زرعه قطناً، فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه، فكلَّمه والدي في مسألة الدودة هذه فقال له: يا عم متولي لا تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني: أُخرِج منها الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض. .} .(16/10111)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{ذَرَأَكُمْ. .} [المؤمنون: 79] بثكم ونشركم في أنحاء الأرض لتعمر كلها، وتعجب حين ترى أناساً متشبثين بالجبال والصحراء(16/10111)
القفر الجرداء، ولا يرضون بها بديلاً، ويتحملون في سبيل البقاء بها العَنَت والمشقة، حتى إنك لتقول: لماذا لا يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلاء الذين صبروا على أقدار الله في بلادهم، رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها سيل العرم، وكانت تُسمَّى «اليمن السعيد» ورأيناهم في السعودية وفي الكويت، وحكى لنا أهل هذه البلاد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة، ثم جاءتهم عاقبة صبرهم، وجعل الله - سبحانه وتعالى - هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلاد الدنيا؛ لأنهم رَضُوا في الأولى بقضاء الله، فأبدلهم بصبرهم على لأواء الصحراء نعيماً، لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لأن الخالق - عَزَّ وَجَلَّ - نثر خيراته في كل أنحاء الأرض بالتساوي، فكل قطعة طولية من الأرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الأخرى، وفي يوم من الأيام كان أصحاب الزرع هم أصحاب المال وأصحاب السيادة، ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة، فالخيرات - إذن - مطمورة في أنحاء الأرض لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن: فبَثُّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الأرض له حكمة أرادها الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون: 79] يعني: لا تفهموا أنكم بنشركم في الأرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا، أو أننا لا نقدر على جمعكم مرة أخرى، فكما نشرناكم لحكمة نجمعكم لحكمة لا يخرج من أيدينا أحد.(16/10112)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف. .} .(16/10113)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{يُحْيِي وَيُمِيتُ. .} [المؤمنون: 80] فِعْلان لا بُدَّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت، فالخالق - عَزَّ وَجَلَّ - يُوجِد الحياة أولاً، ويوجد الموت، ثم يجري حدثاً منهما على ما يريده.
والحياة سبقتْ الموت في كل الآيات، إلا في آية واحدة في سورة تبارك: {الذي خَلَقَ الموت والحياة. .} [الملك: 2] وعِلَّة ذلك أن الله تعالى يعطي للإنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل أجهزته، ولك أن تتأمل: ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه الحركات، ودون أن تباشر أي شيء.
إذن: بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك، فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بلا معالجة، فكيف نستبعد هذا في حقِّه - سبحانه وتعالى - ونكذب أنه يقول للشيء: كُنْ فيكون، مع أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الإرادة، ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئاً، والله سبحانه وتعالى يقول للشيء: كُنْ فيكون، وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدَّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الآية: {الذي خَلَقَ الموت(16/10113)
والحياة. .} [الملك: 2] ؛ لأن الحياة ستُورث الإنسانَ غروراً في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى، فأراد ربه - عَزَّ وَجَلَّ - أن يُنبهه: تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها، فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخَلْق والإماتة صفات لله قديمة قبل أنْ يخلق شيئاً أو يميت شيئاً؛ لأنها صفات ثابتة لله قبل أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا، ولله المثل الأعلى: الشاعر حين يقول قصيدة قالها لأنه شاعر ولا نقول: إنه شاعر لأنه قال هذه القصيدة، فلولا صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة، فالموت كذلك مخلوق، وقد يقول قائل: إذا أطلقتَ رصاصة على شخص أردَتْهُ قتيلاً فقد خلقتَ الموت.
نقول: الحمد لله أنك لم تدَّع الإحياء واكتفيتَ بالموت، لكن فَرْق بين الموت والقتل، القتل نَقْض للبِنْية يتبعه إزهاق للروح، أما الموت فتخرج الروح أولاً دون نَقْض للبنية.
لذلك يقول سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ. .} [آل عمران: 144] .
والنمرود الذي حَاجَّ إبراهيم - عليه السلام - في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الآخر، وادَّعى أنه أحيا هذا، وأمات هذا، وكانت منه هذه الأعمال سفسطة لا معنى لها، ولو كان على حَقٍّ لأمرَ بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر لا يستطيع المراوغة فيه.
إذن: هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لأن للروح مواصفات(16/10114)
خاصة، بحيث لا تحل إلا في بنية سليمة، وقد أوضحنا هذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بلمبة الكهرباء، فقوة الكهرباء كامنة في الإسلاك لا نرى نورها إلا وضعنا اللمبة مكانها، ويكون لها مواصفات بحيث لا تضيء إلا إذا توفرتْ لها هذه الصفات، فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها.
ثم يقول تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار. .} [المؤمنون: 80] الليل يحل بغياب الشمس وحلول الظُّلْمة التي تمنع رؤية الأشياء، وقديماً كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على المرئي، ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم، فأثبت خطأ هذه النظرية، وقرر أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه، بدليل أنك لا ترى الشيء إنْ كان في الظلام.
وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي لا بُدَّ منه لنهتدي إلى حركة الحياة، والإنسان يواجه خطورة إنْ سار في الظلام؛ لأنه إمِّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه، أو بأقوى منه فيؤلمه ويؤذيه.
إذن: لا بُدَّ من وجود النور لتتم به حركة الحياة والسَّعْي في مناكب الأرض، وكذلك لا بُدَّ من الظُّلْمة التي تمنع الإشعاع عن الجسم، فيستريح من عناء العمل، وقد أثبت العلم الحديث خطر الإشعاعات على صحة الإنسان.
لذلك يقول تعالى: {وَلَهُ اختلاف الليل والنهار. .} [المؤمنون: 80] فجعلهما يختلفان ويتعاقبان ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون، يقول تعالى: {والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى} [الليل: 1 - 2] وطالما أن لكل منهما مهمته، فإياك أن تقلب الليل إلى نهار، أو النهار إلى ليل؛ لأنك بذلك تخالف الطبيعة التي خلقك الله عليها، وانظر إلى هؤلاء(16/10115)
الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل حتى الفجر، وينامون النهار حتى المغرب، وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة، فالتلميذ ينام في الدرس، والعامل ينام ويُقصِّر في أداء عمله.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُنبِّهنا إلى هذه المسألة في قوله: « ... أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» لأن الجسم لا يأخذ راحته، ولا يهدأ إلا في الظلمة، فيصبح الإنسان قوياً مستريحاً نشيطاً، واقرأ قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10 - 11] .
ومن دِقَّة الأداء القرآني أن يراعي هؤلاء الذين يعملون ليلاً، وتقتضي طبيعة أعمالهم السَّهَر، مثل رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم، فيقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار. .} [الروم: 23] فالليل هو الأصل، والنهار لمثل هؤلاء الذين يخدمون المجتمع ليلاً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا من النهار ليلاً صناعياً، فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة والهدوء.
إذن: الليل والنهار ليسا ضِدّيْن، إنما هما خَلْقان متكاملان لا متعاندان، وهما كالذكَر والأنثى، يُكمل كل منها الآخر، لا كما يدَّعي البعض أنهما ضدان متقابلان؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلَّى، قال:
{وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [الليل: 3 - 4] فالليل والنهار كالذكر والأنثى لكل منهما مهمة في حركة الحياة.
واختلاف الليل والنهار من حيث الضوء والظُّلْمة والطول والقِصَر وفي اختلاف الأماكن، فالليل لا ينتظم الكون كله، وكذلك النهار،(16/10116)
فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار، يقول تعالى: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل. .} [فاطر: 13] .
وينتج عن هذا تعدُّد المشارق والمغارب بتعدُّد الأماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب، وكل مغرب يقابله مَشْرق، لدرجة أنهم قالوا: ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية.
وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ذِكْر الله على مدى الوقت كله، بحيث لا ينتهي الأذان، ولا تنتهي الصلاة في الكون لحظة واحدة، فأنت تصلي المغرب، وغيرك يصلي العشاء. . وهكذا. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكوراً في كل الكون بجيمع أوقات الصلاة في كل وقت.
حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطباً الزمن: يا زمن وفيك كل الزمن. يعني: يا ظهر وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر، لكن عند غيري.
ومن اختلاف الليل والنهار ينشأ أيضاً الصيف الحار والشتاء البارد، والحق سبحانه وتعالى كلف العبيد كلهم تكليفاً واحداً كالحج مثلاً، وربط العبادات كلها بالزمن الهجري، فالصيف والشتاء يدوران في الزمن، ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلادي، وبذلك مَنْ لم يناسبه الحج في الصيف حَجَّ في الشتاء؛ لأن اختلاف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الأجواء.
لذلك قالوا: إن ليلة القدر تدور في العام كله؛ لأن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول يناير، ومرة يوافق الثاني، ومرة يوافق الثالث، وهكذا.(16/10117)
ومن اختلاف الليل والنهار أنهما خِلْفة، كما قال تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] .
فنحن نرى الليل يخلُف النهار، والنهار يخلُف الليل، لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها، فما دام الحق - سبحانه وتعالى - جعل الليل والنهار خِلْفة، فلا بُدَّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما، فلو وُجِد الليل أولاً ثم وُجِد النهار، فلا يكون الليل خِلْفة؛ لأنه لم يسبقه شيء، فهذا يعني أنهما خُلقا معاً، فلما دار الزمن خلف بعضهما الآخر، وهذا لا ينشأ إلا إذا كانت(16/10118)
الأرض مُكوَّرة، بحيث يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد، فالذي واجه الشمس كان نهاراً، والذي واجه الظلمة كان ليلاً.
ثم يقول سبحانه: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80] لأن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة، وقد كانت اختلافات الأوقات مَبْنية على التعقل، أما الآن فهي مَبْنية على النقل، حيث تقاربت المسافات، وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد.
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الأرض، حتى بعد أن التقطوا لها صوراً أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك.
ونقول: لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟ ولماذا نعطي الآخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل، مع أنه قد سبق كل هذه الاكتشافات؟
ولو تأملتَ قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض. .} [الرعد: 3] لوجدت فيه الدليل القاطع على صِدْق هذه النظرية؛ لأن الأرض الممدودة هي التي لا تنتهي إلى حافة، وهذا لا يتأتّى إلا إذا كانت الأرض كروية بحيث تسير فيها، لا تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت، ولو كانت الأرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية. لكن لم تتوفر لنا في الماضي الآلات التي تُوضِّح هذه الحقيقة وتُظهرها.
إذن: الحق سبحانه في قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [المؤمنون: 80] ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول في المسائل الكونية؛ لأنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ولماذا يُعمِل الإنسان عقله ويتفنّن مثلاً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟ لكن الله تعالى يكون له بالمرصاد فيُوقِعه في مَزْلَق، فيترك وراءه منفذاً لإثبات جريمته، وثغرة تُوصِّل إليه؛ لذلك يقول رجال القضاء: ليست هناك جريمة كاملة، وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى هذه الثغرة.
وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول: لقد استخدمتَ عقلك فيما لا ينبغي، وسخَّرْته لشهوات نفسك، فلا بُدَّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك، فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى، أو تظنّ أنك أفلتَّ بعقلك وترتيبك وإلاَّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لأنك لا تستطيع أن تُرتِّب بعقلك على الله، وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب.
كما لو فُضِح إنسان بأمر هو منه بريء، ولحقه الأذى والضرر بسبب هذه الإدانة الكاذبة، فتأتي عدالة السماء فيستر الله عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الأولى، وهذه مسألة لا يفعلها إلا رب.
والحق - سبحانه وتعالى - حينما يُنبِّه العقل ويثيره: تفكّر، تدبّر، تعقّل، ليدرك الأشياء الكونية من حوله، فهذا دليل على أنه(16/10119)
سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث وللتأمل في هذه الصنعة.
وهذه المسألة نلاحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر، فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى اختبارها والتأكد من جودتها على خلاف الصنعة الرديئة التي يلّفها لك صانعها، ويصرفك عن تأملها حتى لا تكتشف عيبها.
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الإثارة لتصل إلى مراده تعالى لك.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} .(16/10120)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
أي: لم يتعظوا بكل هذه الآيات، بل قالوا مثلما قال الألون: {قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً. .} .(16/10120)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
وسواء أكان هذا قولهم أو قول سابقيهم من الأولين، فقد كان الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية في مسألة البعث من الموت، وكل كلامهم يؤدي إلى ذلك، فهم تعجبوا من حدوث هذا الأمر.
ولذلك قال قائلهم: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 97] .(16/10120)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
أتظنون أن الله تعالى إذا وعدكم بالموت ثم بالبعث أن هذا سيكون في الدنيا؟ لذلك تقولون: وُعِدْنا بهذا من قبل ولم يحدث، وقد مات مِنّا كثيرون ولم يعودوا ولم يُبعَثُوا، فَمَنْ قال لكم إنكم ستموتون اليوم وتُبعثون غداً؟
البعث لا يكون إلا بعد أن يموت جميع الخَلْق، ثم يُبعثوا كلهم مرة واحدة.
إذن: هذا الكلام منهم مجرد سفسطة وجدل لا معنى له.
وكلمة {وُعِدْنَا. .} [المؤمنون: 83] يعني بالبعث، والوعد عادة يكون بالخير، كما أن الوعيد يكون بالشر، كما جاء في قول الشاعر:
وإنِّي إذَا أَوْعدتُه أَوْ وَعدتُه ... لَمخِلفُ إيعَادِي ومُنجِزُ موْعِدي
يعني: هو رجل كريم يترك الشر الذي توعّد به، ويفعل الخير الذي وعد به، وإن قال العلماء: قد يستعمل هذا مكان هذا.
لكن، هل الوعد للكفار بالبعث وما يتبعه من عذاب وعقاب يُعَدُّ وَعْداً؟ قالوا: نعم يعد هذا الشر وهذا العذاب الذي ينتظر وَعْداً بالخير لأنه يُنبههم ويَلفتهم إلى خطورته حتى لا يقعوا فيه إذن: هو خير لهم الآن حيث يُحذِّرهم كما تحذر ولدك من الرسوب إنْ أهمل في دروسه.
ومن ذلك أيضاً في هذه المسألة ما أشرنا إليه من تكرار قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] في سورة الرحمن، وأنها جاءت بعد ذِكْر نعم الله على سبيل التوبيخ لمَنْ أنكر هذه النعم أو كذَّب بها، وتكررت مع كل نعمة تأكيداً لهذا التوبيخ، لكن العجيب أن تذكر هذه الآية حتى بعد النقم أيضاً، كما في قوله تعالى:(16/10121)
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. .} [الرحمن: 35 - 36] .
وهل في النار والشُّواظ نعمة؟ نقول: نعم فيها نعمة؛ لأنها نصيحة لك قبل أن تقع في هذا المصير وتحذير لك في وقت التدارك حتى تراجع نفسك.
وقولهم: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [المؤمنون: 83] {إِنْ هاذآ. .} [المؤمنون: 83] يعني: ما هذا. وأساطير جمع أسطورة مثل: أعاجيب وأعجوبة، هناك مَنْ يقول: إن أساطير جمع سطر أسطار أساطير مثل شكل وأشكال، فهي جَمْع للجمع. وسواء أكانت جَمْع أسطورة أو جمع سطر، فالمعنى لا يختلف؛ لأن الشيء المسطور قد يعتبره الناس خرافة وكلاماً لا معنى له.
والأساطير هي الكلام المكذوب الذي لا أصلَ له، فلا يُسمَّى الكلام أسطورة إلا إذا جاء وقته ولم يحدث، فلَكَ أن تقول أساطير إنما البعث الذي تقولون عنه {أَسَاطِيرُ الأولين} [المؤمنون: 83] لم يأت وقته بعد، فلم يمت جميع الخَلْق حتى يُبعثوا، فقد أخطأتم التوقيت وظننتم أنكم في الدنيا تموتون وتبعثون هكذا على رؤوس الأشهاد، والناس ما زالت في سعة الدنيا.
إذن: ليس البعث كما تقولون، بل هو حق، ولكنكم لم تضعوا له الكلمة المناسبة؛ لذلك يوجه إليهم هذه الأسئلة التقريرية التي تقيم عليهم الحجة: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ. .} .(16/10122)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
ويأتي في السؤال بإن الشرطية الدالة على الشك في كونهم يعلمون.(16/10123)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
فما دُمْتم أقررتم بأن الأرض ومَنْ فيها لله {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] يعني: ما الذي صرفكم عن مالك الأرض وخالقها؟
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع. .} .(16/10123)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
نلحظ أنهم لم يجادلوا في هذه المسألة، ولم يقولوا مثلاً إنها سماء واحدة هي التي نراها، مما يدل على أنها أمر غير منكور عندهم، ولا بُدَّ أن الأنبياء السابقين قد أخبروهم خبر السماء، وأنها سبع سموات، وأصبحت عندهم قضية عقلية يعرفونها، وإلا كان بوُسْعهم الاعتراض، حيث لا يرون إلا سماءً واحدة. إذن: لم يجادلوا في هذا الموضوع.
وقوله تعالى: {وَرَبُّ العرش العظيم} [المؤمنون: 86] العرش مخلوق عظيم لا يعلم كُنْهه إلا الله الذي قال فيه {ثُمَّ استوى عَلَى العرش. .} [الأعراف: 54] وقال {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء. .} [هود: 7] .
والعرش لم يَرَهُ أحد، إنما أخبر عنه ربه الذي خلقه، فقال: لي كذا ولي كذا، ويكفي أن الله تعالى وصفه بأنه عظيم. وفي هذه أيضاً لم يجادلوا رسول الله ولم يقولوا إننا لم نَرَ العرش، مما يدل على أن عندهم حصيلة من تراث الأنبياء السابقين انتقلت إليهم فطرة من فطر التكوين البشري في السماع من الموجودين.(16/10123)
وقد وصف العرش بأنه عظيم عند البشر أيضاً، ففي قصة سليمان وملكة سبأ قال الهدهد: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] لأن العرش رمزية لاستقرار الملْك واستتباب الأمر لِلْمَلك الذي لا ينازعه في مُلْكه أحد، ولا يناوشه عليه عدو؛ لذلك أول ما قال سليمان - عليه السلام - في أمرها قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا. .} [النمل: 38] وكأنه يريد أن يسلب منها أولاً رمز العظمة والأمن والأمان والاستقرار في الملك.
ثم يقول الحق سبحانه: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} .(16/10124)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
فما دام الأمر كذلك وما دُمْتم تعترفون بأن لله مُلْكَ السموات والأرض، وله العرش العظيم، فلماذا لا تتقون هذا الإله؟ لماذا تتمردون على منهجه؟ إن هذا الكون كله بما فيه خُلِق لخدمتك، أفلا يلفتك هذا إلى الصانع المنعم.
لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي: «يا ابْن آدم، خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له» يعني: لا تُلْهِك النعمة عن المنعم. وعلى العبد أن ينظر أولاً إلى خالقه ومالكه، فيؤدي حقه، ثم ينظر إلى ما يملك هو.
ومعنى: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [المؤمنون: 87] الاتقاء: أن تجعل بينك وبين صفات الجلال من الله وقاية، وسبق أن قُلْنا: من عجيب آيات القرآن أن تقول مرة (اتقوا الله) ومرة (اتقوا النار) ، والمعنى لا تعارضَ فيه كما يظنه البعض، بل المعنى واحد؛ لأن النار جُنْد(16/10124)
من جنود الله ومن صفات جلاله، فالمراد: اتقوا عذاب الله، واتقوا صفات القهر والجبروت بأن تجعل بينك وبينها وقاية.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ. .} .(16/10125)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
معنى: {بِيَدِهِ. .} [المؤمنون: 88] تدل على التمكّن من الشيء، كما تقول: هذا الأمر في يدي يعني في مُكْنتي وتصرفي، أقلبه كيف أشاء {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. .} [المؤمنون: 88] مادة ملك منها مِلْك، ومنها مُلْك، ومنها ملكوت.
المِلْك ما تملكه أنت، حتى لو لم يكن عندك إلا ثوب واحد فهو مِلْك، أمّا مُلْك فيعني أنْ تملك مَنْ يملك، وهذا يكون ظاهراً. أما الملكوت فالأشياء المخلوقة التي لا تقع عليها حواسُّك، ولا يمكن أن تعلم عنها شيئاً إلا بإخبار خالقها، والإنسان لا يرى كل ما في الكون، بل إن في نفسه وذاته أشياءً لا يعرفها، فهذا كله من عالم الملكوت.
بل إن الإنسان لا يرى حتى المُلْك الظاهر المحسّ؛ لأنه لا يرى منه إلا على قَدْر مَدِّ بصره، وما خرج عن هذا النطاق لا يراه، وإن كان يراه غيره، ويمكن أن يدخل هذا المُلك الذي لا تراه في دائرة الملكوت بمعناه الواسع.
إذن: الملكوت يُطلق على الأشياء المحجوبة التي لا يراها أحد، أو على الأشياء التي يراه واحد دون الآخر.(16/10125)
والإنسان إذا تعمَّق في عبادة الله وفي طاعته يفيض عليه من التجليات، ويعطيه من هذا الملكوت عطاءً مباشراً، كما قال: {مِّن لَّدُنَّآ. .} [النساء: 67] .
ألا ترى إبراهيم عليه السلام قال عنه ربه {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وقال عنه: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. .} [البقرة: 124] يعني: يؤدي ما لله بدقة وعلى الوجهِ الأكمل؛ لذلك يأتمنه ربه على أن يكون إماماً للناس {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً. .} [البقرة: 124]
فلما أحسن إبراهيمُ ما بينه وبين ربه وبلغ هذه المنزلة قال عنه ربه: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض. .} [الأنعام: 75] .
لأنه أحسن في الأولى فرقى إلى أعلى منه. كما لو دخل رجل بيتك وشاهد ما عندك من نعيم، ففرح لما أنت فيه، وقال: ما شاء الله تبارك الله، ودعا لك بالزيادة، فلما رأيت منه ذلك قلت له إذن: تعالى أريك ما هو أعظم.
كذلك العبد الصالح الذي عبد الله وتقرَّب إليه بمنهج موسى عليهما السلام، فلما استقام على هذا المنهج وتعمَّق في عبادة الله وطاعته أعطاه الله من علمه اللدنيّ دون واسطة ودون رسول، حتى كان هو مُعلِّماً لموسى عليه السلام.
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ. .} [المؤمنون: 88] يجير: تقول: استجار بفلان فأجاره يعني: استغاث به فأغاثه، ومنه قوله تعالى: {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ. .} [الأنفال: 48] والإنسان لا يستجير بغيره إلا إذا ضعُفَتْ قوته عن حمايته، فيلجأ إلى قوي يحميه ويدافع عنه.(16/10126)
إذن: هذه المسألة لها ثلاثة عناصر: مجير، وهو الذي يقبل أن يغيثك ويحتضنك ويدافع عنك.
ومُجَار: وهو الضعيف الذي يطلب الحماية. ومُجَار عليه: وهو القوي الذي يريد أن يبطش. ومن المعروف أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رحلته إلى الطائف وبعد أنْ فعلوا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا استجار، ودخل في حمى كافر.
فالحق - سبحانه وتعالى - يجير مَنِ استجار به، ويغيث مَن استغاثة لكن {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ. .} [المؤمنون: 88] لأن الذي يجيرك إنما يجيرك من مساوٍ له في القوة، فيستطيع أن يمنعك منه، ويحميك من بطشه، فَمنْ ذا الذي يحميك من الله؟ ومَنْ يجيرك إنْ كان الله هو طالبك؟!
لذلك يقول سبحانه في مسألة ابن نوح: {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ. .} [هود: 43] فالله - عَزَّ وَجَلَّ - يجير على كل شيء، ومن أصبح وأمسى في جوار ربه فلا خوف عليه.
وتلحظ هنا العلاقة بين صَدْر هذه الآية وعَجُزها: فالله تعالى بيده وفي قبضته سبحانه كل شيء، والأمر كله إليه، فإياك أنْ تظن أنك تلفت من قبضته بالنعمة التي أعطاك؛ لأنه سبحانه قادر أن يسلبك إياها، وساعتها لن يجيرك أحد، ولن يغيثك من الله مغيث، ولن يعصمك من الله عاصم.
ثم قرأ قوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] .
وهنا أيضاً يقول سبحانه: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88] إنْ كان عندكم علم بهذه المسألة ووصلت إليكم وعاينتموها.(16/10127)
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} .(16/10128)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
ففي هذه أيضاً يقولون «لله» ؛ لأنه واقع ملموس لا يُنكَر، وطالما أن الأمر كذلك {فأنى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 89] كيف تسحرون أو أسُحِرتم عن هذا الواقع وصُرِفتم عنه إلى هذا الكلام الباطل؟
هذه قضايا ثلاث جاءت على صورة سؤال لتدينهم بوضوح العقيدة في الوجود الأعلى، وبوضوح البينات في إعجاز البلاغ عن الله، وبوضوح الآيات في آيات المنهج، وقد أراد الحق سبحانه أن يأتي الكلام منهم وبإقرارهم هم على أنفسهم؛ ليكون حجة وشهادة حَقٍّ عليهم.
ومعلوم أن الإقرار سيد الأدلة؛ لذلك سألهم: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ. .} [المؤمنون: 84] .
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم} [المؤمنون: 86] .
{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. .} [المؤمنون: 88] .
وهم يقولون في هذا كله (لله) إذن: فماذا بقي لكم؟ ما الذي منعكم أن تتقوا الذي تؤمنون بأنه المالك للأرض وللسماء وبيده كل شيء؟ إنه مجرد استكبار وعناد وغطرسة، وإلا فماذا تعني كلمة (الله) التي تنطقون بها؟
إنكم تعرفون الله، وتعرفون مدلول هذه الكلمة؛ لأن مدلول الكلمة سابق على وجودها في لغة البشر، فاللغة عادة ألفاظ توضع لمعانٍ(16/10128)
تدل عليها، فالمعنى يوُجدَ أولاً، ثم نضع له اللفظ الدالّ عليه، وما دام أن لفظ (الله) يدور على ألسنتكم ولا بُدَّ أنكم تعرفون مدلولة، وهو قضية لغوية انتهيتم منها، وإلا فالأمر العدمي لا اسم له. فالتليفزيون مثلاً: ما اسمه قبل أن يخترع؟ لم يكن له اسم؛ لأنه لم يكُنْ له معنى، فلما وُجِد وُضِع له الاسم.
وحيث دارت الألسنة بكلمة الله فمعنى ذلك أنه تعالى موجود قبل وجود الاسم، فالمسألة - إذن - حجة عليكم.
لذلك عرض الحق - سبحانه وتعالى - هذه القضايا في صورة سؤال لينتزع منهم الإقرار بها، كما لو أنكر شخص جميلك فيه، فإنْ قلتَ له على سبيل الإخبار: لقد قدمتُ لك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصِّدْق ويحتمل الكذب وله أن يعترف أو ينكر.
أما حين تقول له: ألم أُقدِّم لك كذا وكذا؟ على سبيل الاستفهام، فإنه لا يملك إلا الاعتراف، وينطق لك بالحق وبالواقع، وتصل بإقراره إلى مَا لا تؤديه الشهادة أو البينة عليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ. .} .(16/10129)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
يعني: دعوني أخبركم عن أمرهم، ولماذا أنكروا الحق ولم ينطقوا به، إنهم ينكرون الحق لأنهم كاذبون ويريدون أنْ يُثبتوا أن ما هم عليه أمر طبيعي، لماذا؟ لأنهم مستفيدون من الانحراف ومن الباطل؛ لذلك يقفون في وجه الرسالة التي جاءت لتعديل الميزان والقضاء على الانحراف والباطل، ويلجئون إلى تكذيبها وصَرْف الناس عنها ليظلوا ينتفعون هم بالباطل.(16/10129)
لذلك تأمل: لماذا يُكذِّب الناس؟ يُكذِّبون لأنهم ينتفعون من الكذب، ويتعبهم الصدق، ويَضيِّق عليهم الخناق.
ثم يقول الحق سبحانه: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ. .} .(16/10130)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
يا ليت الأمر وقف بهم عند مجرد عدم الإيمان بالله، إنما تعداه إلى أن وصفوا الله تعالى بما لا يليق من الصفات، وما دام أن الله تعالى ينفي عن نفسه تعالى اتخاذ الولد {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ. .} [المؤمنون: 91] فلا بد أنهم قالوا: اتخذ الله ولداً، فترقوا في فجورهم وطغيانهم، وتجرأوا حتى على مقام العزة.
ونقول أولاً: ما الولد؟ الولد ما ينجبه الإنسان من ذكر أو أنثى، وقد سمعنا هؤلاء يقولون: عيسى ابن الله، والعزير ابن الله، وقالوا عن الملائكة: بنات الله، وقد قال تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ. .} [المؤمنون: 91] ليشمل البنين والبنات.
ومعنى {اتخذ الله مِن وَلَدٍ. .} [المؤمنون: 91] أن الله تعالى كان موجوداً، ثم اتخذ له ولداً، فاتخاذ الولد إذن حادث، وهذا يعني أنه قد مرت فترة لم يتخذ الله له فيها ولداً، لذلك نسأل: ما الذي زاد في مُلْك الله بوجود الولد؟ هل أصبحت السموات ثمانية؟ هل زاد في الكون شمس أخرى أو قمر؟ الكون كما خلقه الله تعالى، وجعل فيه(16/10130)
ضرورياته وأصوله وفروعه لم يزد فيه شيء. إذن فاتخاذ الولد عَبَثٌ لم يحدث منه شيء.
ويقولون: اتخذ الله الولد ليُؤْنس خَلْقه بوجود ولده وشيء من رائحته بين الخلق، قالوا هذا في مؤتمر (نيقية) ، كأنه عندهم يقوم مقام الألوهية. لكن كم كانت مدة بقائه بينكم؟ لقد أقام المسيح في الأرض بضعاً وثلاثين سنة قبل أن يُرْفع، فكيف يحرم من هذا الأنس مَنْ سبقوا ميلاده عليه السلام؟ وكيف يُحْرم منه مَنْ أتوا بعده؟
أليس في هذا ما يتعارض وعدالة الربوبية؛ لأن الخَلْق جميعاً خَلْق الله، وهم عنده سواء؟
ومنهم مَنْ يقول: إنه جاء ليرفع الخطيئة، لكن الخطيئة ما زالت في الأرض بعدما فعل ما فعل. إذن: فكلها حَجَج واهية.
ولو ناقشنا هذه المسألة مناقشةً منطقيةً فلسفيةً: لماذا يتخذ الإنسانُ الولدَ؟ يتخذ الإنسانُ الولدَ لأنه يحب الحياة، وموته يختصر هذه الحياة، فيريد الولد ليكون امتداداً لحياته، ويضمن به بقاء الذكْر جيلاً من بعده، فإنْ جاء للولد ولد ضمن جيلين؛ لذلك يقولون «أعزّ من الوِلْد وِلْد الولد» . لكن أي ذِكْر هذا الذي يتمسَّكون به؟ إن الذكر الحقيقي ما تخلفه من بعدك من عمل صالح يسبقك عند الله.
والحق - سبحانه وتعالى - لا يحتاج إلى ذِكْر من بعده تعالى؛ لأنه باقٍ لا يموت، فهذه المسألة إذن ممنوعة في حقِّه تَعالى.
وقد يتخذ الولد ليكون سنداً وعَوْناً لأبيه حين يكبر وتضعف قواه؛ لذلك يقولون: خير الزواج الزواج المبكر؛ لأنه يساعدك على إنجاب أب يعولك في طفولة شيخوختك؛ لأنك تنجب طفلاً وأنت(16/10131)
صغير، فيعاصرك أكبر مدة من الزمن، وتطول به قُرّة عينك في خلاف مَنْ ينجب على كِبَر؛ لذلك قال: أب يعولك في طفولة شيخوختك ولم يقل ابناً لأنك في هذه الحال تحتاج إلى حنان الأب.
وهذه أيضاً ممتنعة في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه القوي، الذي لا يحتاج إلى معين، ولا إلى عزوة.
مسألة أخرى: أن الإنسان يحب الولد؛ لأنه بَعْضٌ منه، وهو سبب في وجوده، فيحب أن يكون له ولد من صُلْبه، وهذا فرع من حُبِّه للتملُّك، فالإنسان أول ما يحب يحب أن تكون له أرض، ثم يحب أن يزرعها ويأكل من خيراتها، ثم يحب أن تكون له حيوانات يشرب لبنها ويستفيد منها، ثم إنْ تَمَّ له هذا كله يتطلع إلى الولد، وكأنه تدرَّج من حب الجماد إلى النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.
وهذه المسألة أيضاً لا تجوز في حقه تعالى، فإنْ أحببتَ الولد ليكون جزءاً منك ومن صُلْبك تعتز به وببُنوته، فالخَلْق جميعاً عيال الله وأولاده، فكيف يحتاج إلى الولد بعد ذلك؟
إذن: كلها حجج ومسائل باطلة؛ لذلك رَدَّ الله عليهم {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ. .} [المؤمنون: 91] وأتى بِمِنْ الدالة على العموم، يعني: ما اتخذ الله شيئاً من بداية مَا يُقال له ولد، ولو كان حتى مُتبنَّى، كما تقول: ليس عندي مال، فتنفي أن يكون عندك مال يُعْتد به أو ذو قيمة، لكن هذا لا يمنع أن يكون عندك عدة جنيهات أو قروش. فإنْ قلت: ما عندي من مال، فقد نفيتَ أنْ يكون عندك أقلّ ما يُقَال له مال.
ونردّ بهذه المسألة على مَنْ يقول أن (من) هنا زائدة؛ لأن كلام الله دقيق لا زيادة فيه، الزيادة في كلام البشر، والحق سبحانه مُنزَّه عن هذه المسألة.(16/10132)
ثم يرتقي بنا الحق سبحانه في الردِّ عليهم فيقول: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ. .} [المؤمنون: 91] يعني: معبود بحق أو بغير حق؛ لذلك سمّى الأصنام آلهة، لكن كلمة الله انصرفت إلى المعبود بحق سبحانه وتعالى، فنفى الحق سبحانه الشركاء معه في العبادة، كما جاء في موضع آخر: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا. .} [الأنبياء: 22] .
يعني: لو كان فيهما آلهة الله خارج منها لَفَسدت السماء والأرض، وكذلك لو كان فيهما آلهة مع الله لَفسدتَا أيضاً؛ لأن إلا هنا ليست استثنائية، إنما هي اسم بمعنى غير، وقد ظهر إعرابها على لفظ الجلالة بعدها (الله) .
ومسألة تعدُّد الآلهة لو تأملتها لَبانَ لك بطلانها، فإنْ كان مع الله آلهة لاقتسموا هذا الكون فيما بينهم، وجعلوه قطاعات، يأخذ كل منهم قطاعاً فيه، فواحد للأرض، وآخر للسماء، وثالث لما بين الأرض والسماء وهكذا.
ولكن، هل يستغني قطاع من الكون عن الآخر؟ اتستغني الأرض عن السماء؟ إذن: سيحدث تضارب لا يستقيم معه حال الكون.
كذلك نقول: الإله الذي أخذ الأرض مثلاً، لماذا لم يأخذ السماء؟ لا بُدَّ أنه أخذ الأرض بقُوَّته، وترك السماء لعجزه، ولا يصلح إلهاً مَنْ وُصِف بهذه الصفة، فإن قالوا: إنهم جميعاً أقوياء يستطيع كل واحد منهم أن يخلق الخَلْق بمفرده نقول: إذن ما فائدة الآخرين؟
ثم يقول سبحانه: {إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ. .} [المؤمنون: 91] يعني: لو استقل كل منهم بقطاع من الكون دون الآخر لَفَسدتْ الأمور، كما رأينا في دنيا البشر أن يحاول أحد(16/10133)
الملوك أنْ يستقلّ بقطاع من الأرض لا حَقَّ له فيه، ورأينا ما أحدثه من فساد في الأرض، هذا مثال لقوله تعالى: {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ. .} [المؤمنون: 91] وهي صورة من صور الفساد.
لذلك يعالج الحق سبحانه هذه القضية ويعلنها على الملأ: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم. .} [آل عمران: 18] .
فليس هذا كلامنا، وليست هذه شهادتنا، بل كلام الله وشهادته سبحانه لنفسه، لكن هل علم هؤلاء الآلهة بهذه الشهادة؟ إنْ علموا بهذه الشهادة فسكوتهم عليها وعدم اعتراضهم عَجْز، وإن لم يدروا فَهُم غافلون نائمون، ففي كلتا الحالتين لا يصحّ أن يكونوا آلهة.
وفي موضع آخر يردّ عليهم الحق سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً. .} [الإسراء: 42] يعني في هذه الحالة {لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] يعني: ذهبوا يبحثون عن الإله الذي أخذ منهم الكون، وتعدَّى على سلطانهم، إما ليجابهوه ويحاكموه، وإما ليتقربوا إليه.
لذلك سيقول عن الذين تدَّعون أنهم آلهة من دون الله: {يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة. .} [الإسراء: 57] يعني: عيسى والعزير والملائكة الذين قلتم إنهم بنات الله، هؤلاء جميعاً يتوسلون إلى الله ويتقربون إليه {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. .} [الإسراء: 57] .
وفي موضع آخر يقول تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون. .} [النساء: 172] .
إنهم لا يستنكفون عن عبوديتهم لله، بل يعتزون بهذه العبودية،(16/10134)
ويُغضبهم ويسوؤهم أن نقول عنهم آلهة، أو نعطيهم من التقديس أكبر مما يستحقون؛ ذلك لأن ولاءهم وعصبيتهم لله تعالى أكبر من ولائهم وعصبيتهم لأنفسهم.
لذلك، فإن هذه الأشياء التي يتخذونها آلهة من دون الله هي أول مَنْ يلعنهم، فالأحجار التي عبدوها من دون الله - مع أن كلمة العبادة هنا خطأ ونقولها تجاوزاً؛ لأن العبادة طاعة العابد لأمر المعبود، وانتهاؤه ينهيه، والأحجار ليس لها أوامر وليس لها نَوَاهٍ - هذه الأحجار أعبد منهم لله، وأعرف منهم بالله؛ لذلك تكرههم الحجارة وتلعنهم، وتتحول عليهم في القيامة ناراً تَحْرقهم.
اقرأ هذا الحوار الذي يتنافس فيه غار حراء الذي شهد بداية الوحي وأَنِس فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأول آيات القرآن، وغار ثور الذي احتمى فيه رسول الله عند الهجرة، وكلاهما أحجار، يقول الشاعر:
كَمْ حَسَدْنَا حِرَاءَ حِينَ تَرى ... الرُّوحَ أميناً يغْذُوكَ بالأنْوارِ
فَحِراءُ وثَوْرُ صَارَا سَوَاءً ... بهما اشْفع لدولةِ الأحجارِ
عَبدُونا ونَحْن أَعْبَدُ لله ... مِنَ القائمين بالأسْحَارِ
تَخِذُوا صَمْتنَا علينا دليلاً ... فغدَوْنا لهم وَقُودَ النارِ
قد تجنَّوا جَهْلاً كما قد تجنَّوْه ... علَى ابْن مريم والحَوارِى
للمُغَالِى جزاؤه والمغَالَى ... فيه تُنجيهِ رحمةُ الغَفارِ
لذلك يقول تعالى لعيسى عليه السلام: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله. .} [المائدة: 116] .(16/10135)
فيقول عيسى: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} [المائدة: 116] .
نعم، الله تعالى يعلم ما قال عبده ونبيه عيسى، لكن يريد أنْ يقر عليهم بأنه كاره لقولهم هذه الكلمة.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما هُزِم الرومان من الفرس حزن لهزيمة الرومان، لماذا؟ لأنهم أهل كتاب يعرفون الله، ويعرفون البلاغ عن الله، وإنْ كانوا كافرين به، أما الفُرْس فكانوا مَجُوساً يعبدون النار؛ لذلك يُطمئنه ربه بقوله: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله. .} [الروم: 1 - 5] .
فإنْ كانوا لا يؤمنون بمحمد، فهم يؤمنون بربِّ محمد، فالعصبية - إذن - لله أكبر من العصبية للرسول المبلّغ عن الله.
ثم يقول سبحانه: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] .
يصفون بمعنى: يكذبون، لكن عبَّر عنه بالوصف كأن المعنى: إنْ أردت أنْ تعرف الكذب فاسمع إلى كلامهم فهو الوصف الدقيق له، وقال في موضع آخر: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب. .} [النحل: 62] فكلامهم هو الكذب بعينه، وهو أصدق وَصْف له؛ لأن الكذب ما خالف الواقع، وهم لا يقولون إلا ما خالف الواقع.
كما لو سألت: ما الحماقة؟ فأقول لك: انظر إلى تصرفات فلان، يعني: هي الوصف الصادق للحماقة، والترجمة الواضحة لها، وكأنه بلغ من الوصف مَبْلَغاً يُجسِّم لك المعنى الذي تريده.(16/10136)
ومعنى: {سُبْحَانَ الله. .} [المؤمنون: 91] تنزه، وهي مصدر وُجِد قبل أنْ يُوجَد المسيح، فهي صفة لله تعالى أزلية، حيث ثبت تنزيه الله قبل أن يخلق الخَلْق، فلما خلق الله السماء والأرض سبَّحت لله: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض. .} [الحديد: 1] ولم ينقطع التسبيح بعد ذلك، قال الحق سبحانه: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض. .} [الجمعة: 1] .
وما دام الكل يُسبّح لله، وما زال مُسبِّحاً، فسبِّح أنت يا محمد: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] .
فكيف يكون الكون كله مُسبِّحاً، ولا تُسبِّح أنت، وأنت سيد هذا الكون؟
ثم يقول الحق سبحانه عن ذاته العلية: {عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى. .} .(16/10137)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
العلم: إدراك قضية أو نسبة واقعة مجزوم بها وعليها دليل، ولا يصل إلى العلم إلا بهذه الشروط، فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وواقعة، لكن لا تستطيع أن تُدلِّل عليها كالطفل حين يقول: الله أحد، فهذا تقليد كما يُقلِّد الولدُ أباه أو معلمه، فهو يُقلِّد غيره في هذا المسألة إلى أنْ يوجد عنده اجتهاد فيها ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.
فإنْ كانت القضية مجزوماً بها وليست واقعة، فهذا هو الجهل، فليس الجهل كما يظن البعض الاَّ تعلم، إنما الجهل أن تجزم بقضية مناقضة للواقع.
لذلك تجد الجاهل أشقّ وأتعب لأهل الدعوة وللمعلمين من الخالي الذهن الذي لا يعرف شيئاً، ليست لديه قضية بدايةً، فهذا ينتظر منك أن تُعلِّمه، أمّا الجاهل فيحتاج إلى أن تُخرِج من ذِهْنه القضية(16/10137)
الخاطئة أولاً، ثم تضع مكانها الصواب.
والغيب: المراد به الغيب المطلق يعني: ما غاب عنك وعن غيرك، فنحن الآن مشهد لمن حضر مجلسنا هذا، إنما نحن غيب لمن غاب عنه، وهذا غيْب مُقيد، ومنه الكهرباء والجاذبية وغيرهما؛ لأن هذه الأشياء كانت غَيْباً عَمَّنْ قبلنا مع أنها كانت موجودة، فلما توصلنا إلى مقدماتها ظهرت لنَا وصارت مشهداً؛ لذلك قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ. .} [البقرة: 255] .
فأثبت الإحاطة للناس لكن بشرط مشيئته تعالى، فإنْ شاء أطلعهم على الغيب، وأوصلهم إلى معرفته حين يأتي أجل ميلاده وظهوره.
إذن: المعلوم لغيرك وغَيْب عنك ليس غيباً، وكذلك الغيب عنك وله مقدمات تُوصِّل إليه ليس غيباً، إنما الغيب هو الغيب المطلق الذي غاب عنك وعن غيرك، والذي قال الله تعالى عنه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ. .} [الجن: 27] .
والشهادة: يعني المشهود، لكن ما دام الحق سبحانه يعلم الغيب، فمِنْ باب أَوْلَى يعلم المشهود، فلماذا ذكر الشهادة هنا؟ قالوا: المعنى: يعلم الغيب الذي غيِّب عني، ويعلم الشهادة لغيري.
ومن ناحية أخرى: ما دام أن الله تعالى غيْب مستتر عنا، وهناك كوْن ظاهر، فربما ظن البعض أن المستتر الغيب لا يعلم إلا الغيب، فأراد - سبحانه وتعالى - أن يؤكد على هذه المسألة، فهو سبحانه غيب، لكن يعلم الغيب والشهادة.
ونرى من الناس مَنْ يحاول أن يهتك ستار الغيب، ويجتهد في أن يكشف ما استتر عنه، فيذهب إلى العرافين والمنجِّمين وأمثالهم، وهو لا يدري أن الغيب من أعظم نِعَم الله على خَلْقه، فالغيب هو علة(16/10138)
إعمار الكون، وبه يتم التعامل بين الناس، ذلك لأن الإنسان ابن أغيار، كثير التقلُّب، ولو علم كل منا وكُشِف له ما عند أخيه لتقاطع الناس، وما انتفع بعضهم ببعض.
لذلك يقولون: لو تكاشفتم ما تدافنتم.
يعني: لو كُشِف لك عما في قلب أخيك لَضننْتَ عليه حتى بدفنه بعد موته.
إذن: فجَعْل هذه المسائل غَيْباً مستوراً يُحنِّن القلوب، ويثري الخير بين الناس، فينتفع كل منهم بالآخر، وإلا لو عَلِمتَ لواحد سيئة، وعرفتَ موقفه العدائي منك لكرهتَ حتى الخير الذي يأتيك من ناحيته، ولتحرك قلبك نحوه بالحقد والغل، وما انتفعتَ بما فيه من حسنات.
لذلك، نقول لمن يبحث عن غيْب الآخرين: إنْ أردتَ أن تعرف غَيْب غيرك، فاسمح له أن يعرف غَيْبك، ولن تسمح له بذلك، إذن: فدَعْ الأمر كما أراده الله، ولا تبحث عن غَيْب الآخرين حتى تستقيمَ دفّة الحياة.
وربك دائماً يلفتك إلى النظر إلى المقابل، ففي الحديث القدسي: «يا ابن آدم، دعوت على مَنْ ظلمك، ودعا عليك مَنْ ظلمته، فإنْ شئت أجبناك وأجبنا عليك، وإن شئت تركتكما إلى الآخرة فيسعكما عفوي» .
فالحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يُصفِّي نفوس الخَلْق، وأن يقف الناس عند حدود ما أطلعك الله عليه، ولا تبحث عن المستور(16/10139)
حتى لا تتعب نفسك، حتى تواجه مشاكل الحياة بنفسٍ صافية راضية عنك وعن الناس.
ثم يقول الحق تعالى: {فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 92] لأن ما تشركونهم مع الله لا يعلمون شيئاً من هذا كله، لا غَيْباً ولا شهادة؛ لذلك لا ينفعك إنْ عبدتْه، ولا يضرك إنْ لم تعبده.
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي. .} .(16/10140)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{قُل. .} [المؤمنون: 93] أمر من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {رَّبِّ. .} [المؤمنون: 93] منادى حُذِفَتْ منه أداة النداء يعني: يا رب {إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} [المؤمنون: 93] يعني: من العذاب {رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين} [المؤمنون: 94] أي: إن قدَّرتَ أن تعذبهم في حياتي فلا تُعذِّبهم وأنا فيهم.
وهذا من رقة قلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وحين اشتد به إيذاء الكفار وعنادهم في أوَل الدعوة أرسل الله إليه الملائكة تعرض عليه الانتقام من قومه المكذِّبين به، لكنه يأبى ذلك ويقول: «اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون» ويقول: «لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم مَنْ يقول:(16/10140)
لا إله إلا الله» .
كما أن موقفه يوم فتح مكة واضح ومعروف؛ ذلك لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُرسِل رحمة للعالمين.
لكن، هل قال الرسول ودعا بهذا الدعاء لأنه يعتقد أن الله يجعله معهم حين ينزل بهم العذاب؟ نقول: لا؛ لأنه لم يقُلْ هذه الجملة من نفسه، إنما أمره الله بها، ولم يكُنْ رسول الله ليعتقد هذا الاعتقاد، إذن: المسألة وَحْي من الله لا بُدَّ أن يُبلِّغه، وأن يقولها كما قالها الله؛ لأن مدلولها رحمة به في ألاَّ يرى مَنْ يعذب، أو من باب قوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً. .} [الأنفال: 25] .
وهذا الدعاء الذي دعا به رسول الله يدفع عنه أيَّ خاطر يطرأ عليه، ويطمئنه أن هذا الأمر لن يحدث.
وقوله: {إِمَّا تُرِيَنِّي. .} [المؤمنون: 93] عبارة عن (إنْ) و (مَا) وهما يدلان على معنى الشرطية والزمنية، فكأنه قال: قُلْ ساعةَ أن ينزل بهم العذاب: ربِّ لا تجعلني في القوم الظالمين.(16/10141)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
أي: أننا قادرون على أن نُريك شيئاً مما وعدناهم به من العذاب، لكنه ليس عذاب الاستئصال؛ لأن الله تعالى أكرم أمتك - حتى الكافر منها - بأن عافاها من هذا العذاب، لأنه يأتي على الكافرين فلا يُبقِي منهم أحداً، ويمنع أن يكون من ذريتهم مؤمن بالله. فهَبْ أن عذاب الاستئصال نزل بهم في بدر مثلاً، أكُنَّا نرى المؤمنين منهم ومن ذرياتهم بعد بدر؟
إذن: لا يكون عذاب الاستئصال إلا إذا عَلِم الله تعالى أنه لا فائدة منهم، ولا حتى من ذريتهم من بعدهم، كما حدث مع قوم نوح، أَلاَ ترى نوحاً عليه السلام يقول عنهم: {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] .
ولا يمكن أن يقول نوح هذا الكلام، أو يحكم على قومه هذا الحكم إلا بوحْيٍ من الله؛ لأنه لا يستطيع أن يحكم على هذه القضية الكونية التي لا يعلمها إلا المكِّون الأعلى سبحانه، فنحن نرى عُتَاة الكفر ورؤوس الضلال، ثم يؤمنون بعد ذلك كله ويبْلُون في الإسلام بلاءً حَسَناً.
وانظر إلى عكرمة وخالد وعمرو بن العاص، وكم تألَّم المؤمنون وحَزِنوا لأنهم أفلتوا من القتل، لكن لله تعالى تدبير آخر، وكأنه يدخرهم لخدمة الإسلام وحماية الدعوة.
فعكرمة بن أبي جهل يُظهِر شجاعة نادرة في موقعه اليرموك حتى يُطعَن طعنةَ الموت، ويستند إلى عمر ويقول وهو يجود بروحه في سبيل الله: أهذه ميتة تُرضِي عني الله ورسوله؟ هذا في يوم(16/10142)
الخندمة الذي قال فيه الشاعر:
إنَّك لَوْ شَاهَدت يَوْمَ الخنْدَمه ... إذْ فَرَّ صَفْوانُ وفَرَّ عِكْرمَه ... ولحقتْنَا بالسُّيوفِ المسْلمه ... يَفْلِقْنَ كُلَّ سَاعِد وجُمْجُمْه ... ضَرْباً فَلاَ تُسْمَعُ إلاّ غَمْغَمَه ... لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَهُ وحَمْحَمَه ... لَمْ تنْطِقي باللَّوْمِ أدْنى كِلمَه ... أما عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد كان من أمرهما ما نعرف جميعاً.(16/10143)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ادفع. .} [المؤمنون: 96] تدل على المدافعة يعني: أمامك خصم(16/10143)
يهاجمك، يريد أن يؤذيك، وعليك أن تدفعه عنك، لكن دَفْع بالتي هي أحسن أي: بالطريقة أو الحال التي هي أحسن، فإنْ أخذك بالشدة فقابِلْه باللين، فهذه هي الطريقة التي تجمع الناس على دعوتك وتؤلِّفهم من حولك.
كما جاء في قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ. .} [آل عمران: 159] .
فإنْ أردتَ أن تعطفهم نحوك فادفع بالتي هي أحسن، ومن ذلك الموقف الذي حدث من رسول الله يوم الفتح، يوم أنْ مكّنه ربه من رقاب أعدائه، ووقف أمامهم يقول: «يا معشر قريش، ما تظنون أنَّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال:» اذهبوا فأنتم الطلقاء «.
ونلحظ أنهم كلموه بما يستميل قلبه ويعطفه نحوهم، وذكَّروه بأواصر القرابة والرحم، وحدَّثوه بما يُحنِّن قلبه، ولقّنوه ما ينتفعون هم به: أخ كريم وابن أخ كريم، ولم يقولوا مثلاً: أنت قائد منتصر تستطيع أن تفعل بنا ما تشاء.
وفعلاً كان من هؤلاء ومن ذرياتهم نصراء للإسلام وأعوان لدعوة رسول الله.
وقصة فضالة الذي كان يبغض رسول الله، حتى قال قبل الفتح: والله ما أحد أبغض إلىَّ من محمد، وقد زاد غيظه من رسول(16/10144)
الله حينما رآه يدخل مكة ويُحطِّم الأصنام، فأراد أنْ يشقَّ الصفوف إليه ليقتله، وبعدها قال:» فو الله، ما وضعتُ يدي عليه حتى كان أحب خَلْق الله إلىَّ «.
لكن ماذا ندفع؟ ندفع (السيئة) . ونلحظ هنا أن ربنا - تبارك وتعالى - يدعونا أن ندفع السيئة بالتي هي أحسن، لا بالحسن؛ لأن السيئة يقابلها الحسنة، إنما ربك يريد أن يرتقي بك في هذا المجال، فيقول لك: ادفع السيئة بالأحسن.
وفي موضع آخر يعطينا ثمرة هذا التصرُّف الإيماني: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولو تأملتَ معنى هذه الآية لوجدتَ أن المجازاة من الله، وليست ممّنْ عاملْتَه هذه المعاملة؛ لأن الله تعالى يقول: {كَأَنَّهُ. .} [فصلت: 34] ولم يقل: يصبح لك ولياً حميماً.
ذلك لأنك حين تدفع بالتي هي أحسن يخجل منك صاحبك، ويندم على إساءته لك، ويحاول أنْ يُعوِّضك عنها فيما بعد، وألاَّ يعود إلى مثلها مرة أخرى، لكنه مع كل هذا لا يُسمَّى ولياً حميماً، إنما هو ولي وحميم؛ لأنه كان سبباً في أنْ يأخذك ربك إلى جانبه، ويتولاك ويدافع عنك.
لذلك لما شتم أحدهم الحسن البصري وسبَّه في أحد المجالس، وكان في وقت رُطَب البلح أرسل الحسن إليه طبقاً من الرُّطَب وقال(16/10145)
لخادمه: اذهب به إلى فلان وقُلْ له: لم يجد سيدي أثمن من هذا يهديه إليك، وقد بلغه أنك أهديت إليه حسناتك بالأمس، وهي بلا شك أعظم من هديتي تلك.
إذن: من الغباء أن نتناول الآخرين بالهَمْز واللمز والطعن والغيبة؛ فإنك بهذا الفعل كأنك أهديتَ لعدوك حسناتك، وأعطيتَ أعظم ما تملك لأبغض الناس إليك.
ألاَ ترى موقف الأب حين يقسو على ولده، فيستسلم له الولد ويخضع، أو يظلمه أخوه فيتحمل ظُلْمه ولا يقابله بالمثل، ساعتها يحنو الأب على ولده، ويزداد عطفاً عليه، ويحرص على ترضيته، كذلك يعامل الحق - تبارك وتعالى - العباد فيما بينهم من معاملات - ولله المثل الأعلى. لذلك قلنا: لو علم الظالم ما أعده الله للمظلوم من الجزاء لَضنَّ عليه بالظلم؛ لأنه سيظلمه من ناحية، ويُرضيه الله من ناحية أخرى.
ويقال: إنه كان عند أحد الملوك رجل يُنفِّس فيه الملك عن نفسه، فإنْ غضب استدعى هذا الرجل وراح يشتم فيه ويسبُّه أمام الناس حتى يهدأ، فإذا أراد أن ينصرف الرجل أخذه على انفراد وأعطاه كيساً من المال، وفي أحد الأيام احتاج هذا الرجل إلى مال ليقضي أمراً عنده، فحاول أنْ يتمحّك ليصل إلى الملك، ثم قال له: ألستَ في حاجة لأنْ تشتمني اليوم؟
فمسألتنا بهذا الشكل، إذن: ما عليك إلا أنْ تدفع بالتي هي(16/10146)
أحسن، فإنْ صادفتَ من صاحبك مودة وصفاءً، وإلا فجزاءُ الله لك أوسع، وعطاؤه أعظم، وما أجمل قول الشاعر حين عبَّر عن هذا المعنى:
يا مَنْ تُضَايِقه الفِعَال مِنَ التي ومِنَ الذيِ ... ادْفَعْ فدَيْتُكَ بالتي حَتَّى تَرَى فَإذَا الذِي
يعني: إن أردتَ الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم؛ فاعمل بالتي هي أحسن.
ثم يقول سبحانه: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] معناه: أنت يا محمد تأخذ بحقك من هؤلاء إذا كنا نحن لا نعرف ما يفعلونه بك، لكن الحال أننا نعرفه جيداً ونحصيه عليهم، وقد أعددنا لهم الجزاء المناسب، فدَعْ هذه المسألة لنا ولا تشغل نفسك بها.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أن يُنزِّه ذات رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من انفعالات الغضب، وألاّ ينشغل حتى بمجرد الانفعال؛ لأنه حين يتعرّض لك شخص بسيئة تريد أن تجمع نفسك لترد عليه، وخصوصاً إذا كان هذا الرد مخالفاً لطبْعِك الحسن وخُلُقك الجميل، فكأنه يكلفك شيئاً فوق طاقتك.
فالله تعالى يريد أن يرحم نبيه وأن يريحه: دَعْكَ منهم، وفوِّض أمرهم إلينا، فنحن أعلم بما يصفون أي: بما يكذبون في حقك.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} .(16/10147)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
لماذا جاءتْ الاستعاذة من همزات الشياطين بعد هذه المسألة؟ قالوا: لأن الشيطان يريد أن يتدخل، ويُظهِر لك أنه معك، وأنه(16/10147)
يَغَار عليك، فيحرضك عليهم ويُغريك بهم، ويدفعك إلى الانتقام منهم والتسلُّط عليهم.
وهمزات: جمع هَمْزة، وهي النزْعة أو النخسة يثير بها الشيطان الإنسان، ومنه قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله. .} [الأعراف: 200] .(16/10148)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
يعني: إنْ دخل عليك الشيطان بهَمْزه ووسوسته فقل: أعوذ بالله من همزات الشياطين، بل وأزيد من ذلك الزم جانب الحَيْطة معه، فقُلْ: أعوذ بالله أن يحضرون مجرد حضور، وإن لم يهمزوا لي، فأنا لا أريدهم في مَحْضري، ولا أريد أن أجالسهم.(16/10148)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
ذلك لمجرد أن تحضره سكرات الموت ويُوقِن أنه ميّت تتكشف له الحقائق ويرى ما لا نراه نحن، كما جاء في قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} [ق: 22] .
فيتمنى الإنسان أن يرجع إلى الدنيا وهو ما يزال يحتضر، لماذا؟ لأنه رأى الحقيقة التي كان ينكرها ويُكذِّب بها، والذين يشاهدون حال الموتى ساعة الاحتضار يروْنَ منهم إشارات تدلّ على أنهم يروْنَ أشياء لا نراها نحن، كُلٌّ حَسْب حالة وخاتمته.
وأذكر حين مات أبي، وكان على صدري ساعتها أنه قال لي: يا أمين - وهذا اسمي في بلدي - كيف تبني كل هذه القصور ولا تخبرني بها؟
والجنود الذين صاحوا في المعركة: هُبِّي يا رياح الجنة. لا بُد(16/10148)
أنهم رأوها وشَمُّوا رائحتها، وإلا ما الذي جعلهم يتلهفّون للموت، ويشتاقون للشهادة إلا أنهم يرون حالاً ينتظرهم أفضل مما هم فيه.
ومن هؤلاء الصحابي الجليل الذي حدثَّه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أجر الشهداء عند الله، وكان في يده تمرات أو في فمه يمضغها، فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أن أدخل هذه المعركة فأُقتل في سبيل الله؟ قال: نعم، فألقى التمرة من فمه ومضى إلى المعركة.
كأنه استكثر أن يقعد عن طلب الجنة مدة مَضْغ التمرات. فإلى هذه الدرجة بلغ يقينُ هؤلاء الرجال في الله وفي رسول الله.
ونلحظ في هذه الآية: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت. .} [المؤمنون: 99] هكذا بصيغة المفرد {قَالَ رَبِّ ارجعون} [المؤمنون: 99] جاء بالجمع على سبيل التعظيم، ولم يقل: ربِّ ارجعني، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
فهنا الحق - تبارك وتعالى - يُعظِّم ذاته، لكن هذا يُعظِّم الله الآن، وهو في حال الاحتضار، وقد كان كافراً به، وهو في سَعَة الدنيا وبحبوحة العيش.
أو: أنه كرر الطلب: أرجعني أرجعني أرجعني، فجمعها الله تعالى. أو: أنه استغاث بالله فقال: ربّ ثم خاطب الملائكة: ارجعون إلى الدنيا.
لكن، لماذا الرجوع؟(16/10149)
{لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أنني تركتُ كثيراً من أعمال الخير، فلعلِّي إنْ رجعتُ بعد أنْ عاينتُ الحقيقة أستدرك ما فاتني من الصالحات، أو لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركتُ، لأنني ضننْتُ بمالي وبمجهودي وفَضْلي على الناس، وكنْزتُ المال الكثير، وتركتُه خلفي ثم أُحاسب أنا عليه، فإنْ عُدت قدمته وأنفقته فيما يدخر لي ليوم القيامة.
ثم تأتي الإجابة: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا. .} [المؤمنون: 100] أي: قوله: ارجعون لعلِّي أعمل صالحاً فيما تركت، إنها مجرد كلمة لا واقع لها، كلمة يقولها وقت الضيق والشدة، فالله تعالى لن يرجعهم، ولو أرجعهم ما فعلوا؛ لذلك نفاها بقوله (كلا) التي ترد على قضايا تريد إثباتها، ويريد الله تعالى نفيها كما ورد في سورة الفجر:
{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] .
فيرد الحق سبحانه: (كلا) لا أنت صادق ولا هو، فليس المال والغِنَى وكثرة العَرض دليل إهانة، ولا الفقر دليل إهانة، فكلتا القضيتين خطأ، بدليل أنك إذا أعطاك الله المال، ثم لا تؤدي فيه حَقَّ الله وحَقَّ العباد، ولا يعينك على أداء ما فُرِض عليك صار المال وبالاً عليك وإهانة لا كرامة. ما جدوى المال إنْ دخلتَ في قوله تعالى: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} [الفجر: 17] ؟ ساعتها سيكون مالك حُجَّة عليك.(16/10150)
كذلك الحال مع مَنْ يظن أن الفقر إهانةٌ، فإنْ سلب الله منك المال الذي يُطغيك فقد أكرمك، وإنْ كنت لا تدري بهذا الإكرام.
ثم يقول سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] أي: كيف يتمنوْنَ الرجوع وبينهم وبينه برزَخ يمنعهم العودة إلى الدنيا؛ لذلك تُسمَّى الفترة بين الحياة الدنيا والآخرة بالحياة البرزخية، فليست من الدنيا، وليست من الآخرة.
وفي موضع آخر يُصوِّر الحق سبحانه هذا الموقف بقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ. .} [الأنعام: 28] أي: لو رددناهم من الآخرة لعادوا لما كانوا عليه من معصية الله، وإنْ كانت هذه قضية عقلية ففي واقعهم ما يثبت صِدْق هذه القضية، واقرأ فيهم قول الله تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ. .} [الإسراء: 83] فأخذ نعمة الله وتقلَّب فيها، ثم تنصَّل من طاعة الله.
ويقول تعالى في هذا المعنى أيضاً: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ. .} [يونس: 12] .
إذن: المسألة اضطرارات، كلما اضطروا دَعَوا الله ولجئوا إليه، وتوسَّلوا، فخذوا من واقع حياتهم ما يدل على صِدْق حكمي عليهم لو عادوا من الآخرة.
والبرزخ: هو الحاجز بين شيئين، وهذا الحاجز يأخذ قوته من صاحب بنائه، فإنْ كان هذا الحاجز من صناعته - سبحانه وتعالى - فلن ينفذ منه أحد.(16/10151)
ومن ذلك قوله تعالى: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19 - 20] وما داما يلتقيان، فما فائدة البرزخ هنا؟
قالوا: نعم يلتقيان، ولا يبغي أحدهما على الآخر؛ لأن المسألة ليست سَدَّاً أو بناءً هندسياً، إنما برزخ خاصٌّ لا يقدر عليه إلا طلاقة القدرة الإلهية التي خرقتْ النواميس، فجعلتْ الماءَ السائلَ جبلاً، بعد أن ضربه موسى بعصاه، فصار كل فِرْق كالطود العظيم، طلاقة القدرة التي فجرت الحجر عيوناً.
إذن: المسألة ليست (ميكانيكا) كما يظن البعض.
والبرزخ بين الماء المالح والماء العَذْب آية من آيات الله شاخصة أمامنا، يمكننا جميعاً أنْ نتأكد من صحة هذه الظاهرة.
لكن هذا البرزخ من أمامهم، فلماذا قال تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] .
قالوا: لأن اللفظ الواحد يُطلق في اللغة وله معَانٍ عدَّة واللفظ واحد؛ لذلك يُسمُّونه المشترك، فمثلاً كلمة عَيْن تطلق على العين الباصرة، وعلى عين الماء، وعلى الجاسوس، وتُقال للذهب وللفضة، وللرجل البارز في قومه، والسياق هو الذي يُحدِّد المعنى المراد؛ لذلك على السامع أن تكون عنده يقظة ليردّ اللفظ إلى المعنى المناسب لسياقه.
وكذلك كلمة (النجم) فتعني الكوكب في السماء، وتعني كذلك مَا لا ساقَ له من النبات، وهو العُشْب الذي ترعاه البهائم، ومنه قول الشاعر:(16/10152)
أُرَاعي النجْمَ في سَيْري إليكُمُ ... ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوَادِيَ
فكلمة (وراء) تُطلَق ويُراد بها معانٍ عدة، قد تكون متقابلة يُعيِّنها السياق، فتأتي وراء بمعنى (بَعْد) كما في قوله تعالى: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] وتأتي بمعنى (غَيْر) كما في قوله تعالى: {فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون} [المؤمنون: 7] .
وتأتي بمعنى (أمام) كما قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] فالملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة قادمة. وكذلك في قوله تعالى: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] .
فقوله تعالى: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] أي: أمامهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ. .} .(16/10153)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
الصُّور: البُوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والمراد هنا النفخة الثانية للبعث.
والأنساب: جمع نَسَب، وهو الالتقاء في أصل مباشر، كالتقاء الابن بالأب، أو الأب بالابن، أو التقاء بواسطة كالعمومة والخؤولة.
والنسب هو أول لُحمة في الكون تربط بين الناس في مصالح مشتركة، وهو الالتقاء الضروري الذي يوجد لكل الناس، فقد لا يكون لك أصدقاء ولا أصحاب ولا زملاء عمل، لكن لا بُدَّ أن يكون لك نَسَب وقرابة وأهل.(16/10153)
فحين ينفي الحق - سبحانه وتعالى - النسب يقول: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ. .} [المؤمنون: 101] فليس النفي لوجود النسب، فإذا نُفِخ في الصور منعت البُنوَّة من الأبوة، أو الأبوة من البنوة. إنما النسب موجود حقيقة، لكن لأن النسب المعروف فيه التعاون على الخير والتآزر في دفع الشر، فالنفي هنا لهذه المنفعة في هذا اليوم بالذات حيث لا ينفع أحد أحداً، فالنسب موجود لكن دون نفع، فالنفع من أمور الدنيا أن يُوجد قوي وضعيف، فالقوي يُعين الضعيف، ويفيض عليه، أمّا في هذا الموقف فالكل ضعيف.
كما قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] .
ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
لذلك حينما حدَّثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أننا سنُحشر يوم القيامة حُفَاة عُراة تعجبت السيدة عائشة، واستحيتْ من هذا الموقف، فأخبرها رسول الله أن الأمر ليس كذلك، فهذا موقف ينشغل كُلٌّ بنفسه، والحال أصعب من أن ينظر أحد لأحد.
إذن: النفي لنفع الأنساب، لا للأنساب نفسها.
وإنْ كان نفع الأنساب يمتنع لهول الآخرة فقد يتسامى الإنسان فيمنع نفعه حتى في الدنيا عن ذوي قرابته إنْ كانوا غير مؤمنين، وقد ضربها الله مثلاً في قصة نوح - عليه السلام - وولده، وخاطبه(16/10154)
ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. .} [هود: 46] فامتنع النسب حتى في الدنيا، فالنبوة ليست بُنوة الدم واللحم، البنوة - خاصة عند الأنبياء - بنوة عمل واتباع.
وإذا تأملتَ تاريخ المسلمين الأوائل لوجدتهم يعتزُّون بالإسلام، لا بالأنساب، فالدين والعقيدة هما اللُّحمْة، وهما الرابطة القوية التي تربط الإنسان بغيره، وإنْ كان أدنى منه في مقاييس الحياة.
قرأنا في قصة بدر أن مصعب بن عمير - رضوان الله عليه - وكان فتى قريش المدلل، وأغنى أغنيائها، يلبس أفخر الثياب ويعيش ألين عيشة، فلما أُشرِب قلبه الإيمان زهد في كل هذا النعيم، وحُرِم من خير أهله، ثم هاجر إلى المدينة، وهناك رآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلبس جلد شاة فقال: «انظروا ماذا فعل الإيمان بأخيكم» .
وفي المعركة، رأى مصعب أخاه أبا عزيز أسيراً في يد واحد من الأنصار هو الصحابي أبو اليَسَر فقال له مصعب: اشدد على(16/10155)
أسيرك - يعني: إياك أن يفلت منك - فإن أُمَّه غنية، وستفديه بمال كثير، فنظر أو عزيز إلى مصعب وقال: أهذا وصاتك بأخيك؟ فقال: هذا أخي دونك.
إذن: فلا أنسابَ بينهم، حتى في الدنيا قبل الآخرة.
وفي غزوة أحد استُشهد مصعب بن عمير، ولم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا ثوباً قَصيراً، إنْ غطى رأسه انكشفتْ رِجْلاه، وإنْ غطّى رِجْلَيْه انكشفت رأسه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «غطوا رأسه، واجعلوا على رِجْلَيْه من الإذخر» .
والسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان لما أسلمتْ وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، لكن اتهمها البعض بأنها هاجرت لا من إجل دينها، ولكن من أجل زوجها، فيشاء الله تعالى أن يُظهِر براءتها، فينتصَّر زوجها عبيد الله بن جحش هناك وتظل هي على الإيمان، ولَما علم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمرها أراد أن يعوضها فخطبها لنفسه، ولم ينتظر إلى أن تجيء ليعقد عليها، فوكّل النجاشي ملك الحبشة ليعقد له عليها.
وبعد زواجها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أبوها سفيان زيارتها، وكانت تمهِّد فراش رسول الله، فلما أراد أبو سفيان أن يجلس عليه نَحَّتْهُ جانباً، ومنعتْه أن يجلس - وهو كافر - على فراش رسول الله،(16/10156)
فقال: أضنَاً بالفراش عليَّ؟ فقالت: نعم.
إذن: نَفْع الأنساب يمتنع في الدنيا قبل امتناعه في الآخرة، لكن الحق - سبحانه وتعالى - تفضّل بأن أبقى مطلوبات النسب في الدنيا ودعانا إلى الحفاظ عليها حتى مع الكافرين؛ لأنه سبحانه وَسِع الكافر، فعلى المؤمن أن يسعه من باب أَوْلَى، فإنْ رأيت الكافر في شدة وقدرت أن تُعينه فَاعِنْه.
واقرأ في هذا قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً. .} [لقمان: 15] .
فهما كافران، بل ويريدانك كافراً، ومع ذلك احفظ لهما حَقَّ النسب، ولا تقطع الصلة بهما.
ويُرْوَى أن إبراهيم - عليه السلام - وقد أعطاه الله الخُلَّة، وقال عنه: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وابتلاه بكلمات فأتمهُنَّ، مرَّ عليه عابر سبيل بليل، فقبل أن يُدخِله ويُضيفه سأله عن ديانته، فأخبره أنه غير مؤمن، فأعرض عنه إبراهيم - عليه السلام - وتركه ينصرف، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم وسعْتُ عبدي وهو كافر بي، وتريده أن يغير دينه لضيافة ليلة؟ فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب ربه له في شأنه، فقال الرجل: نِعْم الرب الذي يعاتب أحبابه في أمر أعدائه، وشهد أن لا إله إلا الله وأن إبراهيم رسول الله.(16/10157)
ويرتقي أهل المعرفة بالنسب، فيروْنَ أنه يتعدَّى الارتباط بسبب وجودك، وهو الأب أو الأم، فالنسب وإن كان ميلاد شيء من شيء، أو تفرُّع شيء من شيء، فهناك نسب أعلى، لا لمن أوجدك بسبب، وإنما لمن أوجدك بلا سبب الوجود الأول، فكان عليك أن تراعي هذا النسب أولاً الذي أوجدك من عدم، وإنْ أثبت حقاً للوالدين؛ لأنهما سبب وجودك.
فكيف بالموجد الأعلى؟
وقوله تعالى: {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] سأل: تقتضي سائلاً ومسئولاً، أمّا الفعل (تساءل) فيدل على المفاعلة يعني: كل منهما سائل مرة، ومسئول أخرى، كما تقول: شارك محمد عمرًا، وقاتل. . الخ.
وقد اعترض على هذه الآية بعض المستشرقين الذين يحبون أن يتوركوا على كتاب الله، قائلين: إن المسلمين ينظرون إلى كتاب الله بمهابة وتقديس يمنعهم ويحجب عقولهم عن تعقُّل ما فيه، لماذا وقد قال تعالى عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] ؟
يقول هؤلاء: إن القرآن نفى التساؤل في هذه الآية، وأثبته في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الطور: 25] في الحوار بين الكفار.
وهناك تساؤل بين المؤمنين والكافرين: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ المجرمين مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين} [المدثر: 38 - 46] .(16/10158)
ومرة يكون التساؤل بين المؤمنين بعضهم وبعض: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} [الطور: 25 - 28] .
إذن: كيف بعد ذلك ينفي التساؤل؟ ويقول: {وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] .
وهذا التضارب الذي يروْنَه تضارب ظاهري؛ لأنه هناك فرقاً بين أن تسمع عن شيء وبين أن تُفاجأ به وأنت غير مؤمن، لقد قالوا: {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] .
فحين فُوجئوا بالنفخ في الصُّور، وداهمتهم القيامة التي كانوا يُكذِّبون بها بُهِتوا ودُهِشُوا، وخرست ألسنتهم عن الكلام من شدة دهشتهم، وكيف وما كانوا ينكرونه ماثل أمامهم فجأة، ثم يتدرجون من هذه الحالة إلى أن يأخذوه أمراً واقعاً لا مَفرَّ منه، فيبدأون بالكلام ويسأل بعضهم بعضاً عَمَّا هم فيه وعَمَّا نزل بهم.
إذن: فالسؤال له زمن، ونَفْي السؤال له زمن؛ لذلك يقولون في مثل هذه المسألة أن الجهة مُنفكَّة، فإذا رأيتَ شيئاً واحداً أُثبتَ مرة، ونُفِي أخرى من قائل واحد منسوب إلى الحكمة وعدم التضارب، فاعلم أن الجهة مُنفكّة.
ومثل هذا الموقف من أهل الاستشراق وقفوه أيضاً في سؤال أهل المعاصي، حيث يقول تعالى في إثبات سؤالهم: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ويقول في نفي سؤالهم {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ}
[الرحمن: 39] فكيف يثبت الفعل وينفيه، والفاعل واحد؟(16/10159)
وهذا الاعتراض منهم ناشيء عن عدم فَهْم للغة القرآن والمَلَكة العربية، أو لأنهم يريدون مجرد الاستدراك على كتاب الله وإثارة الشكوك حوله. لكن رُبَّ ضارَّة نافعة، فقد حرّكت شكوكهم ومآخذهم علماء المسلمين للتصدِّي لهم، وللرد على أباطيلهم وكشف نواياهم، فمثلنا كمثل الذي يستعد لملاقاة المرض بالطُّعْم المناسب الذي يعطي للجسم مناعة وحصانة ضد هذا المرض.
وسيدنا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وكان القرآن ينطق على وَفْق ما يريد، يرى الناس يُقبِّلون الحجر الأسود، فتوقع أن يتكلم الناس في هذه المسألة، وكيف أن الدين ينهاهم عن عبادة الأصنام وهي حجارة ويأمرهم بتقبيل الحجر، وكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يُقبّله ويقول: «والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبّلك ما قبَّلتك» .
فلفت الناس إلى أصل التشريع وأن الحجرية لا عبادةَ لها عندنا، لكن عندنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو مُشرِّع لنا وواجب علينا اتباعه، وهكذا كان ردّ عمر على مَنْ أثاروا هذه الفتنة.
ولما تكلم عمر في غلاء المهور وكان مُلْهماً يوافق قولُه قولَ القرآن الكريم، وقفتْ له امرأة وراجعته وقالت له: اخطأتَ يا عمر، كيف تنهى عن الغلاء في المهور، والله تعالى يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً. .} [النساء: 20] .(16/10160)
فأجار أن يكون المهر قنطاراً من ذهب، عندها قال عمربجلالة قدره: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» ليبين أنه لا كبيرَ أمام شرع الله.
إذن: هذه مسائل مرسومة ولها أصل، يجب أن تُعلم لنردّ بها حين نسأل في أمور ديننا.
نعود إلى مسألة سؤال أهل المعصية، حيث نفاه القرآن مرة وأثبته أخرى. ونقول: جاء القرآن بأسلوب العرب وطريقتهم، والسؤال في الأسلوب العربي إما سؤال مِمَّنْ يجهل ويريد المعرفة، كما يسأل التلميذ مُعلِّمه، أو يسأل العالم الجاهل لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما يريد.
فإذا نفى الله تعالى السؤال، فلا تظنوا أنه يسألكم ليعرف منكم، إنما يسألكم لتقروا؛ لذلك قال سبحانه: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14] .
إذن: إثبات السؤال له معنى، ونَفْيه له معنى، فإذا نفى فقد نفى سؤال العلم من جهتهم، وإذا أثبت فقد أثبت سؤال الإقرار من جهتهم؛ لتكون الحجة ألزم؛ لأن الإقرار سيد الأدلة.
وقد أوضحنا هذه المسألة بمثال: التلميذ المهمل الذي يتظاهر أمام أبيه بالمذاكرة، فيفتح كتابه ويهزّ رأسه كأنه يقرأ، فإذا ما سأله والده لم يجده حصَّل شيئاً، فيقول له: ذاكرت وما ذاكرت.(16/10161)
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى مخاطباً رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] هكذا نَفْي وإثبات في آية واحدة لفاعل واحد، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ فعلاً حَفْنة من الحصى ورَمَى بها نحو الأعداء، لكن هل في قدرته أن يُوصّل هذه الحفنة إلى أعين الأعداء جميعاً؟ فالعمل والرمي للرسول، والنتيجة والغاية لله عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول الحق سبحانة: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ. .} .(16/10162)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
ثقُلَتْ وخفَّتْ هنا للحسنات. يعني: كانت حسناته كثيرة أو كانت قليلة.
ويمكن أن نقول: ثقلت موازينه بالسيئات يعني: كثُرَتْ الحسنات، لكن القرآن تكلم من ناحية أن العمدة في الأمر الحسنات.
والميزان يقوم على كِفَّتين في أحدهما الموزون، وفي الأخرى الموزون به، وللوزن ثلاث صور عقلية: أن يخفّ الموزون، أو يخف الموزون به، أو يستويا، وقد ذكرت الآية حالتين: خفت(16/10162)
موازينه، وثقلت موازينه، كما جاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 6 - 11] .
أما حالة التساوي فقد جاءت لها إشارة رمزية في سورة الأعراف: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} [الأعراف: 46 - 47] .
فمَنْ غلبت حسناته ذهب إلى الجنة، ومَنْ غلبت سيئاته ذهب إلى النار؛ وبقي أهل الأعراف بين الجنة والنار؛ لأنهم تساوت عندهم كِفَّتا الميزان، فلا هو من أهل الجنة، ولا هو من أهل النار، فهم على الأعراف، وهو السُّور بين الجنة والنار ينظرون إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
ثم يقول تعالى في شأنهم: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] ؛ لأن رحمة الله سبقتْ غضبه، وعفوه سبق عقابه.
ومعنى ثقلت موازينه وخفت موازينه يدل على أن الأعمال تصبح ولها كثافة وجِرْم يعطي ثقلاً، أو أن الله تعالى يخلق في كل عمل له كتلة، فحسنةُ كذا بكذا، والمراد من الميزان دِقَّة الفَصْل والحساب.
ونلحظ في الآية: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. .} [المؤمنون: 102] بالجمع ولم يقل: ميزانه، لماذا؟ قالوا: لأنه يمكن أن يكون لكل جهة عمل ميزان خاص، فللصلاة ميزان، وللمال ميزان، وللحج ميزان. . إلخ ثم تُجمع له كل هذه الموازين.
وقوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ. .} [المؤمنون: 103] لأنهم أخذوا لها القليل العاجل، وفوَّتوا عليها الكثير الآجل، وسارعوا إلى متعة فانية، وتركوا متعة باقية؛ لأن الدنيا(16/10163)
أجلها محدود؛ والزمن فيها مظنون، والخير فيها على قَدْر إمكانات أهلها.
أما الآخرة فزمنها مُتيقّن، وأجلها ممدود خالد، والخير فيها على قَدْر إمكانات المنعِم عَزَّ وجَلَّ، فلو قارنتَ هذا بذاك لتبيّن لك مدى ما خَسِروا، لذلك تكون النتيجة أنهم {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103] .
ثم يعطينا الحق سبحانه صورة تُبشِّع الجزاء في جهنم، وتُصوِّر أهوالها، وذلك رحمة بنا لنرتدع من قريب، ونعمل جاهدين على أن ننجي أنفسنا من هذا المصير، وننفر من هذه العاقبة البشعة، كما يقول الشرع بداية: سنقطع يد السارق، فهو لا يريد أن يقطع أيدي الناس، إنما يريد أن يمنعهم ويحذرهم هذه العاقبة.
ومن ذلك قوله تعالى في مسألة القصاص: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب. .} [البقرة: 179] .
وقد هُوجم القِصَاص كثيراً من أعداء الإسلام، إذ يقولون: يكفي أن قُتِل واحد من المجتمع، فكيف نقتل الآخر؟ والقرآن لم يضع القصاص ليقتل الاثنين، إنما وضعه ليمنع القتل، وليستبقي القاتل والقتيل أحياء، فحين يعرف القاتل أنه سيُقتل قصاصاً يمتنع ويرتدع، فإن امتنع عن القتل فقد أحيينا القاتل والقتيل، وقد عبَّروا عن هذا المعنى فقالوا: القتل أنفى للقتل.
يقول تعالى في تبشيع جهنم: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ. .} .(16/10164)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
اللفْح: أن تمسَّ النار بحرارتها الشيء فتشويه، ومثله النَّفْح(16/10164)
{وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون: 104] كلمة «كالح» نقولها حتى في العامية: فلان كالح الوجه. يعني تغيّر وجهه تغيُّراً ينكر لا تستريح له، وضربوا للوجه الكالح مثلاً برأس الخروف المشوية التي غيَّرت النار ملامحها، فأصبحت مُشوَّهة كالحة تلتصق الشَّفَة العليا بجبهته، والسفلى بصدره، فتظهر أسنانه في شكل منفر.
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطاباً يُلقي اللوم عليه ويُحملهم مسئولية ما وصلوا إليه، فلم يعذبهم ربهم ابتداءً، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم، وأرسل إليهم رسولاً يحمل منهجاً يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي، ونبَّههم إلى كل شيء، ومع ذلك عصَوْا وكذَّبوا، ولم يستأنفوا عملاً جديداً على وَفْق ما أمر الله. إذن: فهُم المقصرون.(16/10165)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
يعني: أنتم السبب فيما أنتم فيه من العذاب، فليس للناس على الله حجة بعد الرسل، وليس لأحد عذر بعد البلاغ، لذلك حينما يدخل أهل النار النارَ يخاطبهم ربهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ. .} [الزمر: 71] .
فالآية تثبت أنهم هم المذنبون أمام نفوسهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] فلم نفاجئهم بعقوبة على شيء لم نُبصِّرهم به، إنما أرسلنا إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم ويُبشِّرهم وينذرهم.
والإنذار بالشر قبل أن يقع نعمة من النعم، كما قلنا في سورة الرحمن عن قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 35 - 36] وهل النار(16/10165)
والشواظ نعمة؟ نعم نعمة؛ لأننا نحذرك منها قبل وقوعها، وأنت ما زِلْتَ في سعة الدنيا، وأمامك فرصة الاستدراك.
والآيات - كما قلنا - تُطلَق على الآيات الكونية التي تلفت الناس إلى وجود الخالق الأعلى الذي أنشأ هذا الكون بهذه الهندسة البديعة، وتُطلَق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلَق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن.
وقد جئناكم بكل هذه الآيات تُتْلَى عليكم وتسمعونها وترونها، ومع ذلك كذَّبْتم، ومعنى {تتلى عَلَيْكُمْ. .} [المؤمنون: 105] أننا نبهناكم إليها، ولفتْنَا أنظاركم إلى تأملها، حتى لا تقولوا: غفلنا عنها.(16/10166)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{شِقْوَتُنَا. .} [المؤمنون: 106] أي: الشقاوة وهي الألم الذي يملك كل ملكات النفس لا يترك منها جانباً، يقولون: فلان شقي يعني مُضيَّق عليه ومُتعَب في كل أمور حياته، لا يرى راحة في شيء منها.
وكأنهم بقولهم: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا. .} [المؤمنون: 106] يريدون أن يُبِعِدوا المسألة عن أنفسهم ويُلْقون بها عند الله تعالى، يقولون: يا رب لقد كتبتَ علينا الشقوة من الأزل، فلا ذنبَ لنا، وكيف نسعد نحن أنفسنا؟ يقولون: لو شاء ربنا ما فعلنا ذلك.
ونقول لهم: لقد كتب الله عليكم أزلاً؛ لأنه سبحانة علم أنكم ستختارون هذا.(16/10166)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
فوصفوا أنفسهم بالظلم، كما قال سبحانه عنهم في آية أخرى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] .
فيقول الحق سبحانه: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} .(16/10167)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{اخسئوا} [المؤمنون: 108] كلمة بليغة في الزجر تعني: السكوت مع الذّلة والهوان؛ لذلك يقولونها للكلاب، وقد تقول لصاحبك: اسكت على سبيل التكريم له، كما لو حدَّثك عن فضلك عليه، وأنك قدَّمْتَ له كذا وكذا فتقول له: اسكت اسكت، تريد له العزة، وألاَّ يقف أمامك موقف الضعف والذلة.
والخسوء من معانيها أنك تضعف عن تحمُّل الشيء، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] يعني: ضعيف عن تحمُّل الضوء.
وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] يعني: مطرودون مُبْعدون عن سُمو الإنسانية وعِزّتها؛ لذلك نرى القردة مفضوحي السَّوْءة، خفيفي الحركة بما لا يتناسب وكرامة الإنسان.
إذن: ليس المراد أنهم أصبحوا قردة، إنما كونوا على هيئة القردة؛ لذلك نراهم حتى الآن لا يهتمون بمسألة العِرْض وانكشاف العورة.
إذن: المعنى {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] اسكتوا سكوتاً بذلّة وهَوَان، ويكفي ما صنعتموه بالمؤمنين بي؛ فيقول الحق سبحانه:(16/10167)
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا. .} .(16/10168)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
والمراد هنا الضعاف من المؤمنين أمثال عمار وبلال وخباب بن الأرت، وكانوا يقولون هذا الكلام، وهو كلام طيب لا يرد، بل يجب أن يُسمع، وأن يُحتذَى به، ويُؤخَذ قدوة.(16/10168)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
تكلمنا عن هذه المسألة في قوله تعالى: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 29 - 36] .
إذن: اتخذ الكفار ضعاف المؤمنين محلَّ سخرية واستهزاء، وبالغوا في ذلك، حتى لم يَعُدْ لهم شُغل غير هذا، وحتى شغلهم الاستهزاء والسخرية عن التفكّر والتأمل فلم يَبْقَ عندهم طاقة فكرية(16/10168)
تفكر فيما آمن به هؤلاء، وهذا معنى: {حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي. .} [المؤمنون: 110] أي: شغلكم الاستهزاء بالمؤمنين عن الإيمان بمَنْ خلقكم وخلقهم.
ويا ليت الأمر توقّف عند هذا الحد من السخرية، إنما تعداه إلى أن يضحكوا من أهل الإيمان، ويُضِحكوا أهلهم {وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون: 110] وفي الآية الأخرى: {وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] وسخرية أهل الباطل من أهل الحق موجودة في كل زمان، وحتى الآن نرى مَنْ يسخرون من أهل الاستقامة والدين والورع ويتندَّرون بهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ. .} .(16/10169)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
لما صبر أهل الإيمان على الاستهزاء والسخرية عوَّضهم الله تكريماً ونعيماً، وهذه مسألة يجب ألاَّ يغفل عنها المؤمن حين يسخر منه أعداؤه، عليه أن يتذكر عطاء ربه وجزاء صبره، وإنْ كان الساخر منك عبداً له قدرته المحدودة، فالمكرِّم لك ربك بقدرة لا حدودَ لها، ولك أن تقارن إذن بين مشقة الصبر على أذاهم، ولذة النعيم الذي تجده بعد ذلك جزاء صبرك.(16/10169)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
لبث: مكث وأقام، فالمعنى: ما عدد السنين التي ظللتموها في الأرض، لكن لماذا هذا السؤال؟
قالوا: لأن الذي شغلكم عن دين يضمن لكم ميعاداً خالداً، ونعيماً باقياً هو الدنيا التي صرفتكم بزينتها وزخرفها وشهواتها -(16/10169)
وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - وعلى فرض أنكم تمتعتم بهذا في الدنيا - فهل يُقارن بما أُعِدَّ للمؤمنين في الآخرة من النعيم المقيم الذي لا يفوتهم ولا يفوتونه؟
والقيامة حين تقوم ستقوم على قوم ماتوا في ساعتها، فيكون لبثهم قريباً، وعلى أناس ماتوا من أيام آدم فيكون لبثهم طويلاً، إذن: فاللبث في الأرض مقول بالتشكيك كما يقولون، لكن هل يدرك الأموات المدة التي لبثوها في الأرض؟ معلوم أنهم لا يدركون الزمن؛ لأن إدراك الزمن إنما يتأتَّى بمشاهدة الأحداث، فالميت لا يشعر بالزمن؛ لأنه لا يعيش أحداثاً، كالنائم لا يدري المدة التي نامها، وكُلُّ مَنْ سُئِلَ هذا السؤال قال {يَوْماً أَوْ بَعْضَ. .} [البقرة: 259] .
قالها العُزَير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، وقالها أهل الكهف الذين أنامهم الله ثلاثمائة سنة وتسعاً؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن يتخيلها الإنسان لنومه، ولا يستطيع النائم تحديد ذلك بدقة؛ لأن الزمن ابْنُ الحدث، فإن انعدم الحدث إنعدم الزمن.
لذلك يقول تعالى عَمَّنْ ماتوا حتى من أيام آدم عليه السلام: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .
وكذلك يقول هؤلاء أيضاً في الإجابة على هذا السؤال: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ. .} .(16/10170)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
أي: أصحاب العدِّ الذين يمكنهم العدُّ والحساب؛ لأننا لم نكن في وعينا لنعُد كما لبثنا، والمراد بالعادِّين هم الملائكة الذين يعدُّون الأيام ويحسبونها.(16/10170)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
إنْ: بمعنى ما، يعني: ما لبثتم إلا قليلاً، فمهما قدَّرْتم من طول الحياة حتى مَنْ مات منذ أيام آدم عليه السلام، فسيكون قليلاً بالمقارنة بالزمن الذي ينتظركم في الجزاء الأخروي، فما لبثتموه في الدنيا لا يُقَاس بعذاب الآخرة الممتد الباقي، هذا {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] تعلمون طول ما تصيرون إليه من العذاب الخالد المقيم.(16/10171)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
(حسبتم) ظننتم يعني: ماذا كنتم تظنون في خَلْقنا لكم؟ كما قال في موضع آخر: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وكلمة {عَبَثاً. .} [المؤمنون: 115] العَبَث هو الفعل الذي لا غايةَ له ولا فائدةَ منه، كما تقول: فيم تعبث؟ لمن يفعل فِعْلاً لا جدوى منه، وغير العبث نقول: الجد ونقول: اللعب واللهو، كلها أفعال في حركات الحياة. لكن الجد: هو أن تعمل العمل لغاية مرسومة.
أما اللعب فهو أن تعمل عملاً هو في واقع الأمر لا غاية له الآن إلا دُرْبتك أنت على الحركة وشُغْل ملكاتك حتى لا تتوجه إلى فساد شيء أو الإضرار بشيء، كما تشتري لولدك لعبة يلهو بها، وينشغل بها عن الأشياء القيِّمة في المنزل، والتي إنْ لعب بها حطّمها، فأنت(16/10171)
تصرف حركاته إلى شيء لتمنعه عن أشياء ضارة، أو تُعلِّمه باللعب شيئاً يفيده فيما بعد، كالسباحة أو ركوب الخيل.
واللهو كاللعب في أنه يكون لغاية قد تأتي بعد، أو لغاية تنفي ضرراً، إلا أن اللعب حين تزاوله لا يشغلك عن مطلوب، أما اللهو فهو الذي يشغلك عن مطلوب، فمثلاً الطفل دون السابعة يلعب في أوقات الصلاة، فيُسمّى فعله لعباً، فإنْ كان في العاشرة يُسمَّي فِعْله لَهْواً؛ لأنه شغله عن الصلاة، وهي واجبة عليه.
واللعب يُدربك على أشياء قد تحتاجها وقت الجد فتكون سهلة عليك، أما العبث فلا فائدةَ منه، لذلك قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً. .} [المؤمنون: 115] فنفي أن يكون الخَلْق عبثاً بلا غاية؛ لأن الله تعالى خلق الخَلْق لغاية مرسومة، ووضع لها منهجاً يحدد هذه الغاية، ولا يضع المنهج للخَلْق إلا الخالق.
كما قلنا سابقاً: إن الصانع الذي صنع هذا الميكروفون لم يصنعه ثم طلب منا أن نبحث له عن مهمة، إنما قبْل أنْ يصنعه حدد له مهمته والغاية منه، وهي أن ينقل الصوت لمسافات بعيدة، إذن: فالغاية مرسومة بدايةً وقبل العمل.
فالذي يحدد الغاية هو الصانع المبدع للشيء، وهو أيضاً الذي يحدد صلاح الصنعة لغايتها، ويحدد قانون صيانتها لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وأنت أيها الإنسان صنعة الله فَدَعْهُ يحدد لك غايتك، ويضع لك منهج حياتك وقانون صيانتك، بافعل كذا ولا تفعل كذا.
إذن: فساد الدنيا يأتي من ان الصنعة تريد أن تأخذ حق الصانع في تحديد الغاية، وفي تحديد المنهج، وقانون الصيانة، وليس من مهمتها ذلك، والخالق حينما يحدد لك المنهج الذي(16/10172)
يُعينك على غايتك، إنما أنت: متى تستطيع أن تدرك الأشياء لتضع غاية أو تضع قانون الصيانة؟
إنك لا يمكن أن تبلغ هذا المبلغ قبل سِنِّ العشرين على أحسن تقدير، فمَنْ - إذن - يضع لك غايتك وقانون صيانتك قبل هذه السنِّ؟ لا أحدَ غير خالقك عَزَّ وَجَلَّ، ولن يستقيم الحال إلا إذا تركنا الصَّنْعة للصانع غايةً ومنهجاً وصيانة.
وكيف تظن أن الله تعالى خلقك عَبثاً، وهو الذي استدعاك للوجود وأعدَّ لك مُقوِّمات حياتك وضرورياتها، وحثَّك بإعمال عقلك في هذه المقومات لتستطيع أن تُرفِّه بالطاقة والقدرة المخلوقة لله تعالى لتُسعِدَ نفسك وتُرفِّه حياتك.
وقد كنا في الماضي نجلس على ضوء المسرجة، والآن على أضواء النيون والكريستال، ومهما ترفهت حياتك وتوفرت لك وسائل الراحة فلا تنْسَ أنها عطَاء من الله في المادة وفي الطاقة وفي العقل المفكر، كلها مخلوقة لله عزَ وجل، لا تملك أنت منها شيئاً، بدليل أن الله إذا سلبك العقل لَصِرت مجنوناً، ولو سلبك الطاقة والقدرة لصرتَ ضَعيفاً لا تستطيع مجرد التنفس، فهذه نِعَمٌ موهوبة لك ليست ذاتية فيك.
إذن: عليك أن تتأمل في خالقك عَزَّ وَجَلَّ، وما وهبك من مقومات الحياة، لتعلم أن هذا الخَلْق لا يمكن أن يكون عبثاً، ولا بد أن له غاية رسمها الخالق سبحانه، وأنت في ذاتك تحاول أن تضع لك غاية في جزئية ما من الغاية الكبرى التي خلقك الله لها.
أَلاَ ترى الولد الصغير كيف تعتني به وتُعلِّمه وتنفق عليه مرحلة بعد الأخرى، حتى يصل إلى الجامعة، وتتعلق أنت بأمل كبير في أن(16/10173)
يكون لولدك هذا مكانة في المجتمع ومنزلة بين الناس؟ هذه العملية في حد ذاتها غاية، لكن بعد أن يحصل على الوظيفة المرموقة والمكانة والمنزلة ينتهي الأمر بالموت.
إذن: لا بُدَّ من وجود غاية أخرى أعظم من هذه، غاية لا يدركها الفناء، وليس لها بعد، هذه الغاية الكبرى هي لقاء الله وملاقاة الجزاء، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وعلينا أن نأخذ كل مسائل الحياة وجزئياتها في ضوء هذه الحقيقة، أننا لم نُخلَق عَبثاً، بل لغاية مراده لله، ولها أسباب توصل إليها.
ثم يقول سبحانه: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] (تُرجَعون) يعني: رَغْماً عنكم، ودون إرادتكم، كأن شيئاً ما يسوقهم، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] يعني: يُدفعون إليها، ويُضربون على أقفائِهم، ويُسَاقون سَوْقَ الدواب.(16/10174)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
{فَتَعَالَى. .} [المؤمنون: 116] تنزَّه وتقدَّس، وكلمة العلو تعني علو المنزلة. نقول: علا فلان على فلان، أما حين نقول: تعالى الله، فالمراد العلو الأعلى، وإن وهب علواً للغير فهو عُلو الداني، وعلو المتغير، بدليل أنه تعالى يُعليك، وإنْ شاء سلبك، فالعلو ليس ذاتياً فيك.(16/10174)
وكلمة المِلك نعرفها فيمَنْ يملك قطعة من الأرض بمَنْ فيها ويحكم وله رعية، ومن هذه المادة: المالك. ويُطلَق على أيِّ مالك لأيِّ شيء، ولو لم يكن لديه إلا الثوب الذي يلبسه فهو مالك، أما: المَلِك فهو مَنْ يملك الذين يملكون، فله ملك على المالكين، وهذا المَلِك لم يأخذ مُلْكه بذاته، إنما بإيتاء الله له.
لذلك يقول تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ. .} [آل عمران: 26] .
فلو كان مُلْك هؤلاء الملوك ذاتياً ما نُزِع منهم، أَلاَ ترى الملِك من ملوك الدنيا يقوي ويستتب له الأمر، ويكون له صولجان وبَطْش وفَتْك. . إلخ، ومع كل هذا لا يستطيع الاحتفاظ بملكه؟ وفي لحظة ينهار هذا الملْك ولو على يد جندي من جنوده، بل وربما تلفظه بلاده، ولا تقبل حتى أنْ يُدفن بها، وتتطوع له بعض الدول، وتقبل أنْ تُواري رفاته بأرضها، فأيُّ ملك هذا؟
وهذه آية من الآيات نراها في كل عصر - وكأنها قائمة - دليلاً على صدق الآية: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ. .} [آل عمران: 26] إذن: إنْ ملكك الله فاعلم أنه مُلْك موهوب، مهما استتب لك فلا تضمن بقاءه؛ لأن الله تعالى ملَّكك لغاية، ولا يملك الغاية إلا هو سبحانه.
لذلك كان الحق - سبحانه وتعالى - {الملك الحق. .} [المؤمنون: 116] يعني: الذي لا يزحزحه أحد عن مُلْكه، أو يسلبه منه، وهو الذي يتصرّف في مُلْكه كيف يشاء لا ينازعه فيه أحد، وإنْ أعطى من باطن مُلْكه تعالى مُلْكاً لأحد، فيظل في يده سبحانه زمام هذا الملْك، إنْ شاء بسطه، وإنْ شاء سلبه ونزعه. فهو وحده الملك(16/10175)
الحق، أما غيره فمُلْكهم موهوب مسلوب، وإنْ مَلَّك سبحانه أناساً. أَمْرَ أناس في الدنيا يأتي يوم القيامة فيقول: {لِّمَنِ الملك اليوم. .} [غافر: 16] .
وتلحظ أن كلمة {تُؤْتِي الملك. .} [آل عمران: 26] سهلة على خلاف {وَتَنزِعُ الملك. .} [آل عمران: 26] ، ففي النزع دليل على المشقة والمعاناة؛ لأن صاحب الملْك يحاول أن يتمسك به ويتشبَّث وينازع، لكن أينازع الله؟
فقوله سبحانه: {فَتَعَالَى الله الملك الحق. .} [المؤمنون: 116] المراد: تعالى عن أن يكون خَلْقكم عَبثاً، وتعالى عن أنْ تشردوا من قبضته، أو تخرجوا عن نفوذه، أو تستقِلُّوا بخَلْقكم عن سيطرته، وتعالى أن تُفلتوا من عقابة أو تمتنعوا عنه؛ لأنه لا إله غيره: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [المؤمنون: 116] .
فالحق تبارك وتعالى يحكم في إطار: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] .
فإذا قال لك شيئاً فاعلم أنه لا إله غيره يعارضه.
والعرش: رمز لاستتباب الأمر للمالك؛ لأنه ينشغل بتدبير مُلْكه والقَضاء على المناوئين له وتأديب أعدائه، فإذا ما استتبّ له ذلك جلس على عرشه، إذن: الجلوس على العرش يعني استقرارَ الأمور واستتباب أمر الملك؛ لذلك فإن الحق سبحانه بعد أن خلق الخَلْق استوى على العرش.
والعرش يفيد أيضاً السيطرة والتحكم، وعَرْش الله عرش كريم؛(16/10176)
لأنه تعالى عليك لا ليُذلّك ويهنيك، وإنما تعالى عليك ليعاليك إليه ويعطيك من فضله. كما سبق أنْ قُلْنا: إن من مصلحتنا أن يكون الله تعالى مُتكبِّراً، ومن عظمة الحق سبحانه أن يكون له الكبرياء، فساعة يعلم الجميع أن الكبرياء لله وحدة لا يتكبر أحد على أحد.
يقول الحق سبحانه: {وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الجاثية: 37] .
لذلك يقولون في الأمثال: (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) يعني: ليعيش في ظله، فالحق - تبارك وتعالى - يتعالى لصالح خَلْقه.
ومن ذلك ما قُلْناه في مسألة العبودية، وأنها مكروهه ثقيلة إنْ كانت للبشر؛ لأن السيد يأخذ خير عبده، إنما هي محبوبة إنْ كانت لله تعالى؛ لأن العبودية لله يأخذ العبد خير ربه.
فإنْ كانت عروش الدنيا للسيطرة والتحكُّم في مصائر الناس وامتصاص دمائهم وأَخْذ خيراتهم، فعرش ربك عَرْش كريم، والكريم في كل شيء أشرف غاياته، اقرأ قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25 - 26] .
وحين يوصينا بالوالدين، يقول سبحانه: {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23] .
فالعرش الكريم أشرف غايات الملْك؛ لأن الملْك ليس تسلُّطاً وقَهْراً، إنما هو مَلْك لصالح الناس، والحق - تبارك وتعالى - حينما خلق الحياة وزَّع فيها أسباب الفضل، ولكنه جعل فيها القويّ القادر، وجعل فيها الضعيف العاجز، ثم أمر القوي أنْ يأخذ بيد الضعيف،(16/10177)
وأنْ يعوله، فالكرم استطراق نفع القوى للضعيف، فكل خَصلْة من خصال الخير توصف بالكرم.
إذن: إياك أن تفهم أن عرش ربك للسيطرة والعُلو والجبروت؛ لأنه عرش كريم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ. .} .(16/10178)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{يَدْعُ مَعَ الله. .} [المؤمنون: 117] يعني: يعبد مع الله، والعبادة طاعة المعبود في أمره ونَهْيه، لكن كيف تدعو إلهاً، لا ينفعك ولا يضرُّك، ولا برهانَ عندك على ألوهيته؟ لذلك هدده سبحانه وتوعّده بقوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ. .} [المؤمنون: 117] أي: ربه الحق {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: 117] .
وعجيبٌ أن تبدأ السورة بقوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} [المؤمنون: 117] أي: بنقيض ما بدأتْ به، وعليك أنت أنْ تتأمل ما بين هذين القوسين، وما دامت المسألة مسألة إيمان يفلح أهله، وكفر لا يفلح أهله، فتمسَّكوا بربكم، والتزموا منهجه في (افعل) و (لا تفعل) .
وإنْ غلبتكم النفس على شيء من الذنوب فتذكَّروا: {وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم. .} .(16/10178)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
إنْ هفوتم هفوة فإياكم أن تنسُوا هذه الحقيقة، والجئوا إلى ربكم فإنه غفار شرع لكم التوبة لتتوبوا، والاستغفار لتستغفروا، وهو سبحانه أرحم بكم من الوالدة بولدها، وهو خير الراحمين.
والمعنى {اغفر. .} [المؤمنون: 118] أي: الذنوب السابقة الماضية {وارحم. .} [المؤمنون: 118] أي: ارحمنا أن نقع في الذنوب فيما بعد، واعصمنا في مستقبل حياتنا من الزلل. إذن: تمسَّك بربك وبمنهج ربك في كل حال، لا يصرفك عنه صارف.(16/10179)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
اسمها سورة (النور) ، وإذا استقرأنا موضوع المُسمَّى أو المُعْنون له بسورة (النور) تجد النور شائعاً في كل أعطافها - لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها - ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا؟
قالوا: لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أيّ تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نُطْق هذه الكلمة، والنور لا يُعرَّف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئاً.
إذن: يُعرف النور بخاصيته، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن(16/10183)
ترى المرئيات، بدليل أنها إنْ كانت في ظلمة لا تراها. إذن: فالنور لا يُرَى، ولكن نرى به الأشياء، فالله تعالى نور السموات والأرض يُنوِّرهما لنا، لكن لا نراه سبحانه.
لكن، هل كل الأشياء مرائي؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوّق؟ قالوا: نعم، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولاً، ثم حين تسمع، وحين تشم، وحين تلمس، وحين تميز الثقيل من الخفيف، أو القريب من البعيد. فهذا كله فرع ما يوجد فيك، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء، فإذا ما نظرت إلى النور وجدتَ النور أمراً حسياً ترى به الأشياء.
وكانوا في الماضي يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين، فيسقط على الشيء فتراه، إلى أن جاء العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم، وأبطل هذه النظرية وقال: إن الشعاع يأتي من المرئي إلى العين فتراه، وليس العكس، واستدل على ذلك بأن الشيء إنْ كان في الظلام لا نراه، ونحن في النور، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته.
وفي ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً. .} [الإسراء: 12] فهي مُبْصِرة؛ لأن الشعاع يأتي من هناك، فكأنها هي التي ترى.
لكن، ما نَفْع هذا النور الحسيّ للإنسان الخليفة في الأرض؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملاً يعطيك خيرها ويكفّ عنك شرها، ولو لم تَرَ الأشياء ما أمكنك التعامل معها، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر؟(16/10184)
إذن: لا تستطيع أن تهتدي إلى مواضع قدمك، وتأخذ خير الأشياء، وتتجنب شرها إلا بالنور الحسيِّ، كذلك إنْ سِرْت في ظُلْمة وعلى غير هُدىً، فلا بُدَّ أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك، أو بأضعف منك فتحطمه.
لذلك سمَّى الحق - تبارك وتعالى - المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نوراً.
والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنواراً على قَدْر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه - حتى عصر الكهرباء والفلوروسنت والنيون وخلافة من وسائل الإضاءة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً، هذا في الليل، فإذا ما أشرقتْ الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم، لماذا؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد.
وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إنْ كان لله فيه توجيه، فأطفيء مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور ونورُ ربك موجود، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك، فكما أخذتَ نور الله الحسيّ فألغيتَ به كل الأنوار، فخُذْ نور الله في القيم، خُذْ نُور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أيِّ نور من أنوار البشر ومناهجهم.
أَلاَ ترى النمرود كيف بُهِتَ حينما قطع عليه إبراهيم - عليه السلام - جدله وألجأه إلى الحجة التي لا يستطيع الفكاك منها، حين قال له: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب. .} [البقرة: 258] .(16/10185)
والحق - تبارك وتعالى - يفيض من أنواره وصفات كماله على خَلْقه الذين جعلهم خلفاء له سبحانه في الأرض، فقال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. .} [البقرة: 30] والخليفة في الأرض ليس جيلاً واحداً خلقه الله واستخلفه في الأرض إلى قيام الساعة، إنما الخليفة أجيال وأنسال تتوالى، يموت واحد ويُولَد آخر في حلقات موصولة الأنسال لا الذوات.
والخليفة لا ينجح في خلافته إلا إذا سار فيها على وَفْق مراد مَن استخلفه، وآفة الناس في خلافتهم لله في الأرض أنْ يعتبروا أنفسهم أُصَلاء لا خلفاء، فالخليفة في ذِهْنه دائماً هذه الخلافة؛ لذلك يلتفت إلى الأصل، وينظر ماذا يريد منه مَن استخلفه.
والحق - تبارك وتعالى - جعل له خليفة في الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله، فالله تعالى قادر، الله عالم، الله حكيم، الله غنيّ، الله رحيم، الله غفور. . الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خَلْقه وخليفته في أرضه بعضاً من هذه الصفات، فيعطيك من قدرته قدرة، ومن رحمته رحمةً، ومن غنائه غِنىً، لكن تظل الصفة في يده تعالى أنْ شاء سلبها، أَلاَ ترى القوي قد يصير ضعيفاً، والغني قد يصير فقيراً؟
ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا، وأن هذه الهبات ليست أصلاً عندنا، إنما هي فيْض من فيض الله وهبةٌ من هباته سبحانه، لذلك علينا أن نستعملها وَفْق مراده تعالى، فإنْ أعطاك ربُّك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك، أعطاك العلم لتنثره على الناس، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير.
إذن: ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ(16/10186)
هو سبحانه بملكية هذه الصفات، فإنْ شاء سلبها منك، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخَصْلة عندك، فتُثمِّرها فيما أراده الله منك قبل أنْ تُسلَب، حتى إذا سُلِبَتْ منك نالتك من غيرك.
فتصدَّق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إنْ أصابك الفقر، وأكرم اليتيم لتجد مَنْ يُكرم يتيمك من بعدك، فإنْ قابلتَ أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأنَّ قلبك، وأمِنْتَ من حوادث الزمن، واستقبلتَ الأحداث بالرضا، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته، ويحملك كما حملته، ويتعاون معك كما تعاونتَ معه؟
وصدق الله تعالى حين قال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9] .
إذن: الحق - تبارك وتعالى - يريد من خليفته في أرضه أن يكون جِماعاً لصفات الكمال التي تسعد الخَلْقَ بآثار الخالق فيهم، وهذه هي الخلافة الحقة.
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أنْ يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى؛ لأنه كما قال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] فلو لم تكُنْ هذه الشمس ما استطاع أحد أنْ يصنع لنفسه نوراً أبداً.
فالحق - تبارك وتعالى - يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهراً شريفاً كريماً عزيزاً؛ لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليماً في وضح النهار؛ لينتج عن هذا اللقاء نَسْل طاهر جدير(16/10187)
بخلافة الله في أرضه؛ لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلَّم عن مسألة الزنى.
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة (المؤمنون) التي قال الله في أولها {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 1] ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] وهنا قال: {الزانية والزاني. .} [النور: 2] فجاء بالمقابل للذين هم لفروجهم حافظون.
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة؛ لأنه عَزَّ وَجَلَّ َّ هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يُصلحه، وهو خالق ذرّاته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق مَلَكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
إذن: طبيعي أنْ أردتَ أن تنشيء خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق، لا بُدَّ أنْ يضطرب الكون وتتصارع فيه مَلكات النفس، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إنْ جاء في الظلام؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وَأْد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات، وقد يتشكّك الرجل في ولده، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد.
إذن: لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وَفْق مواصفات ربه، وأنْ يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب، ويتفكك رباط المجتمع.
إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشكَّ في نِسْبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا(16/10188)
وهناك ويحرمه على خلاف النسْل الطاهر، حيث يتلهف الأب لولده، ويجوع ليشبع، ويتعرّى ليلبس.
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أُبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله.
ولك أنْ تُجري مقارنة بين امرأة حملتْ سفاحاً وأخرى حملتْ حَمْلاً شرعياً طاهراً، ستجد الأولى تحمله على مضض وكُرْه، وتودّ أنْ تتخلَّص منه وهو جنين في بطنها، فإنْ تحاملتْ على نفسها إلى حين ولادته تخلَّصتْ منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق.
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد، وإنْ تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء، فإنْ أكرمها الله بالحمل طارت به فرحاً وفخراً، وحافظت عليه في مَشْيها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع، فتتحمل آلامه راضيةً ثم تحتضنه وتُرضِعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته.
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على اعْيُنِ الناس جميعاً وفي نور الله المعنوي، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم.
لذلك يتوعد الحق - سبحانه وتعالى - مَنْ يخالف هذا المنهج ويريد أن يُفسِد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة، ويُدنِّس النسل، ويُوغِر الصدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشك في نفوس الخَلْق، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله.
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن، وهو ناتج عن(16/10189)
الالتقاء غير الشرعي، وخطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعدّاها إلى الغير، إذن: من صالح المجتمع كله أن نقيم حدَّ الزنا حتى لا يستشري هذا الداء.
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شَرْع الله في مسألة الحدود حين تقضي برَجْم الزاني المحْصَن حتى الموت، أَلاَ يعلم هؤلاء أننا نُضحِّي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية؟ أَلاً يروْنَ ما يحدث مثلاً في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن، ولم يجدوا له علاجاً، وكيف أن الشرع أمرنا إنْ نزل الطاعون بأرض ألاَّ نذهب إليها، وأمر مَنْ فيها ألاَّ يخرجوا منها، لماذا؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس.
كذلك الحال في مسألة الزنا؛ لأن الزاني لا يقتصر شرُّه عليه وحده، إنما يتعدّى شرُّه إلى المجتمع كله، مع مراعاة أن الشرع فرَّق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وكذلك الزانية، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد، لذلك سُئلنا في سان فرانسيسكو: لماذا أبحتم تعدُّد الزوجات، ولم تبيحوا تعدُّد الأزواج؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة: لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال؟
قلت: اسألوهم، أليس عندهم أماكن يستريح فيها الشباب جنسياً - يعني بيوت للدعارة - قالوا: نعم في بعض الولايات، قلت: فبماذا احتطتم لصحة المجتمع وسلامته؟ قالوا: نُجرِي عليهم كشفاً دورياً كل أسبوع، قلت: وهل هذا الكشف الدوري يستوعب الجميع؟ أم أنه مجرد (ششن) وعينات عشوائية.
إذن: من الممكن أن يتسرّب المرض بين هؤلاء الشباب، وهَبْ(16/10190)
أنك أجريتَ على إحداهن الكشف يوم الأحد مثلاً، وفي يوم الاثنين جاءها المرض، فإلى كم واحد سينتقل المرض إلى أنْ يأتي الأحد القادم؟ فهذه مسألة لا تستطيع السيطرة فيها على الداء.
ثم أتُجرون هذه الفحوصات على المتزوجين والمتزوجات؟ وهل اكتشفتم بينهم مثل هذه الأمراض؟ قالوا: لا لم يحدث أن اكتشفنا هذا بين المتزوجين. قلت: إذن كان عليكم أنْ تنتبهوا إلى سبب هذه الداءات، وأنها تأتي من تعدُّد ماءات الرجال في المكان الواحد؛ لأن كل ماء سياله وله ميكروبات تتصارع، إن اجتمعت في المكان الواحد فينشأ منها المرض.
لكن حين يكون للزوجة زوج واحد، فلن نرى مثل هذه الداءات في المجتمع، ومن هنا يأتي دور الوازع الديني، فإن فُقِد الوازع الديني فلا بُدَّ من الوازع الحسيّ ليزجر مثل هؤلاء ويُوقِفهم عند حدود الله رَغْماً عنهم، حتى وإنْ لم يكونوا يؤمنون بها.
إذن: هذه أقضية ومشاكل وداءات حدثتْ للناس بقدر ما أحدثوا من الفجور، وبقدر ما انتهكوا من حُرُمات الله، وانظر مثلاً لمن يُضطرّ للسفر إلى مثل هذه البلاد، كم يكون حَذراً مُفزَّعاً حين يقيم مثلاً في فندق، فيأخذ أدواته الشخصية، ويخاف أن يستعمل أشياء غيره، ويحرص على نظافة المكان وتغيير الفراش قبل أن ينام عليه. . الخ كل هذه الاحتياطات.
فالشرع حين يأمر بقتل الزاني أو الزانية إنما فعل ذلك ليسْلَمَ المجتمع بأسْره، وكثيراً ما نواجه مثل هذه الاعتراضات من أصحاب الرحمة الحمقاء والشعارات الجوفاء، أهُم أرحم بالخَلْق من الخالق؟
أَلاَ يروْن للزلزال أو لحوادث السيارات والطائرات التي تحصد الآلاف(16/10191)
من الأرواح؟ فلماذا هي الضجة حين نبتر العضو المريض من المجتمع؟
قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا. .} [النور: 1] السورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكاماً وقد تكون طويلة كسورة البقرة، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر، فليس للسورة كمية مخصوصة؛ لأنها توقيفية.
{أَنزَلْنَاهَا. .} [النور: 1] نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى مَنْ هو أدنى منه، كما يكتب الموظف مثلاً يريد التظلُّم لرئيسه: أرفع إليك كذا وكذا، فيقول الأعلى: وأنا أنزلت القرار الفلاني، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى يُنزِل للأدنى.
لذلك يقول تعالى: (أنزلنا) حتى للشيء الذي لا ينزل من السماء، كما قال سبحانه:
{وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ. .} [الحديد: 25] فالحديد وإنْ كان مصدره الأرض، إلا أنه لا يكون إلا بقدرة الأعلى سبحانه.
{وَفَرَضْنَاهَا. .} [النور: 1] الشيء المفروض يعني الواجب أن يُعمل؛ لأن المشرِّع قاله وحكم به وقدَّره، ومنه قوله سبحانه: {فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ. .} [البقرة: 237] أي: نصف ما قدَّرتم، إذن: كل شيء له حُكْم في الشرع، فإن الله تعالى مُقدِّره تقديراً حكيماً على قَدْره.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. .} [النور: 1] الآيات الواضحات، وتُطلق الآيات - كما قلنا - على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صُنْعه، وتُطلق على المعجزات التي تثبت صِدْق الرسل، وتُطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام.(16/10192)
وفي هذه السورة كثير من الأحكام إلى أن قال فيها الحق سبحانه: {الله نُورُ السماوات والأرض. .} [النور: 35] وقال: {نُّورٌ على نُورٍ. .} [النور: 35] فطالما أنكم أخذتُم نور الدنيا، وأقررتُم أنه الأحسن، وأنه إذا ظهر ألغى جميع أنواركم، فكذلك خذوا نور التشريع واعملوا به واعلموا أنه نور على نور. إذن: لديكم من الله نوران: نور حسي ونور معنوي.
{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1] بعد أنْ قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أنْ يُلهب المشاعر لتُستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتُطبِّق أحكامه التطبيق الأمثل يقول: أنزلتُ إليكم كذا لعلكم تذكرون، ففيها حَثٌّ وإلهابٌ لنستفيد بتشريع الحق للخَلْق.
ثم يتحدث الحق سبحانه عن أول قضية فيما فرضه على عبادة: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ. .} .(16/10193)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قلنا: إن الحق سبحانه تناول هذه المسألة حرصاً على سلامة النشء، وطهارة هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض، وحين نتأمل السياق القرآني في هذه الآية نجد أن كلمة الزاني تدل على كُلٍّ من الأنثى والذكر، ففي اللغة الاسم الموصول: الذي للمفرد المذكر، والتي للمفردة المؤنثة، واللذان للمثنى المذكر، واللتان للمثنى المؤنث، والذين لجمع الذكور، واللائي لجمع الإناث.
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل: مَنْ، ما، ال.(16/10193)
تقول: جاء مَنْ أكرمني، وجاءت من أكرمتني، وجاء من أكرموني.
فكذلك (ال) في (الزاني) تدل على المؤنث وعلى المذكر، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحةً ليُزيلَ ما قد يحدث عند البعض من خلاف: أيهما السبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء، فهناك مَنْ يقول: الزاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرجل لا للمرأة، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة.
لذلك الإمام الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يحكي «أن رجلاً ذهب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كَفِّر «» .
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة، وإلا لقال له الرسول: كَفِّرا.
لكن يجب أن نفرق بين وطِئ وجامع: الوَطْءُ فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة، أمَّا الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معاً؛ لذلك صرَّح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشُّبهة وهذا الخلاف.
وأرى في هذه المسألة أن الذي استفتى رسولَ الله هو الرجلُ، ولو كانت المرأة لقال لها أيضاً: كفِّري، فالحكم خاصٌّ بمن استفتى.
والمتأَمل في آيات الحدود يجد مثلاً في حَدِّ السرقة قوله تعالى(16/10194)
{والسارق والسارقة. .} [المائدة: 38] فبدَأ بالمذكر، أما في حَدِّ الزنا فقال: {الزانية والزاني. .} [النور: 2] فبدأ بالمؤنث، لماذا الاختلاف في التعبير القرآني؟
قالوا: لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه؛ لذلك أمر الحق - تبارك وتعالى - الرجال بغَضِّ البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة، ذلك ليسُدَّ نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.
أما في حالة السرقة فعادةً يكون عِبْءُ النفقة ومُؤْنة الحياة على كاهل الرجل، فهو المكلف بها؛ لذلك يسرق الرجل، أمَّا المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة، لكن لا مانعَ مع ذلك أن تسرق المرأة أيضاً؛ لذلك بدأ في السرقة بالرجل.
إذن: بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزوناً دقيقاً غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفتَ إلى مثل هذه المسائل.
ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة {فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ. .} [النور: 2] اجلدوا: أمر، لكن لمن؟ لم يقُل أيها الحاكم أو القاضي؛ لأن الأمر هنا للأمة كلها، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها، لكن أتنهض الأمة بأَسْرها وتعدّدها بفعل واحد في كل مكان؟
قالوا: الأمة مثل النائب العام للوالي، عليه أن يختار مَنْ يراه أهلاً للولاية لينفذ له ما يريد، ومَنْ ولَّى قاضياً فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فإياك أنْ تُولِّي القضاء مَنْ لا يصلح للقضاء؛ لأن التبعة - إذن - ستكون عليك إنْ ظلم أو جار، فالواو والألف في(16/10195)
{فاجلدوا. .} [النور: 2] تدل على معانٍ كبيرة، فالأمة في مجموعها لا تستيطع أن تجلد كل زانٍ أو زانية، لكن حين تولي إمامها بالبيعة، وحين تختاره ليقيم حدود الله، فكأنها هي التي أقامتْ الحدود وهي التي نفذت.
لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «مَنْ ولّى أحداً أمراً وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة» «.
لماذا؟ لأنك حين تُولِّي أمور الناس مَنْ لا يصلح لها في وجود مَنْ يصلح إنما تُشيع الفساد في المجتمع، ولا تظن أنك تستطيع أن تخفي شيئاً عن أعيُن الناس، فلهم من الوعي والانتباه ما يُفرِّقون به بين الكفء وغيره، وإنْ سكتوا وتغافلوا فإنهم يتساءلون من ورائك: لماذا ولّى هذا، وترك مَنْ هو أكفأ منه، لا بُدَّ أن له مؤهلات أخرى، دخل بها من الباب الخلفي، ولماذا لا نفعل مثله؟ عندها تسود الفوضى وتضيع الحقوق وينتشر الإحباط والتكاسل والخمول، ويحدث خلل في المجتمع وتتعطل المصالح.
ومع هذا كله لا نستطيع أن نلوم الوالي حين يختار مَنْ لا يصلح قبل أن نلوم أنفسنا أولاً، فنحن الذين اخترناه ودلَّسْنَا في البيعة له، فسلّطه الله علينا ليُدلِّس هو أيضاً في اختياره، أمّا لو أدى كل منا واجبه في اختيار مَنْ يصلح ما وصل إلى مراتب القيادة مَنْ يدلس على الناس، وبذلك تستقيم الأمور، ويتقرب الإنسان للولاية بالعمل وبالجد والإخلاص والأمانة والصدق والتفاني في خدمة المجتمع.(16/10196)
ومن رحمة الله تعالى بالخَلْق أنْ يقذف الإخلاص وحُبّ العمل ويزرع الرحمة بالخلق في بعض القلوب؛ لذلك ترى في كل مصلحة أو في كل مكتب موظفاً متواضعاً يحب الناس ويحرص على قضاء مصالحهم، تراه يرتدي نظارة سميكة يرى من خلالها بصعوبة، وهو دائماً مُنكبٌّ على الأوراق والملفات، ويقصده الخَلْق لقضاء مصالحهم: يا فلان أفندي، أعطني كذا، واكتب لي كذا، وقد وسَّع الله صَدْره للناس فلا يرد أحداً.
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في {فاجلدوا. .} [النور: 2] أما الجَلْد فهو الضرب، نقول: جلَده: يعني ضرب جِلْدَه، ورأسه: يعني ضرب رِأسه، وظهَره: ضرب ظهره.
والجلد ضَرْبٌ بكيفية خاصة، بحيث لا يقطع لحماً ولا يكسر عظماً؛ لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله. .} [النور: 2] تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها، وعلى حَدِّ قول الشاعر:
فَقَسَا لِيزدْجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً ... فَلْيَقْسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرحَمُ
فالرأفة لا تكون في حدود الله، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس، وتنتهكون حرماتهم، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب، فأين الرأفة إذن؟
إذن: لا مجالَ للرحمة وللرأفَة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخَلْق(16/10197)
من الخالق، وما وُضِعَتْ الحدود حباً في تعذيب الناس، إنما وُضِعت وشُدِّد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد، فقَطْع يد واحدة تمنع قَطْع آلاف الأيدي.
والذين يتهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أنَسُوا ما فعلوه في هيروشيما، وما زالت آثاره حتى الآن؟ أنسوا الحروب التي يشعلونها في أنحاء العالم، والتي تحصد آلاف الأرواح؟ أهي الرحمة الحمقاء التي لا معنى لها؟ أم هي الكراهية لحدود الله؟
ونذكر في الماضي أنه كان يخرج مع فوج الحجيج قوة حماية وحراسة من الجيش، تحمي الحجيج من قطاع الطرق، وكانوا يُسَمُّون بعثة الحج هذه (المحمل) ، فلما أقامت السعودية حكم الله وطبَّقَتْ الحدود أمَّنَتْ الطرق، واستغنى الناس عن هذه الحراسات مع اتساعها وتشعُّب طرقها ووعورتها بين الجبال والوديان والصحاري الشاسعة التي لا يمكن أن تحكمها أو تحرسها عَيْن بشر، لا بُدَّ لها من تقنين الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
ومع ذلك حين أحْصَوا الأيدي التي قُطِعَتْ وجدوها قليلة جداً، وأغلبها من خارج المملكة - وأذكر أنني قلت مرة في خطبة عرفة: ارجعوا إلى حكامكم وقولوا لهم: اقطعوا يد السارق، فالذي لا يقطع يد السارق في نيته أن يسرق؛ لذلك يخاف على يده، فحين تذكر له مسألة قَطْع يد السارق ترتجف يده. والذين يعارضون حدود الله هم أنفسهم يسيرون على مبدأ أن هلاك الثُلث جائز لإصلاح الثلثين، لكن تقف حدود الله غُصَّة في حلوقهم.
والجلْد مائة جلدة يخصّ الزاني غير المحْصَن يعني غير المتزوج، أمَّا المتزوج فله حكم آخر لم يأْت في كتاب الله، إنما أتى في سنة(16/10198)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ذلك لأن القرآن الكريم ليس كتابَ منهج فقط، إنما كتابَ منهج ومعجزة ومعه أصول، من هذه الأصول أنه قال في آية من آياته: إننا وكلنا رسول الله في أن يُشرِّع للناس.
والحكم الذي يؤخذ من القول عُرْضة لأن نتمحك فيه ونقف أمامه نُقلّب ألفاظه أو نؤوله، أمّا إنْ أُخِذ الحكم من فعل المشرع، فليس فيه شكٌّ أو تمحُّك، وليس قابلاً للتأويل لأنه فعل، وقد فعل الرسول ورجم الزاني والزانية المحصنين في قصة ماعز والغامدية، لأنه مفوض من الله.
ولا بد أن نفرق بين الحدَّيْن، ففي حَدِّ الأمة إنْ زنت يقول تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب. .} [النساء: 25] البعض فَهِم من الآية أنها تشمل حدَّيْ الرَّجْم والجَلْد، فقالوا: في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلده، لكن كيف نجزيء الرجم؟ وما دام الرجم لا يُجَزَّأ فليس عليها رجم.
ولو تأمل هؤلاء نصَّ الآية لخرجوا من هذا الخلاف، فالحق سبحانه وتعالى لم يقل {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات. .} [النساء: 25] وسكت، إنما قال {مِنَ العذاب. .} [النساء: 25] فخصَّ بذلك حدَّ الجلد؛ لأن العذاب إيلام حَيٍّ، أمَّا الرجم فهو إزهاق حياة، فهما متقابلان.
أَلاَ ترى قول القرآن في قصة سليمان عليه السلام والهدهد: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ. .} [النمل: 21] فالعذاب غير الذبح.
إذن: تجزئة الحد في الجَلْد فقط، أمّا الرَّجم فلا يُجزَّأ، فإنْ زنتِ الأَمَة المحصنة رُجِمَتْ.(16/10199)
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر. .} [النور: 2] هذا كلام مُوجِع، وإهاجة لجماعة المؤمنين، فهذا هو الحكم، وهذا هو الحدُّ قد شرعه الله، فإن كنتم مؤمنين بالله وبالحساب والعقاب فطبِّقوا شَرْع الله، وإلاَّ فراجعوا إيمانكم بالله وباليوم الآخر لأننا نشكُّ في صِدْق هذا الإيمان.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة، لنأخذ على أيديهم ونُخوِّفهم بما شرع الله من الحدود.
فالمعنى: أنْ كنتم تؤمنون بالله إلهاً حكيماً مشرعاً، خلق خَلْقاً، ويريد أن يحمي خَلْقه ويُطهره ليكون أهلاً لخلافته في الأرض الخلافة الحقة، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خَلْقه على مراده عَزَّ وجَلَّ، فالخَلْق ليس خَلْقكم لتتدخلوا فيه.
ثم يقول تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] فالأمر لا يقف عند حدِّ التعذيب والجَلْد، إنما لا بُدَّ أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا؟ قالوا: لأن النفس قد تتحمّل الإهانة إنْ كانت سِراً لا يطَّلع عليها أحد، فلا يؤلمه أنْ تُعذِّبه أشدَّ العذاب بينك وبينه، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس. إذن: فمشاهدة الحدِّ إهانة لصاحبه، وهي أيضاً زَجْر للمشاهد، ونموذج عمليٌّ رادع.
لذلك يقولون: الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها أي: تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحدَّ، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتُسقط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي مَنْ أقر(16/10200)
وأقيم عليه الحد بمَنْ لم يقر، ولأن الزنا لم يثبت بشهود أبداً، وإنما بإقرار، وهذا دليل على أن الحكم صحيح في ذِهْنه، ويرى أن فضوح الدنيا وعذابها أهونُ من فضوح الآخرة وعذابها، إلا لما أقر على نفسه.
فالمسألة يقين وإيمان ثابت بالقيامة وبالبعث والحساب، والعقوبة اليوم أهون، وإنْ كان الزنا يثبت بالشهود فلربما دلَّسُوا، لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يأتيه الرجل مُقرّاً بالزنا فيقول له: «لعلك قبَّلْتَ، لعلك غمزْتَ، لعلك لمسْت» يعني: لم تصل إلى الحد الذي يسمى زنا، يريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدرأ الحدَّ بالشبهة.
ولهذا المبدأ الإسلامي السمح إنْ أخذتَ الزاني وذهبت ترجمه فآلمه الحجر فحاول الفرار يأمرنا الشرع ألاَّ نتبعه وألاَّ نلاحقه، لماذا؟ لأنه اعتبر أن فراره من الحد كأنه رجوع عن الإقرار.(16/10201)
يقول الحق سبحانه: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. .} .(16/10202)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً. .} [النور: 3] لأن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي أحد الزوجين على الآخر، والزاني فيه خِسَّة، فلا يليق به إلا خسيسة مثله يعني: زانية، أو أخس وهي المشركة؛ لأن الشرك أخسُّ من الزنا، لأن الزنا مخالفة أمر توجيهي من الله، أمّا الشرك فهو كفر بالله؛ لذلك فالمشركة أخبث من الزانية. وما نقوله في زواج الزاني نقوله في زواج الزانية {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. .} [النور: 3] .
وهنا يعترض البعض: كيف إنْ كانت الزانية مسلمة: أينكحها مشرك؟ قالوا: التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة؛ لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركاً أبداً، فالآية توبيخ لها:(16/10202)
يا خسيسة، لا يليق بك إلا خسيس مثلك أو أخسّ.
وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة؛ لأن التي زنتْ تدور بين أمرين: إما أنها أقبلتْ على الزنا وهي تعلم أنه مُحرَّم، فتكون عاصية باقية على إسلامها، أو أنها ردَّت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية.
ثم يقول تعالى: {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} [النور: 3] فهذا سبب طُهْر الأنسال أن يُحرِّم الله تعالى الزنا، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر، محضوناً بأب وأم، مضموماً بدفء العائلة، لا يتحملون عليه نسمة الهواء؛ لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف.
ثم يقول الحق سبحانه: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم. .} .(16/10203)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
الرمي: قذف شيء بشيء، والمحصنات: جمع مُحْصنة من الإحصان، وهو الحفظ، ومنه قولنا: فلان عنده حصانة برلمانية مثلاً. يعني: تكفّل القانون بحفظه؛ لذلك إنْ أرادوا محاسبته أو مقاضاته يرفعون عنه الحصانة أولاً، ومنه أيضاً كلمة الحصن وهو الشيء المنيع الذي يحمي مَنْ بداخله.
يقول تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ. .} [الأنبياء: 80] يعني: الدروع التي تحمي الإنسان وتحفظه في الحرب.(16/10203)
والمحصنات: تُطلَق على المتزوجة، لأنها حصَّنَتْ نفسها بالزواج أن تميل إلى الفاحشة، وتطلق أيضاً على الحرة، لأنهم في الماضي كانت الإماء هُنَّ اللائي يدعين لمسألة البغاء، إنما لا تقدم عليها الحرائر أبداً.
لذلك فإن السيدة هنداً التي نُسيِّدها الآن بعد إسلامها، وهي التي لاكتْ كبد سيدنا حمزة في غزوة أحد، لكن لا عليها الآن؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. لما سمعت السيدة هند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهي النساء عن الزنا قالت: أو تزني حُرَّة؟ لأن الزنا انتشر قبل الإسلام بين البغايا من الإماء، حتى كانت لهن رايات يرفعْنها على بيوتهن ليُعرفْنَ بها.
والمعنى: يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً. .} [النور: 4] وهذا يُسمَّى حدَّ القذف، أن ترمي حُرّة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أنْ تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميْتها به، فإن لم تفعل يُقام عليك أنت حَدُّ القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجَلْد، إنما تُقبل منك شهادة بعد ذلك أبداً.
{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً. .} [النور: 4] لماذا؟ لأنه لم يَعُدْ أهلاً لها؛ لأنه فاسق {وأولئك هُمُ الفاسقون} [النور: 4] والفاسق لا شهادةَ له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حَدَّ الجلْد،(16/10204)
ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة.
هذا كله ليزجر كل مَنْ تسوِّل له نفسه الخوْضَ في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات؛ لذلك عبَّر عن القَذْف بالرمي؛ لأنه غالباً ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ. .} .(16/10205)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
اختلف العلماء في معنى الاستثناء هنا: أهو استثناء من الفِسْق؟ أم استثناء من عدم قبول الشهادة؟
ذكرنا أن مشروعية التوبة مِنَّة وتكرُّم من الحق - تبارك وتعالى - لأنه لو لم تشرع التوبة كان مَنْ يقع في معصية مرة، ولا تُقبل منه توبه يتجرأ على المعصية ويكثر منها، ولم لا؟ فلا دافعَ له للإقلاع.
إذن: حين يشرع الله التوبة إنما يحمي المجتمع من الفاقدين الذين باعوا أنفسهم، وفقدوا الأمل في النجاة. فمشروعية التوبة كَرَم، وقبولها كرم آخر، لذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا. .} [التوبة: 118] أي: شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل منهم.
وقوله تعالى: {وَأَصْلَحُواْ. .} [النور: 5] تدل على أن مَنْ وقعتْ منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة، وقد ورد في الحديث الشريف: «(16/10205)
وأتبع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها ... .» لذلك تجد الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية ما، حينما يكبرون ويُحبّون التوبة تراهم شغوفين بحُبِّ الخير وعمل الطاعات، يريدون أن يُكفِّروا بها ما سبق من السيئات، على خلاف مَنْ حافظ على نفسه، ونأى بها عن المعاصي، فتراه بارداً من ناحيتها يفعل الخير على قَدْر طاقته.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يُحذِّر عباده: يا عبادي احذروا: مَنْ أخذ مني شيئاً خِلْسة أو ترك لي حكماً، أو تجرأ عليَّ بمعصية سيتعب فيما بعد، ويلاقي الأمَّريْن؛ لأن السيئة ستظل وراءه تطارده وتُجهده لأغفرها له، وسيحتاج لكثير من الحسنات وأفعال الخير ليجبر بها تقصيره في حَقِّ ربه.
ثم يقول الحق سبحانه:(16/10206)
{والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين والخامسة أَنَّ. .} .(16/10207)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
بعد أن تكلم الحق - تبارك وتعالى - عن الذين يرمون المحصنات، وبيّن حكم القذف، أراد أنْ يُبيِّن حكم الرمي إنْ كان من الزوج لزوجته؛ لأن الأمر هنا مختلف، وربما يكون بينهما أولاد منه أو من غيره، فعليه أن يكون مُؤدباً بأدب الشرع، ولا يجرح الأولاد برمي أمهم ولا ذنب لهم.
لذلك شرع الحق - سبحانه وتعالى - في هذه الحالة حكماً خاصاً بها هو الملاعنة، وقد سُمِّيت هذه الآية آية اللعان.
ويُرْوَى أن هلال بن أمية ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: يا رسول الله إني رأيتُ فلاناً على بطن زوجتي، فإنْ تركتُه لآتي بأربعة شهداء لقضي حاجته وانصرف، وإنْ قتلتُه فقد اعتديْتُ عليه.
إذن: ما حَلّ هذا اللغز؟
وينبغي أن نعلم أن الله تعالى لا ينزل التشريع والحكم بدايةً، إنما يترك في الكون من أقضية الحياة واحداثها ما يحتاج لهذا الحكم، بحيث ينزل الحكم فيصادف الحاجة إليه، كما يقولون: موقع الماء من ذي الغُلَّة الصَّادي، يعني: حين ينزل الحكم يكون له موضع فيتلقفه الناس، ويشعرون أنه نزل من أجلهم بعد أنْ كانوا(16/10207)
يستشرفون لحكم في مسألة لم يأت فيها حكم.
وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللعان خاصة، لهذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئاً على أهله، وقد يضع يده عليه، لكن لا يستطيع أنْ يأتي عليه بشهود ليثبت هذه الحالة؛ لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع.
يقول: أشهد الله أنني صادق فيما رميتُ به امرأتي، يقولها أربع مرات، وفي الخامسة يقول: ولعنة الله عليَّ إنْ كنتُ كاذباً، وهكذا ينتهي دور الزوج في الملاعنة.(16/10208)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
(يَدْرَأ) أي: يدفع العذاب عن الزوجة أن تشهد هي الأخرى أربع شهادات بالله، تقول: أشهد الله أنه كاذب فيما رماني به، وفي الخامسة تقول: غضب الله عليَّ إنْ كان هو من الصادقين. فإن امتنعت الزوجة عن هذه الشهادة فقد ثبت عليها الزنا، وإنْ حلفتْ فقد تعادلا، ولم يَعُدْ كل منهما صالحاً للآخر، وعندها يُفرِّق الشرع بينهما تفريقاً نهائياً لا عودةَ بعده، ولا تحل له أبداً.(16/10208)
هذا التشريع فَضْل من الله؛ لأنه أنهى هذه المسألة على خير ما تنهي عليه؛ لذلك يقول الحق سبحانه بعدها: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. .} .(16/10209)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
أي: لولا هذا لَفُضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة، لكن عصمكم فضل الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة.
والقذف جريمة بشعة في حَقِّ المجتمع كله، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر، هذا إنْ كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إنْ كان للزوجة، لكن ما بالك إنْ وقع مثل هذا القول على أم ليست أماً لواحد، إنما هي أم لجميع المؤمنين، هي أم المؤمنين السيدة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها - فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قَذْف السيدة عائشة، والذي سُمِّي بحادثة الإفك؛ لماذا؟
لأن الله تعالى يريد أن يُعطينا الأُسْوة في النبوة نفسها، ويريد أنْ يُسلِِّي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل؛ لذلك ستظل السيدة عائشة أُسْوة لكل شريفة تُرْمَى في عِرْضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها: لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة.
وتقوم آيات الإفك دليلاً على صدق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في البلاغ(16/10209)
عن ربه، فذكر أنهم يرمون المحصنات، ويرمون زوجاتهم، والأفظع من ذلك أنْ يرموا زوجة النبي وأم المؤمنين، فيقول سبحانه: {إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ. .} .(16/10210)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
الإفك: لدينا نِسَب ثلاث للأحداث: نسبة ذهنية، ونسبة كلامية حين تتكلم، ونسبة خارجية. فحين أقول: محمد مجتهد. هذه قضية ذهنية، فإن نطقتَ بها فهي نسبة كلامية، فهل هناك شخص اسمه محمد ومجتهد، هذه نسبة خارجية، فإنْ وافقت النسبةُ الكلامية النسبةَ الخارجية، فالكلام صِدْق، وإنْ خالفت فالكلام كذب.
فالصدق أنْ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب أَلاَّ تطابق النسبةُ الكلاميةُ الواقعَ، والكذب قد يكون غير متعمد، وقد يكون مُتعمداً، فإنْ كان مُتعمداً فهو الإفك، وإن كان غير متعمد كأنْ أخبره شخص أن محمداً مجتهد وهو غير ذلك، فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس كاذباً.
فالإفك - إذن - تعمُّد الكذب، ويعطي ضد الحكم، كأن تقول: محمد مجتهد. وأنت تعلم أنه مهمل؛ لذلك كان الإفكُ أفظعَ أنواع الكذب؛ لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعاً مضاداً لما لم يحدث.(16/10210)
يقول تعالى: {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] وهي القُرَى التي جعل الله عاليها سافلها، وكذلك الإفك يُغيِّر الواقع، ويقلبه رَأْساً على عَقِب.
والعصبة: الجماعة التي تربتط حركتها لتحقيق غاية متحدة، ومن ذلك نقول: عصابة مخدرات، عصابة سرقات، يعني: جماعة اتفقوا على تنفيذ حَدَث لغاية واحدة، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ. .} [يوسف: 14] .
وما دام أهلُ الإفْك عصبةً فلا بُدَّ أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع، وكان رئيسهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول، وهو شيخ المنافقين، ومعذور في أن يكون كذلك، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أُبيٍّ تاجاً ليُنصِّبوه مَلِكاً على المدينة، فلما فُوجِيء برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه.
لذلك فهو القائل: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل. .} [المنافقون: 8] يقصد أنه الأعزُّ، فردَّ عليه الحق - تبارك وتعالى - صدقت، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين، وعليه فالخارج منها أنت.
وهو أيضاً القائل: {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ. .} [المنافقون: 7] والعجيب أنه يعترف أن محمداً رسول الله،(16/10211)
ويقولها علانية، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرفاته، ويحدث تشويشاً في الفكر وفي أداء العبارة.
وما دام أن الحق سبحانه سمَّى هذه الحادثة في حَقِّ أم المؤمنين عائشة إفكاً فلا بُدَّ أنهم قَلَبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع.
والقصة حدثت في غزوة بن المصطلق، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته: مَنْ تخرج منهن معه. وهذا ما تقتضيه عدالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجتْ معه، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة: ذهبت لأقضي حاجتي في الخلاء، ثم رجعت إلى هَوْدَجِي ألتمس عِقْداً لي من (جَزْع ظَفَار) وهو نوع نفيس.
فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا، ولم تجد هَوْدجها فقالت في نفسها لا بُدَّ أنهم سيفتقدونني وسيعودون. لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكُنْ فيه؟ قالوا: لأن النساء كُنَّ خِفَافاً لم يثقلن، وكانت عائشة نحيفة، لذلك حمل الرجال هَودْجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله. ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر مَنْ يأتيها، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويُعقب عليه، عَلَّه يجد شيئاً نسيه القوم أو شخصاً تخلَّف عن الرَّكْب.(16/10212)
وكان هذا المعقِّب هو صفوان بن المعطل، فلما رأى شبحَ إنسان نائم فاقترب منه، فإذا هي عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فأناخ ناقته بجوارها، وأدار وجهه حتى ركبتْ وسار بها دون أن ينظر إليها وعَفَّ نفسه، بدليل أن القرآن سمَّى ما قالوه إفْكاً يعني: مناقضاً للواقع، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا.
ولما قَدِم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموهما، وقالوا في حقهما مَا لا يليق بأم المؤمنين، وقد تولّى هذه الحملة رَأْسُ النفاق في المدينة عبد الله بن أُبيٍّ ومِسْطح بن أُثَاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش، فروَّجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس.
ثم يقول سبحانه: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ. .} [النور: 11] لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته؟ قالوا: لأن القرآن حين تُتَّهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة، وحين يُفضَح قوم على لسان القرآن، لا بُدَّ أن يعتبر الآخرون، ويخافوا إنْ فعلوا مخالفة أنْ يفتضح أمرهم؛ لذلك جاء هذا الموقف درساً عملياً لمجتمع الإيمان.
نعم، أصبحت الحادثة خيراً؛ لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته، فالحق - تبارك وتعالى - يُؤيِّد رسوله في الأشياء المسرَّة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولو بالتدليس، وبالمكر ولو بالإسرار والكَيْد الخفي، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان(16/10213)
إيمان الناس به يزداد يوماً بعد يوم.
وقد ائتمروا عليه وكادوا له ليلاً ليلة الهجرة، فلم يفلحوا، فحاولوا أن يسحروه، وفعلاً صنعوا له سحراً، ووضعوه في بئر ذروان في مُشْط ومشاطة، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علياً فجاء به.
إذن: عجزوا في المواجهة، وعجزوا في التبييت والكيد، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به، وهنا أيضاً عجزوا في تشويه صورة النبوة والنَّيْل من سمعتها، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه: اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبداً، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيراً لجماعة المؤمنين.
ومع ذلك،
«لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها، لكن تغيَّر لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يَعُدْ يداعبها كعادته، وكان يدخل عليها فيقول:» كيف تيكم «وقد لاحظت عائشة هذا التغيُّر لكن لا تعرف له سبباً إلى أنْ تصادف أنْ سارت هي وأم مِسْطح أحد هؤلاء المنافقين، فعثرتْ فقالت: تعس مِسْطح فنهرتها عائشة: كيف تدعو على ابنها، فقالت: إنك لا تدرين ما يقول؟ عندها ذهبتْ السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عَمَّا يقوله الناس فأخبرتها.(16/10214)
لذلك لما نزلت براءة عائشة في القرآن قال لها أبو بكر: قومي فاشكري رسول الله، فقالت: بل أشكر الله الذي بَرّأني» .
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم. .} [النور: 11] .
عادةً ما يستخدم الفعل (كَسَبَ) المجرد في الخير، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر، لماذا؟ قالوا: لأن فِعْل الخير يتمشى وطبيعة النفس، وينسجم مع ذراتها وتكوينها، فالذي يُقدِم على عمل الخير لا يقاوم شيئاً في نفسه، ولا يعارض ملكَة من مَلَكَاته، أو عادة من العادات.
وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات، أَلاَ ترى القطة: إنْ وضعتَ لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها، وإنْ أخذتْها منك خَطْفاً تفرّ بها هاربة وتأكلها بعيداً عنك. إذن: في ذاتية الإنسان وفي تكوينه - وحتى في الحيوان - ما يُعرف به الخير والشر، والصواب والخطأ.
وأنت إذا نظرتَ إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعياً مطمئناً؛ لأن مَلكَات نفسك معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل، فإنْ حاولتَ النظر إلى ما لا يحلّ لك تختلس النظرة وتسرقها، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد، وقد ترتبك ويتغير لونك، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً غير طبيعي، لا حَقَّ لك فيه، فتعارضك ملكَاتُ نفسك، وذراتُ تكوينك. فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائياً، أمّا الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال، لذلك عبَّر عن المكر والتبييت والكيد ب (اكتسب) الدال على الافتعال.(16/10215)
وقوله تبارك تعالى: {والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] .
تولَّى كبر الشيء: يعني قام به وله حَظٌّ وافر فيه، أو نقول: هو ضالع فيه، والمقصود هنا عبد الله بن أُبيّ الذي قاد هذه الحملة، وتولّى القيام بها وترويجها {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11] أي: يناسب هذه الجريمة.(16/10216)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
يُوجِّهنا الحق - تبارك وتعالى - إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم بإيمانهم، وأنْ يظنوا بأنفسهم خيراً وينأَوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أول أُذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلس على رسوله وصَفْوته من خَلْقه، فيجعل زوجته محلَّ شكٍّ واتهام فضلاً عن رَمْيها بهذه الجريمة البشعة.
{لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12] كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، فيردون هذا الكلام.
و (لولا) أداة للخصِّ والحثِّ، وقال: {المؤمنون والمؤمنات. .} [النور: 12] لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن لا يحثهم على ظنِّ الخير برسول الله أو زوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم(16/10216)
هم؛ لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
{وَقَالُواْ. .} [النور: 12] أي: قبل أن ينزل القرآن ببراءتها {هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12] يعني: كذب متعمد واضح بيِّن لأنه في حق مَنْ؟ في حق أم المؤمنين التي طهَّرها الله واختارها زوجة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ثم يقول الحق سبحانه: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ. .} .(16/10217)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
وسبق أنْ ذكرت الآيات حُكْم القذف، وأن على مَنْ يرمي المحصنة بهذه التهمة عليه أن يأتي بأربعة شهداء ليثبت صِدْق ما قال، فإنْ لم يأْتِ بهم فهو كاذب عند الله، ويجب أنْ يُقام عليه حَدُّ القذف.
ثم يقول تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. .} .(16/10217)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{أَفَضْتُمْ. .} [النور: 14] أن تندفع إلى الشيء اندفاعاً تقصد فيه السرعة، ومعنى السرعة أن يأخذ الحدث الكبير زمناً أقلَّ مما يتصوّر له، كالمسافة تمشيها في دقيقتين، فتسرع لتقطعها في دقيقة واحدة، فكأنهم أسرعوا في هذا الكلام لما سمعوه، كما يقولون: خبَّ فيها ووضع.(16/10217)
لكن، لماذا تفضَّل الله عليهم ورحمهم، فلم يمسَّهم العذاب، ولم يُجازهم على افترائهم على أم المؤمنين؟
قالوا: لأن الحق - تبارك وتعالى - أراد من هذه المسألة العبرة والعظة، وجعلها للمؤمنين وسيلةَ إيضاح، فليس المراد أن يُنزل الله بهم العذاب، إنما أن يُعلمهم ويعطيهم درساً في حِفْظ أعراض المؤمنين.(16/10218)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
انظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وَعْي ودون تفكير، فمعلوم أن تلقِّي الأخبار يكون بألأُذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت، فبمجرد أن سمعوا قالوا.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15] .
{بِأَفْوَاهِكُمْ} [النور: 15] يعني: مجرد كلام تتناقله الأفواه، دون أنْ يُدقِّقوا فيه؛ لذلك قال بعدها {مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ. .} [النور: 15] وهذا الكلام ليس هيناً كما تظنون، إنما هو عظيم عند الله؛ لأنه تناول عِرْض مؤمن، وللمؤمن حُرْمته، فما بالك إنْ كان ذلك في حَقِّ رسول الله؟
ثم يقول الحق سبحانه:(16/10218)
{ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ. .} .(16/10219)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
هذا ما كان ما يجب أن تقابلوا به هذا الخبر، أنْ تقولوا لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام. وكلمة {سُبْحَانَكَ. .} [النور: 16] تقال عند التعجُّب من حدوث شيء. والمعنى: سبحان الله نُنزِّهه ونُجِله ونُعليه أن يسمح بمثل الكذب الشنيع في حقِّ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهذا كلام لا يصح أن نتكلم به ولو حتى بالنفي، فإنْ كان الكلام بالإثبات جريمة فالكلام بالنفي فيه مَظنة أن هذا قد يحدث.
كما لو قلت: الوَرِع فلان، أو الشيخ فلان لا يشرب الخمر، فكأنه رغم النفي جعلته مظنة ذلك، فلا يصح أن ينسب إليه السوء ولو بالنفي، فذلك ذَمٌّ في حقِّه لا مدح.
كذلك التحدث بهذه التهمة لا يليق بأم المؤمنين، ولو حتى بالنفي، ومعنى {بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] كذب يبهت سامعه، ويُدهِشه لفظاعته، وشناعته. فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام، ولو كنا منكرين له.(16/10219)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
الوعظ: أن تأتي لِقمة الأشياء فتعِظ بها، كالرجل حينما يشعر بنهايته يحاول أنْ يعِظَ أولاده ويُوصيهم، لكن لا يُوصيهم بكُلِّ أمور الحياة، إنما بالأمور الهامة التي تمثل القمة في أمور الحياة. ووعظ(16/10219)
الحق - تبارك وتعالى - لعبادة من لُطفه تعالى ورحمته، يعظكم؛ لأنه عزيز عليه أنْ يؤاخذكم بذنوبكم.
وتذييل الآية بهذا الشرط: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [النور: 17] حثٌّ وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألاَّ يقعوا فيه مرة أخرى، وكأنه تعالى يقول لهم: إنْ عُدْتُم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم؛ لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيماناً ناقصاً مشكوكاً فيه.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ. .} .(16/10220)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{يُحِبُّونَ. .} [النور: 19] الحب عمل قلبي، والكلام عمل لساني، وترجمة عملية لما في القلب، فالمعنى: الذين يحبون هذا ولو لم يتكلَّموا به؛ لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار.
ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن: المسألة خطيرة.
والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة(16/10220)
أنها ستكون أُسْوة سيئة في المجتمع.
وهذا توجيه من الحق - سبحانه وتعالى - إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تُرَاعى، وهي: حين تسمع خبراً يخدش الحياءَ أو يتناول الأعراض أو يخدش حكماً من أحكام الله، فإياك أنْ تشيعه في الناس؛ لأن الإشاعة إيجاد أُسْوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه: فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضاً على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى مَنْ يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة. .} [النور: 19] .
والحق - تبارك وتعالى - لم يعصم أحداً من المعصية وعمل السيئة، لكن الأَسْوء من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مُهَابٍ في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإنْ سمعت في حَقِّه مَا لا يليق فلربما زهّدك ما سمعتَ في هذا الشخص، وزهَّدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمتَ المجتمع من حسنات هذا الرجل.
وهذه المسألة هي التعليل الذي يستر الله به غَيْب الخَلْق عن الخَلْق، إذن: سَتْر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تُثري الخير في المجتمع وتُنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على عِلاَّتهم، وصدق الشاعر الذي قال:
فَخُذْ بِعلْمي ولاَ تركَنْ إلىَ عَمِلي ... وَاجْنِ الثمارَ وخَلِّ العُودَ للنَّارِ
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ. .} .(16/10221)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
انظر كم فضل من الله تعالى تفضّل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. .} [النور: 20] وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير، وإنْ ظنوه غير ذلك.
لكن أين جواب لولا؟ الجواب يُفهَم من السياق وتقديره: لَفُضحْتُم ولَهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أنْ تُقدِّره كما تشاء.
وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته.
وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
فالحق - سبحانه وتعالى - شرع منهجاً ويحب مَنْ يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبُّل هذا العمل. إذن: ففضْل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخَلْق في منهج الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
وبعد هذه الحادثة كان لا بُدَّ أنْ يقول تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان. .} .(16/10222)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم، وهي عداوة مُسبِّبة ليست كلاماً نظرياً، إنما هو عدو بواقعة ثابتة، حيث امتنع عن السجود لآدم، وعصى أمر الله له، بل وأبدى ما في نفسه وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] .
وقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] وهكذا علّلَ امتناعه بأنه خير، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه.
والحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود، إنما يحذرنا منه، ويُنبِّهنا إلى خطره ويُربِّي فينا المناعة من الشيطان؛ لأن عداوته لنا عداوة مركزة، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة.
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خَلْقه، فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] .
فلو أرادنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل، إنما تركنا سبحانه للاختيار، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب؛ لذلك قال بعدها: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] فمَنِ اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل.
إذن: مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان، إنما بين الشيطان وبني آدم.
فقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ. .} [النور: 21] نداء: يا من آمنتم بإله كأنه يقول: تَنبَّهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عما يُضعِف هذا الإيمان، أو يفُتُّ في عَضُدِ المؤمنين بأيِّ وسيلة، وتأكّدوا أن الشيطان له خطوات متعددة.(16/10223)
{لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان. .} [النور: 21] فإنْ وسوس لك من جهة، فتأبَّيْتَ عليه ووجد عندك صلابةً في هذه الناحية وجَّهك إلى ناحية أخرى، وزيّن لك من باب آخر، وهكذا يظل بك عدوك إلى أنْ يُوقِعك، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضَعْف في تكوينه، فيظل يحاوره إلى أنْ يصل إلى هذه النقطة.
والشيطان: هو المتمرد العاصي من الجن، فالجن مقابل الإنس، فمنهم الطائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشيطان، وعلى قِمتهم إبليس؛ لذلك يقول تعالى في سورة الكهف: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. .} [الكهف: 50] .
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين المعصية من قِبل النفس والمعصية من قِبل الشيطان، فالنفس تُلِح عليك في معصية بعينها لا تتعدّاها إلى غيرها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً على أيِّ: وجه من الوجوه، فإن امتنعت عليه في معصية جَرَّك إلى معصية أخرى أياً كانت.
ثم يقول سبحانه: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر. .} [النور: 21] ولك أنْ تسأل: أين جواب (مَنْ) الشرطية هنا؟ قالوا: حُذِف الجواب لأنه يُفهم من السياق، ودَلَّ عليه بذكر عِلَّته والمسبّب لَه، وتستطيع أن تُقدِّر الجواب: مَنْ يتبع خطوات الشيطان بُذِقْه ربه عذاب السعير؛ لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فَمَنْ يتبع خطواته، فليس له إلا العذاب، فقام المسبّب مقام جواب الشرط.
والكلام ليس كلام بشر، إنما هو كلام رَبِّ العالمين. وأسلوب القرآن أسلوب رَاقٍ يحتاج إلى فكر وَاعٍ يلتقط المعاني، وليس مجرد كلام وحَشْو.(16/10224)
أَلاَ ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] .
ثم يقول تعالى بعدها: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] .
وتأمل ما بين هذيْن الحدثيْن من أحداث حُذِفت للعلم بها، فوعي القاريء ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد. . وو إلخ فهذه أحداث يُرتِّبها العقل تلقائياً.
وقد أوضح الشيطانُ نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبيَّن طرقه في الإغواء، ألم يقل: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] فلا حاجةَ للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلاً، إنما يذهب إلى المسجد ليُفسِد على المصلين صلاتهم، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك.
لكن مصيبتنا أن الشيطان فقط طرف الخيط، فنسير نحن خَلْفه (نكُرّ في الخيط كَرّاً) ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذْنا بالله من الشيطان الرجيم، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله. .} [الأعراف: 200] .
إذن: إياك أنْ تقبل منه طرف الخيط؛ لأنك لو قَبِلْته فلن تقدر عليه بعد ذلك.
ومن خطوات الشيطان أيضاً قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ. .} [الأعراف: 17] .(16/10225)
إذن: للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخُطّة مرسومة، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع: من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله. لكن لم يذكر شيئاً عن أعلى وأسفل؛ لأن الأولى تشير إلى عُلُوِّ الربوبية، والأخرى إلى ذُلِّ العبودية، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء، وحين تضع جبتهك على الأرض في سجودك؛ لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين.
ثم يقول تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ. .} [النور: 21] .
قلنا: إن فضل الجزاء يتناوبه أمران: جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق؛ لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل؛ وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. فإنْ عاملنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - بالعدل لَضِعْنا جميعاً.
لكن، في أيِّ شيء ظهر هذا الفضل؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يُعذِّبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السابقة، وظهر فَضْل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرَّض للحَدث، وحذرنا قديماً من الشيطان قبل أن نقع في المعصية، وقبل أن تفاجئنا الأحداث، فقال سبحانه:
{فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ. .} [طه: 117] وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي.
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يُربِّي المناعة في النفس، فلم يتركنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - في غفلة إلى أنْ تقعَ في المعصية، كما نُحصِّن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها.(16/10226)
وقوله تعالى: {مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً. .} [النور: 21] (زكَى) تطهَّر وتنقّى وصُفِّيِ {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] وقال: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] لأنه تعالى سبق أنْ قال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ. .} [النور: 19] ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزَّتْ المجتمع الإسلامي في قمته، فمسَّتْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصاحبه الصِّدِّيق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة.
لذلك قال تعالى (والله سَمِيعٌ) لما قيل (عَلِيمٌ) [النور: 21] بما تُكِّنُه القلوب من حُبٍّ لإشاعة الفاحشة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى. .} .(16/10227)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
تورط في حادثه الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طُبِع على الخير، لكنه فُتِن بما قيل وانساقَ خلف مَنْ روَّجوا لهذه الإشاعة،(16/10227)
وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها اقسم أبو بكر ألاّ ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سَعَة أبي بكر وفضله؛ لأن هذه الفتنة جعلتْ بعض أهل الخير يضِنُّ به.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يُقدِّر صنائع المعروف، وهذا الفعل يُزهِّد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أنْ يُصحِّح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعةَ الإيمان؛ لأن الذي يعصي الله فيك لا تكافئه إلا بأنْ تطيع الله فيه.
وحين تترك مَنْ أساء إليك لعقاب الله وتعفُو عنه أنت، فإنما تركتَه للعقاب الأقوى؛ لأنك إنْ عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإنْ تركتَ عقابه لله عاقبه بقدْر طاقته تعالى وقدرته.
إذن: العافي أقسى قَلْباً من المنتقم، وسبق أنْ مثّلنا لذلك بالأخ حين يعتدي على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهاناً مظلوماً، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عَمَّا لَحِقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تُسَرَّ بمَنْ جعل الله في جانبك، وتُحسن إليه، لا أن تردّ له الإساءة بمثلها.
إذن: نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر أَلاَّ ينفق عليه وعلى أهله، وأنْ يمنع عنه عطاءه وبِرّه، نزلت لتصحح للصِّديق هذه النظرة وتُوجِّه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.(16/10228)
فقال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. .} [النور: 22] .
{يَأْتَلِ. .} [النور: 22] ائتلى مثل اعتلى تماماً، ومنها تألّى يعني: حلف وأقسم، يوجه الحق - تبارك وتعالى - الصِّديق أبا بكر، ويذكر لفظ {أُوْلُواْ. .} [النور: 22] الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل؛ لذلك أعطاه وصفيْن مثل ما أعطى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال للصِّديق: {وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا. .} [النور: 22] وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فاعف عَنْهُمْ واصفح. .} [المائدة: 13] .
كذلك، أَلاَ ترى الصِّدِّيق ثانَي اثنينِ في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى؛ لذلك صدق سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال عن الصِّديق: «كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان» . يعني: في التسابق في الخير «فسبقته إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني إليها لاتبعته» «.
ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريماً وتعظيماً.
أَلاَ ترى الصِّديق مع ما عُرِف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى وحدثتْ مسألة الردّة يقف ويقول: «والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونها لرسول الله لجالدتهم(16/10229)
بالسيف، لو لم أجد إلا الذر» .
هذا موقف الصِّديق رقيق القلب، ليِّن الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته «إنه رجل بكّاء» يعني: كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع عُرِف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منها يقوم دليلاً على أن الإسلام ليس طَبْعاً غالباً على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصِّدِّيق أسداً شجاعاً قاسيَ القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصِّدِّيق لقالوا: شِدّة أَلِفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبْع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانياً، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ. .} [الفتح: 29] .
فالمسلم ليس مفطوراً لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أنْ يتصرَّف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى: {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة. .} [النور: 22] يقول للصِّديق: أنت رجل فاضل صِدِّيق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تُؤثر(16/10230)
على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مِسْطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعُوقِبَ بحدِّ القذف ثمانين جَلْدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك.
ومن سماحة الإسلام أن مَنْ وقع في حَدٍّ وعُوقِب به لا يجوز لأحد أنْ يُعيِّره بذنبه؛ لأنه تاب وأناب وطهّره الله منه بالحدِّ، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول: ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعُدْ أنت إلى سعتك، وكُنْ موصولَ المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد - سبحانه وتعالى - أنْ يُصفِّي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلتْ المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسَّعَة أنْ يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مِسْطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصِّدِّيق صاحب الفضل والسَّعَة.
ولو أجريتَ إحصاءً للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قِلَّة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون: أعطوا مَنْ آمن، واتركوا مَنْ كفر؟ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطينا مَثَلاً في ذاته عَزَّ وَجَلَّ، فكما أنه يعطي مَنْ كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالاً مِمَّنْ آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عَمَّنْ أساء إليك.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ الناس والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] .(16/10231)
فإنْ كنت بارّاً بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبرُّه، فقد تهدأ ثورتك عليه، وتريد أنْ تبرَّه، وتتحجج بحلفك، إذن: لا تجعلوا الله عُرْضة لحلف يمنعكم من المعروف.
ثم يقول سبحانه: {أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله. .} [النور: 22] صحيح أن مِسْطح من ذوي قُرْبى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشاناً آخر، فلم يخرجه مَا قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تُحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات. .} [هود: 114] .
فرغم ما وقع فيه مِسْطح، فقد أبقاه الله في العَتْب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
{وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا. .} [النور: 22] العفو: ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تُؤنبه، وتمنّ عليه بعفوْك، وتُذكِّره دائماً أنه لا يستحق منك هذا العفو؛ لذلك يحثنا ربنا - تبارك وتعالى - على الصفح بعد العفو، والصفح: تَرْك المنِّ وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهونَ من عفوك عنه.
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يُشرِّع للبشر ما يُنظِّم العلاقات بينهم يراعي جميع مَلكات النفس، لا يقتصر على الملَكات العالية فحسب، إنما لكل الملَكات التي تنتظم الخَلْق جميعاً، وليأخذ كل مِنَّا على قَدْر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] .(16/10232)
لو تأملنا حقيقة المثْلية في رَدِّ الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها، فإنْ ضربَك شخصٌ ضربة، أعندك القدرة التي تردُّ بها هذه الضربة بمثلها تماماً بنفس الطريقة، وبنفس القوة، ونبفس الألم، بحيث لا تكون أنت مُعْتدياً؟ إنك لو تأملتَ هذه المثلية لفضَّلْتَ العفو بدل الدخول في متاهات أخرى.
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إنْ تأخر في السداد أن يقطع رطلاً من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكياً فقال للمرابي: خُذ السكين واقطع رطلاً من لحمه، لكن إنْ زاد أخذناه منك، وإنْ نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وَسِعَنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.
وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه: {والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] .
فالحق - تبارك وتعالى - يجعل لنا مراتب في رَدِّ السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكَظْم الغيظ مرتبه، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى مَنْ أساء إليك {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] .
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أُسْوة لعباده فيقول: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ. .} [النور: 22] فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمَنْ أساء إليك؟ وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يريد أن يُصلح ما بيننا؛ لذلك لما نزلتْ هذه الآية في شأن أبي بكر(16/10233)
قال: أحب يا رب، أحب يا رب، أحب يا رب.
ومعنى {أَلاَ. .} [النور: 22] أداة للحضِّ وللحثِّ على هذا الخُلُق الطيب {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22] فمن تخلَّق بأخلاق الله تعالى فليكُنْ له غفران، وليكن لديه رحمة، ومَنْ مِنّا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم؟
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات. .} .(16/10234)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
نلحظ أن الآيات تحدثتْ عن حَدِّ القذف وما كان من حادثة الإفك، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية: قضية القذف، فلماذا دخلتْ مسألة الرزق في هذا الموضوع؟
قالوا: لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفَّل الله به لعباده؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله.
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه(16/10234)
ومعطيه، لكن طالما أعطاه صار العطاء مِلْكاً له، فإنْ حَثَّه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قَرْضاً؛ لذلك يقول سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً. .} [البقرة: 245] .
فإنْ أنفق الموسر على المعسر جعله الله قَرْضاً، وتولّى سداده بنفسه؛ ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هِبَته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قَرْضاً.
لذلك يقول تعالى: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ. .} [محمد: 38] .
وفي موضع آخر يقول عن الأموال: {إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 38] لأن الإنسان تعب في جمع المال وعَرق في سبيله، وأصبح عزيزاً عليه؛ لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قَرْضاً مردوداً بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مَنَاط لعمارة الخليفة في الأرض؛ لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلَّق بالرزق.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى. .} [البقرة: 238] وقد ذُكِرَتْ وسط مسائل تتعلق بالعِدَّة والكفارة، وعِدَّة المتوفَّي عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل؟
قالوا: لأن النزاعات التي تحدث غالباً ما تُغيِّر النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمتَ للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن.(16/10235)
وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا.
نعود إلى قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات. .} [النور: 23] المحصنة: لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان: الحِفْظ وكأنها حفظتْ نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإنْ لم تتزوج فهي مُحْصَنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضاً الحرة؛ لأن عملية البِغَاء والزنا كانت خاصة بالإماء.
و {الغافلات. .} [النور: 23] جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سأل بريرة خادمة السيدة عائشة: ما تقولين في عائشة يا بريرة؟ فقالت: تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري» وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نُضْج المراهقة ومع نُضْج المراهقة نُضْج اليقين والإيمان.
وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها: أتتزوجين فلاناً؟ تقول: لا أنا أتزوج فلاناً، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإنْ ذكرتَ لها الزواج تستحي وتخزى أن تتحدث فيه؛ لأنها عرفتْ ما معنى الزواج.
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها، فإن سكتتْ فهذا إذْن منها، ودليل على فهمها لهذه العلاقة، إنما إنْ(16/10236)
قالت: نعم أتزوجه لأنه جميل و. . و. .، فهذا يعني أنها لم تفهم بعد معنى الزواج.
إذن: الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية، ولا تدري شيئاً عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا؟
ثم يذكر ربنا - تبارك وتعالى - جزاء هذه الجريمة: {لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور، ولا تدري شيئاً حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة، فيكيف نقول: إنها تفكر في هذه الجريمة؟
واللعْن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأيضاً الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين؛ لأن القاذف حكمه أنْ يُقام عليه الحدُّ، ثم تسقط شهادته، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحدِّ وإسقاط الاعتبار، إلى جانب عذاب الآخرة، فاللعن في الدنيا لا يعقبه من عذاب الآخرة.
وقلنا: إن العذاب: إيلام حَيٍّ، وقد يُوصَف العذاب مرة بأليم، ومرة بمهين، ومرة بعظيم، هذه الأوصاف تدور بين العذاب(16/10237)
والمعذّب، فمن الناس مَنْ لا يؤلمه الجَلْد، لكن يهينه، فهو في حقه عذاب مهين لكرامته، أما العذاب العظيم فهو ما فوق ما يتصوَّره المتصوِّر؛ لأن العذاب إيلام من مُعذِّب لمعذِّب، والمعذَّب في الدنيا يُعذَّب بأيدي البشر وعلى قَدْر طاقته، أمّا العذاب في الآخرة فهو بجبروت الله وقَهْر الله؛ لذلك يُوصَف بأنه عظيم.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ. .} .(16/10238)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
نعلم جميعاً أن اللسان هو الذي يتكلم، فماذا أضافت الآية: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ. .} [النور: 24] .
قالوا: في الدنيا يتكلم اللسان وينطق، لكن المتكلم في الحقيقة أنت؛ لأنه مَا تحرَّك إلا بمرادك له، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك، إذن: فهو مجرد آلة، أمَّا في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه؛ لأن صاحبه ليس له مراد الآن.
ولتقريب هذه المسألة: أَلاَ ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم، ويُمسك لسانه بعد طلاقته، بسبب مرض أو نحوه، فلا يستطيع بعدها الكلام، وهو ما يزال في سَعَة الدنيا. فما الذي حدث؟ مجرد أن تعطلتْ عنده آلة الكلام، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها، فتنطق وتتحرك، لا بإرادتك، إنما بإرادة الله وقدرته.
فالمعنى {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ. .} [النور: 24] أي: شهادة ونطقاً على مراد الله، لا على مراد أصحابها.(16/10238)
ولمَ نستبعد نُطْق اللسان على هذه الصورة، وقد قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وقد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجاً يؤكد صِدْق هذه القضية. فَقُلْ لي: ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم الآن من مكان؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قُمْتَ دون أن تفكر في شيء، ودون أن تستجمع قواك وفكرك وعضلاتك، إنما تقوم تلقائياً دون أن تدري حتى كيفية هذا القيام، وأيّ عضلات تحركت لآدائه.
ولك أنْ تقارن هذه الحركة التلقائية السَّلسِة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العِصيِّ والأذرع، لكل حركة في الآلة ذراع معينة.
فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك، فكيف تستبعد أن يكون لربك - عَزَّ وَجَلَّ - هذه السيطرة على خَلْقه في الآخرة؟
إذن: فاللسان محلّ القول، وهو طَوْع إرادتك في الدنيا، أما في الآخرة فقد شُلَّتْ هذه الإرادة ودخلتْ في قوله تعالى: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
ثم يقول سبحانه: {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وهذه جوارح لم يكُنْ لها نُطْق في الدنيا، لكنها ستنطق اليوم. ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون: إن الجارحة حين تعمل أيَّ عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملتْ، فنُطْقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت.
والأقرب من هذا كله أن نقول: إنها تنطق حقيقة، كما قال تعالى حكايةً عن الجوارح: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله(16/10239)
الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21] .
ومعنى: {الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أن لكل شيء في الكون نُطْقاً يناسبه، كما نطقت النملة وقالت: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ. .}
[النمل: 18] ونطق الهدهد، فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] .
وقد قال تعالى عن نُطْق هذه الأشياء: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. .} [الإسراء: 44] .
لكن، إنْ أراد الله لك أن تفقه نُطْقهم فقَّهك كما فقَّه سليمان عليه السلام، حين فهم عن النملة: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا. .} [النمل: 19] كما فَهِم عن الهدهد، وخاطبه في قضية العقيدة.
وإنْ كان النطق عادةً يفهم عن طريق الصوت، فلكل خَلْق نُطْقه الذي يفهمه جنسه؛ لذلك نسمع الآن مع تقدُّم العلوم عن لُغة للأسماك، ولغة للنحل ... إلخ.
وسبق أنْ قلنا: إن الذين قالوا من معجزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الحصى سبّح في يده، نقول: عليكم أن تُعدِّلوا هذه العبارة، قولوا: سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى مُسبِّح في يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما هو مُسبِّح في يد أبي جهل.
ولو سألتَ هذه الجوارح: لم شهدتِ عليَّ وأنت التي فعلت؟ لقالت لك: فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحلّ عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.
ثم يقول الحق سبحانه:(16/10240)
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق. .} .(16/10241)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قوله: {يَوْمَئِذٍ. .} [النور: 25] أي: يوم أنْ تحدث هذه الشهادة، وهو يوم القيامة {يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق. .} [النور: 25] الدين: يُطلَق على منهج الله لهداية الخَلْق، ويُطلق على يوم القيامة، ويُطلَق على الجزاء.
فالمعنى: يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه {الحق. .} [النور: 25] أي: العدل الذي لا ظلمَ فيه ولا تغيير، فليس الجزاء جُزَافاً، إنما جزاء بالحق؛ لأنه لم يحدث منهم توبة، ولا تجديد إيمان؛ لذلك لا بُدَّ أنْ يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب، وليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الحكم أو يؤخره عنهم.
لذلك بعد أنْ قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1 - 5] .
قال بعدها: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] .(16/10241)
يعني: ليس هناك إله آخر يُغيِّر هذا الكلام، فما قُلْته سيحدث لا محالةَ.
ثم يقول تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكلُّ ما عدا الله تعالى مُتغير، إذن: فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغييرَ فيه، لذلك يقولون: إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أنْ نتغير نحن من أجل الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ. .} [الرعد: 11] .
فالله هو الحقُّ الثابت، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر مَنْ يقول أنا الله ويدَّعي هذا الكون لنفسه، وصاحب الدعوى تثبت له إنْ لم يَقُمْ عليها معارض ومعنى {المبين} [النور: 25] الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيتُه الوجودَ كله.
ثم يقول الحق سبحانه: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ. .} .(16/10242)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قلنا في تفسير {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ. .} [النور: 3] أن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي طرف على الآخر، ومن هذا التكافؤ قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ. .} [النور: 26] .(16/10242)
ثم يقول سبحانه: {أولئك. .} [النور: 26] أي: الذين دارتْ عليهم حادثة الإفك، وخاض الناس في حقهم، وهما عائشة وصفوان {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ. .} [النور: 26] أي: مما يُقَال عنهم، بدليل هذا التكافؤ الذي ذكرتْه الآية، فمن أطيبُ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ وكما ذكرنا أن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويجعل من زوجاته مَنْ تحوم حولها الشبهات.
إذن: فلا بُدَّ أن تكون عائشة طَيّبةً طِيبةً تكافي وتناسب طِيبة رسول الله؛ لذلك برَّأها الله مما يقول المفترون.
وقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] مغفرة نزلتْ من السماء قبل القيامة، ورزق كريم، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو، لا الرزق الحسيّ الذي يقيم قِوام البدن من أكل وشرب وخلافه.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ. .} .(16/10243)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
كلمة بيت: نفهم منها أنه ما أعِدّ للبيتوتة، حيث يأوي إليه الإنسان آخر النهار ويرتاح فيه من عناء اليوم، ويُسمَّى أيضاً الدار؛ لأنها تدور على مكان خاص بك؛ لذلك كانوا في الماضي لا يسكنون إلا في بيوت خاصة مستقلة لا شركة فيها مثل العمارات الآن،(16/10243)
يقولون: بيت من بابه. حيث لا يدخل ولا يخرج عليك أحد، وكان السَّكَن بهذه الطريقة عِصْمةً من الريبة؛ لأنه بيتك الخاص بأهلك وحدهم لا يشاركهم فيه أحد.
لكن هناك أمور تقتضي أنْ يدخل الناس على الناس؛ لذلك تكلم الحق - تبارك وتعالى - هنا عن آداب الاستئذان وعن المبادئ والنظم التي تنظم هذه المسألة؛ لأن ولوج البيوت بغير هذه الآداب، ودون مراعاة لهذه النظم يُسبِّب أموراً تدعو إلى الرِّيبة والشك؛ لذلك في الفلاحين حتى الآن: إذا رأوا شخصاً غريباً يدخل حارة لا علاقة له بها لا بُدَّ أن يسأل: لماذا دخل هنا؟
إذن: فشرْع الله لا يحرم المجتمع من التلاقي، إنما يضع لهذا التلاقي حدوداً وآداباً تنفي الرّيْب والشبهة التي يمكن أنْ تأتي في مثل هذه المسائل.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آداب الاستئذان: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا. .} [النور: 27] .
{حتى تَسْتَأْنِسُواْ. .} [النور: 27] من الأُنْس والاطمئنان، فحين تجلس وأهلك في بيتك، وأقبل عليك غريب لا تعرفه، إذا لم يُقدِّم لك ما تأنس به من الحديث أو الاستئذان لا بُدَّ أن تحدث منه وَحشة ونفور إذن: على المستأذن أن يحدث من الصوت ما يأنس به صاحب الدار، كما نقول: يا أهل الله، أو نطرق الباب، أو نتحدث مع الولد الصغير ليخبر مَنْ بالبيت.
ذلك لأن للبيوت حرمتها، وكل بيت له خصوصياته التي لا يحب(16/10244)
صاحب البيت أن يطّلع عليها أحد، إما كرامةً لصاحب البيت، وإما كرامة للزائر نفسه، فالاستئذان يجعل الجميع يتحاشى ما يؤذيه.
لذلك قال تعالى بعدها: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ. .} [النور: 27] .
أي: خير للجميع، للزائر وللمزور، فالاستئذان يمنع أن يتجسس أحد على أحد، يمنع أن ينظر أحد إلى شيء يؤذيه، وهَبْ أن أبا الزوجة أراد زيارتها ودخل عليها فجأة فوجدها في شجار مع زوجها، فلربما اطلع على أمور لا ترضيه، فيتفاقم الخلاف.
ثم تختم الآية بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] يعني: احذروا أن تغفلوا هذه الآداب، أو تتهاونوا فيها، كمَنْ يقولون: نحن أهلٌ أو أقارب لا تكليفَ بيننا؛ لأن الله تعالى الذي شرع لكم هذه الآداب أعلَمُ بما في نفوسكم، وأعلم بما يُصلِحكم.
بل ويتعدى هذا الأدب الإسلامي من الغريب إلى صاحب البيت نفسه، ففي الحديث الشريف «» نهى أن يطرق المسافر أهله بليل «إنما عليه أن يخبرهم بقدومه حتى لا يفاجئهم وحتى يستعد كل منهما لملاقاة الآخر.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ. .} .(16/10245)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
فإذا استأذنتَ على بيت ليس فيه أحد، فلا تدخل؛ لأنك جئتَ للمكين لا للمكان، إلا إذا كنتَ تريد الدخول لتتلصص على الناس وتتجسَّس عليهم.
وقوله تعالى: {حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ. .} [النور: 28] كيف والدار ليس فيها أحد؟
ربما كان صاحب الدار خارجها، فلما رآك تستأذن نادى عليك من بعيد: تفضل. فلا بُدَّ أنْ يأذن لك صاحب الدار أو مَنْ ينوب عنه في الإذن؛ لأنه لا يأذن إلا وقد أمِن خُلو الطريق مما يؤذيك، أو مما يؤذي أهل البيت.
ثم يقول سبحانه: {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ. .} [النور: 28] .
لأنك إنْ تمسكت بالدخول بعد أنْ قال لك: ارجع فقد أثرت الريبة في نفسه، فعليك أن تمتثل وتحترم رغبة صاحب الشأن، فهذا هو الأزكى والأفضل، أَلاَ ترى قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «دَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28] أي: عالم سبحانه بدخائل النفوس ووساوس الصدور، فإنْ قال لك صاحب الدار ارجع فوقفتَ أمام الباب ولم تنصرف، فإنك تثير حولك الظنون والأوهام، وربك - عَزَّ وَجَلَّ - يريد أنْ يحميك من الظنون ودخائل النفوس.
ثم يقول الحق سبحانه:(16/10246)
{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. .} .(16/10247)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
سأل الصِّديق أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا رسول الله نحن قوم أهل تجارة، نذهب إلى بلاد ليس لنا فيها بيوت ولا أهل، ونضطر لأن ننزل في أماكن (عامة كالفنادق) نضع فيها متاعنا ونبيت بها، فنزلت هذه الآية.
و {جُنَاحٌ. .} [النور: 29] يعني: إثم أو حرج، وهذه خاصة بالأماكن العامة التي لا يسكنها أحد بعينه، والمكان العام له قوانين في الدخول غير قوانين البيوت والأماكن الخاصة، فهل تستأذن في دخول الفندق أو المحل التجاري أو الحمام ... إلخ، هذه أماكن لا حرجَ عليك في دخولها دون استئذان.
فمعنى {غَيْرَ مَسْكُونَةٍ. .} [النور: 29] أي: لقوم مخصوصين {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ. .} [النور: 29] كأن تنام فيها وتأكل وتشرب وتضع حاجياتك، فالمتاع هنا ليس على إطلاقه إنما مقيد بما أحلَّه الله وأمر به، فلا يدخل في المتاع المحرمات.
لذل قال بعدها: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [النور: 29] يعني: في تحديد الاستمتاع، فلا تأخذه على إطلاقه فتُدخل فيه(16/10247)
الحرامَ، وإلا فالبغايا كثيراً ما يرتادون مثل هذه الأماكن؛ لذلك يُحصِّنك ربك، ويعطيك المناعة اللازمة لحمايتك.
ثم يقول رب العزة سبحانه: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ. .} .(16/10248)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان، وحذرتْ من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج، وأن الزاني للزانية، والزانية للزاني، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات.
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه، فالله تعالى يريد مجتمعاً تضيء فيه القيم السامية، مجتمعاً يخلو من وسائل (العكننة) والمخالفة والشَّحْناء والبغضاء، فلو أننا طبَّقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله.
ومسألة غَضِّ البصر التي يأمرنا بها ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة، ويسد الطريق دونها؛ لذلك قال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30] .
وقلنا: إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة، وكل جهاز إدراك له مناط: فالأذن تسمع الصوت، والأنف يشم الرائحة، واللسان للكلام، ولذوْق المطعومات، والعين لرؤية المرئيات، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسَّة البصر؛ لذلك وضع(16/10248)
الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر، فأمر المؤمنين بغضِّ أبصارهم، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين.
وحين تتأمل مسألة غَضِّ البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات: الأولى: أن يغضَّ هو بصره ولا تبدي هي زينتها، فخطّ الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل، الثانية: أن يغضَّ هو بصره وأن تبدي هي زينتها، الثالثة: أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها. وليس هناك خطر على المجتمع إو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدام الآخر. إنما الخطر في القسمة الرابعة: وهي أن ينظر هو ولا يغضّ بصره، وأنْ تتزين هي وتُبدي زينتها، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر.
إذن: فالحق - تبارك وتعالى - حرَّم حالة من أربع حالات؛ ذلك لأن المحرّمات هي الأقل دائماً، وهذا من رحمة الله بنا، بدليل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. .} [الأنعام: 151] فالمحرمات هي المحصورة المعدودة، أمّا المحللات فهي فوق الحصر والعَدِّ، فالأصل في الأشياء أنها حلال، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نَصَّ عليه، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عَزَّ وَجَلَّ.
وكما أمر الرجل بغضِّ بصره، كذلك أُمِرَتْ المرأة بغضِّ بصرها، لأن اللَّفْتة قد تكون أيضاً للرجل ذي الوسامة و. . وفإنْ كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين، فلربما نظرتْ إلى غيره، فكما يُقال في الرجال يُقال في النساء.
هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عَزَّ وَجَلَّ وألزمنا بها(16/10249)
إنما هي لمنع هذه الجريمة البشعة التي بُدِئَتْ بها هذه السورة؛ لأن النظر أول وسائل الزنا، وهو البريد لما بعده، أَلاَ ترى شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ حين تكلم عن مراحل الغَزَل يقول:
نَظْرَةٌ فابتسَامَةٌ فسَلاَمٌ ... فكَلامٌ فموعِدٌ فَلِقَاءٌ
فالأمر بغَضِّ البصر لِيسدَّ منافذ فساد الأعراض، ومَنْع أسباب تلوث النسل؛ ليأتي الخليفة لله في الأرض طاهراً في مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد، بأن له نسباً وشرفاً، والآخر لا نسبَ له.
ذلك ليطمئن كل إنسان على أن مَنْ يليه في الخلافة من أبناء أو أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعيٍّ شريف، فيجتهد كل إنسان في أن يُنشِّيء أطفاله تنشئةً فيها شفقة، فيها حنان ورحمة؛ لأنه واثق أنه ولده، ليس مدسوساً علي، وأغلب الظن أن الذين يُهملون أطفالهم ولا يُراعون مصالحهم يشكُّون في نسبهم إليهم.
ولا يصل المجتمع إلى هذا الطُّهْر إلا إذا ضمنتَ له الصيانة الكافية، لئلا تشرد منه غرائز الجنس، فيعتدي كل نظر على مَا لا يحلّ له؛ لأن النظر بريد إلى القلوب، والقلوب بريد إلى الجنس، فلا يعفّ الفرج إلا بعفاف النظر.
ونلحظ في قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30] دقة بلاغ الرسول عن ربه - عَزَّ وَجَلَّ - وأمانته في نقل العبارة كما أُنزِلَتْ عليه، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله: غُضُّوا أبصاركم، لكنه التزم بنص ما أُنزِل عليه؛ لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط، وإنما القرآن هو كلام الله المنزّل على رسوله والذي يُتعبَّد بتلاوته، فلا بُدَّ أنْ يُبلّغه الرسول كما جاءه من ربه.(16/10250)
لذلك قال في البلاغ عن الله (قُلْ) وفي الفعل (يَغضُّوا) دلالةً على ملحظية (قل) ، فالفعل (يغضوا) مضارع لم تسبقه أداة جزم، ومع ذلك حُذِفت منه النون، ذلك لأنه جعل (قُلْ) ملحظية في الأسلوب.
والمعنى: إنْ تقُل لهم غُضُّوا أبصاركم يغضُّوا، فالفعل - إذن - مجزوم في جواب الأمر (قُلْ) .
إذن {قُلْ. .} [النور: 30] تدل على أمانة الرسول في البلاغ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب، إنما هو أيضاً كلام الله المعجز؛ لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه، وكأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: ما أتيتُ لكم بشيء من عندي، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي.
وقوله: {لِّلْمُؤْمِنِينَ. .} [النور: 30] فما داموا مؤمنين بإله حكيم، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يُرغمهم عليه أحد، فلا بُدَّ أنْ يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه.
والغَضُّ: النقصان، يقال: فلان يغُضُّ من قَدْر فلان يعني: ينقصه، فكيف يكون النقصان في البصر؟ أينظر بعين واحدة؟ قالوا: البصر له مهمة، وبه تتجلى المرائي، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالاً لها أو مُحرّماً عليها.
فنقص البصر يعني: قَصْره على ما أحل، وكفّه عما حُرم، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر، فلا تعطي له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء، إنما تُوقِفه عند أوامر الله فيما يُرى وفيما لا يُرى.
و {مِنْ. .} [النور: 30] في قوله تعالى: {مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30] البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول: كُلْ من هذا الطعام يعني: بعضاً منه، فالمعنى: يغضُّوا بعض البصر؛ لأن بَعضه حلال لا أغض عنه بصري، وبعضه محرم لا أنظر إليه.(16/10251)
أو: أن {مِنْ. .} [النور: 30] هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله، وسبق أن تكلمنا عن (مِنْ) بهذا المعنى، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بُدّ أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقاً، ونحيل القارئ عليها.
قلنا: فرق بين قولك: ما عندي مال، وقولك: ما عندي من مال. ما عندي مال، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يُعْتدّ به، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قَلَّ، فمِنْ تعني بدايةَ ما يقال له مال.
فالمعنى هنا: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ. .} [النور: 30] يعني: بداية مَا يُقال له بصر، ولو لمحة خاطفة، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر.
وقلنا: إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل، قلنا: لو مررتَ ببستان فرأيتَ به ورده جميلة، فأعجبت بها وسُرِرْت وانبسطتْ لها أسارير نفسك، كل هذا مباح لك لا حرجَ عليك فيه، فإنْ تعدَّى الأمر ذلك فمددتَ إليها يدك لتقطفها، هنا يتدخل الشرع يقول لك: قِفْ، فليس هذا من حقك لأنها ليستْ لك.
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثني منها إلا النظر وحده، وكأن ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - يستسمحنا فيه، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يُخلِّفه في النفس من عذابات ومواجيد.
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له: انظر كما تحب واعشق كما شئت، فإن نزعْتَ إلى ضمة أو قبلة قلنا لك: حرام. لماذا؟ لأن الأمر هنا مختلف تماماً، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبداً.(16/10252)
فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك، فإنْ أعجتبْك وانبسطتْ لها أساريرك، فهذا وجدان، لا بُدَّ أن يترك في تكوينك تفاعلاً كيماوياً لا يهدأ، إلا بأن تنزع فإنْ طاوعْتَ نفسك في النزوع فقد اعتديتَ، وإنْ كبتَّ في داخلك هذه المشاعر أصابتْك بعُقد نفسية ودعتْك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع؛ لذلك رحمك ربك من بداية الأمر ودعاك إلى مَنْع الإدراك بغضِّ البصر.
لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بعضِّ البصر قال: {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ. .} [النور: 30] لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، وإنْ أمكن ذلك في الأمور الأخرى، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتْك لا يترك هذا المنع في نفسك أثراً ولا وَجْداً، على خلاف ما يحدث إنْ مُنعتَ عن امرأة أعجبتك، وهيَّجك الوجدان إليها.
وحِفْظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحلَّه الله وشرعه فلا أنيله لغير مُحلَّل له، سواء كان من الرجل أو من المرأة، أو: أحفظه وأصونه أن يُرى؛ لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة.
{ذلك أزكى لَهُمْ. .} [النور: 30] يعني: أطهر وأسلم وأدْعَى لراحة النفس؛ لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرماً، ويلج في أعراض الناس، وإما ألا ينزع فيُكدِّر نفسه ويُؤلمها بالصبر على مَا لا تطيق.
ثم يقول سبحانه: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30] فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملّحة لزهَدَ الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات.(16/10253)
أَلاَ ترى المرأة وما تعانيه من آلام ومتاعب في مرحلة الحمل، وأنها ترى الموت عند الولادة، حتى إنها لتقسم أنها لا تعود، لكن بعد أن ترى وليدها وتنسى آلامها سرعان ما يعاودها الحنين للإنجاب مرة أخرى، إنها الغريزة التي زرعها الله في النفس البشرية لدوام بقائها.
وللبعض نظرة فلسفية للغرائز، خاصة غريزة الجنس، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز، وربطها بلذة أكثر أثراً من لذة الطعام والشراب والشَّمِّ والسماع. . إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته، وما ذلك إلا حِرْصاً على بقاء النوع ودواماً للخلافة في الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه لرسوله: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا. .} .(16/10254)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
ذكر هنا المقابل، فأمر النساء بما أمر به الرجال، ثم زاد هنا مسألة الزينة. والزينة: هي الأمر الزائد عن الحد في الفطرية؛ لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها والتي لا تحتاج إلى أن تتزين: غانِية يعني: غنيت بجمالها عن التزيُّن فلا تحتاج إلى كحل في عينيها، ولا أحمر في خدَّيْها، لا تحتاج أن تستر قُلْبها بأسورة، ولا صدرها بعقد. . إلخ.
فإنْ كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجتْ لشيء من الزينة، لكن العجيب أنهن يُبالِغْنَ في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل، فترى مُسِنَّات يضعْنَ هذا الألوان وهذه المساحيق، فيَظْهَرن في صورة لا تليق؛ لأنه جمال مُصْطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية، وفيها قال المتنبي، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية:
حُسْن الحِضارة مَجلْوبٌ بتطْرِيةٍ ... وفِي البَدَاوة حُسْنٌ غير مَجْلُوب
ومن رحمة الله بالنساء أن قال بعد {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ. .} [النور: 31] قال: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا. .} [النور: 31] يعني: الأشياء(16/10255)
الضرورية، فالمرأة تحتاج لأنْ تمشي في الشارع، فتظهر عينيها وربما فيها كحل مثلاً، وتظهر يدها وفيها خاتم أو حناء، فلا مانع أن تُظهر مثل هذه الزينة الضرورية.
لكن لا يظهر منها القُرْط مثلاً؛ لأن الخمار يستره ولا (الديكولتيه) أو العقد أو الأسورة أو الدُّمْلُك ولا الخلخال، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر. إذن: فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطةَ أن تكون في حدود، وأن تقصر على مَنْ جُعِلَتْ من أجله.
ونلحظ في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا. .} [النور: 31] المراد تغطية الزينة، فالجارحة التي تحتها من باب أوْلَى، فالزينة تُغطِّي الجارحة، وقد أمر الله بسَتْر الزينة، فالجارحة من باب أَوْلَى.
وقوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ. .} [النور: 31] .
الخُمر: جمع خِمّار، وهو غطاء الرأس الذي يُسْدل ليستر الرقبة والصدر. الجيوب: جميع جيب، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها (القَبَّة) والمراد أن يستر الخمارُ فتحةَ الثوب ومنطقة الصدر، فلا يظهر منها شيء.
والعجيب أن النساء تركْنَ هذا الواجب، بل ومن المفارقات أنهن يلبسْنَ القلادة ويُعلِّقن بها المصحف الشريف، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله مُنزِل هذا المصحف.
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ. .} [النور: 31] والضرب هو: الوَقْع بشدة، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء، إنما عليها أنْ تُحكِمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام.(16/10256)
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة: رحم الله نساء المهاجرات، لما نزلت الآية لم يكُنْ عندهم خُمر، فعمدْن إلى المروط فشقوها وصنعوا منها الخُمُر.
إذن: راعَى الشارع الحكيم زِيَّ المرأة من أعلى، فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ.
.} [النور: 31] ومن الأدنى فقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ. .} [الأحزاب: 59] .
ثم يقول تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ. .} [النور: 31] أي: أزواجهن؛ لأن الزينة جُعِلَتْ من أجلهم {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ. .} [النور: 31] أبو الزوج، إلا أنْ يخاف منه الفتنة، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه.
ومعنى {أَوْ نِسَآئِهِنَّ. .} [النور: 31] أي: النساء اللائي يعملْنَ معها في البيت كالوصيفات والخادمات {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ. .} [النور: 31] والمراد هنا أيضاً ملْك اليمين من النساء دون الرجال.
ويشترط في هؤلاء النساء أن يكُنَّ مسلمات، فإنْ كُنَّ كافرات كهؤلاء اللائي يستقدمونهن من دول أخرى، فلا يجوز للمرأة أن تُبدي زينتها أمامهن، وأن تعتبرهن في هذه المسألة كالرجال، لأنهن غير مسلمات وغير مؤتمنات على المسلمة، وربما ذهبت فوصفتْ ما رأتْ من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها.
ومن العلماء مَنْ يرى أن مِلْك اليمين لا يخصُّ النساء فقط، إنما الرجال أيضاً، فللمرأة أنْ تُبدي زينتها أمامهم، قالوا: لأن هناك استقبالاً عاطفياً وامتناعاً عاطفياً في النفس البشرية، فالخادم في(16/10257)
القَصْر لا ينظر إلى سيدته ولا إلى بناتها؛ لأنه لا يتسامى إلى هذه المرتبة، إلا إذا شجَّعْنَهُ، وفتحْنَ له الباب، وهذه مسألة أخرى.
وقوله تعالى: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال. .} [النور: 31] أي: التابعين للبيت، والذين يعيشون على فضلاته، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه، فليس عنده بيت يأويه؛ لذلك ينام في أيِّ مكان، وليس عنده طعام؛ لذلك يُطعمه الناس وهكذا، فهو ضائع لا هدفَ له ولا استقلاليةَ لحياته، وترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد ويلبسون الخِرَق وينامون ولو على الأرصفة.
مثل (الأهبل) أو المعتوه الذي يعطف الناس عليه، وليس له مطمع في النساء، ولا يفهم هذه المسألة، فلا يُخاف منه على النساء؛ لأنه لا حاجةَ له فيهن؛ ولا يتسامى لأنْ ينظر إلى أهل البيت.
ومعنى: {غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال. .} [النور: 31] يعني: كأن يكون كبير السِّنِّ واهن القوى، لا قدرةَ له على هذه المسائل، أو يكون مجبوباً، مقطوع المتاع، ولا خطرَ من مثل هؤلاء على النساء.
وقوله تعالى: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] .
نلحظ هنا أن الطفل مفرد، لكن وُصِف بالجمع {الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] لماذا؟ قالوا: هذه سِمَة من سمات اللغة، وهي الدقة في التعبير، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع.(16/10258)
كما نقول: هذا قاضٍ عَدْلٌ، وهذان قاضيان عَدْل، وهؤلاء قضاة عَدْل، ولم نقل: عدلان وعدول، فإذا وحِّد الوصف في الجميع بدون هوى كان الوصف كالشيء الواحد، فالقاضي لا يحكم بمزاجه وهواه، والآخر بمزاجه وهواه، إنما الجميع يصدرون عن قانون واحد وميزان واحد. إذن: فالعدل واحد لا يُقَال بالتشكيك، وليس لكل واحد منهم عدل خاص به، العّدْل واحد.
كذلك الحال في {الطفل. .} [النور: 31] مع أن المراد الأطفال، لكن قال (الطفل) لأن غرائزه مشتركة مع الكل، وليس له هَوىً، فكل الأطفال - إذن - كأنهم طفل واحد حيث لم يتكوّن لكل منهم فِكْره الخاص به، الجميع يحب اللهو واللعب، ولا شيءَ وراء ذلك، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز وفي الميول.
بدليل أنه إذا كَبِر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكوَّن لديهم هَوىً وفِكْر وميْل يقول القرآن عنهم: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم. .} [النور: 59] فنظر هنا إلى الجمع لعدم التوحُّد في مرحلة الطفولة المبكرة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] فوصف ضيف وهي مفرد بالجمع (مكرمين) ؛ ذلك لأن ضَيْف تدل أيضاً على الجمع، فالضيف من انضاف على البيت وله حَقٌّ والتزامات لا بُدَّ أن يقدمها المضيف، مما يزيد على حاجة البيت، والضيف في هذه الالتزامات واحد، سواء كان مفرداً أو جماعة؛ لذلك دَلَّ بالمفرد على الجميع.
وقوله تعالى: {الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] يظهر على كذا: لها معنيان في اللغة: الأول: بمعنى يعلم كما في(16/10259)
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ. .} [الكهف: 20] يعني: إنْ عَلِموا بكم وعرفوا مكانكم.
والثاني: بمعنى يعلو ويغلب ويقهر، كما في قوله تعالى: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: السد الذي بناه ذو القرنين، فالمعنى: ما استطاعوا أنْ يعلوه ويرتفعوا عليه.
وهنا {لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] يعني: يعرفونها ويستبينونها، أو يقدرون على مطلوباتها، فليس لهم عِلْم أو دراية بهذه المسائل.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ. .} [النور: 31] .
الحق - تبارك وتعالى - يكشف ألاعيب النساء وحِيَلهنّ في جَذْب الأنظار، فإذا لم يلفتْك إليها النظر لفتَك الصوت الذي تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك: يا بجم اسمع، يا للي ما نتاش شايف اسمع، وفي الماضي كُنَّ يلبسْنَ الخلخال الذي يُحدِث مثل هذا الصوت أثناء المشي، وأول مَنِ استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار.
ومعلوم أن طريقة مَشْي المرأة تُبدِي الكثير من زينتها التي لا يراها الناس، وتُسبِّب كثيراً من الفتنة؛ لذلك يقول تعالى بعدها وفي ختام هذه المسائل: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] .
لم يَقُل الحق تبارك وتعالى: يا مَنْ أذنبتم بهذه الذنوب التي سبق الحديث عنها، إنما قال {جَمِيعاً. .} [النور: 31] فحثَّ الجميع على(16/10260)
التوبة؛ ليدل على أن كل ابن آدم خطاء، ومهما كان المسلم مُتمسِّكاً ملتزماً فلا يأمن أنْ تفوته هفوة هنا أو هناك، والله - عَزَّ وَجَلَّ - الخالق والأعلم بمَنْ خلق؛ لذلك فتح لهم باب التوبة وحثَّهم عليها، وقال لهم: ما عليكم إلا أنْ تتوبوا، وعليَّ أنا الباقي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ. .} .(16/10261)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
بعد أن تكلم الحق - سبحانه وتعالى - عن مسألة حِفْظ الفروج ودعا إلى الحفاظ على طهارة الأنساب، أراد أنْ يتكلم عن هؤلاء الرجال أو النساء الذين لم يتيسَّر لهم أمر الزواج؛ ذلك ليعالج الموضوع من شتى نواحيه؛ لأن المشرِّع لا بُدَّ أن يستولي بالتشريع على كُلِّ ثغرات الحياة فلا يعالج جانباً ويترك الآخر.
و {الأيامى. .} [النور: 32] جمع أيِّم، والأيِّم من الرجال مَنْ لا زوجةَ له، والأيِّم من النساء مَنْ لا زوجَ لها.
ونلحظ أن الأمر في {أَنْكِحُواْ. .} [النور: 32] جاء هكذا بهمزة القَطْع، مع أن الأمر للواحد (انكح) بهمزة الوصل، ذلك لأن الأمر هنا (أنكحوا) ليس للمفرد الذي سينكح الأيِّم، إنما لغيره أنْ يُنكحه، والمراد أمر أولياء الأمور ومَنْ عندهم رجال ليس لهم زوجات، أو نساء ليس لَهُنَّ أزواج: عَجِّلوا بزواج هؤلاء، ويسِّروا لهم هذه المسألة، ولا تتشددوا في نفقات الزواج حتى تُعِفُّوا أبناءكم وبناتكم، وإذا لم تعينوهم فلا أقلَّ من عدم التشدد والمغالاة.(16/10261)
وفي الحديث الشريف: «إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» .
ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر. . إلخ وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لأولياء الأمور: يسِّروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهَّدوا لهم سبيل الإعفاف.
وقد أعطانا القرآن نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه وليُّ الأمر، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام: {قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ. .} [القصص: 27] ذلك لأن موسى - عليه السلام - سيكون أجيراً عنده، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته؛ لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجَّعه على الإقبال على زواجها، فأزال عنه حياء التردد، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إنْ وجد لابنته كفؤاً، فلا يتردد في إعفافها.
وقوله تعالى: {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ. .} [النور: 32]
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تُنكح المرأة لأربع: لمالها، وجمالها، وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» .
ولما سُئِل الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن مسألة الزواج قال لوالد(16/10262)
الفتاة الذي جاء يستشيره: زوِّجها مَنْ تأمنه على دينه، فإنْ أحبَّ ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. وماذا يريد الإنسان في زوج ابنته أكثر من هذا؟
فالدين والخُلق والقيم السامية هي الأساس الذي يُبني عليه الاختيار، أما المال فهو شيء ثانوي وعَرَض زائل؛ لذلك يقول تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ. .} [النور: 32] .
فالفقر قد يكون سبباً في عدم الإقبال على البنت، أو عدم إقبال أهل البنت على الزوج، لكن كيف يتخلى الله عَنَّا ونحن نتقيه ونقصد الإعفاف والطهر؟ لا يمكن أن يضن الله على زوجيْن التقيا على هذه القيم واجتمعا على هذه الآداب، ومَنْ يدريك لعل الرزق يأتي للاثنين معاً، ويكون اجتماعهما في هذه الرابطة الشرعية هو باب الرزق الذي يفتح للوجهين معاً؟
{والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32] فعطاء الله دائم لا ينقطع؛ لأن خزائنه لا تنفد ولا تنقص، والإنسان يُمسِك عن الإنفاق؛ لأنه يخاف الفقر، أمّا الحق - تبارك وتعالى - فيعطي العطاء الواسع؛ لأن ما عنده لا ينفد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ. .} .(16/10263)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
في حالة إذا لم ننكح الأيامى، ولم نُعِنهم على الزواج، ولم يقدروا هم على القيام بنفقاته يصف لهم الحق - سبحانه وتعالى - العلاج المناسب، وهو الاستعفاف، وقد طلب الله تعالى من المجتمع الإسلامي سواء - تمثَّل في أولياء الأمور أو في المجتمع العام - أن ينهض بمسألة الأيامى، وأنْ يعينهم على الزواج، فإنْ لم يقُمْ المجتمع بدروه، ولم يكُنْ لهؤلاء الأيامى قدرة ذاتية على الزواج، فليستعفف كل منهم حتى يغنيهم الله، مما يدل على أن التشريع يبني أحكامه، ويُراعي كل الأحوال، سواء أطاعوا جميعاً أو عَصَوْا جميعاً.
وقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ. .} [النور: 33] يعني: يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه، يجاهد أن يكون عفيفاً، وأول أسباب العفاف أن يغضَّ بصره حين يرى، فلا يوجد له مُهيِّج ومثير، فإنْ وجد في نفسه فُتوة وقوة فعلية أن يُلجمها ويُضعِفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما معشر الشباب مَنِ استطاع منكم الباءة - يعني: نفقات الحياة الزوجية - فليتزوج، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .
والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويُهدِّيء من شراسة الغريزة؛ ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أَوْدَه، ولا يبقى في بدنه ما يثير الشهوة، كما جاء في الحديث الشريف: «بحسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبه ... » .(16/10264)
أو: أن يُفرِّغ الشاب نفسه للعمل النافع المفيد الذي يشغله ويستنفد جَهْده وطاقته، التي إن لم تصرف في الخير صرفت في الشر، وبالعمل يثبت الشاب ذاته، ويثق بنفسه، ويكتسب الحلال الذي يُشجِّعه مع الأيام على الزواج وتحمُّل مسئولياته.
لذلك قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ. .} [النور: 33] ولم يقُلْ: وليعف، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسْعَ إليه، بأن يمنع المهيِّج بالنظر ويُهدئ شراسة الغريزة بالصوم، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعباً يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطاً، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله.
ومعنى: {الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً. .} [النور: 33] أي: بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة.
وقوله تعالى: {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ. .} [النور: 33] يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى؛ لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى، وقد قال تعالى في قضية قرآنية: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] فمن هذا الباب يأتيه غِنَى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ. .} [النور: 33] .
الكتاب: معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق، والمراد هنا المكاتبة، وهي أن تكتب عَقْداً بينك وبين العبد المملوك، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حراً، إنْ أدَّى ما ذكر في عَقْد المكاتبة.(16/10265)
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً. .} [النور: 33] يعني: إنْ كانت حريتهم ستؤدي إلى خير كأنْ ترفع عنهم ذِلَّة العبودية، وتجعلهم ينشطون في الحياة نشاطاً يناسب مواهبهم.
لذلك جعل الحق - سبحانه وتعالى - هذه المكاتبة مَصْرفاً من مصارف الزكاة، فقال تعالى: {وَفِي الرقاب. .} [البقرة: 177] يعني: المماليك الذين نريد أنْ نفكَّ رقابهم من أَسْر العبودية وذُلِّها بالعتق، وإنْ كان مال الزكاة يُدفع للفقراء وللمساكين. . إلخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده.
كما جعل الإسلام عِتْق الرقاب كفارةً لبعض الذنوب بين العبد وبين ربه؛ ذلك لأن الله تعالى يريد أن يُنهي هذه المسألة.
{وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ. .} [النور: 33] .
الحق - تبارك وتعالى - هو الرازق، والمال في الحقيقة مال الله، لكن إنْ ملّكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك، ولا يعود سبحانه في هِبَته لك؛ لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قَرْض لا يردُّه الفقير، إنما يتولى ربك عَزَّ وَجَلَّ رَدَّه، فيقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً. .} [البقرة: 245] ولم يقُلْ سبحانه: يقرض فلاناً، وإنما يُقرِض الله لأنه تعالى هو الخالق، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أنْ يرزقه ويتكفّل له بقُوتِه.
واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئناً على آثار حركة حياته وثمره جهده، وأنها ستعود عليه، وإلاّ فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إنْ ضاعت ثمرته وحُرِم منها صاحبها؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قَدْر حاجته فحسب، فلا يفيض عنه شيء للصدقة.(16/10266)
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 33] .
يُقَال للمملوك: فتى، وللمملوكة: فتاة، فقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي إنما يقول: فتاي وفتاتي، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع، فالفتى من الفُتوّة والقوة كأنك تقول: هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يرفع من شأنهم.
ومن هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان.
والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهُنّ راية تدل عليهن، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق، وكان عنده (مسيكة، ومعاذه) وفيه نزلت هذه الآية.
وتأويل الآية: لا تُكرِهوا الإماء على البغاء، وقد كُنَّ يبكين، ويرفضْنَ هذا الفعل، وكُنَّ يؤذيْنَ ويتعرضْنَ للغمز واللمز، ويتجرأ(16/10267)
عليهن الناس، وكان من هؤلاء الإماء بنات ذوات أصول طيبة شريفة، لكن ساقتهن الأقدار إلى السَّبْي في الحروب أو خلافه، في حين أن الحرة العفيفة تسير لا يتعرض لها أحد بسوء.
ومعنى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً. .} [النور: 33] يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إنْ لم يُرِدْن تحصُّناً فلا تُكرهِوهُنَّ {لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا. .} [النور: 33] طلباً للقليل من المال الزائل {وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 33] لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة، عملاً بالحديث النبوي الشريف: «رُفِع عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه» .
لذلك يُطمئِن الحق - تبارك وتعالى - هؤلاء اللاتي يُرِدْنَ التحصُّن والعفاف، لكن يكرههن سيدهن على البغاء، ويُرغمهن بأيِّ وسيلة: اطمئنن فلا ذنبَ لَكُنَّ في هذه الحالة، وسوف يُغفر لَكُنَّ والله غفور رحيم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ. .} .(16/10268)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
المعنى: لا عذر لكم؛ لأن الله تعالى قد أنزل إليكم الآيات الواضحة التي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء نسل الخليفة(16/10268)
لله في الأرض، وهذه الآيات ما تركتْ شيئاً من أقضية الحياة إلا تناولتْه وأنزلتْ الحكم فيه، وقد نلتمس لكم العذر لو أن في حياتكم مسألة أو قضية ما لم يتناولها التشريع ولم ينظمها.
لذلك يقول سيدنا الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، هو الفَصْل ليس بالهَزْل، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
ولا يزال الزمان يُثبِت صِدْق هذه المقولة، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة. إلخ. كلها انهارت على مَرْأىً ومَسْمع من الجميع.
نعم، مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومَنْ ابتغى الهدى في غيره أضلَّه الله، لأنه خالقك، وهو أعلم بما يُصلحك، فلا يليق بك - إذن - أن تأخذ خَلْق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانوناً من عندك أنت.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الآيات تطلق على ثلاثة إطلاقات: الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عَزَّ وَجَلَّ، وعلى المعجزات التي تأتي لتثبت صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وتُطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن الكريم، وفي القرآن هذا كله.
وقوله تعالى: {وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [النور: 34] .(16/10269)
أي: جعلنا لكم موعظة وعبرة بالأمم السابقة عليكم، والتي بلغت شأوها في الحضارة، ومع ذلك لم تملك مُقوِّمات البقاء، ولم تصنع لنفسها المناعة التي تصونها فانهارت، ولم يبق منهم إلا آثار كالتي نراها الآن لقدماء المصريين، وقد بلغوا من الحضارة منزلةً أدهشت العالم المتقدم الحديث، فيأتون الآن متعجبين: كيف فعل قدماء المصريين هذه الحضارة؟
وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 6 - 14] يعني: لن يفلت من المخالفين أحد، ولن ينجو من عذاب الله كافر.
والمثَل كذلك في مسألة الزنا وقَذْف المحصنات العفيفات، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها، وأنها كانت مَثَلاً وعِبرةً، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلاً وقد اتهمها قومها، وقالوا: {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم: 28] .
وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، وكلها مسائل تتعلق بالشرف، ولم تَخْلُ من رَمْي العفيفات المحصنات، أو العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون، مُبينات لصِدْق المبلِّغ عن الله في المعجزات، مُبيِّنات للأحكام التي تنظم حركة(16/10270)
الحياة في آيات القرآن، ثم أريناهم عاقبة الأمم السابقة سواء مَنْ أقبل منهم على الله بالطاعة، أو مَنْ أعرض عنه بالمعصية، ولا يستفيد من هذه المواعظ والعِبَر إلا المتقون الذين يخافون الله وتثمر فيهم الموعظة.(16/10271)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قلنا: فإن الله تعالى أعطانا النور الحسيِّ الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا إن الدنيا حينما تظلم ينير كل مِنّا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعتْ الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل مِنَّا نوره؛ لأن نور الله كافٍ، فكما أن نور الله كافٍ في الحسيات فنوره أيضاً كافٍ في المعنويات.
فإذا شرع الله حكماً معنوياً يُنظِّم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.(16/10271)
{الله نُورُ السماوات والأرض. .} [النور: 35] كما نقول ولله المثل الأعلى: فلان نوَّر البيت، فالآية لا تُعرِّف الله لنا، إنما تُعرِّفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه مُنوِّر السموات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحاً غيرَ خفيّ.
ثم يضرب لنا ربنا - عَزَّ وَجَلَّ - مثلاً توضيحياً لنوره، فيقول: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ. .} [النور: 35] أي: مثَلُ تنويره للسموات وللأرض {كَمِشْكَاةٍ. .} [النور: 35] وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديماً في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المِسْرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قوياً، ولا يصنع ظِلاً أمام مسار الضوء.
والمصباح: إناء صغير يُوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتصّ من الزيت فيظل مشتعلاً، فإنْ ظلَّ الفتيل في الهواء تلاعبَ به وبدَّد ضوءه وسبَّب دخاناً؛ لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق؛ لذلك جعلوا على الفتيل حاجزاً من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافياً لا دخانَ فيه، وكانوا يسمونه (الهباب) .
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى: {المصباح فِي زُجَاجَةٍ. .} [النور: 35] لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة {كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ. .} [النور: 35] يعني: كوكب من الدُّرِّ، والدُّر ينير بنفسه.
كذلك زَيْتها ليس زيتاً عادياً، إنما زيت زيتونة مباركة.(16/10272)
يقول الحق سبحانه: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35] .
يعني: شجرة زيتون لا شرقية ولا غربية، يعني: لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حَدٍّ سواء، لكن كيف ذلك؟
قالوا: لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلماً، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلماً، إذن: يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء.
وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه {يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35] ، وتعطي الشجرة الضوء القوي الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس.
إذن: مَثْلُ تنوير الله للسموات وللأرض مثل هذه الصورة مكتلمة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم؟ فالسموات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسموات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أنْ يُوصَف. وما المثَل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان.
وسبق أنْ ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب، فقال:
إقْدَامُ عَمْرٍ فِي سَمَاحَةٍ حَاتمٍ ... في حِلْم أحنفَ في ذَكَاءِ أيَاسِ
فجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب؛ لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضاً عليه: كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب؟ فالأمير فوق مَنْ وصفتَ.(17/10273)
فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية:
لاَ تُنكروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً ... شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لنُورِهِ ... مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِ
فالله تبارك وتعالى هو نور السموات والأرض أي: مُنوِّرهما، وهذا أمر واضح جداً حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون، بحيث لا يظهر معه نور آخر، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد، لكن يغلب على نورها نور الشمس، على حَدٍّ كقول الشاعر في المدح:
كأنكَ شَمْسٌ والمُلوكُ كَواكبٌ ... إذَا ظَهَرتْ لَمْ يَبْدُ منهُنّ كوكَبُ
ثم يقول سبحانه: {نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35] فلم يتركنا الحق سبحانه وتعالى في النور الحسيِّ فقط، إنما أرسل إلينا نوراً آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة، كأنه تعالى يقول لنا: بعثت إليكم نوراً على نور، نور حِسيِّ، ونور قيمي معنوي، وإذا شهدتم أنتم بأن نوري الحسيّ ينير لكم السموات والأرض، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنواركم، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغَى على كل مناهجكم، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله.
وقوله تعالى: {يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} [النور: 35] أي: لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإنِ اهتدوا إلى النور الحسيِّ في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكُنْ لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلوبهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به.
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مِثْلُ نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه، لذلك جاء في أثر علي بن أَبي طالب: «من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله» .(17/10274)
والعجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نوراً على نور، كما قال سبحانه: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] .
وقال تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] .
ثم يقول تعالى: {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} [النور: 35] .
يعني للعبرة والعِظة مثل المثل السابق لنوره تعالى {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ} [نور: 35] .(17/10275)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
بدأت الآية بالجار والمجرور {فِي بُيُوتٍ} [النور: 36] ولا بُدَّ أن نبحث له عن متعلق، فالمعنى: هذا النور الذي سبق الحديث عنه في بيوت أَذِن الله أن تُرفع. والبيت: هو ما أُعِدَّ للبيتوتة، بل لمعيشة الحياة الثابتة، وإليه يأوي الإنسان بعد عناء اليوم وطوافه في مناكب الأرض، والبيت على أية صورة هو مكان الإنسان الخاص الذي يعزله عن المجتمع العام، ويجعل له خصوصية في ذاته، وإلا فالإنسان لا يرضى أن يعيش في ساحة عامة مع غيره من الناس.
وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسْب إمكاناتهم، وكل إنسان يريد أنْ يتحيّز إلى مكان خاص به؛ لأن التحيّز أمر مطلوب في النفس البشرية: الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضاً، كل إلى حجرة تخصه، وكذلك الأمر في اللباس، ذلك لأن لكل واحد منا(17/10275)
مساتير بينه وبين نفسه، لا يحب أن يطلع عليها أحد.
وقد اتخذ الله له بيتاً في الأرض، هو أول بيت وُضِع للناس، كما قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96] .
وهذا هو بيت الله باختيار الله، ثم تعددتْ بيوت الله التي اختارها خَلْق الله، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتاً اتخذ الله لنفسه بيوتاً {أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} [النور: 36] وأنتم جميعاً عباد الله وعيال الله، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله.
الراحة في بيوتكم راحة حِسِّية بدنية في صالون مريح أو مطبخ مليء بالطعام، أمّا في بيت الله فالراحة معنوية قيمية؛ لأن ربك عَزَّ وَجَلَّ غيْبٌ فيريحك أيضاً بالغيب.
لذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة ليُلقي باحماله على ربه. وماذا تقول في صنعة تُعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم، أيبقى بها عطل أو فساد؟ فما بالك إنْ عُرِضَتْ على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة؟
فربُّكَ يدعوك إلى بيته ليريحك، وليحمل عنك همومك، ويصلح ما فسد فيك، ويفتح لك أبواب الفرج. إذن فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذِن سبحانه أن تُرفعَ بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم.(17/10276)
فالبيوت كلها لها مستوى واحد، لكن ترفع بيوت عن بيوت وتُعلَّى وقد رُفِعَت بيوت الله بالطاعة والعبادة، فالمسجد مكان للعبادة لا يُعصَى الله فيه أبداً على خلاف البيوت والأماكن الأخرى، فعظّم الله بيوته أن يُعْصَى فيها، وعظّم روادها أن يشتغلوا فيها بسفاسف الأمور الحياتية الدنيوية، فعليك أن تترك الدنيا على باب المسجد كما تترك الحذاء.
لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله، أو حتى ننشد فيه الضالة؛ لأن الصفقة التي تُعقَد في بيت الله خاسرة بائرة، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا تُردُّ عليه، وقد أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نقول لمن يفعل هذا بالمسجد «لا ردها الله عليكم» .
وإنْ جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مسجداً وطهوراً، لكن فَرْقٌ بين الصلاة في المسجد والصلاة في أيِّ مكان آخر، المسجد خُصِّص للعبادة، ولا نذكر فيه إلا الله، أمّا الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة، وأيضاً لمزاولة أمور الدنيا.
وإلا، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدي فيها فَرْض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جُعِلت إلا لعبادة الله؟ لابد للمؤمن أن يترك دُنْياه خارج المسجد، وأن ينوي الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذِكْره في بيته، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره.
فإن التزمتَ بآداب المسجد تلقيتَ من ربك نوراً على نور، وزال(17/10277)
عن كاهلك الهمّ والغم وحُلَّت مشاكلك من حيث لا تحتسب.
إذن: فالحق تبارك وتعالى جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرَّض لأزمة لا منجاةَ منها بأسباب البشر تجده تلقائياً يتوجه إلى الله يقول: يا رب، لا يمكن أن يكذبَ على نفسه في هذه الحالة أو يُسلم نفسه ويبيعها رخيصة.
وفي ذلك يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} [الزمر: 8] .
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] .
فذكر طرفاً واحداً من عملية التجارة وهو البيع، ولم يقل: والشراء، قالوا: لأنه حين يُمنع البيع يُمنع الشراء في الوقت نفسه؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال.
إذن: قوله تعالى: {وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع؛ لذلك يحزن البائع إذا لم يَبِعْ، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مُغلَقاً: بركة يا جامع.(17/10278)
ثم إذا انتهتْ الصلاة يعيدنا من حديد إلى حركة الحياة:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] .
كأنك ذهبتَ للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كُلِّ حواسك في حركتك في التجارة، وفي الإنتاج، وفي الاستهلاك، وفي كل ما ينفعك ويُنمي حياتك. وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يُعطّل لك حركة الحياة، إنما ليعطيك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وَفْق ما أراده الله. وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول: إنك عطلت البطارية إنما زدتَ من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخْذ خيرها.
فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان، وبنور الاستجابة لنداء: الله أكبر، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله؛ لذلك ضرب لنا الحق تبارك وتعالى مثلاً لها النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد؛ لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه؛ لأنها مثل كوكب دُريٍّ والنور يتصاعد؛ لأنها بزيت زيتونة، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد، إذن: عندنا ألوان متعددة في المثل، فكذلك النور في بيوت الله.
لذلك قال بعض العارفين: أهل الأرض ينظرون في السماء نجوماً متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوماً متلألئة من بيوت الله، ولا عجبَ في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما يعكس على سطح القمر فيُلقِي إلينا بالضوء الذي نراه؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يَسْطع في بيوت الله، ألاّ يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور؟(17/10279)
ثم يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] .
فالمساجد جُعِلَتْ لتسبيح الله؛ لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلداً يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة، ثم يذهب إلى المسجد فإنْ وجده عامراً في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يُسبِّحون الله وينتظرون الصلاة، وإنْ وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خيرَ فيها.
والغُدوُّ: يعني الصباح، والآصال: يعني المساء، فهي لا تخلو أبداً من ذكْر الله وتسبيحه، وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله}(17/10280)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
قلنا: إن التجارة هي قمة حركة الحياة؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك، وهي تقتضي البيع والشراء، وهما قمة التبادلات، وهؤلاء الرجال لم تُلْهِهِمْ التجارة عن ذِكْر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي.(17/10280)
أو نقول: إن التجارة لم تُلْههم عن ذِكْر الله في ذاتها، فهُمْ حالَ تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله، وقد كنا في الصِّغَر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري، يقول أحدهما للآخر: وحدِّ الله، صَلِّ على النبي، مدَّح النبي، بالصلاة على النبي، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحَلَّ محلَّها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العَرْض والإعلان، بل الغش والتدليس. ولم نَعُدْ نسمع هذه العبارات، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول: كسبنا الصلاة على النبي، فهي في حَدِّ ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع.
{وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة} [النور: 37] الصلاة لأنها تأخذ وقتاً من العمل، وكثيراً ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظاناً أنها ستُضيِّع عليه الوقت، وتُفوِّت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يُخرِج من مخزنه أردباً من القمح ليزرع به أرضه: الأحمق يقول: المخزن نقص أردباً، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافاً مضاعفة.
أو: أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال من الوقت المتبقي ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو: يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سَلْباً وقد تكون إيجاباً، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} [النور: 37] ذلك لأنهم يتجارون لهدف أسمى(17/10281)
وأخلد، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم، أمّا هؤلاء فيتجارون مع الله تجارة لن تبور، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة.
وإذا قِسْتَ زمن دنياك بزمن أُخْراك لوجدته هباء لا قيمةَ له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، إمّا الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حَلاَ وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن: فَهُمْ يعملون للآخرة {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} [النور: 37] واليوم في ذاته لا يُخاف منه، وإنما يُخَاف ما فيه، كما يقول الطالب: خِفْت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يُخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد: يخافون عذاب هذا اليوم.
ومعنى {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} [النور: 37] يعني: رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهوْل الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب؟
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلَّب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا عَلَّها ترى ما يُطمئنها أو يُخفِّف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعاً آخر أشدّ وأَنكى.
لذلك ينتهي الموقف إلى: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 89] يعني: ذليلة منكسرة حيث لا مفرَّ ولا مَنْجى، ولن يجد في هذا اليوم راحة إلا مَنْ قدم له العمل الصالح كالتلميذ المجتهد الواثق من نفسه ومعلومات،(17/10282)
يتلهف إلى ورقة الأسئلة، أما الآخرة فيقف حائراً لا يدري.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ}(17/10283)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
أي: في هذا اليوم يجزيهم الله أحسن ما عملوا، ما شاء الله على رحمة الله!! لكن كيف بأسوأ ما عملوا؟ هذه دَعْوها لرحمة الله ولمغفرته {وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النور: 38] لأن الله تعالى لا يعاملنا في الحسنات بالعدل، ولا يجازينا عليها بالقسطاس المستقيم وعلى قَدْر ما نستحق، إنما يزيدنا من فضله.
لذلك ورد في الدعاء: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان. فليس لنا نجاة إلا بهذا، كما يقول سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] .
{والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38] والرزق: كُلُّ ما يُنتفع به، وكل معنى فيه فوقية لك هو رزق، فالصحة رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، والشجاعة رزق. . الخ.
والبعض يظن أن الرزق يعني المال، وهذا خطأ؛ لأن الرزق مجموعُ أمورٍ كثيرة، فإنْ كان رزُقك علماً فعلِّم الجاهل، وإنْ كان رزقك قوةً فأعِن الضعيف، وإنْ كان رزقك حِلْماً فاصبر على السَّفيه، وإن كان رزقك صنعة تجيدها، فاصنع لآخرقَ لا يجيد شيئاً.
وإذن: هذا كله رزق، وما دام ربك عَزَّ وَجَلَّ يرزقك بغير حساب، ويفيض عليك من فضله فأعْطِ المحتاجين، وارزق أنت أيضاً(17/10283)
المعدمين، واعلم أنك مُنَاول عن الله، والرزق في الأصل من الله وقد تكفّل لعباده به، وما أنت إلا يد الله الممدودة بالعطاء، واعلم أنك ما دُمْتَ واسطة في العطاء، فأنت تعطي من خزائن لا تنفد، فلا تضنّ ولا تبخل، فما عندكم ينفد وما عند الله بَاقٍ.
والحساب: أنْ تحسب ثمرة الأفعال: هذه تعطي كذا، وهذا ينتج كذا، يعني ميزانية ودراسة جدوى، أمّا عطاء الله فيأتيك دون هذه الحسابات، فأنت تحسب؛ لأن وراءك مَنْ سيحاسبك، أمّا ربك عَزَّ وَجَلَّ فلا يحاسبه أحد؛ لذلك يعطيك بلا عمل ودون أسباب، ويعطيك بلا مُقدِّمات، ويعطيك وأنت لا تستحق، أَلاَ ترى مَنْ تتعثر قدمه فيجد تحتها كنزاً؟
ثم يقول الحق سبحانه: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ}(17/10284)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يلفت أنظار مَنْ شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة، فيصنعون صنائع معروفٍ كثيرة، لكن لم يُخلصوا فيها النية لله، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله، وسوف يُواجَه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث: «عملت ليقال وقد قيل» .(17/10284)
لقد مدحوك وأثنَواْ عليك، وأقاموا لك التماثيل وخَلَّدوا ذِكْراك؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39] .
{أَعْمَالُهُمْ} [النور: 39] أي: التي يظنونها خيراً، وينتظرون ثوابها، والسراب: ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، و «قِيعة» : جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل {يَحْسَبُهُ} [النور: 39] إلى الظمآن؛ لأنه حاجة للماء، وربما لو لم يكُنْ ضمآناً لما التفتَ إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجري خلف الماء، لكنه لا يجد شيئاً، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] فُوجىء بإله لم يكُنْ على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غَفْلته، ويُفَاجأ بضياع عمله.
إذن: تجتمع عليه مصيبتان: مصيبة الظمأ الذي لم يجد له رِياً، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر:
كَما أبرقَتْ قَوْماً عِطَاشاً غَمَامَةٌ ... فَلمَّا رأوْهَا أَقْشَعَتْ وتَجلَّتِ
وسبق أن ضربنا مثلاً لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغاً، فطلب الماء، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه(17/10285)
واستشرف المسكين للارتواء أراق الحارسُ الكوبَ، ويُسمُّون ذلك: يأْسٌ بعد إِطْماع.
لذلك الحق تبارك وتعالى يعطينا في الكون أمثلة تُزهِّد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لا بُدَّ أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف مَنْ ينكر الجميل ويتنكر لك بعد أنْ أحسنْتَ إليه، وما ذلك إلا لأنك عملتَ من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلتَ ما فعلتَ من أجل الله لوجدتَ الجزاء والثواب من الله قبل أنْ تنهتي من مباشرة هذ الفعل.
وفي موضع آخر يُشبِّه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئاً: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264] .
وقوله تعالى: {والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] فإياك أنْ تستبعد الموت أو البعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمنٌ لا يُحسَب لأنه يمرُّ عليك دون أن تشعر به، كما قال سبحانه: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .
والله تعالى أخفى الموت أسباباً وميعاداً؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكراً له عاملاً للآخرة؛ لأنك تتوقعه(17/10286)
في أي لحظة، فهو دائماً على بالك، ومَنْ يدريك لعلَّك إنْ خفضْتَ طرْفك لا ترفعه، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع؛ لذلك قالوا: مَنْ مات فقد قامت قيامته.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ}(17/10287)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
هذا مَثَل آخر توضيحي لأعمال الذين كفروا، والبحر اللجي: الواسع الكبير الذي تتلاطم فيه الأمواج، بعضها فوق بعض، وفوق هذا كله سحاب إذن: فالظلام مُطبق؛ لأنه طبقات متتالية، وفي أعماق بعيدة، وقد بلغتْ هذه الظلمة حداً لا يرى الإنسان معها حتى يده التي هي جزء منه، فما بالك بالأشياء الأخرى؟
وقوله: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أي: لم يقرب من أنْ يراها، وإذا نفى القُرْب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أَوْلَى؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] فكما أنه لم ينتفع بالنور، ولم يَرَ حتى يده، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله.(17/10287)
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض}(17/10288)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى ما يدّل على وحدة الخالق الأعلى، وكمال قيوميته، وكمال قدرته، وذُكِرَتْ هذه الآية بعد عدة أوامر نواهٍ، وكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ يريد أنْ يُطمئِنك على أن هذا الكون الذي خلقه من أجلك وقبل أن تُولد، بل، وقبل أن يخلق الله آدم أعدَّ له هذه الكون، وجعله في استقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه، يقول لك ربك: اطمئن فلن يخرج شيء من هذا الكون عن خدمتك فهو مُسخَّر لك، ولن يأتي يوم يتمرّد فيه، أو يعصي أوامر الله:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض} [النور: 41] .
{أَلَمْ تَرَ} [النور: 41] يعني: ألم تعلم، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] ومعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وُلِد عام الفيل، ولم يَرَ هذه الحادثة، فلماذا لم يخاطبه ربُّه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشكّكون في الألفاظ؟
قالوا: ليدلّك على أن ما يخبرك الله به غيباً عنك أوثقُ مما تخبرك به عينُك مشهداً لك؛ لأن مصدر علمك هو الله، أَلاَ ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته، كمن عنده عمى ألوان أو قِصَر(17/10288)
نظر. . إلخ إذن: فالنظر نفسه وهو أوثق شيء لديك قد يكذب عليك.
والتسبيح: هو التنزيه، والتنزيه أن ترتفع بالمنزّه عن مستوى ما يمكن أنْ يجولَ بخاطرك: فالله تعالى له وجود، وأنت لك وجود، لكن وجودَ الله ليس كوجودك، الله له ذاته وصفات، لكن ليست كذاتك وصفاتك. . إلخ.
إذن: نزَّه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها؛ لأنها ذوات وُهِبَتْ الوجود، أما ذات الله فغير موهوبة، ذات الله ذاتية، كذلك لك فِعْل، ولله تعالى فِعْل.
وقد ذكرنا في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا} [الإسراء: 1] .
إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء، فلم يُفرِّقوا بين فِعْل الله وفِعْل العبد، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يقل: سريْتُ من مكة ألى بيت المقدس. إنما قال: أُسْرِي بي.
فالاعتراض على هذا فيه مغالطة، فإنْ كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ فذلك لأن سَيْركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم، أمّا الله تعالى فيقول للشيء: كُنْ فيكون، فلا يحتاج في فِعْله سبحانه إلى زمن. فمن الأدب أَلاَّ تقارن فِعْل الله بفعلك، ومن الأدب أنْ تُنزِّه الله عن كل مَا يخطر لك ببال، نزَّه الله ذاتاً، ونزِّهه صفاتاً، ونزهه أفعالاً.
ألا ترى أن (سبحان) مصدر للتسبيح، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق مَنْ ينزهه، كما جاء في قوله تعالى:
{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] فشهد الحق تبارك وتعالى لنفسه قبل أنْ تشهدوا، وقبل أن تشهد الملائكة، فهذه هي(17/10289)
شهادة الذات للذات. وقبل أن يخلق الله الإنسان المسبِّح سبَّح لله السموات والأرض ساعة خلقهما سبحانه وتعالى.
وحين تتتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [الحديد: 1] فهل سبّحَتْ السموات والأرض مرة واحدة، فقالت: سبحان الله ثم سكتَتْ عن التسبيح؟ لا إنما سبَّحَتْ في الماضي، ولا تزال تُسبِّح في الحاضر: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1] .
وما دام أن الكون كله سبَّح لله، وما يزال يُسبِّح فلم يَبْقَ إلا أنت يا ابن آدم: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] يعني: استح أن يكون الكون كله مُسبِّحاً وأنت غير مُسبِّح، فصِلْ أنت تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات.
وعجيب أن نسمع من يقول أن (مَنْ) في الآية للعاقل، فهو الذي يُسبِّح أمّا السموات والأرض فلا دخلَ لهما في هذه المسألة، ونقول: لا دخلَ لها في تصورك أنت، أمّا الحقيقة فإنها مثلك تُسبِّح كما قال تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] .
وقال: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] فليس لك بعد كلام الله كلام.
وآخر يقول لك: التسبيح هنا ليس على الحقيقة، إنما هون تسبيح دلالة وحال، لا مقال، يعني: هذه المخلوقات تدلُّ بحالها على تسبيح الله وتنزيهه، وأنه واحد لا شريك له، على حد قول الشاعر:
وَفِي كُلِّ شَيء لَهُ آيَةٌ ... تدُلُّ على أنَّه الوَاحِدُ(17/10290)
وهذا القول مردود بقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
إذن: فهذه المخلوقات تُسبِّح على الحقيقة ولها لسان ولغة، لكنك لا تفهم عنها ولا تفقه لغاتها، وهل فهمتَ أنت كل لغات بني جنسك حتى تفهم لغات المخلوقات الأخرى؟ إن العربي إذا لم يتعلم الإنجليزية مثلاً لا يستطيع أن يفهم منها شيئاً، وهي لغة منطوقة مكتوبة، ولها ألفاظ وكلمات وتراكيب مثل العربية.
إذن: لا تقُلْ تسبيحَ حال، هو تسبيح مقال، لكنك لا تفهمه، وكل شيء له مقال ويعرف مقاله، بدليل أن الله تعالى إنْ شاء أطلع بعض أهل الاصطفاء على هذه اللغات، ففهمها كما فهم سليمان عليه السلام عن النملة {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا} [النمل: 19] وسمع كلام الهدهد وفهم عنه ما يقول عن ملكة سبأ.
ونقول لأصحاب هذا الرأي: تأملوا الخلية المسدَّسة التي يصنعها النحل وما فيها من هندسة تتحدى أساطين الهندسة والمقاييس أن يصنعوا مثلها، تأمَّلوا عش الطائر وكيف ينسج عيدان القش، ويُدخل بعضها في بعض، ويجعل للعُشِّ حافَّة تحمي الصغار، فإذا وضعْتَ يدك في العُشِّ وهو من القَشِّ وجدتَ له ملمسَ الحرير، تأملوا خيوط العنكبوت وكيف يصطاد بها فرائسه؟
لقد شاهدت فِليماً مصوراً يُسجِّل صراعاً بين دب وثور، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قَرْنَيْه بيديه، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحاً حتى سقط فراح يأكله.
إذن: كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تُسبِّح الله بها(17/10291)
لا يعرفها إلا بنو جنسها، أو مَنْ أفاض الله عليه بعلمها؟
ثم ألم يتعلَّم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قَتَل قابيلُ هابيلَ؟ كما يقول سبحانه: {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] وكأن ربنا عَزَّ وَجَلَّ يُعلِّمنا الأدب وعدم الغرور.
وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يُكوِّن مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون، فقد لاحظوا مجموعة تمرُّ هنا وهناك، حتى وجدتْ قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا، حيث أتوا، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفتْ حول هذه القطعة وحملتْها إلى العُشِّ، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضِعْف الأولى، فإذا بمجموعة الاستكشاف (أو الناضورجية) تمر عليها وتذهب دون أنْ تحاول حَمْلها، وبعدها جاء جماعة من النمل ضِعْف الجماعة الأولى، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويُجيد تقديرها.
وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتاً أبيض أمام عُشِّ النمل، فلما فحصه وجده من جنين الحبة الذي يُكوِّن النبتة، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تُنبت الحبة فتهدم عليهم العُشّ، لهذا الحد عَلِم النمل قانون صيانته، وعلم كيف يحمي نفسه، وهو من أصغر المخلوقات، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لُغته الخاصة؟
ثم يقول سبحانه: {والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فلماذا خَصَّ الطير بالذكْر مع أنها داخلة في {مَن فِي السماوات والأرض} [النور: 41] .(17/10292)
قالوا: خَصَّها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة، يجب أن نلتفت إليها؛ لأن الله تعالى يريد أنْ يجعل الطير مثلاً ونموذجاً لشيء أعظم، فالطير كائن له وزن وثِقل، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كُلَّ ثقل يعلَقُ في الهواء.
لكن الحق سبحانه وتعالى يخرق هذا القانون للطير حين يصُفُّ أجنحته في الهواء، يظل مُعلّقاً لا يسقط: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} [الملك: 19] .
وكان الخالق عَزَّ وَجَلَّ يقول: خُذُوا من الطير المشاهد نموذجاً ووسيلة إيضاح، فإذا قلتُ لكم: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] فَصِدِّقوا وآمنوا أن الله يُمسك السماء، بل: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41] .
فخُذْ من المشهد الذي تدركه دليلاً على ما لا تدركه.
لكن، مَن الفاعل في {عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] .
يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود، وأحسن منه أن نقول: علم الله صلاتها وتسبيحها؛ لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح. إذن: فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه، كما تعلم أنت المنهج، لكنه استقام على منهجه لأنه مُسخّر وانحرفت أنت لأنك مُخيَّر.(17/10293)
فإنْ أردتَ أنْ تستقيمَ أمور حياتك فطبِّق منهج الله كما جاءك؛ لذلك لا تجد في الكون خللاً أبداً إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان، كل شيء لا دخْلَ للإنسان فيه يسير منتظماً، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف، كذلك القمر والنجوم والهواء، إنها منضبطة غاية الإنضباط، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم.
لذلك يقول تعالى: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] يعني: بحساب دقيق، وما كان للشمس أنْ تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
{والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41] أي: لقيوميته تعالى على خَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض}(17/10294)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يريد ربك عَزَّ وَجَلَّ أنْ يُطمئنك أن الذي كلَّفك بما كلَّفك به يضمن لك مُقوِّمات حياتك، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام، ولن تتأبَّى عليك الشمس أو القمر أو الأرض؛ لأنها مِلْك لله، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة، ولا تشغل نفسك بها، فقد ضمنها الله.(17/10294)
ثم يقول رب العزة سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً}(17/10295)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} [النور: 43] يعني: ألم تعلم، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكوُّن المطر بين التبخير والتكثيف الذي يُكوِّن السحاب، وقلنا سابقاً: إن مُسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكوّن المطر، ونحن نُجري مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلي الماء ونستقبل البخار على سطح بارد، فتحدث له عملية التكثيف.
وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئاً وتسافر مثلاً، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلاً، أما إذا أرقْتَهُ على الأرضِ، فإنه يجفُّ سريعاً، وقبل أن تغادر المكان، لماذا؟ لأنك وسََعْتَ مساحة البَخْر.
ومعنى {يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] أي: يرسله برِفْق ومَهَل؛ لذلك لما وصف الشاعر مَشْي الفتاة قال:
كَأنَّ مِشْيَتَها مِنْ بيْتِ جَارَتِها ... مَرُّ السَّحابَة لاَ رَيْث ولاَ عَجَل(17/10295)
{ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] أي: يجمع بعضه على بعض، وحين يُجمع الشيء بعضه على بعض لا بُدَّ أن يبقى بينه فاصل، فلا يلتحم بغيره التحاماً تاماً، ولولا هذه الفواصل بين قِطَع السحاب، ولولا هذه الفتوق ما نزل الوَدَق من خلاله.
ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويُجمِّعه بعضه على بعض دون أنْ يُوحِّده تكويناً، فيحدث بذلك فراغاً بين قطع السحاب. أرأيتَ حين نلصق الورق بالصمغ مثلاً فمهما وضعت عليه من ثقل لا بُدَّ أن يبقى بينه فراغات؛ لأنه ليس ذاتاً واحدة.
وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظها حين تضع كوباً مبلولاً وتتركه لفترة، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء، فإذا أردْتَ رفعه وجدته صعباً لماذا؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد، فيضعون الكوب مقلوباً على مكان الألم، ثم يُشعِلُون بداخله قطعة من القماش مثلاً لتحرق الهواء بداخل الكوب.
وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم، وهذه المسألة هي سِرُّ عظمة قدماء المصريين في البناء، حيث تتماسك الحجارة دون وجود (مونه) تربط بينها.
إذن: وجود الهواء بين الشيئن يُحدِث خللاً بينهما، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها، ولك أنْ تتصور كم يُكلِّفنا كوب الماء المقطّر حين نُعِدُّه في المعمل، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها؟
ثم يقول تعالى: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43] يعني: مُكدَّساً(17/10296)
بعضه على بعض، وفي آية أخرى: {وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] متراكم بعضه على بعض {فَتَرَى الودق} [النور: 43] أي: المطر: {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] أي: من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السُّحُب.
وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيُحيي به الله الأرض قد يأتي نقمةً وعذاباً، كما قال سبحانه: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ} [النور: 43] ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرةٌ وعظة.
ولو تأملتَ لوجدتَ الماء والنار عدويْن متقابلين يصعب مقاومتهما؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سدِّ مأرب؛ لذلك آثروا أنْ يعيشوا في الصحراء بعيداً عن الماء.
وبالماء نجَّى الله تعالى موسى عليه السلام وأغرق عدوه فرعون، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد.
وقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} [النور: 43] أي: الضوء الشديد الذي يُحدِثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار، وفي البرق تتولد النار من الماء؛ لذلك حينما يقول تعالى: {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] فصدِّق هذه الآية الغيبية؛ لأنك شاهدت نموذجاً لها في مسألة البرق.
ثم يقول الحق سحبانه: {يُقَلِّبُ الله اليل والنهار}(17/10297)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
فالليل والنهار آيتان يتتابعان لكن دون رتابة، فالليل قد يأخذ من النهار، والنهار يأخذ من الليل، وقد يستويان في الزمن تماماً. ومن تقليب الليل والنهار ما يعتريهما من حَرٍّ أو برد أو نور وظلمة.
إذن: فالمسألة ليست ميكانيكية رتيبة، إنما هي قيومية الله تعالى وقدرته في تصريف الأمور على مراده تعالى؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار} [النور: 44] .
العِبرة والعَبرة والعبور والتعبير كلها من مادة واحدة، نقول: هذا مكان العبور يعني الانتقال من جهة إلى جهة أخرى، وفلان عبَّر عن كذا، يعني: نقل الكلام النفسي إلى كلام باللسان، والعبرة أنْ ننظرَ في الشيء ونعتبر، ثم ننتقل منه إلى غيره، وكذلك العَبْرة لأنها حزن أسال شيئاً، فنزل من عيني الدمع.
والعبرة هنا لمن؟ {لأُوْلِي الأبصار} [النور: 44] والمراد: الأبصار الواعية لا الأبصار التي تدرك فقط، والإنسان له إدراكات بوسائلها، وله عقل يستقبل المدركات ويغربلها، ويخلُص منها إلى قضايا، ومن الناس مَنْ يبصر لكنه لا يرى شيئاً ولا يصل من رؤيته إلى شيء، ومنهم أصحاب النظر الواعي المدقِّق، فالذي كتشف قوة البخار رأى القِدْر وهي تغلي وتفور فيرتفع عليها الغطاء، وهذا منظر نراه جميعاً الرجل والمرأة، والكبير والصغير، لكن لم يصل أحد إلى مثل ما وصل إليه.
إذن: المراد الأبصار التي تنقل المبصر إلى العقل ليُحلِّله ويستنبط ما فيه من أسباب، لعله يستفيد منها بشيء ينفعه، والله تعالى قد خلق في الكون ظواهرَ وآياتٍ لو تأملها الإنسان ونظر إليها بتعقُّل وتبصُّر لاستنبطَ منها مَا يُثري حياته ويرتقي بها.(17/10298)
ثم يقول الحق سبحانه: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ}(17/10299)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
الدابة: كلّ ما يدبُّ على الأرض، سواء أكان إنساناً أو أنعاماً أو وحشاً، فكُلُّ ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب.
وكل شيء يضخم قابل لأنْ يُصغَّر، وقد يُضخَّم تضخيماً لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كُنْهه، وقد يَصْغُر تصغيراً حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مُكبِّر، ومن عجائب الخَلْق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومُقوِّماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامته، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته.
ألاَ ترى أن ساعة (بج بن) أخذتْ شهرتها لضخامة حجمها، ثم جاء بعد ذلك مَنْ صنع الساعة في حجم فصِّ الخاتم، وفيها نفس الآلات التي في ساعة (بج بن) ، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صِغَرها. . سبحان الخالق.
ولما كان الماء هو الأصل في خِلْقة كل شيء حيٍّ وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأنْ يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطاً مائياً يعيش فيه.(17/10299)
وهذه الخِلْقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنما هي ألوان وأشكال {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] .
والمشي: هو انتقال الموصوف بالمشي من حَيِّز مكاني إلى حَيِّز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يُوضِّح لنا سبحانه أن المشْي أنواع: فمن الدوابِّ مَنْ يمشي على بطنه، ومنه مَنْ يمشي على رِجْليْن، ومنهم مَنْ يمشي على أربع.
وربنا سبحانه وتعالى بسط لنا هذه المسألة بَسْطاً يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلاً أن من الدواب مَنْ له أربع وأربعون مثلاً، وفي تنوع طُرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خَلْقه.
لذلك قال بعدها: {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} [النور: 45] لأن الآية لم تستقْص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت {يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ} [النور: 45] تندرج مثلاً (أُم أربعة وأربعين) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.
وكما سخر الله الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخَّر الحيوان لخدمة الحيوان ليُوفِّر له مُقوِّمات حياته، ألاَ ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلاً فينظفها له، إذن: فما في(17/10300)
فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور، ويحدث بينها توافق وانسجام وتعاون، حتى إن الطير إنْ رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تُحدِث صوتاً لتنبه التمساح حتى ينجو.
ومن المشْيِ أيضاً السَّعْي بين الناس بالنميمة، كما قال تعالى: {هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] .
وبعد أن أعطانا الحق تبارك وتعالى الأدلة على أن المْلك له وحده، وأن كل شيء يُسبِّح بحمده تعالى وإليه تُرجَع الأمور، وأنه تعالى خلق كُلَّ دابة من ماء، قال سبحانه: {لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ}(17/10301)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يعني: مَنْ ملك هذا الملْك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدُّوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتبعوا هذه الآيات البينات.
ومعنى: {مُّبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] أي: لاستقامة حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأنْ يتحرك الجميع ويؤدي كُلٌّ مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالذي يُتعب الدنيا أن تبنى وغيرك يهدم.
إذن: لا بُدَّ من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحثّ كل(17/10301)
صانع أنْ يتقن صَنْعته ويُخلِص فيها، والإنسان غالباً لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصصه، وربما لا يحسنها لنفسه؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجراً، لذلك يقولون (باب النجار مخلع) أما إنْ عمل للآخرين فإنه يُحسِن عمله ويتقن صنعته، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم، فتستقيم الأمور، فأحْسن ما في يدك للناس، يحسنْ لك الناسُ ما في أيديهم.
وقوله تعالى: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46] .
ولقائل أنْ يسأل: وما ذنب مَنْ لم يدخل في هذه المشيئة فلم يُهْتد؟ وسبق أن قلنا: إن الهداية نوعان: هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة.
فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة، ويبين للكل أسباب الخير وسُبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمَنْ سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة.
فساعة تسمع: {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] .
{والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [البقرة: 258] .
فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
وقلنا: إن كلمة {أَنزَلْنَآ} [النور: 46] تشعر باحترام الشيء المنزّل؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العُلُو إلى الأدنى، فكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ حين يكلفك يقول لك: أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى عُلو السماء؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] .(17/10302)
أي: لا تضعوا لأنفسكم القوانين، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم هذه الحياة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول}(17/10303)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 61] .
وهؤلاء هم المنافقون، وخَيْبة المنافق أنه متضارب الملكات النفسية؛ ذلك لأن للإنسان مَلَكات متعددة تتساند حال الاستقامة، وتتعاند حال المعصية، فالإنسان تراه طبيعياً حين ينظر إلى ابنته أو زوجته، لأن مَلَكاته منسجمة مع هذا الفعل، أما حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النظرة، يخاف أنْ يراه أحد يتلصّص ويحتاط؛ لأن مَلَكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل.
لذلك يقولون: الاستقامة استسامة، فملكات النفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبداً، لكن المنافق فضلاً عن كذبه، فهو متضارب الملَكات في نفسه؛ لأن القلب كافر واللسان مؤمن.
لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين الناس، فقد يصنع الإنسان أمام الناس صنائع خير تُعجب الآخرين، لكنه يعلم من نفسه الشر، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله، إلا أنه خسر رَأْي نفسه في نفسه، وإذا خسر الإنسان نفسه(17/10303)
فلن يُعوِّضه عنها شيء حتى إنْ كسب العالم كله؛ لأن المجتمع لا يكون معك طول الوقت، أمّا نفسك فملازمة لك كل الوقت لا تنفك عنها، فأنا كبير أمام الناس ما دُمْت معهم، أمّا حين أختلي بنفسي أجدها حقيرة: فعلتْ كذا، وفعلت كذا.
إذن: أنت حكمتَ أنّ رأى الناس أنفَسُ من رأيك، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحاً، لكن أنت تريد أن يكون رأي الناس فيك صحيحاً، وإنْ كان رأيك عند نفسك غير ذلك.
ويقول تعالى في هؤلاء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 60] .
فقد حكم عليهم أنهم يزعمون، والزعم مطيّة الكذب، والدليل على أنهم يزعمون أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ولو كانوا مؤمنين بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك ما تحاكموا إلى الطاغوت، وهكذا فضحوا هم أنفسهم، فالثانية فضحتْ الأولى.
لذلك قالوا: إن الكافر أحسن منهم؛ لأنه منسجم الملَكات: قلبه موافق للسانه، قلبه كافر ولسانه كذلك، ومن هنا كان المنافقون في الدَّرْك الأسفل من النار.
والحق تبارك وتعالى يعطينا صورة ونموذجاً يحذرنا ألاَّ نحكم على القول وحده، فيقول تعالى عن المنافقين: {إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] .(17/10304)
وهذه المقولة {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله} [المنافقون: 1] مقولة صادقة، لكن القرآن يُكذِّبهم في أنهم شَهدوا بها.
وقد نزلتْ هذه الآية في أحد المنافقين أظن أنه بشر، وكانت له خصومة مع يهودي، فطلب اليهودي أن يتحاكما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وطلب المنافق أنْ يتحاكما عند كعب بن الأشرف، لكن رَدَّ اليهودي حكومة كعب لما يعلمه من تزييفه وعدم أمانته والإنسان وإن كان في نفسه مُزِّيفاً إلا أنه يحب أنْ يحتكم في أمره إلى الأمين العادل وفعلاً تغلّب اليهودي وذهبا إلى رسول الله فحكم لليهودي.
وفي هذا دلالة على أن اليهودي كان ذكياً فَطِناً، يعرف الحق ويعرف مكانة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لكن المنافق لم يَرْضَ حكم رسول الله، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقَصَّا عليه ما كان، ولما علم أن المنافق رَدَّ حكم(17/10305)
رسول الله قام عمر وجاء بالسيف يُشْهِره في وجه المنافق وهو يقول: مَنْ لم يَرْضَ بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه.
إذن: فهؤلاء يقولون: {آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا} [النور: 47] كلام جميل وأكثر الله من خيركم، لكن هذا قول فقط لا يسانده تطبيق عملي، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وَفْق منطوق الإيمان.
فهذا منهم مجرد كلام، أما التطبيق: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} [النور: 47] والتولِّي: الانصراف عن شيء كان موجوداً إلى شيء مناقض {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} [النور: 47] فما داموا قد تولوا فهم لم يطيعوا ولم يؤمنوا.(17/10306)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
المراد ما كان من أمر بشر واليهودي، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله، وإنْ كان إعراض المنافق واضحاً فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهودي، لأنه ما رضي بحكم الله إلا لأنه واثق أن الحق له وواثق أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لن يحكم إلا بالحق، حتى وإنْ كان ليهودي، وإذن: ما أذعن لحكم الله ورسوله محبةً فيه أو إيماناً به، إنما لمصلحته الشخصية، لذلك يقول تعالى بعدها: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا}(17/10306)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
والمرض: خروج الشيء عن استقامة سلامته، فكل عضو من أعضائك له سلامة: العين لها سلامة، والأذن لها سلامة. . الخ والعجيب أن تعيش بالجارحة لا تدري بها طالما هي سليمة صحيحة، فإذا أصابها مرض تنبهتَ إليها، وأحسست بنعمة الله عليك فيها حال سلامتها.
{أَمِ ارتابوا} [النور: 50] يعني: شكُّوا في رسول الله {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: 50] يعني: يجور ويظلم {بَلْ أولئك هُمُ الظالمون} [النور: 50] أي: لأنفسهم أولاً، وذلك منتهى الحُمْق أن يظلم الإنسان نفسه، لو ظلم غيره لَقُلْنا: خير يجلبه لنفسه، لكن ما الخير في ظلم الإنسان لنفسه؟ ومَنْ ظلم نفسه لا تَلُمْه إن ظلَم الآخرين.
والحق تباك وتعالى حينما يعاقب الظالم، فذلك لمصلحته حتى لا يتمادى في ظُلْمه، ويجرُّ على نفسه جزاء شر بعد أن كان الحق سبحانه يُمنّيه بجزاء خير.
ثم يأتي السياق بالمقابل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين}(17/10307)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
فما دُمْت قد آمنتَ، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة واختيار لا يجبرك أحد عليه، فعليك أن تحترم اختيار نفسك بأنْ تطيعَ هذا الاختيار، وإلا سفَّهتَ رأيك واختيارك، لذلك كان حال المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا: سمعنا وأطعنا.
ولو تأملتَ الكون من حولك لوجدتَهُ يسير على هذه القاعدة، فما دون الإنسان في كَوْن الله مُسيَّر لا مُخيَّر، وإنْ كان الأصل أنه خُيِّر(17/10307)
أولاً، فاختار أن يكون مُسيّراً من البداية، وأراح نفسه، كما قال سبحانه:
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] .
وتصدير الآية الكريمة ب (إنما) يدل على أنها سبقها مقابل، هذا المقابل على النقيض لما يجيء بعدها، فالمنافقون أعرضوا وردُّوا حكم الله ورسوله، والمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا، كما تقول: فلان كسول إنما أخوه مُجِدٌّ. فقول المنافقين أنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله، أمّا المؤمنون فيقبلون حكْم الله ورسوله.
ومعنى {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] يعني: سمعنا سمعاً واعياً يليه إجابة وطاعة، لا مجرد أنْ يصل الصوت إلى أذن السامع دون أن يُؤثر فيه شيء.
ويقول تعالى في موضع آخر: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} [المائدة: 83] .
فالسمع له وظيفة، وهو هنا بمعنى: أجَبْنا يا رب، وصممنا على الإجابة، وهذا وعد كلامي يتبعه تنفيذ وطاعة. مثل قولنا في الصلاة: سمع الله لمن حمده، يعني: أجاب الله مَنْ حمده.
{وأولئك هُمُ المفلحون} [النور: 51] المفلحون: الفائزون الذين بلغوا درجة الفلاح، ومن العجيب أن يستخدم الحق سبحانه كلمة الفلاح، وهي من فلاحة الأرض؛ لأن الفلاحة في الأرض هي أصل الاقتيات، وكل مَنْ أتقن فلاحة أرضه جاءت عليه بالثمرة الطيبة، وزاد خيره، وتضاعف محصوله، حتى إن حبة القمح تعطي سبعمائة حبة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي من يزرعها كل(17/10308)
هذا العطاء، فما بالك بخالق الأرض كيف يكون عطاؤه؟
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ}(17/10309)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
كان سيدنا الشيخ موسى شريف رَحِمَهُ اللَّهُ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه يدرس لنا التفسير، فلما جاءت هذه الآية قال: اسمعوا، هذه برقية من الله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فأولئك هُمُ الفآئزون} [النور: 52] فلم تَدَع هذه الآية حُكْماً من أحكام الإسلام إلا جاءتْ به في هذه البرقية الموجزة التي جمعتْ المنهج كله.
ومعنى {يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النور: 52] آمن بالله وأطاعه وصدَّق رسوله {وَيَخْشَ الله} [النور: 52] أي: يخافه لما سبق من الذنوب {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في الباقي من عمره {فأولئك هُمُ الفآئزون} [النور: 52] وهكذا جمعتْ الآيةُ المعانيَ الكثيرة في اللفظ القليل الموجز.
ومعلوم أن التعبير الموجز أصعب من الإطناب والتطويل، وسبق أنْ ذكرنا قصة الخطيب الإنجليزي المشهور حين قالوا له: إذا طُلِب(17/10309)
منك إعداد خطاب تلقيه في ربع ساعة في كم تُعِدّه؟ قال: في أسبوع، قالوا: فإنْ كان في نصف ساعة؟ قال: أُعِدُّه في ثلاثة أيام، قالوا: فإذا كان في ساعة؟ قال: أُعِدّه في يومين، قالوا: فإنْ كان في ثلاث ساعات؟ قال: أُعِده الاّن.
وقالوا: إن سعد باشا زغلول رَحِمَهُ اللَّهُ أرسل من فرنسا خطاباً لصديق في أربع صفحات قال فيه: أما بعد، فإني أعتذر إليك عن الإطناب (الإطالة) ؛ لأنه لا وقت عندي للإيجاز.
وبعد أنْ تحدّث القرآن عن قَوْل المنافقين وعن ما يقابله من قول المؤمنين وما ترتب عليه من حكم {فأولئك هُمُ الفآئزون} [النور: 52] ذلك لأن ذِكْر المقابل يُظهِر المقابل، كما قالوا: والضد يظهر حُسْنَه الضِّدُّ. بعدها عاد إلى الحديث عن النفاق والمنافقين، فقال سبحانه: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}(17/10310)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
القَسَم: هو اليمين والحَلِف، والإنسان يُقسم ليؤكد المقسَم عليه يريد أن يطمئن المخاطب على أن المقسَم عليه حَقٌّ، وهؤلاء لم يقسموا بالله سِراً في أنفسهم، إنما {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53] يعني: بَالَغوا وأتَوْا بمنتهى الجهد في القسم، فلم يقل أحدهم: وحياة أمي أو أبي، إنما أقسموا بالله، وليس هناك قَسَم أبلغ من هذا القسم، لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت» .(17/10310)
فلما أقسموا بالله للرسول أنْ يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله فضح الله سرائرهم، وكشف سترهم، وأبان عن زيف نواياهم، كما قال في آية أخرى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ} [النساء: 81] .
وتأمل دقَّة الأداء القرآني في: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 81] وهذا احتياط؛ لأن منهم أُنَاساً يراود الإيمان قلوبهم ويفكرون في أنْ يُخلِصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى، ويعودوا إلى الإسلام الصحيح.
والقرآن يفضح أمر هؤلاء الذي يُقسِمون عن غير صِدْق في القَسَم، كمن تعوَّد كثرة الحَلِف والحِنْث فيه؛ لذلك ينهاهم عن هذا الحَلِف: {قُل لاَّ تُقْسِمُواْ} [النور: 53] ولا يمكن أن ينهي المتكلمُ المخاطبَ عن القسم خصوصاً إذا أقسم على خير، لكن هؤلاء حانثون في قَسَمهم، فهو كعدمه، فهم يُقسِمون باللسان، ويخالفون بالوجدان.
وقوله تعالى: {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} [النور: 53] . يُشعِر بتوبيخهم، كأنه يقول لهم: طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة، فهي طاعة باللسان فحسب، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [النور: 53] والذي يؤكد هذه الخبرة أنه يفضح قلوبهم ويفضح نواياهم.
والعجيب أنهم لا يعتبرون بالأحداث السابقة، ولا يتعظون بها، وقد سبق لهم أنه كان يجلس أحدهم يُحدِّث نفسه الحديث فيفضح الله ما في نفسه ويخبر به رسول الله، فيبلغهم بما يدور في نفوسهم، كما جاء في قول الله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] .(17/10311)
ومع ذلك لم يعتبروا ولم يعترفوا لرسول الله بأنه مُؤيَّد من الله، وأنه تعالى لن يتخلى عن رسوله، ولن يدعه لهم يخادعونه ويغشُّونه، وهذه سوابق تكررتْ منهم مرات عِدّة، ومع ذلك لم ينتهوا عما هم فيه من النفاق، ولم يُخلِصوا الإيمان لله.
وبعد هذا كله يوصي الحق تبارك وتعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُبقِي عليهم، وألاَّ يرمي (طوبتهم) لعل وعسى، فيقول عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول}(17/10312)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
وكأنه تعالى لا يريد أنْ يُغلق الباب دونهم، فيعطيهم الفرصة: جَدِّدوا طاعة لله، وجَدِّدوا طاعة لرسوله، واستدركوا الأمر؛ ذلك لأنهم عباده وخَلْقه.
وكما ورد في الحديث الشريف: «لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة» .
ونلحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرة واحدة، كما في الآية السابقة: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} [النور: 52] ، وفي {أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 20] وفي {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] أي: أن طاعتهما واحدة.(17/10312)
قالوا: لأن القرآن ليس كتابَ أحكام فحسب كالكتب السابقة، إنما هو كتاب إعجاز، والأصل فيه أنه مُعْجز، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام، وترك البعض الآخر لبيان الرسول وتوضيحه في الحديث الشريف، وجعل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حقاً في التشريع بنصِّ القرآن: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] .
والقرآن حين يُورد الأحكام يوردها إجمالاً ثم يُفصِّلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالصلاة مثلاً أمر بها الحق تبارك وتعالى وفرضها، لكن تفصيلها جاء في السنة النوبية المطهرة، فإنْ أردتَ التفصيل فانظر في السنة.
كالذي يقول: إذا غاب الموظف عن عمله خمسة عشر يوماً يُفصَل، مع أن الدستور لم ينص على هذا، نقول: لكن في الدستور مادة خاصة بالموظفين تنظم مثل هذه الأمور، وتضع لهم اللوائح المنظِّمة للعمل.
وذكرنا أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين: تقولون في القرآن: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] فهات لي من القرآن: كم رغيفاً في إردب القمح؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه: في الإردب كذا رغيف. فاعترض السائل: أريد من القرآن.
فردَّ الشيخ: هذا من القرآن؛ لأنه يقول: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
فالأمر الذي يصدر فيه حكم من الله وحكم من رسول الله، كالصلاة مثلاً: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] .(17/10313)
وفي الحديث: «الصلاة عماد الدين» .
ففي مثل هذه المسألة نقول: أطيعوا الله والرسول؛ لأنهما متواردان على أمر واحد، فجاء الأمر بالطاعة واحداً.
أما في مسائل عدد الركعات وما يُقَال في كل ركعة وكوْنها سِراً أو جهراً، كلها مسائل بيَّنها رسول الله. إذن: فهناك طاعة لله في إجمال التشريع أن الصلاة مفروضة، وهناك طاعة خاصة بالرسول في تفصيل هذا التشريع، لذلك يأتي الأمر مرتين {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] .
كما نلحظ في القرآن: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56] هكذا فحسب.
قالوا: هذه في المسائل التي لم يَرِدْ فيها تشريع ونَصٌّ، فالرسول في هذه الحالة هو المشرِّع، وهذه من مميزات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن جميع الرسل، فقد جاءوا جميعاً لاستقبال التشريع وتبليغه للناس، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الوحيد الذي فُوِّض من الله في التشريع.
ثم يقول تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] لأنه تعالى أعلم بحِرْص النبي على هداية القوم، وكيف أنه يجهد نفسه في دعوتهم، كما خاطبه في موضع آخر: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وكأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه: قُلْ لهم وادْعُهم مرة ثانية لتريح نفسك {قُلْ(17/10314)
أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] وإنْ كنت غير مكلَّف بالتكرار، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة.
ومعنى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] أي: من الله تعالى، فالرسول حُمِّل الدعوة والبلاغ، وأنتم حُمِّلْتم الطاعة والأداء، فعليكم أن تُؤدُّوا ما كلَّفكم الله به.
{وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ} [النور: 54] نلحظ أن المفعول في {وَإِن تُطِيعُوهُ} [النور: 54] مفرد، فلم يقل: تطيعوهما، لتناسب صدر الآية {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 54] ذلك لأن الطاعة هنا غير منقسمة، بل هي طاعة واحدة.
وقوله: {وَمَا عَلَى الرسول} [النور: 54] تكليفاً من الله {إِلاَّ البلاغ المبين} [النور: 54] المحيط بكل تفصيلات المنهج التشريعي لتنظيم حركة الحياة.
ثم يقول الحق سبحانه:(17/10315)
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات}(17/10316)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
في أول الحديث عن سورة النور قلنا: إنها سُمِّيَتْ بالنور؛ لأنها تبين للناس النور الحسيّ في الكون، وتقيس عليه النور المعنوي في القيم، وما دُمْنا نطفىء أنوارنا الحسية حين يظهر نور الله في الشمس، يجب كذلك أن نطفىء أنوارنا المعنوية حين يأتينا شرع من الله.
فليس لأحد رَأْيٌ مع شرع الله؛ ذلك لأن الخالق عَزَّ وَجَلَّ يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حِسِّيٍّ ومعنوي، ثم ضمن له مقومات بقاء حياته بالطعام والشراب شريطةَ أنْ يكون من حلال حتى تبنى خلاياه وتتكون من الحلال فيَسلم له جهاز الاستقبال عن الله وجهاز الإرسال إنْ أراد الدعاء.
وفي الحديث الشريف: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي(17/10316)
بالحرام فأنَّى يُستجاب لذلك؟» .
فهذه أجهزة مُعطَّلة خَرِبة أشبه ما تكون بالراديو الذي لا يحسن استقبال ما تذيعه محطات الإذاعة، فالإرسال قائم يستقبله غيره، أما هو فجهاز استقباله غير سليم.
فإذا ضمنتَ سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضمن الله لك إجابة الدعاء، وفي الحديث يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لسعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أطِبْ مَطْعمك تكُنْ مُسْتجاب الدعوة» .
ثم ضمن الله للإنسان مُقوِّمات بقاء نوعه بالزواج لاستمرار الذرية لتستمر الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة، ثم تحدثتْ السورة مُحذِّرة إياكم أنْ تجترئوا على أعراض الناس، أو ترْمُوا المحصنات، أو تدخلوا البيوت دون استئذان، حتى لاتطّلعوا على عورات الناس. . إلخ.
فالحق سبحانه وتعالى يريد سلامة المجتمع وسلامة الخلافة في الأرض، وكل هذه الأحكام والمعاني تصبُّ في هذه الآية:
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] . فمَنْ فعل ذلك كان أَهْلاً للخلافة عن الله، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تُبيِّن الغَثَّ من السَّمين، أَلاَ ترى المسلمين(17/10317)
الأوائل كيف كانوا يُعذَّبون ويُضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] .
وهؤلاء الصحابة هم الذي حملوا للدنيا مشاعلَ الهداية، وساحوا بدعوة الله في أنحاء الأرض، فلا بُدَّ أن يُربوا هذه التربية القاسية، وأن يُمتحنوا كل هذا الامتحان، وهم يعلمون جيداً ثمن هذه التضحية وينتظرون ثوابها من الله، فأهل الحق يدفعون الثمن أولاً، أما أهل المبادىء الباطلة فيقبضون الثمن أولاً قبل أنْ يتحركوا في اتجاه مبادئهم.
وهذا الابتلاء الذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية الخليفة ليكون أَهْلاً لها.
لذلك قال سبحانه: {وَعَدَ الله} [النور: 55] والوَعْد: بشارة بخير لم يَأْتِ زمنُه بعد، حتى يستعد الناس بالوسيلة له، وضِدّه الوعيد أو الإنذار بشرٍّ لم يأتِ زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافي الوقوع في أسبابه.
وما دام الوعد من الله تعالى فهو صِدْق، كما قال سبحانه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} [النساء: 122] وقال سبحانه: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111] .
والذي يفسد على الناس وعودهم، ويجرُّ عليهم عدم الوفاء أن الإنسان مُتغِّير بطَبْعه مُتقلِّب، فقد يَعِد إنساناً بخير ثم يتغير قلبه عليه فلا يفي له بما وعد، وقد يأتي زمن الوفاء فلا يقدر عليه، أمّا الحق تبارك وتعالى فلا يتغير أبداً، وهو سبحانه قادر على الوفاء بما وعد به، فليست هناك قوة أخرى تمنعه، فهو سبحانه واحد لا إله غيره؛ لذلك فوَعْده تعالى ناجز.(17/10318)
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [النور: 55] قلنا: إن الإيمان الذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوباً لذاته، إنما لا بُدَّ أن تكون له ثمرة، وأن يُرى أثره طاعة وتنفيذاً لأوامر الله، فطالما آمنتَ بالله فنفَّذ ما يأمرك به، وهناك من الناس مَنْ يفعل الخير، لكن ليس من منطلق إيماني مثل المنافقين الذين قال الله فيهم: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [الحجرات: 14] فَردَّ الله عليهم: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يعني: خضعنا للأوامر، لكن عن غير إيمان، إذن: فقيمة الإيمان أن تُنفِّذ مطلوبه.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 13] .
فبماذا وعد الله الذين آمنوا؟ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] ، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدْعاً، إنما هو أمر مُشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومُشَاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أُذوا وعُذِّبوا واضطهدوا وأُخْرِجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يُؤمَروا بردِّ العدوان.
حتى إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما قدم المدينة في جَمْع من صحابته استقبله الأنصار بالحفاوة، واحتضنوا هؤلاء المهاجرين، وفعلوا معهم نموذجاًَ من الإيثار ليس له مثيل في تاريخ البشرية، وهل هناك إيثار أعظم من أنْ يعرض الأنصاري زوجاته على المهاجر يقول: اختر إحداهما أُطلِّقها لك، إلى هذه الدرجة فعل الإيمان بنفوس الأنصار.(17/10319)
ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقَّدوا ناراً: كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعاً ضد هذا الدين ليضربوه عن قَوْس واحدة، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم.
حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافةَ إنْ ينقضَّ عليهم أعداؤهم، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه: أتروْنَ أنَّا نعيش حتى نأمن ونطمئن ولانبيت في السلاح ونصبح فيه، ولا ننخشى إلا الله؟ يعني: أهناك أمل في هذه الغاية؟
وآخر يذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون.؟ ألاَ يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين؟
فيقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بلسان الواثق من وعد ربه، وليس كلاماً قد يُكذَّب فيما بعد: «لا تصبرون إلا يسيراً، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتبياً ليست فيه حديدة» يعني: في الملأ الواسع، والاحتباء جلسة المستريح الهانىء، والحديدة كناية عن السلاح.
وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ مُلْك أمتي ما زُوِيَ لي منها» .
ومعنى «إن الله زوى لي الأرض» معلوم أن للإنسان مجالَ رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أمّا الأرض ذاتها فواسعة، فُزويَتْ الأرض لرسول الله يعني: جُمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلها.(17/10320)
إذن: فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] .
وفي غمرة هذه الشدة وقمة هذا الضيق يُنزل تعالى على رسوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] حتى إن الصحابة ليتعجبون، يقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أيُّ جمع هذا؟ وقد نزلت الآية وهم في مكة في أشد الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم.
لكن بعد بدر وبعد أنْ رأى ما نزل بالكفار قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
ثم ينزل الله تعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض الآيات التي تُطمئن المؤمنين وتصبرهم: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] .
فاطمئنوا، فكل يوم ننقص من أرض الكفر، ونزيد من أرض الإيمان، فالمقدِّمات في صالحكم، ثم يأتي فتح مكة ويدخلها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في موكب مهيب مُطْأطِئاً رأسه، تواضعاً لمن أدخله، مُظهِراً ذِلة العبودية لله.
حتى إن أبا سفيان لما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الموكب يقول للعباس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً، فيقول العباس: إنها النبوة يا أبا سفيان، يعني: المسألة ليست مُلْكاً إنما هو بشائر(17/10321)
النصر لدين الله وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكة.
ثم يذهب إلى خيبر معقل أهل الكتاب من بني قَيْنُقَاع وبني النضير وبني قريظة وينتصر عليهم، ثم تسقط في يده البحرين ومجوس هَجَر، ويدفعون الجزية.
بعد ذلك يرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كُتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، فيرسل إلى النجاشي مَلِك الحبشة، وإلى المقوقِس، وإلى هرقل، وإلى كسرى، وتأتيه الهدايا من كُلِّ هؤلاء.
ويستمر المدُّ الإسلامي والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله، فإنْ كان المد الإسلامي قد شمل الجزيرة العربية على عهد رسول الله، فإنه تعدّاها إلى شتى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الراشدين، حتى ساد الإسلامُ العالمَ كله، وأظهره الله على أكبر حضارتين في ذلك الوقت: حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب في وقت واحد، ويتحقق وعد الله للذين آمنوا بأنْ يستخلفهم في الأرض.
وبعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تتحقق النبؤات التي أخبر بها، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الذي خرج خلف رسول الله في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش، وبعد أن تاب سُرَاقة وعاد إلى الجادة كان الصحابة يعجبون لدقة ساعديْه ويصفونهما بما يدعو إلى الضحك «فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول عن ساعدي سراقة: كيف بهما في سواري كسرى؟»(17/10322)
ويفتح المسلمون بعد ذلك مُلْك كسرى، ويكون سِوَارا كسرى من نصيب سُرَاقة، فيلبسهما، ويراهما الناس في يديه.
هذه كلها بشائر ومقدمات لوعد الله يراها المؤمنون في أنفسهم، لا فيمن يأتي بعد {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] يعني المسألة لن تطول.
كذلك «أم حرام بنت ملحان التي خرجت في غزوة ذات الصواري وركبت البحر ذكرت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينام هناك ثم يصحو وهو يضحك، فقالت له: ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال:» أناس من أمتي يركبون زَبَد هذا البحر، ملوك على الأَسِرَّة أو كالملوك على الأَسِرّة «فقال: ادْعُ الله أن أكون منهم، فدعا لها فاستجاب الله دعاءه، وخرجتْ في الغزوة، ولما ركبوا البحر الأبيض أرادت أن تخرج فماتت» .
إذن: فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظية، إنما هي بشارة واقعية لها واقع يؤيدها، قد حدث فعلاً.
لكن، ما المراد بالأرض في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض} [النور: 55] ؟ إذا جاءت الأرض هكذا مُفْردةً غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض، كما في قوله تعالى: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا(17/10323)
الأرض} [الإسراء: 104] يعني: تقطّعوا في كل أنحائها، {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} [الإسراء: 104] الذي وعد الله به {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} [الإسراء: 104] يعني: جمعناكم من الأراضي كلها، وهذا هو الأمل القوي الذي نعيش عليه، وننتظر من الله أنْ يتحقق.
ثم يقول تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ} [النور: 55] ففوق الاستخلاف في الأرض يُمكِّن الله لهم الدين، ومعنى تمكين الدين: سيطرته على حركة الحياة، فلا يصدر من أمور الحياة أمر إ لا في ضوئه وعلى هَدْيه، لا يكون ديناً مُعطّلاً كما نُعطِّله نحن اليوم، تمكين الدين يعني توظيفه وقيامه بدوره في حركة الحياة تنظيماً وصيانة.
وقوله سبحانه: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55] وهم الذين قالوا: نبيت في السلاح، ونصبح في السلاح، فيبدلهم الله بعد هذا الخوف آَمْناً، فإذا ما حدث ذلك فعليهم أنْ يحافظوا على الخلافة هذه، وأنْ يقوموا بحقها {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون} [النور: 55] .
ومعنى {كَفَرَ بَعْدَ ذلك} [النور: 55] يعني: بعد أن استخلفه الله، ومكّن له الدين وأمَّنه وأزال عنه أسباب الخوف.
وفَرْق بين تمكين الإسلام وتمكين مَنْ يُنسب إلى الإسلام، فالبعض يدَّعي الإسلام، ويركب موجته حتى يحكم ويستتب له الأمر وتنتهي المسألة، لا. . لأن التمكين ليس لك أيها الحاكم، إنما التمكين لدين الله.(17/10324)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
دائماً ما يقرن القرآن بين هذيْن الركنين، وتأتي الزكاة بعد الصلاة؛ ذلك لأن الصلاة هي الركن الوحيد الذي فُرِض من الله مباشرة، أما بقية الأركان فقد فُرِضَتْ بالوحي، وضربنا لذلك مثلاً، ولله تعالى المثَل الأعلى بالرئيس الذي يُكلِّف مرؤوسيه بتأشيرة أو بالتليفون، فإنْ كان الأمر مُهماً استدعى الموظف المختص إلى مكتبه وكلَّفه بهذا الأمر مباشرة لأهميته.
فكذلك الحق تبارك وتعالى أمر بكل التكاليف الشرعية بالوحي، إلا الصلاة فقد فرضها على رسول الله بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج فكلّفه بها مشافهةً دون واسطة، ولما يعلمه الله تعالى من محبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمته قال له: «أنا فرضتُ عليك الصلاة بالقرب، وكذلك أجعلها للمصلى في الأرض بالقرب، فإنْ دخل المسجد وجدني» .
وإنْ كانت أركان الإسلام خسمة، فإن الشهادة والصلاة هما الركنان الدائمان اللذان لا ينحلان عن المؤمن بحال من الأحوال، فقد لا تتوفر لك شروط الصوم أو الزكاة أو الحج فلا تجب عليك، كما أن الصلاة هي الفريضة المكررة على مدار اليوم والليلة خمس مرات، وبها يتم إعلان الولاء لله دائماً، وقد وزَّعها الحق سبحانه على الزمن ليظل المؤمن على صلة دائمة بربه كلما شغلتْه الدنيا وجد (الله أكبر) تناديه.
وانظر إلى عظمة الخالق عَزَّ وَجَلَّ حين يطلب من صنعته أن(17/10325)
تقابله وتعُرض عليه كل يوم خمس مرات، وهو سبحانه الذي يطلب هذا اللقاء ويفرضه عليك لمصلحتك أنت، ولك أن تتصور صنعة تعُرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيصيبها عَطَبَ؟
وربك هو الذي يناديك ويدعوك للقائه ويقول: «لا أملّ حتّى تملَّوا» ومن رحمته بك ومحبته لك تركَ لك حرية اختيار الزمان والمكان، وترك لك حرية إنهاء المقابلة متى تشاء، فإنْ أردتَ أنْ تظلّ في بيته وفي معيته فعلى الرَّحْب والسَّعَة.
ولأهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها كل أركان الإسلام، ففي الصلاة تتكرر الشهادة: لا إلا إلا الله محمد رسول الله، وفي الصلاة زكاة؛ لأن الزكاة فرع العمل، والعمل فرع الوقت، والصلاة تأخذ الوقت نفسه، وفيها صيام حيث تمتنع في الصلاة عما تمتنع عنه في الصوم بل وأكثر، وفيها حج لأنك تتجه في صلاتك إلى الكعبة.
إذن: فالصلاة نائبة عن جميع الأركان في الاستبقاء، لذلك كانت هي عمود الدين، والتي لا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتى إنْ لم يستطع الصلاة قائماً صلى جالساً أو مضطجعاً، ولو أن يشير بأصبعه أو بطرفه أو حتى يخطرها على باله؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبودية لله المعبود.
والصلاة تحفظ القيم، فتُسوِّي بين الناس، فيقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس في صَفٍّ واحد، الكل يجلس حَسْب قدومه،(17/10326)
وهذا يُحدِث استطراقاً عبودياً في المجتمع، ففي الصلاة مجال يستوي فيه الجميع.
وإنْ كانت الصلاة قوامَ القيم، فالزكاة قوام المادة لمنْ ليستْ له قدرة على الكسب والعمل. إذن: لدينا قوانين للحياة، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصلاة، وقوام المادة في الزكاة.
ثم يقول سبحانه: {وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56] وهنا في الصلاة والزكاة خَصَّ الرسول بالإطاعة؛ لأنه صاحب البيان والتفصيل لما أجمله الحق سبحانه في فرضية الصلاة والزكاة، حيث تفصيل كل منهما في السُّنة المطهرة، فقال: {وَأَطِيعُواْ الرسول} [النور: 56] .
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض}(17/10327)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
يعود السياق للحديث عن الكافرين: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} [النور: 57] يعني: لا تظنن، والشيء المعجز هو الذي يثبت العجز للمقابل، نقول: عملنا شيئاً مُعْجزاً لفلان يعني: لا يستطيع الإتيان بمثله.
فإياك أنْ تظن أن الكافرين مهما عَلَتْ مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يُفْلِتون من عقاب الله، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبداً، ولن يُعجِزوه، إنما يُملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم، أخذهم أَخذ عزيز مقتدر، وهو سبحانه مُدرِكهم لا محالةَ.(17/10327)
وجاء على لسان الجن: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} [الجن: 12] .
ونلحظ في قوله تعالى: {وَمَأْوَاهُمُ النار} [النور: 57] أنها عطفتْ هذه الجملة على سابقتها، وهي منفية {لاَ تَحْسَبَنَّ} [النور: 57] فهل يعني هذا أن معناها: ولا تحسبن مأواهم النار؟ قالوا: لا، إنما المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض لأن مأواهم النار.
{وَلَبِئْسَ المصير} [النور: 57] أي: المرجع والمآب.
ثم ينتقل السياق إلى سلوك يمسُّ المجتمع من داخله والأسرة في أدقِّ خصوصياتها، بعد أنْ ذكر في أول السورة الأحكام الخاصة بالمجتمع الخارجي، فيقول سبحانه: {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم}(17/10328)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
تُعلِّمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكوَّنة من الأبويْن والأبناء، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم، والحق تبارك وتعالى(17/10328)
يريد أن يُنشِّىءَ هذه الأسرة على أفضل ما يكون، ويخصّ بالنداء هنا الذين آمنوا، يعني: يا من آمنتم بي رباً حكيماً مُشرِّعاً لكم حريصاً على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] .
معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين: فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر، فقوله تعالى: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ} [النور: 58] يعني: عَلِّموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم مثل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور: 33] يعني: استعفوا، لأن اللام هنا لام الأمر، ومثل: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] .
وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يُكلِّف به كل مؤمن داخل الأسرة، وإنْ كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم مِلْك اليمين والأطفال الصغار، فأمر الله الكبارَ أن يُعلِّموا الصغار، كما ورد في الحديث الشريف: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر» .
فلم يُكلِّف بهذا الصغار إنما كُلِّف الكبار؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بَعْد مبلغ التكليف من ربهم، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب.
وأْمُرْ الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لِتُربي فيه الدربة والتعود(17/10329)
على أمر قد يشقُّ عليه حال كِبَره، إنما إنْ عوَّدته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سِنِّ التكليف، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها.
وشرع الله لنا آداب الاستئذان؛ لأن الإنسان ظاهراً يراه الناس جميعاً ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يُظهرها على الآخرين، إذن: فَرُقْعة الأهل والملاصقين لك أوسع، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام، فإنْ كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسعَ من حريته مع الأسرة.
فلا بُدَّ إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات، وتُنظِّم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تُنظِّم علاقات الأفراد خارج الأسرة.
ومعنى: {الذين مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 58] هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير يستطيع أن يتركك في أي وقت، أمَّا العبد فليس كذلك؛ لأنه مملوك الرقبة لا حريةَ له، فالمملوكية راجحة في هؤلاء، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يُفْلت منه.
{والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ} [النور: 58] هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبْلَغ التكليف، ويقضون المصالح؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضوابط، فهل نتركهم هكذا يطَّلِعون على خصوصياتنا؟
وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا،(17/10330)
وكذلك الصغار، إلا في أوقات ثلاثة لا يُسْمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان: {مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر} [النور: 58] لأنه وقت متصل بالنوم، والإنسان في النوم يكون حُرَّ الحركة واللباس {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة} [النور: 58] وهو وقت القيلولة، وهي وقت راحة يتخفّف فيها المرء من ملابسه {وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء} [النور: 58] وبعد العشاء النوم.
هذه أوقات ثلاثة، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك.
وانظر إلى هذا التحفّظ الذي يوفره لك ربك عَزَّ وَجَلَّ حتى لا تُقيِّد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة، وكأن هذه الأوقات مِلْكٌ لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن.
أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة.
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد سيدنا عمر في أمر من الأمور، فأرسل إليه غلاماً من الأنصار، فلما ذهب الغلام دفع الباب ونادى: يا عمر. فلم يرد؛ لأنه كان نائماً، فخرج الغلام وجلس في الخارج ودَقَّ الباب فلم يستيقظ عمر، فماذا يفعل الغلام؟
رفع الغلام يديه إلى السماء وقال: يا رب أيقظه. ثم دفع الباب ودخل عليه، وكان عمر نائماً على وضع لا يصح أن يراه عليه أحد، واستيقظ عمر ولحظ أن الغلام قد رآه على هذا الوضع، فلما ذهب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا(17/10331)
ونساؤنا وموالنا وخدمنا، فقد حدث من الغلام كيت وكيت، فنزلت هذه الآية.
ويُسمِّي الله تعالى هذه الأوقات الثلاثة عورة: {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} [النور: 58] والعورة: هي ما يحب الإنسان ألاّ يراها أحد، أو يراه عليها؛ لأنها نوع من الخلل والخصوصية، والله لا يريد أنْ يراك أحد على شيء تكرهه.
لذلك يقولون لمن به خَلَل في عينه مثلاً: أعور: والعرب تقول للكلمة القبيحة: عوراء، كما قال الشاعر:
وعَوْراء جاءتْ من أخٍ فردَدْتُها ... بِسالمةِ العَيْنيْنِ طَالِبةً عُذْراً
يعني: كلمة قبيحة لم أردّ عليها بمثلها، إنما بسالمة لا عين واحدة، بل بسالمة العينين الاثنين.
ثم يقول سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور: 58] يعني: بعد هذه الأوقات: لا إثمَ ولا حرجَ عليكم، ولا على المماليك، أو الصغار أنْ يدخلوا عليكم، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مُسْتعداً لممارسة حياته العادية، ولا مانع لديه من استقبال الخَدَم أو الأَطفال الصغار دون استئذان؛ لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار.
لذلك قال تعالى بعدها: {طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ} [النور: 58](17/10332)
يعني: حركتهم في البيت دائمة، دخولاً وخروجاً، فكيف نُقيِّدها في غير هذه الأوقات؟
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات} [النور: 58] أي: بياناً واضحاً، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد {والله عَلِيمٌ} [النور: 58] بكل ما يُصلح الخلافة في الأرض {حَكِيمٌ} [النور: 58] في تشريعاته وأوامره، لا يضع الحكم إلا بحكمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم}(17/10333)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
الطفل حين كان طفلاً لم يبلغ الحُلُم كان يدخل دون استئذان في غير هذه الأوقات، فإنْ بلغ الحُلُم فعليه أنْ يستأذن، لا نقول: إنه تعوَّد الاستئذان في هذه الأوقات فقط، لا، إنما عليه أنْ يستأذن في جميع الأوقات فقد شَبَّ وكَبِر، وانتهتْ بالنسبة له هذه الحالة.
وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نُضْجاً يجعله صالحاً لإنجاب مثله، فهذه علامة اكتمال تكوينه، وهذا لا يتأتّى إلا باستكمال الغريزة الجنسية التي هي سَبَب النَّسْل والإنجاب، ومثّلْنا ذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نُضْجها، فإنْ تركتَها بعد النضج سقطتْ من نفسها، وهذه آية من آيات الله لبقاء النوع، فلو أكلنا الثمرة قبل نُضْجها لا تنبت بذرتها وينقرض نوعها، فمن حكمة الله في الخَلْق ألاَّ تحلو الثمرة إلا بعد النُّضْج.(17/10333)
كذلك الولد حين يبلغ يصبح صالحاً للإنجاب، ونقول له، انتهتْ الرخصة التي منحها لك الشرع، وعليك أن تستأذن في جميع الأوقات.
لذلك يقول تعالى في موضع آخر: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 31] .
وجاء بالطفل بصيغة المفرد؛ لأن الأطفال في هذه السِّنِّ لم تتكوّن لديهم الغريزة، وليست لهم هذه الميول أو المآرب، فكأنهم واحد، أمّا بعد البلوغ وتكوُّن الميول الغريزية قال: {الأطفال} [النور: 59] لأن لكل منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيته وشطحاته.
وقوله: {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59] أي: من الكبار الذين يستأذنون في كل الأوقات {كذلك} [النور: 59] أي: مثل ما بينَّا في الاستئذان الأول {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} [النور: 59] لأنه سبحانه {عَلِيمٌ} [النور: 59] بما يُصلِحكم {حَكِيمٌ} [النور: 59] لا يُشرِّع لكم إلا بحكمة.
ثم يقول سبحانه: {والقواعد مِنَ النسآء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً}(17/10334)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
نعلم أن الشارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زِيِّها وسلوكها ومِشْيتها، حمايةً لها وصيانةً للمجتمع من الفتنة،(17/10334)
وحتى لا يطمع فيها أصحاب النفوس المريضة، فجعل لها حجاباً يسترها يُخفي زينتها لا يكون شفافاً ولا واصفاً، وقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] .
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لَهُنَّ حكم آخر.
والقواعد: جمع قاعد لا قاعدة، قاعدة تدل على الجلوس، أمّا القاعد ذكراً أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة، ولم يَعُدْ له مهمة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يَعُدْ فيهنَّ إِرْبة ولا مطمع؛ لذلك لا مانعَ أن يتخفَّفْنَ بعض الشيء من اللباس الذي فُرِض عليهن حال وجود الفتنة، ولها أن تضع (طرحتها) مثلاً.
لكن هذه مسألة مقولة بالتشكيك: نسبية يعني: فمِن النساء مَنْ ينقطع حَيْضها ويدركها الكِبَر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا تبارك وتعالى وضع لنا الحكم الاحتياطي {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] ثم يدلُّهُن على ما هو خير من ذلك {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} [النور: 60] .
والمقصود بوَضْع الثياب: التخفّف بعض الشيء من الثياب الخارجية شريطة {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أَخْذاً بهذه الرخصة، ثم تضع الزينة وتتبرج. ونخشى أن نُعلِّم النساء هذا الحكم فلا يأخذْنَ به حتى لا نقول عنهن: إنهن قواعد!!
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السِّنَّ فتجدها وَرِعة في ملبسها، وَرِعة في مظهرها، وَرِعة في سلوكها، فتزداد جمالاً وتزداد بهاءً وآسرية، على خلاف التي لا تحترم سِنّها فتضع على(17/10335)
وجهها المساحيق والألوان فتبدو مَسْخاً مُشوَّهاً.
ومعنى {يَسْتَعْفِفْنَ} [النور: 60] أي: يحتفظْنَ بملابسهن لا يضعْنَ منها شيئاً، فهذا أَدْعى للعفة.(17/10336)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61] الحرج: هو الضيق، كما جاء في قوله سبحانه: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} [الأنعام: 125]
أو الحرج بمعنى: الإثم، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضِّيق(17/10336)
أو الإثم الذي يتعلق بالحكم الآتي في مسألة الأكل، بدليل أنه يقول {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] .
والأعمى يتحرَّج أنْ يأكل مع الناس؛ لأنه لا يرى طعامه، وربما امتدتْ يده إلى أطيب الطعام فيأكله ويترك أدناه، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصة في جلْسته، وربما ضايق بذلك الآخرين، والمريض قد يتأفف منه الناس. فرفَع الله تعالى عن عباده هذا الحرج، وقال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61] .
فيصح أن تأكلوا معاً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يجعل التكامل في الذوات لا في الأعراض، وأيضاً أنك إنْ رأيتَ شاباً مَؤوفاً يعني به آفة، ثم تعامله معاملة خاصة فربما جرحْتَ شعوره، حتى إنْ كان ما به أمراً خَلْقياً من الله لا يتأباه، والبعض يتأبى أن يخلقه الله على هيئة لا يرضاها.
لذلك كانوا في الريف نسمعهم يقولون: اللي يعطي العمى حقه فهو مبصر، لماذا؟ لأنه رضي بهذا الابتلاء. وتعامل مع الناس على أنه كذلك، فطلب منهم المساعدة؛ لذلك ترى الناس جميعاً يتسابقون إلى مساعدته والأخذ بيده، فإنْ كان قد فقد عيناً فقد عوَّضه الله بها ألف عَيْن، أما الذي يتأبّى ويرفض الاعتراف بعجزه ويرتدي نظارة سوداء ليخفي بها عاهته فإنه يسير مُتعسِّراً يتخبّط لا يساعده أحد.
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع، لا يأخذون منه موقفاً، ولا يأخذ المجتمع(17/10337)
منهم موقفاً؛ لذلك يعطف على {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} [النور: 61] ثم يقول سبحانه {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] يعني: هم مثلكم تماماً، فلا حرجَ بينكم في شيء.
{أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلخ.
وكان في الأنصار قزازة، إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلا إذا أَذِنَ له صاحب البيت، وقد يسافر الرجل منهم ويترك التابع عنده في البيت دون أنْ يأذنَ له في الأكل من طعام بيته ويعود، فيجد الطعام كما هو، أو يجده قد فسد دون أنْ يأكل منه التابع شيئاً، فأراد الحق سبحانه أنْ يرفع هذا الحرج عن الناس، فقال:
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى آخر هذه المعطوفات.
ولقائل أنْ يقول: وأيّ حرج في أنْ يأكل المرء في بيته؟ وهل كان يخطر على البال أنْ تجد حَرَجاً، وأنت تأكل من بيتك؟
قالوا: لو حاولتَ استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبيّن لك الجواب، فقد ذكرتْ الآية آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم، ولم تذكر شيئاً عن الأبناء وهم في مقدمة هذا الترتيب، لماذا؟(17/10338)
قالوا: لأن بيوت الأبناء هي بيوت الآباء، وحين تأكل من بيت ولدك كأنك تأكل من بيتك، على اعتبار أن الولد وما ملكتْ يداه مِلْك لأبيه، إذن: لك أن تضع مكان {بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] بيوت أبنائكم. ذلك لأن الحق تبارك وتعالى لم يُرِدْ أنْ يجعل للأبناء بيوتاً مع الآباء، لأنهما شيء واحد.
إذن: لا حرجَ عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمك أو أخيك أو أختك أو عمك أو عمتِك، أو خالك أو خالتك {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} [النور: 61] يعني: يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته، وفي هذا إذْنٌ لك بالتصرُّف والأكل من طعامه إنْ أردتَ.
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] ٍ وتلحظ في هذه أنها الوحيدة التي وردتْ بصيغة المفرد في هذه الآية، فقبلها: بيوتكم، آباءكم، أمهاتكم. . إلخ إلا في الصديق فقال {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] ولم يقل: أصدقائكم.
ذلك لأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصغية المفرد، كما في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] .
لأنهم حتى إنْ كانوا جماعة لا بُدَّ أنْ يكونوا على قلب رجل واحد، وإلا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو، وهم جمع؛ لأن الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنهم واحد.(17/10339)
ثم يقول سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61] {جَمِيعاً} [النور: 61] سوياً بعضكم مع بعض، {أَوْ أَشْتَاتاً} [النور: 61] متفرقين، كُلٌّ وحده.
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] علىأنفسكم، لأنك حين تُسلِّم على غيرك كأنك تُسلِّم على نفسك، لأن غيرك هو أيضاً سيسلم عليك، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك: السلام عليكم سيردّ: وعليكم السلام. فكأنك تُسلِّم على نفسك.
أو: أن المعنى: إنْ دخلتم بيوتاً ليس فيها أحد فسلِّموا على أنفسكم، وإذا دخلوا المسجد قالوا: السلام على رسول الله وعلينا من ربنا، قالوا: تُسمع الملائكة وهي ترد.
وقوله تعالى: {تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ} [النساء: 86] .
والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها {مُبَارَكَةً} [النور: 61] والشيء المبارك: الذي يعطي فوق ما ينتظر منه {كَذَلِكَ} [النور: 61] أي: كما بيَّن لكم الأحكام السابقة يُبيِّن لكم {الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] .(17/10340)
أي: أن الذي كلّفكم بهذه الأحكام رَبٌّ يحب الخير لكم، وهو غنيٌّ عن هذه، إنما يأمركم بأشياء ليعود نَفْعها عليكم، فإنْ أطعتموه فيما أمركم به انتفعتُم بأوامره في الدنيا، ثم ينتظركم جزاؤه وثوابه في الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ}(17/10341)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
المؤمن: مَنْ آمن بإله وآمن بالرسول المبلّغ عن الإله، وما دُمْتَ قد آمنتَ بالرسول المبلِّغ عن الله فلا بُدَّ أن تكون حركتك خاضعةً لأوامره، ويجب أن تكون ذاتك له، فإذا رأى الرسول أمراً جامعاً يجمع المسلمين في خَطْب أو حدث أو حرب، ثم يدعوكم إلى التشاور لِيُدلي كل منكم برأيه وتجربته، ويُوسِّع مساحة الشورى في المجتمع ليأتي الحكم صحيحاً سليماً موافقاً للمصلحة العامة.
فالمؤمن الحق إذا دُعي إلى مثل هذا الأمر الجامع، لا يقوم من مجلسه حتى يستأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليس إلزاماً أنْ يأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن أمر المسلمين الجامع لهم قد يكون أهمّ من الأمر الذي يشغلك، وتريد أن تقوم من أجله، وتترك مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(17/10341)
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} [النور: 62] فالاستئذان هنا من علامات الإيمان، لا يقوم خِلْسة (وينسلت) من المجلس، لا يشعر به أحد، لا بُدَّ من أن يستأذن رسول الله حتى لا يُفوت مصلحة على المؤمنين، ولربما كان له رَأْيٌ ينتفع به.
والرسول إما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يُفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرسول من بلاغة عن الله للأمة، فإذا دعا نفر نفراً للتشاور، فإنما يتشاوران في أمر شخصي يخصُّ صاحبه، لكن حين يدعوهم رسول الله لا يدعو لخصوصية واحدة، وإنما لخصوصية أمة، شاء الله أن تكون خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، وسوف يستفيد الفرد أيضاً من هذه الدعوة، وربما كانت استفادته من الاستجابة للدعوة العامة التي تنتظم كل الناس خَيْراً من استفادته من دعوته الخاصة، فيجب أنْ يُقدِّر المدعو هذا الفارق.
ومع وجود هذا الفارق لم يَحرِم اللهُ بعضَ الناس الذين لهم مشاغل أنْ يستأذنوا فيها رسول الله وينصرفوا؛ لذا شرع لهم الاستئذان، لكن يجب أنْ يضعوا هذا الفارق في بالهم، وأنْ يذكروا أنهم انصرفوا لبعض شأنهم، والرسول قائم في أمر لشئون الدنيا كلها إلى أنْ تقوم الساعة.
فكأنه إنْ شارك في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد، وستستفيد أمته: المعاصرون منهم والآتُون إلى أنْ تقومَ الساعة، فإنْ فضّل شأنه الخاص على هذه الشئون فقد أساء، وفعل مَا لا يليق بمؤمن؛ لذلك أُمر رسول الله أنْ يأذنَ لمنْ يشاء، ثم يستغفر له اللهَ.(17/10342)
يقول سبحانه: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] فالأمر متروك لرسول الله يُقدِّره حَسْب مصلحة المسلمين العامة، فَلَهُ أن يأذنَ أو لا يأذنَ.
إذن: لا بُدَّ من استئذان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيأذن لمَنْ يشاء منهم ممَّنْ يرى أن في الباقين عِوَضاً عنه وعن رأيه، فإنِ استأذن صاحب رأي يستفيد منه المسلمون لم يأذن له.
ثم يقول سبحانه: {واستغفر لَهُمُ الله} [النور: 62] ، وكأن مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر لا يريده الله تعالى.
حتى إن استأذنتَ لأمر يهمك، وحتى إنْ أَذِن لك رسول الله، فالأفضل ألاَّ تستأذن؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين يدعو لأمر جامع يُهِمّ جماعة المسلمين، يجب ألاَّ ينشغل أحد عَمَّا دُعِي إليه، وألاَّ يُقدِّم على مصلحة المسلمين ومجلس رسول الله شيئاً آخر، ففي الأمر الجامع ينبغي أنْ يُكتّل الجميع مواهبهم وخواطرهم في الموضوع، وساعة تستأذن لأمر يخصُّك فأنت منشغل عن الجماعة شارد عنهم.
فحين تنشغل بأمرك الخاص عن أمر المسلمين العام، فهذه مسألة تحتاج إلى استغفار لك من رسول الله، فالرسول يأذن لك، ثم يستغفر لك الله.
ثم يقول الحق سحبانه: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}(17/10343)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] فأنتم يدعو بعضكم بعضاً في مسألة خاصة، لكن الرسول يدعوكم لمسألة عامة تتعلق بحركة حياة الناس جميعاً إلى أنْ تقوم الساعة.
أو: أن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني: يناديكم الرسول أو تنادونه؛ لأن لنداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آداباً يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه: يا محمد، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله، فقال: {إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] .
فأساءوا حين قالوا: يا محمد، ولو قالوا حتى: يا أيها الرسول فقد أساءوا؛ لأنه لا يصحّ أنْ يتعجّلوا رسول الله، ويجب أنْ يتركوه على راحته، إنْ وجد فراغاً للقائهم خرج إليهم، إذن: أساءوا من وجهين.
ولا يليق أن نناديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باسمه: يا محمد. لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله، فلا بُدَّ أنْ نناديه بهذا الوصف. ولِمَ لا وربه عَزَّ وَجَلَّ وهو خالقه ومصطفيه قد ميّزه عن سائر إخوانه من الرسل، ومن أولي العزم، فناداهم بأسمائهم:
{يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] .
وقال: {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48] .
وقال: {ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ} [الصافات: 104105] .
وقال: {ياموسى إني أَنَا الله} [القصص: 30] .
وقال: {ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] .
وقال: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} [ص: 26] .(17/10344)
لكن لم يُنَادِ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باسمه أبداً، إنما يناديه ب «ياأيها» الرسول، ياأيها النبي. فإذا كان الحق تبارك وتعالى لم يجعل دعاءه للرسول كدعائه لباقي رسله، أفندعوه نحن باسمه؟ ينبغي أن نقول: يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا رسول الله، يا نبي الله، فهذا هو الوصف اللائق المشرِّف.
وكما نُميِّز دعاء رسول الله حين نناديه، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نُقدِّر هذا النداء، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .
لا شكَّ أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان، فيُراعنون مجلس رسول الله، ولا يقومون إلا بإذنه، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان: {يَتَسَلَّلُونَ} [النور: 63] والتسلل: هو الخروج بتدريج وخُفْية كأنْ يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج، أو يُوهِمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلِتُ من المجلس خُفْية، وهذا معنى {يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} [النور: 63] يلوذ بآخر ليخرج بسببه.
ويحذر الله هؤلاء: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله، كأنه يقول لهم: قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.(17/10345)
وقال: {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] لا يخالفون أمره، فجعل في المخالفة معنى الإعراض، لا مجرد المخالفة، فالمعنى: يُعرِضون عنه.
والأمر: يُراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذي نحن بصدده يعني: ليس طلباً، وهذا المعنى هو المراد هنا: أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه؛ لأنه وإنْ كان بشراً مثلكم إلا أنه يُوحَى إليه.
لذلك يحدد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مركزه كبشر وكرسول، فيقول: «يَرِدُ عليَّ يعني من الحق الأعلى فأقول: أنا لست كأحدكم، ويُؤخَذ مني فأقول: ما أنا إلا بشر مثلكم» .
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدبون فيها مع رسول الله، ويسألونه في الأمر: أهو من عند الله قد نزل فيه وَحْي، أم هو الرأْي والمشورة؟ فإنْ كان الأمر فيه وَحْيٌ من الله فلا كلامَ لأحد مع كلام الله، وإنْ كان لم يرد فيه من الله شيء أدْلَى كُلٌّ منهم برأيه ومشورته.
وهذا حدث فعلاً «في غزوة بدر حين نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منزلاً رأى بعض الصحابة أن غيره خير منه، فسألوا رسول الله: أهذا منزل أنزلكَهُ الله، أم هو الرأْيُ والمشورة؟ فقال:» بل هو الرأي والمشورة «فأخبروه أنه غير مناسب، وأن المكان المناسب كذا وكذا» .(17/10346)
وقوله تعالى: {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63] أي: في الدنيا {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] أي: في الآخرة، فإنْ أفلتوا من فتنة الدنيا فلنْ يُفلتوا من عذاب الآخرة.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}(17/10347)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
ألا: أداة تنبيه لشيء مهم بعدها، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب، المتكلم عادة يُعد كلامه، ولديْه أُنْسُّ بما سيقول، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذِّهْن فيفاجئه القول، وربما شغله ذلك عن الكلام، فيضيع منه بعضه.
والحق تبارك وتعالى يريد ألاَّ يضيع منك حرف واحد من كلامه، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلا أنها تنبهك وتُذهِب ما عندك من دهشة أو غفلة، فتعي ما يُقال لك، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب، وتحدثتْ به قبل نزول القرآن.
ويقول الشاعر الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس:
أَلاَ هُبِّي بصَحْنِكِ فَاصْبِحِيناَ ... وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدرِينَا(17/10347)
يريد أن ينبهها إلى الكلام المفيد الذي يأتي بعد.
وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه: {إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [النور: 64] .
والسموات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العُلْوي والسُّفْلي، فلله ما في السموات وما في الأرض أي: المظروف فيهما، فما بال الظرف نفسه؟ قالوا: هو أيضاً لله، كما جاء في آية أخرى: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} [النور: 42] إذن: فالظرف والمظروف مِلْك له سبحانه.
وعادةً ما يكون الظرف أقلَّ قيمةً من المظروف فيه، فما بداخل الخزينة مثلاً أثمن منها، وما بداخل الكيس أثمن منه، وكذلك عظمة السموات والأرض بما فيهما من مخلوقات. لذلك إياك أنّْ تجعل المصحف الشريف ظرفاً لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف؛ لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله، فلا يليق أن تجعله حافظةً لنقودك، أو لأوراقك المهمة؛ لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه.
وفي الآية: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [النور: 64] أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، فكلُّ ما في السموات، وكل ما في الأرض مِلْكٌ لله وحده، لا يشاركه فيه أحد، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يَدَّعِ أحد منهم أن له مُلْكَ شيء منها.
حتى إن النمورد الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال: أنا أُحي وأميت لمَّا قال له إبراهيم: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] لم يستطع فِعْل شيء وبُهِت وانتهت المسألة.(17/10348)
ومُلْكه تعالى لم يقتصر على الخَلْق، فخَلَق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق، وتصرّف في كل شيء، فلا تظن الكون من حولك يخدُمك آلياً، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرّفه سبحانه.
فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يُمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف، أو يزيد عن حَدِّه، فيصبح سيولاً تغرق وتدمر، إذن: المسألة ليست رتابة خَلْق، وليست المخلوقات آلاتٍ (ميكانيكية) ، إنما لله المْلك والقيومية والتصرُّف في كل ما خلق.
ثم يقول سبحانه: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64] لفهم هذه الآية لا بُدَّ أن نعلم أن علاقة الحق تبارك وتعالى بالأحداث ليستْ كعلاقتنا نحن، فنحن نعلم من علم النحو أن الأفعال ماضٍ، وهو ما وقع بالفعل قبل أن تتكلم به مثل: جاء محمد، ومضارع وهو إما للحال مثل: يأكل محمد. أو للاستقبال مثل: سيأكل محمد.
أما بالنسبة لله تعالى، فالأحداث سواء كلها مَاضٍ وواقع، وقد تكلمنا في هذه المسألة في قوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] .
ومعلوم أن الاستعجال يكون للأمر الذي يأْتِ بَعْد، والقيامة لم تأتِ بعد لكن عبَّر عنها بالماضي (أتى) لأنه سبحانه لا يعوقه ولا يُخرجه شيء عن مراده، فكأنها أتتْ بالفعل، إذن: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] ليست منطقية مع كلامك أنت، إنما هي منطقية مع كلام الله.
كذلك في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64] فقد: للتحقيق، ويعلم بالنسبة لله تعالى تعني عَلِم، لكنه بالنسبة لك(17/10349)
أنت يعلم: إذن: فهناك طرف منك وطرف من الحق سبحانه، فبالنسبة للتحقيق جاء بقد، وبالنسبة للاستقبال جاء بيعلم.
ثم يقول سبحانه: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ} [النور: 64] وجاء في آية أخرى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] .
فإياك أن تفهم أن نظر الله ورؤيته سبحانه للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئية، تتجه إلى شيء فلا ترى الآخر، إنما هي رؤية شاملة، كأن لكل شيء رؤية وحده، وهذا واضح في قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] .
فسبحانه لا يشغله سَمْع عن سمع، ولا بَصَر عن بصر، فبصره سبحانه محيط، واطلاعه دقيق؛ لذلك يأتي جزاؤه حقاً يناسب دِقّة اطلاعه، فإياك إذن أن تغفل هذه الحقيقة، فربُّك قائم عليك، ناظر إليك، لا تَخْفى عليه منك خافية.
فيا مَنْ تتسلل لِواذاً احذر، فلا شيء أهمّ من مجلس مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ورسول الله نفسه كان حريصاً أن يرى أصحابه في مجلسه بإستمرار، والله تعالى يوصيه بذلك فيقول له: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] .
وكان بعض أصحابه يُصلِّي خلفه، فكان عندما يسلم ينصرف الرجل مسرعاً فيراه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الصلاة، ولا يراه في آخرها،(17/10350)
فاستوقفه في إحدى الصلوات وقال له: «أزهداً فينا» ؟ وكأنه يعزّ على رسول الله أن يجد أحد أصحابه لا يتواجد مع حضرته، أو يَزْهَد في مجلسه، فيُحرم من الخيرات والتجليات التي تتنزل على مجلس رسول الله، ويُحرَم من إشعاعات بصيرته وبصره إليه.
لذلك أُحرِج الرجل، وأخذ يوضح لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يدفعه كل صلاة إلى الإسراع بالانصراف، وأن هذا منه ليس زهداً في حضرة رسول الله ومجلس رسول الله، فقال: يا رسول الله إن لي امرأة بالبيت تنتظر ردائي هذا لتصلي فيه.
يعني: ليس لديه في بيته إلا ثوبٌ واحد، فدعا له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخير، فلما عاد لزوجته سألته عن سبب غيابه، فقصَّ عليها ما كان من أمر رسول الله، وأنه استوقفه وحكى لها ما دار بينهما، فقالت لزوجها: أتشكو ربك لمحمد؟
ولما سألوها بعد ذلك قالت: «غاب عني مقدار مائة تسبيحة» فانظر إلى ساعتها التي تضبط عليها وقتها.(17/10351)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] مادة الباء والراء والكاف عادةً تدلُّ على البركة، وهي أن يعطيك الشيء من الخير فوق ما تظن فيه ويزيد عن تقديرك، كما لو رأيتَ طعام الثلاثة يكفي العشرة، فتقول: إن هذا الطعام مُبَاركٌ أو فيه بركة.(17/10355)
ومن معاني تبارك: تعالى قَدْره و {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] تنزّه عن شبه ما سواه، وتبارك: عَظُم خَيْره وعطاؤه. وهذه الثلاثة تجدها مُكمِّلة لبعضها.
ومن العجيب أن هذا اللفظ {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] مُعجز في رَسْمه ومُعْجز في اشتقاقه، فلو تتعبتَ القرآن لوجدتَ أن هذه الكلمة وردتْ في القرآن تسْع مرات: سبع منها بالألف {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] ومرتان بدون الألف، فلماذا لم تُكتب بالألف في الجميع، أو بدونها في الجميع؟ ذلك ليدلُّك على أن رَسْم القرآن رَسْم توقيفيّ، ليس أمراً (ميكانيكياً) ، كما في قوله تعالى في أول سورة العلق: {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] فرَسْم كلمة اسم هنا بالألف، وفي باقي القرآن بدون الألف.
إذن: فالقرآن ليس عادياً في رَسْمه وكتابته، وليس عادياً في قراءته، فأنت تقرأ في أي كتاب آخر على أيِّ حال كنتَ، إلا في القرآن لا بُدَّ أن تكون على وضوء وتدخل عليه بطُهْر. . الخ ما نعلم من آداب تلاوة القرآن.
ومن حيث الاشتقاق نعلم أن الفعل يُشتَقُّ منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل. . الخ، لكن {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] لم يذكر منها القرآن إلا هذه الصيغة، وكأنه يريد أنّْ يخصَّها بتنزيه الله تعالى، مثلها مثل كلمة سبحان؛ لذلك على كثرة ما مرَّ في التاريخ من الجبابرة أرغموا الناس على مدحهم والخضوع لهم، لكن ما رأينا واحداً مهما كان مجرماً في الدين يقول لأحد هؤلاء: سبحانك.(17/10356)
لذلك نقول في تسبيح الله: سبحانك، ولا تُقال إلا لك. مهما اجترأ الملاحدة فإنهم لا ينطقونها لغير الله.
إذن: {تَبَارَكَ} [الفرقان: 1] تدور حول معَانٍ ثلاثة: تعالى قَدْره، وتنزَّه عن مشابهة ما سواه، وعَظُم خَيْره وعطاؤه، ومَنْ تعاظُم خَيْره سبحانه أنه لا مثيل له: في قَدْره، ولا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في فعله. وهذا كله من مصلحتنا نحن، فلا كبيرَ إلا الله، ولا جبارَ إلا الله، ولا غنيَّ إلا الله.
وسُمِّي القرآن فرقاناً؛ لأنه يُفرِّق بين الحق والباطل، وقد نزل القرآن ليُخرج الناسَ من الظلمات إلى النور، فيسير الناس على هُدىً وعلى بصيرة، فالقرآن إذن فَرَق لهم مواضع الخير عن مواضع العطب، فالفرقان سائر في كل جهات الدين، ففي الدين قمة هي الحق تبارك وتعالى ومُبلِّغ عن القمة هو الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومُرْسَل إليه هم المؤمنون، فجاء القرآن ليفرُقَ بين الحق والباطل في هذه الثلاثة.
ففي القمة، وُجدِ مَنْ ينكر وجود إله خالق لهذا الكون، وآخرون يقولون بوجود آلهة متعددة، وكلاهما على طرفي نقيض للآخر، ليس هناك سيال فكر يجمعهم، فجاء القرآن ليفرق بين الحق والباطل في هذه المسألة، ويقول: الأمر وسط بين ما قُلْتم: فالإله موجود، لكنه إله واحد لا شريكَ له، ففرقَ في مسألة القمة.
كذلك فَرق في مسألة الرسول وهو بشر من قومه، فلما اعترض بعضهم عليه وحسدوه على هذه المكانة وهو واحد منهم أيَّده الله بالمعجزة التي تُؤيده وتُظهِر صِدْقه في البلاغ عن الله، وكانت معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شيء نبغ فيه القوم، وهي الفصاحة والبلاغة والبيان، والعرب أهل بيان، وهذه بضاعتهم الرائجة وتحدَّاهم بهذه المعجزة فلم يستطيعوا.(17/10357)
وكذلك فَرَق في مسألة الخَلْق من حيث مُقوِّمات حياتهم، فبيَّن لهم الحلال والحرام، وفي استبقاء النوع بيَّن لهم الحلال، وشرع لهم الزواج، ونهاهم عن الزنا ليحفظ سلالة الخليفة لله في الأرض.
إذن: فَرق القرآن في كل شيء: في الإله، وفي الرسول، وفي قِوَام حياة المرسَل إليهم، وما دام قد فَرقَ في كل هذه المسائل فلا يوجد لفظ أفضل من أن نُسمِّيه «الفرقان» .
ولا شكَّ أن الألفاظ التي ينطق بها الحق تبارك وتعالى لها إشعاعات، وفي طياتها معَانٍ يعلمها أهل النظر والبصيرة ممَّنْ فتح الله عليهم، وما أشببها بفصوص الماس! والذي جعل الماس ثميناً أن به في كل ذرة من ذراته تكسراتٍ إشعاعية ليست في شيء غيره، فمن أيِّ ناحية نظرتَ إليه قابلك شعاع معكوس يعطي بريقاً ولمعاناً يتلألأ من كل نواحيه، وكذلك ألفاظ القرآن الكريم.
ومن معاني الفرقان التي قال بها بعض العلماء أنه نزل مُفَرَّقاً، كما جاء في قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] يعني: أنزلناه مُفرَّقاً لم ينزل مرة واحدة كالكتب السابقة عليه، وللحق تبارك وتعالى حكمة في إنزال القرآن مُفرقاً، حيث يعطي الفرصة لكل نَجْم ينزل من القرآن أنْ يستوعبه الناس؛ لأنه يرتبط بحادثة معينة، كذلك ليحدث التدرّج المطلوب في التشريعات.
يقول تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106] .
لقد كان المسلمون الأوائل في فترة نزول القرآن كثيري الأسئلة، يستفسرون من رسول الله عن مسائل الدين، كما قال تعالى:(17/10358)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] فكان النجم من القرآن ينزل ليُجيب عليهم ويُشرَّع لهم، وما كان يتأتَّى ذلك لو نزل القرآن جملة واحدة.
وكلمة: {نَزَّلَ الفرقان} [الفرقان: 1] تؤيد هذا المعنى وتسانده؛ لأن نزّل تفيد تكرار الفعل غير «أنزل» التي تفيد تعدِّى الفعل مرة واحدة.
وقوله تعالى: {على عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] كأن حيثية التنزيل عليه هي العبودية لله تعالى، فهو العبد المأمون أن ينزل القرآن عليه.
وسبق أن قلنا: أن العبودية لفظ بغيض إنِ استُعمِل في غير جانب الحق سبحانه، أمّا العبودية لله فيه عِزٌّ وشرف ولفظ محبوب في عبودية الخَلْق للخالق؛ لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خير عبده، أمّا العبودية لله فيأخذ العبد خير سيده.
لذلك جعل الله تعالى العبودية له سبحانه حيثية للارتقاء السماوي في رحلة الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] فالرِّفْعة هنا جاءتْ من العبودية لله.
ثم يقول سبحانه: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] العالمين: جمع عَالَم، والعَالَم ما سوى الله تعالى، ومن العوالم: عالم الملائكة، عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الجماد، إلا أن بعض هذه العوالم لم يَأْتِها بشير ولا نذير؛ لأنها ليست مُخيَّرة، والبشارة والنذارة لا تكون إلا للمخيّر.
يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن(17/10359)
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] .
فإنْ عزلْتَ من هذه العوالم مَنْ ليس له اختيار، فيتبقى منها: الجنّ والإنس، وإليهما أُرسل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشيراً ونذيراً، لكن لماذا قال هنا {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] ولم يقل: بشيراً ونذيراً؟
قالوا: لأنه سبحانه سيتكلم هنا عن الذين خاضوا في الألوهية، وهؤلاء تناسبهم النَّذَارة لا البشارة؛ لذلك قال في الآية بعدها: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض}(17/10360)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
في آخر سورة النور قال سبحانه: {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [النور: 64] فذكر ملكية المظروف، وهنا قال: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} [الفرقان: 2] فذكر مِلْكية الظرف أي: السماوات والأرض.
ثم تكلّم سبحانه في مسألة القمة التي تجرّأوا عليها، فقال: {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} [الفرقان: 2] .
وسبق أنْ تكلمنا كثيراً عن مسألة اتخذا الولد والحكمة منها، فالناس تحب الولد، إما ليكون امتداداً للذكْر، وإما ليساند والده حالَ ضَعْفه، وإما للكثرة، والحق تبارك وتعالى هو الحيُّ الباقي الذي لا يموت، ولا يحتاج لمن يُخلِّد ذِكْراه، وهو القويُّ الذي لا يحتاج لغيره، فَلِمَ إذنْ يتخذ ولداً؟
وقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ} [الفرقان: 2] وهذا أمر(17/10360)
يؤيده الواقع؛ لأن الله تعالى أول ما شَهِد شهد لنفسه، فقال سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] .
أي: لما خلقتُ الملائكة شهدوا لله تعالى، ثم شهد أولو العلم بالاستدلال، فشهادة الحق سبحانه لنفسه شهادة الذات للذات، والملائكة شهدتْ شهادةَ المشاهدة، ونحن شهدنا شهادةَ الاستدلال والبرهان.
والحق تبارك وتعالى يُعطينا الدليل على صِدْق هذه الشهادة، فيقول تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] .
وقال سبحانه: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] .
وهذا هو التفصيل المنطقي العاقل الذي نردُّ به على هؤلاء، فلو كان مع الله تعالى آلهة أخرى لَذهبَ كل منهم بجزء من الكون، وجعله إقطاعية خاصة به، وعَلاَ كل منهم على الآخر وحاربه، ولو كان معه سبحانه آلهة أخرى لاجتمعوا على هذا الذي أخذ الملْك منهم ليحاكموه أو ليتوسَّلوا إليه.
وقلنا: إن الدَّعْوى تثبُتُ لصاحبها إذا لم يَدّعِهَا أحد غيره لنفسه، وهذه المسألة لم يدَّعها أحد، فهي إذن ثابتة لله تعالى إلى أنْ يُوجَد مَنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه.
وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بجماعة في مجلس فَقَد أحدهم محفظته فيه، ولما انصرفوا وجدها صاحب البيت، فسألهم عنها، فلم يدَّعِها أحد منهم، ثم اتصل به أحدهم يقول: إنها لي، فلا شكّ أنها له حتى يوجد مُدَّعٍ آخر، فنفصل بينهما.(17/10361)
ثم يقول تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] فخَلْق الله تعالى ليس خَلْقاً كما اتفق، إنما خَلْقه سبحانه بقَدَرٍ وحساب وحكمة، فيخلق الشيء على قَدْر مهمته التي يُؤدِّيها؛ لذلك قال في موضع آخر: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 23] .(17/10362)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
أي: أتوْا بآلهة غير الله، هذه الآلهة بإقرارهم وبشهادتهم وواقعهم لا تخلق شيئاً، ويا ليتها فقط لا تخلق شيئاً، ولكن هي أنفسها مخلوقة، فاجتمع فيها الأمران.
وهذه من الآيات التي وقف عندها المستشرقون وقالوا: إن فيها شهبة تناقض؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فأثبت أن معه آخرين لهم صفة الخَلْق، بدليل أنه جمعهم معه، وهو سبحانه أحسنهم. وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 49] .
وللردِّ على هؤلاء نقول: تعالوْا أولاً نفهم معنى الخَلْق، الخَلْق: إيجاد لمعدوم، كما مثّلْنا سابقاً بصناعة كوب الزجاج من صَهْر بعض المواد، فالكوب كان معدوماً وهو أوجده، لكن من شيء موجود، كما أن الكوب يجمد على حالته، لكن الحق سبحانه وتعالى يُوجِد من معدوم: معدوماً من معدوم، ويُوجده على هيئة فيها حياة ونمو(17/10362)
وتكاثر من ذاته، كما قال سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] .
والذين يصنعون الآن الورد الصناعي، ويحاولون جاهدين مُضَاهاة الورد الطبيعي الذي خلقه، فيضعون عليه رائحة الورد ليتوفر لها الشكل والرائحة، ثم ترى الوردة الصناعية زاهية لا تذبُل، لكن العظمة في الوردة الطبيعية أنها تذبل؛ لأن ذُبولها يدلُّ على أن بها حياة.
لذلك سمَّى اللهُ الإنسانَ خالقاً، فأنصفه واحترم إيجاده للمعدوم، لكنه سبحانه أحسنُ الخالقين، ووَجْه الحُسْن أن الله تعالى خلق من لا شيء، وأنت خلقتَ من موجود، الله خلق خَلْقاً فيه حياة ونمو وتكاثر، وأنت خلقتَ شيئاً جامداً على حالته الأولى، ومع ذلك أنصفك ربك.
ففي قوله تعالى: {أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [آل عمران: 49] معلوم أنه في مقدور كل إنسان أنْ يُصوِّر من الطين طَيْراً؟ ويُصمِّمه على شكله، لكن أَيُقال له: إنه خلق بهذا التصوير طَيْراً؟ وهل العظمة في تصويره على هيئة الطير؟ العظمة في أنْ تبعثَ فيه الحياة، وهذه لا تكون إلا من عند الله؛ لذلك قال عيسى عليه السلام: {فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 49] .
فإنْ سلَّمْنا أنهم يخلقون شيئاً فهم في ذات الوقت مخلوقون، والأدْهَى من هذا أن الذي يتخذونه إلهاً لا يستطيع حتى أن يحمي نفسه أو يقيمها، إنْ أطاحتْ به الريح، وإنْ كُسِر ذراع الإله أخذوه لِيُرمموه، الإله في يد العامل ليصلحه!! شيء عجيب وعقليات حمقاء.
لذلك يقول تعالى عن آلهتهم: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73] .(17/10363)
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} [الفرقان: 3] يعني: لا تنفعهم إنْ عبدوها، ولا تضرّهم إنْ كفروا بها {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} [الفرقان: 3] أي: موتاً أو حياة لغيرهم، فهم لا يملكون شيئاً من هذا كله، لأنه من صفات الإله الحق الذي يُحيي ويُميت، ثم ينشر الناس في الآخرة. إذن: للإنسان مراحل متعددة، فبعد أنْ كان عَدَماً أوجده الله، ثم يطرأ عليه الموت فيموت، ثم يبعثه الله، ويُحييه حياة الآخرة.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين كفروا إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ}(17/10364)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
بعد أن تكلم الفرقان وفرَق في مسألة القمة والألوهية واتخاذ الولد والشركاء، وبيَّن الإله الحق من الإله الباطل، أراد سبحانه أنْ يتكلّم عن الفرقان في الرسالة، فيحكى ما قاله الكفار عن القرآن {إِنْ هذا} [الفرقان: 4] يعني: ما هذا أي القرآن الذي يقوله محمد {إِلاَّ إِفْكٌ} [الفرقان: 4] الإفك: تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق، وسبق أن قُلْنا: إن النسبة الكلامية إنْ وافقت الواقع فهي صٍِدْق، وإنْ خالفتْه فهي كذب.
والإفْك قَلْب للواقع يجعل الموجود غير موجود، وغير الموجود موجوداً، كما جاء في حادثة الإفك حين اتهموا عائشة أم المؤمنين بما يخالف الواقع، فالواقع أن صفوان أناخ لها ناقته حتى ركبت(17/10364)
دون أن ينظر إليها، وهذا يدل على مُنْتهى العِفَّة والصيانة، وهُمْ بالإفك جعلوا الطُّهْر والعفة عُهْراً.
ومن العجيب أن هؤلاء الذين اتهموا القرآن بأنه إفك هم أنفسهم الذين قالوا عنه:
{لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
فهم يعترفون بالقرآن ويشهدون له، لكن يُتعبهم ويُنغِّص عليهم أن يُنزل على محمد بالذات، فلو نزل فرضاً على غير محمد لآمنوا به.
ومن حُمْقهم أن يقولوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] .
والمنطق أن يقولوا فاهْدنا إليه، لكنه العناد والمكابرة.
وقوله: {افتراه} [الفرقان: 4] أي: ادعاه، وعجيب أمر هؤلاء، يتهمون القرآن بأنه إفك مُفْترى، فلماذا لا يفترون هم أيضاً مِثْله، وهم أمة بلاغة وبيان؟!
وفي موضع آخر يقول تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103] .
وقديماً قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً، وإلا فكيف تتهمون محمداً أن رجلاً أعجمياً يُعلِّمه القرآن، والقرآن عربي؟
وقوله تعالى: {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] الذي قال هذه المقولة هو النضر بن الحارث، ولما قالها رددها بعده آخرون أمثال: عدَّاس، ويسَّار، وأبي فكيهة الرومي، والقرآن يرد على كل هذه الاتهامات: {فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [الفرقان: 4] أي: حكموا به(17/10365)
والظلم هو: الحكم بغير الحق، والزّور هو: عُدَّة الحكم ودليله. والظلم يأتي بعد الزور، لأن القاضي يستمع أولاً إلى الشهادة، ثم يُرتِّب عليها الحكم، فإن كانت الشهادةُ شهادةَ زور كان الحكم حينئذ ظالماً.
لكن الحق تبارك وتعالى يقول {ظُلْماً وَزُوراً} [الفرقان: 4] وهذا دليل على أن الحكم جاء منهم مُسبقاً، ثم التمسوا له دليلاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين}(17/10366)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
الأساطير: جمع أسطورة، مثل أعاجيب جمع أعجوبة، وأحاديث جمعُ أُحْدوثة، والبكرة أو النهار، والأصيل آخره، والمعنى أنهم قالوا عن القرآن: إنه حكايات وأساطير السابقين {اكتتبها} [الفرقان: 5] يعني: أمر بكتابتها. وهذا من ترددهم واضطراب أقوالهم، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وقولهم: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] أي: باستمرار ليُكرِّرها ويحفظها.
ويردُّ القرآن عليهم: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر}(17/10366)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{أَنزَلَهُ} [الفرقان: 6] أي: القرآن مرة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا {الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] فلا تظن أنك بمجرد خَلْقك قدرْتَ أن تكشف أسرار الله في(17/10366)
كونه، إنما ستظل إلى قيام الساعة تقف على سر، وتقف عند سر آخر.
لماذا؟ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبطل هذه المدعيات، ويأتي بأشياء غيبية لم تكن تخطر على بال المعاصرين لمحمد، ثم تتضح هذه الأشياء على مَرَّ القرون، مع أن القرآن نزل في أُمة أمية، والرسول الذي نزل عليه القرآن رجل أمي، ومع ذلك يكشف لنا القرآن كل يوم عن آية جديدة من آيات الله.
كما قال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} [فصلت: 53] .
والحق تبارك وتعالى يكشف لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً من الغيبيات، ليراها المعاصرون له ليلقم الكفارَ الذين اتهموه حجراً، فيكشف بعض الأسرار كما حدث في بدر حيث وقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ساحة المعركة بعد أن عرف أن مكة ألقتْ بفلذات أكبادها وسادتها في المعركة، وقف يشير بعصاه إلى مصارع الكفار، ويقول: «هذا مصرع أبي جهل، وهذا مصرع عتبة بن ربيعة. .» . الخ يخطط على الأرض مصارع القوم.
ومَنِ الذي يستطيع أن يحكم مسبقاً على معركة فيها كَرٌّ وفَرٌّ، وضَرْب وانتقال وحركة، ثم يقول: سيموت فلان في هذا المكان.
والوليد بن المغيرة والذي قال عنه القرآن {سَنَسِمُهُ عَلَى(17/10367)
الخرطوم} [القلم: 16] يعني: ستأتيه ضربة على أنفه تَسِمُه بسِمَة تلازمه، وبعد المعركة يتفقده القوم فيجدونه كذلك.
هذه كلها أسرار من أسرار الكون يخبر بها الحق تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والرسول يخبر بها أمته في غير مظنَّة العلم بها.
ومن ذلك ما يُروى من «أن ابنتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد تزوجتا من ولدين لأبي لهب، فلما حدثت العداوة بينه وبين رسول الله أمر ولديْه بتطليق ابنتي رسول الله، وبعدها رأى أحد الولدين رسول الله ماشياً، فبصق ناحيته، ورأى رسول الله ذلك فقال له:» أكلك كلب من كلاب الله «. فقال أبو لهب بعد أن علم بهذه الدعوة: أخاف على ولدي من دعوة محمد.
وعجيب أنْ يخاف الكافر من دعوة رسول الله، وهو الذي يتهمه بالسحر وبالكذب ويكفر به وبدعوته.
ولما خرج هذا الولد في رحلة التجارة إلى الشام أوصى به القوم أن يحرسوه، ويجعلوا حوله سياجاً من بضائعهم يحميه خشية أن تنفذ فيه دعوة محمد، وهذا منه كلام غير منطقي، فهو يعلم صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه مُرْسَل من عند الله، لكن يمنعه من الإيمان حقده على رسول الله وتكبّره على الحق.(17/10368)
وخرج الولد في رحلة التجارة ورغم احتياطهم في حمياته هجم عليه سبع في إحدى الليالي واختطفه من بين أصحابه، فتعجبوا لأن رسول الله قال: «كلب من كلاب الله» وهذا أسد ليس كلباً. قال أهل العلم: ما دام أن رسول الله نسب الكلب إلى الله، فكلب الله لا يكون إلا أسداً.
فالمعنى: قل يا محمد في الرد عليهم ولإبطال دعاواهم: {أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] وسوف يفضحكم ويُبطِل افتراءكم على رسول الله من قولكم إفك وكذب وافتراء وأساطير الأولين، وسوف يُخْزِيكم أمام أعْينِ الناس جميعاً.
وعلى عهد رسول الله قامتْ معركة بين الفُرْس والروم غُلبت فيها الروم، فحزن رسول الله لهزيمة الروم؛ لأنهم أهل كتاب يؤمنون بالله وبالرسول، أما الفرس فكانوا كفاراً لا يؤمنون بالله ويعبدون النار وغيرها. فمع أنهما يتفقان في تكذيبهم لرسول الله، إلا أن إيمان الروم بالله جعل رسول الله يتعصب لهم مع أنهم كافرون به، فعصبية رسول الله لا تكون إلا لربه عَزَّ وَجَلَّ.
فلما حزن رسول الله لذلك أنزل الله تعالى عليه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 15] .
فأيُّ عقل يستطيع أنْ يحكم على معركة ستحدث بعد عدة سنوات؟ لو أن المعركة ستحدث غداً لأمكن التنبؤ بنتيجتها، بناءً على حساب العَدد والعُدة والإمكانات العسكرية، لكن مَنْ يحكم على معركة ستدور رحاها بعد سبع سنين؟ ومَنْ يجرؤ أن يقولها قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلى يوم القيامة. فلو أن هذه المدة مرَّت ولم يحدث ما أخبر به رسول الله لكفَر به مَنْ آمن وانفضَّ عنه مَنْ حوله.(17/10369)
إذن: ما قالها رسول الله قرآناً يُتْلَى ويُتعبَّد به إلا وهو واثق من صِدْق ما يخبر به؛ لأن الذي يخبره ربه عَزَّ وَجَلَّ الذي يعلم السرَّ في السموات والأرض؛ لذلك قال هنا الحق سبحانه وتعالى:
{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض} [الفرقان: 6] .
ومن العجيب أن ينتصر الروم على الفُرْس في نفس اليوم الذي انتصر فيه الإيمان على الكفر في غزوة بدر، هذا اليوم الذي قال الله تعالى عنه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله} [الروم: 45] .
وما دام أن الذي أنزل القرآن هو سبحانه الذي يعلم السِّر في السماوات والأرض، فلن يحدث تضارب أبداً بين منطوق القرآن ومنطوق الأكوان؛ لأن خالقهما واحد سبحانه وتعالى فمن أين يأتي الاختلاف أو التضارب؟
ثم يقول سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 6] فما مناسبة الحديث عن المغفرة والرحمة هنا؟ قالوا لأن الله تبارك وتعالى يريد أن يترك لهؤلاء القوم الذين يقرعهم مجالاً للتوبة وطريقاً للعودة إليه عَزَّ وَجَلَّ وإلى ساحة الإيمان.
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمن أشار عليه بقتل الكفار: «لعلَّ الله يُخرِج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» .
وكان الصحابة يألمون أشد الألم إنْ أفلتَ أحد رءوس الكفر من(17/10370)
القتل في المعركة، كما حدث مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص قبل إسلامهما، وهم لا يدرون أن الله تعالى كان يدَّخِرهم للإسلام فيما بعد.
فقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 6] حتى لا يقطع سبيل العودة إلى الإيمان بمحمد على مَنْ كان كافراً به، فيقول لهم: على رغم ما حدث منكم. إنْ عُدْتم إلى الجادة وإلى حظيرة الإيمان ففي انتظاركم مغفرة الله ورحمته.
والحق تبارك وتعالى يُبيِّن لنا هذه المسألة حتى في النزوع العاطفي عند الخَلْق، فهند بنت عتبة التي أغرتْ وَحْشِياً بقتل حمزة عم رسول الله وأسد الله وأسد رسوله، ولم تكتف بهذا، بل مثَّلتْ به بعد مقتله ولاكَتْ كبده رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ومع ذلك بعد أنْ أسلمتْ وبايعتْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نُسيت لها هذه الفعلة وكأنها لم تكُنْ.
ولما قال أحدهم لعمر بن الخطاب: هذا قاتل أخيك (يشير إليه) والمراد زيد بن الخطاب، فما كان من عمر إلا أن قال: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟(17/10371)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام)(17/10372)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
عجيب أمر هؤلاء المعاندين: يعترضون على رسول الله أنْ يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لكسْب العيش، فهل سبق لهم أنْ رَأَوْا نبياً لا يأكل الطعام، ولا يمشي في الأسواق؟ ولو أن الأمر كذلك لكان لاعتراضهم معنى، إذن: قولهم {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] قولٌ بلا حجة من الواقع، ليستدركوا بهذه المسألة على رسول الله.
فماذا يريدون؟
قالوا: {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] صحيح أن الملَك لا يأكل، لكن معنى {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} [الفرقان: 7] يعني: يسانده، وفي هذه الحالة لن يُغيِّر من الأمر شيئاً، وسيظل كلام محمد هو هو لا يتغير. إذَن: لن يضيف الملَك جديداً إلى الرسالة. . وعليه، فكلامهم هذا سفسطة وجَدَلٌ لا معنى له.
وكلمة {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7] لم يقولوا بشيراً، مما يدل على اللدَد واللجاج، وأنهم لن يؤمنوا؛ لذلك لن يفارقهم الإنذار.(17/10372)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
تلحظ أنهم يتنزلون في لَدَدهم وجَدَلهم، فبعد أنْ طلبوا مَلَكاً يقولون {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} [الفرقان: 8] أي: ينزل عليه ليعيش منه {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 8] أي: بستان {وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الفرقان: 8] .
والمسحور هو الذي ذهب السِّحْر بعقله، والعقل هو الذي يختار بين البدائل ويُرتِّب التصرُّفات، ففاقد العقل لا يمكن أن يكونَ منطقياً في تصرفاته ولا في كلامه، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس كذلك، فأنتم تعرفون خُلقه وأمانته، وتُسمُّونه «الصادق الأمين» وتعترفون بسلامة تصرفاته وحكمته، كيف تقولون عنه مجنون؟
لذلك يقول تعالى ردًّا عليهم: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 14] .
والخُلُق يسوي تصرُّفات الإنسان فيجعلها مُسْعدة غير مفسدة، فكيف إذن يكون ذو الخُلق مجنوناً؟ إذن: ليس محمد مسحوراً.
وفي موضع آخر قالوا: ساحر، وعلى فرض أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ساحر، فلماذا لم يسحركم كما سَحَر المؤمنين به؟ إنه لَجَج الباطل وتخبّطه واضطرابه في المجابهة. ثم يقول الحق سبحانه: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال}(17/10373)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
{انظر} [الفرقان: 9] خطاب لإيناس رسول الله وتطمينه {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الفرقان: 9] أي: اتهموك بشتّى التهم فقالوا ساحر. وقالوا: مسحور. وقالوا: شاعر. وقالوا: كاهن {فَضَلُّواْ(17/10373)
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 9] لأنهم يقولون كذباً وهُرَاءً وتناقضاً في القول.
{فَضَلُّواْ} [الفرقان: 9] أي: عن المثل الذي يصدُق فيك ليصرف عنك المؤمنين بك، ويجعل الذين لم يؤمنوا يُصرُّون على كفرهم، فلم يصادفوا ولو مثلاً واحداً، فقالوا: ساحر وكذبوا وقالوا: مسحور وكذبوا {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الفرقان: 9] أي: إلى ذلك.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً}(17/10374)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{تَبَارَكَ} [الفرقان: 10] كما قلنا: تنزّه وعَظُم خيره؛ لأن الكلام هنا أيضاً فيه عطاء مُتمثِّل في الخير الذي ساقه الله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فعطاؤه سبحانه دائم لا ينقطع، بحيث لا يقف خبر عند عطائه، بل يظل عطاؤه خيراً موصولاً، فإذا أعطاك اليوم عرفتَ أن ما عنده في الغد خير مما أعطاك بالأمس.(17/10374)
ثم يقول الحق سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة}(17/10375)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
يُضرِب السياق عن الكلام السابق، ويعود إلى مسألة تكذيبهم وعدم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإيمان ليس في مصلحتهم، فالإيمان يقتضي حساباً وجزاءً، وهم يريدون التمادي في باطلهم والاستمرار في لَغْوهم واستهتارهم ومعاصيتهم؛ لذلك يُكذِّبهم أنفسهم ويخدعونها ليظلوا على ما هم عليه.
ولذلك ترى الذين يُسرفون على أنفسهم في الدنيا من الماديين والملاحدة والفلاسفة يتمنون أنْ تكون قضية الدين قضية فاسدة كاذبة، فينكرونها بكل ما لديْهم من قوة، فالدين عندهم أمر غير معقول؛ لأنهم لو أقروا به فمصيبتهم كبيرة.
ومعنى: {وَأَعْتَدْنَا} [الفرقان: 11] هيّأنا وأعددْنا لهم سعيراً؛ لأن عدم إيمانهم بالساعة هو الذي جَرَّ عليهم العذاب، ولو أنهم آمنوا بها وبلقاء الله وبالحساب وبالجزاء لاهتَدوْا، واعتدلوا على الجادة، ولَنجَوْا من هذا السعير.
والسعير: اسم للنار المسعورة التي التي تلتهم كل ما أمامهم، كما نقول: كَلْب مسعور، ثم يقول سبحانه في وصفها: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}(17/10375)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
يريد الحق تبارك وتعالى أن يُشخِّص لنا النار، فهي ترى أهلها من بعيد، وتتحرّش بهم تريد من غَيْظها أنْ تَثِبَ عليهم قبل أنْ يصلوا إليها.
والتغيُّظ: ألم وجداني في النفس يجعل الإنسان يضيق بما يجد،(17/10375)
ومن ذلك نسمع مَنْ يقول: (أنا ح أطلق من جنابي) ، يعني: نتيجة ما بداخله من الغيظ لا يتسع له جوفه، وما دام الغيظ فوق تحمُّل النفس وسِعَتها فلا بُدَّ أن يشعر الإنسان بالضيق، وأنه يكاد ينفجر.
لذلك يقول تعالى عن النار في موضع آخر {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 8] تميّز يعني: تكاد أبعاضها تنفصل بعها عن بعض.
لكن، لماذا تميِّز النار من الغيظ؟ قالوا: لأن الكون كله مُسبِّح لله حامد شاكر لربه؛ لذلك يُسَّرُّ بالطائع ويحبه، ويكره العاصي، أَلاَ ترى أن الوجود كله قد فرح لمولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فرح لمولده الجمادُ والنباتُ والحيوانُ واستبشر، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء ليعيد للإنسان انسجامه مع الكون المخلوق له، ويعدل الميزان.
ومع ذلك نرى من البشر العقلاء أصحاب الاختيار مَنْ يكفر، لذلك تغتاظ النار من هؤلاء الذي شذُّوا عن منظومة التسبيح والتحميد ورَضُوا لأنفسهم أن يكونوا أَدْنى من الجماد والنبات والحيوان، ومن ذلك يقولون: نَبَا بهم المكان من كفرهم، يعني الأماكن من الأرض تُنكرهم وتتضايق من وجودهم عليها، كما تفرح الأرض بالطائع وتحييه؛ لأنه منسجم معها، المكان والمكين ينتظمان في منظومة التسبيح والطاعة.
لذلك يُنبِّهنا إلى هذه المسألة الإمام على رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فيقول: إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في السماء، وموضع في الأرض، أما في الأرض فموضع مُصلاَّه؛ لأنه حُرِم من صلاته، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله الطيب.(17/10376)
والحق تبارك وتعالى يُظهر لنا هذه الصورة في قوله سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .
فالنار تتشوّق لأهلها كالذي يأكل ولا يشبع، فمهما أُلْقِي فيها من العصاة تقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .
ومعنى {وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] النفَس الخارج. وفي موضع آخر يقول تعالى: {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] فذكر أن لها شهيقاً وزفيراً، وهي في المكان الضيق.(17/10377)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
فجمع الله عليهم من العذاب ألواناً حتى يقول الواحد منهم لمجرد أن يرى العذاب: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] وهنا يدعو بالويل والثبور، يقول: يا ويلاه يا ثبوراه يعني: يا هلاكي تعالَ احضر، فهذا أوانك لتُخلِّصني مما أنا فيه من العذاب، فلن يُنجيني من العذاب إلا الهلاك؛ لذلك يقولون: أشدّ من الموت الذي يطلب الموت على حَدِّ قول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أَنْ تَرَى المْوتَ شَافِياً ... وَحَسْبُ المنَايَا ِأنْ يكُنَّ أَمانِياً
ولك أن تتصور بشاعة العذاب الذي يجعل صاحبه يتمنى الموت، ويدعو به لنفسه.(17/10377)
ثم يقول الحق سبحانه: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً}(17/10378)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
يُوبِّخهم الحق سبحانه وتعالى ويُبكِّتهم: يا خيبتكم ويا ضياعكم، لن ينفعكم أنْ تدعوا ثُبوراً واحداً، بل ادعوا ثُبوراً وثبوراً وثبوراً؛ لأنها مسألة لن تنتهي، فسوف يُسْلِمكم العذاب إالى عذاب، حتى ينادوا: {يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وهو عذاب متجدد: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب} [النساء: 56] .
ثم يذكر الحق سبحانه المقابل ليكون ذلك أنْكَى لأهل الشر وأَغْيظ لهم، فيذكر بعد العذاب الثوابَ على الخير وعِظَم الجزاء على الطاعة، ومثل هذه المقابلات كثيرة في كتاب الله، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الإنفطار: 1314] .
ويقول سبحانه: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] .
وهنا بعد أنْ ذكر النار وما لها من شهيق وزفير، يقول سبحانه: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد}(17/10378)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
{قُلْ} [الفرقان: 15] أَمْر لرسول الله بأن يقول، والمقول له هم الذين اعترضوا على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باعتراضات واهية من المعاصرين له،(17/10378)
وكانوا يتخبّطون في هذه المسائل تخبُّط مَنْ لا يعرف فيها حقيقة، وإنما غرضه فقط أنْ يتعرّض لرسول الله في أمر دعوته، والتعرُّض لأيِّ نبيِّ في أمر دعوته من المعاصرين له أمر طبيعي؛ لأن الرسل إنما يجيئون حين يستشري الفساد.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الحق سبحانه وتعالى جعل في كل نفس ملَكةً تجعل الإنسان يفعل شيئاً، ثم تأتي ملَكة أخرى فيه لتلومه على ذلك، حينئذ تكون المناعة في ذات الإنسان ويُسمُّونها النفس اللوَّامة، لكن قد تنطمس فيه هذه الملَكة، فتتعاون كل مَلَكاته على الشر، بحيث تكون النفس بكل مَلَكاتها أمّارة بالسوء، وهي أمَّارة بصيغة المبالغة لا آمرة أي: أنها أخذْت هذا الأمر حِرْفةً لها.
كما لو رأيت رجلاً يَنْجُر في قطعة من الخشب تقول له: ناجر، فإنِ اتخذها حرفةً له، لا يعمل إلا هي، تقول له: نجار، ومثله: خائط وخيّاط. فالمعنى: أمّارة يعني: لم يَعُدْ لها عمل في أن تردع عن الشر، بل دائماً تُقوِّي نوازع الشر في النفس، وتتأصل فيها تصير لها حرفة.
فماذا يكون الموقف إذن؟
لا بُدَّ أنْ يجعل الحق سبحانه في نفوس قوم آخرين مَلَكة الخير ليواجهوا أصحاب هذه الأنفس الأمّارة بالسوء، يواجهونهم بالنصح والإرشاد والموعظة، ويصرفونهم عن الشر إلى الخير. فإذا ما فسد المجتمع كله، لا نفسٌ مانعة، ولا مجتمعٌ مانع، فلا بُدَّ أنْ تتدخّل السماء برسول جديد.
ومن رحمة الله بالعالم أنه سبحانه ضمن لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تكون فيها النفس اللوامة، وضمن لها أنْ يظل مجتمعها آمراً بالمعروف،(17/10379)
ناهياً عن المنكر؛ لذلك لا حاجةَ لرسول بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. إذن: فالمناعة موجودة في أمة الإسلام، ولو لم تكُنْ هذه المناعة موجودة في النفس أولاً، وفي المجتمع ثانياً لتدخلتْ السماء بعد رسول الله برسول جديد ومعجزة جديدة ليعيد الخَلْق إلى رُشْدهم.
ولا شكَّ أن في المجتمع طائفةً تنتفع بهذا الفساد، ويعيشون في ترف في ظله، فطبيعي إذن أنْ يدافعوا عنه، وطبيعي أنْ يتصدَّوْا لدعوة الرسول التي جاءتْ لتعدل ميزان المجتمع، وأنْ يقفوا له بالمرصاد؛ لأنه يهدِّد هذه النفعية ويقضي على مصلحتهم.
وإنْ كان الرسل السابقون قد تعرّضوا لمثل هذا الاضطهاد، فقد تعرّض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأضعاف ما تعرَّضوا له؛ لأن اضطهاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء مناسباً لضخامة مهمته، فقد جاءتْ الرسل قبله، كُلٌّ إلى أمته خاصة في زمن محدد، أمّا رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد جاءت للناس كافة، تعمُّ كل الزمان وكل المكان إلى أن تقوم الساعة، فلا بُدَّ إذن أن تكون مهمته أصعب.
وهؤلاء الكبراء الذين ينتفعون بالفساد في المجتمع يظنون أن رسول الله إذا لُوِّح له بالمال والنعيم يمكن أن يتنازل عن دعوته، ويترك لهم الساحة؛ لذلك اجتمع صناديد قريش على رسول الله، يُلوِّحون له بالمال والجاه والسلطان، ليصدُّوه عن الدعوة ويصرفوه عنها، هؤلاء الذين سماهم أستاذنا الشيخ موسى: دستة الشر، وكانوا اثنا عشر رجلاً، منهم: أبو البختري، وأبو جهل، وأبو سفيان، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، وعتبة بن ربيعة، ومُنبِّه بن الحجاج، والوليد بن المغيرة،(17/10380)
والنضر بن الحارث، وشيبة بن ربيعة، ونُبيه بن الحجاج.
لقد ذهب هؤلاء إلى سيدنا محمد رسول الله يقولون: «نحن وفد قومك إليك، جئنا لنقدِّم المعذرة حتى لا يلومنا أحد بعد ذلك، فإنْ كنتَ تريد مالاً جمعنا لك الأموال، وإنْ كنتَ تريد شرفاً سوَّدناك علينا، وإن كنت تريد مُلْكاً ملّكناك علينا» .
وفَرْق بين المال والشرف: المال أن يكون الإنسان غنياً، لكن ربما لا شرفَ له، ولا مكانةَ بين الناس، وهناك مَنْ له شرف وسيادة، وليس له مال.
ونلحظ أنهم ارتقوْا في مساومة رسول الله من المال إلى الشرف والسيادة، ثم إلى الملْك. فماذا كان موقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ كان موقفه هو الموقف الذي مهَّد الله له به، حينما عرض عليه جبريل عليه السلام أن يجعل الله له جبال مكة ذهباً، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل أشبع يوماً فأشكر، وأجوع ثلاثة أيام فأتضرع» .(17/10381)
وفي موقف آخر، قال له جبريل: «يُخيِّرك ربك أن تكون نبياً ملكاً، أو نبياً عبداً فقال: بل نبياً عبداً» .
والنبي مالك منهج السماء، والملك الذي يملك السيطرة بحيث لا يستطيع أحد أن يقف في وجهه، مثل سليمان عليه السلام، حيث آتاه الله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، ومع ذلك لم يكن هذا الملْك هو المطلوب في ذاته، بدليل أن سليمان عليه السلام مع ما أوتية من الملْك كان لا يأكل إلا الخوشكار يعني: الخبز الأسمر غير النقي (الردَّة) في حين يأكل عبيده ومواليه الدقيق الفاخر النقي، فلم يكن سليمان يريد الملْك لذاته، إنما ليقْوَى به على دعوته، فلا يعارضه فيها أحد.
لذلك، لما أرسلتْ إليه ملكة سبأ بهدية لتستميله بها وتَصْرفه عما يريد رَدّ عليها: {فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتان الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] .
لذلك جاءته صاغرة تقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] .
إذن: مسألة المال هذه عُرِضَتْ على رسول الله قبل أن يقترحها كفار مكة، فإذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رفضه مِمَّن يملكه، فكيف يقبله مِمَّنْ لا يملك شيئاً؟ لذلك قال لهم:
«والله ما بي حاجة إلى ما تقولون،،(17/10382)
فلست طالب مال، ولا مُلْك، ولا شرف، إنما أنا رسول الله أُرسِلْتُ إليكم، ومعي كتاب فيه منهجكم، وأمرني ربي أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فإنْ جئتم على ما أحب فقد ضمنتم حظّ الدنيا والآخرة، وإنْ رددتُمْ عليَّ قولي فإنني سأصبر إلى أن يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين» .
فلجئوا إلى عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لعله يستطيع أن يستميله، فلما كلَّمه عمه قال قولته المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه حتى يُظهِره الله أو أهلك دونه» .
{أذلك} [الفرقان: 15] أي: ما أنتم فيه الآن من العذاب خير، أم جنة الخلد التي وُعِد المتقون؟ احكموا أنتم في هذه المسألة وسنرضى بحكمكم، إنها إغاظة لأهل النار، حيث جمع الله عليهم مقاساة العذاب مع النظر إلى أهل الجنة وما هم فيه من النعيم، ولو كانت الأُولى وحدها لكانت كافية، إنما هو في العذاب ويأتيه أهل الجنة لِيُبكّتوه: انظر ما فاتك من النعيم!!
وفيها أيضاً تقريع لهم، فليس هناك وجه للمقارنة بين الجنة والنار، فأنت مثلاً لا تقول: العسل خير أم الخل؛ لأنه أمر معروف بداهة.
وسبق أنْ تكلّمنا عن الصراط، ولماذا ضُرِب على مَتْن جنهم، والجميع يمرون عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد أنْ يجعل لك(17/10383)
من مرائي النار التي تمرُّ عليها فوق الصراط نعمة أخرى تُذكِّرك بالنجاة من النار قبل أنْ تباشر نعيم الجنة.
لذلك لا يمتن الله علينا بدخول الجنة فحسب، إنما أيضاً بالنجاة من النار، فيقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] .
فالحق سبحانه وتعالى يذكر لنا النار، وأن من صفاتها كذا وكذا، أما في الآخرة فسوف نراها رَأْي العين، كما قال سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7] وذلك حين تكون على الصراط، فتحمد الله على الإسلام الذي أنجاك من النار، وأدخلك الجنة، فكل نعمة منها أعظم من الأخرى.
وفي قوله تعالى: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] كلمة خير في اللغة تدور على معنيين: خير يقابله شَرٌّ، وخير يقابله خير أعظم منه. كما جاء في الحديث الشريف: «المؤمن القوي خير وأَحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير» فكلاهما فيه خير، وإن زاد الخير في المؤمن القوي، وعادة ما تأتي (من) في هذا الأسلوب: هذا خير من هذا.
أما الخير الذي يقابله شر، فمثل قوله تعالى: {أولئك هُمْ خَيْرُ البرية}
[البينة: 7] .
والجنة كما نستعملها في استعمالات الدنيا، هي المكان المليء بالأشجار والمزروعات التي تستر السائر فيها، أو تستر صاحبها أنْ ينتقلَ منها إلى خارجها؛ لأن بها كل متطلبات حياته، بحيث يستغني بها عن غيرها، لذلك أردفها الحق تبارك وتعالى بقوله {الخلد} [الفرقان: 15] .(17/10384)
إذن: فالجنة التي تراها في الدنيا مهما بلغت فليست هي جنة الخلد؛ لأنها لا بد إلى زوال، فعُمرها من عُمْر دُنْياها، كأنه سبحانه يقول لكل صاحب جنة في الدنيا: لا تغترْ بجنتك؛ لأنها ستؤول إلى زوال، وأشدّ الغم لصاحب السرور أنْ يتيقن زواله، كما قال الشاعر:
أَشَدُّ الغَمِّ عِنْدي فِي سُرُورٍ ... تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُه انْتِقَالاَ
لذلك يُطمئِن الله تعالى عباده المؤمنين بأن الجنة التي وعدهم بها هي جنة الخلد والبقاء، حيث لا يفنى نعيمها، ولا يُنغّص سرورها، فلذَّاتها دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة.
وقوله تعالى: {التي وُعِدَ المتقون} [الفرقان: 15] الوعد هنا من الله تعالى الذي يملك كل أسباب الوفاء، والوَعْد بشارة بخير قبل مجيئه لتستعد لأن تكون من أهله، ويقابله الإنذار، وهو التهديد بشرٍّ قبل مجيئه لتتلافاه، وتجتنب أسباب الوقوع فيه.
وكلمة (مُتَّقٍ) الأصل فيها مَنْ جعل بينه وبين الشر وقاية، كما يقول سبحانه: {فاتقوا النار} [البقرة: 24] يعني: اجعلوا بينكم وبينها وقاية.
ومن العجيب أن يقول سبحانه: {واتقوا الله} [البقرة: 194] ويقول {فاتقوا النار} [البقرة: 24] والمعنى: اجعلوا بينكم وبين صفات جلاله القهرية وقايةً؛ لأنكم لا تتحمّلون صفات قَهْره، والنار جُنْد من جنود الله في صفات جلاله، فكأنه تعالى قال: اتقوا جنود صفات الجلال من الله.
وقوله تعالى: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً} [الفرقان: 15] أي: جزاءً لما قدَّموا، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية} [الحاقة: 24] فهذا تعليلُ ما هم فيه من النعيم: أنهم كثيراً ما تَعِبُوا، واضطهدوا وعُذِّبوا، وجزاء من عُذِّب في ديننا أن نُسعده الآن في الآخرة.(17/10385)
{وَمَصِيراً} [الفرقان: 15] أي: يصيرون إليه، إذن: لا تنظر إلى ما أنت فيه الآن، لكن انظر إلى ما تصير إليه حَتْماً، وتأمل وجودك في الدنيا، وأنه موقوت مظنون، ووجودك في الآخرة وأنه باقٍ دائم لا ينتهي، لذلك يقولون: إياك أنْ تدخل مدخلاً لا تعرف كيفية الخروج منه.
ثم يقول الحق سبحانه: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ}(17/10386)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
في الآية السابقة قال سبحانه: {جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] وهنا يقول: {خَالِدِينَ} [الفرقان: 16] وهذه من المواضع التي يرى فيها السطحيون تكراراً في كلام الله، مع أن الفرق واضح بينهما، فالخُلْد الأول للجنة، أما الثاني فلأهلها، بحيث لا تزول عنهم ولا يزولون هم عنها.
وقوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} [الفرقان: 16] كأن امتياز الجنة أن يكون للذي دخلها ما يشاء، وفي هذه المسألة بَحْث يجب أن نتنبه إليه {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} [الفرقان: 16] يعني: إذا دخلتَ الجنة فلك فيها ما تشاء. إذن: لك فيها مشيئة من النعيم، ولا تشاء إلا ما تعرف من النعيم المحدود، أما الجنة ففيها ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وهذا الوعد لا يتحقق للمؤمن إلا في الجنة، أما في الدنيا فلا أحدَ ينال كل ما يشاء حتى الأنبياء أَلاَ ترى أن نوحاً عليه السلام طلب من ربه نجاة ولده. فقال: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فلم يُجَبْ إلى ما يشاء.(17/10386)
ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رغم كل المحاولات لم يتمكن من هداية عمه أبي طالب، وهذا لا يكون إلا في الدنيا، لذلك فاعلم أن الله تعالى حين يحجب عنك ما تشاء في الدنيا إنما ليدخره لك كما يشاء في الآخرة، مع أن الكثيرين يظنون هذا حرماناً، وحاشا لله تعالى أن يحرم عبده.
وفي قوله: {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} [الفرقان: 16] عطاءات أخرى، لكن ربك يعطيك على قَدْر معرفتك بالنعيم، ويجعل عليك (كنترولاً) فأنت تطلب وربُّكَ يعطيك، ويدخر لك ما هو أفضل مما أعطاك.
والمشيئة في الأخرى ستكون بنفسيات ومَلَكات أخرى غير نفسيات ومَلكات مشيئات الدنيا، إنها في الآخرة نفوس صفائية خالصة لا تشتهي غير الخير، على خلاف ما نرى في الدنيا من ملَكات تشتهي السوء، لأن الملَكات هنا محكومة بحكم الجبر في أشياء والاختيار في أشياء: الجبر في الأشياء التي لا تستطيع أن تتزحزح عنها كالمرض والموت مثلاً، أما الاختيار ففي المسائل الأخرى.
ثم يقول سبحانه: {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} [الفرقان: 16] الوعد كما قلنا البشارة بخير قبل أوانه. وبعض العلماء يرى أن وعداً هنا بمعنى حق، لكن هل لأحد حق عند الله؟
وفي موضع آخر يُسمِّه تعالى جزاءً، فهل هو وعد أم جزاء؟ نقول: حينما شرع الحق سبحانه الوعد صار جزاءً؛ لأن الحق تبارك وتعالى لا يرجع في وعده، ولا يحول شيء دون تحقيقه.
وكلمة {مَّسْئُولاً} [الفرقان: 16] مَن السائل هنا؟ قالوا: الله تعالى علَّمنا أن نسأله، واقرأ قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فقد سألناها نحن.(17/10387)
وكذلك سألتها الملائكة، كما جاء في قوله سبحانه على لسان الملائكة: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8] .
فالجنة إذن مسئولة من أصحاب الشأن، ومسئولة من الملائكة الذين يستغفرون لنا.(17/10388)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} [الفرقان: 17] الحشر: جَمْع الناس أجمعين من لَدُنْ آدم عليه السلام وإلى أنْ تقومَ الساعة في مكان واحد، ولغاية واحدة، وإذا كنا الآن نضجّ من الزحام ونشكو من ضيق الأرض بأهلها، ونحن في جيل واحد، فما بالك بموقف يجمع فيه كل الخلائق من آدم إلى قيام الساعة؟
والعبادة: أن يطيع العابدُ أوامرَ معبوده، فينبغي أن ننظر في كل مَنَ له أمر نطيعه: أهو أمر من ذاته؟ أم أمر مُبلَّغ من أعلى منه: رسول أو إله؟ فإنْ كان الأمر من ذاته فعليك أن تنظر أهو مُبَاح أم يتعارض مع نصٍّ شرعي؟ فإنْ كان مباحاً فلا بأسَ في إطاعته، أما إنْ كان مخالفاً للشرع فإنْ أطعْتَه فكأنك تعبده من دون الله.(17/10388)
إذن: حينما يأمرك الآمر بالصلاة أو الزكاة أو الصوم فأنت قبل أن تطيعه أطعتَ مَنْ حَمَّله هذه الأمانة، والذين يطيعون مَنْ يأمرونهم بأشياء مخالفة لمنهج الله عبدوهم من دون الله، وجعلوهم آلهة مُطاعين، كما قال سبحانه في الشياطين: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] وآخرون عبدوا الطاغوت، أو عبدوا الشمس، أو القمر، أو النجوم، أو الأصنام والجماد.
ومعلوم أن عبادة هذه الجمادات عبادة باطلة خاطئة، فالعبادة إطاعة أمر، وهل للجمادات أمر لأحد؟ إنما العبادة إنْ صَحَّتْ بهذا المعنى فتكون لمَنْ يملك أمراً أو سلطة زمنية من الرهبان، أو من الشياطين، أو الملائكة، أو من عيسى عليه السلام حيث قال البعض بألوهيته أو العزيز الخ. ودخلت الجمادات مع هؤلاء على سبيل العموم.
لذلك يقول تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الفرقان: 17] يعني: يجمع العابد على الضلال والمعبود على الضلال في مكان واحد معاً، لماذا؟ لأن العابد إذا وجد نفسه في العذاب ربما انتظر معبوده أنْ ينقذه من العذاب، لكن ها هو يسبقه إلى النار ويقطع عنه كلَّ أمل في النجاة.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17] .
والخطاب هنا مُوجَّه لمن يعقل منهم، ولا مانعَ أن يكون للجميع، فنحن نتحدث عن القانون الذي نعرفه، وقد بيَّن لنا الحق تبارك وتعالى أن لكل شيء لغةً، فلماذا نستبعد أن يكون الخطاب هنا للعاقل ولغير العاقل، بدليل قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ(17/10389)
بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
وقد قال سليمان عليه السلام وهو مِمَّن فقه التسبيح: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف: 15] لما سمع النملة تُحذِّر قومها: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] فتبسَّم سليمان عليه السلام لما سمع من النملة وسمَّاه قَوْلاً، وفي هذا رَدٌّ على مَنْ يقول: إن التسبيح هنا من النملة تسبيحُ حال، لا تسبيح مقال.
وهو قوْل مخالف لنصِّ القرآن الذي قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] فقد حكم الحق سبحانه بأنك لا تفقه هذا التسبيح، فإن قُلْتَ: هو تسبيح دلالة فقد فقهته، وقد حكم سبحانه بعدم فِقْهك له إلا إذا عرّفك الله تعالى، وأطلعك على لغات هذه المخلوقات.
ولماذا نستبعد هذه المسألة والعلم الحديث يُقرِّر الآن أن لكل أمة من أمم الموجودات لغتها الخاصة، وألسْنَا نتحدث الآن فيما بيننا بلغة غير منطوقة، وهي لغة الإشارات التي يتفاهم بها البحارة مثلاً؟
فالحق سبحانه وتعالى يسأل المعبودين: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17] والله يعلم إنْ كانوا أضلُّوهم أم لا؛ لذلك أجاب عيسى عليه السلام على مثل هذا السؤال في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] .
وسؤال الله للمعبودين تقريع للعابدين أمام مَنْ عبودهم، ولو أن(17/10390)
عبادتهم بحقٍّ لكان المعبودون دافعوا عن هؤلاء أمام الله؛ لذلك أجاب عيسى عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] .
أما الآخرون فقالوا: ما أضللناهم، بل هم ضَلُّوا السبيل.
وكلمة {عِبَادِي} [الفرقان: 17] سبق أن قلنا إن (عبد) تُجمع على (عباد) و (عبيد) ، وعبد يعني أنه خاضع لأمر السيد، وليس له تصرُّف من ذاته، إنْ نظرتَ هذه النظرة فكل خَلْق الله عبيد؛ لأن هناك أشياء لا يخرجون فيها عن مراد الله تعالى كميلاده على شكل خاص أو مرضه أو وفاته.
لذلك نقول للذين أَلِفُوا مخالفة أوامر الله والتمرد عليه سبحانه: قد تتمردون على الإيمان به فتكفروا، وقد تتمردون على الإيمان برسوله فتكذِّبوا، وقد تتمردون على حُكْم من الأحكام فتخالفوه.
إذن: لكم جَرْأة على المخالفة وإلْف للتمرد، وما دام لك دُرْبة على ذلك، فعليك أنْ تتمرد أيضاً عند المرض وتقول: لن أمرض وتتمرّد علىلموت فلا تموت، لكن هيهات، فهذه مسائل، الكل فيها عبيد لله مقهورون لإرادته سبحانه، المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
وهناك أمور أخرى جعلها الله بالاختيار، فالذين سبقتْ لهم من الله الحسنى، وأُلْهموا التوفيق يتنازلون عن اختيارهم لاختيار ربهم ومراده، فيكونون عبيداً لله في كل الأمور القهريات وغير القهريات، وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يكونوا عباداً لله.
فالعباد إذن يشتركون مع العبيد في القهريات، ويتميزون عنهم بتنازلهم عن مرادهم لمراد ربهم، وعن اختيارهم لاختياره عَزَّ وجلَّ؛ لذلك سمّاهم عباداً، كما جاء في قوله سبحانة:(17/10391)
{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً}
[الفرقان: 63] .
والاستفهام في قوله سبحانه: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي} [الفرقان: 17] يقول فيه بعض غير المؤهَّلين للفَهْم عن الله: أما كان يقول: أأضللتم عبادي؟ ونقول لهؤلاء: ليس لديكم الملَكَة اللغوية لفَهْمِ القرآن، فأنت تستفهم عن الفعل إذا لم يكن موجوداً أمامك، تقول: أبنيتَ البيت الذي أخبرتني أنك ستبنيه؟ فيخبرك: بنيتُه أو لم أَبْنِه، أمَّا حين تقول: أبنيتَ هذا البيت؟ فالسؤال ليس عن البناء، إنما عن فاعله، أنت أم غيرك؟ لأن البناء قائم أمامك.
إذن: فَرْقٌ بين السؤال عن الحَدث، والسؤال عن فاعل الحدث، والضلال هنا موجود فعلاً، فالسوال عن الفاعل {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17] .
وسمَّاهم عباداً هنا مع أنهم ضالون؛ لأن الكلام في الآخرة، حيث لم يَعُدْ لأحد اختيار، الاختيار كان في الدنيا وعليه ميَّزنا بين العبيد والعباد، أما في الآخرة فالجميع عبيد والجميع عباد، فقد زال ما يُميِّزهم؛ لأنهم جمعياً مقهورون لا اختيارَ لأحد منهم.(17/10392)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
كلمة (سبحان) أي: تنزيهاً لله تعالى في ذاته عن مشابهة الذوات، وتنزيهاً لله تعالى في صفاته وأفعاله عن مشابهة الصفات والأفعال، فلله سَمْع ولك سمع، ولله وجود ولك وجود، ولله حياة ولك حياة، لكن أحياتك كحياة الله؟ الله جبار وأنت قد تكون جباراً، الله غني وأنت قد تكون غنياً، فهل غِنَاك كغِنَى الله؟ ولله تعالى فِعْل ولك فعل، فهل فِعْلك كفِعْل الله؟
إذن: هناك فَرْق بين الصفات الذاتية والصفات الموهوبة التي يقبضها واهبها إنْ شاء.
وقد تُقال سبحان الله ويُقصَد بها التعجب، فحين تسمع كلاماً عجيباً تقول: سبحانه الله يعني: أنا أنزه أن يكون هذا الكلام حدث.
لذلك يقولون هنا: {سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] يعني: عجيبة أننا نضل، كيف ونحن نعبدك نجعل الآخرين يعبدوننا، والمعنى: أن هذا لا يصح مِنَّا، كيف ونحن ندعو الناس إلى عبادتك، وليس من المعقول أننا ندعوهم إلى عبادتك ونتحوّل نحن لكي يعبدونا: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} [الفرقان: 18] .
فأنت وليُّنا الذي نتقرّب إليه، وقد بعثْتنا لمهمة من المهمات، ولا بُدَّ أن صواب اختيارك لنا يمنعنا أن نفعل هذا، وإلا ما كُنا أمناء على هذه المهمة. فسبحانك: تنزيهاً لك أن تختار مَنْ ليس جديراً بالمهمة، فيأخذ الأمر منك لنفسه.
ومعنى: {مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ} [الفرقان: 18] نفي الانبغاء، نقول: ما ينبغي لفلان أن يفعل كذا، كما قال تعالى في حق رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] والشعر مَلكَة وموهبة بيان أدائية، وكان العرب يتفاضلون بهذه الموهبة، وإنْ(17/10393)
نبغ فيهم شاعر افتخروا به ورفع من شأنهم، ولقد توفرت لرسول الله هذه الملَكة.
ولو كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاعراً لكان شاعراً مُبْدعاً، لكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما ينبغي له ذلك؛ لأن الشعر مبنيٌّ على التخيُّل؛ لذلك أبعده الله عن الشعر حتى لا يظن القوم أن ما يأتي به محمد من القرآن تخيلات شاعر، فلم تكُنْ طبيعة رسول الله جامدة لا تصلح للشعر، إنما كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذا إحساس مُرْهَفٍ، ولو قُدِّر له أنْ يكون شاعراً لكان عظيماً.
وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن الشعراء:
{والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224226] .
وقالوا عن الشعر: أَعْذبه أكذبُه، لذلك لم يدخل رسول الله طِوَال حياته هذا المجال.
إذن: فقولهم {سُبْحَانَكَ} [الفرقان: 18] ردٌّ على {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17] ثم يذكر الدليل على {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل} [الفرقان: 17] في قوله: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} [الفرقان: 18] فلما متَّعتهم يا ربّ أترفهم النعيم، وشغلتْهم النعمة عن المنعِم، فانحرفوا عن الجادَّة.
والآية تنبه المؤمن ألاّ يَأْسَى على نعيم فاته، فربما فتنك هذا النعيم وصرفك عن المنعِم عزَّ وجل، فمن الخير إذن أنْ يمنعه الله عنك؛ لأنك لا تضمن نفسك حال النعمة.
وقوله تعالى: {حتى نَسُواْ الذكر} [الفرقان: 18] أي: نسُوا المُنْعِم، وحَقُّ النعمة ألاَّ تُنَسِى المنعم، لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن(17/10394)
الصحيح إنْ كان في نعمة العافية من المنعم سبحانه، فالمريض الذي حُرِم منها ليس في نعمة المنعِم، إنما في صحبته ومعيته.
ومن هنا لما مرض أحد العارفين بالله كان يغضب إذا دُعِي له بالشفاء، ويقول لعائده: لا تقطع عليَّ أُنْسي بربي.
وجاء في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني، قال: وكيف أعودُكَ وأنت ربُّ العالمين، قال: أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُدْهُ، أما إنك لو عُدته لوجدتني عنده» .
إذن: حينما يعلم المريض أنه في معية الله يستحي أن يجزع ومعنى {قَوْماً بُوراً} [الفرقان: 18] البُور: الهلاك، ومنه أرض بُور، وهي التي لا تُنبت.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}(17/10395)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
بعد أن سألهم الحق تبارك وتعالى وهو أعلم بهم: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17] وأجابوا: {ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} [الفرقان: 18] وقد هَزَّهم هذا السؤال هِزَّة عنيفة أراد سبحانه أنْ يُبرئهم فقال {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} [الفرقان: 19] يعني: أنا أعرف أنكم قلتم الحق، لكنهم كذَّبوكم بما تقولون {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} [الفرقان: 19](17/10395)
فالتفت إليهم. والصرف: أن تدفع بذاتك عن ذاتك الشر إنْ تعرّض به أحد لك، والنصر: إذا لم تستطع أنت أنْ تدفع عن نفسك فيأتي مَنْ يدفع عنك.
ثم يقول سبحانه: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] وقد يسأل سائل: لماذا يخاطب الحق سبحانه أولياءه بهذا العنف؟ قالوا: في الواقع ليس هذا العنف نَهْراً لأولياء الله، إنما زجر ولَفْتُ نظرٍ للآخرين، فإذا كان الحق سبحانه يخاطب أهل طاعته بهذا العنف، فما بالك بأعدائه، والخارجين على منهجه؟
إنهم حين يسمعون هذا الخطاب لا بُدَّ أن يقولوا: مع أن الله اصطفاهم وقرّبهم لم يمنعه ذلك أنْ يُوجِّههم إلى الحق وينهرهم.
ألم يقل سبحانه عن حبيبه ونبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 4446] فالحق تبارك وتعالى يتحدث عن نبيه بهذه الطريقة ليخيف الآخرين ويرهبهم.
والظلم: أخْذُ حقِّ الغير، ما دام أن الله تعالى حرَّم ذلك، فهذا يعني أن الله يريد أنْ يتمتع كل واحد بثمرة مجهوده؛ لأن أمور الحياة لا تستقيم إنْ أخذ الإنسان ثمرةَ غيره، وتعوَّد أن يعيش على دماء الآخرين وعَرقهم؛ لذلك نرى في المجتمع بعض المجرمين والمنحرفين (الفاقدين) الذين يعيشون على عَرق الآخرين وهم لا يعرقون.(17/10396)
وحين يُؤخَذ الحق من صاحبه، ثم لا يجد مَنْ ينصفه، ويعيد له حقه المسلوب يميل إلى الكسل ويزهَد في العمل وبذْل المجهود، ومعلوم أن العمل لا تعود ثمرته على صاحبه فحسب، وإنما على الآخرين حيث يُيسِّر للناس مصالحهم، ويُسهِم بحركته في حركة المجتمع.
وسبق أن قلنا: إن الفرْق بين المؤمن وغيره في العمل أن الكافر يعمل لنفسه، أمّا المؤمن فيعمل لما يكفيه، ويجهد ليساعد الآخرين؛ لذلك عليك أن تعمل على قَدْر طاقتك لا على قَدْر حاجتك، فحاجتك تتوفر لك مما أتيته بطاقتك، ثم يكون الباقي عندك لمن لا يقدر على العمل وليس لديه طاقة.
والمعركة التي تدور بين الكفار والمؤمنين وعلى رأسهم الرسل، اللهُ تعالى يفصل فيها، يقول: لا يستطيع أحد من خَلْقي أن يظلمني، لأن المظلوم فيه نقطة ضعف، والظالم فيه نقطة قوة؛ لذلك يقول سبحانه: {وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: 57] أي: لا يقدر أحد على ذلك
{ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] فظُلْمهم لأنفسهم، لا للمؤمنين.
فالحق تبارك وتعالى يغَارُ على عبده أن يظلم نفسه؛ لأن للإنسان ملكات متعددة: ملكة الاشتهاء العاجل وملكة التأنِّي الآجل. فالتلميذ المجتهد اختار الراحة الآجلة، والكسول اختار الراحة العاجلة، فكلاهما مُحِبٌ لنفسه يسعى إلى راحتها، لكن فَرْق بين حُبِّ واعٍ، وحُبٍّ أحمق، فالأول يتحمل المشاق لينال في نهاية الأمر أعلى المراتب، والآخر تستهويه الراحة العاجلة، وسرعان ما يجد نفسه صُعْلوكاً في المجتمع، فمتعة الأول أبقى وأطول، ومتعة الآخر سريعة منتهية.(17/10397)
هذه قاعدة عامة تُقال في عمل الدنيا، وتُقال في عمل الآخرة، فالحق تبارك وتعالى خلق الإنسان ويحب منه ألاَّ تظلم ملكَة في النفس ملكةً أخرى، وألا تظلم ملكة العجلة ملكة التأنِّي؛ لأن ملكة العجلة تأخذ خيراً عاجلاً منتهياً، أما ملكة التأني فتنال الخير الآجل الباقي غير المنتهي.
إذن: فالله تعالى يريد لصنعته، سواء المؤمن أو الكافر ألاّ يظلم نفسه؛ لأن الله كرَّمه وخلق الكون كله لخدمته وسخَّره من أجله؛ لذلك يقول له: إنك لا تستطيع أن تظلمني ولا تظلم المؤمنين، إنما تظلم نفسك، فربٌّ يعاقب الإنسان على أنه ظلم نفسه فهو نِعْم الربّ.
لذلك جاء في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، أنا لك مُحبٌّ بدليل أنني أعاقبك إذا ظلمتَ نفسك فبحقِّي عليك كُنْ لي مُحِباً» .
وحين يُضخِّم الحق سبحانه وتعالى العقوبة: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] إنما ليُنفِّر عباده منها، ويبتعد بهم عن أسبابها، فلا تقع.
وكثيراً ما يعترض أعداء الإسلام على قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] يقولون: فلماذا تقتلون مَنْ يرتدّ عن الإسلام؟ وهؤلاء لا يَدْرُون أن هذا الحكم نضعه عقبةً في طريق كل مَنْ يريد الإيمان، وتنبيه له حتى يفكر جيداً فيما هو مُقبل عليه إن اختار الإسلام، فلا يدخله إلا بعد رضاً واقتناع تام، وحين يعلم هذا الحكم يحتاطُ للأمر فيدخل عليه بمَحْضِ اختياره وتعقّله.
فالإسلام لا يريد كثرة مُتسرِّعة، إنما يريد تروياً وتعقّلاً وتدبراً،(17/10398)
وهذا يُحسب للإسلام لا عليه، فهو سلعة غالية يثق صاحبها في جَوْدتها، كما تذهب إلى تاجر القماش مثلاً، فيعرض عليك بضاعته ويُظهِر لك جودتها ويختبرها أمامك، لماذا؟ لأنه واثق من جودة بضاعته.
ومن ذلك ما خُتِمَتْ به كثير من آيات الذكر الحكيم مثل: تفكِّرون، تعقلون، تذكِّرون. وهذا دليل على أنك لو تعقلتَ، لو تدبرتَ، لو تذكرتَ لاهتديت إلى ما جاء به القرآن.
إذن: فقوله تعالى: {وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] كان الذي يؤخذ على القرآن، أو على الحق سبحانه أن الظالم حين يظلم هو يُعاقِب لنفسه حيث أُخِذ منه شيء، لكن الحق سبحانه ما أُخذ منه شيء، إنما هو سبحانه بصفات الكمال فيه سبحانه خلقكم، فما ظلمتم إلا أنفسكم.
ثم يقول الحق سبحانه عن رسله وأنبيائه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين}(17/10399)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
سبق أن تكلمنا في قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] وهذه صِفَة كل الرسل، وليس محمد بِدْعاً في ذلك، وإذا كان أكْل الطعام يقدح في كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، وكانوا يريدون رسولاً لا يأكل الطعام، فنقول: بالله إذا كان أكْل الطعام منعه عندكم أن يكون رسولاً، فكيف تقولون لمن أكل(17/10399)
الطعام أنه إله؟ كيف وأنتم ما رضيتم به رسولاً؟
وقد جعل الحق تبارك وتعالى الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؛ لأن الرسول يجب أن يكون قدوة وأُسوْة في كل شيء للخَلْق، ولذلك كان رسول الله على أقلِّ حالات الكون المادية من ناحية أمور الدنيا من أكْل وشُرْب ولباس، ذلك ليكون أُسْوة للناس، وكذلك نجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على أن يكون أهل بيته مثله، لذلك لم يجعل لهم نصيباً في الزكاة التي يأخذها أمثالهم من الفقراء.
ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» .
ومَنْ كان عليه دَيْن من المسلمين تحمّله عنه رسول الله، وهذا كله إنْ دلَّ فإنما يدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واثق من جزاء أُخْراه، فلا يُحبّ أن يناله منه شيء في الدنيا.
لذلك قُلْنا: لو نظرتَ في مبادىء الحق ومبادىء الباطل أمامك في الدنيا لوجدتَ أن مبدأ الباطل يدفع ثمنه أولاً، فمثلاً لكي تكون شيوعياً لا بُدَّ أن تأخذ الثمن أولاً، أما مبدأ الحق فأنت تدفع الثمن مُقدّماً: تتعب وتُظلم وتُعذَّب وتجوع وتتشرد، وتخرج من أهلك ومن مالك، ثم تنتظر الجزاء في الآخرة. وبهذا المقياس تستطيع أنْ تُفرِّق بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: {وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20] أي: يرتادونها لقضاء مصالحهم وشراء حاجياتهم، دليلٌ على تواضعهم وعدم تكبُّرهم على مثل هذه الأعمال؛ لذلك كان سيدنا رسول الله(17/10400)
يحمل حاجته بنفسه، فإنْ عرض عليه أحدُ صحابته أنْ يحملها عنه يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «صاحب الشيء أحقُّ بحمله» .
ومعنى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] فأيّ بعض فتنة لأيِّ بعض؟ كما في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] أيُّ بعض مرفوع، وأيّ بعض مرفوع عليه؟
نلاحظ في مثل هذه المسائل أن الناس لا تنظر إلا إلى زاوية واحدة: أن هذا غنيٌّ وهذا فقير، لكنهم لو أخذوا في المفاضلة بكل جوانب النفس الإنسانية لوجدوا أن في كل إنسان موهبةً خَصّه الله بها، فكلٌّ مِنّا عنده مَيْزةٌ ليست عند أخيه؛ ذلك ليتكاتف الناس ويتكامل الخَلْق؛ لأن العالم لو كان نسخة واحدة مكررة ما احتاجَ أحدٌ لأحد، وما سأل أحد عن أحد، أمّا حين تتعدد المواهب فيكون عندك ما ليس عندي، فيترابط المجتمع ترابط الحاجة لا ترابط التفضل.
ولو تصورنا الناس جميعاً تخرجوا في الجامعة وأصبحوا (دكاترة) فمَنْ يكنس الشارع؟ ساعتها سيتطوع أحدنا يوماً لهذه المهمة، إذن: تصبح الحاجة بنت تطوُّع وتفضُّل، والتفضُّل لا يُلزِم أحداً بعمل، فقد تتعطل المصالح. أمّا حين تدعوك الحاجة فأنت الذي تُسرع إلى العمل وتبحث عنه.
أَلاَ ترى أصحاب المهن الشاقة يخرجون في الصباح يبحثون عن(17/10401)
عمل، ويغضب الواحد منهم إذا لم يجد فرصة عمل في يومه مع ما سيتحمله من آلام ومشاق، لماذا؟ إنها الحاجة.
فالعامل الذي يعمل في المجاري مثلاً ويتحمَّل أذاها هو في قدرته على نفسه ورضاه بقدَر الله فيه أفضل مِنِّي أنا في هذه المسألة، لأنني لا أقدر على هذا العمل وهو يقدر، ولو ترك الله مثل هذه الأعمال للتفضّل ما أقدم عليها أحد، إذن: التسخيرات من الحق سبحانه وتعالى لحكمه.
ومثل هذه الأعمال الشاقة أو التي تؤذي العامل يعدُّها البعض أعمالاً حقيرة، وهذا خطأ، فأيُّ عمل يُصلح المجتمع لا يُعَدُّ حقيراً، فلا يوجد عمل حقير أبداً، وإنما يوجد عامل حقير.
فمعنى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] كل بعض منا فتنة للآخر، فالغنيُّ فتنةٌ للفقير، والفقير فتنة للغني. . الخ فحين يتعالى الغني على الفقير ويستذلّه فالفقير هنا قتنة للغني، وحين يحقد الفقير على الغني ويحسده، فالغنيّ هنا فتنة للفقر، وهكذا الصحيح فتنة للمريض، والرسل فتنة لمن كذّبوهم، والكفار فتنة للرسل.
والناس يفرون من الفتنة في ذاتها، وهذا لا يصح؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، فالذي ينبغي أن نفر منه نتيجة الفتنة، لا الفتنة ذاتها، فالامتحان فتنة للطلاب، مَنْ ينجح فالفتنة له خَيْر ومَنْ يخفق فالفتنة في حَقِّه شَرٌّ. إذن: الفتنة في ذاتها غير مذمومة.
لذلك تُؤخَذ الفتنة من فتنة الذهب حين يُصْهر، ومعلوم أن الذهَب أفضل المعادن، وإنْ وُجد ما هو أنفس منه، لماذا؟ لأن من مَيْزاته أنه لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره، وهو كذلك سهل السَّبْك؛ لذلك(17/10402)
يقولون: المعدن النفيس كالأخيار بَطيءٌ كَسْره، سريع جَبْره. فمثلاً حين يتكسر الذهب يسهل إعادته وتصنيعه على خلاف الزجاج مثلاً.
إذن: الفتنة اختبار، الماهر مَنْ يفوز فيه، فإنْ كان غنياً كان شاكراً مُؤدِّياً لحقِّ الغني مُتواضعاً يبحث عن الفقراء ويعطف عليهم، والفقير هو العاجز عن الكسب، لا الفقير الذي احترف البلطجة وأَكْل أموال الناس بالباطل.
ولما كانت الفتنة تقتضي صَبْراً من المفتون، قال سبحانه: {أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20] فكل فتنة تحتاج إلى صبر، فهل تصبرون عليها؟
ولأهمية الصبر يقول تعالى في سورة العصر: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 12] يعني: مُطلَق الإنسان في خُسْر لا ينجيه منه إلاّ أنْ يتصف بهذه الصفات: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] .
وتُختم الآية بقوله سبحانه: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20] لينبهنا الحق سبحانه أن كل حركة من حركاتكم في الفتنة مُبْصَرة لنا، وبصرنا للأعمال ليس لمجرد العلم، إنما لنُرتِّب على الأعمال جزاءً على وَفْقها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا}(17/10403)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
واللقاء: يعني البعث، وقد آمنا بالله غَيْباً وفي الآخرة نؤمن به تعالى مَشْهداً {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] حتى مَنْ لم يؤمن في الدنيا سيؤمن في الآخرة.
لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] .
ويا ليته جاء فلم يجد عمله، المصيبة أنه وجد عمله كاملاً، ووجد الله تعالى يحاسبه ويُجازيه، ولم يكن هذا كله على باله في الدنيا؛ لذلك يُفَاجأ به الآن.
وقوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [الفرقان: 21] يعني: لا يتنظرونه ولا يؤمنون به؛ لذلك لم يستعدوا له، لماذا؟ لأنهم آثروا عافية العاجلة على عافية الآجلة، ورأوْا أمامهم شهواتٍ ومُتَعاً لم يصبروا عليها، وغفلوا عن الغاية الأخيرة.
ما هو اللقاء؟ اللقاء يعني الوَصْل والمقابلة، لكن كيف يتم الوَصْل والمقابلة بين الحق تبارك وتعالى وبين الخَلْق وهذه من المسائل التي كَثُر فيها الجدال، وحدثت فيها ضجّة شككتْ المسلمين في كثير من القاضيا.
قالوا: اللقاء يتقضي أن يكون الله تعالى مُجسّماً وهذا ممنوع، وقال آخرون: ليس بالضرورة أن يكون اللقاء وَصْلاً، فقد يكون مجردَ الرؤية؛ لأن رؤية العَيْن للرب ليست لقاء، وهذا قول أهل السنة.
أما المعتزلة فقد نفَوْا حتى الرؤية، فقال: لا يلقونه وَصْلاً ولا(17/10404)
رؤية، لأن الرائي يحدد المرئي، وهذا مُحَال على الله عَزَّ وَجَلَّ.
ونقول للمعتزلة: أنتم تأخذون المسائل بالنسبة لله، كما تأخذونها بالنسبة لمخلوقات الله، لماذا لا تأخذون كل شيء بالنسبة لله تعالى في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فإذا كان لكم ببعض لقاء يقتضي الوَصْل، فالله تعالى لقاء لا يقتضي الوصل، وإذا كانت الرؤية تحدد فلله تعالى رؤية لا تحدد. إن لك سَمْعاً ولله سمع أسمعُك كسمع الله عَزَّ وَجَلَّ؟ إذن: لماذا تريد أن يكون لقاء الله كلقائك يقتضي تجسُّداً، أو رؤيته كرؤيتك؟
لذلك في قصة رؤية موسى عليه السلام لربه عَزَّ وَجَلَّ، ماذا قال موسى؟ قال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فطلب من ربه أن يُريه لأنه لا يستطيع ذلك بذاته، ولا يصلح لهذه الرؤية، ألا أن يُريه الله ويطلعه، فالمسألة ليست من جهة المرئيّ، إما من جهة الرائي. لكن هل قرَّعه الله على طلبه هذا وقال عنه: استكبر وعتا عُتُواً كبيراً كما قال هنا؟ لا إنما قال له: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] ولم يقُلْ سبحانه: لن أُرَى، وفرْق بين العبارتين.
فقوله: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] المنع هنا ليس من المرئيّ بل المنع من الرائي؛ لذلك أعطاه ربه عَزَّ وَجَلَّ الدليل: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي}
[الأعراف: 143] يعني: أأنت أقوى أم الجبل؟ {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] .
ولاحظ: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف: 143] كلمة تجلى أي: أن الله تعالى يتجلى على بعض خَلْقه، لكن أيصبرون على هذا التجلي؟ وليس الجبل أكرم عند الله من الإنسان الذي سخّر اللهُ له الجبل وكلّ شيء في الوجود.(17/10405)
إذن: فالإنسان هو الأكرم، لكن تكوينه وطبيعته لا تصلح لهذه الرؤية، وليس لديه الاستعداد لتلقّي الأنوار الإلهية؛ ذلك لأن الله تعالى خلقه للأرض. أما في الآخرة فالأمر مختلف؛ لذلك سيُعدِّل الله هذا الخلق بحيث تتغير حقائقه ويمكنه أن يرى، وإذا كان موسى عليه السلام قد صُعِق لرؤية المتجلَّى عليه وهو الجبل، فكيف به إذا رأى المتجلِّي عَزَّ وَجَلَّ؟
لذلك، كان من نعمة الله تعالى على عباده في الآخرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 2223] .
وقال عن الكفار: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] : إذن: ما يُميِّز المؤمنين عن الكافرين أنهم لا يُحجبون عن رؤية ربهم عَزَّ وَجَلَّ بعد أنْ تغيَّر تكوينهم الأخروي، فأصبحوا قادرين على رؤية ما لم يَرَوْه في الدنيا. وإذا كان البشر الآن بتقدّم العلم يصنعون لضعاف البصر ما يُزِيد من بصرهم ورؤيتهم، فلماذا نستبعد هذا بالنسبة لله تعالى؟
لذلك، تجد المسرفين على أنفسهم يجادلون بما يريحهم، فتراهم يُنكِرون البعث، ويُبعِدون هذه الفكرة عن أنفسهم؛ لأنهم يعلمون سوء عاقبتهم إنْ أيقنُوا بالبعث واعترفوا به.
ومن المسرفين على أنفسهم حتى مؤمنون بإله، يقول أحدهم: ما دام أن الله تعالى قدَّر عليَّ المعصية، فلماذا يُحاسبني عليها؟ ونعجب لأنهم لم يذكروا المقابل ولم يقولوا: ما دام قد قدَّر علينا الطاعة، فلماذا يثيبنا عليها؟ إذن: لم يقفوا الوقفة العقلية السليمة؛ لأن الأولى ستجرُّ عليهم الشر فذكروها، أما الأخرى فخير يُسَاق إليهم؛ لذلك غفلوا عن ذِكْرها.(17/10406)
وقولهم: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] وهذا يدلّ على تكبُّرهم واعتراضهم على كَوْن الرسول بَشَراً، وفي موضع آخر قالوا: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] .
إذن: كل ما يغيظهم أن يكون الرسول بشراً، وهذا الاستدراك يدلُّ على غبائهم، فلو جاء الرسول ملَكاً ما صَحَّ أن يكون لهم قدوة، وما جاء الرسول إلا ليكون قُدْوةً ومُعلِّماً للمنهج وأُسْوة سلوك، ولو جاء ملَكاً لأمكنه نعم أنْ يُعلِّمنا منهج الله، لكن لا يصح أنْ يكون لنا أُسْوة سلوك، فلو أمرك بشيء وهو مَلَك لَكان لك أنْ تعترض عليه تقول: أنت مَلَكٌ تقدر على ذلك، أمَّا أنا فبشر لا أقدر عليه.
فالحق سبحانه يقول: لاحظوا أن للرسل مهمتين: مهمةَ البلاغ، ومهمة الأُسْوة السلوكية، فلو أنهم كانوا من غير طبيعة البشر لتأتّى لهم البلاغ، لكن لا يتأتى لهم أن يكونوا قُدْوة ونموذجاً يُحتذى.
ولو جاء الرسول ملَكَا على حقيقته ما رأيتموه، ولا حتجتم له على صورة بشرية، وساعتها لن تعرفوا أهو ملَكَ أم بشر، إذن، لا بُدَّ أن تعود المسألة إلى أن يكون بشراً، لذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] .
ومسألة نزول الملائكة مع الرسول من الاقتراحات التي اقترحها الكفار على رسول الله ليطلبها من ربه، وهذا يعني أنهم يريدون دليلَ تصديق على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسبق أنْ جاءهم رسول الله بمعجزة من جنس ما نبغُوا فيه وعجزوا أنْ يُجَاروه فيها، ليثبت أن ذلك جاء من عند ربهم القوي، ومعنى هذه المعجزة أنها تقوم مقام قوله صدق عبدي في كل ما يُبلِّغ عني. وما دامت المعجزة قد جاءتْ بتصديق الرسول، فهل هناك معجزة أَوْلَى من معجزة؟(17/10407)
لقد كانت معجزة القرآن كافية لتقوم دليلاً على صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وأيضاً جاءكم بغيبيّات لا يمكن أن يطلع عليها إنسان، لا في القديم الذي حدث قبل أنْ يُولدَ، ولا في الحديث الذي سيكون بعد أنْ يُولد.
إذن: فدليل صدق الرسول قائم، فما الذي دعاكم إلى اقتراح معجزات أخرى؟
وقولهم: {أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] والله، لو كان إله يُرَى لكم ما صَحَّ أن يكون إلهاً؛ لأن المرئي مُحَاطٌ بحدقة الرائي، وما دام أحاط به فهو إذن محدود، ومحدوديته تنافي الوهيته.
وإلاَّ فالمعاني التي تختلج بها النفس الإنسانية مثل الحق والعدل الذي يتحدث عنه الناس وينشدونه ويتعصَّبون له، ويتهافتون عليه لحلِّ مشاكلهم وتيسير حياتهم: أتدرك هذه المعاني وأمثالها بالحواس؟ كيف تطلب أن تدرك خالقها عَزَّ وَجَلَّ وبالحواسّ؟
لذلك يختم الحق سبحانه هذه المسألة بقوله: {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيرا} [الفرقان: 21] استكبر وتكبَّر: حاول أن يجعل نفسه فوق قَدْره، وكلُّ إنسان مِنّا له قَدْر محدود.
ومن هنا جاء القول المأثور: «رَحِمَ الله امرءً عرف قدر نفسه» . فلماذا إذن يتكبّر الإنسان؟ لو أنك إنسان سوىّ فإنك تسعد حين نمنع عنك مَنْ يسرقك، أو ينظر إلى محارمك أو يعتدي عليك، فلماذا تغضب حينما نمنعك عن مثل هذا؟
النظرة العقلية أن تقارن بين مَا لك ومَا عليك، لقد منعنا يدك وهي واحدة أنْ تسرق، ومقابل ذلك منعنا عنك جميع أيدي الناس(17/10408)
أن تسرق منك، منعنا عينك أن تمتد إلى محارم الآخرين، ومنعنا جميع الأَعْيُن أنْ تمتدّ إلى محارمك؛ فلماذا إذن تفرح لهذه وتغضب من هذه؟ كان يجب عليك أن تحكم بنفس المنطق، فإنْ أحببتَ ما كان لك وكرهتَ ما كان لغيرك فقد جانبتَ الصواب وخالفتَ العدالة.
ومن استكبارهم مواجهتهم لرسول الله في بداية دعوته وقولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ}
[الزخرف: 31] إذن: القرآن لا غبارَ عليه، وهذا حكم واقعي منهم؛ لأنهم أمة بلاغة وفصاحة، والقرآن في أَرْقَى مراتب الفصاحة والبيان، إنما الذي وقف في حُلُوقهم أن يكون الرسول رجلاً من عامة الناس، يريدونه عظيماً في نظرهم، حتى إذا ما اتبعوه كان له حيثية تدعو إلى اتباعه.
إذن: الاستكبار أن تستكبر أن تكون تابعاً لمنْ تراه دونك، ونحن ننكر هذا؛ لأنك لم تَرَ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يقوم بالرسالة أنه دونك، بل كنت تضعه في المكان الأعلى، وتُسمِّيه الصادق الأمين، فمتى إذن جعلْتَه دونك؟ إنها الهبة التي وهبه الله، إنها الرسالة التي جعلتك تأخذ منه ما كنتَ تعطيه قبل أن يكون رسولاً.
وهل سبق لكم أَنْ سمعتم عن رسول جاء معه ربه عَزَّ وجَلَّ يقول لقومه: هذا رسولي؟ وما دام أن الله تعالى سيواجهكم هذه المواجهة فلا داعيَ إذن للرسول؛ لأن الله تعالى سيخاطبكم بالتكليف مباشرة وتنتهي المسألة. ومعلوم أن هذا الأمر لم يحدث، فأنتم تطلبون شيئاً لم تسمعوا به، وهذا دليل على تلكؤكم واستكباركم عن قبول الإيمان فجئتم بشيء مستحيل.
إذن: المسألة من الكفار تلكؤٌ وعناد واستكبار عن قبول الحق الواضح، وقد سبق أن اقترحوا مثل هذه الآيات والمعجزات، فلما(17/10409)
أجابهم الله كذّبوا، مع أن الآيات والمعجزات ليست باقتراح المرسل إليهم، إنما تفضُّل من الله تعالى واهب هذه الرسالة.
والاستكبار مادته الكاف والباء والراء. وتأتي بمعانٍ عِدَّة: تقول كَبَرَ يكْبَر أي: في عمره وحجمه، وكَبُر يكبُر أي: عَظُم في ذاته، ومنها قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5] .
وتكبَّر: أظهر صفة الكبرياء للناس، واستكبر: إذا لم يكُنْ عنده مؤهلات الكِبر، ومع ذلك يطلب أن يكون كبيراً.
فالمعنى {استكبروا} [الفرقان: 21] ليس في حقيقة تكوينهم إنما {استكبروا في أَنفُسِهِمْ} [الفرقان: 21] في أنهم يتبعُون الرسول، أي: أنها كبيرة عليهم أن يكونوا تابعين لرجل يروْنَ غيره أغنى منه أو أحسن منه (على زعمهم) .
ونرى مثلاً أحد الفتوات الذي يخضع له الجميع إذا ما رأى مَنْ هو أقوى منه انكمشَ أمامه وتواضع؛ لأنه يستكبر بلا رصيد وبشيء ليس ذاتياً فيه. . إذن: المتكبر بلا رصيد غافل عن كبرياء ربه، ولو استشعر كبرياء الله عَزَّ وجَل لاستحَى أنْ يتكبّر.
لذلك نرى أهل الطاعة والمعرفة دائماً منكسرين، لماذا؟ لأنهم دائماً مستشعرون كبرياءَ الله، والإنسان (لا يتفرعن) إلا إذا رأى الجميع دونه، وليس هناك مَنْ هو أكبر منه. فينبغي ألا يَتكبَّر الإنسان إلا بشيء ذاتي فيه لا يُسلبَ منه، فإن استكبرت بِغنَاك فربما افتقرتَ، وإنِ استكبرتَ بقوتك فرُبّما أصابك المرض، وإنِ استكبرتَ بعلمك لا تأمنْ أن يُسلبَ منك لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً.
ومن لُطْف الله بالخَلْق ورحمته بهم أنْ يكون له وحده الكبرياء،(17/10410)
وله وحده سبحانه التكبُّر والعظمة، ويعلنها الحق تبارك وتعالى: «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم» .
والحق تبارك وتعالى لا يجعلها جبروتاً على خَلْقه، إنما يجعلها لهم رحمة؛ لأن الخَلْق منهم الأقوياء والفُتوات والأغنياء. . حين يعلمون أن لله تعالى الكبرياء المطلق يعرف كل منهم قدره (ويرعى مساوى) ، فالله هو المتكبر الوحيد، ونحن جميعاً سواء.
لذلك يقول أهل الريف (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) وحين يكون في البلد كبير يخاف منه الجميع لا يجرؤ أحد أنْ يعتديَ على أحد في وجوده، إنما إنْ فُقِد هذا الكبير فإن القوي يأكل الضعيف. إذن: فالكبرياء من صفات الجلال لله تعالى أنْ جعلها الله لنفع الخَلْق.
ولو تصورنا التكبر مِمَّنْ يملك مؤهلاته، كأن يكون قوياً، أو يكون غنياً. . إلخ فلا نتصور الكبر من الضعيف أو من الفقير؛ لذلك جاء في الحديث: «أبغض ثلاثاً وبغضي لثلاث أشد، أبغض الغني المتكبر وبُغضي للفقير المتكبر أشد، وأبغض الفقير البخيل وبغضي للغني البخيل أشدّ، وأبغض الشاب العاصي وبغضي للشيخ العاصي أشد» .
وقوله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] عتوا: بالغوا في الظلم والتحدي وتجاوزوا الحدود، وكأن هذا غير كافٍ في وصفهم،(17/10411)
فأكّد العُتُو بالمصدر (عتواً) ثم وصف المصدر أيضاً {عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] لماذا كل هذه المبالغة في التعبير؟ قالوا: لأنهم ما عَتَوْا بعضهم على بعض، إنما يتعاتون على رسول الله، بل وعلى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لذلك استحقُّوا هذا الوصف وهذه المبالغة.
والعاتي الذي بلغ في الظُّلم الحدَّ مثل الطاغوت الذي إنْ خاف الناس منه انتفش، وتمادى وازداد قوة.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8] ومعلوم أن الكِبَر ضعف، كما قال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] فكيف إذن يصف الكبر بأنه عَاتٍ؟ قالوا: العاتي هو القوي الجبار الذي لا يقدر أحد على صَدِّه أو رَفْع رأسه أمامه، وكذلك الكِبَر على ضَعْفه، إلا أنه لا توجد قوة تطغى عليه فتمنعه.
ثم يقول الحق سبحانه: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة}(17/10412)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
يتحدث الحق تبارك وتعالى عن هؤلاء الذين اقترحوا على رسول الله الآيات وطلبوا أن تنزل معه الملائكة فيرونها، وتشهد لهم بصدقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول لهم سبحانه: أنتم تشتهون أنْ تروْا الملائكة، فسوف تروْنها لكن في موقف آخر، ليس موقف البُشْريات والخيرات، إنما في موقف الخزي والندامة والعذاب:
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22](17/10412)
فسوف ترونهم رؤيا الفزع والخوف عندما يأتون لقبْض أرواحكم، أو سترونْهَم يوم القيامة يوم يُبشِّرونكم بالعذاب.
يوم يستقبلون المؤمنين: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الحديد: 12] فيستشرف الكفار لسماع هذه الكلمة لكن هيهات {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] فيمنعون عنهم هذه الكلمة المحبّبة التي ينتظرونها، ويقابلونهم بكلمة أخرى تناسبهم.
يقولون لهم: {حِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 22] والحِجْر: المنع، ومنه: نحجر على فلان يعني: نمنعه من التصرُّف. وقديماً كانوا يقولون في دفع الشر: حِجْراً محجوراً يعني: منعاً، ومثل ذلك ما نسمعهم يقولون إذا ذُكِرَ الجن: حابس حابس يعني: ابتعد عني لا تقربني.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً}(17/10413)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
حين تنظر في غير المؤمنين تجد من بينهم أهلاً للخير وعمل المعروف، ومنهم أصحاب مَلَكات طيِّبة، كالذين اجتمعوا في حلف الفضول لنصْرة المظلوم، وكأهل الكرم وإطعام الطعام، ومنهم مَنْ كانت له قِدْر عظيمة استظلْ رسول الله في ظلها يوم حر قائظ، وهذا يعني أنها كانت كبيرة واسعة منصوبة وثابتة كالبناء، كان يُطْعم منها الفقراء والمساكين، وحتى الطير والوحوش، وما زِلْنا حتى الآن(17/10413)
نضرب المثل في الكرم بحاتم الطائي. وكان منهم مَنْ يصل الرحم ويغيث الملهوف. . الخ.
لكن هؤلاء وأمثالهم عملوا لجاه الدنيا، ولم يكُنْ في بالهم إله يبتغون مرضاته، والعامل يأخذ أجْره ممَّنْ عمل له، كما جاء في الحديث القدسي: «فعلت ليقال، وقد قيل» .
والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39] .
وقال تعالى أيضاً: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] .
فقد عمل هؤلاء أعمالَ خير كثيرة، لكن لم يكُنْ في بالهم الله، إنما عملوا للإنسانية وللشهرة وليُقال عنهم؛ لذلك نراهم في رفاهية من العيش وسَعة مُمتَّعين بألوان النعيم، لماذا؟ لأنهم أخذوا الأسباب المخلوقة لله تعالى، ونفّذوها بدقة، والله تبارك وتعالى لا يحرم عبده ثمرةَ مجهوده، وإنْ كان كافراً، فإنْ ترك العبدُ الأسبابَ وتكاسل حرَمه الله وإنْ كان مؤمناً. وفَرْق بين عطاءات الربوبية التي تشمل المؤمن والكافر والطائع والعاصي، وبين عطاءات الألوهية.
فمن الكفار مَنْ أحسن الأَخْذ بالأسباب، فاخترعوا أشياء نفعتْ الإنسانية، وأدوية عالجتْ كثيراً من الأمراض. ولا بُدَّ أن يكون لهم(17/10414)
جزاء على هذا الخير، وجزاؤهم أخذوه في الدنيا ذِكْراً وتكريماً وتخليداً لذِكْراهم، وصُنِعت لهم التماثيل وأُعْطوا النياشين، وأُلِّفتْ في سيرتهم الكتب، كأن الله تعالى لم يجحدهم عملهم، ولم يبخسهم حقهم.
ألاَ ترى أن أبا لهب الذي وقف من رسول الله موقِفَ العداء حتى نزل فيه قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 12] ومع ذلك يُخفِّف الله عنه العذاب؛ لأنه أعتقَ جاريته ثويبة حينما بشَّرته بميلاد محمد بن عبد الله؛ لأنه فرح بهذه البُشْرى وأسعده هذا الخبر.
ومن العجيب أن هؤلاء يقفون عند صناعات البشر التي لا تعدو أن تكون تَرَفاً في الحياة، فيُؤرِّخون لها ولأصحابها، وينسون خالق الضروريات التي أعانتهم على الترقِّي في كماليات الحياة وترفها.
وكلمة {هَبَآءً} [الفرقان: 23] : الأشياء تتبين للإنسان، إما لأن حجمها كبير أو لأنها قريبة، فإنْ كانت صغيرة الحجم عزَّتْ رؤيتها، فمثلاً يمكنك رؤية طائرة أو عصفور إنْ طار أمامك أو حتى دبور أو نحلة، لكن ما لو طارتْ أمامك بعوضة لا تستطيع رؤيتها.
إذن: الشيء يختفي عن النظر لأنه صغير التكوين، لا تستطيع العين إدراكه؛ لذلك اخترعوا المجاهر والتليسكوب.
وقد يكون الشيء بعيداً عنك فلا تراه لبُعده عن مخروطية(17/10415)
الضوء؛ لأن الضوء يبدأ من نقطة، ثم يتسع تدريجياً على شكل مخروط، كما لو نظرتَ من ثُقْب الباب الذي قُطْره سنتيمتر فيمكن رؤية مساحة أوسع منه بكثير.
إذن: إنْ أردتَ أن ترى الصغير تُكبِّره، وإنْ أردتَ أنْ ترى البعيد تُقرِّبه.
والهباء: هو الذرّات التي تراها في المخروط الضوئي حين ينفذ إلى حجرتك، ولا تراها بالعين المجرّدة لدِقّتها، وهذا الهباء الذي تراه في الضوء {هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] يعني: لا تستطيع أنْ تجمِّعه؛ لأنه منتشر وغير ثابت، فمهما أوقفتَ حركة الهواء تجدْه في الضوء يتحرك لِصِغَر حجمه.
فإنْ قلتَ: نراهم الآن يصنعون (فلاترَ) لحجز هذا الهباء فتُجمّعه وتُنقِّي الهواء منه، وهي على شكل مَسامّ أسفنجية يعْلَق بها الهباء، فيمكن تجميعه.
نقول: حتى مع وجود هذه الفلاتر، فإنها تجمع على قَدْر دِقّة المسامّ، وتحجز على قَدْرها، وعلى فَرْض أنك جمعتَه في هذا الفلتر، ثم أفرغته وقُلتْ لي: هذا هو الهباء، نقول لك: أتستطيع أنْ ترد كل ذرة منها إلى أصلها الذي طارتْ منه؟(17/10416)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
بعد أن وصف الحق تبارك وتعالى ما يؤول إليه عمل الكافرين أراد سبحانه أنْ يُحدِّثنا عن جزاء المؤمنين على عادة القرآن في ذكر المتقابلات التي يظهر كل منها الآخر، وهذه الطريقة في(17/10416)
التعبير كثيرة في كتاب الله منها: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً} [التوبة: 82] .
ومنها أيضاً قول الحق سبحانه: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 1314] .
وهكذا، ينقلك القرآن من الشيء إلى ضِدّه لتميز بينهما، فالمؤمن في النعيم ينظر إلى النار وحَرِّها، فيحمد الله الذي نجاه منها، وهذه نعمة أخرى أعظم من الأولى. والكافر حين ينظر إلى نعيم الجنة يتحسَّر ويعلم عاقبةَ الكفر الذي حرمه من هذا النعيم، فيكون هذا أبلغَ في النكاية وأشد في العذاب؛ لذلك قالوا: وبضدِّها تتميز الأشياء.
وقوله سبحانه: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] صاحب الشيء: المرافق له عن حُبَّ، فكأن الجنةَ تعشَق أهلها وهم يعشقونها، فقد نشأت بينهما محبة وصُحْبة، فكما تحب أنت المكان يحبك المكان، وأيضاً كما تبغضه يبغضك. ومنه قولهم: نَبَا به المكان يعني: كَرِهه المكان.
وكلمة {أَصْحَابُ الجنة} [الفرقان: 24] تدل أيضاً على الملكية؛ لأنهم لن يخرجوا منها، وهي لن تزول ولن تنتهي.
وكلمة {خَيْرٌ} [الفرقان: 24] قلنا: إنها تُستعمل استعمالين: خير يقابله شرّ، كما في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 78] وقوله تعالى: {أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7] ... . {أولئك هُمْ شَرُّ البرية} [البينة: 6] .
وهناك أيضاً خير يقابله خير، لكن أقلّ منه، كما لو قلت: هذا خير من هذا، وكما في الحديث الشريف: «المؤمن القوي خير(17/10417)
وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» .
وفي بعض الأساليب لا نكتفي بصيغة (خير) للتمييز بين شيئين، فنقول بصيغة أفعل التفصيل: هذا أَخْبر من هذا.
وكلمة {مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] المستقر: المكان الذي تستقر أنت فيه، والإنسان لا يُؤْثِر الاستقرار في مكان عن مكان آخر، إلا إذا كان المكان الذي استقر فيه أكثرَ راحةً لنفسه من غيره، كما نترك الغرفة مثلاً في الحرِّ، ونجلس في الحديقة أو الشُّرْفة.
ومن ذلك نقول: إذا ضاقتْ بك أرض فاتركها إلى غيرها، على حَدِّ قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً} [النساء: 100] .
ويقول الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا ضَاقَتْ بلاَدٌ بأهْلِهَا ... وَلكِنَّ أخْلاقَ الرجَالِ تَضِيقُ
ومعنى {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] المقيل: هو المكان الذي كانت تقضي فيه العرب وقت القيلولة، وهي ساعة الظهيرة حين تشتدّ حرارة الشمس، ونسميها في العامية (القيالة) ويقولون لمن لا يستريح في هذه الساعة: العفاريت مِقيّلة!!
لكن أَفِي الجنة قيلولة وليس فيها حَرٌّ، ولا برد، ولا زمهرير؟(17/10418)
قالوا: القيلولة تعني محلّ فراغ الإنسان لخاصة نفسه، أَلا ترى أن الحق تبارك وتعالى حينما ذكر أوقات الاستئذان في سورة النور جعل منها هذا الوقت، فقال سبحانه: {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظهيرة} [النور: 58] فأمر الصغار أن يستأذنوا علينا في هذا الوقت؛ لأنه من أوقات العورة.
إذن: المستقر شيء، والمقيل للراحة النفسية الشخصية شيء آخر، لأنك قد تستقر في مكان ومعك غيرك، أمَّا المقيل فمكان خاصّ بك، إذن: لك في الجنة مكانان: عام وخاص؛ لذلك قالوا في قول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قالوا: جنة عامة وجنة خاصة، كما يكون لك مكان لاستقبال الضيوف، ومكان لخاصّة نفسك وأهلك.
ويقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام}(17/10419)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
وقد سبق منهم أنْ طلبوا من الله أنْ ينزل عليهم ملائكة، فها هي الملائكة تنزل عليهم كما يريدون، لكن في غير مسرّة لكم، ولا إجابة لسؤال منكم.
والسماء: هي السقف المرفوع فوقنا المحفوظ الذي ننظر إليه، فلا نرى فيه فطوراً ولا شروخاً، ولك أن تنظر إلى السماء حال صفائها، وسوف تراها ملساء لا نتوءَ فيها، ولا اعوجاج على اتساعها هذا وقيامها هكذا بلا عَمَد.(17/10419)
لذلك يدعوك الحق تبارك وتعالى إلى النظر والتأمل، يقول لك: لن نغشك. . انظر في السماء وتأمل: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] .
والسماء التي تراها فوقك على هذه القوة والتماسك لا يُمسكها فوقك إلا الله، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ} [فاطر: 41] .
ويقول تعالى: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] إذن: هناك إذْن للسماء أن تقع على الأرض، وأنْ تتشقق وتتبدل، كما قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] .
ويقول تعالى عن تشقُّق السماء في الآخرة: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 12] .
معنى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} [الانشقاق: 2] يعني: استمعتْ وأطاعتْ بمجرد الاستماع.
وهنا يقول تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] أي: تنشقّ وينزل من الشقوق الغمام، وقد ذُكِر الغمام أيضاً في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة} [البقرة: 210] .
وقوله تعالى: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] يدل على قوة النزول ليباشروا عملية الفصل في موقف القيامة.(17/10420)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
إنْ كانت الدنيا يُملِّك اللهُ فيها بعض خَلْقه بعض خَلْقه، كما قال سبحانه: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ ... } [آل عمران: 26] وقلنا: فَرْق بين المِلْك والمُلْك: المِلْك كل ما تملك ولو كان حتى ثوبك الذي ترتديه فهو مِلك، أمّا المُلْك فهو أن تملك مَنْ يملك، وهذا يعطيه الله تعالى، ويهبه لمن يشاء من باطن مُلْكه تعالى، كما أعطاه للذي حاجّ خليلَه إبراهيم عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك} [البقرة: 258] .
هذا في الدنيا، أما في الآخرة فلا مْلك ولا مُلْك لأحد، فقد سلب هذا كله، والملْك اليوم لله وحده: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
إذن: فما في يدك من مُلْك الدنيا مُلْك غير مستقر، سرعان مان يُسلَب منك؛ لذلك يقول أحد العارفين للخليفة: لو دام الملْك لغيرك ما وصل إليك، فالمسألة ليست ذاتية فيك، فمُلْكك من باطن مُلْك الله تعالى صاحب الملك، وهو الملك الحق، فمُلْكه تعالى ثابت مستقر، لا ينتقل ولا يزول.
وإن انتقلتْ الملكية في الدنيا من شخص لآخر فإنها تُجمَع يوم القيامة في يده تعالى، وتجمّع الملْك والسلطة في يد واحدة إنْ كانت ممقوتة عندنا في الدنيا، حيث نكره الاحتكار والدكتاتورية التي تجعل(17/10421)
السلطة والقهر في يد واحدة، إنْ كانت هذه مذمومة في البشر فهي محمودة عند الله تعالى؛ لأنها تتركز في الدنيا في يد واحد صاحب هوى.
أما في الآخرة فهي في يده تعالى، فالرحمة في الدنيا أن يوزع الملْك والسلطان، والرحمة في الآخرة أن تُجمع في يده تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] إذن: اجتماع الملْك يوم القيامة لله تعالى من مظاهر الرحمة بنا، فلا تأخذها على أنها احتكار أو جبروت؛ لأنها في يد الرحمن الرحيم.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُطمئنك: لا تقلق، فالملْك يوم القيامة ليس لأحد تخاف أن تقع تحت سطوته، إنما الملك يومئذ الحق للرحمن.
والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير، وما دام ثابتاً لا يتغير فهو لا يتناقض ولا يتعارض، فالرجل إذا كلّمك بكلام له واقع في الحياة وطلبتَ منه أن يعيده لك أعاده ألف مرة، دون أن يُغيّر منه شيئاً، لماذا؟ لأنه يقول من خلال ما يستوحي من الحقيقة التي شاهدها، أمّا إنْ كان كاذباً فإنه لا يستوحي شيئاً؛ لذلك لا بُدَّ أن يختلف قوله في كل مرة عن الأخرى؛ لذلك قالوا: إنْ كنتَ كذوباً فكُنْ ذكوراً.
ومن رحمانيته تعالى أن يقول سبحانه: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} [الفرقان: 26] فينبهنا إلى الخطر قبل الوقوع فيه، وهذه رحمة بنا أن ينصحنا ربنا ويعدل لنا، وإلا لو فاجأنا بالعقوبة لكان الأمر صعباً.
فإن ذكرت المقابل تقول إنه يسير على المؤمنين، فاحرص أيها الإنسان أن تكون من الميسّر لهم لا من المعسّر عليهم.(17/10422)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ}(17/10423)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
هذه عدّة أيام ذكرتها هذه الآيات: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] ، {الملك يَوْمَئِذٍ الحق} [الفرقان: 26] ، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] فيوم القيامة جامع لهذا كله.
وقلنا: إن الظالم: الذي يأخذ حَقَّ غيره، والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذا الظلم بقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] .
لأنهم لا يقدرون على ظُلْم الله تعالى، ولا على ظُلْم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكلمة الله ورسوله هي العُلْيا، وسينتصر دين الله في نهاية المطاف. ومع ذلك يعاقبهم الله تعالى على ظلمهم لأنفسهم، فنِعْم الإله إله يفعل هذا مع مَنْ عصاه.
والكافر حتى في مظهرية ظُلْمه للغير يظلم نفسه؛ لأنه يضعها في موضع المسئولية عن هذه المظالم. إذن: لو حقَّق الإنسان الظلم لوجده لا يعود إلا على الظالم نفسه.
وحين يرى الظالمُ عاقبةَ ظُلْمه، ويعاين جزاء فِعْله يعضُّ على يديْه ندماً وحَسْرة. والعَضُّ: انطباق الفكيْن الأعلى والأسفل على شيء، وللعضِّ مراحل تتناسب مع المُفْزع الذي يُلجىء الإنسانَ له، وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] .(17/10423)
والأنامل: اطراف الأصابع وعَضُّها من الغيظ عادة معروفة حينما يتعرّض الإنسان لموقف يصعُب عليه التصرف فيه فيعضُّ على أنامله عَضّاً يناسب الموقف والحدث، فإنْ كان الحدث أعظمَ ناسبه أنْ يعضّ يده لا مجرد أصابعه، فإنْ عظم عَضَّ على يديْه معاً كما يحدث لهم في الآية التي معنا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 27] لأنه في موقف حسرة وندم على الفرصة التي فاتته ولن تعود، والخطأ الذي لا يمكن تداركه؛ لذلك يُعذِّب نفسه قبل أن يأتيه العذاب.
فيعضُّ على يديْه معاً، فكأن الأمر المُفْزِع الذي يعاينه بلغ الغاية؛ لذلك عضَّ على يديه ليبلغ الغاية في المعضوض، وهو العاضّ والمعضوض، ولا يُعذِّب نفسه بهذه الطريقة إلا مَنْ يئس من النجاة.
ثم يُبيِّن علة ذلك: {يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} [الفرقان: 27] وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في حدث مخصوص وفي شخص بعينه، فإنها تعمّ كل مَنْ فعل هذا، فالعبرة كما يقولون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا جزاء كل ظالم حَادَ عن الجادة.
وهذه الآية «نزلت في حدث خاص باثنين: عقبة بن أبي معيط، وكان رجلاً كريماً يُطعم الطعام، وقد دعا مرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى طعامه، لكن رسول الله اعتذر له وقال: لا أستطيع أن أحضر طعامك إلا أنْ تشهد أن: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلما شهد(17/10424)
الرجل الشهادتين زاره رسول الله وأكل من طعامه، فأغضب ذلك أمية ابن خلف صاحب عقبة فقال له: لقد صبوتَ يا عقبة، فقال عقبة: والله ما قلتُ ذلك إلا لأنني أحببتُ أن يأكلَ محمد عندي كما يأكل الناس، فقال أمية: فلا يبرئك مني إلا أنْ تذهب إلى محمد في دار الندوة فتطأ عنقة وتبصق. . إلخ، وفعل عقبة ما أشار عليه به صاحبه» فنزلت الآية: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} [الفرقان: 27] والمراد بالسبيل قوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم يقول: {ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً}(17/10425)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
الويل: الهلاك، فهو يدعو الهلاك ويناديه أنْ يحلّ به، والإنسان لا يطلب الهلاك لنفسه إلا إذا تعرّض لعذاب أشدّ من الهلاك، كما قال أحدهم:
أَشَدُّ من السّقم الذي يُذهِب السّقما ... وقول الشاعر:
كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى الموْتَ شَافِياً ... وحَسْبُ المنَايَا أنْ يكُنَّ أَمَانِيَا
فلما كانت المسألةُ أكبر منه وفوق احتماله نادى يا ويلتي احضري، فهذا أوانك لتُخلِّصيني مما أنا فيه من العذاب.(17/10425)
وقوله {لَيْتَنِي} [الفرقان: 28] تَمَنٍّ، والتمنّي طلب أمر محبوب لا سبيلَ إلى حصوله، كما قال الشاعر في التمني:
لَيْتَ الكَواكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنظِمَهَا ... عُقودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لكُمْ كَلمِي
وهذا أمر لا يمكن أنْ يُنال.
وآخر يقول:
فيا لَيْتَ الشَّبابَ يَعُودُ يَوْماً ... فَأُخبرَه بِمَا فعَل المشيبُ
فقصارى ما يعطيه أسلوب التمني أنه يدلّ على أمر محبوب، كنت أحب أن يحدث، لكن أيحدث بالفعل؟ لا.
وكلمة (فلان) تقولها كناية عن شخص لا تحب حتى ذِكْر اسمه، فعقبة (ابن أبي مُعيط) لم يقل: ليتني لم أتخذ أمية (بن خلف) خليلاً إنما قال (فلاناً) لأنه كاره له يبغض حتى ذكر اسمه.
والخليل: من الخُلَّة والمخالَّة يعني: الصداقة المتداخلة المتبادلة وفي ذلك يقول الشاعر:
وَلَمَّا التقَيْنَا قَرَّبَ الشَّوْقُ جَهْده ... خَليليْنِ ذَابَا لَوْعَةً وعِتَاباَ
كأنَّ خَلِيلاً في خِلاَلِ خَلِيلهِ ... تَسرَّب أَثْنَاءَ العِنَاقِ وغَابَا
ثم ذكر علة ذلك: {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر}(17/10426)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
{خَذُولاً} [الفرقان: 29] صيغة مبالغة من الخذلان، نقول: خاذل وخذول، ومعنى خذلك أي: تخلّى عنك في الأمر بعد أنْ مدَّ لك حبالَ الأمل، فإذا ما جاء وقت الحاجة إليه تخلّى عنك وتركك، كذلك(17/10426)
الشيطان يفعل بأوليائه، كما جاء في آيات أخرى: {كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} [الحشر: 16] وفي آية أخرى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 48] .
وفي موضع آخر يقول لأتباعه: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] .
فحين يقولون له: لقد أغويتنا وأضللْتنا يقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] لا سلطانَ حجة أقنعكم به ولا سلطان قهر أحملكم به وأقهركم على طاعتي، بل كنتم على (تشويرة) : {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] .
ثم يقول الحق سبحانه عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي}(17/10427)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
القوم: قوْم الرجل: أهله وعشيرته والمقيمون معه ويجمعهم: إما أرض، وإما دين. وسُمُّوا قَوْماً لأنهم هم الذين يقومون على أمر الأشياء، فهم الرجال خاصة؛ لأن النساء المفروض فيهن السكن والقرار في البيوت.
والحق تبارك وتعالى يوضح لنا هذا الفرق في قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ(17/10427)
نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] إذن: فالقوم هم الرجال خاصة.
ومن ذلك أيضاً قول الشاعر:
وَمَا أدري ولَسْتُ إخَالُ أَدْرِي ... أَقُوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
وقوله تعالى: {إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] أضاف القوم إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه منهم يعرفونه ويعرفون أصْله، وقد شهدوا له بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق قبل أن يُبعثَ، وكان عندهم مؤتمناً على نفائس أموالهم؛ لذل خاطبهم الحق تبارك وتعالى بقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
إذن: فالرسول ليس بعيداً عنكم، ولا مجهولاً لكم، فمَنْ لم يؤمن به كرسول ينبغي أنْ يؤمن به كأسْوة وقدوة سلوك لسابق تاريخه فيكم.
لذلك نرى أن سيدنا أبا بكر ما انتظر من رسول الله دعوةً، ولا أنْ يقرأ له قرآناً، أو يُظهِر له معجزة، إنما آمن وصدَّق بمجرد أن قال رسول الله، فما دام قد قال فقد صدق، ليس بمعجزة رآها أبو بكر، إنما برصيده القديم في معرفة رسول الله في سلوكه وخُلُقه، فما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليَدع الكذب على الخَلْق، ويكذب على الخالق.(17/10428)
وكذلك السيدة خديجة: هل انتظرت من رسول الله ما يُثبت نبوته؟ إنها بمجرد أن قال رسول الله صدَّقتْ به، ووقفت بجانبه وثبَّتته وهدَّأتْ من روعه، وقالت له: «والله لا يُسلمك الله أبداً، إنك لتصِلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتعين على نوائب الدهر» .
ومعنى: {مَهْجُوراً} [الفرقان: 30] من الهجر وهو قَطْع الصلة، فإنْ كانت من جانب واحد فهي هَجْر، وإن كانت من الجانبين فهي (هاجراً) . والمعنى: أنهم هجروا القرآن، وقطعوا الصلة بينهم وبينه، وهذا يعني أنهم انقطعوا عن الألوهية وانقطعوا عن الرسالة المحمدية، فلم يأخذوا أدلة اليقين العقدية، وانقطعوا عن الرسالة المحمدية حينما كذَّبوا بها، وانقطعوا عن الأحكام حينما عَصَوْها، وبذلك اتخذوا هذا القرآن مهجوراً في كل هذه المسائل: العقائد والعبادات والتصديق بالرسول.
مع أن العرب لو فهموا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] لمجّدوا القرآن وتمسَّكوا به، فهو الذي عصمهم وعصم لغتهم، وأعْلَى ذِكْرهم بين الأمم، ولو أن كل أمة من الأمم المعاصرة أخذتْ لهجتها الخاصة الوطنية، وجعلت منها لغةً لتلاشت العربية كلغة.
وفي كثير من بلدان الوطن العربي لو حدَّثوك بلهجتهم الخاصة لا تفهم منها شيئاً، ولولا أن الفُصْحى لغة القرآن تربط بين هذه اللهجات لأصبحتْ كلٌّ منها لغةً خاصة، كما حدث في اللغات اللاتينية(17/10429)
التي تولدت منها الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية، ولكل منها أسسها وقواعدها الخاصة بها، وكانت في الأصل لغة واحدة، إلا أنها لا رابطَ لها من كتاب مقدس.
فالحق تبارك وتعالى يُنبِّههم إلى أن القرآن فيه ذِكْرهم وشرفهم وعزتهم، وفيه شهرتهم وصيتهم، فالقرآن جعل العرب على كل لسان، ولولاه لذابوا بين الأمم كما ذابتْ قبلهم أمم وحضارات لم يسمع عنها أحد.
لذلك يقول لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنْ تؤمنوا بما جئت به يكُنْ حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ قولي صبرتُ حتى يحكم الله بيني وبينكم» .(17/10430)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
وإذا لم يكُنْ للرسول أعداء، فلماذا جاء؟ لو انتظرنا من الجميع ساعةَ يأتي الرسول أنْ يُصدقوه ويؤمنوا به إذن: فلماذا جاء الرسول؟ لا يأتي الرسول إلى إذا طَمَّ الفساد وعَمّ، كما أننا لا نأتي بالطبيب إلا إذا حدث مرض أو وباء.
وهؤلاء القوم كانت لهم سيادة ومكانة، وقد جاء الإسلام ليُسوّي بين الناس، ويسلب هؤلاء سيادتهم، فلا بُدَّ أن يقفوا منه موقف العداء، وهذا العداء هو حيثية وجود الرسول فيهم. وليس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(17/10430)
بِدْعاً في ذلك، فما من نبي إلا وكان له أعداء، مع أن الأنبياء السابقين كان النبي منهم في فترة زمنية محدودة وفي مكان محدود.
أما رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت رسالة عامة في الزمان وفي المكان، ولا بُدَّ أنْ يتناسب العداء إذن مع انتشار الرسالة وعمومها في الزمان والمكان إلى قيام الساعة وعلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُوطِّن نفسه على ذلك.
وكلمة (عدو) من الكلمات التي تُطلق مفردة، وتشمل المثنى والجمع، ومن ذلك قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 77] .
وفي سورة الكهف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] ولم يقل: أعداء.
وفي بعض الآيات تأتي بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103] فلو كانت قضية لغوية لجاءتْ بصيغة المفرد في كل الآيات.
لكن لماذا عدلَ القرآن هنا عن صيغة المفرد إلى صيغة الجمع؟
قالوا: إنْ كانت العداوة من المفرد والمثنى والجمع عداوة واحدة قال: (عدو) بصيغة المفرد لاتحاد سبب العداوة، فإنْ كانت العداوات مختلفة: هذا يعاديك لشرفك، وهذا يعاديك لعلمك، وهذا يعاديك لمالك، فتعددت أسباب العداوة قال (أعداء) أما في مسألة الإيمان واليقين بالنسبة للكافرين فالعداوة واحدة، لكن في أمور الدنيا العداوات متعددة: هذا يعاديك لكذا، وهذا يعاديك لكذا؛ لأنه مخالف لهواه.(17/10431)
وحينما تحدثنا عن قوله تعالى: {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] كلها بصيغة الجمع إلا في قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] بصيغة المفرد، لماذا؟ لأن صداقة المؤمنين ينبغي ألاَّ تكون إلا لمعنى واحد، هو الحب لله، وفي الله، لا ينبغي أن يكون لك صديق لكذا وصديق لكذا.
وفي ذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأنْ يحبَّ المرءَ لا يُحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار» .
فإذا كان أصدقاؤك يحبونك لله، فهم جميعاً كصديق واحد.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ} [الفرقان: 31] يعني: كأعدائك الذين اتخذوا القرآن مهجوراً، والذين وقفوا منك موقف التعنت والإيذاء والسخرية.
{جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] أي: الذين يُجرِمون يعني: يرتكبون الجرائم، وهي المعاصي والذنوب حَسْب مدلولاتها.
الحق تبارك وتعالى حينما يكشف لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حقيقة أعدائه، وأنهم كثيرون، وأنهم مجرمون إنما ليوَطِّن نفسه على ذلك، فلا يُفَاجأ به، ويتحمل أذاهم إنْ أصابوه بسوء. وهذه المسألة كالمصْل والتحصين الذي يعطونه للناس لمواجهة المرض قبل حدوثه، فالحق سبحانه يعطي رسوله المناعة اللازمة لمواجهة أعداء الدعوة.(17/10432)
لذلك نجد «تشرشل» القائد البريطاني الذي ساس الحرب العالمية الثانية كان يواجه جنوده بالحقائق أفظع مما هي في الواقع ليُوطِّن شعبه على قوة التحمل، وعلى التصدِّي للصعوبات الشديدة، ومهما واجههم من مصاعب قال لهم ما زال هناك المزيد منها، حتى إذا ما حدث ذلك كانوا على استعداد له.
وقوله تعالى: {وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] أي: أن الله تعالى سيهديك إلى الطريق الذي بمقتضاه تنتصر على هؤلاء جميعاً. وسبق أن ذكرنا عن الفاروق عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه حينما نزل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] قال: أيُّ جمع هذا؟ يعني تعجب كيف سنهزم هؤلاء ونحن الآن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا؟ ولا نبيت إلا في السلاح، ولا نصبح إلا في السلاح نخاف أن يتخطفنا الناس، فلما وقعتْ بدر وهُزِم المشركون وحُصدت أرواح صناديدهم قال: صدق الله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
كيف حدث هذا؟ حدث من هداية الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أسباب النصر، والحق تبارك وتعالى ينصر بالشيء وينصر بضده، وقد اجتمع في بدر سادات قريش وأقوياؤها وأغنياؤها وصناديد الكفر بها، حتى قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هذه مكة، قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها»(17/10433)
وقد خرجوا جمعياً على حال الاستعداد للحرب، أما المؤمنون فقد كانوا قِلَّة مستضعفين على غير استعداد للحرب، ومع ذلك نصرهم الله.
والحق سبحانه يُطمئن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين معه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] .
وقال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] أي: ننقص من أرض الكفر، ونزيد في أرض الإيمان، والحق سبحانه أخبرنا بقضايا، يجب أن تُوجَد أحداث في الحياة والواقع خادمةً لتصديق هذه القضايا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ}(17/10434)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
هذا أيضاً أحد الأمور التي يتعلقون بها كي لا يؤمنوا، وكيف يطلبون أن ينزل القرآن جملةً واحدة، وهم لا يطيقون منه آية واحدة؟ لكنه الجدل والسفسطة والإفلاس في الحجة، فاعتراضهم على نزول القرآن مُنَجّماً.
إذن: لا غضاضة عندهم في القرآن، وعَيْبه في نظرهم أنه نزل على محمد بالذات، وأنه ينزل مُنجّماً لا جملة واحدة، وكان طاقة الإيمان عندهم تناسب نزول القرآن جملة واحدة!!(17/10434)
ثم يقول سبحانه: {كَذَلِكَ} [الفرقان: 32] يعني: أنزلناه كذلك مُنجّماً حَسْب الأحوال، والحكمة من ذلك {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] لأنك ستتعرض على مدى ثلاث وعشرين سنة لمواقف تزلزل، فكلما تعرضْتَ لموقف من هذه المواقف نزل القرآن تسليةً لك وتثبيتاً وَصِلةً بالسماء لا تنقطع. ولو نزل القرآن مرة واحدة لكان التثبيت مرة واحدة، ثم تأتي بقية الأحداث بدون تثبيت، ولا شكَّ أن الصلة بالسماء تُقوِّي المنهج وتُقوِّي الإيمان.
كما أن القرآن لو نزل مرة واحدة، كيف يتسنى لهم أنْ يسألوا عما سألوا عنه مما حكاه القرآن: يسألونك عن كذا، يسألونك عن كذا. . إلخ. إذن: نزوله مُنجّماً اقتضاء لحكمة الحق سبحانه ليُعدِّدَ مواقف تثبيتك، لتعدد مواقف الإيذاء لك.
ومعنى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] أي: أنزلناه مُنجمّاً حَسْب الأحوال، فكلما نزل نجم تمكنتم من حِفْظه وتكراره في الصلاة.(17/10435)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
المَثَل مثل قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] أو قولهم: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] والمثل: الأشياء العجيبة التي طلبوها.
ولو أجابهم الله لما قالوا لأنكروا قولهم وتنصّلوا منه، كما قال تعالى عن اليهود: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ومع ذلك قالوا ما حكاه القرآن عنهم. أمَا كان فيهم رجل يتنبه لقوْل القرآن، فيحذرهم من هذا القول ليُوقِع(17/10435)
رسول الله في حرج، ويُظهر القرآن على أنه كذب، ويقول كلاماً يخالف الحقيقة، وعندها، لهم أنْ يقولوا: لقد قال القرآن كذا وكذا ولم يحدث منا هذا؟(17/10436)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{الذين} [الفرقان: 34] إجمال الأشخاص معروفين بذواتهم، وقفوا من الرسول موقف العداء، ومنهم مَنْ سبق أن قال: {ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} [الفرقان: 2728] .
والحشر: الجمع للحساب، لكن سيُحشَرون على وجوههم؛ لذلك لما نزلت هذه الآية سألوا رسول الله: كيف يمشُون على وجوههم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر أن يُمشيهم على وجوههم» .
فالذي يمشي على وجهه كالذي يمشي على بطنه، ولعله يُجَر جراً، سواء أكان على وجهه أو على شيء آخر، ثم إن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل عن أمور هي مناط القدرة المطلقة.
والحق تبارك وتعالى يُوضِّح هذه المسألة في قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي(17/10436)
على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النور: 45] .
إذن: المشْي لا ينحصر في الحالات التي نعرفها فقط، إنما هي طلاقة القدرة التي تفعل ما تشاء.
لكن، لماذا لم يذكر القرآن أسماء هؤلاء الأشخاص الظالمين المعاندين للإسلام؟ قالوا: هذا من باب إرخاء العِنَان للخَصْم، وكلمة (العنان) تأتي بكسر العين وفتحها، واللغويون يقولون: هي على وزن ما هي بمعناه، فإنت قصدتَ بها عَنان السماء فهي على وزن سَحَاب، وإن أردتَ بها عِنان الفرس، فهي على وزن لِجَام.
وراكب الدابة إنْ أرخى لها العِنان تركها تسير كما تشاء، كذلك الحق تبارك وتعالى يُرخِي للخصم العِنان ليقول كل ما عنده، وليأخذه إلى جانبه، لا بما يكره، بل بما يحب. وقد علَّم الله تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيف يردُّ عليهم ويجادلهم الجدل الهادىء بالتي هي أحسن. فحين قالوا عنه مفتر، وعن القرآن مُفترىً ومكذوب ردّ عليهم: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] .
ثم يترقَّى في جدالهم: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] وفي آية أخرى يرد عليهم: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] .
وهل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يعرف مَنْ على الهدى ومَنْ على الضلال؟ لا شكَّ أنه إرخاء العِنان للخصم، يقول لهم: أنا وأنتم على طَرَفي نقيض: أنا أقول بإله واحد وأنتم تُكِّذبون قولي، فأنا متناقض معكم في هذه القضية، والقضية لا بُدَّ أن تأتي على شكل واحد، فإمَّا أنا على الهدى، وإمّا أنتم، وأنا لا أدّعي الحق لنفسي.(17/10437)
إذن: المطلوب أنْ تُعمِلوا عقولكم لِتُميِّزوا مَنْ مِنّا على الهدى ومَنْ منّا على الضلال، وكأن رسول الله يرتضي حكومتهم في هذه المسألة، وما ترك لهم رسول الله الحكمَ إلا وهو واثق أنهم لو تجردوا من الهوى لعرفوا أن الحق معه، وأنه على الهدى، وأنهم على الضلال.
إذن: عندما تكلم القرآن عن كفار قريش الذين تعنتوا في اقتراحاتهم، وعاندوا وآذوا رسول الله بكل أنواع الإيذاء، ومع ذلك حينما تكلم عنهم جاء بأسلوب عام فقال: (الذين) ولم يقل هؤلاء، بل جاء بالقضية العامة ولم يُواجههم بالجزاء مما يدلّ على التلطف في أمر الدعوة، وهذا نوع من استمالة الخَصْم لنقطع منه شراسة العداء والعناد.
لذلك يخاطب الحق تبارك وتعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] كأنك لم تَلِنْ لهم بطبْعك؛ لأن عنادهم وأذاهم كان سيُرغم طبْعك على أن تكون قاسياً معهم ولكن رحمة الله شملتْك فَلِنْتَ لهم {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
هذا يعني أن الداعية لا بُدَّ أن يكون رَحْب الصدر، رَحْب الساحة، ذلك لأنه يُخرِج أهل الضلال عما أَلِفوه إلى شيء يكرهونه، فلا تُخرجهم من ذلك بأسلوب يكرهونه، فتجمع عليهم شدتين، إنما تلطَّفْ معهم، كما قال عَزَّ وَجَلَّ لموسى وهارون عندما أمرهما بدعوة فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] .
لأن الذي بلغ من عناده أنْ يتكبّر لا على المخلوقين أمثاله، إنما يتكبّر على الخالق فيدّعي الألوهية لا بُدَّ أنْ تأتيه بأسلوب ليِّن لطيف.
وفي آية أخرى يُعلِّم الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كيف يجادل المشركين، فيقول سبحانه: {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا} [سبأ: 25](17/10438)
وهل يُتصوَّر الإجرام من رسول الله؟! وفي المقابل: {وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] مع أن منطق الجدل هنا أن يقول: ولا نُسأل عما تُجرِمون، لكنه نسب الإجرام لنفسه، ولم يذكره في حَقِّ الآخرين، فهل هناك تلطُّفٌ وترقيق للقلوب فوق هذا؟
الحق تبارك وتعالى يعرض لكل هذه المسائل ليثبت أن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حريصاً على إيمان قومه، وأنه لم يدّخِرْ وُسْعاً في سبيل هدايتهم وجَذْبهم إليه؛ لدرجة أنه حمّل نفسه فوق ما يطلبه الله منه، حتى قال له ربه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] .
وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] .
يعني: مُهلكٌ نفسك من أجل هدايتهم، وما عليك إلا البلاغ، ولا يقول له ربه هذا الكلام إلا إذا كان قد عَلِم منه حِرْصاً ورغبة أكيدة في هداية قومه.
ومعنى: {أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 34] قوله تعالى {شَرٌّ} [الفرقان: 34] ولم يقُلْ أشر؛ لأن معناها: أن الجهة الثانية فيها شر، وهذا أيضاً من إرخاء العِنان للخصم.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن أقوام الرسل السابقين: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب}(17/10439)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
سبق قول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} [الفرقان: 31] فلا بُدَّ أن يكون لكل نبي أعداء؛ لأنه جاء ليعدل ميزان المكارم الذي تحكم فيه ناس مُستبدون في شراسة، وأهلُ فساد سيُحْرمون من ثمرة هذا الفساد، فطبيعي أنْ يقفوا في وجه الدعوة.
لذلك يضرب الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض الأمثال من موكب الرسالات، فيقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} [الفرقان: 35] .
كأن الحق سبحانه يقول لرسوله: لقد تعرضتَ لمشقة دعوة أُنَاس لا يؤمنون بالإله، أمّا موسى فقد تعرض لدعوة مَن ادعى أنه إله، إذن: هناك مَنْ تحمل كثيراً من المشقات في سبيل الدعوة، لدرجة أن موسى عليه السلام رأى نفسه لن يستطيع القيام بهذه المهمة وحده.
فنراه وهو النبي الرسول الذي اختاره الله يقول: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34] وهذا يعني أن موسى عليه السلام يعلم مدى المشقة، وحجم المهمة التي سيقوم بها.
فالرسالات السابقة كان الرسول يُبعَث إلى أمته المحدودة في الزمان وفي المكان، ومع ذلك لاقوا المشقات، أما أنت يا محمد فقد أُرسلتَ برسالة عامة في الزمان وفي المكان إلى أنْ تقوم الساعة، فلا بُدَّ أن تكون متاعبك مثل متاعب مَنْ سبقوك جميعاً.(17/10440)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
الخطاب في {اذهبآ} [الفرقان: 36] للرسول موسى، وللوزير هارون وقال: {إِلَى القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [الفرقان: 36] مع أن فيهم مَنِ ادعى الألوهية استمراراً لإرخاء العِنَان للخَصْم، فقد كذّب فرعون بأن من آيات الله أن يؤمن بإله واحد.
ثم كانت النهاية {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} [الفرقان: 36] لأنهم وقفوا من موسى وهارون موقفَ العداء، وقامت بينهما معركة تدخل فيها الحق سبحانه، ودمرهم تدميراً، كأن الحق سبحانه يقول لرسوله: اطمئن فإنْ حادوا عن جادة الحق وأبَوْا أنْ يأتوك طائعين، فسوف تكون نهايتهم كنهاية هؤلاء. {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل}(17/10441)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
ذكر الحق تبارك وتعالى نوحاً بعد موسى عليهما السلام؛ لأن كلاً منهما تميَّز في دعوته بشيء، وتحمَّل كل منهما ألواناً من المشقة، فموسى واجه مَنِ ادعى الألوهية، ونوح أخذ سُلْطة زمنية واسعة انتظمتْ كل الموجودين على الأرض في وقته ولا يعني هذا أنه عليه السلام أُرسِل إلى الناس كلهم، إنما كان قومه هم الموجودون على الأرض في هذا الوقت فقد لَبِثَ فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
واقرأ قصته عليه السلام في سورة نوح لتقف على مدى معاناته في دعوة قومه طوال هذه الفترة، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، وكانت الغَلَبة له في النهاية.(17/10441)
وأيضاً لأنه عليه السلام تعرّض لأمر يتعلق بالبنوة، بُنوّة في المنهج، وبُنوة في النسب، فقد كان ابنه نسباً كافراً، ولم يتمكن من هدايته، ولما قال لربه عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] قال له: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
فجعل حيثية النفي {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] فالنسب هنا عمل وطاعة، فكأن البنوة للأنبياء بنوة عمل، لا بنوة نسب، فابنك الحق مَنْ سار على منهجك، وإنْ لم يكُنْ من دمك.
مسألة أخرى نلحظها في الجمع بين موسى ونوح عليهما السلام في مقام تسلية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهما يشتركان في ظاهرة كونية تستحق التأمل والنظر، فكل مظاهر الكون التي أمامنا لو حققنا في كل مظهر من مظاهرها بعقل وتُؤدَة ويقين لأمكَننا أن نستنبط منها ما يُثري حياتنا ويُترِفها ويُسعدها.
لذلك الحق تبارك وتعالى ينعى على الذين يُعرضون عن النظر في آياته، فيقول: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
وسبق أن قلنا: إن كل المخترعات التي رفَّهتْ حياة الناس وأسعدتهم، وقلّلت مجهوداتهم، وقصّرت الوقت عليهم، كانت نتيجة الملاحظة والتأمل في مظاهر الكون كالذي اخترع العجلة والبخار. . إلخ.
وهنا نلاحظ أن العلاقة بين موسى ونوح عليهما السلام أن الله تعالى يُهلِك ويُنجي بالشيء الواحد، فالماء الذي نجَّى موسى هو الماء الذي أغرق فرعون، والماء الذي نجَّى نوحاً هو الماء الذي أغرق(17/10442)
الكافرين من قومه. فهذا تسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالله تعالى إنْ أراد الإنجاء يُنجِّي، وإنْ أراد الإهلاك يُهلِك، ولو بالشيء الواحد.
ألاَ ترى أن أصحاب موسى حينما رأوا البحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فهذه حقيقة وقضية كونية مَنْ يملك ردّها؟ إنما ردها موسى فقال (كَلاَّ) لن نُدرَك، قالها بملء فيه، لا ببشريته، إنما بالربوبية التي يثق في أنها لن تسلمه،
{قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
وكذلك كانت مسألة نوح عليه السلام، لكن بطريقة أخرى، هي السفينة، وفكرة السفينة لم تكُنْ موجودة قبل نوح عليه السلام، ألم يصادف واحد شجرة مُلْقاة في الماء تطفو على سطحه، ففكّر في ظاهرة الطفو هذه، وكيف أن الشجرة لم تغطس في الماء؛ لقد كان النجارون الماهرون يقيسون كثافة الخشب بأن يُلْقوه في الماء، ثم ينظروا مقدار الغطس منه في الماء، وعليه يعرفون كثافته.
هذه الظاهرة التي تنبه لها أرشميدس وبنَى عليها نظرية الأجسام الطافية والماء المُزَاح، وتوصّل من خلالها إلى النقائض، فبها تطفو الأشياء أو تغوص في الماء، إنْ زادت الكثافة يثقل الشيء ويغوص في الماء، وإنْ قلَّتْ الكثافة يطفو.
وتلاحظ ذلك إذا رميتَ قطعة نقود مثلاً، فإنها تغطس في الماء، فإنْ طرقتَها حتى جعلتها واسعةَ الرقعة رقيقة، فإنها تطفو مع أن الكتلة واحدة، نعم الكتلة واحدة، لكن الماء المُزَاح في الحالة الثانية أكثر، فيساعد على طفْوها.
وقد أراد الحق تبارك وتعالى أن يُنبِّه الإنسان إلى هذه الظواهر، ويهديه إلى صناعة السفن التي تحمله في الماء؛ لأن ثلاثة(17/10443)
أرباع الكرة الأرضية مياه، وقد جعل الله لك وسائل مواصلات في الربع، أَلاَ يجعل لك مواصلات في الثلاثة أرباع، فتأخذ خيرات البحر، كما أخذت خيرات البَرِّ؟
وتأمل أسلوب القرآن: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} [الفرقان: 37] ومعلوم أنهم كذَّبوا رسولهم نوحاً لا جميع الرسل، قالوا: لأن النبوة لا تأتي بمتعارضات، إنما تأتي بأمور مُتفق عليها؛ لذلك جعل تكذيبَ رسول واحد كتكذيب جميع الرسل.
ثم ذكر عاقبة ذلك: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان: 37] وكلمة {أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] تعني: أن الذي أغرق المكذبين نَجَّى المؤمنين، وإغراق المكذبين أو عملية تردُّ على سخريتهم من نوح، حينما مرُّوا عليه وهو يصنع السفينة: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] .
ولم يكن الغرق نهاية الجزاء، إنما هو بدايته، فهناك العذاب الذي ينتظرهم في الآخرة: {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً} [الفرقان: 37] وهكذا جمع الله عليهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.
ثم يضرب الحق تبارك وتعالى لرسوله مثلاً آخر: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس}(17/10444)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
إنها نماذج من المتاعب التي لاقاها الرسل من أممهم، كما قال في موضع آخر: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] . {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [الاعراف: 73] .(17/10444)
وكانت النهاية أن نصر الله أولياءه ورسله، ودحر خصومهم والمكذِّبين بهم، كل ذلك ليقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا محمد لست بدعاً من الرسل، فإنْ وقف منك قومك موقفَ العناد والتكذيب، فكُنْ على يقين وعلى ثقة من نصر الله لك كما قال:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171173] .
إنها قضية يطلقها الحق تبارك وتعالى لا للتاريخ فقط، ولكن لتربية النفس البشرية، فإنْ أردتَ الغلبة فكُنْ في جند الله وتحت حزبه، ولن تُهزَم أبداً، إلا إذا اختلّتْ فيك هذه الجندية، ولا تنْسَ أن أول شيء في هذه الجندية الطاعة والانضباط، فإذا هُزِمْتَ في معركة فعليك أن تنظر عن أيٍّ منهما تخليْتَ.
لذلك رأينا في غزوة أحد أن مخالفة الرماة لأمر رسول الله قائد المعركة كانت هي سبب الهزيمة، وماذا لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر الرسول؟ لو انتصروا لَفهِموا أنه ليس من الضروري الطاعة والانقياد لأمر رسول الله. إذن: هذا دليل على وجوب الطاعة، وألاَّ يخرجوا عن جندية الإيمان أبداً خضوعاً وطاعة، ولا تقولوا: إن الرسول بيننا فهو يُربيكم؛ لأنه لن يخلد فيكم.(17/10445)
وقوله تعالى: {وَأَصْحَابَ الرس} [الفرقان: 38] الرسّ: هو البئر أو الحفرة، وكانت في اليمامة، ويُسمُّونها الأخدود، وقد ورد ذكرها في سورة البروج.
وقد قال سبحانه هنا: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: 38] لم يُرِد الحق سبحانه أنْ يُعدِّد كل الأمم السابقة، واكتفى بذِكْر نماذج منها، وفي مواضع أخرى يجمعهم جملةَ، فيقول تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] .
ثم يقول الحق سبحانه: {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال}(17/10446)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
{وَكُلاًّ} [الفرقان: 39] أي: كُلٌّ من المتقدمين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} [الفرقان: 39] يَعني: لم أدع رسولاً إلا وجئتُ له بالعبرة برسول قبله، أقول له: انظر فيمَنْ سبقك كيف كذَّبه قومه؟ وكيف عاندوه ووقفوا منه هذا الموقف، ومع ذلك كانت له الغلبة عليهم؛ ذلك ليأخذ كُلُّ نبي شحنةَ مناعة وطاقة يصمد بها أمام شدائد الدعوة، فلا يلين، ولا ييأس، وليْكُنْ على يقين أن النهاية له وفي صالحه.
{وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} [الفرقان: 39] أي: أهلكنا ودمرنا كل من كذَّب الرسل بأنواع مختلفة ومتعددة من ألوان العذاب، فعوقب بعضهم بالصيحة أو الخسف أو الإغراق أو بالريح الصرصر العاتية.(17/10446)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية}(17/10447)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
هذه المشاهد لم تكن مجرد تاريخ يحكيه القرآن، إنما مشاهد ومَرَاءٍ رآها كفار مكة في رحلة الصيف يمرون على هذه الديار، كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137138] إذن: فهذا التاريخ له واقع يسانده، وآثار تدل عليه.
والقرية التي أُمطرتْ مطر السَّوْء هي سدوم قرية قوم لوط {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40] ألم يشاهدوها في أسفارهم.
{بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} [الفرقان: 40] كلمة (بَلْ) للإضراب، فهي تنفي ما قبلها، وتُثبِت ما بعدها، فالمعنى: أنهم مَرُّوا عليها وشاهدوها، ويَعْرفونها تمام المعرفة، لكنهم لا يرجُونَ نُشُوراً يعني: لا ينتظرون البعث، ولا يؤمنون به، ولا يعترفون بالوقوف بين يدي الله للحساب، ألم يقولوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] .
وعجيبٌ ألاَّ يؤمنَ هؤلاء بالبعْث والحساب، وهم أنفسهم كانوا إذا رأَوْا ظالماً وقفوا في وجهه ومنعوه من الظلم، كما كان في حِلْف(17/10447)
الفضول مثلاً، فيأخذون الظالم ويعاقبونه حتى يرجع عن ظُلْمه، ثم يردُّون للمظلوم حَقّه، لكن ألم ينظروا في حال الظالمين الذين مرُّوا في الدنيا دون عقاب، ودون قصاص؟ أليس من العدل أن تكون لهم دَارٌ أخرى يُحاسبون فيها؟
لذلك كنا نردُّ على الشيوعيين بهذه المسألة، نقول لهم: لقد عذبتُمْ أعداءكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وأنتقمتُم منهم فما بال الذين سبقوكم ولم تدركوهم؟ أليس من العدل أنْ تعترفوا بيوم جامع يُحاسب فيه هؤلاء؟
ولما قال القائل: لن يموت ظلوم حتى ينتقم الله منه، قالوا له: إن فلاناً الظالم قد مات، ولم نَرَ فيه شيئاً، فقال: إن وراء هذه الدار داراً يُجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وبعد أن عرض الحق تبارك وتعالى بعض النماذج من موكب النبوات تسليةً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبيِّن أن الأمر مع هؤلاء الكفار لن يتوقف عند العِنَاد والتعنّت بمطالب سخيفة، إنما يتعدَّى ذلك إلى محاولة الاستهزاء به والسخرية منه، فقال سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً}(17/10448)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
(إنْ) نافية بمعنى: ما يتخذونك إلا هُزُواً، ثم ذكر صيغة الاستهزاء: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] وفي موضع آخر قالوا: {أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء: 36] كأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون هذه المنزلة، وما دام الرسول في نظرهم دون هذه المنزلة(17/10448)
فإنهم يريدون شخصاً على مستوى المنزلة، كما قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
ومعنى هذا أنهم مؤمنون بضرورة وجود إله ورسول ومنهج، وكل اعتراضهم أن تكون الرسالة في محمد بالذات.
ثم تناقضون مع أنفسهم، فيقولون: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا}(17/10449)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
فكيف تستهزئون به وترَوْنه دون مستوى الرسالة، ثم تقولون إنه كاد أنْ يُضلكم عن آلهتكم يعني: قَرُبَ أنْ يُضلّكم عن آلهتكم، مع ما أنتم عليه من التعنّت والعناد؟ هذا دليل وشهادة لرسول الله أنه قويٌّ وأنه على مستوى الرسالة، وأنه لم يدخر وُسْعاً في دعوتكم، حتى كاد أنْ يصرفكم عن آلهتكم.
والدليل على أنهم كانوا يخافون من تأثير رسول الله عليهم قولهم لأتباعهم إذا رأوهم يستمعون للقرآن: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] إذن: يريدون أنْ يُشوِّشوا على القرآن لما يعلمون من تأثيره في النفوس، وهم أمة فصاحة وبلاغة، فإنْ سمعوا القرآن فلا بُدَّ أن يُؤثّر في قلوبهم ويجذبهم إليه.
ألا ترى قصة إسلام عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكيف كان قبل الإسلام شديداً جباراً؟ فلما تهيأت له الفرصة فاستمع للقرآن وصادف منه ملَكةً سليمة وفطرة نقية، حيث أعاده حادث ضَرْبه(17/10449)
لأخته وشَجِّه لها، أعاده إلى سلامة الفطرة والطويّة، فلما سمع منها القرآن وصادف منه قلباً نقياً وفطرة سليمة تأثر به، فأسرع إلى رسول الله يعلن إسلامه.
إذن: فقولكم: {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الفرقان: 42] دليل على أنه كُفْء للمهمة التي بعث بها، وهذا يناقض قولكم سخريةً منه واستهزاءً: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] .
وقولهم: {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: 42] يدل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعل معهم أفعالاً اقتضتْ منهم أنْ يصبروا على الضلال {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 42] سيعرفون ذلك، لكن بعد فوات الأوان، وبعد ألاَّ تنفعهم هذه المعرفة.(17/10450)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
الحق تبارك وتعالى يضع لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قضية، هي أن الدين إنما جاء ليعصم الناس من أهواء الناس، فلكُلِّ نفس بشرية هَوىً، وكل إنسان يعجبه هواه، وما دام الأمر كذلك فلن ينقاد لغيره؛ لأن غيره أيضاً له هوىً؛ لذلك يقول تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] .
لكن، لماذا تختلف الأهواء؟ قالوا: لأن طبيعة الحياة تتطلب أن تكون الأهواءُ مختلفةً؛ لأن مجالات الحياة متعددة، فهذا هواه في كذا، وهذا هواه في كذا. فترى الصَّديقَيْن يلازم أحدهما الآخر، ويشاركه طعامه وشرابه، فلا يفرقهما شيء، فإذا ما ذهبا لشراء(17/10450)
شيء ما تباينتْ أهواؤهما، كما أن هوىً مختلفاً يخدم هوىً مختلفاً، فالذين اختلفوا مثلاً في تصميم الأشياء يخدمون اختلاف الأذواق والأهواء، لذلك يقولون: خلاف هو عَيْن الوفاق، ووفاق هو عَيْن الخلاف.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بسيطاً: هَبْ أنك دخلتَ مطعماً، وأنت تفضل مثلاً ورك الدجاجة وغيرك كذلك يفضله، وصادف أن في المطعم (وركاً) واحداً، فلا شكَّ أنكما ستختلفان عليه. إذن: اتفقتما في الأول لتختلفا في الآخر، لكن إن اختلفتْ رغباتكما، فسوف ينتج عن هذا الاختلاف اتفاقٌ في النهاية، فأنت ستأخذ الورك، وغيرك سيأخذ الصدر، فهذا إذن خلاف يؤدي إلى وفاق، ووفاق يؤدي إلى خلاف.
هنا يقول الحق سبحانه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] الهَوَى. أن تكون هناك قضية ظاهرٌ فيها وَجْه الحق، إلا أنك تميلُ عنه وأنت تعرفه، لا أنك تجهله.
لذلك يقول العلماء: آفةُ الرأْي الهوى. فالرأي قد يكون صائباً، لكن يميل به الهوى حيث يريد الإنسان، وقلنا: لا أدلّ على ذلك من أن الرجل منهم كان يسير فيجد حجراً أجمل من حَجره الذي يعبده، فيَلْقي الإله الذي يعبده ليأخذ هذا الذي هو أجمل منه فيتخذه إلهاً، إذن: هواه في جمال الحجر غلب أنه إله.
وقد وقف المستشرقون عند قوله تعالى في حَقِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] .
يقولون: كيف يحكم الله بأن رسوله لم ينطق عن الهوى، وقد عدَّل له بعض ما نطق به، مثل قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ(17/10451)
تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] .
وقال تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ} [التوبة: 43] .
ولا بُدَّ أن نُحدِّد مفهوم الهوى أولاً: أنت مدرك أن لديه قضيتين: الحق واضح في إحداهما، إلا أن هواه يميل إلى غير الحق. إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نطق لأنه لم تكن هناك قضية واقعة، وهو يعرف وجه الحق فيها، فهو إذن لم يَسِرْ على الهوى، إنما على ما انتهى إليه اجتهاده.
ألاَ ترى قوله تعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مسألة تبنِّيه لزيد بن حارثة {ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} [الأحزاب: 5] فمعنى أن نسبته لأبيه أقسط أن رسول الله لم يكُنْ جائراً، فما فعله قِسْط، لكن فِعْل الله أقسط منه.
فالحق تبارك وتعالى لم يُخطّىء رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسمّى فِعْله عدلاً، وهو عَدْل بشرى يناسب ما كان من تمسُّك زيد برسول الله، وتفضيله له على أهله، فلم يجد رسول الله أفضلَ من أنْ يتبنَّاه مكافأةً له.
ثم يقول سبحانه: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان: 43] وكيلاً يتولَّى توجيهه، ليترك هواه ويتبع الحق، كما قال سبحانه في موضع آخر: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] وقال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] .
فالذي اتبع هواه حتى جعله إلهاً له لا يمكن أنْ تحمله على أنْ(17/10452)
يعدل عن هواه؛ لأن الأهواء مختلفة، فالبعض يريد أنْ يتمتع بجهد غيره، فيضع يده في جيوب الآخرين ليسرقهم، لكن أيسرُّه أن يفعل الناسُ معه مثلَ فِعْله معهم؟ إذن: هوى صادمَ هوى، فأَيُّهما يغلب؟ يغلب مَنْ يحكم بلا هوى، لا لك ولا عليك، وقضية الحق في ذاتها لا توجد إلا من الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ}(17/10453)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{يَسْمَعُونَ} [الفرقان: 44] أي: سماع تعقُّل وتدبُّر، فلو سَمعُوا وعَقِلوا ما وصلتْ بهم المسائل إلى هذا الحدِّ {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} [الفرقان: 44] مع أن الأنعام مُسخَّرة وتُؤدِّي مهمتها ولم تمتنع عن شيء خُلِقَتْ له، فقد شبَّههم الله بالأنعام؛ لأن الأنعام لا يُطلب منها أن تسمع الهداية لأنها مُسخَّرة، والذي يُطلب منه السماع والهداية هو المخيِّر بين أن يفعل أو لا يفعل.
كأن الحق سبحانه يقول: أتظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ وكلمة {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] تدل على أن بعضهم يسمع ويعقل، وهذا من قانون الاحتمال، فكثير من كفار قريش ناصبوا رسول الله العداء، وانتهى الأمر بهم إلى أَنْ أسلموا وحَسُن إسلامهم، إذن: كان فيهم مَنْ يسمع، ومَنْ يفكر ويعقل؛ لذلك قال: {أَكْثَرَهُمْ} [الفرقان: 44] ليحمي هذا الحكم، وليحتاط لما سيقع من إيمان هؤلاء البعض، هذا دِقَّة في تحرِّي الحقيقة.(17/10453)
وسبق أنْ ذكرنا ما كان من أسف المؤمنين حين يفوتهم قَتْل أحد صناديد الكفر في المعركة، فكانوا يألمون لذلك أشدَّ الألم، وهم لا يدرون أن حكمة الله كانت تدخرهم للإيمان فيما بعد، ومنهم خالد ابن الوليد الذي أصبح بعد ذلك سيف الله المسلول.
والأنعام قُلْنا: لا دخلَ لها في مسألة الهداية أو الضلال؛ لأنها مُسخَّرة لا اختيارَ لها؛ لذلك ضرب الله بها المثل لليهود: {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] فالحمار مهمته أنْ يحمل فحسب، أمّا أنت أيها اليهودي فمهمتك أن تحمل وتطبق، الحمار لا يطبق؛ لأنه لم يُطلب منه ذلك، مع أن الحيوان يعرف صاحبه ويعرف طعامه ومكان شرابه، ويعرف طريقه ومكان مبيته، حتى أن أحدهم مات على ظهر جواده، فسار به الجواد إلى بيته.
إذن: فالأنعام تفهم وتعقل في حدود المهمة التي خلقها الله لها، ولا تُقصِّر في مهمتها، أما المهمة الدينية فتعلمها في باطن الأمر، لكن لا يُطلَب منها شيء الآن، لأنها انتهتْ من هذه المسألة أولاً، كما قال سبحانه وتعالى:
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] ؟
فاختاروا أن يكونوا مُسيَّرين بالغريزة محكومين بها، إذن: فلهم اختيار، لكن نفّذوا اختيارهم جملةً واحدة من أول الأمر.
خُذْ مثلاً الهدهد وهو من المملوكات التي سخّرها الله لسليمان عليه السلام يقول له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] أيُّ ديمقراطية هذه التي تمتَّع بها الهدهد مع سليمان.؟! إذن: فحتى الحيوانات تعرف هذه القضية، وإنْ لم يُطلَب(17/10454)
منها شيء، والحيوانات لا يمكن أنْ تفعل شيئاً إلا إذا كان منوطاً بغرائزها وفي مقدورها.
وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالحمار إذا أردتَ منه أن يقفز فوق جدول ماء فإنه ينظر إليه، فإنْ كان في مقدوره قفزَ، وإنْ كان فوق مقدوره تراجَع، ولا يمكن أنْ يُقدِم مهما ضربته؛ لأنه علم بغريزته أنه فوق إمكاناته، أما الإنسان فقد يُقدِم على مثل هذا دون حساب للإمكانات، فيُوقع نفسه فيما لا تُحمد عقباه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل}(17/10455)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
الحق سبحانه وتعالى وهو خالق الآيات في الكون يُنبِّه إليها الخَلْق، وكان من المفروض ممَّن يرى الآيات أنْ يتنبه إليها دون أنْ يُنبه، فإذا رأى عجيبة من عجائب الكون تأملها، وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً بمَنِ انقطعت به السُّبل في صحراء شاسعة، ليس بها أنيس ولا حياة، وقد بلغ به الجهد حتى نام، فلما استيقظ وجد مائدة عليها أطايب الطعام أو الشراب، بالله قبل أنْ تمتدَّ يده إلى الطعام، أليس من المفروض أنْ يفكر في هذا الطعام، مَنْ أتى به؟ وأعدَّه على هذه الصورة؟
إذن: في الكون آياتٌ كان يجب أنْ تشدَّ انتباهك لتبحث فيها وفي آثار وجودها وكلها آيات عالية عَنّا وفوق إمكاناتنا: الشمس والقمر، الهواء والمطر. . إلخ. ومع ذلك لم يتركك الله؛ لأن تتنبه أنت، بل نبَّهك ولفتَك وجذب انتباهك لهذه ولهذه.(17/10455)
وهنا، الحق تبارك وتعالى يعرض الآيات والكونيات التي يراها الإنسان برتابة كل يوم، يراها الفيلسوف كما يراها راعي الشاة، يراها الكبير كما يراها الصغير كل يوم على نظام واحد، لا يكاد يلتفت إليها.
يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} [الفرقان: 45] أي: ألم تعلم، أو ألم تنظر إلى صَنْعة ربك {كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45] نعم نرى الظل، فما هو؟ الظل أنْ يَحْجب شيء كثيف على الأرض مثل جبل أو بناء أو شجرة أو نحوه ضوءَ الشمس، فتظهر منطقة الظل في المكان المُشْمِس، فالمسألة إذن متعلقة بالشمس، وبالأرض التي نعيش عليها.
وقد علمنا أن الأرض كرة تواجه الشمس، فالجهة المواجهة منها للشمس تكون مُضَاءة، والأخرى تكون ظلاماً لا نقول ظلاً، فما الفرق بين الظلِّ والظلام؟ قالوا: إذا كان الحاجبُ لضوء الشمس من نفس الأرض فهي ظُلْمة، وإنْ كان الحاجب شيئاً على الأرض فهو ظل.
والظل نراه في كل وقت، وقد ورد في عدة مواضع من كتاب الله، فقال سبحانه: {إِنَّ المتقين فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] .
وقال: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ} [النحل: 48] .
ينبهنا ربنا تبارك وتعالى إلى مهمة أخرى من مهام الظل، وهي أنه يحمينا من وَخْزة الشمس وحرارتها، ويرتقي الإنسان في استخدام الظل فيجعله كما قال تعالى {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] أي:(17/10456)
أن الظل نفسه مُظلَّل، فيجعلون الخيمة مثلاً لها سقفان منفصلان حتى لا يتأثر داخلُ الخيمة بالحرارة خارجها.
لذلك تجد ظل الشجرة ألطفَ من ظِلِّ الحائط مثلاً أو المظلة؛ لأن أوراق الشجرة يُظلِّل بعضها بعضاً، فالظل يأتيك من مُظلل آخر، فتشعر تحت ظل الشجرة وكأنك في (تكييف) ؛ لأن الأوراق تَحجب عنك حرارة الشمس، في حين تسمح بمرور الهواء، كما قال الشاعر في وصف دوحة:
يصدُّ الشمسَ أنَّي وَاجَهتْنَا ... فَيحْجُبُها وَيَأْذَنُ لِلْنَسِيمِ
وقال تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171] .
وحين تتأمل هذه الظاهرة ساعة طلوع الشمس ترى الشيء الكثيف الذي يحجب ضوء الشمس يطول ظِلُّه إلى نهاية الأفق، ثم يأخذ في القِصر كلما ارتفعتْ الشمس إلى أنْ يصير في زوال، ثم ينعكس الظل مع ميل الشمس ناحية الغرب فيطول إلى نهاية الأفق.
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نلاحظ هذه الظاهرة، وأنْ نتأملها {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] أي: ساعة طلوع الشمس {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} [الفرقان: 45] لأن مشيئة الله تستطيع أن تخلق الشيء ونقيضه، فإنْ شاءَ مَدَّ الظل، وإنْ شاء أمسكه.(17/10457)
لكنه يتغير: ينقص في أول النهار، ويزيد في آخره وكل ما يقبل الزيادة يقبل النقص، والنقص أو الزيادة حركة، وللحركة نوعان: حركة قَفْزية كحركة عقرب الدقائق في الساعة، فهو يتحرك بحركة قفزية، وهي أنْ يمرَّ على المتحرك وقت ساكن ثم يتحرك، إنما أتدرك ذلك في حركة عقرب الساعات؟ لا؛ لأنه يسير بحركة انسيابية، بحيث توزع أجزاء الحركة على أجزاء الزمن.
ومثَّلْنا هذه الحركة بنمو الطفل الصغير الذي لا تدرك حركة نموه حالَ نظرك له منذ ولادته، إنما إنْ غبْتَ عنه فترة أمكنك أنْ تلاحظ أنه يكبر ويتغير شكله؛ لأن نموه مُوزَّع على فترات الزمن، لا يكبر هكذا مرة واحدة، فهي مجموعات كِبَر تجمعتْ في أوقات متعددة، وليس لديك المقياس الدقيق الذي تلاحظ به كبر الطفل في فترة قصيرة.
وإذا كنا نستطيع إجراء هذه الحركة في الساعات مثلاً، فالحق تبارك وتعالى يُحدِثها في حركة الظل وينسبها لعظمها إلى نفسه تعالى؛ لأن الظل لا يسير بحركة ميكانيكية كالتي تراها في الساعة إنما يسير بقدرة الله.
والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها وتعجب منها، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة.
فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك: الساعة الآن كذا؛ لأنه تعودَّ أن يقيس الوقت بالظل، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق؛ لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام؛ لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها.(17/10458)
إذن: أفادنا الظل في المسلات والمزاول، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال: إن فيها شيطاناً، هكذا كان المسلمون الأوائل.
وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} [الفرقان: 45] أي: أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ.(17/10459)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
الحق تبارك وتعالى يُبيِّن الحركة البطيئة للظل فيقول: {قَبْضاً يَسِيراً} [الفرقان: 46] لا تدركه أنت أبداً؛ لأن في كل لحظة من لحظات الزمن حركة فلا يخلو الوقت مهما قَلَّ من الحركة، لكن ليس لديك المقياس الذي تدرك به بُطْءَ هذه الحركة.
وقوله: {قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} [الفرقان: 46] دليل على أن المسألة ليست ميكانيكاً، إنما هي بقيومية الله تعالى؛ لذلك فكأن الحق سبحانه يقول: يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم، فربُّكم قيُّوم على مصالحكم لا ينام.
وأهل المعرفة يستنبطون من ظاهرة الظل أسراراً، فيروْنَ أن ظِلَّ الأشياء الشاهقة المتعالية يخضع لله تعالى، ويسجد على الأرض، رغم أنه متعالٍ شامخ، كما جاء في قوله سبحانه: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15] .
وقال سبحانه: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] فللظل حركة بطيئة لا يعلمها إلا الله؛ لأنك لا تدرك مدى صِغَرها؛ لذلك قُلْنا في الهباء: إنه نهاية ما يمكن أن يكون من التفتيت المنظور.(17/10459)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً}(17/10460)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
{اليل} [الفرقان: 47] يعني: الظلْمة لا الظل، فالظلمة هي التي منعتْ النور، وإياك أن تظن أن الظلمة ضد النور، وتحاول أنت أن تنسخ الظلمة بنور من عندك، وهذه آفة الحضارة الآن أنْ جعلتَ الليل نهاراً.
وقد تنبه العلماء أخيراً إلى مدى ضرر الأشعة على صحة الإنسان، لذلك جاء في الحديث الشريف: «أطفئوا المصابيح إذا رقدتم» فالشعاع له عمل وقت حركتك، لكن ساعة نومك وراحتك ليس له مهمة، بل هو ضار في هذا الوقت.
والحق تبارك وتعالى يمتنُّ علينا بالليل والنهار، فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص: 7172] .
إذن: فلليل مهمة، وللنهار مهمة يُوضِّحها هنا الحق سبحانه بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً} [الفرقان: 47] أي: ساتراً،(17/10460)
كما أن اللباس يستر الجسم، والنوم ردع ذاتي يقهر الكائن الحي، وليس ردعاً اختيارياً.
لذلك تلاحظ أنك إنْ أردت أنْ تنامَ في غير وقت النوم تتعب وترهق، أمّا إنْ أتاك النوم فتسكن وتهدأ، ومن هنا قالوا: النوم ضيف ثقيل إنْ طلبته أَعْنَتكَ، وإنْ طلبك أراحك.
لذلك ساعة يطلبك النوم تنام مِلْء جفونك، ولو على الحصى يغلبك النوم فتنام، وكأن النوم يقول لك: اهمد واسترح، فلم تَعُدْ صالحاً للحركة، أما مَنْ غالب هذه الطبيعة فأخذ مثلاً حبوباً تساعده على السهر، فإنْ سهر ليلة نام بعدها ليلتين، كما أن الذي يغالب النوم تأتي حركته مضطربة غير متوازنة.
فعليك إذن أن تخضع لهذه الطبيعة التي خلقك الله عليها وتستسلم للنوم إنْ ألحَّ عليك، ولا تكابر لتقوم في الصباح نشيطاً وتستأنف حركة حياتك قوياً صالحاً للعمل وللعطاء.
وللصوفية في النوم مَلْحظ دقيق يُبْنَى على أن الكون كله غير المختار مُسبِّح لربه، كما قاله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] وعليه، فذرات الكافر في ذاتها مؤمنة، يؤلمها ويغيظها أن صاحبها عَاصٍ أو كافر فتطيعه، وهي كارهة لفعله بدليل أنها ستشهد عليه يوم القيامة، فإنْ كانت مُسخِّرة لمراداته في الدنيا فإنها ستتحرر من هذه الإرادة في الآخرة.
فاللسان مُسخَّر لصاحبه، إنْ شاء نطق به الشهادتين، وإنْ شاء نطق به كلمة الكفر؛ لأنه مقهور لإرادته، أما في القيامة فلا إرادة إلا للحق تبارك وتعالى.
وفي النوم ترتاح هذه الجوارح وهذه الذرات من سيئات صاحبها ومن ذنوبه، تستريح من نكده وإكراهه لها على معصية الله. فالنوم(17/10461)
رَدْع طاقيّ، فلم يَعُد الإنسان صالحاً للحركة، ولا للتعايش السالم مع جوارحه، لقد كثُرتْ ذنوبه ومعاصيه حتى ضاقتْ بها الجوارح، فيأتي النوم ليريحها.
وهذه الظاهرة نشاهدها مثلاً في موسم الحج، يقول لك الحاج: يكفيني أنْ أنامَ في اليوم ساعة أو ساعتين لماذا؟ لأن السيئات في هذا المكان قليلة، فجوارحك في راحة وانسجام معك فلا تحملك على النوم، أمّا العاصي فلا يكفيه أن ينام عشرة ساعات؛ لأن جوارحه وأعضاءه مُتْعَبة متضايقة من أفعاله.
وهذه نُفسِّر بها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه ذلك لأن جوارحه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصحبه خير صُحْبة، فهي في طاعة دائمة مستمرة، فكيف تحمله على أنْ ينام؟
والخالق عَزَّ وَجَلَّ يعامل الناس على المعنى العام، فالنفوس دائماً ميَّالة للشر جانحة للسوء؛ لذلك تتعب الطاقة وتتعب الجوارح، وكأن الله تعالى يريد إحداث هُدْنة للتعايش بينك وبين جوارحك، نَمْ لتصبح نشيطاً.
ومعنى {والنوم سُبَاتاً} [الفرقان: 47] السّبْت أي: القطْع. فمعنى {سُبَاتاً} [الفرقان: 47] يعني: قاطعاً للحركة، لا انقطاعاً نهائياً، إنما انقطاعاً مُسْتأنفاً لحركة أفضل، وبدن أقوى وأصحّ، فالذي يقضي ليله ساهراً يقوم من نومه مُتْعباً مُضطرباً، على خلاف مَنْ جعل وقت النوم للنوم؛ لأن الخالق عَزَّ وَجَلَّ جعل نومك بالليل على قَدْر ما تتحرك بالنهار، فإنْ أردتَ حركة مُتزنة نشيطة وقوية فنَمْ على مقدار هذه الحركة.(17/10462)
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} [الفرقان: 47] النشور مثل الشُّكور: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً} [الإنسان: 9] أي: شكر، وكذلك النشور أي نشر، والنشر يعني الانطلاق في الأرض بالحركة، كما في قوله تعالى: {فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] .
ثم يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرياح}(17/10463)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
قلنا: إن الرياح إذا جاءت هكذا بصيغة الجمع دلَّتْ على الخير، وإنْ جاءتْ مفردة فهي آتية بالشر، وإذا نظرتَ إلى الجبال العالية وإلى ناطحات السحاب تقول: ما الذي يقيم هذه المباني العالية، فلا تميل؟ الذي يسمكها هو الهواء الذي يحيط بها من كل ناحية، ولو فرَّغْتَ الهواء من أحد نواحيها تنهار فوراً.
إذن: فالريح من هنا، ومن هنا، ومن هنا، فهي رياح متعددة تُصلِح ولا تُفسِد، وتُحدِث هذا التوازن الذي نراه في الكون، أمّا الريح التي تأتي من ناحية واحدة فهي مدمرة مهكلة، كما جاء في قوله تعالى: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] .
وقال الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] .
ومعنى {بُشْراً} [الفرقان: 48] بسكون الشين، مع أنها في(17/10463)
الأصل بُشُراً مثل رُسُل، فلما خُفِّفَتْ صارت بُشْراً، والبُشْرى هي الإخبار بما يسرُّ قبل زمنه، فلا تقول يبشر إلا في الخير، وكان العربي ساعة تمر عليه الرياح يعرف كم بينه وبين المطر، فيحكم على مجيء المطر بحركة الرياح الطرية التي تداعب خدّه.
وقوله سبحانه: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48] يقال: بين يديك يعني: أمامك. والمراد هنا المطر الذي يسبق رحمة الله.
ثم قول تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] السماء لها معنى لُغوي، ومعنى شرعي. فهي لغةً: كل ما علاك، وشرعاً: هي هذه السماء العالية والتي تتكون من سبع سموات، لكن أينزل المطر من السماء أم من جهة السماء؟
المطر ينزل من الغمام من جهة السماء، والغمام أصله من الأرض نتيجة عملية البخر الذي يتجمع في طبقات الجو، كما قال سبحانه:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] .
إذن: فرحمة الله هي الماء الذي خلق الله منه كلّ شيء حيٍّ.(17/10464)
وقوله تعالى: {مَآءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] الطَّهُور: الماء الطاهر في ذاته، المطهِّر لغيره، فالماء الذي تتوضأ به طاهر ومطهر، أما بعد أنْ تتوضأ به فهو طاهر في ذاته غير مُطهِّر لغيره، وماء السماء طاهر ومُطهر؛ لأنه مُصفّى مُقطّر، والماء المقطر أنقى ماء.
بالإضافة إلى أن الماء قِوَام الحياة، منه نشرب ونسقي الزرع والحيوان والطير، فالماء يعطيك الحياة ويعطيك الطهارة.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ}(17/10465)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قوله تعالى: {بَلْدَةً مَّيْتاً} [الفرقان: 49] أي: أرض بلدة مَيْت، وفرْق بين ميْت وميِّت: الميْت هو الذي مات بالفعل، والميِّت هو الذِّي يؤول أمره إلى الموت، وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة، ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] .
والأرض الميْتة هي الجرداء الخالية من النبات، فإذا نزل عليها الماء أحياها بالنبات، كما في قوله سبحانه: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .
وقوله تعالى: {وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} [الفرقان: 49] يُقال سقاه وأسقاه: أسقاه: أعدَّ له ما يستقى منه، وإنْ لم يشرب الآن، لكن سقاه يعني: ناوله ما يشربه، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] .
أمّا في المطر فيقول سبحانه: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} [الحجر: 22] أي: أعددناه لِسُقْياكم إنْ أردتم السُّقْيا.(17/10465)
ومعنى {وَأَنَاسِيَّ} [الفرقان: 49] جمع إنسان، وأصلها أناسين، وخُفِّفَتْ إلى أناسيّ.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ}(17/10466)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
التصريف: التحويل والتغيير، والمعنى حَوّلناه من هنا إلى هنا، ومع كل هذه العبر والآيات {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الفرقان: 50] فالكافرون بآيات الله كثير لا يلتفتون إلى آيات الله، حتى بعد أنْ تقدَّم العلم وتقدَّمتْ الحضارة الإنسانية، ووقف الناس على كثير من الآيات.
فالحق تبارك وتعالى يُصرِّف المطر إلى بلاد بغزارة، فإنْ شاء أصابها الجفاف والجدب حتى تموت مزروعاتهم وحيواناتهم. إذنْ: ليست المسألة بيئة باردة أو كثيرة الأمطار، إنما المسألة مرادات خالق، ومرادات حق.(17/10466)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
يريد الحق تبارك وتعالى أن يمتنّ على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنَّةَ،(17/10466)
فيقول له: المسألة ليست قلةَ رسل عندنا حتى نرسل رسولاً للناس كافة وللزمن كله، ونحن نستطيع أن نُخفِّف عنك ونبعث في كل قرية رسولاً يُخفِّف عنك عبء الرسالة، لكنّا نريد لك أنْ تنال شرف الجهاد وشرف المكافحة، فجمعناها كلها لك إلى أنْ تقوم الساعة.
ونستفيد من هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى حين يَهَبُ الطاقات لا يعنى هذا أن الطاقة هي التي تحكم قدرته في الأمر أن يبعث في كل قرية رسولاً، إنما يقدر أن يرسل رسولاً ويعطيه طاقة تتحمل هذا كله.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ}(17/10467)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
أي: ما دُمْنا قد جمعنا لك كل القرى، وحمّلناك الرسالة العامَة في كل الزمان وفي كل المكان، فعليك أن تقف الموقف المناسب لهذه المهمة {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الفرقان: 52] إنْ لوَّحُوا لك بالملك أو بالمال أو بالجاه والشرف، واعلم أن ما أعده الله لك وما ادخره لك فوق هذا كله.
وحين يقول سبحانه لرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الفرقان: 52] فإنه يعذره أمامهم، فالرسول ينفذ أوامر الله.
وَنَهْى الرسول عن طاعة الكافرين لا يعني أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطيعهم، فهذه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] فكيف يطلب الإيمان ممَّنْ ناداهم بالإيمان؟ إنه تحصيل حاصل. قالوا المعنى: أنت آمنتَ قبل أن أقول لك هذه الكلمة، وأقولها لك الآن لتُواصل(17/10467)
إيماناً جديداً بالإيمان الأول، وإياك أنْ ينحلّ عنك الإيمان. إذن: إذا طُلِب الموجود فالمراد استدامة الوجود.
وقوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان: 52] أي: بما جاءك من القرآن {جِهَاداً كَبيراً} [الفرقان: 52] واعلم أنك غالب بأمر الله عليهم، ولا تقُلْ: إن هناك تيارَ إشراك وكفر وإيمان، وسوف أعطيك مثلاً كونياً في أهم شيء في حياتك، وهو الماء.(17/10468)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
تأتي هذه الآية استمراراً لذكْر بعض آيات الله في الكون التي تلفت نظر المكابرين المعاندين لرسول الله، وسبق أنْ ذكر سبحانه: الظل والليل والرياح. . الخ إذن: كلما ذكر عنادهم يأتي بآية كونية ليلفتهم إلى أنهم غفلوا عن آيات الله، وجدالهم مع رسول الله يدل على أنهم لم يلتفتوا إلى شيء من هذا؛ لذلك ذكر آية كونية من آيات الله المرئية للجميع ومكررة، وعليها الدليل القائم إلى يوم القيامة، فقال تعالى: {وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين} [الفرقان: 53] .
المَرْجح: المرعى المباح، أو الكلأ العام الذي يسوم فيه الراعي ماشيته تمرح كيف تشاء.
فمعنى {مَرَجَ البحرين} [الفرقان: 53] أي: جعل العَذْب والمالح يسيران، كُلٌّ كما يشاء، لذلك تجد البحار والمحيطات المالحة التي تمثل(17/10468)
ثلاثة أرباع الياسبة ليس لها شكل هندسي منتظم، بل تجده تعاريج والتواءات، وانظر مثلاً إلى خليج المكسيك أو خليج العقبة، وكأن الماء يسير على (هواه) ودون نظام، فلا يشكل مستطيلاً أو مربعاً أو دائرة.
وكذلك الأنهار التي تولدتْ من الأمطار على أعلى الجبال، فتراها حين تتجمع وتسير تسير كما تشاء، ملتوية ومُتعرِّجة؛ لأن الماء يشقُّ مجراه في الأماكن السلهة، فإنْ صادفته عقبة بسيطة ينحرف هنا أو هناك، ليكمل مساره، وانظر إلى التواء النيل مثلاً عند (قنا) .
إذن: الماء عَذْبٌ أو مالح يسير على هواه، وليست المسألة (ميكانيكا) ، وليست منتظمة كالتي يشقُّها الإنسان، فتأتي مستقيمة.
ونلحظ هذه الظاهرة مثلاً حينما يقضي الإنسان حاجته في الخلاء، فينزل البول يشقّ له مجرىً في المكان الذي لا يعوقه، فإنْ صادفته حصاة مثلاً انحرف عنها كأنه يختار مساره على هواه.
والبحر يقال عادة للمالح وللعذب على سبيل التغليب، كما نقول الشمسان للشمس والقمر.
ومرْج البحرين آية كوينة تدل على قدرة الله، فالماء مع ما عُرف عنه من خاصية الاستطراق يعني: يسير إلى المناطق المنخفضة، يسير المالح والعذب معاً دون أن يختلط أحدهما بالآخر، ولو اختلطا لَفَسدا جميعاً؛ لأن العَذْب إنْ خالطه المالح أصبح غيْرَ صالح للشرب، وإنْ خالط المالح العذب فسد المالح، وقد خلقه الله على درجة معينة من الملوحة بحيث تُصلحه فلا يفسد، وتحفظه أن يكون آسناً.
فالماء العذب حين تحصره في المكان يأسن ويتغير، أمّا البحر(17/10469)
فقد أعدَّه الله ليكون مخزن الماء في الكون ومصدر البَخْر الذي تتكون منه الأنهار؛ لذلك حفظه، وجعل بينه وبين الماء العذب تعايشاً سِلْمياً، لا يبغي أحدهما على الآخر رغم تجاورهما.
وقوله تعالى: {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان: 53] أي: مُفرِط في العذوبة مستساغ، ومن هذه الكلمة سَمَّوْا نهر الفرات لعذوبة مائه، فلَيس المراد بالفرات أن الماء كماء نهر الفرات؛ لأن الكلمة وُضِعت أولاً، ثم سُمِّيَ بها النهر، ذلك لأن القرآن هو كلام الله الأزلي.
{وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53] أي: شديد الملوحة، ومع ذلك تعيش فيه الأسماك والحيوانات المائية، وتتغذى عليه كما تتغذى على الماء العَذْب، كما قال سبحانه: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] .
ثم يقول سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} [الفرقان: 53] البرزخ: شيء بين شيئين، وأصل كلمة برزخ: اليابسة التي تفصل بين ماءين، فإن كان الماء بين يابستين فهو خليج.
{وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] الحِجْر: هو المانع الذي ينمع العَذْب والمالح أنْ يختلطا، والحِجْر نفسه محجور، مبالغة في المنع من اختلاط الماءيْن، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] .
ومثل قوله تعالى: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57] .(17/10470)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء}(17/10471)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
وفي آية عامة عن الماء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] يعني: كل شيء فيه حياة فهو من الماء، لا أن الماء داخل في كل شيء، فالمعنى: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] أي: كل شيء موصوف بأنه حي، فالماء إذن دليل الحياة؛ لذلك إذا أراد العلماء أن يقضوا على الميكروبات أو الفيروسات جعلوا لها دواءً يفصل عنها المائيةَ فتموت.
والإنسان الذي كرَّمه الله تعالى وجعله أعلى الأجناس، خلقه الله من الماء، {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً} [الفرقان: 54] وفي موضع آخر قال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب} [الطارق: 57] وهو ماء له خصوصية، وهو المنيُّ الذي قال الله فيه: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى} [القيامة: 3738] .
والبشر أي: الإنس {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] فمن الماء خلق الله البشر، وهم قسمان: ذكور وإناث، فكلمة (نَسَباً) تعني: الذكورة (وَصِهْراً) تعني: الأنوثة؛ لأن النسب يعني انتقال الأدنى من الأعلى بذكورة، فيظل الإنسان فلان بن فلان بن فلان. . الخ.(17/10471)
فالنسب يأتي من ناحية الذكورة، أما الأنوثة فلا يأتي نسب، إنما مصاهرة، حينما يتزوج رجل ابنتي، أو أتزوج ابنته، يُسمُّونه صِهْرا.
لذلك قال الشاعر:
وَإنَّما أُمَّهَاتُ القَوْمِ أَوْعِية ... مُسْتحدثَات ولِلأَحْسَابِ آبَاءُ
فمن عظمة الخالق عَزَّ وَجَلَّ أن خلق من الماء هذيْن الشيئين، كما قال في موضع آخر: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 39] ، وقد توصَّل العلماء مُؤخّراً إلى أن بويضة الأنثى لا دَخْلَ لها في نوع الجنين، وما هي إلا حاضنة للميكروب الذَّكَري الآتي من منيّ الرجل.
وهذا معنى قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 3739] .
فالذكر والأنثى كلاهما من المنيّ، والذي يُطلق عليه العلماء الآن (الإكس، والإكس واي) فالحيوان المنويّ يخرج من الرجل، منه ما هو خاص بالذكورة، ومنه ماهو خاص بالأنوثة، ثم تتم عملية انتخاب للأقوى الذي يستطيع تلقيح البويضة.
وهذه الظاهرة واضحة في النحل، حيث تضع الملكة البيض، ولا يُخصِّبها إلا الأقوى من الذكور، لذلك تطير الملِكة على ارتفاعات عالية، لماذا؟ لتنتخب الأقوى من الذكور.
كذلك الميكروب ينزل من الرجل، والأقوى منه هو الذي يستطيع أن يسبق إلى بويضة المرأة، فإنْ سبق الخاص بالذكورة كان ذكراً، وإنْ سبق الخاص بالأنوثة كان أنثى، والحق سبحانه قال: {الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 23] .(17/10472)
وبهذه الآية الكونية في خَلْق الإنسان نرد على الذين يحلو لهم أن يقولوا: إن الإنسان خُلِق صُدْفة، فإذا كان الإنسان ذكراً وأنثى بينهما مواصفات مشتركة وأجهزة ومُقوِّمات واحدة، إلا أن الذكَر يختلف في الجهاز التناسلي وكذلك الأنثى، فهل يُردّ هذا الى الصدفة؟
ومعلوم أن الصُّدْفة من أعدائها الاتفاق، فإذا جاء الذكّر صدفة، وجاءت الأنثى كذلك صدفة، فهل من الصدفة أن يلتقيا على طريقة خاصة، فيثمر هذا اللقاء أيضاً ذكورة وأنوثة؟! إذن: المسألة ليست مصادفةً، إنما هي غاية مقصودة للخالق عَزَّ وَجَلَّ.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} [الفرقان: 54] وذكر سبحانه القدرة هنا؛ لأن هذه مسألة دقيقة لا تحدث إلا بقدرة الله تعالى.
وقد فَطِن العرب حتى قبل نزول القرآن إلى هذه العملية بالفطرة، فهذه زوجة أبي حمزة تعاتبه؛ لأنه تركها وتزوج من أخرى، لأنها لم تَلِدْ له ذَكَراً، فتقول:
مَا لأَبي حَمْزةَ لاَ يَأْتِينَا ... غَضْبان أَلاَّ نَلِدَ البَنِينَا
تَاللهِ ما ذَلكَ في أَيْدينا ... فَنَحْنُ كَالأرْضِ لِغَارِسينَا
نُعطِي لَهُمْ مِثْلَ الذي أُعْطِينَا ... وهذه المسألة التي فَطِن إليها العربي القديم لم يعرفها العلم إلا في القرن العشرين.
وبعد هذه الآية الكونية يعود سبحانه وتعالى إلى خطابهم مرة أخرى لعل قلوبهم ترقّ، فالحق تبارك وتعالى يتعهدهم مرة بالنُّصح، ومرة بإظهار آياته تعالى في الكون.(17/10473)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
يعني: أيليق بهم بعد أنْ أوضحنا لهم كلَّ هذه الآيات أنْ يلتفتوا إلى غير الله، ويقصدوه بالعبادة؟
وقوله تعالى: {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] البعض يرى أن هذه الآلهة نعم لا تنفع لكنها تضر، نقول لهم: هي لا تنفع، ولا تضر، أمَّا الذي يضر فهو الإله الحق الذي انصرفوا عنه إلى عبادة غيره، والمعنى هنا: {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} [الفرقان: 55] إنْ عبدوه {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} [الفرقان: 55] إنْ كفروا به وتركوه.
والقرآن يُسمِّي فعلهم من هذه الآلهة عبادة، وهم أنفسهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .
إذن: أثبتوا لهم عبادة، والعبادة طاعة العابد للمعبود فيما يأمر به، وفيما ينهي عنه، فما الذي أمرتْهم به الأصنام؟ وما الذي نهتْهم عنه؟ فكلمة عبادة هنا خطأ، وهم ما عبدوا هذه الآلهة إلا لأنها لا أوامر لها ولا التزام معها، فتديّنهم تديّن (فنطزية) .
وما أسهل أن تعبد إلهاً لا يأمرك ولا ينهاك، والذي يكرهونه في التديُّن الحقيقي أنه التزام وتكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا.
لذلك ترى المسرفين على أنفسهم من خَلْق الله يتمنى كلٌّ منهم أن يكون هذا الدين كذباً، لماذا؟ ليسيروا على هواهم، ويعملوا ما يحلو لهم. كذلك رأينا الدجالين الذين ادَّعَوْا النبوة بداية من(17/10474)
مسيلمة وسجاح، كيف كانوا يجذبون الناسَ إليهم؟ كانوا يجذبونهم بتخفيف الأوامر وتبسيط الدين، ولما شقَّتْ الزكاة على البعض أسقطوها من حسابهم، وأعفَوْ الناس منها. . إلخ.
ولكل زمان دجالون يناسبون العصر الذي يعيشون فيه، وفي عصرنا الحاضر دجالون يُخفِّفون عنك الدين ويُطوِّعونه لأهواء الناس ورغباتهم، فلا مانع عندهم من الاختلاط، ولا بأس في أن ترتدي المرأة من اللباس ما تشاء. . إلى آخر هذه المسائل.
ثم يقول سبحانه: {وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان: 55] .
الظهير: هو المعين: كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وكانوا في الماضي يحملون الأحمال على الظّهْر قبل اختراع آلات الحمل، وحتى الآن نرى (الشيالين) يحملون الأثقال على ظهروهم، ويخيطون لهم (ظهرية) يرتدونها على ظهورهم؛ لتحميهم ساعة حَمْل الأثقال، وإذا أراد أحدهم معاونة الآخر يقول له: أعطني ظهرك، فكان الظهر إذن بهذا المعنى.(17/10475)
والظهر أيضاً يقتضي العلو، ومنه قوله تعالى عن السد الذي بناه ذو القرنين: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97] يعني: ما استطاعوا اعتلاءه.
لكن، كيف يكون الكافر ظهرياً على الله؟ قالوا: لأنه يفعل المعصية، ويتخذ أُسْوة فيها يُقلده الناس، ولو كان طائعاً لكان أُسْوة خير ونموذجَ صلاحٍ، فالكافر أسوة شر، وأسوة فساد، وهو شيطان الإنس الذي يوازي شيطان الجن الذي عصى ربه، ورفض السجود لآدم.
وتوعَّد ذريته حين قال: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] .
وكلٌّ من شياطين الجن وشياطين الإنس يستعين بالنفس فيُسلِّطها على صاحبها حتى تُوقعه، فالإنسان حينما يستمع لنداء الشيطان، سواء شيطان الإنس أو شيطان الجن ويطيعه بعمل المخالفة، فإنه يُعينه على الله، والمعنى الصحيح: على معصية الله.
كما أن الظهير يُطلق على مَنْ جعلْتَه وراء ظهرك، لا تأبه به، ولا تلتفت إليه، ومنه قول العرب: (لا تجعلنَّ حاجتي منك بظهر) يعني: اجعلها أمام عينيك لا تطوِها وراء ظهرك.
إذن: فكِلاَ المعنيين جائز: ظهيراً أي: مُعِيناً، كأن الحق تبارك وتعالى يقول لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اعلم يا محمد أن الكافر ظهير على الله، فقِفْ بالمرصاد، وجاهده ما استعطتَ، فكأنه تعالى يُحمِّس(17/10476)
رسوله ليقف هذا الموقف، ويُشجِّعه ليكون من عدوه على حَذَر وعلى يقظة.
أو: ظهيراً لا يُؤبه له، وهذا طمأنه لرسول الله، فالكافر هَيِّن على الله، فلا يهمك كيدهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً}(17/10477)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
صحيح أن الله تعالى قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] لكن لا يعني هذا أن يهلك رسول الله نفسه في دعوتهم، ويألم أشد الألم لعدم إيمانهم؛ لأن مهمة الرسول البلاغ، وقد أسف رسول الله لحال قومه حتى خاطبه ربه بقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] .
وما أمره الله بجهاد الكفار والمنافقين إلا ليحفزه، فلا يترك جُهْداً إلا بذله معهم، وإلاّ فأنت عندي مُبشِّر ومُنذِر {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً} [الفرقان: 56] أي: بالخير قبل أوانه ليتلفت الناس إلى وسائله {وَنَذِيراً} [الفرقان: 56] أي: بالشر قبل أوانه ليحذره الناس، ويجتنبوا أسبابه ووسائله.
ثم يوجه رب العزة نبيه ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}(17/10477)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
في آية أخرى: يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40] .
يعني: غير قادرين على دَفْع الثمن؛ لأنهم بخلاء وعندهم كزازة؟ أو لا يريدون أنْ يُخرِجوا من جيوبهم شيئاً تنتفع أنت به؟ مع أنك لم تسألهم أجراً، فهل يعني ذلك أن النبي كان من المفروض أن يسألهم أجراً؟
قالوا: نعم؛ لأنه إذا قدَّم إنسانٌ لإنسان شيئاً نافعاً، فعليه أن يدفع له أجراً بمقتضى التبادل والمعاوضة، وكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لهم: لقد قدَّمتُ إليكم جميلاً يفترض أن لي عليه أجراً، لكني لا أريد منكم أجراً، والمسألة من عندي تفضُّل.
وما هو الأجر؟ الأجر: جُعْلٌ يقابل عملاً، والثمن: جعل يقابل تملُّكاً، وقيمة هذا الجُعْل تختلف باختلاف مشقة العمل، وطُول زمنه، ومهارة العامل فيما يقتضيه العمل ومخاطر ما يقتضيه العمل.
فكل مسألة من هذه ترفع من قيمة الأجر، فحين تسافر مثلاً تحتاج إلى (شيَّال) يحمل لك الحقائب، فتعطيه الأجر الذي يتناسب ومجهوده، فإن استأجرت سيارة وسِرْتَ بها مسافة فلا بُدَّ أن الأجر سيزيد؛ لأنه أخَذ مجهوداً ووقتاً أكثر، فإن احتجتَ مثلاً سباكاً ليصلح لك شيئاً فسوف ترى ما في هذا العمل من المشقة، ولا تبخل عليه بأكثر من سابقيه.
وربما كان العمل في نظرك بسيطاً لا يستغرق وقتاً، لكنه يحتاج إلى مهارة. هذه المهارة ليست وليدة اللحظة، ولكنها مجهود ونتيجة(17/10478)
عوامل من التعلُّم والخبرة حتى وصل صاحبها إلى هذه المهارة.
فالمهندس مثلاً الذي يُصمِّم لك منزلك في ساعة أو ساعتين، ومع ذلك يطلب مبلغاً كبيراً، لماذا؟ لأنه لا يتقاضى أجراً على هذا الوقت، إنما على سنواتٍ طويلة من الدراسة والمجهود والتحصيل، حتى وصل إلى هذه المهارة.
إذن: كل أجر يُقدَّر بما يقابله من عمل، ويتناسب مع ما يقتضيه العمل من وقت ومجهود ومشقة ومخاطرة ومهارة. . ألخ.
وإذا كان الأمر كذلك فانظروا إلىعمل الرسول وإلى مدى إفادتكم من رسالته، انظروا إلى المنهج الذي جاءكم به، وكيف أنه يريحكم مع أنفسكم، ويريحكم مع المجتمع، ويريحكم مع ربكم عَزَّ وَجَلَّ، ويريحكم من شرور أنفسكم، ومن شرور الناس جميعاً.
إذن: للرسول عمل كبير ومجهود عظيم، لو قدَّرْتَ له أجراً لكان كذلك عظيماً. إن الإنسان إذا أَجَّر مثلاً حارساً يحرسه بالليل، كم يدفع له؟ فالنبي يأتيك بمنهج يحرسك ويحميك في نفسك وفي مالك وفي عِرْضك وفي كل ما تملك، ولا يحميك من فئة معينة إنما يحميك من الناس أجمعين.
بل إن حماية منهج الله لك لا تقتصر على الدنيا، إنما تتعدَّى إلى الآخرة، فتحميك فيها حماية ممتدة لا نهايةَ لها، فإنْ قدَّرْت لهذه الحماية أجراً، فكم يكون؟
إنما أنا أقول لك: لا أريد أجراً، لا كراهيةً في الأجر، بل لأنك أنت أيها الإنسان لا تستطيع تقدير هذا العمل أو تقييم الأجر عليه، أمَّا الذي يُقدِّر ذلك فهو ربِّي الذي بعثني، وأنت أيها العبد مهما قدَّمْتَ لي من أجر على ذلك فهو قليل.(17/10479)
وحكينا قصة الرجل الطيب الذي قابلناه في الجزائر، يقف على الطريق يُلوِّح لسيارة تحمله، فوقفنا وفتحنا له الباب ليركب معنا، وقبل أن يركب قال: بكَمْ؟ يعني: الأجرة. فقال له صاحبي: لله، فقال الرجل: إذن فهي غالية جداً. هذا هو المعنى في قوله تعالى: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29] .
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] فما العلاقة بين الأجر وبين {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] ؟
كأن المسلم ينبغي عليه أن يعمل العمل، لا لمن يعمل له، ولكن يعمله لله ليأخذ عليه الأجر الذي يناسب هذا العمل من يده تعالى، إنما إنْ أخذه من صاحبه فهو كالذي «فعل ليقال وقد قيل» وانتهتْ المسألة، وربما حتى لا يُشكر على عمله.
لذلك وردتْ هذه العبارة على ألسنة كل الرسل: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] وليس هناك آية طلب فيها الأجر الظاهر إلا هذه الآية التي نحن بصددها: {قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] .
وقوله تعالى: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] .
ومعنى: {إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] أي: سبيلاً للمثوبة، وسبيلاً للأجر من جهاد في سبيل الله، أو صدقة على الفقراء. . إلخ.
وقوله: {إِلاَّ مَن شَآءَ} [الفرقان: 57] تدل على التخيير في دَفْع الأجر، فالرسول لا يأخذ إلا طواعية، والأجر: {أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الفرقان: 57] من الجهاد والعمل الصالح، فكأن أجر الرسول(17/10480)
العمل للغير، لتأخذ أنت الأجر من الله، فالرسول لا يأخذ شيئاً لنفسه.
ونلحظ في آيات الأَجْر أنها جاءت مرة {أَجْراً} [الأنعام: 90] ومرة {مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] والبعض يرى أن (من) هنا زائدة، وهذا لا يُقال في كلام الله، عَيْب أن نتهم كلام الله بأن فيه زيادة، فكلُّ حرف فيه له معناه.
وسبق أن ضربنا لمِنْ هذه مثلاً بقولنا: ما عندي مال، وما عندي من مال. فالأولى نفَتْ أنْ يكون عندك مالٌ يُعتدُّ به، لكن قد يكون عندك القليل منه، أما القول الثاني فيعني نَفْي المال مطلقاً بدايةً مِمَّا يقال له مال، إذن: فأيّهما أبلغ في النفي؟ فمِنْ هنا تفيد العموم.
لذلك يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72] لماذا؟ لأنه سيعطيك ويُكافئك على قَدْره هو، وبما يناسب جُودَه تعالى وكرمه الذي لا ينفد، أما الإنسان فسيعطيك على قَدْره وفي حدود إمكاناته المحدودة.
مَلْحظ آخر في هذه المسألة في سورة الشعراء، وهي أحفَلُ السُّور بذِكْر مسألة الأجر، حيث تعرَّضَتْ لموكب الرسل، فذكرت ثمانية هم: موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب.(17/10481)
تلحظ أن كل هؤلاء الرسل قالوا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] عدا إبراهيم وموسى عليهما السلام لم يقولا هذه الكلمة، لماذا؟
قالوا: لأنك حين تطلب أجراً على عمل قمتَ به لا يكون هناك ما يُوجب عليك أنْ تعمل له مجاناً، فأنت لا تتقاضى أجراً إنْ عملتَ مثلاً مجاملةً لصديق، وكذلك إبراهيم عليه السلام أول ما دعا إلى الإيمان دعا عمه آزر، ومثل هذا لا يطلب منه أجراً، وموسى عليه السلام أول ما دعا دعا فرعون الذي احتضنه وربَّاه في بيته، ولو طلب منه أجراً لقال له: أيّ أجر وقد ربَّيتك وو. . إلخ.
الآية الأخرى في الاستثناء هي قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] فكأن المودة في القربى أجر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على رسالته، لكن أيُّ قُرْبى: قُرْبى النبي أم قُرْباكم؟
لا شكَّ أن النبي الذي يجعل حُبَّ القريب للقريب ورعايته له هو أجره، يعني بالقُرْبى قُرْبى المسلمين جميعاً، كما قال عنه ربُّه عَزَّ وجَلَّ: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] .(17/10482)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
الحق تبارك وتعالى يُطمئن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا محمد لا تهتم بكثرة الكفار ومكرهم بك وتعاونهم مع شياطين الإنس والجن؛ لأن هؤلاء سيتساقطون ويموتون، إما بأيديكم، أو بعذاب من عند الله، وعلى فَرْض أنهم عاشوا فلن تغلب قوتهم وحِيلُهم قوة الله تعالى ومكره، وإنْ توكلوا على أصنام لا تضر ولا تنفعَ، فتوكل أنت على الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58] .
والعاقل لا يتوكل إلا عل مَنْ يثق به ويضمن معانوته، وأنه سيوافقك في كل ما تريد، لكن ما جدوى أنْ تتوكل على أحد ليقضي لك مصلحة، وفي الصباح تسمع خبر موته؟
وكأن الحق تبارك وتعالى يريد أن ينصِّح خَلْقه: إنْ أردتَ أنْ تتوكل فتوكل على مَنْ ينفعك ولا يتركك، على مَنْ يظل على العهد معك لا يتخلى عنك، على مَنْ لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. هذه هي الفِطْنة.
لكن ما جدوى أن تتوكل على مَنْ ليس فيه حياة؟ وعلى فرض أن فيه حياةً دائمة فلا تضمن ألا يتغير قلبه عليك؟
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] سبِّح يعني: نزِّه، والتنزيه تضعه في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فلله وجود، ولك وجود، لكن وجوده تعالى ليس كوجودك، ولله صفة ولك نفس الصفة، لكن صفته تعالى ليست كصفتك، ولله تعالى فعل، ولك فعل، لكن فعله تعالى ليس كفعلك.
إذن: نزَّه الله في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله عن مشابهة الخَلْق، وما دام الحق سبحانه مُنزَّهاً في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فأنت تتوكّل على إله لا تطرأ عليه عوامل التغيير أبداً.(17/10483)
وهذا التنزيه لله تعالى، وهذه العظمة والكبرياء له سبحانه في صالحك أنت أيها الإنسان، من صالحك ألاَّ يوجد لله شبيه، لا في وجوده، ولا في بقائه، ولا في تصرُّفه، من صالحك أن يعرف كل إنسان أن هناك مَنْ هو أعلى منه، وأن الخَلْق جميعاً محكومون بقانون الله، فهذا يضمن لك أن تعيش معهم آمناً، إذن: من الخير لنا أن يكون الإله ليس كمثله شيء، وأن يكون سبحانه عالياً فوق كل شيء.
ويجب عليك حين تُنزه الله تعالى ألاَّ تُنزِّهه تنزيهاً مُجرّداً، إنما تنزيهاً مقرونا بالحمد {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] فتحمده على أنه واحد لا شريك له، ولا مثيلَ له، وليس كمثله شيء، ففي ظل هذه العقيدة لا يستطيع القويُّ أن يطغى على الضعيف، ولا الغني على الفقير. . إلخ.
ثم يقول سبحانه: {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58] نقول: كفاك فلان. يعني: لا تحتاج لغيره. كقولنا: حَسْبُك الله يعني: كافيك عن الاحتياج لغيره؛ لأنه يعطيك كُلَّ ما تحتاج إليه، ويمنع عنك الشر، وإنْ كنت تظنه خيراً لك.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقيم لك (كنترولاً) يضبط حياتك ويضمن لك السلامة، لذلك حين تدعو الله فلا يستجيب لك، لا تظن أن الله تعالى موظفٌ عندك، لا بُدَّ أن يُجيبك لما تريد، إنما هو ربك ومتولٍّ أمرَك، فيختار لك ما يصلح لك، ويُقدِّم لك الجميل وإن كنت تراه غير ذلك.
وقد ضربنا لهذه المسألة مثلاً بالأم التي تكثِر الدعاء على ولدها، فكيف بها إذا استجابَ الله لها؟ إذن: من رحمة الله بها أنْ يردَّ(17/10484)
دعاءها، ويمنع إجابتها، فمنع الإجابة هنا إجابة.
{وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 58] المعنى: إذا توكلتَ على الحيِّ الذي لا يموت، فآثار هذا التوكل أنْ يحميك من ذنوب العباد، فهو وحده الذي يعلم ذنوبهم، ويعلم حتى ما يدور في أنفسهم.
ألم يقُل الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} [المجادلة: 8] .
فما زال القَوْلُ في أنفسهم لم يخرج، ومع ذلك أخبره الله به، وكأن الحق سبحانه يُطمئن رسوله: مهما تآمروا عليك، ومهما دبّروا لك، ومهما تكاتف ضدك جنودُ الإنس والجن، فاطمئِنْ لأن ربك عليم بالذنوب التي قد لا تدركها أنت، ولا حيلة عندك لردِّها، فيكفيك أن يعلم اللهُ ذنوبَ أعدائك.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] .
والخبير: الذي يعلم خبايا الأمور، حتى في مسائل الدنيا الهامة نقول: نستدعي لها الخبير؛ لأن المختص العادي لا يقدر عليها.
وفي موضع آخر يقول تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] .
ثم ينقلنا الحق تبارك وتعالى إلى آية كونية، تنضاف إلى الآيات السابقة، والهدف من ذكر المزيد من الآيات الكونية أنه لعلَّها تصادف رقَّة قلبٍ واستمالة مواجيد، فتعطف الخَلْق إلى الخالق، وتُلفِت الأنظار إليه سبحانه.(17/10485)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
البعض يظن أن خَلْق السموات والأرض شيء سهل، وأعظم منه خَلْق الإنسان، لكن الحق تبارك وتعالى يقول: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] .
فالإنسان يخلقه الله، وقد يموت بعد يوم، أو بعد مائة عام، وقد تصيبه في حياته الأمراض، أمّا السموات والأرض، فقد خلقها الله تعالى بهندسة دقيقة، وقوانين لا تختلف ولا تختل مع ما يمرُّ عليها من أزمنة، وكأن الحق سبحانه يقول للإنسان: إن السموات والأرض هذه خلْقتي وصَنْعتي، لو تدبرتَ فيها وتأملتَها لوجدتَها أعظم من خَلْقك أنت.
وقوله تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59] سبق أن تكلَّمنا في هذه المسألة وقلنا: إن جمهرة آيات القرآن تدل على أن الخَلْق تمَّ في مدة ستة أيام إلا سورة واحدة تُشعِر آياتها أن الخلق في ثمانية أيام، وهي سورة فصلت.
حيث يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي(17/10486)
كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم} [فصلت: 912] .
وجملة هذه ثمانية أيام، وكل مُجْمل يخضع للتفصيل إلا تفصيل العدد فيرجع للمجمل، كيف؟
الحق سبحانه يتكلم هنا عن خَلْق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم تكلَّم عن خَلْق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسي من فوقها، وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة أيام، فالأربعة الأيام هذه تكملة لخلّق الأرض فهي تكملة لليومين، كأنه قال في تتمة أربعة أيام، فالأرض في يومين والباقي أكمل الأربعة. كما تقول: سِرْتُ إلى طنطا في ساعة، وإلى الأسكندرية في ساعتين أي يدخل فيهما الساعة الأولى إلى طنطا، فاليومان من الأربعة الأيام.
لكن، كيف نُقدِّر هذا اليوم؟ الله يخاطبنا باليوم الذي نعرفه ونعرف مدلوله، فالمعنى: في ستة أيام من أيامكم التي تعرفونها. وإلاَّ لو كان المراد يوماً لا نعرفه نحن، فسيكون لا معنى له؛ لأننا لا نفهمه.
ولقائل أن يقول: كيف يستغرق الخَلْق كل هذه المدة والحق تبارك وتعالى يخلق بكُنْ، وكن لا تحتاج وقتاً؟ قالوا: فَرْق بين عملية الخَلْق وما يحتاجه المخلوق في ذاته.
فأنت مثلاً، إنْ أردتَ أنْ تصنع كوباً من الزبادي تحضر اللبن مثلاً وتضع عليه خميرة الزبادي المعروفة المأخوذة من زبادي دسم سبق صُنْعه، وتضعه في درجة حرارة معينة، بعد هذه العملية تكون قد صنعت الزبادي فعلاً، لكن هل يمكنك أن تأكل منه فَوْر الانتهاء(17/10487)
من صناعته؟ لا، بل لا بُدَّ أن تتركه عدة ساعات لتتفاعل عناصره، فهل تقول: أنا صنعت الزبادي في عدة ساعات مثلاً؟
كذلك، حين تذهب إلى (الترزي) لتفصيل ثَوْب مثلاً يقول لك: موعدنا بعد شهر، فهل تستغرق خياطة الثوب شهراً؟ لا، إنما مدته عنده شهر.
فالحق تبارك وتعالى يفعل ويخلق دون معالجة، وبالتالي دون زمن؛ لأنه سبحانه يقول للشيء: كُنْ فيكون.
وقوله: سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الفرقان: 59] سبق أن تكلمنا في هذه المسألة: فاستوى تعني: صعد وارتفع وعلا وجلس، ونحن نُنزِّه الله تعلى عن استواء يشابه استواء خَلْقه.
والاستواء هنا رمزية لتمام الأمر بما نعرفه في عادة الملوك في الجلوس على كرسي العرش، حين يتم لهم الأمر ويستتبّ.
و {الرحمن} [الفرقان: 59] دليل على أن مسألة الخَلْق كلها تدور في إطار الرحمانية {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] لأنه سبحانه خلق السموات والأرض وخلقنا، ومع ذلك لا نعرف: كيف تم هذا الخَلْق؟ ولن نستطيع أن نقف على تفصيل هذا الخَلْق، إلا إذا أطعلنَا الخالق عليه، وإلاَّ فهذا أمر لم نشاهده، فكيف نخوض فيه، كمن يقول: إن الأرض كانت قطعةَ من الشمس، ثم انفصلتْ عنها مع دوران الشمس. . إلخ هذه الأقوال.
لذلك الحق تبارك وتعالى يُحذِّرنا من سماع مثل هذه النظريات، لأن مسألة الخَلْق لا تخضع للعلم التجريبي أَبداً، فيقول(17/10488)
سبحانه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51] .
إذن: سيوجد في الكون مُضلون يقولون للناس مثل هذه الأقوال في الخَلْق ويدَّعُون بها أنهم علماء يعرفون ما لا يعرفه الناس، فاحذروهم فما شاهدوا عملية الخَلْق، وما كانوا مساعدين لله تعالى، فيطلعوا على تفاصيل الخَلْق.
لذلك تقوم هذه الأقوال في خَلْق الإنسان وخَلْق السماء والأرض دليلاً على صِدْق هذه الآية، فما موقف هذه الآية إذن إذا لم تقل هذه الأقوال؟
ومثال ذلك الذين يحلو لهم التعصب للقرآن الكريم ضد الحديث النبوي يقول لك أحدهم: حدِّثني عن القرآن، سبحان الله، أتتعصّب للقرآن ضد الرسول الذي بلَّغك القرآن، وما عرفتَ القرآن إلا من طريقه؟ يعني (الواد ربَّانيّ) لا يعترف إلا بالقرآن. ونقول لمثل هذا الذي يهاجم الحديث النبوي: أنت صليتَ المغرب ثلاث ركعات، فأين هذا من القرآن؟
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يُوشك الرجل يتكىء على أريكته يُحدَّث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما كان حراماً حرَّمْناه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله» .(17/10489)
لماذا؟ لأنِّي أقول لكم من باطن قَوْل الله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا}
[الحشر: 7] .
بالله، لو لم يُوجَد الآن مَنْ يقول بهذا القول، فماذا سيكون موقف هذا الحديث؟ وكيف لنا أن نفهمه؟ لقد فضحهم هذا الحديث، وأبان ما عندهم من غباء، فقد كان بإمكانهم بعد أنْ عرفوا حديث رسول الله أنْ يُمسِكوا عن التعصب للقرآن ضد الحديث النبوي، فيكون الحديث ساعتها غير ذي معنى لكن هيهات.
نعود إلى موضوعنا، ونحن بصدد الكلام عن خَلْق السموات وخَلْق الأرض، واستواء الحق تبارك وتعالى على العرش، وهاتان المسألتان لا تسأل فيهما إلا الله {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] لأنه وحده الذي يعلم خبايا الأمور، وهذه أمور لم يطلّع عليها أحد فيخبرك بها.
وكلمة: (سأل) الإنسان لا يسأل عن شيء إلا إذا كان يجهله، والسؤال له مراحل: فقد تجهل الشيء ولا تهتم به، ولا تريد أن تعرفه، فأنت واحد من ضمن الذين لا يعرفون، وقد تجهل الشيء لكن تهتم به، فتسأل عنه لاهتمامك به، فمرَّة نقول: اسأل به. ومرة نقول: اسأل عنه.
والمعنى: اسأل اهتماماً به، أي: بسبب اهتمامك به اسأل عنه خبيراً ليعطيك ويخبرك بما تريد، فهو وحده الذي يعرف خبايا الأمور ودقائقها، وعنده خبر خَلْق السموات وخَلْق الأرض، ويعلم مسألة الاستواء على العرش؛ لذلك إنْ سألتَ عن هاتين المسألتين، فلا تسأل إلا خبيراً.
والذين قالوا في قوله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59](17/10490)
أي: ممَّنْ يعلم الكلام عن الله من أهل الكتاب نقول: لا بأسَ؛ لأنه سيؤول إلى الله تعالى في النهاية.(17/10491)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
نلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما ذكر الصفة الملزمة لأنْ تخضع له سبحانه لم يَقُلْ مثلاً: اسجدوا لله، إنما {اسجدوا للرحمن} [الفرقان: 60] وأتى بالصفة التي تُعدِّي رحمانيته إليك، فكان من الواجب أنْ تطيع، وأن تخضع له. كما قُلْنا سابقاً: اجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه.
{قَالُواْ وَمَا الرحمن} [الفرقان: 60] كأنهم لا يعرفون هذه الكلمة، إنهم لا يعرفون إلا رحمن اليمامة.
وقولهم: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60] دليل على أن الامتناع عن السجود ليس للذات المسجود لها، بل لمن أمر بالسجود، كما سبق وأنْ قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فكأنهم إنْ أمرهم الله بالسجود لسجدوا، لكن كيف يأتي الأمر من الرسول خاصة؟ وما مَيْزته عليهم حتى يأمرهم؛ لذلك قال بعدها: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60] والنفور: الانفكاك عن الشيء بكُرْه.
ثم يقول الحق سبحانه: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء}(17/10491)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
يعود السياق مرة أخرى لذِكْر آية كونية؛ لأن الحق تبارك وتعالى يراوح بين آية تطلب منهم شيئاً، وأخرى تلفتهم إلى قدرة الله وعظمته، وهذا يدل على مدى تعنتهم ولجاجتهم وعنادهم، وحرص الحق سبحانه وتعالى على لَفْتهم إليه، والأخْذ بأيديهم إلى ساحته تعالى.
ولو شاء سبحانه لَسرَد الآيات الكونية مرة واحدة، وآيات التكذيب مرة واحدة، ولكن يُزاوج سبحانه وتعالى بين هذه وهذه لتكون العبرة أنفذ إلى قلوب المؤمنين.
قلنا: {تَبَارَكَ} [الفرقان: 61] يعني: تنزّه، وعَلاّ قدره، وعَظُم خيره وبركته. والبروج: جمع بُرْج، وهو الحصن الحصين العالي الذي لا يقتحمه أحد، والآن يُطلقونها على المباني العالية يقولون: برج المعادي، برج النيل. . الخ، ومنه قوله تعالى: {والسمآء ذَاتِ البروج} [البروج: 1] .
وقوله سبحانة: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] .
والبروج: منازل في السماء يحسب الناسُ بها الأوقات، ويربطون بينها وبين الحظوظ، فترى الواحد منهم أول ما يفتح جريدة الصباح ينظر في باب «حظك اليوم» ، وقد دلَّتْ الآيات على أن هذه البروج جعلها الله لتُسهِّل على الناس أمور الحساب.
كما قال سبحانه: {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] .
وقال تعالى: {والشمس والقمر حُسْبَاناً} [الأنعام: 96] .(17/10492)
يعني: بها تُحسب المواقيت، فالشمس تعطيك المواقيت اليومية والليلية، والقمر يدلُّك على أول كل شهر؛ لأنه يظهر على جِرْم معين، وكيفية مخصوصة تُوضّح لك أول الشهر ومنتصفه وآخره، ثم تعطيك الشمس بالظل حساب جزيئات الزمن.
ومعلوم أن في السماء اثنيْ عَشَر بُرْجاً جمعها الناظم في قوله:
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ... وَرَعَى الليْثُ سُنْبُلَ الميزاَنِ
عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو ... وحُوت مَا عَرفنَا من أُمَّة السُّرْيَانِ
فهي: الحملَ، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فأوّلها الحَمل، وآخرها الحوت، وكلُّ بُرْج يبدأ من يوم 21 في الشهر وينتهي يوم 20.
ثم يقول تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] السراج هو المصباح الذي نشعله ليعطي حرارة وضوءاً ذاتياً، والمراد هنا الشمس؛ لأن ضوءها ذاتيٌّ منها، وكذلك حرارتها، على خلاف القمر الذي يضيء بواسطة الأشعة المنعكسة على سطحه، فإضاءته غير ذاتية؛ لذلك يقولون عن ضوء القمر: الضوء الحليم؛ لأنه ضوء بلا حرارة.
والعجيب أن سطح القمر كما وجدوه حجارة، ولما أخذوا منه حجراً ليُجروا عليه بحوثهم فهلْ قَلَّ ضوء القمر؟ لا لأن دائرته الكاملة هي التي تعكس إلينا ضوء الشمس وحين تأخذ منه حجراً يعكس لك ما تحته أشعة الشمس.
وفي موضع آخر، يوضح الحق سبحانه هذه المسألة، فيقول(17/10493)
تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] فالضياء هو الذي يأتي من الكوكب ذاتياً، والنور هو انعكاس الضوء على جسم آخر، فهو غير ذاتي.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار}(17/10494)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
عرفنا أن الليل: غياب الشمس عن نصف الكرة الأرضية، والنهار مواجهة الشمس للنصف الآخر، والليل والنهار متعاقبان {خِلْفَةً} الفرقان: 62] يأتي الليل ثم يعقبه النهار، كل منهما خَلْف الآخر، وهذه المسألة واضحة لنا الآن، لكن كيف كانت البداية عندما خلق الله تعالى الخَلْق الأول، فساعتها، هل كانت الشمس مواجهة للأرض أم غائبة عنها؟
إنْ كان الحق سبحانه خلق الشمس مواجهةً للأرض، فالنهار هو الأول، ثم تغيب الشمس، ويأتي الليل ليخلف النهار، أما النهار فلم يُسبق بليْل. وكذلك كانت الشمس عند الخَلْق غير مواجهة للأرض، فالليل هو الأول، ولا يسبقه نهار، وفي كلتا الحاليتن يكون أحدهما ليس خلْفة للآخر، ونحن نريد أن تصدُقَ الآية على كليْهما.
إذن: لا بد أنهما خِلْفة منذ الخَلْق الأول؛ ذلك لأن الأرض كما عرفنا ولم يَعُدْ لدينا شك في هذه المسألة كروية، والحق تبارك وتعالى حينما خلق الشمس والقمر الخَلق الأول كان المواجه منها للشمس نهاراً، والمواجهة منها للقمر ليلاً، ثم تدور حركة الكون، فيخلف أحدهما الآخر منذ البداية.(17/10494)
وهذه النظرية لا تستقيم إلا إذا قُلْنا بكروية الأرض، وهذه يؤيدها قوله تعالى: {وَلاَ اليل سَابِقُ النهار} [يس: 40] .
والمعنى أيضاً: ولا النهار سابق الليل، لكن ذكر الليلَ؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الليل خُلِق أولاً، لماذا؟ لأن الزمن عندهم يثبت بليله، كما يحدث مثلاً في الصوم، فهل تصوم أولاً في النهار ثم ترى الهلال بالليل؟ إنما ترى الهلال بالليل أولاً، فكأن رمضان يبدأ يومه بليله.
وما دام الأمر كذلك فالليل سابقُ النهار عندهم، وهذه قضية يعتقدونها ومُسلَّمة عندهم، وجاء القرآن وخاطبهم على أساس هذا الاعتقاد: أنتم تعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار يعني: النهار لا يسبق الليل، نعم لكن: اعلموا أيضاً أن الليل لا يسبق النهار. إذن: المحصلة: لا الليلُ سابقُ النهار، ولا النهار سابق الليل.
ولو قلنا بأن الأرض مسطوحة لَمَا استقام لنا هذا القول.
لكن أيّ ليل؟ وأيّ نهار؟ نهاري أنا، أم نهار المقابل لي؟ وكل واحد على مليون من الثانية يولد نهار ويبدأ ليل؛ لأن الشمس حين تغيب عني تشرق على آخرين، والظهر عندي يوافقه عصر أو مغرب أو عشاء عند آخرين.
إذن: كل الزمن فيه الزمن، وهذا الاختلاف في المواقيت يعني أن نغمة الأذان (الله أكبر) شائعة في كل الزمن، فالله معبود بكل وقت وفي كل زمن، فأنت تقول: الله أكبر وغيرك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله. . وهكذا.
وإنْ كان الحق تبارك وتعالى خلق الليل للسُّبات وللراحة،(17/10495)
والنهار للسعي والعمل، فهذه الجمهرة العامة لكنها قضية غير ثابتة، حيث يوجد من مصالح الناس ما يتعارض وهذه المسألة، فمن الناس مَنْ تقتضي طبيعة عمله أن يعمل بالليل كالخبازين والحراس والممرضين.
. إلخ.
فهؤلاء يُسمح لهم بالعمل بالليل والراحة بالنهار، ولو لم يكُنْ لهؤلاء منفذ لقلنا: إن هذا الكلام متناقض مع كونيات الخَلْق؛ لذلك يقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار} [الروم: 23] فتراعي هذه الآية ظروف هؤلاء الذين يضطرون للعمل ليلاً، وللراحة نهاراً.
وقوله تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] يعني: يا مَنْ شغله نهار عمله عن ذكر ربه انتهِزْ فرصة الليل، ويا مَنْ شغله نوم الليل عن ذِكْر ربه انتهز فرضة النهار، وذلك كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» .
فمَن فاته شيء في ليله فليتداركه في نهاره، ومَنْ فاته شيء في نهاره فليتداركه في ليله، وإذا كان الله تعالى يبسط يده بالليل ويبسط يده بالنهار، وهما مستمران، فمعنى ذلك أن يده تعالى مبسوطة دائماً.
ومعنى {يَذَّكَّرَ} [الفرقان: 62] يتمعنّ ويتأمل في آيات الله، في الليل وفي النهار، كأنه يريد أن يصطاد لله نعماً يشكره عليها، على خلاف الغافل الذي لا يلتفت إلى شيء من هذا، فمن فضل الله علينا(17/10496)
أن يُنبِّهنا إلى هذه النعم، ويلفت نظرنا إليها؛ لأننا أهل غفلة.
وقوله: {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] أي: شكراً، فهي صغية مبالغة في الشكر.(17/10497)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
يعطينا الحق تبارك وتعالى صورة للعبودية الحقة، ونموذجاً للذين اتبعوا المنهج، كأنه سبحانه وتعالى يقول لنا: دَعْكُم من الذين أعرضوا عن منهج الله وكذَّبوا رسوله، وانظروا إلى أوصاف عبادي الذين أمنوا بي، ونفَّذوا أحكامي، وصدَّقوا رسولي.
نقول: عباد وعبيد. والتحقيق أن (عبيد) جمع لعبد، وأن (عباد) جمع لعابد مثل: رجال جمع راجل: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] إذن: عبيد غير عِبَاد.
وسبق أن تحدثنا عن الفَرْق بين العبيد والعباد، فكلنا عبيد لله تعالى: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، فما دام يطرأ عليه في حياته ما لا يستطيع أنْ يدفعه مع أنه يكرهه فهو مقهور، فالعبد الكافر الذي تمرَّد على الإيمان بالله، وتمرَّد على تصديق الرسول، وتمرد على أحكام الله فلم يعمل بها.
فهل بعد أن أَلِفَ التمرد يستطيع أن يتمرد على المرض إنْ أصابه؟ أو يستطيع التمرد على الموت إنْ حلّ بساحته؟ إذن: فأنت(17/10497)
عبد رغماً عنك، وكلنا عبيد فيما نحن مقهورون عليه، ثم لنا بعد ذلك مساحة من الاختيار.
أما المؤمن فقد خرج عن اختياره الذي منحه الله في أن يؤمن أو يكفر، وتنازل عنه لمراد ربه، فاستحق أن يكون من عباد الله {وَعِبَادُ الرحمن} [الفرقان: 63] فنحن وإنْ كنا عبيداً فنحن سادة؛ لأننا عبيد الرحمن؛ لذلك كانت حيثية تكريم الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإسراء هي عبوديته لله تعالى، حيث قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، فالعبودية هي علة الارتقاء.
فلما أخلص رسول الله العبودية لله نال هذا القُرْب الذي لم يسبقه إليه بشر.
لذلك وصف الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وباستقراء الآيات لم نجد سوى آية واحدة تخالف في ظاهر الأمر هذا المعنى الذي قُلْناه في معنى العباد، وهي قوله تعالى في الكلام عن الآخرة: {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ} [الفرقان: 17] .
فقال للضالين (عبادي) وهي لا تُقال إلا للطائعين، لماذا؟ قالوا: لأن في القيامة لا اختيارَ لأحد، فالجميع في القيامة عباد، حيث انتفى الاختيار الذي يُميِّزهم.
والعلماء يقولون: إن العباد تُؤخَذ منها العبادية، وأن العبيد تُؤخَذ منها العبودية: العبادية في العباد أن يطيع العابد أمر الله، وينتهي عن نواهيه طمعاً في ثوابه في الآخرة، وخوفاً من عقابه فيها، إذن: جاءت العبادية لأخذ ثواب الآخرة وتجنّب عقابها.
أما العبودية فلا تنظر إلى الآخرة، إنما إلى أن الله تعالى تقدّم(17/10498)
بإحسانه على عبيده إيجاداً من عدم، وإمداداً من عُدْمٍ، وتربية وتسخيراً للكون، فالله يستحق بما قدّم من إحسان أن يُطاع بصرف النظر عن الجزاء في الآخرة ثواباً أو عقاباً.
أما العبودة فهي: ألاَّ ينظر العبد إلى ما قدَّم من إحسان، ولا ما أخّر من ثواب وعقاب، وإنما ينظر إلى أن جلال الله يستحق أنْ يطُاع، وإنْ لم يسبق له الإحسان، وإنْ لم يأتِ بعد ذلك ثواب وعقاب.
وإن كانت العبودية مكروهة في البشر كما قال أحد الساسة: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ ذلك لأن العبودية للبشر يأخذ السيد خيْر عبده، أما العبودية لله تعالى فِعزٌّ وشرف، حيث يأخذ العبد خَيْر سيده، فهي عبودية سيادة، لا عبودية قهر.
فحين تؤمن بالله يعطيك الله الزمام: يقول لك: إنْ أردت أنْ أذكرك فاذكرني، وفي الحديث القدسي: «مَنْ ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» .
وإنْ كان سبحانه وتعالى يستدعيك إلى خَمْس صلوات في اليوم والليلة، فما ذلك إلا لتأنسَ بربك، لكن أنت حر تأتيه في أيِّ وقت تشاء من غير موعد، وأنت تستطيع أن تحدد بَدْءَ المقابلة(17/10499)
ونهايتها وموضوعها. . إلخ، فزمام الأمر في يدك.
وقد تعلم سيدنا رسول الله خُلق الله، فكان إذا وضع يده في يد أحد الصحابة يُسلِّم عليه لا ينزع يده منه حتى يكون هو الذي ينزع يده من يد رسول الله، وهذا أدب من أدب الحق تبارك وتعالى إذن: فالعبودية لله تعالى عبودية لرحمن، لا عبودية لجبار.
وأول ما نلحظ في هذه الآية أنه تعالى أضاف العباد إلى الرحمن، حتى لا نظن أن العبودية لله ذِلَّة، وأن القرآن كلام رب وُضِع بميزان، ثم يذكر سبحانه وتعالى صفات هؤلاء العباد، صفاتهم في ذواتهم، وصفاتهم مع مجتمعهم، وصفاتهم مع ربهم، وصفاتهم في الارتقاء بالمجتمع إلى الطُّهر والنقاء.
أما في ذواتهم، فالإنسان له حالتان هما محلُّ الاهتمام: إما قاعد، وإما سائر، ونُخرِج حالة النوم لأنه وقت سكون، أما حال القعود فالحركة محدودة في ذاته، والمهم حال الحركة والمشي، وهذا هو الحال الذي ينبغي الالتفات إليه.
لذلك يوضح لنا ربنا عَزَّ وَجَلَّ كيف نمشي فيقول: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] .
يعني: برفق وفي سكينة، وبلين دون اختيال، أو تكبُّر، أو غطرسة، لماذا؟ لأن المشي هو الذي سيُعرِّضك لمقابلة مجتمعات متعددة، وهذا الأدب الرباني في المشي يُحدِث في المجتمع استطراقاً إنسانياً يُسويِّ بين الجميع.(17/10500)
وفي موضع آخر يقول تعالى في هذه المسألة: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} [لقمان: 18] {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} [الإسراء: 37] .
وتصعير الخدِّ أنْ تُميله كِبْراً وبَطَراً وأصله (الصعر) مرض في البعير يصيب عنقه فيسير مائلاً، ومَنْ أراد أن يسير مُتكبِّراً مختالاً فليتكبر بشيء ذاتي فيه، وهل لديك شيء ذاتي تستطيع أن تضمنه لنفسك أو تحتفظ به؟
إنْ كنتَ غنياً فقد تفتقر، وإنْ كنتَ قوياً صحيحاً قد يصيبك المرض فيُقعدك، وإنْ كنتَ عزيزاً اليوم فقد تذلّ غداً.
إذن: فكل دواعي التكبُّر ليست ذاتية عندك، إنما هي موهوبة من الله، فعلامَ التكبُّر إذن؟ {
لذلك يقولون في المثل (اللي يخرز يخرز على وركه) إنما يخرز على ورك غيره؟} وأصل هذا المثل أن صانع السروج كان يأتي بالصبي الذي يعمل تحت يده، ويجعله يمدّ رِجله، ويضع السرج على وركه، ثم يأخذ في خياطته، فرآه أحدهم فرَقَّ قلبه للصبي فقال للرجل: إنه ضعيف لا يتحمل هذا، فإنْ أردتَ فاجعله على وركك أنت. كذلك الحال هنا، مَنْ أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه، لا بشيء موهوب له.
والمتكبِّر شخص ضُرِب الحجاب على قلبه، فلم يلتفت إلى ربه الأعلى، ويرى أنه أفضل من خَلْق الله جميعاً، ولو استحضر كبرياء ربه لاستحى أن يتكبر على خَلْق الله، فتكبُّره دليل على غفلته عن هذه المسألة.
لذلك يقول الناظم:
فَدَع كُلَّ طاغِيةٍ للزمَان ... فَإِنَّ الزمَانَ يُقيم الصَّعَرْ
يعني: سيرَى من الزمان ما يُقوِّم اعوجاجه، ويُرغِم أنفه.(17/10501)
ومعنى {مَرَحاً} [لقمان: 18] المرح: الفرح ببطر. والبطر: أنْ تأخذ النعمة وتنسى المنعم، وتتنعّم بها، وتعصى مَنْ وهبك إياها، إذن: المنهيّ عنه الفرح المصاحب للبطر، وإنكار فضل المنعم، أما الفرح المصاحب للشكر فمحمود، كما قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] .
وفي موضع آخر يُعلِّمنا أدب المشي، فيقول: {واقصد فِي مَشْيِكَ واغضض مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] .
وقالوا: إن المراد بالمشي الهَوْن، هو الذي يسير فيه الإنسان على سجيته دون افتعال للعظمة أو الكِبْر، لكن دون انكسار وذِلّة، وسيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما رأى رجلاً يسير متماوتاً ضربه، ونهاه عن الانكسار والتماوت في المشية، وهكذا فمِشْية المؤمن وَسَط، لا متكبر ولا متماوت متهالك.
ثم تتحدث الآية بعد ذلك عن صفات عباد الرحمن وعلاقاتهم. بالناس: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] والجاهل: هو السَّفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور، لا في الخَلْق ولا في الأدب.
وسبق أن فرَّقْنا بين الجاهل والأميّ: الأميّ هو خالي الذهن، ليس عنده معلومة يؤمن بها، وهذا من السهل إقناعه بالصواب. أما الجاهل فعنده معلومة مخالفة للواقع؛ لذلك يأخذ منك مجهوداً في إقناعه؛ لأنه يحتاج أولاً لأن تُخرِج من ذهنه الخطأ، ثم تُدخِل في قلبه الصواب.
والمعنى: إذا خاطبك الجاهل، فحذار أن تكون مثله في الردِّ عليه فتَسْفَه عليه كما سَفِهَ عليك، بل قرِّعه بأدب وقُلْ {سَلاَماً} [الفرقان: 63] لتُشعِره بالفرق بينكما.(17/10502)
والحق تبارك وتعالى يُوِضِّح في آية أخرى ثمرة هذا الأدب، فيقول: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
[فصلت: 34]
وما أجملَ ما قاله الإمام الشافعي في هذا المعنى:
إذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلا تُجِبْهُ ... فَخَيْر مِنْ إجَابتهِ السُّكُوتُ
فإنْ كلَّمتَه فرجتَ عَنْه ... وَإنْ خلَّيْته كَمَداً يمُوتُ
فإنِ اشتد السفيه سفاهة، وطغى عليك وتجبر، فلا بُدَّ لك من رَدِّ العدوان بمثله؛ لأنك حَلُمتَ عليه، فلم يتواضع لك، وظنَّ حلْمك ضعفاً، وهنا عليك أن تُريه الفرق بين الضعف وكرم الخُلق، كالشاعر الذي قال:
صَفَحْنَا عَنْ بني ذُهْل ... وَقُلْنَا القَوْمُ إخوَانُ
عَسَى الأيامُ أنْ يُرْ ... جِعْنَ قَوْماً كالذي كَانُوا
فَلما صرَّح الشَّر فَأمْ ... سَى وَهْو عُريانُ
ولم يَبقَ سوَى العُدْوا ... ن دِنَّاهُمْ كما دَانُوا
مشَيْنا مَشْية الليْثِ ... غَدا والليثُ غَضْبانُ(17/10503)
بضَرْب فيه توهينٌ ... وتخضيعٌ وإقرانُ
وطَعْن كفم الزِّق ... غَدا والزِّق ملآنُ
وفي الشرٍِّ نجاةٌ حي ... نَ لاَ يُنجيك إحْسَانُ
وبعْضُ الحِلْم عِنْد الجهْ ... ل لِلْذِلّةِ إِذْعَانُ
وللإمام علي كرَّم الله وجهه:
إذَا كُنْتَ مُحتاجاً إلى الحِلْم إنّني ... إلى الجْهلِ في بَعْضِ الأحَايين أَحْوجُ
ولِي فَرسٌ للحِلْم بالحِلْم مُلجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ للجَهْلِ بالجهْلِ مُسْرَجُ
فَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإنِّي مُقوِّمٌ ... ومَنْ رَامَ تَعْويجي فَإنِّي مُعوِّجُ
ومعنى: {قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] قالوا: المراد هنا سلام المتاركة، لا سلام الأمان الذي نقوله في التحية (السلام عليكم) فحين تتعرَّض لمن يؤذيك بالقول، ويتعدى عليك باللسان تقول له سلام يعني: سلام المتاركة.
وبعض العلماء يرى أن كلمة {قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] هنا تعني المعنيين: سلام المتاركة، وسلام التحية والأمان، فحين تحلُم على السَّفيه فلا تُجَاريهِ تقول له: لو تماديتُ معك سأوذيك، وأفعل بك كذا وكذا، فأنت بذلك خرجتَ من سلام المتاركة إلى سلام التحية والأمان.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] .
ألم يقُلْ إبراهيم عليه السلام لعمه آزر لما أصرَّ على كُفْره:(17/10504)
{سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] .
والمعنى: لو وقفتُ أمامك لربما اعتديتُ عليك، وتفاقمتْ بيننا المشكلة.
وبعد أن تناولتْ الآيات حال عباد الرحمن في ذواتهم، وحالهم مع الناس، تتحدث الآن عن حالهم مع ربهم.(17/10505)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
والبيتوتة تكون بالليل، حين يأوي الإنسان إلى بيته بعد عناء اليوم وسَعْيه، وبعد أن تقلَّب في ألوان شتَّى من نِعَم الله عليه، فحين يأوي إلى مبيته يتذكر نِعَم الله التي تجلَّتْ عليه في ذلك اليوم، وهي نِعَم ليست ذاتية فيه، إنما موهوبة له من الله؛ لذلك يتوجّه إليه سبحانه بالشكر عليها، فيبيت لله ساجداً وقائماً.
كما قال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] .
وقال سبحانه: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 1718] .
لكن، أيطلبُ اللهُ تعالى منَّا ألاَّ نهجعَ بالليل، وقد قال في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} [النبأ: 9] .
قالوا: ليس المراد قيام الليل كله، إنما جزء منه حين تجد عندك النشاط للعبادة، كما قال الحق سبحانه وتعالى في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:(17/10505)
{قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً} [المزمل: 24] .
حتى قال ابن عباس: مَنْ صلّى بعد العشاء ركعتين فأكثر كان كَمَنْ بَاتَ لله ساجداً وقائماً، فربُّك يريد منك أن تذكره قبل تنام، وأن تتأمل نِعَمه عليك فتشكره عليها.
وذكر سبحانه حالتي السجود والقيام {سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64] لأن بعض الناس يصعُب عليهم أنْ يسجدوا، وآخرين يسهل عليهم السجود، ويعصب عليهم القيام، فذكَر الله سبحانه الحالتين ليعدل فيهما.(17/10506)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
هذا القول يناسب عباد الرحمن الذين يفعلون الخيرات، طمعاً في الثواب، وخوفاً من العقاب، فهم الذين يقولون {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] كلمة (غرام) نقولها بمعنى الحب والُهيَام والعشق، ومعناها: اللزوم، أي لازم لهم لا ينفك عنهم في النار أبداً؛ لأن العاقبة إما جنة أبداً، أو نار أبداً.
فمعنى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] أي: لازماً دائماً، ليس مرة واحدة وتنتهي المسألة.
ومنه كلمة (الغريم) ، وهو الذي يلازم المدين ليأخذ منه دَيْنه.(17/10506)
وكلمة {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65] كأنهم متصورون أن جهنم ستسعى إليهم، وأن بينها وبينهم لدداً، بدليل أنها ستقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .
ثم تذكر الآيات سبب هذه المقوله: {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}(17/10507)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
ساء الشيء أي: قَبُحَ، وضده حَسُن، لذلك قال تعالى عن الجنة في مقابل هذه الآية: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 76] وهكذا السوء يلازمه القُبْح، والحُسْن يلازمه الحُسْن.
وقال: {مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] حتى لا يظنوا أن النار فترة وتنتهي، ثم يخرجون منها، فهي مستقرهم الدائم، ومُقامهم الذي لا يفارقونه.
أو أن الحق سبحانه وتعالى أراد بهذا نوعين من الناس: مؤمن أسرف في بعض السيئات ولم يتُبْ، أو لم يتقبل الله منه توبته، فهو في النار لحين، والمستقر هنا بمعنى المكان المؤقت، أما المقام فهو الطويل.
إذن: النار ساءتْ مستقراً لمن أسرف على نفسه ولم يتُبْ، أو لم يتقبل الله توبته، إنما ليست إقامة دائمة، والمقام يكون للخالدين فيها أبداً.
ثم يقول الحق سبحانه: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ}(17/10507)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
الإسراف: تبديد ما تملك فيها عنه غَنَاء، فلا نقول (مسرف) مثلاً للذي يأكل ليحفظ حياته؛ لذلك يقول سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(17/10507)
لولده عاصم: كُلْ نصف بطنك، ولا تطرح ثوباً إلا إذا استخلقْتَه، ولا تجعل كل رزقك في بطنك وعلى جسدك.
والإسراف أن تنفق في غير حِلٍّ، فلا سرف في حِلٍّ، حتى إنْ أسرف الإنسان في شيء من الترف المباح، فإنه يؤدي لنفسه بعض الكماليات، في حين يؤدي للمجتمع أشياء ضرورية، فالذي لا يرتدي الثوب إلا (مكْوياً) كان بإمكانه أن يرتديه دون كَيًّ، فكَيُّ الثوب في حقه نوع من الترف، لكنه ضرورة بالنسبة (للمكوجي) حيث يسَّر له أكل العيش.
والذي يستقل سيارة أجرة وهو قادر على السير، أو يجلس على (القهوة) كل يوم ليمسح حذاءه وهو قادر على أن يمسحه بنفسه، هذه كلها ألوان من الترف بالنسبة لك، لكنها ضرورة لغيرك، فلا يُسمَّى هذا إسرافاً.
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] أي: بين الإسراف والتقتير {قَوَاماً} [الفرقان: 67] يعني: وسطاً أي: أن الإنفاق وسط بين طرفين، وقوام الشيء: ما به يقوم، والحياة كلها تقوم على عملية التوسُّط بين الإسراف والتقتير.(17/10508)
وأذكر ونحن تلاميذ كانوا يُعلِّموننا نظرية الروافع، وكيف نُوسِّط مركزاً على عصا من الخشب، بحيث يتساوى الذراعان، ويكونان سواء، لا تميل إحداهما بالأخرى، وإذا أرادتْ إحداهما أن تميل قاومتْها الأخرى، كأنها تقول لها: نحن هنا. فإذا ما علقتَ ثِقَلاً بأحد الذراعين لزمك أن تطيل الأخرى لتقاوم هذا الثقل.
ويروي أن عبد الملك بن مروان لما أراد أن يُزوِّج ابنته فاطمة من عمر بن عبد العزيز اختبره بهذا السؤال ليعرف ميزانه في الحياة: يا عمر، ما نفقتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، نفقتي حسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] .
فعلم الخليفة أن زوج ابنته يسير سَيْراً يضمن له ولزوجته مُقوّمات الحياة، ويضمن كذلك المقومات العليا للنفس وللمجتمع.
وسبق أن ذكرنا أن الإنسان الذي ينفق كل دَخْله لا يستطيع أن يرتقي بحياته وحياة أولاده؛ لأنه أسرف في الإنفاق، ولم يدخر شيئاً ليبني مثلاً بيتاً، أو يشتري سيارة. . الخ.
ومصيبة المجتمع أعظم في حال التقتير، فمصلحة المجتمع أنْ تُنفق، وأن تدخر، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] .(17/10509)
وهكذا جعل الله لنا ميزاناً بين الإسراف والتقتير؛ ذلك لأن المال قِوَام الحياة، والذي يُقتِّر يُقتِّر على نفسه وعلى الناس، فليست له مطلوبات يشتريها، ويشارك بها في حركة الحياة، وينتفع بها غيره، فهذه السلع وهذه الصناعات وهؤلاء العمال، وأهل الحِرَف من أين يرتزقون إذن وليس هناك استهلاك ورواج لسلعهم؟ لا شَكَّ أن التقتير يُحدِث كساداً، ويُحدِث بطالة، وهما من أشد الأمراض فتكاً بالمجتمع.
ولو نظرتَ إلى رغيف العيش، وهو أبسط ضروريات الحياة، كم وراءه من عمال وصُنَّاع وزُرَّاع ومهندسين ومطاحن ومخازن ومصانع وأفران، وهَبْ أنك أحجمت مثلاً عنه، ماذا يحدث؟
إذن: ربك يريدك أن تنفق شيئاً، وتدخر شيئاً يتيح لك تحقيق ارتقاءات حياتك وطموحاتها؛ لذلك خُتِمَتْ الآية السابقة بقوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} [الإسراء: 29] .
ملومَ النفس لما بددتَ من أموال لم ينتفع بها عيالك، ومحسوراً حينما ترى غيرك ارتقى في حياته وأنت لم تفعل شيئاً. إذن: فالإنسان ملومٌ إنْ أسرف، محسورٌ إنْ قتّر، والقوام في التوسُّط بين الأمرين، وبالحسنة بين السيئتين، كما قال عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، ولذلك قالوا: خير الأمور الوسط.
ثم يقول الحق سبحانه:(17/10510)
{والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ}(17/10511)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
وهنا قد يسأل سائل: أبعد كل هذه الصفات لعباد الرحمن ننفي عنهم هذه الصفة {لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] وهم مَا اتصفوا بالصفات السابقة إلا لأنهم مؤمنون بالإله الواحد سبحانه؟ قالوا: هذه المسألة عقيدة وأساس لا بُدَّ للقرآن أن يكررها، ويهتم بالتأكيد عليها.
ومعنى: {لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] أي: لا يدعون أصحاب الأسباب لمسبِّباتهم، وهذا هو الشرك الخفيّ. ومنه قولهم: توكلتُ على الله وعليك. فنقول له، انتبه ليس عليَّ شيء، الأمر كله على الله. فقُلْ: توكلت على الله. وإنْ أردتَ فقُلْ: ثُمَّ عليك.
ونسمع آخر يقول للأمر الهام: هذا عليَّ، والباقي على الله، فجعل الأصل المهم لنفسه، وأسند الباقي لله، أيليق هذا والمسألة كلها أصلها وفروعها على الله؟
إذن: يمكن أن تكون هذه الآية للمفتونين في الأسباب الذين ينتظرون منها العطاء، وينسْونَ المسبِّب سبحانه، وهذا هو الشرك الخفي.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الفرقان: 68] سبق أنْ تحدثنا عن الفرق بين الموت والقتل، وقلنا:(17/10511)
إن كليهما تذهب به الحياة، لكن في الموت تذهب الحياة أولاً، ثم تُنقض البنية بعد ذلك، أما في حالة القتل فتُنقض البنية أولاً، ثم يتبعها خروج الروح. فالموت إذن بيد الله عَزَّ وَجَلَّ، أما القتل فقد يكون بيد البشر.
وهنا نَهْى صريح عن هذه الجريمة؛ لأنه «ملعون مَنْ يهدم بنيان الله» ويقضي على الحياة التي وهبها الله تعالى لعباده.
وقوله تعالى: {إِلاَّ بالحق} [الفرقان: 68] أي: حق يبيح القتل كرَجْم الزاني حتى الموت، وكالقصاص من القاتل، وكقتْل المرتد عن دينه، فإنْ قتلْنا هؤلاء فقتلُهم بناء على حَقٍّ استوجب قتلهم.
فإن قال قائل: فأين حرية الدين إذن؟ نقول: أنت حر في أن تؤمن أو لا تؤمن، لكن اعلم أولاً أنك إنْ ارتددتَ عن إيمانك قتلناك، فإياك أنْ تدخل في ديننا إلا بعد اقتناع تام حتى لا تُعرِّض نفسك لهذه العاقبة.
وهذا الشرط يمثِّل عقبة وحاجزاً أمام مَنْ أراد الإيمان ويجعله يُفكّر ملياً قبل أن ينطق بكلمة الإيمان ويحتاط لنفسه، إذن: فربُّكَ عَزَّ وَجَلَّ يُنبِّهك أولاً، ويشترط عليك، وليس لأحد بعد ذلك أن يقول: أين حرية الدين؟
وقوله تعالى: {وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] تحدثنا عن هذه المسألة في أول سورة النور وقلنا: إن الإنسان الذي كرَّمه الله وجعله خليفة له في أرضه أراد له الطُّهْر والكرامة، وإنْ يسكن الدنيا على مقتضى قانون الله، فلا يُدخِل في عنصر الخلافة شيئاً يخالف هذا القانون؛ لأن الله تعالى يريد أن يبنى المجتمع المؤمن على الطُّهْر ويبنيه على عناية المربِّي بالمربَّى.(17/10512)
لذلك تجد الرجل يعتني بولده مطْعماً ومشرباً وملبساً ويفديه بنفسه، لماذا؟ لأنه ولده من صُلْبه ومحسوب عليه، أمّا إنْ شكَّ في نسب ولده إليه فإنه يُهمله، وربما فكّر في الخلاص منه، وإنْ رُبِّي مثل هذا رُبَّي لقيطاً لا أصلَ له، وهذا لا يصلح لخلافة الله في أرضه، ولا لأن يحمل هذا الشرف.
وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تأبى أنْ يوجد في كون الله شخص غير منسوب لأبيه الحق، من هنا نهى الإسلام عن الزنا، وجعل من صفات عباد الرحمن أنهم لا يزنون.
{وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] أثاماً مثل: نكالاً وَزْناً ومعنىً، والآثام: عقوبة الإثم والجزاء عليه.(17/10513)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
كيف نفهم مضاعفة العذاب في هذه الآية مع قوله تعالى في آية أخرى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
ويقول سبحانه: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] .
الحقيقة لا يُوجد تناقض بين آيات القرآن الكريم، فالذي يرتكب هذه الفِعْلة يكون اسْوة في المجتمع تُجرِّىء الغير على ارتكاب هذه الجريمة؛ لذلك عليه وزْرة كفاعل أولاً، وعليه وِزْر مَنِ اقتدى به.
كما جاء في قوله تعالى حكايةً عن الكفارين: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا(17/10513)
على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] إذن: فوجود الآباء كقدوة للشر يزيد من شرِّ الأبناء، فكأنهم شركاء فيه.
لذلك يقول الله تعالى في موضع آخر: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] .
وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] .
فالوِزْر الأول لضلالهم في ذاته، والوِزْر الآخر؛ لأنهم أضلّوا غيرهم، هذا هو المراد بمضاعفة العذاب.
وقوله تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] معنى (مُهَاناً) : حينما وصف القرآن العذاب وصفه مرةً بأنه أليم، ومرةً عظيم، ومرة مُهين. فالذي ينظر إلى إيلام الجوارح يقول: هذا عذاب أليم؛ لأنه يُؤلم كل جارحة فيه، فالعذاب أمر حِسيّ، أما الإهانة فأمر معنوي، ومن الناس مَنْ تؤلمه كلمة تنال من كرامته، ومنهم مَنْ يُضرب فلا يؤثر فيه.
والخالق عَزَّ وَجَلَّ خلق الناس وعلم أزلاً أنهم أبناء أغيار، ليس معصوماً منهم إلا الرسل، إذن: فالسيئة مُحْتملة منهم.
ومن تمام رحمته تعالى بربوبيته أنْ فتح باب التوبة لعباده، لمن أسرف منهم على نفسه في شيء؛ لأن صاحب السيئة إنْ يئس من المغفرة استشرى خطره وزاد فساده، لكن إنْ فتحتَ له باب التوبة والمغفرة عاد إلى الجادة، واستقام على الطاعة، وفي هذا رحمة بالمجتمع كله.(17/10514)
يقول تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً}(17/10515)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
فربُّكم كريم ورحيم، إنْ تُبتْم تاب عليكم وقَبِلكم، فإنْ قدَّمْتُم العمل الصالح واشتدّ ندمكم على ما فات منكم من معصية يُبدِّل سيئاتكم حسنات.
وللتوبة أمران: مشروعيتها من الله ِأولاً، وقبولها من صاحبها ثانياً، فتشريعها فَضْل، وقبولها فَضْل آخر؛ لذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} [التوبة: 118] والمعنى: تاب عليهم بأنْ شرَّع لهم التوبة حتى لا يستحُوا من الرجوع إلى الله.
وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70] تاب وآمن لمن عمل معصية تُخرجه عن الإيمان، فالعاصي لم يقارف المعصية إلا في غفلة عن إيمانه، كما جاء في الحديث الشريف: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» .
ولو استحضر العاصي جلالَ ربه ما عصاه، ولتضخمتْ عنده المعصية فانصرف عنها، وما دام قد غاب عنه إيمانه فلا بُدَّ له من تجديده، ثم بعد ذلك يُوظِّف هذا الإيمان في العمل الصالح.
{إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70] فالجزاء(17/10515)
{فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وليس المراد أن السيئة تُبدَّل فتصير حسنة مباشرة، إنما يرفع العبد السيئة ويحل محلها التوبة، وبعد التوبة يضع الله له الحسنة.
وقد أطمعتْ رحمة الله ومغفرته بعض الناس، حتى قال الشاعر:
مَوْلاَي إنِّي قَدْ عصيتُكَ عَامِداً ... لأراكَ أجملَ ما تكُون غَفُوراً
وَلَقْد جنيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ كبَارَهَا ... ضَنّاً بعفْوِك أنْ يكُونَ صَغِيراً.
حتى وصل الحال ببعضهم أنْ يستكثر من السيئة طمعاً في أن تُبدَّل حسنات، لكن مَنْ يضمن له أن يعيش إلى أنْ يتوب، أو أنه إنْ تاب قَبِل الله منه؟
والعلة النفسية التي تكلَّم عنها العلماء في هذه المسألة أن الذي ابتعد عن المعصية فلم يقع في شراكها لم يدرك لذة الشهوة، فلا تَأْتِي على باله، أمّا مَنْ خاض فيها، وذاق لذتها، وأسرف فيها على نفسه فيعاني كثيراً حينما يحجز نفسه وينأى به عن معصية الله، فهذه المعاناة هي التي جعلتْ له هذه المنزلة.(17/10516)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
معنى {يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً} [الفرقان: 71] يعني: توبة نصوحاً، لا عودة بعدها إلى المعصية، لا يرجع في توبته كالمستهزيء بربه، يقول: أفعل كذا ثم أتوب، وكلمة {مَتاباً} [الفرقان: 71] تعني: العزم ساعةَ أنْ يتوبَ ألاَّ يعود، والخطر في أن يُقدِم العبد على الذنب لوجود التوبة، فقد بُقبض في حال المعصية، وقبل أنْ يُمِكنه التوبة.(17/10516)
ثم تذكر الآيات خصلة أخرى من خصال عباد الرحمن: {والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(17/10517)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
الزُّور: الشيء الكذب، ويُزوِّر في الشهادة. أي: يُثبت الحق لغير صاحبه، لكن نلاحظ أن الآية لم تقُلْ: والذين لا يشهدون بالزور، مما يدلّ على أن للآية معنى أوسع من النطق بقول الزور في مجال التقاضي، حيث تقول عند القاضي: فلان فعل وهو لم يفعل.
فللشهادة معنى آخر: أي: لا يحضرون الزور، والزور كلُّ مَا خالف الحق، ومنه قوله تعالى في شهر رمضان: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
فمعنى: {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72] أي: لا يحضرون الباطل في أيّ لون من ألوانه قولاً أو فعلا ً أو إقراراً، وكل ما خالف الحق.
لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] .
ويقول سبحانه: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] .
وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] .(17/10517)
ومعلوم أن قَوْل الزور والشهادة بغير حق تقلب الحقائق وتضرُّ بالمجتمع؛ لأنك حين تشهد بالزُّور تأخذ الحق من صاحبه وتعطيه لغيره، وهذا يؤدي إلى تعطل حركة الحياة، وتجعل الإنسان لا يأمن على ثمار تعبه وعرقه، فيحجم الناس عن السعي والعمل ما دامت المسألة زوراً في النهاية.
لذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت» .
لماذا؟ لأن شهادة الزُّور تهدم كُلَّ قضايا الحق في المجتمع.
ثم يقول سبحانه: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] اللغو: هو الذي يجب في عُرْف العاقل أنْ يُلْغى ويُتْرك، وهو الهُراء الذي لا فائدة منه؛ لذلك قال فيمن يتركه {مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] والكرام يقابلها اللئام، فكأن المعنى: لا تدخل مع اللئام مجالَ اللغو والكلام الباطل الذي يُصادِم الحق ليصرف الناس عنه.
ومن ذلك ما حكاه القرآن عن الكفار ليصرفوا الناس عن الاستماع لآيات الذكر: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26]
يعني: شوِّشوا عليه حتى لا يتمكّن الناس من سماعه، وهذه شهادة منهم بأنهم لو تركوا آذان الناس على طبيعتها وسجيتها فسمعت القرآن، فلا بُدَّ أن ينفعلوا به، وأن يؤمنوا به، ولو لم يكُنْ للقرآن أثر في النفوس ما قالوا هذه المقولة.(17/10518)
وقولهم: {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] يعني: وإنْ سمعتموه يُقرأ فالْغوْا فيه، وشوِّشوا عليه، حتى لا يصل إلى الآذان، لماذا؟ ألم يؤمن سيدنا عمر لما سمع آيات منه في بيت أخته فاطمة؟ لكن لماذا أثّر القرآن في عمر هذه المرة بالذات، وقد سمعه كثيراً فلم يتأثر به؟
قالوا: لأن اللجج والعناد يجعل الإنسان يسمع غير سامع، أما سماع عمر هذه المرة، فكان بعد أن ضرب أخته فشجَّها، وسال منها الدم، فحرّك فيه عاطفة الأخوة وحنانها، ونفض عنه الكبرياء والعناد واللجاج، فصادف القرآنُ منه نفساً صافية، وقلباً خالياً من اللدد للإسلام فأسلم.
ألاَ ترى الكفار يقول بعضهم لبعض عند سماع القرآن كما حكاه القرآن: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد: 16] .
يعني: ما معنى ما يقول، أو ما الجديد الذي جاء به، وهذا على وجه التعجُّب منهم. فيردّ القرآن: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44]
إذن: فالقرآن واحد، لكن المُسْتقبِل له مختلف: هذا استقبله بنفس صافية راضية، وهذا استقبله بلَدد وقلب مُغْلق، فكأنه لم يسمع، فالمسألة مسألة فِعْل وقابل للفِعْل، وسبق أن مثَّلنا لذلك بمَنْ ينفخ في يده أيام البرد والشتاء بقصد التدفئة، وينفخ في كوب الشاي مثلاً بقصد التبريد، فالفعل واحد، لكن المستقبل مختلف.(17/10519)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}(17/10520)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قوله تعالى: {ذُكِّرُواْ} [الفرقان: 73] لا تُقال إلا إذا كان المقابل لك الذي تذكره عنده إلْفٌ بالذكْر، وعنده عِلْم به، والآيات التي تُذكِّر بها لها قدوم أول، ولها قدوم ثانٍ: القدوم الأول: هو الإعلان الأول بها، والقدوم الثاني: حين تنسى نُذكّرك بها.
وسبق أنْ قُلْنا: إن الآيات تُطلَق على معاَنٍ ثلاثة: إمّا آيات كونية تُلفِت النظر إلى قدرة الله تعالى، وأنه صانع حكيم. . الخ، وإمّا آيات معجزات جاءت لتأييد الرسل وإثبات صِدْقهم في البلاغ عن الله، وإمّا آيات الذكْر الحكيم، والتي تسُمَّى حاملة الأحكام، وهي تُنبِّه من الغفلة، وتُذكِّر الناس.
فالمعنى {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [الفرقان: 73] أي: في القرآن الكريم: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان: 73] لم يخروا: الخرّ: السقوط بلا نظام وبلا ترتيب.
كما جاء في قوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] فالسقف إنْ خَرّ يخرّ بلا نظام وبلا ترتيب.
ومنه قوله تعالى في صفات المؤمنين: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 108109] لأنهم يخرّون بانفعال قَسْريّ، ينشأ من سماع القرآن.(17/10520)
إذن: حين يُذكَّرون بآيات الله لم يخرّوا عليها ُصُمّاً وعمياناً، إنما يخِرُّون وهم مُصغون تمام الإصغاء، ومبصرون تمام الإبصار.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا}(17/10521)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
هذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن، يطلبون فيها أمرين {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] والذرية لا تأتي إلا بعد الزواج؛ لذلك جاء الدعاء للأزواج، ثم للذرية.
وكلمة {قُرَّةَ} [الفرقان: 74] تُستعمل بمعنيين، وفي اللغة شيء يسمونه (عامل اشتقاق) يعني: يشتق اللفظ من معنى عام، وقد يختلف معناه، لكن في النهاية يلتقيان على معنى واحد.
وكملة (قُرَّة) تأتي بمعنى اللزوم والثبات، من قَرَّ في المكان يعني: لزمه وثبت فيه، وتأتي بمعنى السرور؛ والقُرُّ يعني أيضاً: شدة البرودة، كما جاء في قول الشاعر:
أَوْقِدْ فإنََّ اللْيلَ لَيْلُ قُرٌ ... والريحَ يَا غُلامُ ريحُ صُرّ
عَلَّ أنْ يَرى نَارك مَنْ يمرُّ ... إنْ جلبتْ ضَيْفاً فأنتَ حُرّ
فالقُر: البرد: والقرور: السُّكون، والعين الباردة: دليل السرور، والعين الساخنة دليل الحزن والألم، على حَدِّ قول الشاعر:
فَأمَّا قُلوبُ العَاشِقِينَ فأُسخنَتْ ... وأمَّا قُلوبُ العَازلين فقرَّتِ(17/10521)
لذلك يكنُون ببرودة العين عن السرور، وبسخونتها عن الحزن، يقولون: رزقني الله ولداً قرَّتْ به عيني، ويقولون: أسخن الله عين فلان يعني: أصابه بحُزْن تغلي منه عينه.
ولأن العين جوهرة غالية في جسم الإنسان فقد أحاطها الخالق عَزَّ وَجَلَّ بعناية خاصة، وحفظ لها في الجسم حرارةً مناسبة تختلف عن حرارة الجسم التي تعتدل عند 37ْ، فلو أخذتْ العينُ هذه الدرجة لانفجرتْ.
ومن عجيب قدرة الله تعالى أن تكون حرارة العين تسع درجات، وحرارة الكبد أربعين، وهما في جسم واحد.
فالمعنى {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] يعني: اجعل لنا من أزواجنا ما نُسَرُّ به، كما جاء في الحديث الشريف عن صفات الزوجة الصالحة: «ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة: إنْ أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله» .
وهَبْ لنا من ذرياتنا أولاداً ملتزمين بمنهج الله، لا يحيدون عنه، ولا يُكلِّفوننا فوق ما نطيق في قول أو فعل؛ لأن الولد إنْ جاء على خلاف هذه الصورة كان مصيبة كبرى لوالديه، بدليل أن الرجل قد يسرف على نفسه بأنواع المعاصي، وقد يُقصِّر في حق الله، لكن يحزن إنْ فعل ولده مثل فِعْله.(17/10522)
فالأب قد لا يصلي، لكن يحثُّ ولده على الصلاة، ويفرح له إنْ صلى واستقام، لماذا؟ لأنه يريد أن يرى وأن يُعوِّض ما فاته من الخير الجمال في ابنه، ولا يحب الإنسان أن يرى غيره أحسن منه إلا ولده، لأنه امتداده وعِوَضه فيما فات.
وإنْ أخذنا {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] على أنها بمعنى الاستقرار والثبات، فالمعنى أن تكون الزوجة على خُلُق وأدب وجمال، بحيث تُرضِي الزوج، فلا تمتد عينه إلى غيرها، وتسكن عندها لأنها استوفت كل الشروط، ومن ذلك قوله تعالى:
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} [الحجر: 88] .
وكذلك إنْ وجد صفات الخير والأدب والجمال في أولاد بحث لا تمتد عينه إلى أكثر من ذلك؛ لأنه يرى في أولاده كُلَّ تطلعاته، وكل ما يتمناه، فلا يتطلع إلى غيرهم؛ لذلك حين يمدحون. يقولون: فلان لم يَعُدْ عنده تطلعات، لماذا؟ لأنه حقَّق كل ما يريد.
ويقولون في المدح أيضاً: فلان هذا قَيْد النظر، يعني: حين تراه تسكن عنده عينك، ولا تتحول عنه لجماله وكمال صفاته.
والولد حين يكون على هذه الصورة، يريد والديه في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه ولد صالح لا ينقطع بِرّه بوالديه لموتهما، إنما يظل بارّاً بهما حتى بعد الموت فيدعو لهما. وفي الآخرة يجمعهم الله جميعاً في مستقر رحمته: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] .
وهكذا كله في الأزواج وفي الأولاد هبة ومنحة من الله.(17/10523)
ونلحظ أن بعض الأزواج يعيشون مع أزواجهم على مَضَض، وربما على كُرْه تحملهم عليه ظروف الحياة والأولاد واستقرار الأسرة، فإنْ قلتَ للزوج: إن زوجتك ستكون معك في الجنة يقول: كيف، حتى في الآخرة؟! وهو لا يعلم أن الله تعالى سيُطهِّرها من الصفات التي كرهها منها في الدنيا.
قال سبحانه: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [آل عمران: 15] .
ويقول سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ} [يس: 5556] .
وقول تعالى: {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] نلحظ أن الدعوة هنا جماعية، ومع ذلك لم يقُلْ أئمة، وذكر إماماً بصيغة المفرد، فلماذا؟
قالوا: لأنه تعالى يُنبِّهنا إلى أنّ الإمام هو الذي يسير على وَفْق منهج الله ولا يحيد عنه؛ لذلك إنْ تعددتْ الأئمة فهُمْ جميعاً في حُكْم إمام واحد؛ لأنهم يصدرون عن رب واحد، وعن منهج واحد لا تحكمهم الأهواء فتُفرِّقهم كالأمراء مثلاً. فجمعهم في القول من كل منهم على حدة ووحدهم في الإمامة.(17/10524)
ثم يقول الحق سبحانه عن جزاء عباد الرحمن: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ}(17/10525)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{أولئك} [الفرقان: 75] خبر عن عباد الرحمن الذين تقدمتْ أوصافهم، فجزاؤهم {يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] وجاءت الغرفة مفردةً مع أنهم متعددون، يحتاج كل منهم إلى غرفة خاصة به.
قالوا؛ لأن الغرفة هنا معناها المكان العالي الذي يشتمل على غرفات، كما قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] .
وهذا الجزاء نتيجة {بِمَا صَبَرُواْ} [الفرقان: 75] صبوا على مشاقِّ الطاعات، وقد أوضح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه المسألة بقوله: «حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات» .
فالجنة تستلزم أن أصبر على مشاقِّ الطاعات، وأن أُقدِّر الجزاء على العمل، أستحضره في الآخرة، فإنْ ضِقْتَ بالطاعات وكذَّبْتَ بجزاء الآخرة، فَلِمَ العمل إذن؟
ومثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي يجدّ ويجتهد في دروسه، لأنه يستحضر يوم الامتحان ونتيجته، وكيف سيكون موقفه في هذا اليوم، إذن: لو استحضر الإنسانُ الثوابَ على الطاعة لَسهُلَتْ عليه وهانتْ عليه متاعبها، ولو استحضر عاقبة المعصية وما ينتظره من جزائها لا بتعد عنها.(17/10525)
فالتكاليف الشرعية تستلزم الصبر، كما قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] .
فالحق تبارك وتعالى يريد منّا ألاَّ نعزل التكاليف عن جزائها، بل ضَعِ الجزاء نُصْب عينيك قبل أنْ تُقدِم على العمل.
لذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل أحد صحابته: «كيف أصبحتَ يا حارثة» فيقول: أصبحتُ مؤمناً حقاً، فقال: «إنَّ لكل حقّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك» .
قال: عزفتْ نفسي عن الدنيا، حتى استوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون «.
فالمسألة إذن في نظرهم لم تكُنْ غيباً، إنما مشاهدة، كأنهم يرونها من شدة يقينهم بها؛ لذلك قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» عرفتَ فالزم «.
والإمام علي كرَّم الله وجهه يقول: لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً. لماذا؟ لأنه بلغ من اليقين في الغيب إلى حَدِّ العلم والمشاهدة.
ثم يقول تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً} [الفرقان: 75] .
التحية أن نقول له: إننا نُحيِّيك يعني: نريد حياتك بأُنْسك بِنَا، والسلام: الأمان والرحمة، لكن ممَّنْ يكون السلام؟ ورَدُّ السلام في(17/10526)
القرآن الكريم بمعان ثلاثة: سلام من الله، كما في قوله تعالى: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] .
وسلام من الملائكة: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 2324] .
وسلام من أهل الأعراف، وهم قوم استوتْ حسناتهم وسيئاتهم، فلم يدخلوا الجنة، ولم يدخلوا النار، وهؤلاء يقولون: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] .
إذن: فعباد الرحمن يُلَقَّوْن في الجنة سلاماً من الله، وسلاماً من الملائكة، وسلاماً من أهل الأعراف.
ثم يقول الحق سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ}(17/10527)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
وسبق أنْ قال تعالى عن النار {سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] لأنها قبيحة، ومقابلها هنا {حَسُنَتْ} [الفرقان: 76] والمستقر: مكان الإقامة العابرة غير الدائمة، والمقام: مكان الإقامة الدائمة، ومعلوم أن مَنْ يدخل الجنة يقيم فيها إقامة أبدية دائمة، أما مَنْ يدخل النار فقد يخرج منها، إنْ كان مؤمناً. فكيف قال عن كل منهما: مُستقراً ومُقَاماً؟
قالوا: لأنهم ساعةَ يأتيهم نعيم وجزاء نقول لهم: ليس هذا هو النعيم الدائم، فالمستقر في نعمة واحدة، إنما المقام في نِعَم أخرى كثيرة مُترقية مُستعلية، لدرجة أن الكمالات في عطاء الله لا تتناهى.(17/10527)
ثم يُنهي الحق سبحانه سورة الفرقان بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَؤُاُْ بِكُمْ رَبِّي}(17/10528)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
بعد أن تحدث الحق تبارك وتعالى عن عباد الرحمن، وذكر أوصافهم وجزاءهم توجّه إلى الآخرين الذين لم يتصرفوا بهذه الصفات ولن ينالهم شيء من هذا النعيم، يقول لهم: إياكم أنْ تظنوا أن الله تعالى سيبالي بكم، أو يهتم، أو يكون في معونتكم؛ لأن الله تعالى لا يبالي إلا بعباده الذين عبدوه حَقَّ العبادة، وأطاعوه حَقَّ الطاعة، وأنتم خالفتُمْ الأصل الأصيل من إيجاد الخَلْق، ولم تحققوا معنى الاستخلاف في الأرض الذي خلقكم الله تعالى من أجله.
فكما أنكم انصرفتم عن منهج الله ولم تَعْبئوا به ولم تعبدوه، ولم يكُنْ على بالكم، فكذلك لا يعبأ الله بكم، ولن تكونوا على ذِكْر منه سبحانه، وسوف يهملكم.
وقوله تعالى: {لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} [الفرقان: 77] يعني: لولا عبادتكم، حيث إنها لم تقع {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} [الفرقان: 77] أي: بالأصل الأصيل، وهو أنكم مخلوقون للعبادة {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان: 77] كما لازمتم أنتم الكفر بي ولم تعبدوني وأصررتُم على الكفر، كذلك يكون الجزاء من جنس العمل لِزاماً لكم، فلا يُفارقكم أبداً.(17/10528)
طسم (1)
سبق أن تكلمنا عن الحروف المقطعة في أوائل السور، وقلنا فَرْق بين اسم الحرف ومُسمّى الحرف، مُسمّى الباء مثلاً: بَا أو بُو أو بِي أو إبْ في حالة السكون، إنما اسمها: باءٌ مفتوحة، أو مضمومة، أو ساكنة، لكن حين تنطق هذا الحرف في كَتَب مثلاً تقول: كَتَبَ فتنطق مُسمَّى الحرف لا اسمه.
وقُلْنا: في هذه المسألة معانٍ كثيرة، أيسرها: أن القرآن، وهو كلام الله المعجز مُنزَّل من حروف مثل حروفكم التي تتكلمون(17/10531)
بها، وكلمات مثل التي في لغتكم، لكن ما الذي جعله متميزاً بالإعجاز عن كلامكم؟ نقول: لأنه كلام الله، هذا هو الفَرْق، أمّا الحروف فواحدة.
ولو تأملتَ لوجدتَ أن الحروف المقطعة في أوائل السور مجموعها أربعة عشر حرفاً، هي نصف الحروف الهجائية، مرة يأتي حرف واحد، ومرة حرفان، ومرة ثلاثة أحرف، ومرة أربعة أحرف، ومرة خمسة أحرف. وهذا يدُّلنا على أن القرآن مُعْجِز، مع أنه بنفس حروفكم، وبنفس كلماتكم.
وسبق أن ضربنا لتوضيح هذه المسألة مثلاً: هَبْ أنك أردت أن تختبر جماعة في إجادة النسج مثلاً، فأعطيت أحدهم صوفاً، وللثاني حريراً، وللثالث قطناً، وللرابع كتاناً، فهل تستطيع أن تحكم على دِقَّة نَسْج كل منهم وأيهما أرقّ وأجمل؟ بالطبع لا تستطيع؛ لأن الحرير أنعم وأرقّ من القطن، والقطن أرقّ من الصوف، والصوف أرقّ من الكتان، فإنْ أردتَ تمييز الدقة والمهارة في هذه الصنعة فعليك أنْ تُوحِّد النوع.
إذن: سِرّ الإعجاز في القرآن أن تكون مادته ومادة غيره من الكلام واحدة، حروفاً وكلمات؛ لذلك كثيراً ما يقول الحق تبارك وتعالى بعد الحروف المقطعة:(17/10532)
{تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين}(17/10533)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
أي: أن الكتاب المبين مُكوَّن من مثل هذه الحروف، ولله تعالى معَانٍ أخرى، فيها مرادات له سبحانه، لعلّ الزمن يكشف لنا عنها. . والقرآن كلام الله، وصفاته لا تتناهى في الكمال، فإنِ استطعتَ أن تصف الأشياء، هذا كذا، وهذا كذا فهذه طاقة البشر والعقل البشري. أمّا آيات الله في كتابه المبين فهي الآيات الفاصلة التي لها بَدْء ولها ونهاية، وتتكوّن منها سور القرآن.
ومعنى {المبين} [الشعراء: 2] الواضح المحيط بكل شيء، كما قال سبحانه في آية أخرى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
ثم يقول الحق سبحانه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ}(17/10533)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
هذه هي التسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه حمّل نفسه في تبليغ الرسالة فوق ما يُطيق، وفوق ما يطلبه الله منه حِِرْصاً منه على هداية الناس، وإرجاعهم إلى منهج الله؛ ليستحقوا الخلافة في الأرض، ولأن من شروط الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك.
والحق تبارك وتعالى يُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما قال له في سورة الكهف: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [لكهف: 6] .(17/10533)
كأن ترى ولدك يُرهق نفسه في المذاكرة، فتشفق عليه أنْ يُهلك نفسه، فأنت تعتب عليه لصالحه، كذلك الحق تبارك وتعالى يعتب على رسوله شفقة وخوفاً عليه أنْ يُهلِك نفسه.
ومعنى {بَاخِعٌ} [الشعراء: 3] البخع: الذَّبْح الذي لا يقتصر على قَطْع المرىء والودجين، إنما يبالغ فيه حتى يفصل الفقرات، ويخرج النخاع من بينها، والمعنى: تحزن حزناً عميقاً يستولي على نفسك حتى تهلك، وهذا يدل على المشقة التي كان يعانيها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تكذيب قومه له.
وفي موضع آخر، يقول سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] فهذا أمر نهائي واضح، ونَهْي صريح، بعد أنْ لفتَ نظره بالإنكار، فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} [الشعراء: 3] .
وقد نبّه الله تعالى رسوله في عِدّة مواضع حتى لا يُحمِّل نفسه فوق طاقتها، فقال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] .
وقال: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] .
وقال: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] .
فالحق تبارك وتعالى يقول لرسوله: يسِّر على نفسك، ولا تُكلِّفها تكليفاً شاقّاً مُضْنياً، والعتاب هنا لصالح الرسول، لا عليه.(17/10534)
ثم يقول الحق سبحانه: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء}(17/10535)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
والآية هنا ليست آيةَ إقناع للعقول، إنما آية تُرْغمهم وتُخضع رقابهم، وتُخضع البنية والقالب، وهذا ليس كلاماً نظرياً يُقال للمكذبين، إنما حقائق وقعتْ بالفعل في بني إسرائيل. واقرأ إنْ شئت قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] .
فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعتْ قوالبهم، لكن الحق تبارك وتعالى كما قلنا لا يريد بالإيمان أنْ يُخضع القوالب، إنما يريد أن يُخضع القلوب باليقين والاتباع.
فلو شاء ربك لآمن مَنْ في الأرض كلهم جميعاً، لا يتخلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلاً وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلاً عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهّد أن يُغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .
والشيطان نفسه يقول: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 8283] .
إذن لو أراد سبحانه لجعلَ الناس جميعاً مؤمنين وما عَزَّ عليه ذلك، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن، فيأتي ربه طواعية مختاراً.(17/10535)
حتى في أمور الدنيا وأهلها، قد ترى جباراً يضرب الناس، ويُخضعِهم لأمره ونهيه، فيطيعونه طاعةَ قوالب، إنما أيستطيع أنْ يُخضِع بجبروته قلوبهم؟!
وقال: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] خَصَّ الأعناق؛ لأنها مظهر الخضوع، فأول الخضوع أنْ تلوى الأعناق، أو الأعناق تُطلَق عند العرب على وجوه القوم وأعيانهم؛ لذلك يقولون في التهديد: هذه مسألة تضيع فيها رقاب.
والمراد: الرقاب الكبيرة ذات الشأن، لا رقاب لمامة القوم، والضعفاء، أو العاجزين. ومثلها كلمة صدور القوم يعني: أعيانهم والمقدَّمين منهم الذين يملأون العيون.
والمعنى: فأنت لا تُخضِع الناس؛ لأني لو أردتُ أنْ أُخضعهم لأخضعتُهم؛ لذلك يقول تعالى في آية آخرى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] .
فإذا كان ربك لا يُكرِه الناسَ على الإيمان، أفتُكرههم أنت؟ ولماذا الإكراه في دين الله؟ : إن الحق تبارك وتعالى يوالي تنزيل القرآن عليهم آية بعد آية فلعل نجماً من نجومه يصادف فراغاً، وقلباً صافياً من الموجدة على رسول الله فيؤمن.
لكن هيهات لمثل هؤلاء الذين طُبِعوا على اللدد والعناد والجحود أن يؤمنوا؛ لذلك يقول الله عنهم: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] .
وقال عنهم:(17/10536)
{وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ}(17/10537)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
قوله: {مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] يعني: جديد على أذهانهم؛ لأننا لا نلفتهم بآية واحدة، بل بآيات الواحدة تلو الأخرى: {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] .
فكلما جاءتهم آية كذَّبوها، وهذا دليل على اللدد والعداوة التي لا تفارق قلوبهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بحيث لا يصادف نجم من القرآن قلوباً خالية، فكأن عداوتهم لك يا محمد منعتْهم من الإيمان بالقرآن، فهم مستعدون للإيمان بالقرآن إنْ جاء من غيرك.
أليسوا هم القائلين: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] .
إذن: فاللدَد والخصومة ليستْ في منهج الله، إنما في شخص رسول الله؛ لذلك ربُّك يُعزِّيك ويحرص عليك: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] مرة ساحر، ومرة مجنون. . إلخ. انظر إلى التسلية: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] فأنت عندهم صادق أمين {ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] .
وقوله تعالى: {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] أي: في غباء ولَدَد، وهل هناك أشدّ لَدَداً من قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] .(17/10537)
بدل أن يقولوا: اهدنا إليه!!(17/10538)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
أي: كلما جاءهم ذِكْر من الرحمن، وآية من آياته أصرُّوا على تكذيبها {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] .
كما جاء في آيات أخرى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .
وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ} [ص: 88] .
يعني: غداً تعلمون عاقبة تكذيبكم، فآيات الله تسير أمامكم، فكلُّ يوم يزداد المؤمنون بمحمد، ويتناقص عدد الكافرين، كل يوم تزداد أرض الإيمان، وتتراجع أرض الكفر.
ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى لهم: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} [الأنبياء: 44] .
فهذه إذن مقدمات تروْنها بأعينكم، وكان ينبغي عليكم أن تأخذوا منها عبرةً وعظة، فبوادر نجاح الدعوة وظهور الدين واضحة، هذا معنى: {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الشعراء: 6] .
فليتهم اقتصروا على التكذيب والإصرار عليه، إنما تعدّى الأمر منهم إلى الاستهزاء بالرسل وبكلام الله، ألم يقولوا على سبيل الاستهزاء: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] .(17/10538)
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض}(17/10539)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
لَمَّا لم يفلح الذكر المُحْدث والآيات المتجددة مع هؤلاء المعاندين فلم يَرْعَوُوا. ردَّهم الله تعالى إلى الآيات الكونية الظاهرة لهم والتي سبقتهم في الوجود، آيات في السماء: الشمس والقمر والنجوم، وآيات في الأرض: البحار والقفار والجبال والنبات والحيوان.
وكلها آيات كونية لم يدَّعها أحد منهم، بل جاء الإنسان إلى الوجود وطرأ عليها، وقد سبقتْه هذه الآيات التي يراها: الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والعاقل وغير العاقل، أَلاَ ينظرون فيها نظرةَ اعتبار، فيسألون عن مبدعها؟
ضربنا لذلك مثلاً بالإنسان الذي انقطعتْ به السُّبُل في صحراء جرداء حتى أشرف على الهلاك، فأخذته سِنَة فنام، ولما استيقظ وجد في هذا المكان المنقطع مائدةً، عليها أطايب الطعام والشراب، أَلا ينبغي عليه قبل أنْ تمتدَّ يده إلى هذا الطعام أن يسأل نفسه من الذي أعده له؟
كذلك الإنسان طرأ على كوْن مُعَدٍّ لاستقباله، وعلى وجود لا تتناوله قدرته، ولا سلطانَ له عليه، فهو لا يتناول الشمس مثلاً ليُوقِدها ولم يدَّعِ هذه الآيات الكونية أحد، أَلاَ يدلّ ذلك على الخالق عزَ وجل ويُوجِب علينا الإيمان به؟(17/10539)
لذلك يقول سبحانه {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] .
وقال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] .
ولو تأمل الإنسان في (اللمبة) الصغيرة التي تضيء غرفة، ولها عمر افتراضي لا يتعدَّى عدة أشهر وهي عُرْضَة للكسر وللأعطال، ومع ذلك تكاتف في صناعتها فريق من المهندسين والعمال والفنيين، وكثير من الآلات والعِدَد، ومع ذلك نُؤرِّخ لمخترع المصباح، ونعرف تاريخه، وكيفية صنعه. . الخ. نعرف مخترع (التلفون والراديو) و. .
أليس من الأَوْلَى أن ننظر ونتأمل في خَلْق الشمس، هذا الكوكب العظيم الذي يضيء الدنيا كلها، دون وقود، أو قطعة غيار، أو عُطْل طِوَال هذه المدَد المتعاقبة؟
فإذا ما جاء رسول، وقطع على الناس هذه الغفلة، وقال لهم: أَلاَ أُنبّئكم بمَنْ خلق كل هذا؟ إنه الله. كان يجب عليهم أنْ يُعيروه آذانهم ويؤمنوا.
هنا يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض} [الشعراء: 7] وهي آية ظاهرة أمام أعينهم، يروْنَها هامدة جرداء مُقْفرة، فإذا نزل عليها الماء أحياها الله بالنبات، ألم ينظروا إلى الجبال والصحراء بعد نزول المطر، وكيف تكتسي ثوباً بديعاً من النبات بعد فَصْل الشتاء.
ألم يسألوا أنفسهم: مَنْ نقل هذه البذور وبذرها في الجبال؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .(17/10540)
وقوله تعالى هنا: {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] كم: خبرية تفيد الكثرة، جاءت بصيغة الاستفهام للتقرير، كما تقول لصاحبك: كم أحسنتُ إليك، بدل أنْ تُعدِّد مظاهر إحسانك إليه، فتسأله لأنك واثق أن الإجابة في صالحك، فالكلام بالإخبار دَعْوى منك، لكن الإجابة على سؤال إقرار منه.
فالمعنى: أن نبات الأرض كثير يفوق الحصر.
والزوج: الصنف، والزوج أيضاً الذكر أو الأنثى، والبعض من العامة يظن أن الزوج يعني الاثنين وهذا خطأ، فالزوج واحد معه مثله، كما في قوله سبحانه: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 143144] .
فهذه أربعة أصناف، فيها ثمانية أزواج، فالزوج فرد واحد معه مثله، فلا تقول زوج أحذية. بل زَوْجَا أحذية. والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] .
وكذلك النبات لا بُدَّ فيه من ذكورة وأنوثة، وإنْ كانت غير واضحة فيه كله كما هي واضحة مثلاً في النخل، ففيه ذكر نُلقِّح منه الأنثى لتثمر، وكذلك شجرة الجميز منها ذكر وأنثى. لكن لم نَرَ ذكورة وأنوثة في الجوافة مثلاً أو في الليمون، لماذا؟
قالوا: مرة توجد الذكورة والأنوثة في الشيء الواحد كعود الذرة مثلاً، قبل أنْ يُخرِج ثمرته تخرج سنبلة في أعلاه تحمل لقاح الذكورة، وحينما يهزها الريح يقع اللقاح على شُرَابة (كوز) الذرة، وتتم عملية التلقيح. وقد تكون الذكورة والأنوثة في شيء لا تعرفه أنت كالمناجو والتفاح مثلاً، فلم نعلم لها ذكراً وأنثى.(17/10541)
لكن الحق تعالى قال: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] .
وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] .
ثم وصف الزوج بأنه {كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] فماذا يعني الكرم هنا؟ قالوا: لأنك إذا أخذتَ الثمرة الواحدة ونظرت وتأملتَ فيها لوجدتَ لها صفات متعددة ونِعَماً كثيرة، كما قال سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وهي نعمة واحدة بصيغة المفرد ولم يقل نعم الله.
قالوا: لأن الحق عزّ وجلَّ يريد أن يلفتنا إلى أن كل نعمة واحدة لو استقصيتَ عناصرها وتكوينها لوجدتَ في طياتها نِعَماً لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى.
فمعنى {كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] يعني: كثير العطاء وكثير الخيرات.(17/10542)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 8] أي: في آية الإنبات، وكل زوج كريم يخرج من الأرض {لآيَةً} [الشعراء: 8] شيء عجيب ودلالة واضحة على مُكوِّن حكيم يعمل الشيء بقصد ونظام، ينبغي أن تلفتنا إلى قدرة الخالق عَزَّ وَجَلَّ.
{وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] يعني: مع كل هذه الآيات لم يؤمنوا، إلا القليل منهم كما قال تعالى في آية أخرى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] مع أنك لو تأملتَ آية واحدة لكانت كافية لأنْ تلفتك إلى الله.(17/10542)
وَفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدلُّ عَلَى أَنَّه الوَاحِدُ
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم}(17/10543)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
جاء الحق تبارك وتعالى هنا بصفة {العزيز} [الشعراء: 9] بعد أن قال {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] لنعلم أن الذين كفروا لم يكفروا رَغْماً عن الله، إنما كفروا بما أودع الله فيهم من الاختيار.
فهو سبحانه الذي أعانهم عليه لَمَّا أحبوه وأصروا عليه؛ لأنه تعالى ربُّهم، بدليل أنه تعالى لو تركهم مجبرين مرغمين ما فعلوا شيئاً يخالف منهج الله أبداً، وبدليل أنهم مجبرون الآن على أشياء ومقهورون في حياتهم في مسائل كثيرة، ومع ذلك لا يستطيع أحد منهم أن يخرج على شيء من ذلك.
فمع إِلْفهم العناد والتمرد على منهج الله، أيستطيع أحدهم أنْ يتأبَّى على المرض، أو على الموت، أو على الأقدار التي تنزل به؟ أيختار أحد منهم يوم مولده مثلاً، أو يوم وفاته؟ أيختار طوله أو قوته أو ذكاءه؟
لكن لما أعطاهم الله الصلاحية والاختيار اختاروا الكفر، فأعانهم الله على ما أحبُّوا، وختم على قلوبهم حتى لا يخرج منها كفر، ولا يدخلها إيمان.
وكلمة {العزيز} [الشعراء: 9] تعني: الذي لا يُغلَب ولا يُقْهر، لكن هذه الصفة لا تكفي في حقَّه تعالى؛ لأنها تفيد المساواة للمقابل، فلا بُدَّ أنْ نزيد عليها أنه سبحانه هو الغالب أيضاً.(17/10543)
لذلك يقول سبحانه وتعالى: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} [يوسف: 21] فالله تعالى عزيز يَغْلِب ولا يُغْلَب.
ومثال ذلك قوله تعالى: {يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] .
وقوله تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88] .
ثم يذكر سبحانه بعدها صفة الرحمة، فهو سبحانه مع عزته رحيم، إنه تعالى رحيم حين يَغْلب، ألم يتابع لهم الآيات ويَدْعُهم إلى النظر والتأمل، لعلَّهم يثوبون إلى رُشْدهم فيؤمنوا؟ فلما أصرُّوا على الكفر أمهلهم، ولم يأخذهم بعذاب الاستئصال، كما أخذ الأمم الأخرى حين كذَّبتْ رسلها.
كان الرسل قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبلِّغون الدعوة، ويُظهرون المعجزة، فمَنْ لم يؤمن بعد ذلك يعاقبه الله، كما قال سبحانه: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40] .
أمَّا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد قال تعالى في شأنها: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] .
وقال هنا: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 9] فالحق تبارك وتعالى في كل هذه الآيات يُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويعطيه عبرةً من الرسل الذين سبقوه، فليس محمد بِدْعاً في ذلك، ألم يقل(17/10544)
له ربه: {ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30] فالمسألة إذن قديمة قِدَم الرسالات.
لذلك، يأخذنا السياق بعد ذلك إلى موكب النبوات، فيذكر الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طرفاً من قصة نبي الله موسى: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى}(17/10545)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
الحق تبارك وتعالى يقصُّ على رسوله قصص الأنبياء، وهو أحسن القصص لحكمة: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .
لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بمعارك كثيرة مع الكفر، فكان يحتاج إلى تثبيت مستمر كلما تعرض لشدة؛ لذلك تكرر القصص القرآني لرسول الله على مدى عمر الدعوة، والقصص القرآني لا يراد به التأريخ لحياة الرسل السابقين، إنما إعطاء النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عِبرةً وعظة بمَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لذلك كانت القصة تأتي في عدة مواضع، وفي كل موضع لقطة معينة تناسب الحدث الذي نزلت فيه.
وهنا يقول سبحانه: {وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} [الشعراء: 10] يعني: اذكر يا محمد، إذ نادى ربك موسى أي: دعاه. لكن لماذا بدأ بقصة موسى عليه السلام بالذات؟
قالوا: لأن كفار مكة كفروا بك أنت، فلا تحزن؛ لأن غيرهم كان أفظع منهم، حيث ادعى الألوهية، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] .
والسياق هنا لم يذكر: أين ناداه ربه، ولا متى ناداه، وبدأ الحوار معه مباشرة، لكن في مواضع أخرى جاء تفصيل هذا كله.(17/10545)
ثم يأتي الأمر المباشر من الله تعالى لنبيه موسى: {أَنِ ائت القوم الظالمين} [الشعراء: 10] أي: الذين ظلموا أنفسهم، بأنْ جعلوا لله تعالى شريكاً، والشرك قِمَّة الظلم {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] .
ولم يُبيِّن القرآن مَنْ هم هؤلاء الظالمون؛ لأنهم معروفون مشهورون، فهم في مجال الشرك أغنياء عن التعريف، بحيث إذا قلنا {القوم الظالمين} [الشعراء: 10] انصرف الذِّهْن إليهم، إلى فرعون وقومه؛ لأنه الوحيد الذي تجرّأ على ادعاء الألوهية، وبعد أنْ ذكرهم بالوصف يُعيِّنهم: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}(17/10546)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
أي: قُلْ لهم يا موسى ألا تتقون ربكم؟ واعرض عليهم هذا العرض؛ لأن الطلب يأتي مرة بالأمر الصريح: افعل كذا، ومرة يتحنّن إليك بأسلوب العرض، ألا تفعل كذا؟ على سبيل الاستفهام والعرض والحضِّ.
والمعنى: ألا يتقون الله في ظلمهم لأنفسهم باتخاذهم مع الله شريكاً ولا إله غيره، وظلموا بني إسرائيل في أنهم يُذبِّحونَ أبناءهم ويستحيُون نساءهم.
لكن، لماذا تكلم عن قوم فرعون أولاً، ولم يعرض عليه هو أولاً، وهو رأس الفساد في القوم؟
ويجيب على هذا السؤال المثل القائل (يا فرعون ماذا فرعنك؟ قال: لأنني لم أجد أحداً يردني) فلو وقف له قومه ورَدَعوه لارتدع، لكنهم تركوه، بل ساروا في رَكْبه إلى أنْ صار طاغية، وأعانوه حتى أصبح طاغوتاً.(17/10546)
فقال موسى: {قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ}(17/10547)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
لما دعا الحق تبارك وتعالى، نبيه موسى عليه السلام لأنْ يذهب إلى قوم فرعون لم يبادر بالذهاب، إنما أبدى لربه هواجس نفسه وخلجاتها؛ لأنه يعلم مُقدَّماً مشقة هذه المهمة، فقد عاش مع فرعون ويعلم طبيعته، فقال: {إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] وكيف لمن يدّعي الألوهية أنْ يسمع لرسول؟
ويُرْوَى أنه في عهد الخليفة المأمون ادَّعَى أحدهم النبوة، فحبسوه، ثم ادعاها آخر فقال: اجمعوا بينهما حتى يواجه أحدهما الآخر، فلما حضرا قالوا: يا هذا إن هذا الرجل يدَّعي النبوة، فقال: كذب، أنا لم أُرسِل أحداً. وهكذا جعل من نفسه إلهاً بعد أن كان نبياً.
ويواصل موسى الحديث عن مخاوفه: {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي}(17/10547)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
يضيق صدري ساعةَ يكذّبونني، وضيق الصدر ينتج عنه أن أتلجلج وأتعصب، فلا أستطيع أن أتكلم الكلام المُقْنِع؛ ذلك لأنني(17/10547)
سأشاهد باطلاً واضحاً يُجابه حقاً واضحاً، ولا بُدَّ أنْ يضيق صدري بذلك، خاصة وأن موسى عليه السلام سابقه في مسألة الكلام.
لذلك قال: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} [الشعراء: 13] وفي آية أخرى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [القصص: 34] .
يعني: مساعداً لي يتكلم بدلاً عني، إنْ عجز لساني عن الكلام، وهذا يدل على حرصه عليه السلام على تبليغ دعوة ربه إلى فرعون وقومه.
وعليه، فقد كان موسى وهارون كلاهما رسول، إلا أن القرآن قال مرة عنهما: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] بصيغة المفرد، وقال مرة أخرى: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: 47] بصغية المثنى.
الرسول: هو المرسَل من شخص لآخر، سواء كان واحداً أو مُثَنى أو جمعاً.
ومعلوم أن الإنسان يحتاج لا ستبقاء حياته طعاماً وشراباً، وقبل ذلك وأهمَ منه يحتاج لاستبقاء نفسه، أَلاَ تراه يصبر على الطعام، ويصبر على الشراب، لكنه لا يصبر بحال على الهواء، فإنْ حُبِس عنه شهيق أو زفير فارق الحياة؟
وسبق أن قلنا: إن من رحمة الله تعالى بنا أنْ يُملِّك الطعام كثيراً، وقليلاً ما يُملِّك الماء، لكن الهواء لا يُملّكه الله لأحد، لماذا؟ لأنه لو ملَّك عدوك الهواء فمنعه عنك، فسوف تموت قبل أنْ يرضى عنك، بالإضافة إلى أن الهواء هو العنصر الأساسي في الحياة، وعليه تقوم حركاتها.(17/10548)
ونلحظ أن الإنسان إذا صعد مكاناً عالياً (ينهج) ، وتزداد ضربات قلبه وحركة تنفسه، لماذا؟ لأن الحركة تحتاج لكثير من الهواء، فإنْ قَلَّ الهواء يضيق الصدر؛ لأنه يكفي فقط لا ستبقاء الحياة، لكنه لا يكفي الحركة الخارجية للإنسان.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ}(17/10549)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
وليت المسألة تقف بين نبي الله موسى وبين قومه عند مسألة الكلام، إنما لهم عنده ثَأْرٌ قديم؛ لأنه قتل منهم واحداً، وإنْ كان عَنْ غير قصد، كما قال تعالى في آية أخرى: {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} [القصص: 15] فأخاف أنْ يقتلوني به.
فيقول الحق سبحانه لموسى وهارون: {قَالَ كَلاَّ فاذهبا}(17/10549)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
(كَلاَّ) تفيد نَفْي ما قبلها، وقبلها مسائل ثلاث: {أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] ، {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] ، {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] فعلى أيٍّ منها ينصَبُّ هذا النفي؟
النفي هنا يتوجَّه إلى ما يتعلق بموسى عليه السلام لا بما يتعلق بالقوم من تكذيبهم إياه، يقول له ربه: اطمئن، فلن يحدث شيء من هذا كله. ولا ينصبُّ النفي على تكذيبهم له؛ لأنه سيُكذَّب؛(17/10549)
لذلك نرى دقة الأداء القرآني حيث جاءت {أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [الشعراء: 12] في نهاية الآية، وبعدها كلام جديد {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13] وهو المقصود بالنفي.
وقد بيَّنَتْ سورة الفجر معنى (كلا) بوضوح في قوله تعالى {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 1516] .
فيقول تعالى بعدها رداً عليها {كَلاَّ} [الفجر: 17] يعني: ليس الإعطاء دليلَ إكرام، ولا المنعُ دليلَ إهانة، إنما المراد الابتلاء بالنعمة وبالنقمة.
وكيف يكون الأمر كما تظنون، وقد أعطاكم الله فبخلتُم، وأحببتم المال حُبّا جماً، فلم تنفقوا منه على اليتيم أو المسكين، بل تنافستُم في جَمْعه حتى أكلتم الميراث، وأخذتم أموال الناس.
إذن: فالمال الذي أكرمكم الله به لم يكُنْ نعمة لكم؛ لأنكم جعلتموه نقمة ووبالاً، حين أُعطيتم فمنعتم.
وكلمة (كَلاَّ) هذه أصبح لها تاريخ مع موسى عليه السلام فقد تعلَّمها من ربه، ووعى درسها جيداً، فلما حُوصِر هو وأتباعه بين البحر من أمامهم، وفرعون وجنوده من خلفهم، حتى أيقن أتباعه أنهم مُدْركون هالكون، قالها موسى عليه السلام بملء فيه {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
وقوله تعالى: {فاذهبا بِآيَاتِنَآ} [الشعرءا: 15] الآيات هنا يُقصَد بها المعجزات الدالة على صِدْقهما في البلاغ عن الله، وهي هنا العصا(17/10550)
{إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} [الشعراء: 15] كما قال لهما في موضع آخر: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] .
فمرّة يأتي بالسمع فقط، ومرّة بالسمع والرؤية، لماذا؟ لأن موقفه مع فرعون في المقام الأول سيكون جدلاً ونقاشاً، وهذا يناسبه السمع، وبعد ذلك ستحدث مقامات في (فعل) و (عمل) في مسألة السحر وإلقاء العصا، وهذا يحتاج إلى سمع وإلى بصر؛ لأن الإيذاء قد يكون من السمع فقط في أول اللقاء، وقد يكون من السمع والعين فيما بعد.(17/10551)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
وسبق أن قال سبحانه: {أَنِ ائت القوم الظالمين قَوْمَ فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 1011] فذكر قومَ فرعن أولاً؛ لأنهم سبب فرعنته، حين سمعوا كلامه وأعانوه عليه، وهنا يُذكِّره {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 16] لأن حين يُهزَم فرعون يُهزَم قومه الذين أيَّدوه، فالكلام هنا مع قمة الكفر مع فرعون.
{فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] إنَّا: جمع يُقَال للمثنى، ومع ذلك جاءت رسول بصيغة الإفراد، ولم يقُل: رسُولا؛ لأن الرسول واسطة بين المرسَل والمرسَل إليه، سواء أكان مفرداً أو مُثَنى أو جمعاً.
وكلمة {إِنَّا} [الشعراء: 16] سيقولها موسى وهارون في نَفَس واحد؟ لا، إنما سيتكلم المقدَّم منهما، وينصت الآخر، فيكون كمنْ يُؤمِّن على كلام صاحبه. ألاَ ترى القرآن الكريم حينما عرض قضية موسى وقومه يوضح أن فرعون علا في الأرض واستكبر. . الخ.(17/10551)
حتى دعا عليهم: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] .
هذا كلام موسى عليه السلام فردّ الله عليه: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] بالمثنى مع أن المتكلم واحد. قالوا: لأن موسى كان يدعو، وهارون يُؤمِّن على دعائه، والمؤمِّن أحد الداعيين، وشريك في الدعوة.
فما مطلوبك يا رسول رب العالمين؟ {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا}(17/10552)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
فالأصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب، ثم يُبلِّغهم منهج الله، ويأخذ أيديهم إليه، وجاءت دعوة فرعون للإيمان ونقاشه في ادعائه الألوهية تابعة لهذا الأصل.
وفي موضع آخر: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47] .
إذن: فتلوين الأساليب في القصص القرآني يشرح لقطاتٍ مختلفة من القصة، ويُوضِّح بعض جوانبها، وإنْ بدا هذا تكراراً في المعنى الإجمالي، وهذا واضح في وقوله تعالى في أول قصة موسى عليه السلام: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وحَزَناً} [القصص: 8] .
وفي أية أخرى يقول تعالى على لسان امرأة فرعون: {قُرَّةُ عَيْنٍ(17/10552)
لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] وكأن الله تعالى يقول: ستأخذونه ليكون قُرَّة عين لكم، إنما هو سيكون عدواً.
والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ففرعون في حين كان يقتل الأطفال من بني إسرائيل، ويستحيي البنات، جاءه هذا الطفل بهذه الطريقة اللافتة للنظر، فكان عليهم أنْ يفهموا أن مَنْ أُلقِي في التابتوت وفي اليمِّ بافتعال، هو بهدف نجاته من القتل، فلو كان فرعون إلهاً، فكيف مرّت عليه هذه الحيلة وجازتْ عليه؟
وهذا يدل على أن الله تعالى إذا أراد إنفاذ أمر سلب من ذوي العقول عقولهم، وحال بين المرء وقلبه، ويدل على غباء قومه؛ لأنهم لو تأملوا هذه المسألة لظهر لهم كذب فرعون في ادعائه الألوهية.
فكان ردّ فرعون على موسى عليه السلام: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً}(17/10553)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
يريد فرعون أنْ يُذكِّر موسى بما كان من أمر تربيته في بيته لعدة سنوات، حتى شَبَّ وكبر، وكأنه يُوبِّخه كيف يقف منه هذا الموقف العدائي بعدما كان منه.
{وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] ويقال: إن موسى لبث في بيت فرعون حتى سِنِّ الثامنة عشرة، أو سِنِّ الثلاثين، فالمعنى أنه ربَّاه ولبث معه أيضاً عدة سنوات.(17/10553)
والمتأمل في هذه الحجة التي يظنها فرعون لصالحه يجد أنها ضده، وأنها تكشف عن غبائه، فلو كان إلهاً كما يدعي لعرف أن هلاكه سيكون على يدي هذا الطفل الذي ضَمَّه إليه ورعاه.(17/10554)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
والمراد بالفِعْلة قتل موسى عليه السلام للرجل الذي وكزه فمات {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} [الشعراء: 19] يصح من الكافرين بألوهية فرعون، أو من الجاحدين لنعمنا عليك وتربيتنا لك.
لذلك العقلاء يروْنَ أن الإنسان حين يربي الأولاد ويراهم كما يحب، فليعلم أنه توفيق وعناية من الله تعالى، بدليل أن الأبناء يُربَّون في بيئة واحدة، وربما كانا توأميْن، ومع ذلك ترى أحدهما صالحاً والآخر طالحاً، فالمسألة عناية إلهية عليا، وقد التقط أحد الشعراء هذا المعنى فقال:
إِذَا لَمْ تُصاَدِفَ في بَنيكَ عِنَايةً ... فقَدْ كذَبَ الراجي وخَابَ المؤَمَّلُ
فمُوسى الذِي رَبَّاه جِبْريلُ كَافِرٌ ... ومُوسَى الذي رَبَّاهُ فِرْعَونُ مُرْسَلُ
والمراد موسى السامري صاحب العجل، وقد وضعته أمه في صحراء وماتت، فأرسل الله إليه جبريل عليه السلام يرعاه ويُربِّيه. ولا تأتي هذه المفارقات إلا بعناية الله سبحانه.(17/10554)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
يقول موسى عليه السلام: أنا لا أنكر أنني قتلتُ، لكنني قتلتُ وأنا من الضالين. يعني: الجاهلين بما يترتب على عملية القتل، وما كنت أعتقدُ أبداً أن هذه الوَكْزة ستقضي على الرجل.
فكلمة {الضالين} [الشعراء: 20] هنا لا تعني عدم الهدى، فمن هذا المعنى للضلال قولهم: ضَلَّ الطريق، وهو لم يتعمد أن يضل، إنما تاه رَغْماً عنه.
ومنه قوله تعالى في الشهادة: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى} [البقرة: 282] .
وقوله تعالى مخاطباً نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] أي: متحيراً بين الباطل الذي يمارسه قومه، وبين الحق الذي لا يجد له بينة.(17/10555)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
{حُكْماً} [الشعراء: 21] أي: أنْ أضع الأشياء في مواضعها، وجاءت هذه الكلمة بعد {فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] كأنه يقول: أنا وكزتُ الرجل، هذا صحيح، فمات، وهذا خطأ غير مقصود وإنني مظلوم فيه؛ لأن الله قد أعطاني حكماً وقدرة لأضع الأشياء في محلها.(17/10555)
ليس هذا فحسب، إنما أيضاً: {وَجَعَلَنِي مِنَ المرسلين} [الشعراء: 21] .(17/10556)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
يعني: ما مَّن به فرعون على موسى من قوله:
{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ} [الشعراء: 1819] .
كأنه يقول له: أتمُنُّ عليَّ بهذه الأشياء، وتذكر هذه الحسنة، وهي لا تساوي شيئاً لو قارنتَها بما حدث منك من استعباد بني إسرائيل وتذبيح أبنائهم واستحياء نسائهم، وتسخيرهم في خدمتك.
وقتل الذّكْران واستحياء الإناث، لا يعني الرأفة بهن، إنما يعني لَهُنَّ الذلة والهوان، حين لا تجد المرأة من محارمها مَنْ يحميها أو يدافع عنها، فتبقى بعد الرجال في هوان وذِلَّة في خدمة فرعون.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين}(17/10556)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
يعني: مسألة جديدة هذه الذي جئتَ بها يا موسى، فمن رَبُّ العالمين الذي تتحدث عنه؟(17/10556)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
لأن السماوات بما فيها من كواكب ونجوم وشمس وقمر وأفلاك وأبراج، والأرض وما فيها من بحار وأنهار وجبال وقِفَار ونبات وحيوان وإنسان. قد وُجِدتْ قبل أن توجد أنت أيها الإله الفرعون!!
إذن: رَدَّ عليه بشيء ثبت في الكون قبل مجيئه، وقبل مولده. وكأن المعنى المراد لموسى عليه السلام: أخبرني يا فرعون، يا مَنْ تدعي الألوهية، ما الذي زاد في الكون بألوهيتك له؟ وإنْ كان هذا الكون كله بسمائه وأرضه لله رب العالمين، فماذا فعلتَ أنت؟
ولم يقتصر على السماوات والأرض، وإنما {وَمَا بَيْنَهُمَآ} [الشعراء: 24] أي: من هواء وطير يَسْبح في الفضاء، وكانوا لا يعرفون ما نعرفه الآن من أسرار الهواء، وانتقال الصوت والصورة من خلاله، ففي جَوِّ السماء فيما بين السماء والأرض من الأسرار ما يستحق التأمل.
ثم يتلطف معهم فيقول: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] يعني: إنْ كنتم موقنين بأن هذه الأشياء لم يخلقها إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه ذاكراً جدال فرعون، فقال: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ}(17/10557)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
يقول فرعون لمن حوله من أتباعه الذين أقروا له بالألوهية: ألا تستمعون لما يقول؟ يعني: موسى عليه السلام. وهذه الكلمة لا يقولها فرعون إلا إذا أحسَّ من قومه ارتياحاً لما قاله موسى من(17/10557)
نَفْي الربوبية والألوهية عن فرعون ونسبتها لله تعالى، خالق السموات والأرض.
وكان فرعون ينتظر من قومه أنْ يتصدَّوْا لما يقوله موسى، فينهروه ويُسْكِتوه، لكن لم يحدث شيء من هذا، مما يدل على أنهم كانوا يتمنْونَ أن ينتصر موسى، وأن يندحر فرعون؛ لأنه كبت حرياتهم وآراءهم، كما كانوا يعرفون كذبه وينتظرون الخلاص منه.
بدليل ما حكاه القرآن عن الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه من آل فرعون، وبدليل الذين أتوا فيما بعد وحَسَّنوا له مسألة السحرة وهم يريدون أن يُهزَم.
وقبل أنْ يردَّ أحد من قوم فرعون بادرهم موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ}(17/10558)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
هنا ينقل موسى عليه السلام فرعونَ من الجو الكوني المحيط به في السماء والأرض وما بينهما إلى ذات نفسه، يقول له: إنَّ لك آباء قبل أنْ تُولد، وقبل أن تدعي الألوهية، فمن كان ربهم؟
فلما ضَيَّق موسى عليه السلام الخناق على فرعون، أراد أنْ يخرج من هذا الجدل وهذه المناظرة الخاسرة فقال محاولاً إنقاذ موقفه: {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ}(17/10558)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
وهذه العبارة من فرعون تفضح المتكلِّم بها، فقد شهد لموسى بأنه رسول، وخانه لفظه من حيث لا يدري.(17/10559)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
يرد موسى عليه السلام بحجة أخرى، لكن يختمها هذه المرة بقوله: {إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] وقد قال في سابقتها {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] كأنه يقول لفرعون: ما دام قد وصل بك الأمر لأنْ تتهمني بالجنون فلن أقول إنْ كنتم موقنين، إنما إنْ كنتم تعقلون، فجاء بمقابل الجنون.
فيُنهي فرعون هذا النقاش، ويأتي بخلاصة الأمر كما يرى، فيقول: {قَالَ لَئِنِ اتخذت}(17/10559)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
وهذا من فرعون إفلاس في الحجة، ولو كان عنده رَدٌّ لما يقوله موسى لردّ عليه، ولَقرع الحجة بالحجة، لكنه تقوَّى على خَصْمه بأن هدده بالسجن والإبعاد، وكان المسجون عندهم يظل في السجن حتى الموت.
ولم يُراع فرعون في هذه المسألة الناس من حوله، أن يكتشفوا هذا الإفلاس، وهذا الحمق في رَدِّه.(17/10559)
ويُؤخِّر موسى عليه السلام ما معه من الآيات، ويستمر في الجدل وإظهار الحجة: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ}(17/10560)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
يعني: إذا لم تقنع بكل الحجج السابقة، فهل لو جئتك بآية واضحة دالة على صدق رسالتي، أتجعلني أيضاً من المسجونين؟(17/10560)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
انظر إلى تعارض فرعون مع نفسه، فكان عليه ساعةَ أنْ يسمع من موسى هذا الكلام أنْ يُصر على سجنه، لكن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يُظهر حجته، فيجعل فرعون هو الذي يطلبها بنفسه {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 31] وما كان لموسى أن يأتي بآية إلا أنْ يطلبها منه فرعون.(17/10560)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
إلقاء العصا له في القرآن ثلاث مراحل: الأولى: هي التي واكبتْ اختيار الله لموسى ليكون رسولاً، حين قال له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] وقلنا: إن موسى عليه السلام أطال في إجابة هذا السؤال لحرصه على إطالة مدة الأُنْس بالله عَزَّ وَجَلَّ فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [اطه: 18] .(17/10560)
فالعصا في نظر موسى عليه السلام عود من الخشب قريب عهد بأصله، كغصن في شجرة، لكنها عند الله لها قصة أخرى: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 1920] .
وما صارت العصا عصاً إلا بعد أنْ قُطِعت من شجرتها، وفقدت الحياة النباتية، وتحولت إلى جماد، فلو عادت إلى أصلها وصارت شجرةً من جديد لكان الأمر معقولاً، لكنها تجاوزتْ مرتبة النباتية، وتحولت إلى الحيوانية، وهي المرتبة الأعلى؛ لذلك فزع منها موسى وخاف فطمأنه ربه:
{قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] .
وكانت هذه المرة بمثابة تدريب لموسى عليه السلام؛ ليألف العصا على هذه الحالة، وكأن الله تعالى أراد لموسى أنْ يُجري هذه التجربة أمامه، ليكون على ثقة من صِدْق هذه الآية، فإذا ما جاء لقاء فرعون ألقاها دون خوف، وهو واثق من نجاحه في هذه الجولة.
إذن: كان الإلقاء الثاني للعصا أمام فرعون وخاصته، ثم كان الإلقاء للمرة الثالثة أمام السحرة.
ومعنى {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 32] يعني: بيِّن الثعبانية، فيه حياة وحركة، وقال {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} [الشعراء: 32] يعني: واضح للجميع؛ لأنهم كانوا يجيدون هذه المسألة ويُخيِّلون للناس مثل هذه الأشياء، ويجعلونها تسعى وتتحرك، ولم تكن عصا موسى كذلك، إنما كانت ثعباناً مبيناً واضحاً وحقيقياً لا يشكّ في حقيقته أحد.
والمتتبع للقطات المختلفة لهذه الحادثة في القرآن الكريم يجد(17/10561)
السياق يُسمِّيها مرة ثعباناً، ومرة حية، ومرة جاناً، لماذا؟ قالوا: لأنها جمعت كل هذه الصفات: فهي خفة حركتها كأنها جان، وفي شكلها المرعب كأنها حية، وفي التلوِّي كأنها ثعبان. والجان: فرخ الحية.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ}(17/10562)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
هنا يتكلم عن نزع اليد؛ لأنه قال في آية أخرى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [القصص: 32] .
وهكذا تتكامل لطقات القصة الواحدة، والتي يظنها البعض تكراراً، وليست هي كذلك.
{وَنَزَعَ} [الشعراء: 33] يعني: أخرج يده {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 33] مع أن موسى عليه السلام كان آدم اللون يعني فيه سُمْرة، ومع ذلك خرجتْ بيضاء، لها شعاع وبريق يأخذ بالأبصار.
وبمقارنة هذه الآية بآية سورة القصص نجد أنه حذف من آية سورة الشعراء الجيب، وهو فتحة الثوب من أعلى، لا الجيب المتعارف عليه، والذي نضع فيه النقود مثلاً، وكانوا في الماضي(17/10562)
يجعلون الجيب بداخل ملابس الإنسان، ليكون في مأمن، فإذا أراد الإنسان شيئاً فيه مَدَّ يده من خلال الفتحة العليا للثوب، فسُمِّيتْ جيباً.(17/10563)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
الملأ: هم عليْة القوم، الذين يملأون العيون، ويتصدَّرون المجالس {إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الشعراء: 34] فاتهمه بالسحر ليخرج من ورطته وقال: ساحر لأن موسى لم يمارس هذه المسألة إلا مرة واحدة هي التي أجراها أمام فرعون، لكن الملأ على علم بالسحر وإِلْف له، وعندهم سحارون كثيرون.
وفَرْق بين ساحر وسحَّار: ساحر لمن مارس هذه العملية مرة واحدة، إنما سحَّار مبالغة تدل على أنها أصبحت حِرْفته، مثل ناجر ونجّار، وخائط وخيّاط.
و {عَلِيمٌ} الشعراء: 34] أي: بسحره.(17/10563)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
هنا يستعدي فرعون قومه على موسى، ويُحذرهم أنه سيفسد العامة والدهماء، وتكون له الأغلبية، وتكون له شيعة يناصرونه عليكم حتى يُخرِجكم من أرضكم، وهذا أقلّ ما يُنتظر منه، يريد أن يهيج عليه الملأ من قومه؛ ليكونوا أعداء له يقفون في صَفِّ فرعون.
وعجيب أنْ يقول الفرعون الإله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] فهذه هي الألوهية الكاذبة التي انحدرتْ إلى مرتبة العبيد، ومتى يأخذ(17/10563)
الإله رأي عبيده، ويطلب منهم المعونة والمشورة؟ ولو كان إلهاً بحق لكان عنده الحل ولديه الردّ.
فلما نزل فرعون من منزلة الألوهية، وطلب الاستعانة بالملأ من قومه التفتوا إلى كذبه، ووجدوا الفرصة مواتية للخلاص منه، ومما يدل على أن أكثرهم وجمهرتهم كانوا يجارونه على مضض، وينتظرون لحظة الخلاص من قَهْره وكذبه؛ لذلك قالوا: {قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ}(17/10564)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
{أَرْجِهْ} [الشعراء: 36] من الإرجاء وهو التأخير، أي: أخّره وأخاه لمدة {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36] ابعث رسلك يجمعون السَّحارين من أنحاء البلاد، ليقابلوا بسحرهم موسى وهارون. والمدائن: جمع مدينة.(17/10564)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
وقال {سَحَّارٍ} [الشعراء: 37] بصيغة المبالغة {عَلِيمٍ} [الشعراء: 37] أي: بفنون السِّحْر وألا عيب السَّحَرة.(17/10564)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
الميقات: أي الوقت المعلوم، وفي آية أخرى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59] وكان يوماً مشهوداً عندهم، ترتدي في الفتيات أبهى حُلَلها، وكان يوم عيد يختارون فيه عروس النيل التي سيُلْقونها فيه، فحدد اليوم، ثم لم يترك اليوم على إطلاقه، إنما حدد من اليوم وقت الضحى {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} [طه: 59] .(17/10564)
وفي لقطة أخرى حدد المكان، فقال: {مَكَاناً سُوًى} [طه: 58] يعني: فيه سوائية، إما باستواء المكان حتى يتمكّن الجميع من رؤية هذه المباراة السحرية، بحيث تكون في ساحة مستوية الأرض، أو يكون مكاناً سواسية متوسطاً بين المدائن التي سيجمع منها السحرة، بحيث لا يكون متطرفاً، يشقّ على بعضهم حضوره.
وهكذا تتكاتف اللقطات المختلفة لترسم الصورة الكاملة للقصة.
ونرى في هذه المشورة حِرْصَ الملأ على إتمام هذا اللقاء، وأن يكون على رؤوس الأشهاد، لأنهم يعلمون أنها ستكون لصالح موسى، وسوف يفضح هذا اللقاءُ كذبَ فرعون في ادعائه الألوهية.(17/10565)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
أي: أخذوا يدعُون الناس، وكأنهم في حملة دعاية وتأييد، إما لموسى من أنصاره الكارهين لفرعون في الخفاء، وإما لفرعون، فكان هؤلاء وهؤلاء حريصين على حضور هذه المباراة.
إننا نشاهد الجمع الغفير من الجماهير يتجمع لمشاهدة مباراة في كرة القدم مثلاً، فما بالك بمباراة بين سحرة مَنْ يدَّعي الألوهية وموسى الذي جاء برسالة جديدة يقول: إن له إلهاً غير هذا الإله؟ إنه حَدَثٌ هَزَّ الدنيا كلها، وجذب الجميع لمشاهدته.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ السحرة}(17/10565)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
فانظر إلى مسيرة الإله فرعون في رعيته، فالإله الحق يُطْعِم ولا يُطْعم، ويجير ولا يُجَار عليه، الإله الحق يُعطي ولا يأخذ، ولما اجتمع السحرة وهم أبطال هذه المباراة، ويعلمون مدى حاجة فرعون إليهم في هذا الموقف؛ لذلك بادروا بالاتفاق معه والاشتراط عليه: إنْ كنت تُسخِّر الناس في خدتمك دون أجر، فهذه المسألة تختلف، ولن تمر هكذا دون أجر.
وهذا دليل على معرفتهم بفرعون، وأنه رجل (أَكَلْتى) ، لذلك اشترطوا عليه أجراً إنْ كانوا هم الغالبين، ولا ندري فربما جاء آخر يهدد هذه الألوهية، فنحن ندخركم لمثل هذا الموقف.(17/10566)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
هنا يتنازل فرعون عن تعاليه وكبريائه ويذعن لشروط سَحرته، بل ويزيدهم فوق ما طلبوا {وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين} [الشعراء: 42] فسوف تكونون من خاصتنا، نستعين بكم في مثل هذه الأمور، ولا نستغني عنكم؛ لأنكم الذين حافظتم على باطل ألوهيتنا.(17/10566)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
هنا كلام محذوف، نعرفه من سياق القصة؛ لأن الآية السابقة كان الكلام ما يزال بين فرعون والسحرة، والقرآن يحذف بعض الأحداث اعتماداً على فِطْنة السامع أو القارىء، كما قلنا في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان، حيث قال له: {اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] .(17/10566)
ثم قال بعدها: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] وحذف ما بين هذين الحدثيْن مما نعلمه نحن من السياق.
وقوله: {أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} [الشعراء: 43] هذه هي الغاية التي انتهى إليها بعد المحاورة مع السحرة.(17/10567)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
فكانت العصىّ والحبال هي آلات سحرهم {وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} [الشعراء: 44] بعزة فرعون: هذا قسمهم، وما أخيبه من قسم؛ لأن فرعون لا يُغلَب ولا يُقهر في نظرهم، وسبق أن أوضحنا أن العزة تعني عدم القهر وعدم الغلبة، لكن عزة فرعون عزة كاذبة وأنفة وكبرياء بلا رصيد من حق، وعزة بالإثم كالتي قال الله عنها: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} [البقرة: 206] .
وقال تعالى: {ص والقرآن ذِي الذكر بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 12] أي: عزة بإثم، وعزة بباطل.
ومنه أيضاً قوله تعالى عن المنافقين: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] فصدّق القرآن على قولهم(17/10567)
بأن الأعزَّ سيُخرج الأذلّ، لكن {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] .
وما دام الأمر كذلك فأنتم الأذّلة، وأنتم الخارجون، وقد كان.
ويقال: إن أدوات سحرهم وهي العصيّ والحبال كانت مُجوفة وقد ملئوها بالزئبق، فلما ألقوها في ضوء الشمس وحرارتها أخذتْ تتلاعب، كأنها تتحرك، وهذا من حيل السَّحَرة وألاعيبهم التي تُخيِّل للأعين وهي غير حقيقية، فحقيقة الشيء ثابتة، أمّا المسحور فيخيل إليه أنها تتحرك.
ثم يقول الحق سبحانه: {فألقى موسى عَصَاهُ}(17/10568)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
ولم يَأْت إلقاء موسى عليه السلام لعصاه مباشرة بعد أن ألقى السحرة، إنما هنا أحداث ذُكِرتْ في آيات أخرى، وفي لقطات أخرى للقصة، يقول تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] .
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صنعوا إِنَّمَا صَنَعُواْ} [طه: 6769] .
هكذا كانت الصورة، فلما خاف موسى ثبَّته ربه، وأيّده بالحق وبالحجة، وتابعه فيما يفعل لحظةً بلحظة؛ ليوجهه وليُعدِّل سلوكه، ويشدّ على قلبه، وما كان الحق تبارك وتعالى ليرسله ثم يتخلى عنه، وقد قال له ربه قبل ذلك: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] فالحق سبحانه يعطي نبيه موسى الأوامر، ويعطيه الحجة لتنفيذها، ثم يتابعه بعنايته ورعايته.(17/10568)
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه نوح: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] .
فحينما تجمع هذه اللقطات تجدها تستوعب الحدث، ويُكمّل بعضها بعضاً، وهذا يظنه البعض تكراراً، وليس هو كذلك.
إذن: جاء إلقاء موسى لعصاه بعد توجيه جديد من الله أثناء المعركة: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه: 69] وهنا: {فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] ومعنى {تَلْقَفُ} [الشعراء: 45] تبتلع وتلتهم في سرعة وقوة، أما السرعة واختصار الزمن والقوة، فتدل على الأخذ بشدة وعُنْف، وفي هذا دليل على أنه خاض المعركة بقوة، فلم تضعف قوته لما رأى من ألاعيب السَّحَرة.
ومعنى {مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء: 45] من الإفك يعني: قلْب الحقائق؛ لذلك سَمَّوْا الكذب إفْكاً؛ لأنه يقلب الحقيقة ويُغير الواقع.
ومنها {والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] وهي القرى الظالمة التي أهلكها الله، فجعل عاليها سافلها.
وسبق أن أوضحنا أن الكذب وقَلْب الحقائق يأتي من أنك حين تتكلم، فللكلام نِسَبٌ ثلاث: نسبة في الذِّهْن، ونسبة على اللسان، ونسبة في الواقع. فإنْ طابقتْ النسبةُ الكلامية الواقع، فأنت صادق، وإنْ خالفتْه فأنت كاذب.(17/10569)
وسَمَّى ما يفعله السحرة إفكاً؛ لأنهم يُغيِّرون الحقيقة، ويُخيِّلون للناس غيرها.(17/10570)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
لم يقُل الحق سبحانه: فسجد السحرة، إنما {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46] والإلقاء يدل على سرعة الاستجابة، وأن السجود تَمَّ منهم دون تفكير؛ لأنه أمر فوق إرادتهم، وكأن جلال الموقف وهيبته وروعة ما رَأوْا ألقاهم على الأرض ساجدين لله، صاحب هذه الآية الباهرة؛ لذلك لم يقولوا عندها آمنَّا بربِّ موسى وهارون، إنما قالوا: {قَالُواْءَامَنَّا بِرَبِّ العالمين}(17/10570)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
وحين نتأمل ردَّ فِعْل السحرة هنا نجد أنهم خرُّوا لله ساجدين أولاً، ثم أعلنوا إيمانهم ثانياً، ومعلوم أن الإيمان يسبق العمل، وأن السجود لا يتأتي إلا بعد إيمان، فكيف ذلك؟
قالوا: هناك فَرْق بين وقوع الإيمان، وبين أنْ تخبر أنت عن الإيمان، فالمتأخر منهم ليس الإيمان بل الإخبار به؛ لأنهم ما سجدوا إلا عن إيمان واثق ينجلي معه كل شكٍّ، إيمان خطف ألبابهم وألقاهم على الأرض ساجدين لله، حتى لم يمهلهم إلى أنْ يعلنوا عنه، لقد أعادهم إلى الفطرة الإيمانية في النفس البشرية، والمسائل الفطرية لا علاجَ للفكر فيها.(17/10570)
وكأن سائلاً سألهم: لِمَ تسجدون؟ قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ العالمين رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 4748] .
وقالوا: ربّ موسى وهارون بعد رب العالمين، ليقطعوا الطريق على فرعون وأتباعه أن يقول مثلاً: أنا رب العالمين، فأزالوا هذا اللبْس بقولهم {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 48] .
ومثال ذلك قول بلقيس عندما رأت عرشها عند سليمان عليه السلام لم تقل: أسلمت لسليمان، إنما قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] فأنا وأنت مسلمان لإله واحد هو الله رب العالمين، وهكذا يكون إسلام الملوك، وحتى لا يظن أحد أنها إنما خضعتْ لسليمان؛ لذلك احتاطتْ في لفظها لتزيل هذا الشك.(17/10571)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
إذن: فهو لا يشك في أن ما رآه السحرة موجب للإيمان، ولا يُشَكّك في ذلك، لكن المسألة كلها {قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء: 49] فما يزال حريصاً على ألوهيته وجبروته، حتى بعد أن كُشِف أمره وظهر كذبه، وآمن الملأ بالإله الحق.
ثم أراد أنْ يبرر موقفه بين دهماء العامة حتى لا يقول أحد: إنه هزم وضاعت هيبته، فقال: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر} [الشعراء: 49] في حين أن القوم يعلمون أن موسى عليه السلام لم يجلس طيلة عمره إلى ساحر، لكن فرعون يأخذها ذريعة، لينقذ ما يمكن إنقاذه من مركزه الذي تهدّم، وألوهيته التي ضاعت.(17/10571)
ثم يُهدِّدهم بأسلوب ينمّ عن اضطرابه، وأنه فقد توازنه، اختلّ حتى في تعبيره، حيث يقول {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 49] وسوف تدل على المستقبل مع أنه لم يُؤخّر تهديده لهم بدليل أنه قال بعدها: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الشعراء: 49] {مِّنْ خِلاَفٍ} [الشعراء: 49] يعني: اليد اليمنى مع الرِّجْل اليُسْرى، أو اليد اليسرى مع الرِّجْل اليمنى.
وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ} [الشعراء: 49] أوضحه في آية أخرى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] .
فما كان جواب المؤمنين برب العالمين؟ {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ}(17/10572)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
أي: لا ضررَ علينا إنْ قتلتنا؛ لأن مصير الجميع إلى الموت، لكن إنْ كانت نهايتنا على يديك فوسف نسعد نحن بلقاء ربنا، وتَشْقى أنت بجزاء ربك. كالطاغية الذي قال لعدوه: لأقتلنك فضحك، فقال له: أتسخر مني وتضحك؟ قال: كيف لا أضحك من أمر تفعله بي يُسعدني الله به، وتشقى به أنت؟
إذن: لا ضررَ علينا إنْ قُتِلْنا؛ لأننا سنرجع إلى الله ربنا، وسنخرج من ألوهية باطلة إلى لقاء الألوهية الحقة، فكأنك فعلتَ فينا جميلاً، وأسديتَ لنا معروفاً إذْ أسرعتَ بنا إلى هذا اللقاء، وما تظنه في حقنا شَرٌّ هو عين الخير، لذلك فَهِم الشاعر هذا المعنى، فقال عنه:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلى أَيِّ جَنْبٍ كانَ في اللهِ مَصْرعي(17/10572)
يعني: ما دُمْتُ قد مُتُّ في سبيل الإسلام، فلا يُهم بعد ذلك، ولا أبالي أيّ موتة هي.
والمؤمنون هنا حريصون على أمرين: الأول: نَفْي الضرر؛ لأن دَرْء المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصحلة، والثاني: التأكيد على النفع الذي سينالونه من هذا القتل.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ}(17/10573)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
لأنك أكرهتنا على السحر، وحملْتنا على الكذب، ومكثنا عمراً نعتقد أنك إله، فلعلَّ مبادرتنا إلى الإيمان وكوْننا أولَ المؤمنين يشفع لنا عند ربنا، فيغفر لنا خطايانا، وفي موضع آخر: {إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} [طه: 73] .
فذكر هناك مسألة الإكراه، وذكر هنا العلة: {أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين} [الشعراء: 51] .(17/10573)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
قلنا: الوحي لغةَ: إعلام بخفاء، وشرعاً: إعلام من الله لرسول من رسله بمنهج خير لخَلْقه.(17/10573)
ومن الوحي المطلق قوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً} [النحل: 68] .
وقوله سبحانه: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] .
وقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] .
فالوحي العام إذن لا نسأل عن الموحِي، أو الموحَى إليه، أو موضوع الوحي، فقد يكون الوحي من الشيطان، والموحَى إليه قد يكون الأرض أو الملائكة أو الحيوان، على خلاف الوحي الشرعي، فهو محدد ومعلوم.
لقد قام فرعون بحملة دعاية لهذه المعركة مع موسى عليه السلام وحشد الناس لمشاهدة هذه المباراة، وهذا دليل على أنه قدَّر أنه سيغَلِب، لكن خيَّب الله ظنه، وكانت الجولة لمصلحة موسى عليه السلام، فآمن السحرة بالله تعالى رب موسى وهارون، فأخذ يهددهم ويتوعدهم، وهو يعلم أنَّ ما رأوْه من الآيات الباهرات يستوجب الإيمان.
ومع ذلك لما غُلِب فرعون وضاعتْ هيبته وجباريته وقاهريته سكت جمهور الناس، فلم ينادوا بسقوطه، واكتفوا بسماع أخبار موسى، وظل هذا الوضع لمدة طويلة من الزمن حدث فيها الآيات التسع التي أنزلها الله ببني إسرائيل.
ومن غباء فرعون أن ينصرف عن موسى بعد أن أصبح له أتباع وأنصار، ولم يحاول التخلص منه حتى لا يزداد أتباعه وتقوى(17/10574)
شوكته، فكأن مسألة الآيات التسع التي أرسلها الله عليهم قد هَدَّتْ كيانه وشغلته عن التفكير في آمر موسى عليه السلام.
وهكذا استشرى أمر موسى وأصبحت له إغلبية وشعبية، حتى إن الأقباط أتباع فرعون كانوا يعطفون على أمر موسى وقومه؛ لذلك استعاروا من القبط حُليَّ النساء قبل الخروج مع موسى، ومن هذه الحلي صنع السامري العجل الذي عبدوه فيما بعد.
وهنا يقول تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بعبادي إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} [الشعراء: 52] وقبل ذلك نبَّهه ربه للخروج بعد أن قتل الرجل: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فاخرج إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين} [القصص: 20] .
أما الآن، فالمؤامرة عليه وعلى مَنْ معه من المؤمنين.
ومعنى {أَسْرِ} [الشعراء: 52] الإسراء: المشي ليلاً {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} [الشعراء: 52] يعني: سيتبعكم جنود فرعون ويسيرون خلفكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي المدآئن}(17/10575)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
الفاء هنا للتعقيب، فوَحْى الله لموسى أن يَسْري ببني إسرائيل تَمَّ قبل أن يبعثَ فرعون في المدائن حاشرين، وكأن الله تعالى يحتاط لنبيه موسى ليخرج قبل أن يهيج فرعونُ الناسَ، ويجمعهم ضد موسى ويُجري لهم ما نسميه نحن الآن (غسيل مخ) ، أو يعلن على موسى وقومه حرب الأعصاب التي تؤثر على خروجهم.
و {حَاشِرِينَ} [الشعراء: 53] من الحشر أي: الجمع، لكن جمع هذه المرة للجنود لا للسحرة، لأنهم هُزِموا في مُباراة السحرة، فأرادوا أنْ يستخدموا سلاحاً آخر هو سلاح الجبروت والتسلُّط والحرب العسكرية، فإنْ فشلت الأولى فلعلّ الأخرى تفلح، لكن الحق تبارك وتعالى أخبر نبيه موسى بما يُدبِّر له وأمره بالخروج ببني إسرائيل.
وقَوْل فرعون عن أتباع موسى: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] يريد أن يُهوِّن من شأنهم ويُغري قومه بهم، ويُشجِّعهم على مواجهتهم، لكن مع ذلك يُحذِّرهم من خطرهم، فيقول {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ} [الشعراء: 55] فأَعِدُّوا لهم العدة، ولا تستهينوا بأمرهم.(17/10576)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
يعني: لا بُدَّ أن نأخذ حذرنا ونحتاط للأمر.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ}(17/10576)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
أي: لم ينفعه احتياطه، ولم يُجْدِ حذره، فلا يمنع حَذَر من قَدَر {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ} [الشعراء: 57] أي: بساتين وحدائق {وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] أي: عيون تجري بالماء {وَكُنُوزٍ} [الشعراء: 58] كانت عندهم {وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 58] يعني: عيشة مُتْرفة في سَعَةٍ ورَغَدٍ من الحياة، وخدَم وحَشَم.
ثم يقول الحق سبحانه: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ}(17/10577)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
{كَذَلِكَ} [الشعراء: 59] أي: الأمر كما أقول لكم وكما وصفتُ {وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] أي: أورثنا هذا النعيم من بعدهم لبني إسرائيل، وهنا قد يسأل سائل: كيف وقد ترك بنو إسرائيل مصر وخرجوا منها، ولم يأخذوا شيئاً من هذا النعيم؟
قالوا: المعنى أورثهم الله أرضاً مثلها، قد وعدهم بها في الشام.(17/10577)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
أي: عند الشروق، وعادةً ما تكون الغارة على الجيش عند الصباح، ومن ذلك قوله تعالى:
{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177] .
وعادةً ما يقوم الإنسان من النوم كسولاً غير نشيط، فكيف بمَنْ هذه حاله إِن التقى بعدوه؟(17/10577)
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا تراءا الجمعان}(17/10578)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
معنى: {تراءا الجمعان} [الشعراء: 61] أي: صار كل منهما يرى الآخر، وحدثتْ بينهما المواجهة، وعندها {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] فالحال أن البحر من أمامهم وجنود فرعون من خلفهم، فلا مناصَ ولا مهرب، لكن موسى عليه السلام وقد سبق أن تعلم كلمة (كلا) من ربه تعالى، حينما قال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] فردّ عليه ربه: {كَلاَّ} [الشعراء: 62] عندها تعلَّمها موسى، وعرف كيف ومتى يقوله قَوْلةَ الواثق بها.(17/10578)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
لكن كيف يقول موسى عليه السلام هذه الكلمة (كلا) بملء فِيهِ، والأمر بقانون الماديات أنه عُرْضة لأنْ يُدْرَك قبل أن يكملها؟
والإجابة في بقية الآية: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فلم يقُلْ موسى: كَلاّ اعتماداً على قوته واحتياطه للأمر، إنما قالها اعتماداً على ربه الذي يكلؤه بعينه، ويحرسه بعنايته.
فالواقع أنني لا أعرف ماذا أفعل، ولا كيف أتصرف، لكن الشيء الذي أثق منه {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] لذلك يأتي الفرج والخلاص من هذا المأزق مباشرة: {فَأَوْحَيْنَآ إلى موسى}(17/10578)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
ذلك لأن البحر هو عائقهم من أمامهم، والبحر مياه لها قانونها الخاص من الاستطراق والسيولة، فلما ضرب موسى بعصاه البحر انفلق وانحصر الماء على الجانبين، كل فِرْقٍ أي: كل جانب كالطودْ يعني الجبل العظيم.
لكن بعد أن صار الماء إلى ضِدِّه وتجمّد كالجبل، وصنع بين الجبلين طريقاً، أليس في قاع البحر بعد انحسار الماء طين ورواسب وأوحال وطمي يغوص فيها الإنسان؟
إننا نشاهد الإنسان لا يكاد يستطيع أن ينقل قدماً إذا سار في وحل إلى ركبتيه مثلاً، فما بالك بوحْل البحر؟
لذلك قال له ربه: {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] .
فالذي جعل الماء جبلاً، سيجعل لك الطريق يابساً.
والحق تبارك وتعالى لم يُبيِّن لنا في انفلاق البحر، إلى كَمْ فلقة انفلق، لكن العلماء يقولون: إنه انفلق إلى اثنتي عشرة فلقة بعدد الأسباط، بحيث يمر كل سَبْط من طريق.
وفي لقطة أخرى من القصة أراد موسى عليه السلام أنْ يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى طبيعته، فيسُدُّ الطريق في وجه فرعون وجنوده على حَدِّ تفكيره كبشر، لكن الحق تبارك وتعالى نهاه عن ذلك: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 2324] .(17/10579)
اتركه على حاله ليُغري الطريق اليابس فرعون وجنوده، لذلك قال سبحانه: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين}(17/10580)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
أي: قرّبناهم من منتصف البحر، ثم أطبقه الله عليهم حين أمر الماء أن يعود إلى سيولته وقانون استطراقه، وهكذا يُنجِّي الله ويُهلِك بالشيء الواحد و {الآخرين} [الشعراء: 64] يعني: قوم فرعون، و {ثَمَّ} [الشعراء: 64] أي: هناك وسط البحر.
وللعصا مع موسى عليه السلام تاريخ طويل منذ أن سأله ربه {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 17] فأخبر بما يعرفه عنها {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] .
وقوله {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] لا تعني كما يظن البعض أنها مجرد الإشارة بها إلى الغنم أو ضربها، فأهشُّ تعني أضرب بها أوراقَ الشجر لتتساقط، فتأكلها الأغنام الصغار التي لا تطول أوراقَ الشجر، أو الكبار التي أكلتْ ما طالته أعناقها وتحتاج المزيد.
ولما وجد موسى نفسه قد أطال في هذا المقام قال {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] كأنْ أدافع بها عن نفسي ليلاً، إنْ تعرَّض لي كلب أو ذئب مثلاً، أو أغرسها في الأرض وأُلقي عليها بثوبي لأستظلَّ به وقت القيلولة، أو أجعلها على كتفي وأُعلِّق عليها متاعي حين أسير. . الخ.
هذه مهمة العصا كما يراها موسى عليه السلام لكن للعصا مهمة أخرى لا يعلمها، فهي حُجّته وآية من الآيات التي أعطاه الله،(17/10580)
فبها انتصر في معركة الحجة مع السَّحَرة، وبها انتصر في معركة السلاح حين ضرب بها البحر فانفلق.
ومن العجيب في أمر العصا أن يضرب بها البحر، فيصر جبلاً، ويضرب بها الحجر فينفجر بالماء، وهذه آيات باهرات لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ.
لذلك جعلوا عصا موسى حجة ودليلاً وعَلَماً على الانتصار في كل شيء، فلما كان الخصيب والياً على مصر، وتمرد عليه بعض قُطَّاع الطرق، وكانت لديه القوة التي قهرهم بها، لذلك قال:
فَإِنْ يَكُ بَاقٍ إِفْكُ فِرْعوْنَ فيكُمْ ... فَإنَّ عَصَا مُوسَى بكَفِّ خَصِيبِ
وفي هذا المعنى يقول شاعر آخر:
إذَا جَاءَ مُوسَى وأَلْقَى العَصَا ... فَقَدْ بَطُلَ السِّحْرُ والسَّاحِرُ
إذن: صارتْ عصا موسى عليه السلام مثَلاً وعَلَماً للغَلبة في أيِّ مجال من مجالات الحياة.(17/10581)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65)
فقد حُسِمتْ هذه المعركة لصالح موسى ومَنْ معه دون إراقة دماء، ودون خسارة جندي واحد، في حين أن المعارك على فرض الانتصار فيها لا بُدَّ أن تكون لها نسبة خسائر في الأرواح وفي العَتَاد، أما هذه فلا.(17/10581)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
أي: بنفس السبب الذي أنجى الله به موسى وقومَه أهلك فرعون وقومه؛ لأنه وحده سبحانه القادر على أن يُنجِي، وأنْ يُهلِك بالشيء الواحد.(17/10582)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
قوله سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 67] أي: فيما حدث {لآيَةً} [الشعراء: 67] وهي الأمر العجيب الذي يخرج عن المألوف وعن العادة، فيثير إعجاب الناس، ويستوجب الالتفات إليه والنظر فيه، والآية تُقنِع العقل بأن الله هو مُجْريها على يَدَيْ موسى، وتدل على صِدْق رسالته وبلاغة عن الله، وإلا فهي مسألة فوق طاقة البشر.
ومع ذلك {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 67] أي: أن المحصلة النهائية للذين آمنوا كانوا هم القلة مع هذه الآيات، حتى الذين آمنوا مع موسى عليه السلام واتبعوه وأنجاهم الله من آل فرعون ومن الغرق، سرعان ما تراجعوا وانتكسوا، كما يحكي القرآن عنهم:
{وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] .
سبحان الله، لقد كفروا بالله، وما تزال أقدامهم مُبتلَّة من عبور البحر، وما زالوا في نَشوة النصر وفرحة الغلبة!!(17/10582)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
أي: بعد ما مرّ من حيثيات فإن الله تعالى هو العزيز، أي: الذي(17/10582)
لا يُغلَب ولا يُقهَر، إنماهو الغالب وهو القاهر، فهو سبحانه يغلِب ولا يُغلب، ويُطعِم ولا يُطعَم، ويُجير ولا يُجار عليه. ومع عِزته سبحانه وقوته بحيث يغلب ولا يُغلب هو أيضاً {الرحيم} الشعراء: 68] لأنه رب الخَلْق أجمعين، يرحمهم إنْ تابوا، ويقبلُهم إنْ رجعوا إلى ساحته، كما جاء في الحديث الشريف:
«لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» .(17/10583)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
جاءت هذه الآية بعد الانتهاء في إيجاز مُبسّط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون، وخُتمت بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 6768] .
ثم تكلم الحق سبحانه عن نبيه إبراهيم عليه السلام {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] مما يدل على أن المسألة في القرآن ليست سَرْداً للتاريخ، فإبراهيم كان قبل موسى، ولو أردنا التأريخ لجاءت قصة إبراهيم أولاً، إنما الهدف من القصص في القرآن التقاط مواضع العِبْرة والعِظَة واتخاذ الأُسوة من تاريخ الرسل، ليُثبِّت الله بها فؤاد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما يواجه الأحداث الشاقة والعصيبة.
والمتأمل في رسالة موسى ورسالة إبراهيم عليهما السلام(17/10583)
يجد أن موسى جاء ليعالج مسألة هي قمة العقيدة، ويواجه مَنِ ادّعى الألوهية وقال: إني إله من دون الله، أما إبراهيم فقد عالج مسألة الشرك مع الله وعبادة الأصنام، فعندهم طَرَف من إيمان، بدليل أنهم إذا ضيّقنا عليهم الخناق قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .
لذلك كانت قصة موسى أَوْلَى بالتقديم هنا.
ومعنى: {واتل عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 69] أي: اقرأ، أو وضِّح، أو عبِّر، ونقول للقراءة (تلاوة) لأنه لا يُتلَى إلا المكتوب المعلوم المفهوم {عَلَيْهِمْ} [الشعراء: 69] على أمة الدعوة كلها، أَمْ على المكذبين خاصة؟
قالوا: على المكذِّبين خاصة؛ لأن المصدِّقين برسول الله لا يحتاجون هذه التلاوة، وإنْ تُليَتْ عليهم فإنما التلاوة للتذكرة أو لعلم التاريخ. إذن: المراد هنا المكذِّبون المنكرون ليعلموا أن نهاية كل رسل الله في دعوتهم النصر والغلبة، وأن نهاية المكذبين المخالفين الهزيمة والاندحار.
فكأن القرآن يقول لهم: لا تغتروا بقوتكم، ولا بجاهكم، ولا تنخدعوا بسيادتكم على العرب، ومعلوم أن مكانة قريش بين العرب إنما أخذوها من خدمة بيت الله الحرام، وما أَمِنُوا في طرق تجارتهم إلاَّ بقداسة بيت الله وحُرْمته.
ولولا البيت ما كان لقريش كل هذه المكانة، بدليل قوله تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف} [قريش: 12] .
ولو انهدم البيت في قصة الفيل ما كان لقريش سيادة ولا سيطرة(17/10584)
على الجزيرة العربية، وما دام أن الله تعالى فعل معهم هذا {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 34] .
ومعنى {نَبَأَ} [الشعراء: 69] أي: الخبر الهام الذي يجب أنْ يُقال، ويجب أنْ يُنصتَ له، وأنْ تُؤخَذ منه عِبْرة وعِظة، فلا يُقال (نبأ) للخبر العادي الذي لا يُؤبَهُ له.
ولو تتبعتَ كلمة (نبأ) في القرآن لوجدتها لا تُقَال إلا للأمر الهام، كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 12] .
وقوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام والهدهد:
{وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] .
إذن: {نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء: 69] يعني: الخبر الهام عنه. وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذي مدحه ربه مدحاً عظيماً في مواضع عدة من القرآن، فقال الحق سبحانه عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120] .
والأمة لا تُطلَق إلا على جماعة تنتسب إلى شيء خاص، ويجمعهم مكان وزمان وحال. كذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد أضفى الله عليه كمالات من صفات كماله لا يستطيع بشر أن يتحملها.
لذلك جاء في الحديث الشريف: «الخير فِيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة» .(17/10585)
الخير فيَّ حصراً، الخير على عمومه، وفي كل جوانب شخصيته: داعيةً وأباً وزوجاً. . الخ وخصال الخير من شجاعة، وحِلْم، وعِلْم، وكرم. . ألخ. وكذلك الخير في أمتي منثورٌ بين أفرادها، يأخذ كل منهم من الخير بطرف، وله منه نصيب، لكن لا أحدَ يستطيع أن يجمع الكمال المحمدي أبداً، ولا أن يتصف به.
كذلك كان سيدنا إبراهيم عليه السلام (أمة) ؛ لأن خصال الخير تُوزَّع على أفراد الأمة: هذا ذكى، وهذا حليم، وهذا عالم، وهذا حكيم. . الخ أما إبراهيم عليه السلام فقد جمع من الخير ما في أمة بأكملها، وهذا ليس كلاماً يُقَال في مدح نبي الله إبراهيم، إنما من واقع حياته العملية.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى عن إبراهيم: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] .
وحَسْب إبراهيم عليه السلام من الخير هذه الدعوة: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129] .
فكان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعوة أبيه إبراهيم.(17/10586)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
فأول دعوته كانت لأبيه، وأقرب الناس إليه لا للغريب، والدعوة التي توجه أولاً للقريب لا بُدَّ أنها دعوة حَقٍّ ودعوة خير؛ لأن الإنسان يحب الخير أولاً لنفسه، ثم لأقرب الناس إليه، ولو كانت في خيريتها شَكٌّ لقصد بها الغرباء والأباعد عنه.
والمراد بأبيه هو (آزر) الذي ورد ذكره في موضع آخر.(17/10586)
وسؤاله لأبيه وقومه {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 70] سؤال استهجان واستنكار، وسؤال استدلال ليظهر لهم بطلان هذه العبادة؛ لأن العبادة أنْ يطيعَ العابدُ المعبودَ فيما أمر وفيما نهى، فالذين يعبدون الأصنام بماذا أمرتهم وعمَّ نهتهم؟
إذن: فهي آلهة دون منهج، وما أسهلَ أن يعبد الإنسان مثل هذا الإله الذي يأمره بشيء، ولا ينهاه عن شيء، وكذلك هي آلهة دون جزاء ودون حساب؛ لأنها لا تثيب مَنْ أطاعها، ولا تعاقب مَنْ عصاها.
إذن: فكلمة عباده هنا خطأ، ومع ذلك يُسمِّيها الناس آلهة، لماذا؟ لأن الإله الحق له أوامر لا بُدَّ أن تُنفّذ، وإنْ كانت شاقة على النفس، وله نواهٍ لا بُدَّ أن تترك وإنْ كانت النفس تشتهيها، فهي عبادة شاقة، أما عبادة الأصنام فما أسهلها، فليس عندها أمْر ولا نَهْي، وليس عندها منهج يُنظِّم لهم حركة الحياة؛ لذلك تمسَّك هؤلاء بعبادة الأصنام، وسمَّوْها آلهة، وهذا خبل واضح.
كما أن الإنسان في مجال العبادة إذا عزَّتْ عليه أسباب الحياة وأعْيَتْه الحيل، أو خرجت عن طاقته، عندها يجد له رباً يلجأ إليه، ويستعين به فيقول: يا رب. فماذا عن عابد الأصنام إذا تعرَّض لمثل هذه المسائل؟ هل يتوجه إليها بالدعاء؟ وهَبْ أنه يدعو إنساناً مثله يمكن أنْ يسمعه أيستجيبُ له؟
لذلك يقول سبحانه: {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 7173] .
إذن: فعبادة غير الله حُمْق وغباء.(17/10587)
لكن هذا البحث من إبراهيم، وهذا الجدل مع أبيه وقومه، أكان بعد الرسالة أم قبلها؟ قالوا: إن إبراهيم عليه السلام كان ناضجاً مُتفتِّحاً منذ صِغَره، وكان مُنكراً لهذه العبادة قبل أن يُرسَل، لذلك قال الله عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] .
وكذلك كان نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل بعثته كارهاً للأصنام، معترضاً على عبادتها، يتعجب حين يرى قومه يعبدونها، وقد رأى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحد الآلهة وقد كُسر ذراعه فاستعانوا بمَنْ يُصلح ذراع الإله، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتعجَّب لما يرى: العابد يصلح المعبود؟ بعدها اعتزلهم رسول الله، ولجأ إلى الغار يفكر في الإله الحق والمعبود الحق.
فكأن أيَّ دين يأمر الله به لو تفكَّر فيه الإنسان برشد لانتهى إلى الحق بدون رسول؛ لأن دين الله هو دين الفطرة السليمة، فإنْ توفَّرت لدى الإنسان هذه الفطرة اهتدى بها إلى الحق.
بدليل ما كان يحدث من عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان يُحدث رسول الله بالأمر، فتتنزل به الآيات من عند الله، وقد وافقتْ الآيات رأيه في أكثر من موقف، وقد أقرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك ليبين لنا أن العقل السليم والفطرة المستقيمة يمكن أنْ ينتهيا إلى قضايا الدين دون رسول.(17/10588)
وتستطيع أنت أنْ تعرض أيَّ قضية من قضايا الدين على العقل السليم، وسوف تجد أنها طيبة وجميلة توافق الذَّوْق السليم والتفكير السويّ، فالكذب مثلاً خُلُق يأباه العقل ويأباه الدين، وكذلك الرشوة؛ لأنك بها تأخذ ما ليس لك، وقد يُسلِّط عليك رَاشٍ، فيأخذ منك حقك، كما أخذتَ أنت حقوق الناس.
ولو تأمل العقل مثلاً تحريم النظر إلى المحرمات، لوجد أن الدين قيَّد نظرك وأنت فرد، وقيَّد من أجلك نظر الناس جميعاً، فكما طلب منك طلب لك، وكذلك الأمر في تحريم السرقة والقتل. . إلخ.
وقد سُئلْنا في إحدى الرحلات عن قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] ومرة يقول: {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة: 33] ومرة يقول: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32] .
يقولون: وبعد أربعة عشر قرناً، والمسلمون في الكون أقلية، ولم يظهر الدين على الدين كله، فكيف إذن نفهم هذه الآية؟
فقلتُ للسائل: لو فهمتَ الآية السابقة لعرفتَ الجواب: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} [التوبة: 32] .
فالمعنى: أن الدين سيظهر في وجود الأديان الأخرى، وليس المراد أن هذه الأديان ستزول، ولن يكون لها وجود، بل هي موجودة، لكن يظهر عليها الإسلام ظهور حجة، بدليل ما نراه من هجمات على الإسلام وأحكامه وتشريعاته، كما في مسألة الطلاق مثلاً، أو مسألة تعدُّد الزوجات وغيرها. وبعد ذلك تُلجِئهم الحياة الاجتماعية إلى هذه التشريعات، ولا يجدون غيرها لحل مشاكلهم.(17/10589)
ولما قامت الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917 أول ما شرَّعوا منعوا الربا الذي كان جائزاً عندهم، لقد منعوا الربا مع أنهم غير مسلمين، لكن مصالحهم في ذلك، فهذه وأمثالها غلبة لدين الله وظهور له على كل الأديان.
وليس معنى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أن يصير الناس جميعاً مؤمنين، لا، إنما يظل كُلٌّ على دينه وعلى شِرْكه أو كفره، لكن لا يجد حلاً لقضاياه إلا في الإسلام، وهذا أوقع في ظهور الدين.
ثم يقول الحق سبحانه عن قوم إبراهيم في ردِّهم على إبراهيم عليه السلام: {قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً}(17/10590)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
إذن: شهد شاهد من أهلها، وقالوا بأنفسهم {نَعْبُدُ أَصْنَاماً} [الشعراء: 71] والعبادة طاعة، فماذا قالت لهم الأصنام؟ وبماذا أمرتهم؟ طبعاً، ليس عندهم جواب.
وليت الأمر يقف عند العبادة، إنما {فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71] أي: قائمين على عبادته ليلَ نهار، نعم ولكم حق؛ لأنها آلهة دون تكليف، وعبادة بلا مشقة وبلا التزام، إنها بلطجة تأخذون فيها حظَّ أنفسكم، وتفعلون معها ما تريدون.
لكن، كيف جادلهم إبراهيم عليه السلام؟ وبم رَدَّ عليهم؟(17/10590)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
فالأصنام لا تسمع مَنْ توجّه إليها بالدعاء، ولا تنفع مَنْ عبدها، ولا تضر مَنْ كفر بها؛ لذلك لم يجدوا رداً، وحاروا جواباً، ولم يجدوا حُجّة إلا أن قالوا:
{قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ}(17/10591)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
إذن: أنتم لم تُحكِّموا عقولكم في هذه المسألة، كما قالوا في موضع آخر: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .
ونقول لهم: ومتى ظللتم على تقليد آبائكم فيما يفعلون؟ إنكم لو أقمتُم على تقليد الآباء ما ارتقيتم في حياتكم أبداً، فلماذا إذن تحرصون على التقليد في هذه المسألة بالذات دون غيرها.(17/10591)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
يقول إبراهيم عليه السلام: لا تلقوا بالمسألة على الآباء، وتُعلِّقوا عليهم أخطاءكم، ثم يعلنها صريحة متحدية كأنه يقول لهم: الحمرة في خيلكم اركبوها.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] وكلمة عدو جاءت مفردة مع أنها مسبوقة بضمير جمع وتعود على جمع {فَإِنَّهُمْ} [الشعراء: 77] ومع ذلك لم يقل: أعداء لي. قالوا: لأن العداوة في أمر الدين واحدة على خلاف العداوة في أمر الدنيا؛ لأنها متعددة الأسباب، كما جاء في قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103] .
فجاءت: {أَعْدَآءً} [آل عمران: 103] هنا جمع؛ لأنها تعود على(17/10591)
عداوة الدنيا، وهي متعددة الأسباب، أمّا العداوة في الدين فواحدة على قلب رجل واحد.
ومن ذلك ما قلناه في سورة النور عند قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] .
كلها بصيغة الجمع إلا في {صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] جاءت بصغية المفرد؛ لأن الصداقة الحقة هي ما كانت لله غير متعددة الأغراض، فهي إذن لا تتعدد.
وفي إعلان إبراهيم لعداوته لهذه الأصنام تحدٍّ لهم: فها أنا ذا أعلن عداوتي لهم، فإنْ كانوا يقدرون على مضرّتي فليفعلوا. وبعد أن أعلن إبراهيم عليه السلام عداوته للأصنام نجحت دعوته، وظل إبراهيم هو إبراهيم لم يُصبْه شيء.(17/10592)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
كأن الحق تبارك وتعالى يقول لهم: يا أغبياء، اعلموا أن للعبادة أسباباً وحيثيات. ويوضح إبراهيم عليه السلام حيثيات عبادة ربه عزَّ وجل فيقول: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] أي: خلقني من عدم، وأمدَّني من عُدْم، وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي، ويضمن سلامتي حيث كلَّفني بشرعه: افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو سبحانه لا ينتفع بشيء من هذا، بل النفع يعود علينا نحن، وهل فعلتْ الأصنام لكم شيئاً من هذا؟ إذن: فهو واحده المستحق للعبادة.(17/10592)
وقوله سبحانه {فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] أي: بقانون الصيانة الذي يشبه (الكتالوج) الذي يجعله البشر لصناعتهم؛ ليضمنوا سلامتها وأدائها لمهمتها على أكمل وجه، ولا بُدَّ أن يحدِّد لها المهمة قبل أنْ يَشرَع في صناعتها، وهل رأينا آلةَ صنعها صاحبها، ثم قال لنا: انظروا في أيِّ شيء تستخدم هذه، (بوتاجاز) أو ثلاجة مثلاً؟
فإذا ما حدث خلل في هذه الآلة، فعليك بالنظر في هذا (الكتالوج) أو أن تذهب بها إلى المهندس المختص بها؛ لذلك إذا أردتَ أن تأخذ قانون صيانتك، فلا تأخذه إلا من صانعك وخالقك عَزَّ وَجَلَّ ولا يجوز أن يخلق الله تعالى وتضع أنت لخِلْقة الله قانون صيانتها، فهذا مِثْل: أن تقول للجزار مثلاً: اعمل لي قانون صيانة (التلفزيون) .
ثم يذكر بعد ذلك مُقوِّمات استبقاء الحياة، فيقول: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 7980] .
ونقف هنا عند الضمير المنفصل (هو) الذي جاء للتوكيد، والتوكيد لا يأتي ابتداءً، إنما يكون على درجات الإنكار، وقد أكّد الحق تبارك وتعالى نسبة الهداية والإطعام والسُّقْيا والشفاء إليه تعالى؛ لأن هذه المسائل الأربع قد يدعيها غيره تعالى، وقد يظن البعض أن الطبيب هو الشافي أو أن الأب مثلاً هو الرازق؛ لأنه الجالب له والمناول.
والهداية قد يدّعيها واضعوا القوانين من البشر، وقد رأينا الشيوعية والرأسمالية والوجودية والبعثية وغيرها، وكلها تدّعي أنها لصالح البشر، وأنها طريق هدايتهم؛ لذلك أكد الله تعالى لنفسه هذه المسألة {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] فالهداية لا تكون إلا من الله، وفي شِرْعته تعالى.(17/10593)
وقد تسأل في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ولماذا نذهب إلى الطبيب إذن؟ نقول: الطبيب يعالج، وهو سبب للشفاء، أمّا الشفاء فمن الله، بدليل أن الطبيب ربما يمرض، ويعجز هو عن شفاء نفسه، وقد يعطي المريض حقنة ويكون فيها حَتْفه.
وحين نُعرب: {مَرِضْتُ} [الشعراء: 80] نقول: مرض فعل ماضٍ والتاء فاعل، فهل أنا الذي فعلتُ المرض؟ وهذا مِثْل أن نقول: مات فلان، ففلان عامل مع أنه لم يحدث الموت؛ لذلك يجب أن نتنبه إلى أن الفاعل يعني مَنْ فعل الفعل، أو اتصف به، والفاعل هنا لم يفعل الفعل وإنما اتصف به. وقال {مَرِضْتُ} [الشعراء: 80] تأدباً مع الله تعالى، فلم يقل: أمرضني ونسب المرض الظاهر إلى نفسه.
أما في المسائل التي لا يدَّعيها أحد، فتأتي بالفعل دون توكيد، كما في الآية بعدها: {والذي يُمِيتُنِي}(17/10594)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
فلم يقُل؟ هنا: بميتني أو هو يُحييني؛ لأن الحياة والموت بيده تعالى لا يدَّعيها أحد، فإنْ قُلْتَ: وماذا عن قتْل الإنسان لغيره أَلاَ يُعَدُّ موتاً؟ وقد سبق أنْ أوضحنا الفرق بين الموت والقتل، بدليل قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] .
فالموت أن تخرج الروح، والجسم سليم الأجزاء كامل الإعضاء، وبعد خروج الروح تُنقض البنية، أما القتل فيكون بنقْض البنية نَقْضاً يترتب عليه خروج الروح.(17/10594)
إذن: الموت لم يدَّعه أحدٌ لنفسه، ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم عليه السلام في ذلك، وكشف زيف هذا الادعاء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] .
ولم يفعل إلا أنْ جاء برجل فأمر بقتله، ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلام أنْ يقطع عليه الطريق، فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] .
وهكذا أنهى هذه السفسطة، وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند.
وتأمل حرف العطف {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] و (ثم) تفيد العطف مع التراخي، ولم يقل: ويحيين؛ لأن الواو تفيد مُطلَق العطف، وبين الموت والإحياء الآخر مسافة طويلة، ألا ترى قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 2122] .(17/10595)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
عجيب أن يصدر هذا الدعاء من إبراهيم، وما أدراك ما إبراهيم؟
إنه أبو الأنبياء الذي وصفه ربه بأنه أمة قانتاً لله، ولم يكن من المشركين، إبراهيم الذي ابتلاه ربه بكلمات فأتمهن، ومع هذا كله(17/10595)
يقول: {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] .
إنه أدب عَالٍ مع الله وهضم لعمله؛ لأن الإنسان مهما قدَّم من الخير فهو دون ما يستحق الله تعالى من العبادة؛ لذلك كان طلب المغفرة من الطمع.
ويجب أن ننظر هنا: متى دعا إبراهيم ربه ومتى تضرع إليه؟ بعد أن ذكر حيثيات الألوهية، واعترف لله بالنعم السابقة وأقرَّ بها، فقد خلقه من عدم، وأمدَّه من عُدْم، وووفّر له كل مقومات الحياة.
وإقرار العبد بنعم الله عليه يقضي على كبرياء نفسه، ويُصفِّي روحه وأجهزته، فيصير أهلاً لمناجاة الله، وأهلاً للدعاء، فإن اعترفتَ لله بالنعم السابقة أجابك فيما تطلب من النعم اللاحقة، على خلاف مَنْ لا يذكر لله نعمة، ولا يقرّ له سبحانه بسابقة خير، فكيف يقبل منه دعاء؟ وبأيِّ وجه يطلب من الله المزيد؟
إذن: لا تَدْعُ ربك إلا بعد صفاء نفس وإخلاص عبودية؛ لذلك ورد في حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» .
ويقول سبحانه: {إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] يقول لك ربك: أنت مأمون على ما علمتَ، عامل به، فخُذ المزيد من هدايتي ونوري وتوفيقي، خُذ المزيد لما عندك من رصيد إيماني وصفاء روحي، جعلك أهلاً للمناجاة والدعاء.
فإبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء لم يجترىء على الدعاء(17/10596)
بشيء آتٍ إلا بعد أنْ ذكر لله النعم السابقة، وشكره عليها، فوافق قوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .
لذلك فإن أهل المعرفة يقولون: إن العبد مهما اجتهد في الدعاء، فإنه يدعو بالخير على حسْب فهمه ومنطقه وبمقدار علمه ولو أنه ذكر النعيم الأول لله تعالى، وأقرّ له بالفضل، ثم ترك المسألة له تعالى يعطيه ويختار له لكان خيراً له؛ لأن ربه عَزَّ وَجَلَّ يعطيه على حَسْب قدرته تعالى وحكمته.
وهذا المعنى واضح في الحديث القدسي: «مَنْ شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» .
فعطاء الله لا شكَّ أوسع، واختياره لعبده أفضل من اختيار العبد لنفسه، كما لو ذهبتَ في رحلة مثلاً وقلت لولدك: ماذا تريد أنْ أُحضر لك من البلد الفلاني؟ فإنْ قال: أريد كذا وكذا فقد ضيّق على نفسه، وإنْ ترك لك الاختيار جاء اختيارك له خيرا من اختياره لنفسه.(17/10597)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
نلحظ أنه لم يدْعُ بشيء من الدنيا، ومعنى {حُكْماً} [الشعراء: 83] فرق بين الحكم والحكمة: الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، أما الحكم فأنْ تعلم الخير أولاً، ثم تعمل بما علمت ثانياً.(17/10597)
وقال في دعائه: {هَبْ لِي} [الشعراء: 83] لأن الهبة عطاء دون مقابل، فكأنه قال: يا رب أنا لا أستحق، فاجعلها لي هِبةَ من عندك {وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الشعراء: 83] أي: ألحقني بهم في العمل والأُسْوة لأنالَ بعدها الجزاء، وليس المراد: ألحقني بهم في الجزاء، إنما في العمل.
وقد أجابه الله تعالى في هذه الدعوة، فقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] .
والملكوت: المخلوقات غير المحسّة، أطلعه الله عليها؛ لأنه عمل بما علم من الملك المحسّ، وكذلك قال: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] فأجابه في الدعوة الأخرى. {واجعل لِّي لِسَانَ}(17/10598)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
نعرف أن اللسان وسيلة التعبير، ومعنى {لِسَانَ صِدْقٍ} [الشعراء: 84] يعني: ذكراً حسناً يذكر بحق، ويذكر بصدق، لا كما نفعل الآن حين نقيم ذكرى لأحد الأشخاص، فنظل نكيل له المدائح ونُثني عليه بالصِّدْق وبالكذب، وبما فعل وبما لم يفعل، فهذا ذكر، لكنه ذكر غير صادق ومخالف للحقيقة وللواقع.
وسبق أن أوضحنا أن الصدق هو الكلام المطابق للواقع، وقد ورد هذا المعنى في الأمهات الخمس في القرآن الكريم، في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] .
يعني: أدخلني بصدق لا بغشٍّ يعني مدخلاً أستطيع منه الخروج، وكذلك أخرجني مُخرج صدق.(17/10598)
وفي قوله تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55] .
وفي قوله تعالى: {وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] هذه المواضع الخمس لكلمة الصدق.
ومعنى: {فِي الآخرين} [الشعراء: 84] يعني: يتعدى الذّكْر الحسن مدة حياتي إلى مَنْ بعدي، فاجعل لي لسان صدق في المعاصرين، وفيمن يأتي بعدك أترك أثراً طيباً يُذكَر من بعدي؛ لأن لي نصيباً من الخير والثواب في كل مَن اقتدى بي، وجعلني أُسْوة.
وقد أجابه الله في هذه، فقال سبحانه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 108109] .(17/10599)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
بعد أن دعا لأمر في الدنيا، ثم لأمر بعد موته دعا لنفسه بجنة النعيم الدائم في الآخرة، ولا شك أن ربه عَزَّ وَجَلَّ قد أجابه إلى هذه، فهو من ورثة جنة النعيم، بدليل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] .(17/10599)
وكلمة ميراث الجنة وردتْ في القرآن أيضاً في قوله تعالى:
{أولئك هُمُ الوارثون الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1011] .
والميراث أنْ تأخذ مِلكاً من آخر بعد موته، فكيف تكون الجنة ميراثاً؟
قال العلماء: إن الخالق عَزَّ وَجَلَّ لم يخلق الجنة على قدر أهلها وكذلك النار، إنما خلق الجنة تتسع للناس جميعاً، إنْ آمنوا، وخلق النار تتسع للناس جميعاً إنْ كفروا؛ ذلك لأنه سبحانه خلق الخَلْق مختارين، مَنْ شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليكفر. وعليه، فميراث الجنة يعني أنْ يرث المؤمنون أماكن الذين كفروا في الجنة، يتقاسمونها فيما بينهم.
والوارث يرث مال غيره وثمرة سعيه، لكن لا يسأل عنها، إنما يأخذها طيبة حتى إنْ جمعها صاحبها من الحرام، إلا إنْ أراد الوارث أن يبرىء ذمة المورِّث، فيردَ المظالم إلى أهلها.
إذن: الوارث يأخذ الميراث دون مقابل فكأنه هِبة، وعلى هذا المعنى يكون المراد بميراث الجنة أن الله تعالى أعطى عباده الطائعين الجنة هبةً منه سبحانه، وتفضّلاً عليهم، وليس بعملهم، فالجنة جاءتهم كما يأتي الميراث لأهله دون تعب منهم ودون سَعْي.
وهذا تصديق لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث النبوي: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» .(17/10600)
قالوا: فالجنة ميراث؛ لأن الأصل أنك لا تُجازَى على الخير الذي قدمته؛ لأن تكليف من الله تعالى يعود خيره عليك في الدنيا، حيث تستقيم به حياتك وتسعد بها، وما دام التكليف في صالحك، فكيف تأخذ أجراً عليه؟ كالوالد حيث يحثّ ولده على المذاكرة والجد في دروسه، فهذا يعود نفعه على الولد، لا على الوالد.
وكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ يقول لك: ما دُمْتَ قد احترمتَ تكليفي لك، وأطعتني فيما ينفعك أنت، ولا يعود عليَّ منه شيء، فحين أعطيك الجنة أعطيك بفضلي وهِبَة مني، أو أننا نأخذ الجنة بالعمل، والمنازل بالفضل.
إذن: لا غِنَى لأحد مِنّا عن فَضْل الله.
لذلك يقول سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
هذا هو المعنى المراد بميراث الجنة، وينبغي ألاَّ تعوِّل على عملك وطاعتك واجتهادك في العبادة، واعلم أن النجاة لا تكون إلا برحمة الله وفضل منه سبحانه.
ثم ترك الدعاء لذاته وانتقل لمن رباه فقال: {واغفر لأبي}(17/10601)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
لم ينْسَ إبراهيم عليه السلام في دعائه أن يدعو لمن رباه؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الخالق، إنما جعل الوالدين هما السبب المباشر في الخَلْق والإيجاد؛ لذلك جعلهما أصحاب الفضل والأحق بالطاعة بعده تعالى، لكن قد ينجب الوالدان ويهملان ولدهما فيربيه غيرهما؛ لذلك يأخذ المنزلة الثالثة، فعندنا ربوبية خَلقَت من عدم، وأبوة جاءت بأسباب الإيجاد، وأبوة أخرى ربّت واعتنتْ.(17/10601)
وهذا المعنى واضح في قوله سبحانه: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] فحيثية الدعاء بالرحمة هنا، لا لأنهما أبوان وهما سبب الإيجاد، إنما لأنهما ربَّياني صغيراً، إذن: لو ربّاني غير والديّ لأخذوا هذه المنزلة واستحقوا مني هذا الدعاء.
لكن لم يُستجَبْ لإبراهيم عليه السلام في هذه، لأنه سأل الله لأبيه قبل أن يعرف أنه عدو لله، يقول تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] .
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ}(17/10602)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
بأيِّ شيء يكون الخزي في الآخرة؟ الخزي يكون حين يعاتبك ربك يوم القيامة على رؤوس الأشهاد على ما فَرَط منك من تقصير؛ لذلك الحساب اليسير ما كان بين العبد وربه، وقد أُجيب إبراهيم عليه السلام في هذه الدعوة بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] .(17/10602)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [الشعراء: 88] فأتى بالمسألة التي تشغل الناس جميعاً، فكل إنسان يريد أن يكون غنياً صاحب مال وأولاد وعِزْوة، ومَنْ حُرِم واحدة منهما حَزِن وألم أشدّ الألم.
والحق تبارك وتعالى يقول: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] .
ويقول سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} [آل عمران: 14] .
نعم، هي زينة الحياة الدنيا، ومعنى الزينة: الحُسْن غير الذاتي، فالحُسْن قد يكون ذاتياً في الجوهر كالمرأة التي تكون جميلة بطبيعتها التي خلقها الله عليها، دون أنْ تتكلّف الجمال، أو الزينة الظاهرة من مساحيق أو ذهب أو خلافه، لذلك سمَّوْها في اللغة (الغانية) وهي التي استغنْت بجمالها الطبيعي الذاتي عن أنْ تتزّين بأيِّ شيء آخر.
وقوله: {إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] يعني: مع أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، فهذا لا يمنع نفعهما لصاحبهما إنْ أحسن التصرُّف في ماله، فأنفقه في الخير، وأحسن تربية أولاده التربية الصالحة، لكن هذه أيضاً لا تصفو له ولا تستقيم إلا إذا {أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89] .
يعني: توفّر له الإخلاص في هذا كله، وإلاَّ فالرياء يُحبط العمل، ويجعله هباءً منثوراً، إنْ كنتَ تفعل الخير في الدنيا ولا تؤمن بالله ولا تُنزهه سبحانه عن الشريك، فلن ينفعك عملك، ولن يكون لك منه نصيب في ثواب الآخرة.
كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] .(17/10603)
وفي الحديث القدسي: « ... فعلت ليقال وقد قيل ... » .
فعلتَ ليُقام لك حفل تكريم وقد أقيم لك، فعلتَ لتأخذ نيشاناً وقد أخذتَه، فعلتَ ليُكتب اسمك على باب المسجد وقد كُتِب، إذن: انتهت المسألة.
فقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [الشعراء: 88] لا ينفي نفع المال والبنين، فهي نافعة شريطة أنْ تأتي اللهَ بقلب سليم، والسلامة هنا تعني: أن يظلَ الشيء على حاله وعلى صلاحه الذي خلقه الله عليه لا يصيبه عطب في ذاته، فيؤدي مهمته كما ينبغي.
فكأن السلامة تُوجد أولاً، ونحن الذين نُفسِد هذه السلامة.
ومن ذلك قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 1112] .
لذلك لو تأمّل الناس فيما يُتعبهم في الحياة لوجدوا أنه ثمرة إفسادهم في الكون المنظم الذي خلقه الله على مقتضى حكمته تعالى، بدليل أن كل حركة في الكون لا يتدخل فيها الإنسان تراها مُستقيمة منتظمة لا تتخلف، فإنْ تدخَّل الإنسان وُجِد الفساد ووُجِد الظلم للغير، حتى للنبات وللجماد وللحيوان، وقد نهانا الشارع الحكيم عن هذا كله.
هذا إنْ تدخّل الإنسان في الكون على غير مقتضى منهج ربه، فإنْ تدخَّل على هَدْى من منهج الله استقامتْ الأمور وتحققتْ السلامة.(17/10604)
ألا ترى قوله تعالى في سورة الرحمن:
{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 57] .
لذلك تجد كل شيء في الكون موزوناً بقدر وبحكمة: الشمس والقمر والنجوم والهواء والماء. . الخ وكل عناصر الكون هذه تسير مستقيمة في منظومة الكون المتكاملة، لماذا؟ لأنه لا دَخْلَ للإنسان فيها.
فمعنى القلب السليم: القلب الذي لا يعمُر إلا بما أراد الله أنْ يعمُرَ به، وقد ورد في الحديث القدسي: «ما وسعتني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» .
إذن: لا تزحم قلبك بما يَشْغَله من أمور الدنيا، واجعله خالياً لله مُنْشغلاً به، فهذه هي سلامة القلب؛ لأن القلب مفطور على هذا، مطبوع عليه. . ساعة خلقه الله خلقه صافياً سليماً من المشاغل؛ لذلك يقول سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] لماذا؟ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .
إذن: لا تأخذ المال والبنين منفصليْن عن سلامة القلب؛ لأن ربك يقول: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] .(17/10605)
وفي آية: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} [آل عمران: 14] ختمها الحق سبحانه بقوله: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} [آل عمران: 14] .
ومن سلامة القلب أن يخلو من الشرك، وأن يخلو من النفاق؛ لأن المنافق يؤمن بلسانه، ولا يؤمن بقلبه، فقلبه لا يوافق لسانه؛ لذلك هو غير سليم القلب، فكان أشد إثماً من الكافر، وجعله الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
المنافق أشد تعذيباً من الكافر؛ لأن الكافر مع كُفْره هو منطقيّ مع نفسه، حيث كفر بقلبه وبلسانه، ونطق بما يعتقده، أما المنافق فقد غشَّنا وحُسِب علينا ظاهراً، ومنهم مَنْ كان يصلي خلف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصف الأول، وهو في حقيقة الأمر من الطابور الخامس داخل صفوف المسلمين.
وكذلك الرياء ينافي سلامة القلب، فالمرائي يعمل للناس ولا يعمل لله، ونعجب حين نرى مَنْ يُقدِّم الجميل رياءً وسُمْعة، ثم يتهم مَنْ أسدى إليه الجميل بأنه ناكر للجميل، نقول له: لماذا تتهمه وقد سبقته فأنكرتَ جميل الله، حيث لم تجعله على بالك حين فعلتَ الخير.
إذن: فهذا جزاؤك جزاءً وفاقاً، لأنك ما فعلتَ الخير لله، إنما فعلته للعبد فانتظر منه الجزاء. وصَفْقَة المرائي خسارة، وتجارته بائرة؛ لأنه حين يعطي رياءً يستفيد منه الآخذ ويخرج هو صُفْر اليدين، كما قال سبحانه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} [البقرة: 264] .
وبعد ذلك ترى الناس تكره المرائي، ويُنكرون جميله في بناء مسجد أو مستشفى أو مدرسة مثلاً، ولو عمل ذلك لله لأبقى الله(17/10606)
ذِكْره بين الناس، فحفظوا جميله، وأَثنَوْا عليه بالخير.
«ويُرْوى أن السيدة فاطمة الزهراء دخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجدها تجلو درهماً في يدها، فلما سألها عنه قالت: لأنّي قد نويتُ أنْ أتصدّق به، فقال لها: تصدَّقي به وهو على حاله، فقالت: أنا أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، والله طيب لا يقبل إلا طيباً» .
ثم يذكر الحق تبارك وتعالى نتيجة سلامة القلب وثمرة الإخلاص في العلم، فيقول: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ}(17/10607)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{وَأُزْلِفَتِ} [الشعراء: 90] يعني: قرِّبت، لكن كيف تقرب منهم وهم بداخلها؟ قالوا: تُقرَّب منهم قبل أن يدخلوها، وهم ما زالوا في شدة الموقف وهو القيامة والحساب، فتُقرَّب منهم الجنة ليطمئنوا بها، ويهون عليهم هذا الموقف الصعب.
وفي آية أخرى: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] يعني: يروْنها عياناً، ويعرفون أنها النعيم الذي ينتظرهم، وسوف يباشرونه عن قريب، كما لو دُعِيْتَ إلى مائدة أحد العظماء، وقد أُعدَّتْ على أتمَّ وجه، فإن من النعيم أن تمر بها وتشاهد ما عليها من أطايب الطعام قبل أن يحين وقت الاجتماع عليه.(17/10607)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
وهذه لمن أتى الله بقلب غير سليم، قلب خالطه شرك أو نفاق أو رياء، وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] .(17/10607)
والورود لا يعني دخول النار، إنما رؤيتها والمرور بها؛ لأن الصراط مضروب على مَتْن جهنم، فالورود شيء والدخول شيء آخر، ومن ذلك قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] مع أن موسى عليه السلام ورد الماء يعني: مكان الماء، ولم يشرب منه.
والحكمة من ورود النار بهذا المعنى أنْ يعرف المؤمن فَضْل الإيمان عليه، وأنه سبب نجاته من هذه النار التي يراها، وهذه أعظم نعمة عليه؛ لذلك يقول سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] .
ومعنى {لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] جمع غَاوٍ، وهو إما أنْ يكون غاوياً في نفسه، أو أغوى غيره، فتطلق على الغاوي، وعلى الذي يُغوِي غيره.(17/10608)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 92] أرونا مَنْ أشركتموهم مع الله، أين هم الآن؟
وفي موضع آخر: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 2225] .
لقد ضلوا عنكم، وتركوكم، بل وتبرأوا منكم: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] .
ثم ياتي الذين اتبعوا فيقولون: {رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن(17/10608)
والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} [فصلت: 29] .
نعم، إنها معركة؛ لأن الله تعالى قال: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] .
وقوله تعالى: {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ} [الشعراء: 93] يعني: لا يستطيعون نصركم، أو الدفاع عنكم، ولا حتى نَصْر أنفسهم، فإنْ كان نصرهم لأنفسهم ممنوعاً فلغيرهم من باب أَوْلَى، ففي الآية تقريع لهم ولمن عبدوهم من دون الله، وتحقير لشأنهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ}(17/10609)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
الفعل كَبْكب، يعني: كبّوا مرة بعد أخرى على وجوههم، فهي تعني تكرار الكَبِّ، فكلما قام كُبَّ على وجهه مرة أخرى، وهي على وزن فعللة الدال على التكرار كما تقول: زقزقة العصافير، ونقنقة الضفادع. والمراد هنا الأصنام تكبّ على وجوهها، وتسبق مَنْ عبدها إلى النار، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] .
وقال: {هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94] فالغاوون يسبقون مَنْ أغْوَوْهم وأضلوهم؛ ليقطع أمل التابعين لهم في النجاة، فلو دخل التابعون أولاً لقالوا: سيأتي منْ عبدناهم لينقذونا، لكن يجدونهم أمامهم قد سبقوهم، كما قال تعالى عن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] .(17/10609)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
ولإبليس جنودٌ من الجن، وجنود من الإنس، سيجتمعون جمعياً في النار.(17/10610)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
هذه لقطة من ساحة القيامة، حيث يختصم أهل الضلال مع مَنْ أضلوهم، ويُلْقِي كل منهم بالتبعة على الآخر.
وهذه الخصومة وردتْ في قوله تعالى على لسان الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] والمعنى: لم يكُنْ لي عليكم سلطانُ قَهْر أحملكم به على طاعتي، ولا سلطان حجة أقنعكم به.
ثم يعترف أهل الضلال بضلالهم ويقسمون {تالله} [الشعراء: 97] يعني: والله {إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 97] يعني: ظاهر ومحيط بنا من كل ناحية، فأين كانت عقولنا {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] أي: في الحب، وفي الطاعة، وفي العبادة.
كما قال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165] .(17/10610)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
يعني: يا رب أرنا هؤلاء المجرمين، ومَكِنّا منهم لننتقم لأنفسنا،(17/10610)
ونجعلهم تحت أقدامنا، وهكذا أخرجوا كل سُمِّهم في هؤلاء المجرمين، وألقوا عليهم بتبعة ما هم فيه.(17/10611)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
الشافع من الشَّفْع أي: الاثنين، والشافع هو الذي يضمُّ صوته إلى صوتك في أمر لا تستطيع أن تناله بذاتك، فيتوسط لك عند مَنْ لديه هذا الأمر، والشفاعة في الآخرة لا تكون إلا لمن أَذِن الله له، يقول تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] .
ويقول سبحانه:
{مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
إذن: ليس كل أحد صالحاً للشفاعة مُعداً لها، وكذلك في الشفاعة في الدنيا فلا يشفع لك إلا صاحب منزلة ومكانة، وله عند الناس أيَادٍ تحملهم على احترامه وقبول وساطته، فهي شفاعة مدفوعة الثمن، فللشافع رصيد من الجميل وسوابق الخير تزيد عما يطلب للمشفوع له.
لذلك نرى في الريف مثلاً رجلاً له جاه ومنزلة بين الناس، فيحكم في النزاعات ويفصل في الدم، فحين يتدخّل بين خصميْن ترى الجميع ينصاع له ويذعن لحكومته.
ومن ذلك ما عرفناه في الشرع من شركة الوجوه، ومعلوم أن(17/10611)
الشركة تحتاج إلى مال أو عمل، لكن قد يوجد شخص ليس لديه مال ولا يستطيع العمل، لكن يتمتع بوجاهة ومنزلة بين الناس، فنأخذه شريكاً معنا بما لديه من هذه الميزة.
والحقيقة أن وجاهته ومنزلته بين الناس قُوِّمت بالمال؛ لأنه ما نالها من فراغ، إنما جاءت نتيجة جَهْد وعمل ومجاملات للناس، احترموه لأجلها، فلما زال عنه المال وأنفقه في الخير بَقِي له رصيد من الحب والمكانة بين الناس. . ومن ذلك أيضاً شراء العلامة التجارية.
ومعنى {وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 101] فرْق بين الشافع والصديق، فالشافع لا بُدَّ أن تطلب منه أن يشفع لك، أما الصديق وخاصة الحميم لا ينتظر أن تطلب منه، إنما يبادرك بالمساعدة، ووصف الصديق بأنه حميم؛ لأن الصداقة وحدها في هذا الموقف لا تنفع حيث كل إنسان مشغول بنفسه.
فإذا لم تكُنْ الصداقة داخلة في الحميمية، فلن يسأل صديق عن صديقه، كما قالت تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 3437] .
وقد أثارت مسألة الشفاعة لغطاً كثيراً من المستشرقين الذين يريدون تصيّد المآخذ على القرآن الكريم، فجاء أحدهم يقول: تقولون إن القرآن معجزة في البلاغة، ونحن نرى فيه المعنى الواحد يأتي في أسلوبين، فإنْ كان الأول بليغاً فالآخر غير بليغ، وإنْ كان الثاني بليغاً فالأول غير بليغ، ثم يقول عن مثل هذه الآيات: إنها تكرار لا فائدة منه.(17/10612)
ونقول له: أنت تنظر إلى المعنى في إجماله، وليس لديك الملَكة العربية التي تستقبل بها كلام الله، ولو كانت عندك هذه الملَكة لما اتهمتَ القرآن، فكل آية مما تظنه تكراراً إنما هي تأسيس في مكانها لا تصلح إلا له.
والآيتان محل الكلام عن الشفاعة في سورة البقرة، هما متفقتان في الصدر مختلفتان في العَجْز، أحدهما:
{واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] .
والأخرى:
{واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 123] .
إذن: فصدْر الآيتين متفق، أما عَجُز الأولى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] .
وعَجُز الأخرى: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123] فهما مختلفتان.
وحين تتأمل صَدْرَيْ الآيتين الذي تظنه واحداً في الآيتين تجد أنه مختلف أيضاً، نعم هو مُتحد في ظاهره، لكن حين تتأمله تجد أن الضمير فيهما: إما يعود على الشافع، وإما يعود على المشفوع له، فإنْ عاد الضمير على المشفوع له نقول له: لا نأخذ منك عدلاً، ولا تنفعك شفاعة، وإنْ عاد الضمير على الشافع نقول له: لا نقبل منك شفاعة ونُقدِّم الشفاعة أولاً ولا نأخذ منك عدلاً.
إذن: ليس في الآيتين تكرار كما تظنون، فكلٌّ منهما يحمل معنى لا تؤديه الآية الأخرى.
وقد أوضحنا هذه المسألة أيضاً في قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا(17/10613)
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] .
والأخرى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151] .
فصدْرا الآيتين مختلف، وكذلك العَجْز مختلف، فعَجُز الأولى: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} [الإسراء: 31] .
وعَجُز الأخرى: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] .
وحين نتأمل الآيتين نجد أن لكل منهما معناها الخاص بها، وليس فيهما تكرار كما يظن البعض.
ففي الآية الأولى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] إذن: فالفقر غير موجود، والأب يخاف أن يأتي الفقر بسبب الأولاد، فهو مشغول برزق الولد، لا برزقه هو؛ لأنه غني غير محتاج؛ لذلك قدَّم الأولاد في عَجُز الآية، كأنه يقول للأب: اطمئن فسوف نرزق هؤلاء الأولاد أولاً، وسوف تُرزَق أنت أيضاَ معهم.
أما الآية الأخرى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ} [الأنعام: 151] فالفقر في هذه الحالة موجود فعلاً، وشُغل الأب برزق نفسه أوْلى من شغله برزق ولده؛ لذلك قال في عَجُز الآية: {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151] فقدَّمهم على الأولاد.
إذن: لكل آية معناها الذي لا تؤديه عنها الآية الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه عنهم أنهم قالوا: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً}(17/10614)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
معنى: {كَرَّةً} [الشعراء: 102] أي: عودة إلى الدنيا ورجعة {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 102] أي: نستأنف حياة جديدة،(17/10614)
فنؤمن بالله ونطيعه، ونستقيم على منهجه، ولا نقف هذا الموقف.
وفي آيات أخرى شرحت هذه المسألة، يقول تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99100] .
يعني: {كَلاَّ} [المؤمنون: 100] لن يعودوا مرة أخرى، وما هي إلا كلمة يقولونها بألسنتهم يريدون النجاة بها، لكن هيهات فبينهم وبين الدنيا برزخٌ يعزلهم عنها، ويمنعهم العودة إليها، وسوف يظل هذا البرزخ إلى يوم يُبعثون.
وفي أية أخرى حول هذا المعنى يُرقِّي الحق تبارك وتعالى المسألة من موقف الموت إلى موقف القيامة، فيقول سبحانه: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [الأنعام: 27] .
وهذا كَذِب منهم وقَوْل باللسان لا يوافقه العمل؛ لذلك ردَّ الحق تبارك وتعالى عليهم بقوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] .
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً}(17/10615)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
الآية: هي الأمر العجيب الملفت للنظر، وما كان ينبغي أنْ يمرَّ على العقول بدون تأمّل واعتبار {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 103] رغم أن هذه الآيات ظاهرة واضحة، ومع ذلك كان أكثرهم غير مؤمنين.(17/10615)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
أي: مع كونهم لم يؤمن أكثرهم، فالله تعالى هو العزيز الذي لا يُغلَب، إنما يغلِب، ومع عِزّته تعالى فهو رحيم بعباده يفتح باب التوبة لمن تاب.
ثم ينتقل السياق القرآني من قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى قصة أخرى من رَكْب الأنبياء ومواكب الرسل هي قصة نوح عليه السلام: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ}(17/10616)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
القوم: هم الرجال خاصة، وسُمُّوا قوماً؛ لأنهم هم الذين يقومون بأهم الأشياء، ويقابل القوم النساء، كما جاء شرح هذا المعنى في قوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ} [الحجرات: 11] .
فالرجال هم القوم؛ لأنهم يقومون بأهم الأمور، وعليهم مدار حركة الحياة، والنساء يستقبلْنَ ثمار هذه الحركة، فينقونها بأمانة ويُوجِّهونها التوجيه السليم.
والشاعر العربي أوضح هذا المعنى بقوله:
وَمَا أَدْرِي ولسْتُ إخَاَلُ أدْرِي ... أَقْوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
ونفهم أيضاَ هذه القِوامة للرجل من قَوْل الله تعالى حينما وعظ(17/10616)
آدم وحذَّره من الشيطان: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117] وحسب القاعدة نقول: فتشقيا.
لكن الحق تبارك وتعالى يقول: {فتشقى} [طه: 117] أنت يا آدم وحدك في حركة الحياة، فالرجل يتحمل هذه المشقة ويكرم المرأة أن تُهَان أو تشقى، لكن ماذا نفعل وهي تريد أن تُشقِي نفسها؟!
ونلحظ أن الآية تقول: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] كيف وهم ما كذّبوا إلا رسلهم نوحاً عليه السلام؟ وكانوا مؤمنين قبله بآدم وإبراهيم مثلاً.
قالوا: لأن الرسل عن الله إنما جاءوا في أصول ثابتة في العقيدة وفي الأخلاق لا تتغير في أي دين؛ لذلك فمن كذَّب رسوله فكأنه كذَّب كل الرسل، ألاَ ترى أن من أقوال المؤمنين أن يقولوا:
{قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] .
وقال تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] .
فإنْ قُلْتَ: فماذا عن اختلاف المناهج والشرائع من نبي لآخر؟ نقول: هذه اختلافات في مسائل تقتضيها تطورات المجتمات، وهي فرعيات لا تتصل بأصل العقائد والأخلاق الكريمة.
لذلك نجد هذه لازمة في كُلِّ مواكب الرسالات، يقول: المرسِلِين، المرسَلِين؛ لأن الذي يُكذِّب رسوله فيما اتفق فيه الأجيال(17/10617)
من عقائد وأخلاق، فكأنه كذّب جميع المرسلين.(17/10618)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106] يريد أن يُحنِّن قلوبهم عليه بكلمة {أَخُوهُمْ} [الشعراء: 106] التي تعني أنه منهم وقريب الصِّلة بهم، ليس أجنبياً عنهم، فهم يعرفون أصله ونشأته. ويعلمون صفاته وأخلاقه.
لذلك لما بُعِث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبلغ الناس برسالته بادر إلى الإيمان به أقرب الناس إليه، وهي السيدة خديجة دون أنْ تسمع منه آية واحدة، وكذلك الصِّديق أبو بكر وغيرهما من المؤمنين الأوائل، لماذا؟
لأنهم بَنَوْا على تاريخه السابق، واعتمدوا على سيرته فيهم قبل الرسالة، فعلموا أن الذي لا يكذب على الناس مستحيل أن يكذب على رب الناس.
والسيدة خديجة رضوان الله عليها تعتبر أول فقيهة، وأول عالمة أصول في الإسلام، حينما جاءها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يشكو ما يعاني، ويخشى أن يكون ما يأتيه من الوحي رئياً من الجن أو توهمات تفسد عليه عقله وتفكيره، قالت له انظر إلى العظمة «والله إنك لتصل الرحم، وتَقْرى الضيف، وتحمل الكَلَّ، وتُعين على نوائب الدهر، والله لا يخزيك الله أبداً» .(17/10618)
ولما علم الصِّدِّيق بحادثة الإسراء والمعراج بادر بالتصديق، ولم يتردد، ولما سُئل عن ذلك قال: إننا نصدقه في الأمر يأتي من السماء فكيف لا نصدقه في هذه، فإنْ كان قال فقد صدق.
إذن: فمقياس الصدق لديه أن يقول رسول الله؛ لذلك استحق الصِّديق هذا اللقب عن جدارة، حتى «إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقول في حقه:» كنتُ أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان يعني: في خصال الخير فسبقتُه إلى النبوة فاتبعني، ولو سبقني لاتبعته «.
هذه كلها معانٍ نفهمها من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} [الشعراء: 106] .
وهذا معنى قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] فهذه من حكمة الله في الرسل، وعجيب أن يقول أهل العناد من القوم: نريد ملكاً رسولاً، وأن يقفوا من رسول الله موقف العداء، وكان يجب عليهم على الأقل أن يُمكِّنوه من دعوته، ويُمكِّنوا عقولهم من أنْ تفهم لا أن تدخل في الأمر على هوى سابق.
فالذي يتعب الناس في استقبال الحق أن تكون قلوبهم مشغولة بباطل، والحق لا يجتمع مع الباطل ولا يضمهما محلٌّ واحد؛ لذلك إذا أردت أن تبحث في مسألة، فعليك أنْ تُخرِج من قلبك الباطل أولاً، ثم حكِّم عقلك في الأمر، واستفتِ قلبك فما سمح به فأدخله.
وهذه نراها حتى في الماديات، فالحيز الواحد لا يسع شيئين أبداً، يقولون: عدم تداخل، كما لو ملأت قارورة بالماء مثلاً، فقبل أن يدخل الماء لا بُدَّ أنْ يخرج الهواء، فنراه على شكل فقاعات.(17/10619)
لذلك يقول تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] .
ولك أن تلاحظ مثلاً زجاجة (الكولونيا) ذات الثُّقْب الضيق إذا وضعْتها في الماء، لا يمكن أن يدخلها الماء، لماذا؟ لأن ثقبها ضيق، لا يسمح بخروج الهواء أو دخول الماء.
ولأمر ما سُمِّي الهوى من الهواء، فكما أن الهواء الذي نُحِسُّه لو أتى من ناحية واحدة لمبنى أو جبل مثلاً لانهدم إلى الناحية الأخرى، لماذا؟ لأن الهواء هو الذي يتولّى حِفْظ توازن هذه المباني العالية وناطحات السحاب التي نراها، يحفظ توازنها حين يحيط بها من كل جهاتها، فإنْ فرّغتَ الهواء من أحدى الجهات انهدم المبنى في نفس هذه الجهة.
والهواء من القوى العظيمة التي يستخدمها الإنسان ويُحولِّها إلى طاقة، وانظر مثلاً إلى قوة تفريغ الهواء وما تُحدِثه من هزة عنيفة، أو إلى الحاويات والشاحنات العملاقة التي تسير على الهواء في عجلاتها، وكذلك الهوى إنْ كان في الباطل كان قوياً ومدمراً، ومن هذا المعنى سُمِّي السقوط هويّا، تقول: هَوَى الشيء يعني: سقط.
وقوله: {أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106] هذه الكلمة جاءت على لسان كل الرسل أو يقولها الرسول أوَّلَ ما يبعث، ومعناها: اتقوا الله و (أَلاَ) أداة للخصِّ، والحثِّ على الفعل. كما تقول للولد المهمل: أَلاَ تذاكر أو هَلاَّ تذاكر.
وحين نحلل أسلوب الحضِّ أو الحثِّ نجد أنه يأتي على صورة التعجب من نفي الفعل، كما تقول للولد الذي لا يصلي وتريد أن تحثَّه على الصلاة: ألا تصلي؟ استفهام بالنفي وعندها يستحي الولد أن يقولها، لكن حين تستفهم بالإثبات: أتصلي؟ يقولها بفخر: نعم.(17/10620)
إذن: معنى الحثِّ: تعجُّب من ترْك الفعل وإنكار يحمل معنى الأمر.
فمعنى: {أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 106] أُنكِر عليكم ألاَّ تكونوا متقين، والمراد: أطلب منكم أن تكونوا متقين، وما دُمْت قد أنكرت النفي فلا بُدَّ أنك تريد الإثبات.(17/10621)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
وقوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 107] فإنْ كانت عندكم غفلة فقد رَحِم الله غفلتكم، ونبّهكم برسول أمين يَعِظكم ويعلّمكم ويُبلّغكم منهج الله، وهو أمين لن يغشَّكم في شيء حتى لا تقولوا: إنَّا كنَّا غافلين.
وما دُمْت أنا مرسلاً من الله إليكم، وأميناً عليكم وعلى دعوتي، فاسمعوا مني؛ لذلك كرَّر الأمر بالتقوى: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}(17/10621)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
وكأنه يتصالح معهم، فيُخفف من أسلوب النُّصْح، ويأتي بالأمر صريحاً بعد أن أتى به في صورة إنكار ألاَّ يكونوا متقين. وثمرة التقوى طاعة الأوامر واجتناب النواهي، وهذه لا نعرفها إلا من الرسول حامل المنهج ومُبلِّغ الدعوة والأمين عليها.
وقد ترددتْ هذه الآية على ألسنة كثير من رسل الله: {إِنِّي(17/10621)
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 107108] .
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}(17/10622)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
هذه العبارة {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109] لم نسمعها على لسان إبراهيم عليه السلام، ولا على لسان موسى عليه السلام، فأول مَنْ قالها نوح عليه السلام، وكوْنك تقول لآخر: أنا لا أسألك أَجْراً على هذا العمل، فهذا يعني أنك تستحق أجراً على هذا العمل، وأنت غير زاهد في الأجر، إنما إنْ أخذته من المنتفع بعملك، فسوف يُقوِّمه لك بمقاييسه البشرية؛ لذلك من الأفضل أن تأخذ أجرك من الله.
فكأن نوحاً عليه السلام يقول: أنتم أيها البشر لا تستطيعون أن تُقوِّموا ما أقوم به من أجلكم؛ لأنني جئتكم بمنهج هداية يُسعِدكم في الدنيا، ويُنجيكم في الآخرة، وأنتم لن تٌقوِّموا هذا العمل، وأجري فيه على الله؛ لأنكم تُعطون على قَدْر إمكاناتكم وعلمكم.
وسبق إنْ حكيْنَا لكم قصة الرجل الذي قابلناه في الجزائر، وكان رجلاً تبدو عليه علامات الصلاح، وقد أشار لنا لنقف بسيارتنا ونحمله معنا، فلما توقفنا ليركب معنا مالَ إلى السائق، وقال (على كم) يعني: الأجرة فقال له الرجل، وكان المحافظ: نُوصلك لله، فقال (غَلِّتها يا شيخ) . نعم، إنْ كان الأجر على الله فهو غَالٍ.
وفي آية أخرى يقول تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40] .(17/10622)
ثم يقول: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] إنْ هنا بمعنى ما النافية؛ لأنه تعالى القادر على أن يُكافئني على دعوتي، فهو الذي أرسلني بها، وهو سبحانه رب العالمين الذي تبرع بالخَلْق من عدم، وبالإمداد من عدم، وخلق لي ولكم الأرزاق، وهذا كله لصالحكم؛ لأنه سبحانه لا ينتفع من هذا بشيء.
والربوبية تقتضي عناية، وتقتضي نفقة وخلقاً وإمداداً، فصاحب كل هذه الأفضال والنعم هو الذي يعطيني أجري.(17/10623)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
بعد أن بيَّن لهم كرم الربوبية في مسألة الأجر على الدعوة وأعطاهم ما يشجعهم على التقوى وعلى الطاعة؛ لأنهم سينتفعون برسالة الرسول دون أجر منهم. ومعنى {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 110] أي: ليست لي طاعة ذاتية، إنما أطيعوني؛ لأني رسول من قِبَل الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه حاكياً ردَّهم على نوح عليه السلام: {قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ}(17/10623)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
الأَرْذَلُونَ: جمع أرذل، وهو الردىء من الشيء، ورُذَال الفاكهة: المعطوب منها وما نسميه (نقاضة) والاستفهام هنا للتعجب: كيف نؤمن لك ونحن السادة، والمؤمنون بك هم الأرذلون؟
يقصدون الفقراء وأصحاب الحِرَف والذين لا يُؤْبَه بهم، وهؤلاء عادة هم جنود الرسالة؛ لأنهم هم المطحونون من المجتمع الفاسد، وطبيعي أن يتلقفوا مَنْ يعدل ميزان المجتمع.(17/10623)
وفي آية أخرى: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] .
وقولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111] دليل على عدم فهمهم لحقيقة الإيمان؛ لأنه لم يقُلْ لهم: آمنوا بي، إنما آمنوا بالله.
أو: أن المعنى {أَنُؤْمِنُ لَكَ} [الشعراء: 111] أي: نُصدِّقك فمن معاني آمن أي: صدَّق، كما في قوله تعالى: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83] أي: صَدَّق به، وآمن تكون بمعنى صَدَّق إذا جاءت بعدها اللام، فإنْ جاء بعدها الباء فهي بمعنى الإيمان.(17/10624)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
يعني: ما دام الحساب على ربي وهم يريدون الإيمان، فلا بُدَّ أنْ يأخذوا جزاءهم وافياً {لَوْ تَشْعُرُونَ} [الشعراء: 113] .(17/10624)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
وقد طلبوا منه أن يطرد هؤلاء المؤمنين من مجلسه ليُجلِسهم هم، وفي آية أخرى قال سبحانه لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] .(17/10625)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
فمَنْ يسمع إنذاري، ويسمع بشارتي، ويأتي مجلسي، فعلى عيني أرافقه. فالله ما أرسلني لأخص ذوي الغنى دون الفقراء بمجلسي، إنما أرسلني لأبلغكم ما أرسلت به، فمن أطاعني فذلك السعيد عند الله، وإن كان فقيراً.(17/10625)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
وهكذا أعلنوا الحرب على نبي الله نوح، يقولون: لا فائدةَ من تحذيرك، وما زِلْتَ مُصِراً على دعوتك {لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ} [الشعراء: 116] عما تدعيه من الرسالة، وما تقول به من تقوى الله وطاعته، وما تفعله من تقريب الأرذلين إلى مجلسك، لتكوِّن جمهوراً من صغار الناس.(17/10625)
{لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] أي: إذا لم تنتهِ فسوف نرجمك، إنه تهديد صريح للرسول الذي جاءهم من عند الله يدعوهم إلى الخير في الدنيا والآخرة.
كما قال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .
وهذا التهديد منهم لرسول الله يدلُّ على أنهم كانوا أقوياء، وأصحابَ جاه وبطْشٍ.(17/10626)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
تأمل هنا أدب نوح عليه السلام حين يشكو قومه إلى الله ويرفع إليه ما حدث منهم، كل ما قاله: {إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117] ولم يذكر شيئاً عن التهديد له بالرجم، وإعلان الحرب على دعوته، لماذا؟ لأن ما يهمه في المقام الأول أن يُصدِّقه قومه، فهذا هو الأصل في دعوته.
وقوله: {فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} [الشعراء: 118] الفتح في الشيء إما: حسياً وإما معنوياً، فمثلاً الباب المغلَق بقُفْل نقول: نفتح الباب: أي نزيل أغلاقه.
فإنْ كان الشيء مربوطاً نزيل الأشكال ونفكّ الأربطة.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} [يوسف: 65] أي: أزالوا الرباط عن متاعهم، هذا هو الفتح الحسِّيّ.(17/10626)
أما الفتح المعنوي فنُزيل الأغلاق والأشكال المعنوية ليأتي الخير وتأتي البركة، كما في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] .
وفي آية أخرى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] .
والخير الذي يفتح الله به على الناس قد يكون خيراً مادياً، وقد يكون عِلْماً، كما في قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76] .
أي: من العلم في التوراة، يخافون أن يأخذه المؤمنون، ويجعلوه حجة على أهل التوراة إذا ما كان لهم الفتح والغَلَبة، فمعنى: {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76] أي: بما علَّمكم من علم لم يعلموه هم.
وقد يكون الفتح بمعنى الحكم، مثل قوله سبحانه: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] .
ويكون الفتح بمعنى النصر، كما في قوله تعالى: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] .
ثم يقول نوح عليه السلام: {وَنَجِّنِي} [الشعراء: 118] من كيدهم وما يُهدِّدونني به من الرَّجْم {وَمَن مَّعِي مِنَ المؤمنين} [الشعراء: 118] لأن الإيذاء قد يتعدّاه إلى المؤمنين معه، وتأتي الإجابة سريعة: {فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ}(17/10627)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
وقد وردتْ قصة السفينة في الأعراف، وفي هود، ولنوح عليه السلام سورة خاصة هي سورة نوح مثل سورة محمد؛ ذلك لأن له في تاريخ الرسالات ألف سنة إلا خمسين عاماً، ويستحق أنْ يخصَّه الله تعالى بسورة بأسمه.
لذلك عندما يكرر أحد الناس لك الكلام، ويُعيده عليك، تقول له (هيَّه سورة) ، فكلام العامة والأُميين له أَصْلٌ من استعمال اللغة.
وفي موضع آخر ذكر الحق تبارك وتعالى قصة صُنْع السفينة في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} [هود: 38] وهذا دليل على أنها كانت أول سفينة يصنعها الإنسان، وقد صنع نوح سفينته بأمر الله ووحيه وتحت عينه تعالى، وفي رعايته: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] .
وما كان الله تعالى ليُكلِّفه بصُنْع السفينة ثم يتركه، إنما تابعه، حتى إذا ما حدث خطأ نبَّهه إليه من البداية، كما قال تعالى لسيدنا موسى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] .
وبمثل هذه الآيات نردُّ على الذين يقولون: إن الله تعالى زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة فخلق الخَلْق، ثم ترك القوانين تسيره، ولو كان الأمر كذلك لوجدنا العالم كله يسير بحركة (ميكانيكية) ، لكن ظواهر الكون وما فيه من معجزات تدلُّ على قيوميته تعالى على خَلْقه.
لذلك يقول لهم: ناموا ملء جفونكم، فإن لكم رباً لا ينام، كيف لا وأنت إذا استأجرتَ حارساً لمنزلك مثلاً تنام مطمئناً اعتماداً على أنه يَقِظ؟ وكيف إذا حرسك ربُّك عَزَّ وَجَلَّ الذي لا تأخذه سِنَة ولا نَوْمٌ؟ وأَلاَ يدلُّ ذلك على قيوميته تعَالى؟(17/10628)
هذه القيومية التي تنقضُ العزائم، وتفسَح القوانين، قيومية تقول للنار كوني برداً وسلاماً فتكون، وتقول للماء: تجمَّد حتى تكون جبلاً فيتجمد، تقول للحجر: انفلق فينفلق. . ولو كان الأمر (ميكانيكياً) كما يقولون لما حدث هذا، ولما تخلَّف قانون واحد من قوانين الكون.
والمشحون: الذي امتلأ، ولم يَبْقَ به مكان خَالٍ، فكانت السفينة مشحونة بما حمل فيها، لأنها صُنِعَتْ بحساب دقيق، لا يتسع إلا لمن كُلِّف نوح بحملهم في سفينته، وكانوا ثمانين رجلاً وثمانين امرأة ومن كل حيوان زوجين اثنين.
والفلك المشحون يُطلَق ويُراد به الواحدة، ويُطلَق ويراد به الجماعة كما في قوله سبحانه: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] .(17/10629)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
وهم الكافرون الذين لم يركبوا معه، و {بَعْدُ} [الشعراء: 120] أي: بعد ما ركب من ركب، وبعد {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 1112] .(17/10629)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
والآية: الأمر العجيب الذي يجب الالتفات إليه والاعتبار به، لكن مَنْ سيعتبر بعد أنْ غرق الباقون؟ سيعتبر بهذه الآية المؤمنون الذين ركبوا السفينة حين يروْنَ نتيجة التكذيب، ومصير المكذِّبين الكافرين.(17/10629)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
أي: ورغم كُفْرهم وتكذيبهم، ورغم أنه ما كان أكثرهم مؤمنين، فالله تعالى هو العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب، وهو سبحانه الرحيم بعباده الذي يتوب على مَنْ تاب منهم.
ثم ينتقل السياق إلى قصة أخرى في موكب الأمم المكذِّبة: {كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين}(17/10630)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)
وقال هنا أيضاً {المرسلين} [الشعراء: 123] لأن تكذيب رسول واحد تكذيبٌ لكل الرسل؛ لأنهم جميعاً جاءوا بقواعد وأصول واحدة في العقائد وفي الأخلاق.
وعاد: اسم للقبيلة، وكانت القبائل تُنسَب إلى الأب الأكبر فيها، ولصاحب الشهرة والنباهة بين قومه، فعاد هو أبو هذه القبيلة، وقد يُطلَق عليهم بنو فلان أو آل فلان، ثم يذكر لنا قصتهم، ومتى كان منهم هذا التكذيب: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ}(17/10630)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
قلنا: إن (أَلاَ) للحثِّ والحضِّ، وحين يُنكّر النفي {أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 124] فإنه يريد الإثبات فكأنه قال: اتقوا. وقال {أَخُوهُمْ} [الشعراء: 124] ليرقق قلوبهم ويُحنِّنهم إليه، وليعرفوا أنه واحد منهم ليس غريباً عنهم، فهو أخوهم، والأخ من دَأبه النُّصْح والشفقة والرحمة، وهذا إيناس للخَلْق.(17/10630)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
وهذه المقولة لازمة من لوازم الرسُل في دعوتهم، سبق أنْ قالها نوح عليه السلام.(17/10631)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
قلنا: إن هذه العبارة أول مَنْ قالها نوح عليه السلام ثم سيقولها الأنبياء من بعده. لكن: لماذا لم يقل هذه العبارة إبراهيم؟ ولم يقُلْها موسى؟
قالوا: لأن إبراهيم عليه السلام أول ما دعا دعا عمه آزر، فكيف يطلب منه أَجْراً؟ وكذلك موسى عليه السلام أول دعوته دعا فرعون الذي ربَّاه في بيته، وله عليه فضل وجميل، فكيف يطلب منه أجراً، وقد قال له: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] .
لذلك لم تأْت هذه المقولة على لسان أحد منهما.
وقال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 127] لأن الربَّ هو الذي يتولَّى الخَلْق بالبذْل والعطايا والإمداد. وقلنا: إن عدم أخذ الأجر ليس زُهْداً فيه، إنما طمعاً في أنْ يأخذ أجره من الله، لا من الناس.
ثم يتوجّه إليهم ليُصحِّح بعض المسائل الخاصة بهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ}(17/10631)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
وهذه خصوصية من خصوصيات قوم هود، والرِّيع: هو المكان المرتفع، لذلك بعض الناس يقولون: كم رِيع بنائك؟ يعني: ارتفاعه(17/10631)
كم متراً، فكأن الارتفاع يُثمِّن البقعة، ويُطلق الريع على الارتفاع في كل شيء.
وكلمة {آيَةً} [الشعراء: 128] بعد {أَتَبْنُونَ} [الشعراء: 128] تعني: القصور العالية التي تعتبر ِآيةً في الإبداع وجمال العمارة والزخرفة والفخامة والاتساع والرِّفْعة في العُلُو.
وقال {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] لأنهم لن يخلُدوا في هذه القصور، ومع ذلك يُشيِّدونها لتبقى أجيالاً من بعدهم، فعدّ هذا بعثاً منهم؛ لأن الإنسان يكفيه أقلّ بناء ليأويه فترة حياته.
أو {تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] لأنهم كانوا يجلسون في شُرفات هذه القصور يصدُّون الناس، ويصرفونهم عن هود وسماع كلامه ودعوته التي تَلْفِتهم إلى منهج الحق.
ونحن لم نَرَ حضارة عاد، ولم نَرَ آثارهم، كما رأينا مثلاً آثار الفراعنة في مصر؛ لأن حضارة عاد طمرتْها الرمال، وكانوا بالجزيرة العربية في منطقة تُسمَّى الآن بالرَّبْع الخالي؛ لأنها منطقة من الرمال الناعمة التي يصعب السير أو المعيشة بها، لكن لكي نعرف هذه الحضارة نقرأ قوله تعالى في سورة الفجر:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 68] .(17/10632)
وما دامت لم يُخلَق مثلها في البلاد، فهي أعظم من حضارة الفراعنة التي نشاهدها الآن، ويفد إليها الناس من كل أنحاء العالم ليشاهدوا الأهرام مثلاً، وقد بنيت لتكون مجرد مقابر، ومع تقدُّم العلم في عصر الحضارة والتكنولوجيا، ما زال هذا البناء مُحيِّراً للعلماء، لم يستطيعوا حتى الآن معرفةَ الكثير من أسراره.
ومن هذه الأسرار التي اهتدَوْا إليها حديثاً كيفية بناء أحجار الأهرام دون ملاط مع ضخامتها، وقد توصَّلوا إلى أنها بُنيَتْ بطريقة تفريغ الهواء مما بين الأحجار، وهذه النظرية تستطيع ملاحظتها حين تضع كوباً مُبلّلاً بالماء على المنضدة مثلاً، ثم تتركه فترةً حتى يتبخر الماء من تحته، فإذا أردتَ أن ترفعه من مكانه تجده قد لصق بالمنضدة.
وليس عجيباً أنْ تختفي حضارةٌ، كانت أعظم حضارات الدنيا تحت طبقات الرمال، فالرمال حين تثور تبتلع كل ما أمامها، حتى إنها طمرتْ قبيلة كاملة بجِمالها ورجالها، وهذه هبة واحدة، فما بالك بثورة الرمال، وما تسفوه الريح طوال آلاف السنين؟
وأنا واثق من أنهم إذا ما نبشوا هذه الرمال وأزاحوها لوجدوا تحتها أرضاَ خصبة وآثاراً عظيمة، كما نرى الاكتشافات الأثرية الآن كلها تحت الأرض، وفي فيينا أثناء حفر أحد خطوط المجاري هناك وجدوا آثاراً لقصور ملوك سابقين.
وطالما أن الله تعالى قال عن عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128] فلا بُدَّ أن هناك قصوراً ومبانيَ مطمورة تحت هذه الرمال.(17/10633)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
المصانع تُطلَق على موارد الماء، وتطلق على الحصون، لماذا.
قالوا: لأن الحصون لا تُبنَى للإيواء فقط؛ لأن الإيواء يمنع الإنسان من هوام الحياة العادية، أمّا الحصون فمتنعه أيضاً من الأعداء الشرسين الذي يتربصون به، فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة، لماذا؟
{لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] يعني: أتبنون هذه الحصون هذا البناء القوي المسلح تريدون الخلود؟ وهل أنتم مُخلَّدون في الحياة؟ إن فترة مُكْث الإنسان في الدنيا يسيرة لا تحتاج كل هذا التحصين، فهي كظلِّ شجرة، سرعان ما يزول.(17/10634)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
والبَطْش: الأخْذُ بشدة وبعنف، يقول تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيد} [البروج: 12] ويقول: {أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 42] .
لأن الأَخْذ يأخذ صُوراً متعددة: تأخذه بلين وبعطف وشفقة، أو تأخذه بعنف.
ثم يزيدهم صفة أخرى تؤكد بَطْشهم {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] .
لأنك قد تأخذ عدوك بعنف، لكن بعد ذلك يرقُّ له قلبك، فترحم ذِلَّته لك، فتُهوِّن عليه وترحمه، لكن هؤلاء جبارون لا ترقّ قلوبهم.
وهذه الصفات الثلاثة السابقة لقوم هود: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128130] .(17/10634)
هذه الصفات تخدم صفة التعالي، وتسعى إلى الوصول إليه وكأنهم يريدون صفة العُلُو التي تُقرِّبهم من الألوهية؛ لأنه لا أحدَ أعلى من الحق سبحانه، ثم يريدون أيضاً استدامة هذه الصفة واستبقاء الألوهية: {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] .
وفي صفة البَطش الشديد والجبارية يريدون التفرُّد على الغير، والقرآن يقول: {تِلْكَ الدار الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً} [القصص: 83] .
فإنْ كنتَ تريد أداء الخدمة المنوطة بك في الحياة، فعليك أنْ تؤديها، لا للتّعالي؛ لأن حينئذ ستأخذ حظك من العُلُو والغَلَبة في دار الدنيا وتنتهي المسألة، أمّا إنْ فعلتَ وفي بالك ربُّك، وفي بالك أنْ تُيسِّر للناس مصالح الحياة، فإنك تُرقَّي عملك وتُثمِّره، ويظل لك أجره، طالما وجد العمل ينتفع الناس به إلى أنْ تقوم الساعة، وهذا أعظم تصعيد لعمل الإنسان.
ولم يفعل قوم عاد شيئاً من هذا، إنما طلبوا العُلُو في الأرض، وبطشوا فيها جبارين، لكن أيتركهم ربهم عَزَّ وَجَلَّ يستمرون على هذه الحال؟
إن من رحمة الله تعالى بعباده أنْ يُذكِّرهم كلما نَسُوا، ويُوقظهم كلما غفلوا، فيرسل لهم الرسل المتوالين؛ لأن الناس كثيراً ما تغفل عن العهد القديم الذي أخذوه على أنفسهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} [الأعراف: 172173] .
وقلنا: إن الحق تبارك وتعالى يضع المناعة في خليفته في(17/10635)
الأرض، ويعطيه المنهج الذي يصلحه، لكنه قد يغفل عن هذا المنهج أو تغلبه نفسه، فينحرف عنه، والإنسان بطبيعته يحمل مناعةً من الحق ضد الباطل وضد الشر، فإنْ فسدَتْ فيه هذه المناعة فعلى الآخر أن يُذكِّره ويُوقظ فيه دواعي الخير. ومن هنا كان قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3] .
فإنْ وجدتَ أخاك على باطل فخُذْ بيده إلى الحق.
ومعنى {وَتَوَاصَوْاْ} [العصر: 3] أي: تبادلوا التوصية، فكل منكم عُرْضة للغفلة، وعُرْضة للانحراف عن المنهج، فإنْ غفلتُ أنا توصيني، وإنْ غفلتَ أنت أوصيك، وهذه المناعة ليست في الذات الآن، إنما في المجتمع المؤمن، فمنْ رأى فيه اعوجاجاً قوَّمه.
لكن ما الحال إنْ فسدت المناعة في الفرد وفسدَتْ في المجتمع، فصار الناس لا يعرفون معروفاً، ولا يُنكِرون منكراً، كما قال تعالى عن بني إسرائيل:
{كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] .
وعندها لا بد أن يرسل رب العزة سبحانه برسول جديد، ومعجزة جديدة تُوقِظ الناس، وتعيدهم إلى جادة ربهم.
ومن شرف أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله تعالى جعل المناعة في ذات نفوسها، فجعلهم الله توابين، إنْ فعل أحدهم الذنب تاب ورجع، وإنْ لم يرجع وتمادى رَدَّه المجتمع الإيماني وذكَّره.
وهذه الصفة ملازمة لهذه الأمة إلى قيام الساعة، كما ورد في الحديث: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة» .(17/10636)
لذلك لن يأتي فيها رسول بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن المناعة ملازمة لها في الذات، وفي النفس اللوامة، وفي المجتمع الإيماني الذي لا يُعدم فيه الخير أبداً.
لذلك يقول سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله} [آل عمران: 110] .
وهذه صفة تفردتْ بها هذه الأمة عن باقي الأمم؛ لذلك يقول هود عليه السلام مُذكّراً لقومه ومُوقِظاً لهم: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ}(17/10637)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
أي: أن ربكم عَزَّ وَجَلَّ لم يترككم على ما أنتم عليه من الضلال تعبثون بالآيات، وتتخذون مصانع تطلبون الخلود، وأنكم بطشتم جبارين، وها هو يدعوكم: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 131] فتقوى الله تعالى وطاعته كفيلة أنْ تُذهب ماضيكم وتمحو ذنوبكم، بل وتُبدِّله خيراً وصلاحاً {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] .
وأنا حين أُوصيكم بتقوى الله وطاعته، لا أوصيكم بهذا لصالحي أنا، فلا أقول لكم، اتقوني أو أطيعوني ولن أنتفع من طاعتكم بشيء. كذلك الحق تبارك وتعالى غني عنكم وعن طاعتكم؛ لأن له سبحانه صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق، فهو سبحانه متصف بالخَلْق قبل أن يخلق، وبالقدرة قبل أن يُوجَد المقدور عليه. . إلخ.
إذن: فوجودكم لم يَزِدْ شيئاً في صفاته تعالى، وما كانت الرسالات إلا لمصلحتكم أنتم، فإذا لم تطيعوا أوامر الله، وتأخذوا منهجه، لأنه يفيدكم فأطيعوه جزاءَ ما أنعم عليكم من نِعَم لا تُعدُّ ولا تُحصَى، فالإنسان طرأ على كون أُعِدَّ لاستقباله وهُيِّىء لمعيشته،(17/10637)
وخلق له الكون كله: سماءً، فيها الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر، وأرضاً فيها الخصب والماء والهواء. هذا كله قبل أن تُوجَد أنت، فطاعتك لله إذن ليست تفضُّلاً منك، إنما جزاء ما قدَّم لك من نِعَم.
وعجيب أن ترى هذه المخلوقات التي جُعِلَتْ لخدمتك أطول عمراً منك، فالإنسان قد يموت يوم مولده، وقد يعيش عدة أيام أو عدة سنوات، أمّا الشمس مثلاً فعمرها ملايين السنين، وهي تخدمك دون سلطان لك عليها، ودون أن تتدخل أنت في حركتها.
ثم يقول تعالى: {واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ}(17/10638)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
لم تعدد الآية ما أمدنا الله به، وتركتْ لنا أن نُعدِّده نحن؛ لأننا نعرفه جيداً ونعيشه، وندركه بكل حواسِّنا ومداركنا، فما من آلة عندك إلا وتحت إدراكها نعمة لله، بل عدة نِعَم، فالعين ترى المناظر، والأذن تسمع الأصوات، والأنف يشم الروائح، واليد تبطش. . إلخ.
{أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} [الشعراء: 132] فقولوا أنتم واشهدوا على أنفسكم وعَدِّدوا نِعَم ربكم عليكم.(17/10638)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
المراد الأنعام: الضأن والماعز والإبل والبقر، ثمانية أزواج.(17/10638)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
فإنْ قلت: فنحن نمرُّ بديارهم، فلا نرى إلا خلاءً تسْفُو فيه الرياح، نعم لقد كانت لهم جنات وعيون هي الآن تحت أطباق التراب {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم: 98] .(17/10639)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
أي: أن تقوى الله وطاعته لا تعَدُّ شكراً على نعمه فحسب، إنما أيضاً تكون لكم وقاية من عذاب الآخرة، فلا تظنوا أنكم أخذتُم نِعَم الله، ثم بإمكانكم الانفلات منه أو الهرب من لقائه، فالقاؤه حق لا مفرَّ منه، ولا مهرب، فإنْ لم تَخَفْ السابق من النعم، فخَفِ اللاحق من النِّقَم.
فماذا كان ردّهم على مقالة نبيِّهم وموعظته لهم؟ {قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ}(17/10639)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
وقولهم {أَوَعَظْتَ} [الشعراء: 136] دليل على أن الحق لا بُدَّ أن يظهر، ولو على ألسنة المكابرين، ولا يكون الوعظ إلا لمَنْ علم حكماً، ثم تركه، فيأتي الواعظ ليُذكِّره به، فهو إذن مرحلة ثانية بعد التعليم، فهذا القول منهم اعتراف ودليل أنهم علموا المطلوب منهم، ثم غفلوا عنه.
وهؤلاء يقولون لنبيهم {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} [الشعراء: 136] يعني: أرح نفسك، فسواء علينا وعظُك وعدم وعظِك، ونلحظ أنهم قالوا: {أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} [الشعراء: 136](17/10639)
ولم يقولوا مثلاً: سواء علينا أوعظتَ أم لم تَعِظْ؛ لأن نفي الوَعْظ يُثبت له القدرة عليه.
إنما {لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين} [الشعراء: 136] يعني: امتنع منك الوعظ نهائياً، وكأنهم لا يريدون مسألة الوعظ هذه أبداً، حتى في المستقبل لن يسمعوا له.(17/10640)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
إنْ: بمعنى ما النافية، يعني: ما هذا الذي جئتَ به إلا {خُلُقُ} [الشعراء: 137] الأولين يعني: عادة مَنْ سبقوك واختلاقهم، يقصدون الرسل السابقين، كما قالوا: {لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [النمل: 68] .
وقالوا: {مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15] .
فوصفوا نبيهم، ومَنْ سبقوه من الرسل بالكذب والاختلاق وإيجاد شيء لم يكن موجوداً.
والخُلُق: صفة ترسخ في النفس تصدر عنها الأفعال بيُسْر وسهولة، والصفات التي يكتسبها الإنسان لا تعطي مهارة من أول الأمر، بل تعطي مهارة بعد الدُّرْبة عليها، فتصير عند صاحبها كالحركة الآلية لا تحتاج منه إلى مجهود أو معاناة.
وسبق أن ضربنا مثلاً بالصبي الذي يتعلم مثلاً الحياكة، وكم يعاني ويضربه معلمه في سبيل تعلُّم لضم الخيط في الإبرة، حتى إذا ما تعلمها الصبي وأجادها تراه فعل ذلك تلقائياً، ودون مجهود وربما وهو مُغْمض العينين.(17/10640)
وأنت حينما تتعلم قيادة السيارة مثلاً لأول مرة، كم تعاني وتقع في أخطاء وأخطار؟ لكن بعد التدريب والدُّرْبة تستطيع قيادتها بمهارة، وكأنها مسألة آلية، وكذلك الخُلُق المعنوي، مثل هذه الدُّرْبة والآلية في الماديات.
إذن: {خُلُقُ الأولين} [الشعراء: 137] يعني: دعوى ادعوْهَا جميعاً أي: الرسل.
وفي قراءة أخرى تُوجه للمرسل إليهم بفتح الخاء وسكون اللام (خُلْق) أي: اختلاق والمعنى: نحن كمن سبقونا من الأمم لا نختلف عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .
وهؤلاء السابقون قالوا: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] .
فهذه الصفة أصبحت عندنا ثابتة متأصِّلة في النفس، فلا تحاول زحزحتنا عنها، فالمراد: نحن مثل السابقين لا نؤمن بمسألة البعث، فأرح نفسك، فلن يجديَ معنا وعْظُك.(17/10641)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
يقولونها صريحة ردّاً على قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135] .
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ}(17/10641)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
وكانت السماء قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تجعل الرسول يُدلِي بمعجزته، أو يقول بمنهجه، لكن لا تطلب منه أن يُؤدِّب المعاندين والمعارضين له إنما تتولّى السماء عنه هذه المهمة فتُوقِع بالمكذبين عذابَ الاستئصال.
وقد أُمِنَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عذاب الاستئصال، فمَنْ كفر برسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأخذه الله كما أخذ المكذِّبين من الأمم السابقة، إنما يقول سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 14] .
وكملة {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139] كلمة صادقة، لها دليل في الوجود نراه شاخصاً، كما يقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد} [الفجر: 68] .
نعم، كانت لهم حضارة بلغتْ القمة، ولم يكُنْ لها مثيل، ومع هذا كله ما استطاعت أنْ تصون نفسها، وأخذها الله أَخْذ عزيز مقتدر.
قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137138] .
وقال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا} [النمل: 52] .
أي: أنها شاخصة أمامكم تروْنها وتمرُّون عليها، وأنتم لم تبلغوا مبلغَ هذه الحضارة، فإذا كانت حضارتهم لم تمنعهم من أَخْذ الله العزيز المقتدر، فينبغي عليكم أنْ تتنبهوا إلى أنكم أضعف منهم، وأن ما حاق بالكافرين وما نزل بالمكذِّبين ليس ببعيد عن أمثالهم من الأمم الأخرى.
لذلك تجد الحضارات التي تُتوَارث في الكون كلها آلتْ إلى زوال،(17/10642)
ولم نجد منها حضارة بقيتْ من البداية إلى النهاية، ولو بُنِيَتْ هذه الحضارات على قيم ثابتة لكان فيها المناعة ضد الزوال.
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 139] أي: في إهلاك هذه الحضارة لأمر عظيم، يُلفِت الأنظار، ويدعو للتأمل: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 139] .(17/10643)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
قال {رَبَّكَ} [الشعراء: 140] ولم يقُلْ ربهم؛ لأن منزلة المربِّي تعظم في التربية بمقدار كمال المربِّي، فكأنه تعالى يقول: أنا ربُّك الذي أكملت تربيتك على أحسن حال، فَمنْ أراد أنْ يرى قدرة الربوبية فليرها في تربيتك أنت، والمربَّى يبلغ القمة في التربية إنْ كان مَنْ ربَّاه عظيماً.
لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي» .
إذن: فمن عظمة الحق تبارك وتعالى أنْ يُعطي نموذجاً لدقّة تربيته تعالى ولعظمة تكوينه، ولما يصنعه على عَيْنه تعالى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أكرمُ مخلوق مُربَّى في الأرض؛ لذلك قال {رَبَّكَ} [الشعراء: 140] ولم يقل: ربهم مع أن الكلام ما يزال مُتعلقاً بهم.
وقوله تعالى: {لَهُوَ العزيز الرحيم} [الشعراء: 140] العزيز قلنا: هو الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب، لكن لا تظن أن في هذه الصفة جبروتاً؛ لأنه تعالى أيضاً رحيم، ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يجمع بين هاتين الصفتين: عزيز ورحيم وكأنه يشير لنا إلى مبدأ إسلامي يُربِّي(17/10643)
الإسلام عليه أتباعه، ألا وهو الاعتدال فلا تطغى عليك خصلة أو طبْع أو خُلُق، والزم الوسط؛ لأن كل طبْع في الإنسان له مهمة.
وتأمل قول الله تعالى في صفات المؤمنين:
{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] .
فالمسلم ليس مجبولاً على الذلّة ولا على العزة، إنما الموقف هو الذي يجعله ذليلاً، أو يجعله عزيزاً، فالمؤمن يتصف بالذلّة والخضوع للمؤمنين، ويتصف بالعزّة على الكافرين.
ومن ذلك أيضاً: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
ومعلوم أن الرحمة في غير موضعها ضَعْف وخَوَر، فمثلاً الوالد الذي يرفض أن يُجري لولده جراحة خطرة فيها نجاته وسلامته خوفاً عليه، نقول له: إنها رحمة حمقاء وعطف في غير محلّه.
ثم يقول الحق سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين}(17/10644)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)
بعد أن ذكر طرفاً من قصة إبراهيم وموسى ونوح وهود عليهم السلام ذكر قصة ثمود قوم صالح عليه السلام، وقد تكررتْ هذه اللقطات في عدة مواضع من كتاب الله؛ ذلك لأن القرآن في علاجه لا يعالج أمةً واحدة في بيئة واحدة بخُلق واحد، إنما يعالج عالماً مختلف البيئات ومختلف الداءات ومختلف المواهب والميول.
فلا بُدَّ أن يجمع الله له الرسل كلهم، ليأخذ من كل واحد منهم لقطة؛ لأنه سيكون منهجاً للناس جميعاً في كُلِّ زمان وفي كُلِّ مكان،(17/10644)
أمّا هؤلاء الرسل الذين جمعهم الله في سياق واحد فلم يكونوا للناس كافة، إنما كل واحد منهم لأمة بعينها، ولقابل واحد في زمن مخصوص، ومكان مخصوص.
لقد بُعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليكون رسولاً يجمع الدنيا كلها على نظام واحد، وخَلُق واحد، ومنهج واحد، مع تباين بيئاتهم، وتباين داءاتهم ومواهبهم. إذن: لا بُدَّ أن يذكر الحق تبارك وتعالى لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طرفاً من سيرة كل نبي سبقه.
لذلك قال سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُنْ في حاجة لأن يُثبِّت الله فؤاده مرة واحدة، إنما كلّما تعرّض لمواقف احتاج إلى تثبيت، فيُثّبته الله، يقول له: تذكّر ما كان من أمر إبراهيم، وما كان من أمر نوح وهود ... إلخ فكان تكرار القصص لتكرار التثبيت، فالقصة في القرآن وإنْ كانت في مجموعها مكررة، إنما لقطاتها مختلفة تؤدي كُلٌّ منها معنى لا تؤديه الأخرى.
وهنا يقول سبحانه كما قال عن الأمم السابقة: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} [الشعراء: 141] لأن الرسل جميعاً إنما جاءوا بعقيدة واحدة، لا يختلف فيها رسول عن الآخر، وصدروا من مصدر واحد، هو الحق تبارك وتعالى، ولا يختلف الرسل إلا في المسائل الاجتماعية والبيئية التي تناسب كلاً منهم.
لذلك يقول تعالى: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط وعيسى} [النساء: 163] .
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ(17/10645)
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] .
ثم يقول الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ}(17/10646)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144)
قال هنا أيضاً: {أَخُوهُمْ} [الشعراء: 142] ليرقِّق قلوبهم ويُحنِّنها على نبيهم {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 142] قلنا: إنها استفهام إنكاري. تعني: اتقوا الله، ففيها حَثٌّ وحَضّ على التقوى، فحين تُنكر النفي، فإنك تريد الإثبات.
ولما كانت التقوى تقتضي وجود منهج نتقي الله به، قال: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 143] وما دُمْتُ أنا رسول أمين لن أغشّكم {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 144] وكرر الأمر بالتقوى مرة أخرى، وقرنها بالطاعة.(17/10646)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
فكأن العمل الذي أقدمه من أجلكم في عُرْف العقلاء يستحق أجراً، فالعامل الذي يعمل لكم شيئاً جزئياً من مسائل الدنيا يزول وينتهي يأخذ أجراً عليه، أما أنا قأقدّم لكم عملاً يتعدَّى الدنيا إلى الآخرة، ويمدّ حياتك بالسعادة في الدنيا والآخرة، فأجْري إذن كبير؛ لذلك لا أطلبه منكم إنما من الله.(17/10646)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
يريد أن يُوبِّخهم: أتظنون أنكم ستخلّدون في هذا النعيم، وأنتم آمنون، أو أنكم تأخذون نِعَم الله، ثم تفرُّون من حسابه، كما قال سبحانه:
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
فمَنْ ظن ذلك فهو مخطيء قاصر الفهم؛ لأن الأشياء التي تخدمك في الحياة لا تخدمك بقدرة منك عليها، فأنت لا تقدر على الشمس فتأمرها أنْ تشرق كل يوم، ولا تقدر على السحاب أن ينزل المطر، ولا تقدر على الأرض أن تعطيها الخصوبة لتنبت، ولا تقدر على الهواء الذي تتنفسه. . إلخ وهذه من مُقوِّمات حياتك التي لا تستطيع البقاء بدونها.
وكان من الواجب عليك أن تتأمل وتفكر: مَن الذي سخرَّها لك، وأقدرك عليها؟ كالرجل الذي انقطع في الصحراء وفقد دابته وعليها طعامه وشرابه حتى أشرف على الهلاك، ثم أخذته سِنَة أفاق منها على مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، بالله، أليس عليه قبل أنْ تمتد يده إليها إنْ يسأل نفسه: مَنْ أعدّ لي هذه المائدة في هذا المكان.
كذلك أنت طرأتَ على هذا الكون وقد أُعِدَّ لك فيه كل هذا الخير، فكان عليك أن تنظر فيه، وفيمَنْ أعدّه لك. فإذا جاءك رسول من عند الله ليحلَّ لك هذا اللغز، ويخبرك بأن الذي فعل كل هذا هو الله، وأن من صفات كماله كذا وكذا، فعليك أن تُصدِّقه.
لأنه إما أن يكون صادقاً يهديك إلى حَلِّ لغز حار فيه عقلك، وإما هو كاذب والعياذ بالله وحاشا لله أن يكذب رسول الله على الله(17/10647)
فإن صاحب هذا الخلق عليه أن يقوم ويدافع عن خَلْقه.
ويقول: هذا الرسول مُدَّعٍ وكاذب، وهذا الخَلْق لي: فإذا لم يقُمْ للخَلْق مُدَّعٍ فقد ثبتتْ القضية لله تعالى إلى أنْ يظهر مَنْ يدَّعيها لنفسه.(17/10648)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 147] امتداد للآية السابقة، يعني: لا تظنوا أن هذا يدوم لكم. و (جنات) : جمع جنة، وهي المكان المليء بالخيرات، وكل ما يحتاجه الإنسان، أو هي المكان الذي إنْ سار فيه الإنسان سترتْه الأشجار؛ لأن جنَّ يعني ستر. كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} [الأنعام: 76] أي: ستره.
ومنه الجنون. ويعني: سَتْر العقل. وكذلك الجنة، فهي تستر عن الوجود كله، وتُغنيك عن الخروج منها إلى غيرها، ففيها كل ما تتطلبه نفسك، وكل ما تحتاجه في حياتك.
ومن ذلك ما نسميه الآن (قصراً) لأن فيه كل ما تحتاجه بحيث يقصرك عن المجتمع البعيد.
وقال بعدها: {وَعُيُونٍ} [الشعراء: 147] لأن الجنة تحتاج دائماً إلى الماء، فقال {وَعُيُونٍ} [الشعراء: 147] ليضمن بقاءها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا}(17/10648)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
النخل من الزروع، لكن خصَّ النخل بالذِّكْر، لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اهتم به، وشبَّهه بالمؤمن في الحديث: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها» قال الراوي: فوقع الناس في شجر البوادي،(17/10648)
ولم يهتدوا إليها، فلما خرج عمر وابنه عبد الله قال: يا أبي، لقد وقع في ظني أنها النخلة؛ لأنها مثل المؤمن كل ما فيه خير.
نعم لو تأملتَ النخلة لوجدتَ أن كل شيء فيها نافع، وله مهمة، وينتفع الزارع به، ولا يُلْقَى منها شيء منهما كان بسيطاً. فالجذوع تُصنع منها السواري والأعمدة، وتُسقف بها البيوت قبل ظهور الخرسانة، ومن الجريد يصنعون الأقفاص، والجزء المفلطح من الجريدة ويسمى (القحف) والذي لا يصلح للأقفاص كانوا يجعلونه على شكل معين، فيصير (مقشّة) يكنسون بها المنازل.
ومن الليف يصنعون الحبال، ويجعلونه في تنجيد الكراسي وغيرها، حتى الأشواك التي تراها في جريد النخل خلقه الله لحكمة وبقدَرٍ؛ لأنها تحمي النخلة من الفئران أثناء إثمارها، والليف الذي يمنو بين أصول الجريد جعله الله حماية للنخلة، وهي في طور النمو، وما تزال غَضَّة طرية، فلا يحمي بعضها على بعض.
إذن: هي شجرة خيِّرة كالمؤمن، وقد تم أخيراً في أحد البحوث أن أخذوا الجزء الذي يسمى بالقحف، وجعلوه في تربة مناسبة، فأنبتوا منه نخلة جديدة.
لذلك «لما قال ابن عمر: إنها النخلة. ذهب عمر إلى رسول الله، وحكى له مقالة ولده، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صدق ولدك «فقال عمر: (فوالله ما يسرني أن فَطِن ولدي إليها أن لي حمر النعم) » .(17/10649)
والذين يزرعون النخيل يروْنَ فيه آيات وعجائب دالّة على قدرة الله تعالى.
ومعنى {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] الطَّلْع: هو الكوز الذي تخرج منه الشماريخ في الأُنْثى ويخرج منه المادة المخصبة في الذكر، والتي قال الله عنها: {قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} [الأنعام: 99] .
وفي الذَّكر يخرج من الكوز المادة المخصِّبة للنخلة، وللقِنْوان أو الشماريخ أطوار في النمو يُسمُّونه (الخلا) ، فيظل ينمو ويكبر إلى أنْ يصل إلى نهايته حَدّاً حيث يجمد على هذه الحالة، ويكتمل نموه الحجمي، ثم تبدأ مرحلة اللون.
يقولون (عفَّر) النخل: يعني شاب خضرته حمرة أو صفرة. فإذا اكتمل احمرار الأحمر واصفرار الأصفر، يسمى (بُسْر) ثم يتحول البُسْر إلى (الرطب) حيث تلين ثمرته وتنفصل قِشْرته، فإنْ كان الجو جافاً فإنَّ الرُّطَب يَيْبس، ويتحول إلى (التمر) حيث تتبخَّر مائيته، وتتماسك قِشْرته، وتلتصق به.
ومعنى {هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] يعني: غَضٌّ ورَطْب طريٌّ، وهذا يدل على خصوبة الأرض، ومنه هضم الطعام حتى يصبر ليِّناً مُسْتساغاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال}(17/10650)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
وحين تذهب إلى مدائن صالح تجد البيوت منحوتة في الجبال كما ينحتون الآن الأنفاق مثلاً، لا يبنونها كما نبني بيوتنا، ومعنى {فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] الفاره: النشط القوي ظاهر الموهبة، يقولون: فلان فاره في كذا يعني؛ ماهر فيه، نشط في ممارسته.(17/10651)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
المسرف: هو الذي يتجاوز الحدِّ؛ وتجاوز الحدِّ له مراحل؛ لأن الله تعالى أحلَّ أشياء، وحرّم أشياء، وجعل لكل منهما حدوداً مرسومة، فالسَّرَف فيما شرع الله أن تتجاوز الحلال، فتُدخل فيه الحرام.
أو: يأتي الإسراف في الكَسْب فيدخل في كَسْبه الحرام. وقد يُلزم الإنسان نفسه بالحلال في الكسب، لكن يأتي الإسراف في الإنفاق فينفق فيما حرَّمه الله. إذن: يأتي الإسراف في صور ثلاثة: إما في الأصل، وإما في الكسب، وإما في الإنفاق.
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى حينما يكلمنا عن الحلال، يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .
أما في المحرمات فيقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي: ابتعد عنها؛ لأنك لا تأمن الوقوع فيها، ومَنْ حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فلم يقل الحق سبحانه مثلاً: لا تُصَلُّوا وأنتم سكارى. إنما قال: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] .
والمعنى: خُذِ الحلال كله، لكن لا تتعداه إلى المحرَّم، أما المحرَّم فاحذر مجرد الاقتراب منه؛ لأن له دواعي ستجذبك إليه.
ونقف عند قوله تعالى: {وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين} [الشعراء: 151] حيث لم يقل: ولا تسرفوا، وكأن ربنا عزّ وجلّ يريد(17/10651)
أن يُوقِظ غفلتنا ويُنبِّهنا ويُحذِّرنا من دعاة الباطل الذين يُزيِّنون لنا الإسراف في أمور حياتنا، ويُهوِّنون علينا الحرام يقولون: لا بأس في هذا، ولا مانع من هذا، وهذا ليس حرام. ربنا يعطينا المناعة اللازمة ضد هؤلاء حتى لا ننساق لضلالالتهم.
لذلك جاء في الحديث الشريف: «استفت قلبك، واستفتِ نفسك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك، وإنْ أفتوك» .
وفي هذا دليل على أنه سيأتي أناس يُفتون بغير علم، ويُزيِّنون للناس الباطل، ويُقنعونهم به. والفتوى من الفُتوة القوة، ومنه قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] .
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] .
كذلك الفتوى تعني: القوة في أمر الدين والتمكُّن من مسائله وقضاياه، وإنْ كانت القوة المادية في أمر الدنيا لها حَدٌّ تنتهي عنده فإنْ القوة في أمر الدين لا تنتهي إلى حَدٍّ، لأن الدين أمدُه واسع، وبحره لا ساحلَ له. والقوة نعرفها في أي ناحية من النواحي، لكن قوة القوى هي القوة في أمر الدين.
نقول: فلان فتيٌّ يعني: قويٌّ بذاته، وأفتاه فلان أي: أعطاه القوة، كأنه كان ضعيفاً في حُكم من أحكام الشرع، فذهب إلى المفتي فأفتاه يعني: أعطاه فتوة في أمر الدين. مثل قولنا: غَنيَ فلان أي: بذاته، وأغناه أي: غيره، كما يقول سبحانه: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 74] .(17/10652)
إذن: فمهمة المفتي أن يُقوِّي عقيدتي، لا أن يسرف لي في أمر من أمور الدين، أو يُهوِّن عليَّ ما حرّم الله فيُجرِّئني عليه، وعلى المفتي أن يتحرَّى الدقة في فتواه خاصة في المسائل الخلافية التي يقول البعض بحلِّها، والبعض بحرمتها، يقف عند هذه المسائل وينظر فيها رأي الإسلام المتمثل في الحديث الشريف:
«الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مُشْتبهات، فمن ترك ما شُبِّه له لا من فعل ما شُبِّه له يعني على الأقل نترك ما فيه شبهة فقد استبرأ لدينه إن كان متديناً وعِرْضه إن لم يكُنْ متديناً» .
إذن: مَنْ لم يقف هذا الموقف ويترك ما فيه شبهة لم يستبرىء لدينه ولا لعِرْضه. ومَنْ لم يُفْتِ على هذا الأساس من العلماء فإنما يُضعِف أمر الدين لا يُقوِّيه، وبدل أن نقول: أفتاه. نقول: أضعفه.(17/10653)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
فوصف المسرفين بأنهم مفسدون في الأرض غير مصلحين، كأن الأرض خلقها الخالق عَزَّ وَجَلَّ على هيئة الصلاح في كل شيء، لكن يفسدها الإنسان بتدخلّه في أمورها؛ لذلك سبق أن قلنا: إنك لو نظرتَ إلى الكون من حولك لوجدته على أحسن حال، وفي منتهى الاستقامة، طالما لا تتناوله يد الإنسان، فإنْ تدخّل الإنسان في شيء ظهرتْ فيه علامات الفساد.
ولا يعني هذا ألاَّ يتدخل الإنسان في الكون، لا إنما يتدخل على(17/10653)
منهج مَنْ خَلقَ فيزيد الصالح صلاحاً، أو على الأقل يتركه على صلاحه لا يفسده، فإن تدخَّل على غير هذا المنهج فلا بُدَّ له أن يفسد.
فحين تمر مثلاً ببئر ماء يشرب منه الناس، فإما أنْ تُصلح من حاله وتزيده ميزة وتُيسِّر استخدامه على الناس، كأن تبني له حافّة، أو تجعل عليه آلة رَفْع تساعد الناس، أو على الأقل تتركه على حاله لا تفسده؛ لذلك يقول تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] .
أما هؤلاء القوم فلم يكتَفِ القرآن بوصفهم بالفساد وحسب، إنما أيضاً هم {وَلاَ يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152] ذلك لأن الإنسان قد يُفسِد في شيء، ويُصلح في شيء، إنما هؤلاء دأبهم الفساد، ولا يأتي منهم الصلاح أبداً.
ونكبة الوجود من الذين يصنعون أشياء يروْنها في ظاهرها صلاحاً، وهي عَيْن الفساد؛ لأنهم لم يأخذوها بكل تقنيناتها القيمية، وانظر مثلاً إلى المبيدات الحشرية التي ابتكروها وقالوا: إنها فتح علمي، وسيكون لها دور كبير في القضاء على دودة القطن وآفات الزرع، وبمرور الزمن أصبحت هذه المبيدات وبالاً على البشرية كلها، كيث تسمِّم الزرع وتسمِّم الحيوان، وبالتالي الإنسان، حتى الماء والتُّرْبة والطيور، لدرجة أنك تستطيع القول أنها أفسدت الطبيعة التي خلقها الله.
وفي هؤلاء قال تعالى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 103104] .(17/10654)
ثم يقول الحق سبحانه: {قالوا إِنَّمَآ أَنتَ}(17/10655)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
{المسحرين} [الشعراء: 153] جمع مُسحَّر، وهي صيغة مبالغة تدلُّ على وقوع السحر عليه أكثر من مرة، نقول: مسحور يعني: مرة واحدة ومُسَحَّر يعني عدة مرات، ومن ذلك قوله تعالى عن ملأ فرعون أنهم قالوا له: {وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 3637] .
ولم يقل: بكل ساحر، إنما سحَّار يعني: هذه مهنته، وكما تقول: ناجر ونجار، وخائط وخياط.
وإنْ كان بعضهم قال عن نبيهم: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47] فهؤلاء يقولون لنبيهم {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153] وعجيب أمر أهل الباطل؛ لأنهم يتخبطون في هجومهم على الأنبياء، فمرَّة يقولون: ساحر. ومرة يقولون: مسحور، كيف والساحر لا يكون مسحوراً؛ لأنه على الأقل يستطيع أن يحمي نفسه من السحر. قالوا: بل المراد بالمسحور اختلاط عقله، حتى إنه لا يدري ما يقول.
ثم إن نبيكم صالحاً عليه السلام إنْ كان مسحوراً فمَنْ سحره؟ أنتم أم أتباعه؟ إنْ كان سحره منكم فأنتم تقدرون على كَفِّ سحركم عنه، حتى يعود إلى طبيعته، وترونه على حقيقته، وإنْ كان من أتباعه، لا بُدَّ أنهم سيحاولون أنْ يعينوه على مهمته، لا أن يُقعدوه عنها.
إذن: فقولهم لنبيهم: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153](17/10655)
يريدون أن يخلُصُوا إلى عدم اتباعه هو بالذات، فهم يريدون تديُّناً على حسب أهوائهم، يريدون عبادة إله لا تكليفَ له ولا منهج. كالذين يعبدون الأصنام وهم سعداء بهذه العبادة، لماذا؟
لأن آلهتهم لا تأمرهم بشيء ولا تنهاهم عن شيء. لذلك، فكل الدجالين ومُدَّعُو النبوة رأيناهم يُخفِّفون التكاليف عن أتباعهم، فقديماً أسقطوا عن الناس الزكاة، وحديثاً أباحوا لهم الاختلاط، فلا مانع لديهم من الالتقاء بالمرأة والجلوس معها ومخاطبتها والخُلْوة بها والرقص معها، وماذا في ذلك ونحن في القرن الحادي والعشرين؟
فإنْ قالوا: ساحر، نردُّ عليهم نعم هو ساحر، قد سحر مَنْ آمنوا به، فلماذا لم يسحركم أنتم وتنتهي هذه المسألة؟ إذن: هذه تُهَم لا تستقيم، لا هو ساحر، ولا هو مسحور، إنه مجرد كذب وافتراء على أنبياء الله، وعلى دعاة الخير في كل زمان ومكان.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا}(17/10656)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
وقولهم: {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154] إذن: فوجه اعتراضهم أن يكون النبي بَشَراً، كما قال سبحانه في آية أخرى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] .
ولو بعث الله لهم مَلَكاً لجاءهم على صورة بشر، وستظل الشُّبْهة قائمة، فمن يدريكم أن هذا البشر أصله مَلَك؟ {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً(17/10656)
لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] .
فالمعنى: ما دام أن الرسول بشر، لا يمتاز علينا في شيء فنريد منه أنْ يأتينا بآية يعني: معجزة تُثبِت لنا صِدْقه في البلاغ عن ربه {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 154] .
ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى ينتهز فرصة طلَبهم لآية ومعجزة، فأسرع إليهم بما طلبوا، ليقيم عليهم الحُجة، فقال بعدها: {قَالَ هذه نَاقَةٌ}(17/10657)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
هذا إجابة لهم؛ لأنهم طلبوا من نبيهم أنْ يُخرِج لهم من الصخرة ناقة تلد سَقْباً لا يكون صغيراً كولد الناقة، إنما تلد سَقْباً في نفس حجمها، فأجابهم {قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ} [الشعراء: 155] يعني: يوم تشرب فيه، لا يشاركها في شُرْبها شيء من مواشيكم.
{وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] أي: تشربون فيه أنتم، وكانت الناقة تشرب من الماء في يومها ما تشربه كلّ مواشيهم في يومهم، وهذه معجزة في حَدِّ ذاتها.(17/10657)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ}(17/10658)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
يخبر الحق سبحانه رسوله بما سيكون، وأن القوم لن يتركوا هذه الآية، إنما سيتعرضون لها بالإيذاء، فقال: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} [الشعراء: 156] لكنهم تعدَّوْا مجرد الإيذاء والإساءة فعقروها.
ثم يتوعدهم: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] .
ثم يقول الحق سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ}(17/10658)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
قال (عقروها) بصيغة الجمع، فهل اشتركتْ كل القبيلة في عَقْرها؟ لا بل عقرها واحد منهم، هو قدار بن سالف، لكن وافقه الجميع على ذلك، وساعدوه، وارتضوا هذا الفعل، فكأنهم فعلوا جميعاً؛ لأنه استشارهم فوافقوا.
{فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ} [الشعراء: 157] وقال العلماء: الندم مقدمة التوبة.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَخَذَهُمُ العذاب إِنَّ فِي ذَلِكَ}(17/10658)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
فإنْ قُلْتَ: كيف يأخذهم العذاب وقد ندموا، والندم من مقدمات التوبة؟
نعم، الندم من مقدمات التوبة، لكن توبة هؤلاء من التوبة التي قال الله عنها: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18] .
إذن: ندموا وتابوا في غير أوان التوبة، أو: أنهم أصبحوا نادمين لا ندمَ توبة من الذنب، إنما نادمون؛ لأنهم يخافون العذاب الذي هددهم الله به إنْ فعلوا.
ثم تُختم هذه القصة بهذا التذييل الذي عرفناه من قبل مع أمم أخرى مُكذِّبة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز}(17/10659)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
عزيز: يَغلِب ولا يُغْلَب، ومع ذلك هو رحيم في غَلَبه.
ثم ينتقل الحق سبحانه إلى قصة أخرى من مواكب الأنبياء والرسل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ}(17/10659)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161)
فقال هنا أيضاً {أَخُوهُمْ} [الشعراء: 161] لأنه منهم ليس غريباً(17/10659)
عنهم، وليُحنِّن قلوبهم عليه {أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء: 161] إنكار لعدم التقوى، وإنكار النفي يطلب الإثبات فكأنه قال: اتقوا الله.(17/10660)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
وهكذا كانت مقالة لوط عليه السلام كما قال إخوانه السابقون من الرسل؛ لأنهم يصدُرون جميعاً عن مصدر واحد.
ثم يخصُّ الحق سبحانه قوم لوط لما اشتُهروا به وكان سبباً في إهلاكهم: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين}(17/10660)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
فكأنها مسألة وخصلة تفردوا بها دون العالم كله.
لذلك قال في موضع آخر: {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] .
أي: أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لأنها عملية مستقذرة؛ لأن الرجل إنما يأتي الرجل في محل القذارة، ولكنهم فعلوها، فوَصْفه لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها مسألة فظيعة للغاية.(17/10660)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
يعني: كان عندكم مندوحة عن هذه الفِعْلة النكراء بما خلق الله لكم من أزواجكم من النساء، فتصرفون هذه الغريزة في محلها، ولا تنقلونها إلى الغير.
أو {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 166] أي: أنهم كانوا يباشرون هذه المسألة أيضاً مع النساء في غير محلِّ الاستنبات، فقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] .
البعض يظنها على عمومها وأن {أنى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] تعطيهم الحرية في هذه المسألة، إنما الآية محددة بمكان الحَرْث واستنبات الولد، وهذا محله الأمام لا الخلف.
لذلك قال بعدها: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] والعادي هو الذي شُرع له شيء يقضي فيه إربته، فتجاوزه إلى شيء آخر حرَّمه الشرع.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ}(17/10661)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
أي: إن لم تنته عن ملامنا ومعارضتنا فيما نفعله من هذه العملية {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} [الشعراء: 167] كما قالوا في آية أخرى: {أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} [النمل: 56] أي: لا مكان لهم بيننا، لكن لماذا؟ {إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] سبحان الله جريمتهم أنهم يتطهرون، ولا مكان للطُّهْر بين هؤلاء القوم الأراذل.(17/10661)
ثم يقول الحق سبحانه عن لوط: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ}(17/10662)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
وفرْقٌ بين كوني لا أعمل العمل، وكوْني أكره مَنْ يعمله، فالمعنى: أنا لا أعمل هذا العمل، إنما أيضاً أكره مَنْ يعمله، وهذا مبالغة في إنكاره عليهم.
ثم يقول لوط: {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي}(17/10662)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
لم يملك لوط عليه السلام أمام عناد قومه وإصرارهم على هذه الفاحشة إلا أنْ يدعو ربَّه بالنجاة له ولأهله، فأجابه الله تعالى {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} [الشعراء: 171] .
والمراد: امرأته التي قال الله في حقها: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} [التحريم: 10] .
فجعلها الله عَزَّ وَجَلَّ مثالاً للكفر والعياذ بالله؛ لذلك لم تكُنْ من الناجين، ولم تشملها دعوة لوط عليه السلام، وكانت من الغابرين. يعني: الهالكين.(17/10662)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
{الآخرين} [الشعراء: 172] أي: الذين لم يؤمنوا بدعوته، ولم(17/10662)
ينتهوا عن هذه الفاحشة، ثم بيَّن نوعية هذا التدمير، فقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} [الشعراء: 173] ولما كان المطر من أسباب الخير وعلامات الرحمة، حيث ينزل الماء من السماء، فيُحيي الأرض بعد موتها، وصف الله هذا المطر بأنه {فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين} [الشعراء: 173] فهو ليس مطرَ خَيْر ورحمة، إنما مطر عذاب ونقمة.
كماء جاء في آية أخرى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 2425] .
وهذا يُسمُّونه (يأس بعد إطماع) ، وهو أبلغ من العذاب والإيلام، حين تستشرف للخير فيُفاجئك الشر، وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بالسجين الذي يطلب من الحارس شَرْبة ماء، ليروي بها عطشه، فلو حرمه الحارس من البداية لَكانَ الأمر هيِّناً لكنه يحضر له كوب الماء، حتى إذا جعله على فيه أراقه على الأرض، فهذا أشد وأنكَى؛ لأنه حرمه بعد أن أطمعه، وهذا عذاب آخر فوق عذاب العطش.
وفي لقطة أخرى بينَّ ما هية هذا المطر، فقال: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 8283] .
فالحجارة من {سِجِّيلٍ} [هود: 82] أي: طين حُرِق حتى تحجَّر وهي {مُّسَوَّمَةً} [هود: 83] يعني: مُعلَّمة بأسماء أصحابها، تنزل عليهم بانتظام، كل حجر منها على صاحبه.
وبجمع اللقطات المتفرقة تتبين معالم القصة كاملة.(17/10663)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
وتُختم القصة بنفس الآيات التي خُتمِتْ بها القصص السابقة من قصص المكذِّبين المعاندين.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قوم آخرين كذبوا رسولهم شعيباً: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة}(17/10664)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176)
الأيكة: هي المكان الخِصْب الذي بلغ من خصوبته أنْ تلتفّ أشجاره، وتتشابك أغصانها، وقال هنا أيضاً {المرسلين} [الشعراء: 76] مع أنهم ما كذَّبوا إلا رسولهم؛ لأن تكذيب رسول واحد كتكذيب كُلِّ الرسل؛ لأنهم جميعاً جاءوا بمنهج واحد في العقيدة والأخلاق.(17/10664)
إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
نلحظ اختلاف الأسلوب هنا، مما يدل على دِقَّة الأداء القرآني، فلم يقل: أخوهم شعيب، كما قال في نوح وهود وصالح ولوط، ذلك لأن شعيباً عليه السلام لم يكن من أصحاب الأيكة، إنما كان غريباً عنهم.
وباقي الآيات متفقة تماماً مع مَنْ سبقه من إخوانه الرسل؛ لأن الوحدة في المنهج العقدي أنتجتْ الوحدة في علاج المنهج؛ لذلك قرأنا هذه الآيات عند كل الرسل الذين سبق ذكرهم.
ثم يأخذ في تفصيل الأمر الخاص بهم؛ لأن كل أمة من الأمم التي جاءها رسول من عند الله إنما جاء ليعالج داءً خاصاً تفشَّى بها، وكانت الأمم من قبل منعزلةً، بعضها عن بعض، ولا يوجد بينها وسائل اتصال تنقل هذه الداءات من أمة لأخرى.
فهؤلاء قوم عاد، وكان داءَهم التفاخُرُ بالبناء والتعالي على الناس، فجاء هود عليه السلام ليقول لهم:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128130] .
وثمود كان داءهم الغفلةُ والانصراف بالنعمة عن المُنْعم، فجاء صالح عليه السلام يقول لهم: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 146149] .
أما قوم لوط عليه السلام فقد تفرَّدوا بفاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، وهي إتيان الذكْران، فجاء لوط عليه السلام ليمنعهم ويدعوهم إلى التوبة والإقلاع:(17/10665)
{أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165166] .
أما أصحاب الأيكة، فكان داءهم أنْ يُطفِّفوا المكيال والميزان، فجاء شعيب عليه السلام ليقول لهم: {أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ}(17/10666)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
الكيل: آلة تُقدّر بها الأشياء التي تُكال، ووحدته: كَيْلة أو قَدح أو أردب. والميزان كذلك: آلة يُقدَّر بها ما يُوزَن.
ومعنى {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} [الشعراء: 181] المخسِر: هو الذي يتسبب في خسارة الطرف الآخر في مسألة الكيل، بأن يأخذ بالزيادة، وإنْ أعطى يُعطِي بالنقصان. وفي الوزن قال {بالقسطاس المستقيم} [الشعراء: 182] .
والقسطاس: يعني العدل المطلق في قدرة البشر وإمكاناتهم في تحرِّي الدّقّة في الوزن، مع مراعاة اختلاف الموزونات، فوزن الذهب غير وزن التفاح مثلاً، غير وزن العدس أو السمسم، فعليك أنْ تتحرّى الدقة قَدْر إمكانك، لتحقق هذا القسطاس المستقيم.
لكن، لماذا خصَّ الكيل والوزن من وسائل التقدير والتقييم، ولم يذكر مثلاً القياس في المساحات والمسافات بالمتر أو بالذراع؟
قالوا: لأن الناس قديماً وكانت أمماً بدائية لا تتعامل فيما يُقاس، فلا يشترون القماش مثلاً: لأنه يُغزل، تغزله النساء(17/10666)
ويغزله الرجال، ولم يكُنْ أحد يغزل لأحد أو يبيع له، فهذه صورة حضارية رأيناها فيما بعد.
وقديماً، كان الناس يتعاملون بالتبادل والمقايضة، وفي هذه الحالة لا يوجد بائع على حِدَة ولا مُشْترٍ على حِدَة، فلا يتفرد البائع بالبيع، والمشتري بالشراء، إلا في حالة مبادلة السلعة بثمن، كما قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أي: باعوه.
أما في حالة المقايضة، فأنت تأخذ القمح تأكله، وأنا آخذ التمر آكله، فالانتفاع هنا انتفاع مباشر بالسلعة، فإنْ قدَّرْتَ أن كل واحد في الصفقة بائع ومشترْ. تقول: شَرَى وباع. وإنْ قدَّرْت الأثمان التي لا ينتفع بها انتفاعاً مباشراً كالذهب والفضة، أو أي معدن آخر، وهذه الأشياء لا تؤكل فهي ثمن، أمّا الأشياء الأخرى فصالحة أنْ تكون سلعة، وصالحة لأنْ تكون ثمناً.
وقد أفرد القرآن الكريم سورة مخصوصة لمسألة الكيل والميزان هي «سورة المطففين» ، يقول سبحانه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 13] .
نقول: كال له يعني: أعطاه، واكتال عليه يعني: أخذ منه. فإن أخذ أخذ وافياً، وإنْ أعطى أعطى بالنقص والخسارة. والقرآن لا ينعى عليه أن يستوفى حقّه، لكن ينعى عليه أن ينقص من حَقِّ الآخرين، ولو شيئاً يسيراً.
فمعنى (المطففين) من الشيء الطفيف اليسير، فإذا كان الويل لمن يظلم في الشيء الطفيف، فما بال مَنْ يظلم من الكل؟(17/10667)
فاللوم هنا لمَنْ يجمع بين هذين الأمرين: يأخذ بالزيادة ويُعطي بالنقص، أما مَنْ يعطي بالزيادة فلا بأس، وجزاؤه على الله، وهو من المحسنين، الذين قال الله فيهم: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
ومع تطور المجتمعات بدأ الناس يهتمُّون بقياس دقة آلات الكيل والوزن والقياس، فَوُجِدت هيئات متخصصة في معايرتها والتفتيش عليها ومتابعة دِقّتها؛ لأنها مع مرور الزمن عُرْضة للنقص أو الزيادة، فمثلاً سنجة الحديد التي نزن بها قد تزيد إنْ كانت في مكان بحث تتراكم عليها الزيوت والتراب، وقد تنقص بالحركة مع مرور الوقت، كما تنقص مثلاً أكرة الباب من كثرة الاستعمال، فتراها لامعة، ولمعانها دليل النقص، وإنْ كان يسيراً.
وفي فرنسا، نموذج للياردة وللمتر من معدن لا يتآكل، جُعِلَتْ كمرجعٍ يُقاس عليه، وتُضبط عليه آلات القياس.
ورأينا الآن آلاتٍ دقيقة جداً للوزن وللقياس، تضمن لك منتهى الدقة، خاصة في وزن الأشياء الثمينة؛ لذلك نراهم يضعون الميزان الدقيق في صندوق من الزجاج، حتى لا تُؤثِّر فيه حركة الهواء من حوله.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ}(17/10668)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
البخس: النقص، ومعنى {أَشْيَآءَهُمْ} [الشعراء: 183] حقوقهم(17/10668)
إذن: فالنقص من حَقِّ الغير ذنب، وقد يكون البخس بأخْذ الشيء كله غَصْباً، أو بالتصرف فيه دون أمر صاحبه، أو على وجه لا يرضاه.
وهذا كله داخل في {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [الشعراء: 183] كل ما ينقص الحق بأخذه بإنقاص. أو غَصْب أو تصرّف على غير إرادة صاحبه فهو بَخْسٌ للشيء.
فكل ما ثبت أنه حق لغيرك إياك أنْ تعتدي عليه، فالزكاة مثلاً حينما يقول ربك عَزَّ وجَلَّ: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 2425]
فما دام قد قيَّده الشرع، فلا تبخس أنت حَقَّ الفقير، لأنك حين تتأمل هذا الحق المعلوم الذي جعله الله من مالك للفقير، تجهد أنه وُضِع بحكمة تُراعِي مدى حركة المموِّل، وما بذل من جهد ونفقات في سبيل تنمية ماله، حتى وجبتْ فيه الزكاة.
فكلما زادتْ حركتك قَلَّ مقدار الزكاة في مالك، فمثلاً الأرض التي تُسْقى بماء المطر فيها العُشْر، والتي تُسْقى بآلة ونفقات فيها نصف العشر، وفي عروض التجارة وتحتاج إلى حركة أكثر قال رُبْع العُشْر، ذلك لأن الشارع الحكيم يريد للناس الحركة والسعي وتثمير الأموال، حتى لا يأتي مَنْ يقول: كيف أسعى ويأخذ غيري ثمرة سعيي؟
والشارع حين كفل هذا الحق للفقراء، فإنما يحمي به الفقراء والأغنياء على حَدِّ سواء. وقد حدَّد الشارع هذا الحق، حتى لا تزهد في العطاء، خاصة في الزكاة.
إن منهج الله يريد أنْ يُصوِّب حركة الحياة من الأحياء، يريد ألاَّ يجري دم في جسد إلا بخروج عَرق من هذا الجسد، وألا يدخل دم(17/10669)
في جسد من عرق سواه، وإلاَّ فسد المجتمع، وضَنَّ كل قادر على الحركة بحركته؛ لأنه لا يطمئن إلى ثمار حركته أنها لا تعود عليه، أو أن غيره سيغتصبها منه بأيِّ لون من ألوان الاغتصاب.
عندما يفسد المجتمع؛ لأن القوي القادر سيزهد في الحركة فيقعد، والآخذ سيتعوَّد البطالة والكسل والخمول، ولماذا يعمل وما يجري في عروقه من دماء من عمل غيره، وبمرور الوقت يصعب عليه العمل، وتثقُل عليه الحركة، فيركَنُ إلى ما نُسمِّيه (بلطجي) في الحياة، يعيش عالة على غيره.
إذن: الحق تبارك وتعالى يريد أن يُطمئِن كل إنسان على حركته في الحياة وثمرة سَعْيه، فلا يتلصص أحد على ثمرة حياة الآخر؛ لأنه إنْ كان عاجزاً عن الحركة فقد ضمن له ربُّه حقاً في حركة الآخرين تأتيه إلى باب بيته، سواء أكانت زكاةً أم كانت صدقة؛ وبذلك تسْلَم حركة الحياة للجميع.
لذلك أراد سبحانه وتعالى أن يُعطينا الموازين الدقيقة التي تحفظ سلامة التعامل بين الناس: فإنْ كِلْتَ لغيرك فوفِّ الكيل، وإنْ وزنتَ فوَفِّ الميزان، واجعله بالقسطاس المستقيم، ولا تبخس الناس حقوقهم بأي صورة من الصور.
ولا يقتصر الأمر على هذه المسائل فحسب، إنما هي نماذج للتعامل، تستطيع القياس عليها في كل أمور الحياة فيما يُقَاس وفيما يُعَدُّ، في الأعمال وفي الصناعات. . إلخ.
إذن: فاحذر أنْ تتلصَّص على حقوق الآخرين، أو أن تبخسها، بأيِّ نوع من أنواع التسلُّط: غَصْباً أو اختطافاً أو سرقةً أو اختلاساً أو رِشْوة. . إلخ.(17/10670)
وقلنا: إن السرقة أن تأخذ شيئاً من حِرْزه في غير وجود صاحبه، والخطف يكون صاحب الشيء موجوداً، لكنك تأخذه خَطْفاً وتفرّ به قبل أن يُمسك بك، فإنْ أمسك بك فغالبْتَه وأخذتها رَغماً عنه فهي غَصْب، أما الاختلاس فأنْ تأخذ من مالٍ أنت مؤتمَنٌ عليه، مالا يحقَّ لك أخْذه.
فإذا علم كُلُّ متحرك في الحياة أن ثمرة حركته تعود عليه، وعلم كل غير متحرك أنه يموت جوعاً إنْ لم يعمل وهو قادر دبَّتْ الحركة في كل الأحياء، وهذا ما يريده الله تعالى لخليفته في الأرض خاصة، وقد خلق لنا سبحانه العقل الذي نفكر به، والطاقة التي نعمل بها، والمادة التي نستعين بها، فكلُّ ما علينا أن نُوظّف هذه الإمكانات التي خلقها الله توظيفاً مثمراً.
ثم إنْ كانت الزكاة كحقِّ معلومة محددة، فهناك حَقٌّ آخر غير مُحَّدد، في قوله سبحانه: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] ولم يقل (معلوم) ؛ لأن المراد هنا الصدقة المطلقة، وقد تركها الحق تبارك وتعالى ولم يُقيِّدها ليترك الباب مفتوحاً أمام أريحية المعطي، ومدى كرمه وإحسانه؛ لذلك جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن صفات المحسنين:
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 1519] .
ولأن الحق هنا تفضُّل وزيادة تركه الشارع الحكيم دون تحديد.
وعجيب أن نرى أصحاب الأموال حين يُخرِج أحدهم رُبْع الشعر(17/10671)
مثلاً من ماله، لا ينظر إلى ما تبقّى له من رأس المال، وهي نسبة 97. 5 ... ، وينظر إلى حَقِّ الفقير وهو يسير 2. 5 ... .
فنراه يحتال عليه فيُؤثِر به أقاربه أو معارفه، أو يضعه بحيث يعفيه من حق آخر، كالذي يعطي زكاته للخادمة مثلاً، ليُرضِي أمها حتى لا تأخذها من يده، ومنهم مَنْ يضع أموال الزكاة في بناء مسجد أو مدرسة أو مستشفى؛ وهذا كله لا يجوز؛ لأن مال الزكاة حَقٌّ للمستحقين المعروفين نصاً في كتاب الله، ولا يصح أنْ يُوجِّه مال الزكاة لشيء ينتفع به الغني أبداً.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183] عثا: أي أفسد. فالمعنى: لا تُفسِدوا في الأرض، فلماذا كرَّر الإفساد مرة أخرى فقال {مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183] ؟ قالوا: المراد: لا تعثَوْا في الأرض حالةَ كونِكم مفسدين، أو في نيتكم الإفساد.
وليس في الآية تكرار؛ لأنه فرَّق بين إفساد شيء وأنت لا تقصد إفساده، إنما حركتك في الحياة أفسدتْه، وبين أنْ تُفسد عن قصد وعَمْد للإفساد، حتى لا نمنع العقول أن تفكر وتُجرِّبَ لتصلَ إلى الأفضل، وتُثري حركة الحياة، فما دُمْتَ قد قصدتَ الصلاح، فلا عليك إنْ أخطأتَ؛ لأن ربك عَزَّ وجَلَّ يتولى تصحيح هذا الخطأ، بل ويُعوِّضك عنه، فمَنِ اجتهد فأخطأ فله أجر، ومَنِ اجتهد فأصاب فله أجران.(17/10672)
إذن: المعنى: لا تُفسِدوا في الأرض وأنتم تقصدون الإفساد، لكن فكيف نُفسِد الأرض؟ إن إفساد الأرض يعني إفسادَ المتحرك عليها؛ لأن الأرض خُلقَتْ للإنسان {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10] .
وقد خلقها الله تعالى على هيئة الصلاح، والإنسان هو الذي يُفسِدها، بدليل أنك لا تجد الفساد إلا فيما للإنسان دَخْل فيه، أما مَا لا تطوله يده، فيظل على صلاحه، وعلى استقامته وسلامته.
والإنسان الذي خلقه الله وجعله خليفة له في أرضه طُلب منه عمارة هذه الأرض وزيادة صلاحها، تحقيقاً لقول ربه عَزَّ وجَلَّ: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] .
ولا يصلح أن نستعمر الأرض وهي خراب، فإذا ما كَثُر النسل لا يقابل زيادة في استثمار الأرض، فتحدث الأزمات، ولو أن استثمار الأرض وإصلاحها سار مع زيادة النسل في خطين متوازيين لما شعر الناس بالحاجة والضيق، ولما أحاطت بهم الأزمات.
والآن حين تسير في الطريق الصحراوي مثلاً تجد المزارع في الصحراء، وتجد القرى الجديدة تحولت فيها الأرض الجرداء إلى خضرة ونماء، فأين كانت هذه الثورة؟ لقد كنا كُسالى وفي غفلة حتى عَضَّنا الجوع، وضاقت بنا الأرض الخضراء في الوادي والدلتا.
وإذا لم يُصلِح الإنسان في الأرض فلا أقلَّ من أنْ يتركها على حالها الذي خلقها الله عليه. لكن رأينا الإنسان يُفسد الماء ويُلوثه(17/10673)
حين يصرف فيه مُخلَّفاته ويُفسد الهواء بعادم السيارات والمصانع، ويُفسِد التربة بالكيماويات والمبيدات، وكل هذا الإفساد خروج عن الطبيعة الصافية التي خلقها الله لنا؛ ذلك لأننا نظرنا إلى النفع العاجل، وأغفلنا الضرر الآجل.
لقد خلق الله لنا وسائل الركوب والانتقال، وجعلها آمنة لا ضررَ منها: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] .
وقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} [النحل: 7] نعم، وسائل النقل الحديث أسرع، وأراحتْ هذه المواشي، لكنها أتعبتْ الإنسان الذي خلق الله الكون كله لراحته.
فترى الرجل يركب سيارته وكل هَمِّه أنْ يُسرع بها دون أنْ يهتم بضبطها وصيانتها، فينطلق بها مُخلِّفاً سحابة من الدخان السَّام الذي يؤذي الناس، أما هو فغير مكترث بشيء؛ لأن الدخان خلفه لا يشعر به.
لكن، احذر جيداً، إن ربك عَزَّ وَجَلَّ قيوم لا يغفل ولا ينام، وكما تدين تُدان في نفسك، أو في أولادك.
كذلك قبل أن نركب السيارات ونُسرِع بها يجب أنْ نُمهِّد لها الطرق حتى لا تثير الغبار في وجوه الناس، وتؤذي تنفسهم، بل وتؤذي الزرع أيضاً، كل هذه وُجوه للإفساد في الأرض؛ لأننا ندرس عاجلَ النفع ولا ندرس آجل الضرر.
وعليك حين تجتهد أنْ تجتهد بمقدِّمات سليمة، لتصل إلى النتائج السليمة، ولا تكُنْ من المفسدين في الأرض.(17/10674)
ومن الإفساد في الأرض قَطْع الطريق، وهو أن المتلصِّص يقيم في مكانه يرصُد ضحيته إلى أن تمر به، والإغارة وهي أنْ يذهب المغير إلى المغَار عليه في مَأْمنه، فيسلبه ماله.
ومن الإفساد في الأرض الرِّشْوة، وهي من أنكَى النكبات التي بُلِي بها المجتمع، وهي تُولِّد التسيّب وعدم الانضباط، فحين ترى غيرك يستغلك، ويستحلّ مالك دون حق، تعامله وتعامل غيره نفس المعاملة، فتصير الأمور في الأجهزة والمصالح إلى فوضى لايعلم مداها إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ}(17/10675)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
فإياك أن تظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً، أو يتركنا هملاً، إنما خلقنا لمهمة في الكون، وجعلنا جميعاً عبيداً بالنسبة له سواء، فلم يُحَابِ من أحداً على أحد، وليس عنده سبحانه مراكز قوى؛ لذلك لم يتخذ صاحبه ولا ولداً.
ولأننا جميعاً أمامه سبحانه سواء وهو خالقنا، فقد تكفّل لنا بالرزق ورعاية المصالح، فَمنِ ابتلاه الله بالعجز عن الحركة فتحركْتَ أنت لقضاء مصالحه، لا بُدَّ ان ينظر الله إليك بعين البركة والمضاعفة.
فالمعوَّق والفقير بحقٍّ لا الذي يتخذها مهنة وحرفة يرتزق بها هذا الفقير وهذا المعوَّق هم خَلْق الله وأهل بلائه، فحين تعطيه من(17/10675)
ثمرة حركتك أنت، وتذهب إليه وهو مطمئن في بيته، أنت بهذا العمل إنما تستر على الله بلاءه، وتكون يد الله التي يرزق بها هؤلاء، وعندها لا بُدَّ أن يحبك الفقير، وأنْ يدعو لك بالخير والبركة والزيادة والأَجْر والعافية والثواب، ويعلم أن الله خلقه ولم يُسلمه.
أمّا إنْ ضَنَّ الغنيُّ الواجد على الفقير المعدَم، وتخلى عن أهل البلاء، فلا بُدَّ أنْ يسخط الفقير على الغني، بل يسخط على الله والعياذ بالله لأنه ما ذنبه أن يكون فقيراً، وغيره غنيٌّ في مجتمع لا يرحم.
وعجيب أن نرى مُبتليً يُظهر بلواه للناس، بل ويستغلها في ابتزازهم، فيُظهِر لهم إعاقته، كأنه يشكو الخالق للخَلْق، ولو أنه ستر على الله بلاءه وعَلِم أنه نعمة أنعم الله بها عليه لَسخَّر الله له عافية غير المبتلى، ولجاءه رزقه على باب بيته، فلو رَضِي أهل البلاء لأعطاهم الله على قَدْر ما ابتلاهم.
فمعنى: {واتقوا الذي خَلَقَكُمْ} [الشعراء: 184] أي: احذروا جبروته؛ لأنه خلقكم، وضمن لكم الأرزاق، وضمن لكم قضاء الحاجات، حتى العاجز عن الحركة سخَّر له القادر، وجعل للغنى شرطاً في إيمانه أنْ يُعطى جزءاً من سَعْيه للفقير، ويُوصِّله إليه وهو مطمئن.
ومعنى: {والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] الجبلة من الجبَل، وكان له دور في حياة العربي، وعليه تدور الكثير من تعبيراتهم، ففيه صفات الفخامة والعظمة والرسوخ والثبات، فاشتقوا من الجبل (الجبلّة) وتعني الملازمة والثبات على الشيء.
ومن ذلك نقول: فلان مجبول على الخير يعني: ملازم له لا يفارقه، وفلان كالجبل لا تزحزحه الأحداث، والعامة تقول: فلان(17/10676)
جِبلَّة يعني: ثقيل على النفس، وقد يزيد فيقول: (مال جبلّتك وارمة) مبالغة في الوصف.
حتى أن بعض الشعراء يمدح ممدوحه بأنه ثابت كالجبل، حتى بعد موته، فيقول عن ممدوحه وقد حملوه في نعشه:
مَا كنتُ أَحْسَبُ قَبْل نَعْشِكَ أنْ أَرَى ... رَضْوى عَلَى أيدي الرجَالِ يَسِير
ورَضْوى جبل اشْتُهر بين العرب بضخامته.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} [يس: 62] .
ومعنى: {والجبلة الأولين} [الشعراء: 184] أي: الناس السابقين الذين جُبِلوا على العناد وتكذيب الرسُل، فالله خالقكم وخلقهم، وقد رأيتُم ما فعل الله بهم لما كذَّبوا رسُله، لقد كتب الله النصر لرسله والهزيمة لمن كذّبهم، فهؤلاء الذين سبقوكم من الأمم جُبِلوا على التكذيب، وكانوا ثابتين عليه لم يُزحزحهم عن التكذيب شيء، فاحذروا أن تكونوا مثلهم فينزل بكم ما نزل بهم. فماذا كان ردّهم؟(17/10677)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
قلنا: إن مُسحَّر: أي سحَره غيره، وهي صغية مبالغة للدلاَلة على حدوث السحر ووقوعه عليه أكثر من مرة، فلو سُحِر مرة واحدة لَقُلْنا: مسحور والمعنى: أنك مخْتَلٌّ العقل والتفكير، مجنون، لن نسمع لك.(17/10677)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
وما دُمْت أنت بشراً مثلنا، ولم تتميز عنَّا بشيء، فكيف تكون رسولاً؟ ثم {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186] أي: وما ظنك إلا كذاباً، كالذين سبقوك.(17/10678)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
أي: إنْ كنتَ صادقاً {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء} [الشعراء: 187] يطلبون العذاب ويستعجلونه، كما قال سبحانه في آية أخرى: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأحقاف: 22] .
ومن العجيب حين ينزل بهم العذاب يقولون انظرنا، كيف وأنتم الذين استعجلتم العذاب؟
ومعنى {كِسَفاً} [الشعراء: 187] مفردها كِسْفة، مثل قِطَع وقطعة، وقد وردتْ هذه الكلمة على ألسنة كثير من المكذِّبين، وقالها الكفار للنبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 9092] .(17/10678)
وقالوا {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] .
وكان عليهم أن يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحقّ من عندك فاهْدِنا إليه، وهذا يدلُّك على حُمْقهم وعنادهم.(17/10679)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
فهو سبحانه العليم بكم: إنْ كنتم أهلاً للتوبة والندم والأمل، أنْ تتوبوا فلن يصيبكم العذاب، أو كنتم مُصرِّين على العصيان والتكذيب، فسوف يصيبكم عذاب الهلاك والاستئصال، فأنا لن أحكمَ عليكم بشيء؛ لأنني بشر مثلكم لا أعرف ما في نياتكم؛ لذلك سأكلُ أمركم إلى ربكم عَزَّ وَجَلَّ الذي يعلم أمري وأمركم، وسِرِّي وسرَّكم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ}(17/10679)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)
فكيف يُكذّبونه، وهو لم ينسب الأمر لنفسه، ووكلهم إلى ربهم إذن: فهم لا يُكذِّبونه إنما يُكذِّبون الله؛ لذلك يأتي الجزاء: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} [الشعراء: 189] .
وهو عذاب يوم مشهود، حيث سلط الله عليهم الحرارة الشديدة سبعة أيام، عاشوها في قيظ شديد، وقد حجز الله عنهم الريح إلا بمقدار ما يُبقي رَمَق الحياة فيهم، حتى اشتد عليهم الأمر وحميَتْ من تحتهم الرمال، فراحوا يلتمسون شيئاً يُروِّح عنهم، فرأوا غمامة(17/10679)
قادمة في جو السماء فاستشرفوا لها وظنوها تخفف عنهم حرارة الشمس، وتُروِّح عن نفوسهم، فلما استظلُّوا بها ينتظرون الراحة والطمأنينة عاجلتهم بالنار تسقط عليهم كالمطر.
على حَدِّ قوْل الشاعر:
كَمَا أمطَرتْ يَوْماً ظماءً غمامةٌ ... فلمَّا رَأؤْهَا أقشعَتْ وتجلَّتِ
ويا ليت هذه السحابة أقشعت وتركتهم على حالهم، إنما قذفتهم بالنار والحُمَم من فوقهم، فزادتهم عذاباً على عذابهم.
كما قال سبحانه في آية أخرى:
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 2425] .
لذلك وصف الله عذاب هذا اليوم بأنه {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189] فما وَجْه عظمته وهو عذاب؟ قالوا: لأنه جاء بعد استبشار واسترواح وأمل في الراحة، ففاجأهم ما زادهم عذاباً، وهذا ما نسميه «يأس بعد إطماع» وهو أنكَى في التعذيب وأشقّ على النفوس.(17/10680)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
قوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [الشعراء: 190] أي: فما حدثتكم به {لآيَةً} [الشعراء: 190] يعني: عبرة، وسُمِّيَتْ كذلك لأنها تعبر بصاحبها من حال إلى حال، فإنْ كان مُكذباً آمن وصدق، وإن كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع.
وما قصصتُه عليكم من مواكب الرسل وأقوامهم، وهذا الموكب يضم سبعة من رسل الله مع أممهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب عليهم جميعاً وعلى نبينا السلام، وقد مضى هذا الموكب على سنة لله ثابتة لا تتخلف، هي: أن ينصر الله عَزَّ وَجَلَّ رسله والمؤمنين معهم، ويخذل الكافرين المكذِّبين.
فلتأخذوا يا آل محمد من هذا الموكب عبرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} [الشعراء: 190] يعني عبرةً لكم، وسُمِّيتْ عبرة؛ لأنها تعبر(17/10680)
بصاحبها من حال إلى حال، فإن كان مُكذِّباً آمن وصدَّق، وإنْ كان معانداً لاَنَ للحق وأطاع، وقد رأيتم أننا لم نُسْلِم رسولاً من رسلنا للمكذبين به، وكانت سنتنا من الرسل أن ننصرهم.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171172] .
وقال: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .
ومن العبرة نقول: عبر الطريق يعني: انتقل من جانب إلى جانب، والعبرة هنا أن ننتقل من التكذيب واللدَد والجحود والكبرياء إلى الإيمان والتصديق والطاعة، حتى العَبرة (الدَّمْعة) مأخوذة من هذا المعنى.
وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 190] حماية واحتراس حتى لا نهضم حق القِلَّة التي آمنت.(17/10681)
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ}(17/10682)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
ربك: الرب هو المتولِّي الرعاية والتربية. وبهذه الخاتمة خُتمتْ جميع القصص السابقة، ومع ما حدث منهم من تكذيب تُختم بهذه الخاتمة الدَّالة على العزة والرحمة.
ثم ينتقل السياق إلى خاتم المرسلين سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أنْ قدَّم لنا العبرة والعِظة في موكب الرسل السابقين، فيقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ}(17/10682)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
{وَإِنَّهُ} [الشعراء: 192] على أيِّ شيء يعود هذا الضمير؟ المفروض أن يسبقه مرجع يرجع إليه هذا الضمير وهو لم يُسبَق بشيء. تقول: جاءني رجل فأكرمتُه فيعود ضمير الغائب في أكرمته على (رجل) .
وكما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فالضمير هنا يعود على لفظ الجلالة، مع أنه متأخر عنه، ذلك لاستحضار عظمته تعالى في النفس فلا تغيب.
كذلك {وَإِنَّهُ} [الشعراء: 192] أي: القرآن الكريم وعرفناه من قوله سبحانه {لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] وقُدِّم الضمير على مرجعه لشهرته وعدم انصراف الذِّهْن إلا إليه، فحين تقول: {هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لا ينصرف إلا إلى الله، {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] لا ينصرف إلا إلى القرآن الكريم.(17/10682)
وقال: {لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] .
أي: أنه كلام الله لم أقلْهُ من عندي، خاصة وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يسبق له أنْ وقف خطيباً في قومه، ولم يُعرف عنه قبل الرسالة أنه خطيب أو صاحب قَوْل.
إذن: فهو بمقاييس الدنيا دونكم في هذه المسألة، فإذا كان ما جاء به من عنده فلماذا لم تأتُوا بمثله؟ وأنتم أصحاب تجربة في القول والخطابة في عكاظ وذي المجاز وذي المجنة، فإن كان محمد قد افترى القرآن فأنتم أقدر على الافتراء؛ لأنكم أهل دُرْبة في هذه المسألة.
و {العالمين} [الشعراء: 190] : كل ما سوى الله عزَّ وجلَّ؛ لذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رحمة للعالمين للإنس وللجن وللملائكة وغيرها من العوالم.
لذلك لما نزلت: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] «سأل سيدنا رسول الله جبريل عليه السلام:» أما لك من هذه الرحمة شيء يا أخي جبريل؟ «فقال: نعم، كنت أخشى سوء العاقبة كإبليس، فلما أنزل الله عليك قوله: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 20] أمنْتُ العاقبة، فتلك هي الرحمة التي نالتني» .
وليس القرآن وحده تنزيلَ رب العالمين، إما كل الكتب السابقة السماوية كانت تنزيلَ رب العالمين، لكن الفرق بين القرآن والكتب السابقة أنها كانت تأتي بمنهج الرسول فقط، ثم تكون له معجزة في أمر آخر تثبت صِدْقه في البلاغ عن الله.(17/10683)
فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إبراء الأكمة والأبرص بإذن الله، أما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان كتابه ومنهجه القرآن ومعجزته أيضاً، فالمعجزة هي عَيْن المنهج. فلماذا؟
قالوا: لأن القرآن جاء منهجاً للناس كافّةً في الزمان وفي المكان فلا بد إذن أن يكون المنهج هو عَيْن المعجزة، والمعجزة هي عَيْن المنهج، وما دام الأمر كذلك فلا يصنع هذه المعجزة إلا الله، فهو تنزيل رب العالمين.
أما الكتب السابقة فقد كانت لأمة بعينها في فترة محددة من الزمن، وقد نزلتْ هذه الكتب بمعناها لا بنصِّها؛ لذلك عيسى عليه السلام يقول: «سأجعل كلامي في فمه» أي: أن كلام الله سكيون في فم الرسول بنصِّه ومعناه من عند الله، ما دام بنصِّه من عند الله فهو تنزيل رب العالمين.
ثم يقول الحق سبحانه: {نَزَلَ بِهِ الروح}(17/10684)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
كان من الممكن أن يكون الوحي من عند الله إلهاماً أو نَفْثاً في الرَّوْع؛ لذلك قال تعالى بعدها: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] إذن: الأمر ليس نَفْثاً في رَوْع رسول الله بحكم ما، إنما يأتيه روح القُدُس وأمين الوحي يقول له: قال الله كذا وكذا.(17/10684)
لذلك لم يثبت القرآن إلا بطريق الوحي، بواسطة جبريل عليه السلام، فيأتيه الملَك؛ ولذلك علامات يعرفها ويحسّها، ويتفصّد جبينه منه عرقاً، ثم يُسرِّي عنه، وهذه كلها علامات حضور الملَك ومباشرته لرسول الله، هذا هو الوحي، أمَّا مجرد الإلهام أو النَّفْث في الرَّوْع فلا يثبت به وَحْي.
لذلك كان جلساء رسول الله يعرفونه ساعة يأتيه الوحي، وكانوا يسمعون فوق رأسه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كدويّ النحل أثناء نزول القرآن عليه، وكان الأمر يثقل على رسول الله، حتى إنه إنْ أسند فَخِذه على أحد الصحابة أثناء الوحي يشعر الصحابي بثقلها كأنها جبل، وإذا نزل الوحي ورسول الله على دابته يثقل عليها حتى تنخّ به، كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] .
ولم تهدأ مشقَّة الوحي على رسول الله إلا بعد أنْ فتَر عنه الوحي، وانقطع فترة حتى تشوَّق له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وانتظره، وبعدها نزل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 14] .(17/10685)
ونزلت عليه: {والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 14] .
يعني: سيعاودك الوحي في سهولة ودون مشقَّة، ولن تتعب في تلقيه، كما كنتَ تعاني من قبل.
وقوله: {نَزَلَ} [الشعراء: 193] تفيد العلو، وأن القرآن نزل من أعلى من عند الله، ليس من وضع بشر يخطىء ويصيب ويجهل المصحلة، كما نرى في القوانين الوضعية التي تُعدِّل كل يوم، ولا تتناسب ومقتضيات التطور، والتي يظهر عُوَارها يوماً بعد يوم.
ولأن القرآن نزل من أعلى فيجب علينا أن نستقبله استقبالَ الواثقِ فيه المطمئن به، لا نعانده، ولا نتكبر عليه؛ لأنك تتكبر على مساوٍ لك، أمّا ما جاءك من أعلى فيلزمك الانقياد له، عن اقتناع.
وفي الريف نسمعهم يقولون (اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم) لماذا؟ لأنه قُطِع بأمر الأعلى منك، بأمر الله لا بأمر واحد مثلك.
وحين نتأمل قوله تعالى في التشريع لحكم من الأحكام: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] .
كلمة (تعالوا) تعني: اتركوا حضيض تشريع الأرض، وأَقْبلوا على رِفْعة تشريع السماء، فتعالوا أيْ: تعلَّوا وارتفعوا، لا تهبطوا إلى مستوى الأرض، وإلا تعبتُم وعضَّتكم الأحداث؛ لأن الذي يُشرِّع لكم بشر أمثالكم وإنْ كانوا حتى حَسَنِي النية، فهم لا يعلمون حقائق الأمور، فإنْ أصابوا في شيء أخطأوا في أشياء، وسوف تُضطرون(17/10686)
لتغيير هذه التشريعات وتعديلها.
إذن: فالأسلم لكم أنْ تأخذوا من الأعلى؛ لأنه سبحانه العليم بما يُصلحكم.
إذنك {نَزَلَ} [الشعراء: 193] تفيد أنه من الأعلى من مصدر الخير حتى الحديد وهو من نِعَم الله، لما تكلم عنه قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25] .
ولم يَقُلْ مثلاً: أنزلناه الألماظ أو الألماس، أو غيره من المعادن النفيسة، لماذا؟ لأن الحديد أداة من أدوات نُصْرة الدعوة وإعلاء كلمة الله.
وسُمِّي جبريل عليه السلام الروح؛ لأن الروح بها الحياة، والملائكة أحياء لكن ليس لهم مادة، فكأنهم أرواح مطلقة، أما البشر فمادة فيها روح.
كما أن كلمة الروح استُعملَتْ عدة استعمالات منها {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] والمراد الروح التي نحيا بها.
وسُمِّي القرآن روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] إذن: فالقرآن روح، والملَك الذي نزل به روح، فإنْ قلتَ: فما حاجتي إلى الروح وفيَّ روح؟
نقول لك: هذه الروح التي تحيا بها مادتك، والتي تفارقك حين تموت وتنتهي المسألة، أمّا الروح التي تأتيك في القرآن فهي روح باقية خالدة، إنها منهج الله الذي يعطيك الحياة الأبدية التي لا تنتهي.
لذلك، فالروح التي تحيا بها المادة للمؤمن وللكافر على حَدٍّ(17/10687)
سواء، أمّا الروح التي تأتيك من كتاب الله وفي منهجه، فهي للمؤمن خاصة، وهي باقية، وبها تستأنف حياة جديدة خالدة بعد حياة المادة الفانية.
واقرأ إن شئت قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .
كيف وها نحن أحياء؟ نعم، نحن أحياء بالروح الأولى روح المادة الفانية، أمَّا رسول الله فهو يدعونا للحياة الباقية، وكأنه عَزَّ وَجَلَّ يشير إلى أن هذه الحياة التي نحياها ليست هي الحياة الحقيقية؛ لأنها ستنتهي، وهناك حياة أخرى باقية دائمة.
حتى مجرد قولنا نحن أحياء فيه تجاوز؛ لأن الأحياء هم الذين لا يموتون، وهذه الحياة لا تأتي إلا بمنهج الله، وهذا معنى قوله تعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] فالحيوان مبالغة في الحياة، أي: الحياة الحقيقية، أما حياة المادة فأيّ حياة هذه التي يموت فيها المرء يوم مولده، أو حتى بعد مائة عام؟!
ثم يَصِف الحق سبحانه وتعالى الروح بأنه {الأمين} [الشعراء: 193] أي: على الوحي، القرآن إذن مَصُون عند الله، مصون عند الروح الأمين الذي نزل به، مَصُون عند النبي الأمين الذي نزل عليه.
لذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 4447] .(17/10688)
وقال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} [التكوير: 2425] .
ثم يقول الحق سبحانه: {على قَلْبِكَ لِتَكُونَ}(17/10689)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
نزل القرآن على أذن رسول الله، أم على قبله؟ الأذن هي: أداة السمع، لكن قال تعالى {على قَلْبِكَ} [الشعراء: 194] لأن الأذن وسيلة عبور للقلب، لأنه محلُّ التلقِّي، وهو (دينامو) الحركة في جسم الإنسان، فبالدم الذي يضخُه في أعضاء الجسم وأجهزته تتولَّد الطاقات والقدرة على الحركة وأداء الوظائف.
لذلك نرى المريض مثلاً يأخذ الدواء عن طريق الفم، فيدور الدواء دروة الطعام، ويُمتصُّ ببطء، فإنْ أردتَ سرعة وصول الدواء للجسم تعطيه حقنة في العضل، لكن الأسرع من هذا أن تعطيه حقنة في الوريد، فتختلط بالدم مباشرة، وتُحدِث أثرها في الجسم بسرعة، فالدم هو وسيلة الحياة في النفس البشرية.
إذن: قالقلب هو محلُّ الاعتبار والتأمل، وليس لسماع الأذن قيمة إذا لم يَع القلب ما تسمع الأذن؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ} [البقرة: 97] .
فالمعنى: نزَّله على قلبك مباشرة، كأنه لم يمرّ بالأذن؛ لأن الله الله تعالى اصطفى لذلك رسولاً صنعه على عينه، وأزال عنه العقبات البشرية التي تعوق هذه المباشرة، فكأن قلبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منتبهاً لتلقّي(17/10689)
كلام الله؛ لأنه مصنوع على عَيْن الله، أما الذين سمعوا كلام الله بآذانهم فلم يتجاوبوا معه، فكانت قلوبهم قاسية فلم تفهم.
والقلب محل التكاليف، ومُستقرّ العقائد، وإليه تنتهي مُحِصِّلة وسائل الإدراك كلها، فالعيْن ترى، والأذن تسمع، والأنف يشمّ، والأيدي تلمس. . ثم يُعرض هذا كله على العقل ليختار بين البدائل، فإذا اختار العقل واطمأن إلى قضية ينقلها إلى القلب لتستقر به؛ لذلك نسميها عقيدة يعني: أمْر عقد القلب عليه، فلم يَعُدْ يطفو إلى العقل ليبحث من جديد، لقد ترسَّخ في القلب، وأصبح عقيدة ثابتة.
وفي آيات كثيرة نجد المعوّل والنظر إلى القلب، يقول تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] .
وفي آية أخرى يُبيِّن أن التقوى محلُّها القلب: {ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] .
وفي الشهادة يقول تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] من أن الشهادة باللسان، لا بالقلب.
لذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير: «ألا إن في الجسد مُضْغة، إذا صَلُحتْ صَلُحَ الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» .
ويُحدِّثنا صحابة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان ينزل عليه الوحي بآيات كثيرة بما يوازي رُبْعين أو ثلاثة أرباع مرة واحدة، فإذا ما سُرِّى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: اكتبوا، ثم يقرؤها عليهم مع وَضْع كل آية في مكانها من(17/10690)
سورتها، ثم يقرؤها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصلاة، فتكون هي هي كما أملاها عليهم؛ ذلك لأن القرآن باشر قلبه لا أذنه.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لحِرْصه على حفظ القرآن يُردِّده خلف جبريل ويكرره حتى لا ينساه، فأنزل الله عليه: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] .
وقال في موضع آخر: {وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] .
وقال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 1619] .
ومن عجيب أمر القرآن أنك لا تجد شخصاً يُلقي كلمة لمدة خمس دقائق مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها نَصّاً، أمّا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكانت تُلْقَى عليه السورة، فيعيدها كما هي، ذلك من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] .
وقوله سبحانه: {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 194] المنذر: الذي يُحذِّر من الشر قبل وقوعه ليحتاط السامع فلا يقع في دواعي الشر، ولا يكون الإنذار ساعةَ وقوع الشر، لأنه في هذه الحالة لا يُجْدي، وكذلك البشارة بالخير تكون قبل حدوثه لتحثَّ السامع على الخير، وتحفزه إليه.
ويقول سبحانه في آية أخرى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} [يس: 6] .(17/10691)
فكما أنذر الرسلُ السابقون أقوامهم، أنْذِر أنت قومك، وانضمّ إلى موكب الرسالات.
ثم يقول الحق سبحانه: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(17/10692)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] فإنْ كان القرآن قد نزل على قلبك، فكيف يسمعونه؟ وكيف يكتبونه؟ ويحفظونه؟ يأتي هنا دَوْر اللسان العربي الذي يُخرِج القرآن إلى الناس. إذن: فمنطق رسول الله بعد نزوله على القلب، ويُؤخِّر اللسان؛ لأنه وسيلة الحفظ والصيانة والقراءة.
ومعنى {مُّبِينٍ} [الشعراء: 195] أي: واضح ظاهر، محيط بكل أقضية الحياة، لكن يأتي مَنْ يقول: إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي، فما بال الكلمات غير العربية التي نطق بها؟ فكلمة قسطاس رومية، وآمين حبشية، وسجيل فارسية.
ونقول: معنى اللسان العربي ما نطق به العرب، ودار على ألسنتهم؛ لأنه أصبح من لغتهم وصار عربياً، وإنْ كان من لغات أخرى، والمراد أنه لم يَأْتِ بكلام جديد لم تعرفه العرب، فقبل أنْ ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي.
ونزل القرآن باللسان العربي خاصةً؛ لأن العرب هم أمة استقبال(17/10692)
الدعوة وحاملوها إلى باقي الأمم، فلا بُدَّ أنْ يفهموا عن القرآن. فإنْ قُلْتَ: فالأمم الأخرى غير العربية مخاطبةٌ أيضاً بهذا القرآن العربي، فكيف يستقبلونه ويفهمون عنه؟ نقول: مَنْ سمعه من العرب عليه أن يُبلغه بلسان القوم الذين يدعوهم، وهذه مهمتنا نحن العرب تجاه كتاب الله.(17/10693)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
الضمير في {وَإِنَّهُ} [الشعراء: 196] يصح أنْ يعود على القرآن كسابقه، ويصح أنْ يعود على رسول الله، ومعنى {زُبُرِ} [الشعراء: 196] جمع زبور يعني: مكتوب مسطور، ولو أن العقول التي عارضتْ رسول الله، وأنكرتْ عليه رسالته، وأنكرتْ عليه معجزته فَطنوا إلى الرسالات السابقة عليه مباشرة، وهي: اليهودية والنَصرانية في التوراة والإنجيل لوجبَ عليهم أنْ يُصدِّقوه؛ لأنه مذكور في كتب الأولين.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى} [الأعلى: 1819] .
فالمبادىء العامة من العقائد والأخلاق والعدل الإلهي وقصص الانبياء كلها أمور ثابتة في كل الكتب وعند جميع الأنبياء، ولا يتغير إلا الأحكام من كتاب لآخر، لتناسب العصر والأوان الذي جاءتْ فيه.
وحين تقرأ قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] .
تقول: ولماذا إذن نزل القرآن؟ ولماذا لم يَقُل وصَّينا به محمداً؟
قالوا: لأن الأحكام ستتغير؛ لتناسب كل العصور التي نزل(17/10693)
القرآن لهدايتها، ولكل الأماكن، ولتناسب عمومية الإسلام.
لذلك رُوي عن عبد الله بن سلام وآخر اسمه ابن يامين، وكانوا من أهل الكتاب، وشهد كلاهما أنه رأى ذكر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة، وفي الإنجيل. والقرآن يقول عنهم: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] .
ولما سمعها ابن سلام قال: ربنا تساهل معنا في هذه المسألة، فوالله إني لأعرفه كمعرفتي لولدي، ومعرفتي لمحمد أشد.
ويقول تعالى في هذا المعنى: {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] .
ويقول سبحانه على لسان عيسى عليه السلام حين يقف خطيباً في قومه: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] .
إذن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين} [الشعراء: 196] أي: محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو هو القرآن الكريم، فكلاهما صحيح؛ لأن صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موجودة في هذه الكتب، أو القرآن في عموم مبادئه في العقائد والأخلاق والبعث وسير الأنبياء.
فكان الواجب على الذين جاءهم القرآن أنْ يؤمنوا به، خاصة وأن رسول الله كان أمياً لم يجلس إلى معلم، وتاريخه في ذلك معروف لهم، حيث لم يسبق له أن قرأ أو كتب شيئاً.(17/10694)
والقرآن يؤكد هذه المسألة، فيقول تعالى مخاطباً نبيه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] .
{وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص: 45] .
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] .
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] .
فكل هذه الآيات وغيرها دليل على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا عِِْلمَ له بها إلا بواسطة الوَحْي المباشر في القرآن الكريم، وكان على القوم أن يؤمنوا به أول ما سمعوه.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ}(17/10695)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
آية: أي دليلاً وعلامةً على أن القرآن من عند الله؛ لأن علماء بني إسرائيل كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، أو لم يقولوا للأوْس والخزرج في المدينة: لقد أَطلَّ زمان نبيٍّ يأتي سنتبعه ونقتلكم به أيها المشركون قَتْل عاد وإرم، ومع ذلك لما بُعِث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنكروه وكفروا به، وهم يعرفون أنه حق، لماذا؟(17/10695)
قالوا: لأنهم تنبَّهوا إلى أنه سيسلبهم القيادة، وكانوا في المدينة أهل علم، وأهل كتاب، وأهل بصر، وأهل حروب. . ألخ. وليلةَ هاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة كانوا يستعدون لتتويج عبد الله بن أُبيٍّ ملِكاً عليها، فلما جاءها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفسد عليهم هذه المسألة؛ لذلك حسدوه على هذه المكانة، فقد أخذ منهم السُّلْطة الزمنية والتي كانت لهم.
وقال {عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197] لأنهم كانوا يعرفون صِدْق رسول الله، ولأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بأشياء لا يعرفها إلا هم، وقد اشتهر منهم خمسة، هم: عبد الله بن سلام، وأسد، وأسيد، وثعلبة، وابن يامين.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ}(17/10696)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
لقد أنزلنا القرآن بلسان عربي على أمة عربية، ولو أنزلناه على الأعاجم ما فهموه.
وقال الحق وسبحانه وتعالى في موضع آخر: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاْعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] .(17/10696)
لماذا؟ لأن المستقبل مقفول، فإنْ أردتَ استقبال أيِّ قضية فعليك أنْ تُخرِج من قبلك أيّ قضية أخرى معارضة لها، ثم بعد ذلك لك أنْ تدرس القضيتين، فما وافق الحق فأدخِلْه.
لذلك يقول تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] فهو قلب واحد، لذلك أخرج منه كل قضية سابقة، وها هو القرآن واحد، وقائله واحد، ومُبلِّغه واحد، ولسانه عربي.
يقول تعالى في وصفهم حالَ سماع القرآن: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] أي: يريدون التسلُّل والخروج.
ويقول تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً} [التوبة: 124] أي: ماذا أفادتكم؟ وماذا زادتْ في إيمانكم.
ويقول سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16] يعني: ما الجديد الذي جاء به؟
ويقول عن الذين آمنوا: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] .(17/10697)
و {الأعجمين} [الشعراء: 198] جمع: أعجمي، والأعجم هو الذي لا يُحسِن الكلام العربي، وإنْ كان ينطق به، والعجميّ ضد العربيّ والعجم غير العرب. فالمعنى {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ} [الشعراء: 198] أي: القرآن العربي على بعض الأعجمين ما فهمه، وقال {بَعْضِ} [الشعراء: 198] لمراعاة الاحتمال، فمن العجم مَنْ تعلَّم العربية وأجادها ويستطيع فَهْم القرآن.
وقوله تعالى: {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 199] لأنهم لم يفهموا منه شيئاً، فكذلك أنتم مثل هؤلاء العجم في تلقِّي واستقبال كلام الله، لم تفهموا منه شيئاً.
ذلك لأنهم أحبوا الكفر والعناد وأصرُّوا عليه، واستراحتْ إليه قلوبهم حتى عَشقوه، فأعانهم الله عليه، وختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمانٌ، ولاَ يخرج منها كفر.(17/10698)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
معنى {سَلَكْنَاهُ} [الشعراء: 200] أدخلناه في قلوب المجرمين، كأنهم عجم لا يفهمون منه شيئاً، لذلك {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [الشعراء: 201] وما داموا لن يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم فلن يُقبلَ منهم إيمان.
ومعنى {بَغْتَةً} [الشعراء: 202] أي: فجأة، ومن حيث لا يشعرون.(17/10698)
لذلك لما نزل القرآن وآمن برسول الله بعض الصحابة اضْطهد رسول الله وصحابته، وأوذوا حتى صاروا لا يأمنون على أنفسهم من بَطْش الكفار، حتى كانوا يبيتون في السلاح، ويستيقظون في السلاح، لا يجدون مَنْ يحميه.
وفي هذه الحالة نزل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] فتعجب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، والمسلمون على هذه الحال؟ فلما شهد بدراً وما كان فيها من قتْل المشركين ونُصْرة دين الله، قال: نعم صدق الله، سيُهزم الجمع ويُولُّون الدبر.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}(17/10699)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
أي: انظرونا وتمهَّلوا علينا، وأخِّروا عَنَّا العذاب، سبحان الله ألم تستعجلوه؟ وهذه طبيعة أهل العناد والكفر إنْ تركناهم طلبوا أنْ ينزل عليهم، وإنْ نزل بهم العذاب قالوا: انظرونا وتمهَّلوا علينا.(17/10699)
ثم يقول رب العزة سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}(17/10700)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
{أَفَرَأَيْتَ} [الشعراء: 205] يعني: أخبرني {إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} [الشعراء: 205206] ومع طول المدة، إلا أن الغاية واحدة {مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 207] .(17/10700)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
كما قال سبحانه في آية أخرى: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ، فقد جاءهم رسول يُعلِّمهم وينذرهم؛ ليقيم عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] .
هذا كله {ذكرى} [الشعراء: 209] تعني: نذكره لنُوقِظ غفلتكم {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209] فأنتم الذين فعلتم هذا بأنفسكم {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] .(17/10700)
ثم يقول الحق سبحانه عن القرآن: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين}(17/10701)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
لأنهم قالوا: إنما تنزَّلت الشياطين على محمد بالقرآن، وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره عندهم، فلكل شاعر شيطان يُمليه الشِّعْر، وعندهم وادٍ يُسمَّى وادي «عبقر» هو وادي الجن، فيقولون: فلان عبقري أي: موصول بالجن في هذا الوادي.
لكن، كيف والكتاب نزل على محمد عدو للشياطين، يلعنهم في كل مناسبة، ويُحذِّر أتباعه منهم: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة: 268] ويقول الحق سبحانه: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} [فاطر: 6] .
فكيف إذن يمده الشيطان ويُمليه عليه، وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباءه؟ هذه واحدة.
الاخرى: {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] إن الله جعل القرآن مُعْجزاً ومنهجاً، والمعجزة لا يتسلَّط عليها إنس ولا جن فيفسدها، لذلك قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .
أما الكتب السابقة فقد طلبتْ من المؤمنين بها أنْ يحفظوها، وفَرْق بين الحفظ مني، وطلب الحفظ منكم؛ لأن الطلب تكليف وهو عُرْضة لأنْ يُطاع ولأنْ يُعصَى، وقد جربنا حفظ البشر فلم يحافظوا على كتبهم السابقة؛ لذلك تولّى الحق سبحانه وتعالى حِفْظ قرآنه(17/10701)
بنفسه، ولم يكِلْه إلى أحد من خَلْقه.
لذلك تجد في هذا المجال كثيراً من العجائب والمفارقات، فمع تقدُّم الزمن وطغيان الحضارات المعادية للإسلام، والتي تُمطرنا كل يوم بوابل من الانحرافات والخروج عن تعاليم الدين، ومِنّا مَنْ ينساق خلفهم، وهذا كله ينقص من الأحكام المطبّقة من الإسلام.
لكن مع هذا كله تجد القرآن يزداد توثيقاً، ويزداد حفظاً، ويتبارى حتى غير المسلمين في حِفْظ كتاب الله وتوثيقه، والتجديد في طباعته، حتى رأينا مصحفاً في ورقة واحدة، ومصحفاً في حجم عقلة الإصبع، ويفخر بعضهم الآن بأنه يملك أصغر مصحف في العالم. . إلخ بصرف النظر عن دوافعهم مِنْ وراء هذا.
المهم أن الله تعالى يُسخِّر حتى أعداء القرآن لحِفْظ القرآن {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] .
أليس من وسائل نَشْر القرآن والمحافظة عليه آلات التسجيل وآلات تكبير الصوت التي تنشر كلام الله في كل مكان؟ ولم يَلْق شيءٌ من الكتب السابقة مثل هذه العناية.
إذن: فالعناية بالقرآن كنصٍّ لا تتناسب مع النقص في أحكامه وانصراف أهله عنها، وكأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول لنا: سأحفظ هذا النصِّ بغير المؤمنين به، وسأجعلهم يُوثِّقونه ويهتمون به؛ ليكون ذلك حجة عليكم.
لذلك كان عند الألمان قبل الحرب العالمية خزانة بها أدراج، في كل درج منها أية من القرآن، يُحفظ به كل ما كُتب عن هذه الآية بدايةً من تفسير ابن عباس إلى وقتها، وهذا دليل على أنهم مُسخَّرون بقوة خفية لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] .(17/10702)
وسبق أن قلنا: إن بعض النساء يَسِرْنَ في الشوارع كاشفات عن صدورهن، ومع ذلك تتحلّى بمصحف على صدرها، وليتها تستر صدرها ولا تُعلِّق المصحف.
فكيف تقولون تنزلت به الشياطين، وقد جاء القرآن ليعلن لأهله عداءه لهم والحذر منهم؟ كيف والشياطين لا تتنزل إلا على كفَّار أثيم، وأنتم أوْلَى بأن تتنزَّل عليكم {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] .
ومعنى: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 211] أن هذه المسألة فوق قدراتهم؛ لأن الحق تبارك وتعالى قال: {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ}(17/10703)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
وقد شرح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: 89] .
وبعد ذلك يتكلم عن استقبال المنهج من الرسول ومن آله وأتباعه، ومن المؤمنين جميعاً:(17/10703)
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله}(17/10704)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
خاطب الحق تبارك وتعالى نبيه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الشعراء: 213] فهل كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مظنة أن يدعو مع الله إلهاً آخر؟ قالوا: لا، إنما المراد ابتداء توجيه، وابتداء تكليف، كأنه يقول له: اجعل عندك مبدءًا، أنك لا تتخذ مع الله إلهاً آخر، لا أن الرسول اتخذ إلهاً، فجاء الوحي لينهاه، إنما هو بداية تشريع وتكليف، وإذا كان العظيم المرسَل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتوعده الله إنْ أراد أن يتخذ إلهاً آخر، فما بالك بمَنْ هو دونه؟
فساعَة يسمع الناس هذا الخطاب مُوجّهاً إلى النبي المرسَل إليهم، فلا بُدَّ أنْ يصغوا إليه، ويحذروا ما فيه من تحذير، كما لو وجَّه رئيس الدولة أمراً إلى رئيس الوزراء مثلاً ولله المثل الأعلى وحذَّره من عاقبة مخالفته، فلا شكَّ أن مَنْ دونه من الموظفين سيكون أطوع منه لهذا الأمر.(17/10704)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
وهكذا نقل الأمر من رسول الله إلى أهله وعشيرته الأقربين، ذلك ليطمئن الآخرون من قومه، فهو يأمرهم بأمر ليس بنجْوة عنه، فأول ما ألزم به ألزم نفسه ثم عشيرته، وهذا أدْعى للطاعة وللقبول، فأنت تردُّ أمري إذا كنتُ آمرك به ولا أفعله، لكني آمرك وأسبقك إلى الفعل.
لذلك سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكان على المنبر يخطب في الناس، ويقول: أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، فقام أعرابي وقال: لا سمعَ لك ولا طاعة، انظر إلى هذه الجرأة على مَنْ؟ على عمر وهو على المنبر فقال له عمر: ولِمَ؟(17/10704)
قال: لأن ثيابك أطول من ثيابنا وكان القماش يُوزَّع بين المسلمين بالتساوي لا فَرْق بين طويل وقصير فقال عمر لابنه عبد الله: قُم يا عبد الله لتُرِي الناس، فقام عبد الله فقال: إن أبي رجل طِوَال مبالغة في الطول وثوبه في المسلمين لم يكْفِه، فأعطيته ثوبي فوصَله بثوبه، وها أنذا بمُرقَّعتي بينكم، عندها قال الأعرابي: إذنْ نسمع ونطيع.
لكن أين القدوة في دوائرنا ومصالحنا الحكومية الآن؟ وأين هو رئيس المصلحة الذي يحضر، ويجلس على مكتبه في الثامنة صباحاً ليكون قدوة لمرؤوسيه؟ وإن من أشد ما ابتُلينا به أن نفقد القدوة في الرؤساء والمسئولين. لذلك أول ما وُجِّه التشريع والتكليف وُجِّه إلى رسول الله، وإلى أقرب الناس إليه وهم عشيرته الأقربون؛ لأن الفساد يأتي أول ما يأتي من دوائر القُرْبى والحاشية التي تحيط بالإنسان، وقد يكون الرئيس أو الحاكم بخير، لكن حاشيته هي سبب الفساد، حيث تستغل اسمه في فسادها أو تُضلِّله وتُعمِّي عليه الحقائق. . إلخ.
لذلك كان سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ساعة يريد أن يُقرِّر شيئاً للأمة، ويعلم أنه قَاسٍ عليهم يجمع أهله أولاً ويقول لهم: لقد شاء الله أن أقرر كذا وكذا، فمَنْ خالفني منكم في شيء من هذا جعلته نكالاً لعامة المسلمين، وهكذا يضمن أهله وأقاربه أولاً، ويبدأ بهم تنفيذ ما أرادوه للمسلمين.(17/10705)
وتأمل {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] والإنذار كما ذكرنا التحذير من الشرِّ قبل أوانه، فلم يقُلْ: بشِّر عشيرتك، كأنه يقول له: إياك أنْ يأخذك به لين ورَأْفة، أو عطف لقرابتهم لك، بل بهم فابدأ.
وقد امتثل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهذا التوجيه، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لقرابته: «يا عباس يا عم رسول الله، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، اعملوا فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، ولا يأتيني الناس بأعمالهم، وتأتوني بأنسابكم» .
وفي الوقت الذي يدعوه إلى إنذار عشيرته الأقربين يقول في مقابلها: {واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك}(17/10706)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
بعد أن أمره بالشدة على أهله وقرابته يأمره باللين، وخَفْض الجناح لباقي المؤمنين به، وخَفْض الجناح كناية عن اللُّطْف واللين في المعاملة، وقَد أُخِذ هذا المعنى من الطائر حين يحنو على فراخه، ويضمهم بجناحه.
وخَفْض الجناح دليل الحنان، لا الذلّة والانكسار، وفي المقابل نقول (فلان فارد أجنحته) إذا تكبَّر وتجبَّر، وتقول (فلان مجنح لي) إذا عصا أوامرك.
وفي موضع أخر: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] .(17/10706)
وقال في حَقِّ الوالدين: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] فلا نقول: كُنْ ذليلاً لهم، إنما كُنْ رحيماً بهم، حَنُوناً عليهم، ففي هذا عِزّك ونجاتك.(17/10707)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
فإنْ عصاك الأقارب فلا تتردد في أنْ تعلنها {إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] وعندها لا تراعي فيهم حَقَّ الرحم، ولا حَقّ القُرْبى، لأنه لا حَقَّ لهم؛ لذلك قال {فَقُلْ} [الشعراء: 216] ولم يقل تبرأ منهم؛ لأنه قد يتبرأ منهم فيما بينه وبينهم.
لكن الحق تبارك وتعالى يريد أنْ يعلنها رسول الله على الملأ ليعلمها الجميع، وربنا يُعلِّمنا هنا درساً حتى لا نحابي أحداً، أو نجامله لقرابته، أو لمكانته حتى تستقيم أمور الحياة.
والذي يُفسِد حياتنا وينشر فيها الفوضى واللا مبالاة أنْ ننافق ونجامل الرؤساء والمسئولين، ونُغطِّي على تجاوزاتهم، ونأخذهم بالهوادة والرحمة، وهذا كله يهدم معنويات المجتمع، ويدعو للفوضى والتهاون.
لذلك يعلمنا الإسلام أنْ نعلنها صراحة {فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216] وليأخذ القانون مجراه، وليتساوى أمامه الجميع، ولو عرف المخالف أنه سيكون عبرة لغيره لارتدع.
لذلك يُقال عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه حكم الدنيا كلها، والحقيقة أنه حكم نفسه أولاً، فحكمتْ له الدنيا، وكذلك مَنْ أراد أنْ يحكم الدنيا في كل زمان ومكان عليه أنْ يحكم نفسه، فلا يجرؤ أحد من أتباعه أن يخالفه، وساعة أن يراه الناس قدوة ينصاعون له بالسمع والطاعة.(17/10707)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
فقد تقول: إنْ فعلتَ هذا قلَّ أنصاري وتفرَّق الأتباع والحاشية من حولي، نقول لك: إياك أنْ تظنَّ أنهم يجلبون لك نفعاً، أو يدفعون عنك ضراً، فالأمر كله بيده تعالى وبأمره، فخيرٌ لك أنْ تراعى الله، وأن تتوكل عليه.
{وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} [الشعراء: 217] العزيز الذي يَغْلِب ولا يُغْلب، ويَقْهر ولا يُقهر، ومع ذلك فهو سبحانه رحيم بك وبهم. وصفة الرحمة هنا تنفي ما يظنه البعض أن العزة هنا تقتضي الجبروت أو القهر أو الظلم، فهو سبحانه في عِزَّته رحيم، لأن عزة العزيز على المتكبِّر رحمة بالمتكبَّر عليه.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يُعلِّم خليفته في أرضه خاصة أُولي الأمر منهم، يُعلِّمه أن يكون أريباً ناصحاً، يقول له: إياك أنْ تتوكّل على عبد مثلك إذا عجزتَ عن العمل؛ لأنه عاجز مثلك، وما دام الأمر كذلك فتوكَّل على العزيز الرحيم، فعِزَّته ورحمته لك أنت.(17/10708)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
أي: توكل على الذي يحبك، ويُقدِّر عملك وعبادتك حين تقوم، والمعنى تقوم له سبحانه بالليل والناس نيام {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونفهم من ذلك أنه يصح أن تقوم وحدك بالليل.(17/10708)
وقوله: {الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 218] يرى حالك في هذا القيام، وما أنت عليه من الفرح، وسرعة الاستجابة لنداء الله في قوله: الله أكبر، يراك حين تقوم على حالة انشراح القلب والإقبال على الله والنشاط للعبادة، لا على حال الكسل والتراخي.
وإنْ أقبلتَ على الله أعطاك من الفُيوضات ما يُعوِّضك مكاسب الدنيا وتجارتها، إنْ تركتها لإجابة النداء؛ لذلك كان شعار الأذان الذي ارتضاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ (الله أكبر) أي: أكبر من أيِّ شيء غيره، فإنْ كنتَ في نوم، فالله أكبر من النوم، وإنْ كنتَ في تجارة، فالله أكبر من التجارة، وإنْ كنتَ في عمل فالله أكبر من العمل. . إلخ.
وعجيب أن نرى مَنْ يُقدِّم العمل على الصلاة بحجة امتداد الوقت، وإمكانية الصلاة بعد انتهاء العمل، وهذه حجة واهية؛ لأن ربك حين يناديك (الله أكبر) يريد أن تستجيب على الفور لا على التراخي، وإلا كيف تسمى الاستجابة للنداء إذا تأخرت عن وقتها؟ فطول الوقت خاصة بين الصبح والظهر وبين العشاء والصبح لا يعني أنْ تصلي في طول هذا الوقت؛ لأن النداء يقتضي الإسراع والاستجابة.
ولنا ملحظ في (الله أكبر) فأكبر أفعل تفضيل تدلُّ على المبالغة ودون أكبر نقول: كبير، وكأنها إشارة إلى أن العمل والسعي ليس شيئاً هيناً أو تافهاً، إنماهو كبير، ينبغي الاهتمام به؛ لأنه عَصَب الحياة، ولا تستقيم الأمور في عمارة الأرض إلا به.
لكن، إنْ كان العمل كبيراً فالله أكبر، فربُّك عَزَّ وَجَلَّ لا يُزهِّدك في العمل، ولا يُزهِّدك في الدنيا؛ لأنه خالقها على هذه الصورة وجاعل للعمل فيها دوراً، وإنْ شئتَ فاقرأ: {فَإِذَا قُضِيَتِ(17/10709)
الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] .
وقال في موضع آخر: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} [القصص: 77] لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء الصلاة وعلى عبادة الله، فبها تقتات، وبها تتقوَّى، وبها تستر عورتك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومع هذا فدعوة الله لك أَوْلَى بالتقديم، وأَوْلَى بالإجابة؛ لأن الذي خلقك وخلقها ناداك (الله أكبر) .
و {وَتَقَلُّبَكَ} [الشعراء: 119] تعني: القعود والقيام والركوع والسجود، فربُّك يراك في كل هذه الأحوال، ويرى سرورك بمقامك بين يديه، فإذا ما توكلتَ عليه فأنت تستحق أن يكون ربُّك عزيزاً رحيماً من أجلك.
أو: أن المعنى {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 119] أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يرى صحابته وهم يُصلُّون خلفه، فيرى مَنْ خلفه، كما يرى مَنْ أمامه، وكانت هذه من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لذلك كان يُحذِّرهم أنْ يسبقوه في الصلاة في ركوع أو سجود، أو قيام أو قعود. ويحذرهم أنْ يفعلوا في الصلاة خلفه ما لا يصح من المصلى اعتماداً على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يراهم.(17/10710)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
السميع لما يقال، العليم بما يجول في الخواطر.(17/10711)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
وقد سبق أن قالوا عن القرآن تنزلت به الشياطين، فيردُّ عليهم: تعالوا أخبركم على مَنْ تتنزل الشياطين، وأصحح لكم هذه المعلومات الخاطئة: صحيح أن الشياطين تتنزل، لكن لا تتنزل على محمد؛ لأنه عدوها، إنما تتنزل على أوليائها.
قال الحق سبحانه: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] .
{تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 222] فهذا الذي يناسب الشياطين ويرضيهم، والجن قسمان: فمنه الصالح وغير الصالح وهذا الذي يسمونه الشياطين.
وكلمة {أَفَّاكٍ} [الشعراء: 222] مبالغة في الإفك أي: قلب الحقائق. وكان هؤلاء يخطفون الأخبار فيقولون شيئاً قد يصادف الصدق، ثم يجعلون معه كثيراً من الكذب.(17/10711)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
السمع مصدر وألته الأذن، فالمراد يلقون الأذن للسمع، كما في(17/10711)
قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
يعني: ألقى سمعه كي يستمع كمنْ يحرص على السماع من خفيض الصوت، فيميل نحوه ليسمع منه. وقال {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223] لأن بعضهم والقلة منهم قد يصدق ليُغلِّف كذبه، ويُغطي عليه، فأنت تأخذ من صِدْقه هذه المرة دليلاً على أنه صادق، وهو يخلط الخبر الصادق بأخبار كثيرة كاذبة.
ثم يقول الحق سبحانه: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون}(17/10712)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
الشعراء: جمع شاعر، وهو مَنْ يقول الشعر، وهو الكلام الموزون المُقفَّى، وقد اتهم الكفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه شاعر، وردَّ عليهم القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41] .
وعجيب من كفار مكة، وهم العرب أهل اللسان والبلاغة والبيان، وأهل الخبرة في الكلام الموزون المُقفَّى، بحيث كانوا يجعلون للشعر أسواقاً في ذي المجاز وذي المجنَّة وعكاظ، ويعلِّقون أجود أشعارهم على أستار الكعبة، ومع ذلك لا يستطيعون التمييز بين الشعر وأسلوب القرآن الكريم.
إذن: هم يعرفون الفَرْق، لكن يقصدون بقولهم كما حكاه القرآن: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] يقصدون بالشعر الكلام العَذْب الذي يستميل النفس، ويُؤثِّر في الوجدان، ولو كان نثراً. وهذه ينادى بها الآن أصحاب الشعر الحر؛ لأنهم(17/10712)
يقولون شعراً، لكنه غير موزون، وغير مُقفَّىً.
ومعنى {الغاوون} [الشعراء: 224] جمع غاوٍ. وهو الضال، وهؤلاء يتبعون الشعراء. لأنهم يؤيدون مذهبهم في الحياة بما يقولون من أشعار؛ ولأنهم لا يحكم منطقهم مبدأ ولا خُلُق، بل هواهم هو الذي يحكم المبدأ والخلق، فإنْ أحبُّوا مدحوا، وإنْ كرِهوا ذَمُّوا.
والدليل على ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ}(17/10713)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
الضمير في {أَنَّهُمْ} [الشعراء: 225] يعود على الشعراء، والوادي: هو المنخفض بين جبلين، وكان محل السير ومحل نمو الأشجار والبساتين واستقرار المياه.
{يَهِيمُونَ} [الشعراء: 25] نقول: فلان هَامَ على وجهه أي: سار على غير هدى، وبدون هدف أو مقصد، فالمعنى {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 225] أن هذه حال الشعراء، لأنهم أهل كلام وخيال يمدحك أحدهم إنْ طمع في خيرك، فإنْ لم تُعطِه كال لك الذم وتفنَّن في النَّيل منك، فليس له وادٍ معين يسير فيه، أو مبدأ يلتزم به، كالهائم على وجهه في كل وَادٍ.
فالمتنبي وهو من أعظم شعراء العصر العباسي ويُضرب به المثل في الحكمة والبلاغة، من أشهر شعره قوله:(17/10713)
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني ... والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فلما كان في إحدى رحلاته خرج عليه قُطَّاع الطرق، فلما أراد أن يفرَّ قال له خادمه: ألست القائل:
فَالخَيْل والليْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني ... والسَّيْفُ والرُّمح والقِرْطَاسُ والقَلَم
فاستحى أنْ يفرَّ، وثبت أمامهم حتى قتلوه، فقال قبل أنْ يموت: ما قتلني إلا هذا العبد، واشتهر هذا البيت في الأدب العربي بأنه البيت الذي قتل صاحبه.
ولما جاء المتنبي إلى مصر مدح حاكمها كافور الإخشيدي طمعاً فيه، وكان كافور رجلاً أسود؛ لذلك كَنَّوْه بأبي المِسْك، ولما مدحه المتنبي حالَ الرضا قال فيه:
أَبا كُلِّ طِيبٍ لاَ أَبَا المِسْك وَحْدَهُ ... وفي قصيدة أخرى يقول:
قَضَى اللهُ يَا كافُورُ أنَّكَ أَوَّلٌ ... وليْسَ بقَاضٍ أنْ يُرَى لَكَ ثَانِ
فلما لم يُعْطه كافور طلبه، وساءتْ العلاقة بينهما، قال يهجوه:
أُريك الرضا لو أخْفت النفسُ خافيَا ... ومَا أَنَا عَنْ نفسي وَلاَ عَنْكَ رَاضيا
أَمَيْنا وإخْلاَفَاً وغَدْراً وخِسَّةً وجُبْنا ... أشخصاً لُحْتَ لي أَمْ مَخَازِيا
وتُعجِبُني رِجْلاَكَ في النَّعْلِ إنني ... رأيتُكَ ذَا نَعْلٍ وإنْ كُنْتَ حَافِيا(17/10714)
ومِثْلُكَ يُؤتَى مِنْ بِلاَدٍ بَعِيدَة ... لِيُضحِكَ ربَّاتِ الحِدَادِ البَوَاكِيَا
ولَوْلاَ فُضُول الناسِ جِئْتُك مَادِحاً ... بما كنتَ في نَفْسِي به لَكَ هَاجِيَا
وقد يكون الشاعر بخيلاً، ولكنه يمدح الكرم والكريم، ويرفعه إلى عنان السماء:
متَّى تَأْتِهِ تَعشُو إلى ضَوْء نَارِه ... تَجِدْ خَيْر نَارٍ عِنْدهَا خَيْرُ موقِدِ
والحطيئة مع ما عُرف عنه من البخل يمدح أحدهم، ويصفه بالكرم النادر، لدرجة أنْ جعله يهِمُّ بذبح ولده لضيفه؛ لأنه لم يدد ما يذبحه، وينظِم الحطيئة في الكرم هذه القصيدة أو القصة الشعرية التي تُعَدُّ من عيون الشعر العربي، ومع ذلك لم يأخذ مما يقول عبرةً، وظلَّ على إمساكه وبُخْله؟
يقول الحطيئة في وصف الكريم:
وَطَاوٍ ثَلاثاً عَاصٍب البَطْنِ مُرْمل ... بِبَيْداءَ لمَ يَعرِف بها ساكِن رَسْما
أخِي جَفْوة فيه مِنَ الأُنْس وَحْشةٌ ... يرى البُؤْسَ فِيها مِنْ شراسَتِه نُعْما
وأَفْردَ في شِعْبٍ عَجُوزاً إزَاءَهَا ... ثلاثَة أشْباح تَخَالهوا بُهْما(17/10715)
حُفاةً عُراةً ما اغتذَوْا خُبْز مَلَّة ... ولاَ عَرِفُوا للبُرِّ مُذْ خُلِقُوا طَعْما
رَأى شَبَحاً وَسْط الظَّلام فَرَاعَه ... فلمَّا رأى ضَيْفا تَشمَّر واهْتَما
فَقالَ ابنُه لما رَآهُ بحيْرةٍ ... أيَا أبَتِ أذْبحْني ويَسِّر لَهُ طُعْما
وَلاَ تعتذر بالعُدْم على الذي طَرا ... يظنُّ لَنَا مالاً فَيُوسِعُنا ذَمّا
فَبَيْنَا هُما عَنَّتْ على البُعْد عَانَةٌ ... قَدِ انتظمتْ من خَلْفِ مِسْحلها نَظْما
عِطَاشاً تريد الماءَ فانسابَ نحوها ... عَلى أنَّه مِنْها إلى دَمِها أظْمَا
فَأمْهلَها حتَّى تروَّتْ عِطَاشُها ... وأرسلَ فِيهَا مِنْ كِنَانتِه سَهْما
فخرَّتْ نَحْوصٌ ذَات جحش سمينةً ... قَد اكتنزتْ لَحْماً وقد طبّقَتْ شَحْما
فَيَا بشْرَهُ إذْ جرَّهَا نحو قَومِه ... ويَا بشْرهُمْ لما رأوْا كَلْمها يَدْمَا
وَبَاَتُوا كِراماً قَدْ قَضَوْا حَقَّ ضَيْفهِمْ ... ومَا غَرمُوا غُرْماً وقَدْ غَنموا غُنْما
وَباتَ أبُوهم من بَشَاشتِه أباً ... لِضَيْفهِمُ والأم مِنْ بِشرها أُمَّا
وصدق الله العظيم: {أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 225226] يصفون الكرم وهم بخلاء، والشجاعة وهو جبناء ... إلخ.
وفي مرة، اجتمع عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اثنان من الشعراء: الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الأهتم فقال أحدهم عبارتين في مدح أحد الحاضرين بأنه سيد القبيلة. فغضب الممدوح ورأى أن هذا(17/10716)
قليل في حقَّه، فقال: والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني فوق الذي قال يعني: لم يُوفِّني حقي فقال الشاعر: أما والله وقد قال ما قال، فإنه لضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال. سبحان الله في أول المجلس كان سيد قبيلته، والآن هو ضيق العطية، أحمق الأب، لئيم العم والخال!!
ثم قال: والله يا رسول الله ما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الثانية يعني: أنا مصيب في القولين لكني رضيت فقلت أحسنَ ما علمت، وغضبت فقلت أسوأ ما علمتُ. عندها قال سيدنا رسول الله «إن من البيان لسحراً» .
ثم يستثني الحق سبحانه من هؤلاء الغاوين: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ}(17/10717)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
كان بعض شعراء المشركين أمثال عبد الله بن الزبعري، ومسافح(17/10717)
الجمحي يهجون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويذمونه، فيلتف الضالون الغاوون من حولهم، يشجعونهم ويستزيدونهم من هجاء رسول الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} الشعراء: 224] فأسرع إلى سيدنا رسول الله شعراءُ الإسلام: عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: أنحن من هؤلاء يا رسول الله؟ فقرأ عليهم رسول الله هذه الآية:
{إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [الشعراء: 227] .
فاستثنى الحق تبارك وتعالى من الشعرءا مَنْ توفَّرت فيه هذه الخصال الأربع {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} [الشعراء: 227] أي: ذكروا الله في أشعارهم؛ لينبهوا الناس إلى مواجيد الدين ومواعظ الإيمان، فيلتفتون إليها، ثم ينتصرون لرسول الله من الذين هَجَوْه.
وكان هؤلاء الثلاثة ينتصرون للإسلام ولرسول الله، فكلما هجاه الكفار ردُّوا عليهم، وأبطلوا حُججهم، ودافعوا عن رسول الله، حتى «أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَصَب منبراً لحسان بن ثابت، كان يقول له:» قل وروح القدس معك، اهجهم وجبريل معك «
وقال لكعب بن مالك:» اهجهم، فإن كلامك أشدُّ عليهم من(17/10718)
رَشْق النِّبال «كما سمح لهم بإلقاء الشعر في المسجد؛ لأنهم دخلوا في هذا الاستثناء، فهم من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً، وهم الذين ينتصرون للإسلام ويُمجِّدون رسول الله، ويدافعون عنه، ويردُّون عنه ألسنة الكفار.
ومعنى: {وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} [الشعراء: 227] أنهم لم يكونوا سفهاء، لم يبدأوا الكفار بالهجاء، إنما ينتصرون لأنفسهم، ويدفعون ما وقع على الإسلام من ظلم الكافرين؛ لذلك لما هجا أبو سفيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال أحدهم رداً عليهم:
أتهْجُوهُ وَلسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ... فَشرُّكما لخيركما الفِدَاءُ
فَإنَّ أَبِي وَوَالِدهِ وعِرْضِي ... لِعْرضِ مُحمدٍ منكمُ وِقَاءُ
وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} [الشعراء: 227] ظُلِموا مِمَّنْ؟ من الذين وقفوا من الدين ومن الرسول موقفَ العداء، وتعرَّضوا لرسول الله وللمؤمنين به بالإيذاء والكيد، ظُلِموا من الذين عزلوا رسول الله، وآله في الشِّعْب حتى أكلوا أوراق الشجر، من الذين تآمروا على قتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أنْ هاجر.
ومن رحمته تعالى وحكمته أنْ أباح للمظلوم أنْ ينتصر لنفسه، وأنْ يُنفِّس عنها ما يعانيه من وطأة الظلم، حتى لا تُكبتَ بداخله هذه المشاعر، ولا بُدَّ لها أن تنفجر، فقال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] .(17/10719)
وقال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] .
أباح للمظلوم أن يُعبِّر عن نفسه، وأن يرفض الظلم، ولا عليه إنْ جهر بكلمة تُخفِّف عنه ما يشعر به من ظلم.
ثم تختم السورة بقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] يعني: غداً سيعلمون مرجعهم ونهايتهم كيف تكون؟ والمنقلب هو المرجع والمآب، والمصير الذي ينتظرهم.
فالحق تبارك وتعالى يتوعدهم بما يؤذيهم، وبما يسوؤهم فلن تنتهي المسألة بانتصار المسلمين عليهم، إنما ينتظرهم جزاء آخر في الآخرة.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] .
لذلك أبهم الله تعالى هذا المنقلب، وإبهامه للتعظيم والتهويل، وقد بلغ من العِظَم أنه لا يُوصف ولا تؤدي العبارة مؤداه، كما أبهم العذاب في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] .
يعني: شيء عظيم لا يُقَال، والإبهام هنا أبلغ؛ لأن العقل يذهب في تصوّره كل مذهب، وعلى كل كيفية.
والمنقلب أو المرجع لا يُمدح في ذاته، ولا يُذمُّ في ذاته، فإن انتهى إلى السوء فهو مُنقلب سيء، وإنِ انتهى إلى خير فهو مُنقلَب حسن، فالذي نحن بصدده من مُنقلَب الكافرين المعاندين لرسول الله منقلب سيء يُذَم.
أما مُنْقلَب سحرة فرعون مثلاً حين قال لهم: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ(17/10720)
ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} [طه: 71] .
فماذا قالوا؟ {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء: 50] فهذا مُنقلَب حَسَن يُمدح ويُحمد.
وقد يظن المرء أن مُنقلَبه مُنقلَب خير، وأنه سينتهي إلى ما يُفرح وهو واهم مخدوع في عمله ينتظر الخير، والله تعالى يُعِد له منقلباً آخر، كالذي أعطاه الله الجنتين من أعناب وخففهما بنخل، وجعل بينهما زرعاً، فلما غرَّته نعمة الدنيا ظنَّ أن له مثلها، أو خيراً منها في الآخرة، فقال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] .
والانقلاب والمرجع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ إنما يفرح به مَنْ آمن بالله وعمل صالحاً؛ لأنه يعلم أنه سيصير إلى جزاء من الحق سبحانه وتعالى مؤكد؛ لذلك الحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا حين نركب الدواب التي تحملنا {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس} [النحل: 7] .
علَّمنا أن نذكره سبحانه: {والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 1214] .
إذن: فالدوابّ وما يحلّ محلّها الآن من وسائل المواصلات من أعظم نِعَم الله علينا، ولولا أن الله سخَّرها لنا ما كان لنا قدرة عليها، ولا طاقة بتسخيرها؛ لذلك نقول {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] .(17/10721)
أي: لا نستطيع ترويضه، فالصبي الصغير نراه يقود الجمل الضخم، ويُنيخه ويُحمّله الأثقال وهو طائع منقاد، لكنه يفزع إنْ رأى ثعباناً صغيراً، لماذا؟ لأن الله سبحانه وتعالى سخَّر لنا الجمل وذَلَّله، ولم يُسخِّر لنا الثعبان.
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 7172] .
ولكن ما علاقة قولنا: {سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] بقولنا: {وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] .
قالوا: لأننا سننقلب إلى الله في الآخرة، وسنُسأل عن هذا النعيم، فإنْ شكرنا ربنا على هذه النعمة فقد أدَّيْنا حقها، ومَنْ شكر الله على نعمة في الدنيا لا يسأل عنها في الآخرة؛ لأنه أدَّى حقَّها.
وقال سبحانه: {وَسَيَعْلَمْ} [الشعراء: 227] بالسين الدالة على الاستقبال، لكنها لا تعني طول الزمن كما يظن البعض؛ لأن الله تعالى أخفى الموت ميعاداً، وأخفاه سبباً ومكاناً، وهذا الإبهام للموت هو عَيْن البيان، لأنك في هذه الحالة ستنتظره وتتوقعه في كل وقت، ولو علم الإنسانُ موعد موته لقال: أفعل ما أريد ثم أتوب قبل أن أموت.
إذن: الوقت الذي تقتضيه السين هنا لا يطول، فقد يفاجئك الموت، وليس بعد الموت عمل أو توبة، واقرأ قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .
وقلنا: إن في الآية {وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227](17/10722)
تهديداً ووعيداً، الحق تبارك وتعالى حين يُضخّم الوعيد إنما يريد الرحمة بخَلْقه، وهو مُحِبٌّ لهم، فيهددهم الآن ليَسلموا غداً، ويُنبِّههم ليعودوا إليه، فينالوا جزاءه ورحمته.
وكأنه تبارك وتعالى يريد من وراء هذا التهديد أن يُوزِّع رحمته لا جبروته، كما تقسو على ولدك ليذاكر وتهدده ليجتهد. إذن: فالوعد بالخير خير، والوعيد بالشر أيضاً خير، فكل ما يأتيك من ربك، فاعلم أنه خير لك، حتى وإنْ كان تهديداً ووعيداً.
وهكذا قدمتْ لنا سورة الشعراء نموذجاً من تسلية الحق تبارك وتعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتخفيف عنه ما يلاقي من حزن وألم على حال قومه وعدم إيمانهم، وعرضَتْ عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موكب الرسل، وكيف أن الله أيَّدهم ونصرهم وهزم أعداءهم ودحرهم.
ثم سلاَّه ربه بأنْ رَدَّ على الكفار في افتراءاتهم، وأبطل حججهم، وأبان زَيْف قضاياهم، ثم تختم هذه التسلية ببيان أن للظالمين عاقبة سيئة تنتظرهم وأبهم هذه العاقبة {أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] ليضخمها.
والشيء إذا حُدِّد إنما يأتي على لَوْن واحد، وإنْ أُبهِم كان أبلغ؛ لأن النفس تذهب في تصوُّره كل مذْهب، كما لو تأخّر مسافر عن موعد عودته فنجلس ننتظره في قلق تسرّح بنا الظنون في سبب تأخره، وفي احتمالات ما يمكن أنْ يحدث، وتتوارد على خواطرنا الأوهام، وكل وهم يَرِد في نفسك بألم ولذعة، في حين أن الواقع شيء واحد.(17/10723)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
تكلمنا كثيراً على هذه الحروف المقطَّعة في أوائل السور، وهنا (طس) وهما حرفان من حروف المعجم، وهي تُنطق هكذا (طاء) و (سين) لأنهما أسماء حروف، وفَرْق بين اسم الحرف ومُسمَّاه، فكلٌّ من الأمي والمتعلم يتكلم بحروف يقول مثلاً: كتب محمد الدرس. فإنْ طلبتَ من الأمي أن يتهجى هذه الحروف لا يستطيع لأنه لا يعرف اسم الحرف، وإنْ كان ينطق بمُسمَّاه، أمّا المتعلم فيقول: كاف تاء باء.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أمياً لا يعرف أسماء الحروف، فهي إذن من(17/10727)
الله؛ لذلك كانت مسألة توقيفية، فالحروف (الام) نطقنا بها في أول البقرة بأسماء الحروف (ألف) (لام) (ميم) ، أما في أول الانشراح فقلنا {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] بمسميات الحروف نفسها، فنقول: أَلَم.
و {تِلْكَ} [النمل: 1] اسم إشارة للآيات الآتية خلال هذه السورة، وقُلْنا إن الآيات لها مَعَانٍ متعددة، فقد تعني الآيات الكونية: كالشمس والقمر، {وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر} [فصلت: 37] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] وهذه الآيات الكونية هي التي تلفتنا إلى عظمة الخالق عزَّ وجلّ وقدرته.
والآيات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل، والتي تثبت صِدْق بلاغهم عن الله، والآيات بمعنى آيات القرآن الحاملة للأحكام، وهي المرادة هنا {تِلْكَ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل: 1] .
وسبق إنْ قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1] فمرة يقول {وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 1] ومرة {وَكِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل: 1] ويأتي بالكتاب ويعطف عليه القرآن، أو يأتي بالقرآن ويعطف عليه الكتاب، مع أنهما شيء واحد، فكيف إذن يعطف الشيء على نفسه؟
قالوا: إذا عطف الشيء على نفسه، فاعلم أنه لزيادة وَصْف الشيء، تقول: جاءني زيد الشاعر والخطيب والتاجر، فلكلِّ صفة منها إضافة في ناحية من نواحي الموصوف، فهو القرآن لأنه يُقرأ في الصدور، وهو نفسه الكتاب لأنه مكتوب في السطور، وهما معاً(17/10728)
نُسمِّيهم مرة القرآن ومرة الكتاب، أمّا الوصف فيجعل المغايرة موجودة.
ومعنى {مُّبِينٍ} [النمل: 1] بيِّن واضح ومحيط بكل شيء من أقضية الحياة وحركتها من أوامر ونواهٍ، كما قال سبحانه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
وسبق أنْ حكينا ما حدث مع الإمام محمد عبده رَحِمَهُ اللَّهُ حينما كان في فرنسا، وسأله أحد المستشرقين: تقولون إن القرآن أحاط بكل شيء، فكم رغيفا في إردبّ القمح؟ فدعا الإمام الخباز وسأله فقال: كذا وكذا، فقال المستشرق: أُريدها من القرآن، قال الإمام: القرآن قال لنا: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] .
فهو كما قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] .
ثم يقول الحق سبحانه: {هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ}(17/10729)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
الهدى: يأتي بمعنيين: بمعنى الدلالة على طريق الخير، وبمعنى المعونة، فمن ناحية الدلالة هو هُدىً للمؤمن وللكافر على حَدٍّ سواء؛ لأنه دلَّ الجميع وأرشدهم، ثم تأتي هداية المعونة على حسب اتباعك لهداية الدلالة.(17/10729)
فمَنْ أطاع الله وآمن به وأخذ بدلالته، فكان الحق سبحانه يقول له: أنت استأمنتني على حركة حياتك وأطعتني في أمري ونهيي، فسوف أخفف عنك وأُهوِّن عليك أمر العبادة وأُعينك عليها، وهذه هي هداية المعونة التي قال الله عنها: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] .
وكذلك الكافر الذي لم يأخذ بهداية الدلالة والإرشاد، واختار لنفسه طريقاً آخر يُعينه الله عليه، ويُيسِّر له ما سعى إليه من الكفر؛ لذلك يختم الله على قلوب الكافرين حتى لا يدخلها إيمان ولا يخرج منها كفر.
لكن الهداية هنا: أهي دلالة، أم هداية معونة؟
نقول: هي هداية معونة، بدليل قوله تعالى بعدها {وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2] فما كانوا مؤمنين إلا لأنهم مهديون، والبُشْرى لا تكون إلا للمؤمنين، إذن: هي معونة للمؤمنين بأنْ يزيدهم هدايةً إلى الطريق السَّويّ، وإلى جنات النعيم {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] .
ولو أن الهداية هنا بمعنى الدلالة التي تأتي للمؤمن والكافر لكانتْ بشرى وإنذاراً، لكن الآية {وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 2] فتعيَّن أن يكون المعنى هداية المعونة وهداية البشرى.(17/10730)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
المؤمنون هم أصحاب عقيدة الإيمان، وهو أن تؤمن بقضية الحق الواحد الإله المختار الفاعل الذي له صفات الكمال، تؤمن بها حتى(17/10730)
تصير عقيدة في نفسك ثابتة لا تتزعزع، والإيمان اعتقاد بالقلب، وقَوْل باللسان، وعمل بالجوارح، فلا يكفي النطق باللسان، إنما لا بد من أداء تكاليف الإيمان ومطلوباته، وقمتها إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وصَوْم رمضان، والحج.
فالصلاة دعوة من الله لخَلْقه، دعوة من الصانع للمصنوع، فربُّك يستدعيك إلى حضرته، وكيف بالصَّنْعة إذا عُرِضَتْ على صانعها كل يوم خمس مرات، ومع ذلك نرى مَنْ يُقدِّم العمل على الصلاة، وإذا سمع النداء قال عندي أعمال ومشاغل، إياك أنْ تظن أن الصلاة تعطيل للمصالح، أو إضاعة للوقت؛ لأنك في حركة حياتكم مع نِعَم الله وفي الصلاة مع الله.
ونقيس هذه المسألةَ ولله المثل الأعلى لو أن أباك ناداك فلم تُجبه، ماذا يفعل بك؟ فلا يكُنْ ربُّك أهونَ عليك من أبيك، ربك يناديك: الله أكبر يعني: أكبر من العمل، وأكبر من كل شيء يشغلك عن تلبية ندائه.
وفي الصلاة نأخذ شحنة إيمانية تُقوِّينا على حركة حياتنا، كما لو ذهبتَ ببطارية السيارة مثلاً لجهاز الشحن أتقول: إنك عطلتَ البطارية؟
ولو حسبنا الوقت الذي تستغرقه الصلوات الخمس لوجدناه لا يتعدّى ساعة من الأربع والعشرين ساعة، فلا تضن على نفسك بها لتلتقي بربك، وتقف بين يديه، وتعرض نفسك عليه، فيصلح فيك ما أفسدته حركة الحياة ويعطيك المدد والعون والشحنة الإيمانية التي تدفعك إلى حركة منسجمة مع الحياة والكون من حولك.
وإنْ كان مهندس الآلة يُصلحها بشيء مادي، فربُّك عَزَّ وَجَلَّ(17/10731)
غَيْب، فيصلحك بالغيب، ومن حيث لا تدري أنت، لذلك كانت الصلاة في قمة مطلوبات الإيمان.
فإنْ كانت الصلاة لإصلاح النفس، فالزكاة لإصلاح المال؛ لذلك تجد دائماً أن الصلاة مقرونة بالزكاة في معظم الآيات، وإنْ كان المال نتيجة العمل، والعمل فرع الوقت، فإن الصلاة تأخذ الوقت، والزكاة تأخذ نتيجة الوقت، الزكاة تأخذ 2. 5 ... أمّا الصلاة فتأخذ الوقت نفقسه يعني بنسبة 100 ... .
ومع ذلك لا نقول: إن الصلاة أضاعتْ الوقت، لأن الشحنة التي تأخذها في الصلاة تجعلك تنجز العمل الذي يستغرق عدة ساعات في نصف ساعة، فتعطيك بركة في الوقت.
وسبق أن قلنا: إن نداء الله أكبر يعني: أن لقاء الله أكبر من أي شيء يشغلك مهما رأيته كبيراً؛ لأنه سبحانه واهب البركة، وواهب الطاقة، وإنْ كان العمل والسَّعْي في مناكب الأرض مطلوباً، لكن الصلاة في وقتها أَوْلَى.
وحين نتأمل أطول الأوقات بين كل صلاتين نجد أنها من الصبح حتى الظهر، وهو الوقت المناسب للعمل، ومن العشاء حتى الصبح، وهو الوقت المناسب للنوم، وهكذا تُنظِّم لنا الصلاة حياتنا، فمِنْ صلاة الصبح إلى صلاة الظهر سبع ساعات هي ساعات العمل.
لو أن الأمة الإسلامية تمسَّكتْ بشرعها ومنهج ربها، وبعد هذه الساعات السبع التي تقضيها في عملك، أنت حر بعد صلاة الظهر، أمّا التخصيص الذي طرأ على حركة الحياة فقد اقتضى أنْ يأتي صلاة الظهر بل والعصر والناس ما يزالون في أعمالهم.(17/10732)
أما الذين يُؤخرون الصلاة عن وقتها بحجة امتداد الوقت بين الصلاتين، نعم الوقت ممتدٌّ، لكن لا يجوز لك تأخير الصلاة، ولبيان هذه المسألة نقول: هَبْ أن غنياً مستطيعٌ للحج، ولم يحج متى يأثم.
يأثم إذا ما غَرَّه طول الأمل، ثم عاجله الموت قبل أنْ يحجَّ، فإنْ أمهله العمر حتى يحج، فقد سقط عنه هذا الفرض، لكن مَنْ يضمن له البقاء إلى أنْ يؤدي هذه الفريضة.
لذلك ورد في الحديث: «حُجُّوا قبل ألاَّ تَحجُّوا» .
كذلك الحال في وقت الصلاة، فهو ممتد، لكن مَنْ يضمن لك امتداده؛ لذلك تارك الصلاة يأثم في آخر لحظة من حياته، فإنْ ظلَّ إلى أنْ يصلي فلا شيء عليه.
إذن: لا تتعلَّل بطول الوقت؛ لأن طول الوقت جعله الله لحكمه، لا لنأخذه ذريعة لتأخير الصلاة عن وقتها، طول الوقت بين الصلوات جُعِل للنائم كي يستيقظ، أو للناسي كي يتذكّر.
ثم يقول سبحانه {وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل: 3] .
فالآية جمعتْ أمر المؤمن كله، بداية من العقيدة والإيمان بالله، ثم الصلاة، فالزكاة وهما المطلبان العمليان بين إيمانين: الإيمان الاول بالله، والآخر أنْ يؤمن بالآخرة وبالجزاء والمرجع والمصير.
وقوله {يُوقِنُونَ} [النمل: 3] الإيقان: الحكم بثبات الشيء بدون توهُّم شكٍّ؛ لذلك قلنا: إن العلم أنْ تعرف قضية واقعة وتقول، إنها صدق وتُدلِّل عليها.(17/10733)
وقلنا: إن اليقين درجات؛ علم اليقين، وعين اليقين، وحقُّ اليقين، فمثلاً حين أقول لك: إنني رأيتُ في أحد البلاد أصبع الموز نصف متر، وأن تثق فيَّ ولا تكذبني، فهذا علم يقين، فإنْ رأيته، فهذا عَيْن اليقين، فإن أخذته وذهبتَ تقطعه مثلاً، وتوزعه على الحاضرين فهذا حقُّ اليقين. وهذه الدرجة لا يمكن أن يتسرَّب إليها شكٌّ.
لذلك لما «سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصحابي الحارث بن مالك الأنصاري:» كيف أصبحتَ «؟ قال: أصبحتُ بالله مؤمناً حقاً، قال» فإنّ لكل حَقِّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ «قال: عزفَتْ نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومدرها، كأنِّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» عرفت فالزم «.
والإمام على رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يعطينا صفة اليقين في قوله: لو كُشِف عني الحجاب ما ازددتُ يقيناً؛ لأني صدقت بما قال الله، وليست عيني أصدق عندي من الله.
ومن هذا اليقين ما ذكرنا في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] مع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وُلِد في هذا العام، فلم يَرَ هذه الحادثة، فالمعنى: ألم تعلم، وعدل عن (تعلم) إلى (ترى) ليقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن إخبار الله لك أقوى صِدْقاً من رؤية عينيك.(17/10734)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
هؤلاء في مقابل الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة؛ لأن الحق تبارك وتعالى يعرض الشيء ومقابله لنُجري نحن مقارنة بين المتقابلات، وفي هؤلاء يقول تعالى: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة} [النمل: 4] .
ولم يَنْفِ عنهم إقامة الصلاة أو إيتاء الزكاة، لماذا؟ لأنهم أصلاً لا يؤمنون بالله، ولا بالبعث والحساب، ولو علموا أنهم سيرجعون إلى الله لآمنوا به، ولَقدَّموا العمل الصالح.
ومعنى {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] أن الذين لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالآخرة، ولا يُؤدُّون مطلوبات الإيمان لا عُذْرَ لهم؛ لأننا حينما عرضنا الإيمان ومطلوباته عرضناه عَرْضاً جيداً مُستميلاً مُشوِّقاً وزيَّناه لكم.
فالصلاة لقاء بينك وبين ربك يعبر عن دوام الولاء، ويعطيك شحنة إيمانية، والزكاة تُؤمِّنك حين ضعفك وعدم قدرتك، فنأخذ منك وأنت غني لنعطيك إنْ حَلَّ بك الفقر، ولما نهيناك عن الكذب نهينا الناس جميعاً أن يكذبوا عليك، ولما حذَّرناك من الرشوة قلنا للآخرين: لا تأكلوا ماله دون وَجْه حقٍّ. . إلخ.
وهكذا شرحنا التكاليف وبيَّنا الحكمة منها، وحبّبناها إليكم.
أو: يكون المعنى: زيّنّا لهم أعمالهم التي يعملونها، فلما عَلم الله عشْقهم للضلال وللانحراف ختم على قلوبهم، يقول تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] .(17/10735)
لكن مَنِ الذي زيَّن لهم: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [النحل: 63] فالتزيين يأتي مرة من الشيطان، ومرة مجهول الفاعل، ومرة زيَّن الله لهم.
ومن تزيين الله قوله تعالى في شأن فرعون: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: 88] فلما أعطاهم الله النعمة فُتِنوا بها.
وإبليس خلقه الله، وجعل له ذرية تتسلَّط على الناس، وتُغْويهم، وما ذلك إلا للاختبار ليرى مَنْ سيقف على هذه الأبواب، إذن: الحق تبارك وتعالى لم يجعل حواجز عن المعصية، وجعل لكم دوافع على الطاعة، فالمسألة منك أنتَ، فإنْ رأيتُك مِلْتَ إلى شيء وأحببته أعنْتُكَ عليه.
والذي يموت له عزيز، أو المرأة التي يموت ولدها، فتظل حزينة عليه تُكدِّر حياتها وحياة مَنْ حولها ويا ليت هذا يفيد أو يُعيد الميت ونقول لمن يستقبل قضاء الله بهذا السُّخْط: إن ربك حين يعلم أنك أَلِفْتَ الحزن وعشقْته وهو رب، فلا بُدَّ أن يعطيك مطلوبك، ويفتح عَليك كل يوم باباً من أبوابه.
إذن: ينبغي على مَنْ يتعرَّض لمثل هذا البلاء أنْ يستقبله بالرضا، وإنْ يغلق باب الحزن، ولا يتركه موارباً.
ومن التزيين قوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] .
ومعنى {يَعْمَهُونَ} [النمل: 4] يتحيرون ويضطربون، لا يعرفون أين يذهبون؟(17/10736)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
أي: العذاب السيء، وهذا في الآخرة، فبالإضافة إلى ما حدث لهم من تقتيل في بدر، وهزيمة كسرتْ شوكتهم فلم ينته الأمر عند هذا الحد، إنما هناك خسارة أخرى في الآخرة {وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون} [النمل: 5] .
والأخسر مبالغة في الخسران، فلم يَقُلْ: خاسر إنما أخسر؛ لأنه خسر النعيم؛ لأنه لم يُقدِّم صالحاً في الدنيا، وليته ظل بلا نعيم وتُرِكَ في حاله، إنما يأتيه العذاب الذي يسوؤه؛ لذلك قال تعالى {هُمُ الأخسرون} [النمل: 5] لأنهم لم يدخلوا الجنة، وهذه خسارة، ثم هم في النار، وهذه خسارة أخرى.(17/10737)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
يعني: هذه المسائل والقضايا إنما تأتيك من الله الحكيم الذي يضع الشيء في نصابه وفي محله، فإنْ أثاب المحسن أو عاقب المسيء، فكلٌّ من محلِّه، وهو سبحانه العليم بما يضع من الجزاءات على الحسنة وعلى السيئة.
ويقصُّ علينا الحق سبحانه قصة موسى عليه السلام: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ}(17/10737)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
ما زِلْنا قريبي عَهْد بذكر طرف من قصة موسى عليه السلام(17/10737)
في سورة الشعراء، وهنا يعود السياق إليه مرة أخرى، لماذا؟ لأن دعوة موسى عليه السلام أخذت حيِّزاً كبيراً من القرآن الكريم، ذلك لأنهم أتبعوا أنبياءهم وعاندوهم حتى كَثُّر الكلام عنهم.
وعجيب أنهم يفخرون بكثرة أنبيائهم، وهم لا يعلمون أنها تُحسب عليهم لا لهم، فالنبي لا يأتي إلا عند شقْوة أصحابه، وبنوا إسرائيل كانوا من الضلال والعناد بحيث لاَ يكفيهم رسول واحد، بل يلزمهم (كونسلتو) من الأنبياء، فهم يعتبرونها مفخرة، وهي مَنْقصة ومذمّة.
أما تكرار قصة بني إسرائيل وموسى عليه السلام كثيراً في القرآن، فلأن القرآن لا يروي (حدوتة) و، لا يذكر أحداثاً للتأريخ لها، إنما يأتي من القصة بما يناسب موطن العبرة والتثبيت لفؤاد رسول الله: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .
لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعرَّض في رحلة الدعوة لكثير من المصاعب والمشاقّ، ويحتاج لتسلية وتثبيت، فيأتي له ربُّه بلقطة معينة، ولكن لا يُورد القصة كاملة، وهذا ليس عَجْزاً وحاشا لله عن إيراد القصة كاملة مرة واحدة.
وقد أورد سبحانه قصة يوسف عليه السلام كاملة من الألف إلى الياء في صورة قصة محبوكة على أتمِّ ما يكون الفن القصصي، ومع ذلك لم يأتِ لسيدنا يوسف عليه السلام ذِكْر في غير هذه القصة إلا في موضعين:(17/10738)
أحدهما: في سورة الأنعام: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ} [الأنعام: 84] .
والآخر في سورة غافر: {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر: 34] .
إذن: ورود القصة في لقطات مختلفة متفرقة ليس عَجْزاً عن إيرادها مُسْتوفاة كاملة في سياق واحد، ولو فعل ذلك لكان التثبيت مرة واحدة.
وهنا يقول الحق سبحانه: {إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً} [النمل: 7] ، وفي موضع آخر يقول: {قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} [القصص: 29] وفي هذه الآية إضافة جديدة ليست في الأولى.
أما قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] أي: آنس في ذاته، أمّا في الآيتين السابقتين فيخبر بأنه آنسَ ناراً، إذن: كل آية في موقف، وليس في الأمر تكرار، كما يتوهمّ البعض.
فموسى عليه السلام يسير بأهله في هذا الطريق الوَعْر ويحلّ عليه الظلام، ولا يكاد يرى الطريق فيقول لزوجته: {إني آنَسْتُ(17/10739)
نَاراً} [النمل: 7] يعني: سأذهب لأقتبسَ منها، ليهتدوا بها، أو ليستدفئوا بها.
وطبيعي أنْ تعارضه زوجته: كيف تتركني في هذا المكان المُوحِش وحدي، فيقول لها {امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً} [القصص: 29] يعني: أبقىْ هنا مستريحة، وأنا الذي سأذهب، فلربما تعرَّضت لمخاطر فكُوني أنت بعيداً عنها، إذن: هي مواقف جديدة استدعاها الحال، ليست تكراراً.
كذلك نجد اختلافاً طبيعياً في قوله: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29] وقوله {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} [النمل: 7] .
فالأولى {لعلي} [القصص: 29] فيها رجاء؛ لأنه مُقبل على شيء يشكُّ فيه، وغير متأكد منه، وهو في هذه الحالة صادق مع خواطر نفسه أمام شيء غائب عنه، فلما تأكد قال {سَآتِيكُمْ} [النمل: 7] على وجه اليقين.
وفي هذه المسألة قال مرة: {لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص: 29] وهنا قال: {سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [النمل: 7] .
ذلك لأنه لا يدري حينما يصل إلى النار، أيجدها مشتعلة لها(17/10740)
لسان يقتبس من شعلة، أم يجدها قد هدأتْ ولم يَبْقَ منها إلا جذوة، وهي القطعة المتوهجة مثل الفحم مثلاً، فكلُّ تكرار هنا له موضع، وله معنى، ويضيف شيئاً جديداً إلى سياق القصة، فهو تكامل في اللقطات تأتي متفرقة حَسْب المراد من العبرة والتثبيت.
ومعنى {لأَهْلِهِ} [النمل: 7] قالوا: إنها تعني جماعة بدليل قوله لهم {امكثوا} [القصص: 29] فكانت زوجته، ومعه أيضاً بعض الرُّعْيان أو الخدم. والإنسان منا يحتاج لأشياء كثيرة تقتضي التعدّد: فهذا يطبخ الطعام، وهذا للنظافة، وهذا لِكَيِّ الملابس. . إلخ.
لكن هناك شيء واحد لا يستطيع أحد أنْ يقضيَه لك إلا زوجتك، هي النسْل والمعاشرة الزوجية، كما يمكن للزوجة وحدها أن تقوم لك بكل هذه الأعمال، إذن: فهي تُغْني عن الأهل كلهم، ونستطيع أن نقول: إنه لم يكُنْ معه إلا زوجته.
وهذه شائعة في لغتنا: يقول الرجل: الجماعة أو جماعتي أو أهلي ويقصد زوجته، وفي هذا تقدير من الزوج لمكانة زوجته.
ومعنى {آنَسْتُ} [النمل: 7] آنس: يعني شعر وأحسَّ بشيء يُؤنسه ويُطمئنه، وضده التوجس: أي شعر وأحسَّ بشيء يخيفه، ومنه قوله تعالى في شأن موسى أيضاً: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} [طه: 6768] .(17/10741)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
أي: جاء النار ف {نُودِيَ} [النمل: 8] النداء: طلب إقبال، كما تقول: يا فلان، فيأتيك فتقول له ما تريد. فالنداء مثلاً في قوله تعالى: {ياموسى} [طه: 11] نداء {إنني أَنَا الله} [طه: 14] خطاب وإخبار.
لكن ما معنى {نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] ولم يقُلْ: يا موسى فليس هنا نداء، قالوا: مجرد الخطاب هنا يُراد به النداء؛ لأنه ما دام يخاطبه فكأنه يناديه، ومثال ذلك قوله سبحانه: {ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] .
فذكر الخطاب مباشرة دون نداء؛ لأن النداء هنا مُقدَّر معلوم من سياق الكلام، ومنه أيضاً: {ونادى أَصْحَابُ الأعراف رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف: 48] .
ومنه أيضاً: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي} [مريم: 24] فجعل الخطاب نفسه هو النداء.
وقوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] كلمة بُورِك لا تناسب النار؛ لأن النار تحرق، وما دام قال {بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] فلا بُدَّ أن مَنْ في النار خَلْق لا يُحرق، ولا تؤثر فيه النار، فمَنْ هم الذين لا تؤثر فيهم النار، هم الملائكة.
وقد رأى موسى عليه السلام مشهداً عجيباً، رأى النار تشتعل في فرع من الشجرة، فالنار تزداد، والفرع يزداد خُضْرة،(17/10742)
فلان النار تحرق الخضرة ولا رطوبة الخضرة ومائيتها تطفىء النار، فمَنْ يقدر على هذه المسألة؟ لذلك قال بعدها: {وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين} [النمل: 8] .
ففي مثل هذا الموقف إياك أنْ تقول: كيف، بل نزِّه الله عن تصرفاتك أنت، فهذا عجيب لا يُتصوَّر بالنسبة لك، أمّا عند الله فأمر يسير.
وقد رأينا مثل هذه المعجزة في قصة إبراهيم عليه السلام حين نجَّاه ربه من النار، ولم يكُنْ المقصود من هذه الحادثة نجاة إبراهيم فقط، فلو أن الله أراد نجاته فحسب لَمَا أمكنهم منه، أو لأطفأ النار التي أوقدوها بسحابة ممطرة، أسباب كثيرة كانت مُمكِنة لنجاة سيدنا إبراهيم.
لكن الله تعالى أرادهم أنْ يُمسِكوا به، وأنْ يُلْقوه في النار، وهي على حال اشتعالها وتوهّجها، ثم يُلْقونه في النار بأنفسهم، وهم يروْنَ هذا كله عَيَاناً، ثم لا تؤذيه النار، كأنه يقول لهم: أنا أريد أن أنجيه من النار، رغم قوة أسبابكم في إحراقه، فأنا خالق النار ومعطيها خاصية الإحراق، وهي مُؤتمرةٌ بأمري أقول لها: كُونِي بَرْداً وسلاماً تكون، فالمسألة ليست ناموساً وقاعدة تحكم الكون، إنماَ هي قيوميتي على خَلْقي.
إذن: ما رآه موسى عليه السلام من النار التي تشتعل في خضرة الشجرة أمر عجيب عندكم، وليس عجيباً عند مَنْ له طلاقة القدرة التي تخرق النواميس.(17/10743)
وبناء الفعل {بُورِكَ} [النمل: 8] للمجهول تعني: أن الله تعالى هو الذي يبارك، فهذه مسألة لا يقدر عليها إلا الله {مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] يجوز أن يكون الملائكة، أو: بُورِكت الشجرة ذاتها لأنها لا تُحرق، أو النار لأنها لا تنطفىء فهي مُباركة.
وفي موضع آخر يُوسِّع دائرة البركة، فيقول سبحانه: {فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30] .
ثم يخاطب الحق سبحانه موسى: {ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله}(17/10744)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
جاء هنا النداء على حقيقته بأداة ومنادى {إِنَّهُ أَنَا الله} [النمل: 9] هذا هو الأصل، وما دُمْتُ أن الله فلا تتعجَّب مما ترى، وساعةَ تسمع مَنْ يكلِّمك دون أن ترى متكلماً من جنسك، فلا تتعجب ولا تندهش.(17/10744)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
ونلحظ أن هنا تفاصيلَ وأحداث لم تذكرها الآية هنا، وذُكِرَت في موضع آخر في قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 1718] .
والأدب يقتضي أن يأتي الجواب على قَدْر السؤال، لكن موسى(17/10744)
عليه السلام أراد أنْ يطيل أمد الأُنْس بالله والبقاء في حضرته تعالى، ولما أحسَّ موسى أنه أطال في هذا المقام أجمل، فقال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] فللعصا مهام أخرى كثيرة في حياته.
وهنا يقول سبحانه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل: 10] يعني: إنْ كانت العصا بالنسبة لك بهذه البساطة، وهذه مهمتها عندك فلها عندي مهمة أخرى، فانظر إلى مهمتها عندي، وإلى ما لا تعرفه عنها.
{وَأَلْقِ عَصَاكَ} [النمل: 10] فلمّا ألقى موسى عصاه وجدها {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10] يعني: حية تسعى وتتحرك، والعجيب أنها لم تتحول إلى شيء من جنسها، فالعصا عود من خشب، كان فرعاً في شجرة، فجنسه النبات ولما قُطعت وجفَّتْ صارت جماداً، فلو عادت إلى النباتية يعني: إلى الجنس القريب منها واخضرتْ لكانت عجيبة.
أمّا الحق تبارك وتعالى فقد نقلها إلى جنس آخر إلى الحيوانية، وهذه قفزة كبيرة تدعو إلى الدهشة بل والخوف، خاصة وهي {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10] أي: تتحرك حركة سريعة هنا وهناك.
وطبيعي في نفسية موسى حين يرى العصا التي في يده على هذه الصورة أنْ يخاف ويضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} [طه: 6768] .
ومعنى: {الأعلى} [طه: 68] إشارة إلى أنه تعالى يُعده لمهمة كبرى، وأن لهذه العصا دوراً من الخصوم، وسوف ينتصر عليهم، ويكون هو الأعلى.(17/10745)
وحين تتتبع اللقطات المختلفة لهذه القصة تجدها مرة (جان) ومرة (حية) ومرة (ثعبان) ، وهي كلها حالات للشيء الواحد، فالجان فَرْخ الثعبان، وله مِن خفة الحركة ما ليس للثعبان، والحية هي الثعبان الضخم.
وقوله تعالى {ولى مُدْبِراً} [النمل: 10] يعني: انصرف عنها وأعطاها ظهره {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل: 10] نقول: فلان يُعقِّب يعني: يدور على عَقِبه ويرجع، والمعنى أنه انصرف عنها ولم يرجع إليها؛ لذلك ناداه ربه سبحانه وتعالى: {ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: 10] .
ونلحظ هنا نداءين اثنين يذكر فيهما، المنادى موسى عليه السلام وكأنهما تعويض للنداء السابق الذي نُودِي فيه بالخبر {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] .
وعلَّة عدم الخوف {لاَ تَخَفْ} [النمل: 10] ليعلمه أنه سيُضطر إلى معركة، فليكُنْ ثابتَ الجأْش لا يخاف لأنّه لا يحارب شخصاً بمفرده، إنما جمعاً من السَّحرة جُمِعوا من كل أنحاء البلاد، وسبق أنْ قال له:
{إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} [طه: 68] حتى لا تُرهبه هذه الكثرة.
وهنا قال {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: 10] والمعنى: لا تخفْ، لأني أنا الذي أرسلتُك، وأنا الذي أتولّى حمايتك وتأييدك، كما قال الحق سبحانه في موضع آخر:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171173] .
فأنت معذور في الخوف، إنْ كنتَ بعيداً عني، فكيف وأنت في جواري وأنا معك، وها أنذا أخاطبك؟(17/10746)
وكان إلقاء العصا من موسى هذه المرة مجرد تجربة (بروفة) ليألف هذه المسألة ويأنس إليها، وتحدث له دُرْبة ورياضة، فإذا ما أجرى هذه العملية أمام فرعون والسحرة أجراها بثقة وثبات ويقين من إمكانية انقلاب العصا إلى حية.
وبعد ذلك يأتي بآية تثبيت منطقة التكليف في البشر حتى الرسل، والرسل أيضاً مُكلَّفون، وكل مُكلَّف يصح أن يطيع أو أن يعصي، لكن الرسلَ معصومون من المعصية، أما موسى عليه السلام فله حادثة مخصوصة حين وكَز الرجل فسقط ميتاً، فقال: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [الشعراء: 14] .
وفي موضع آخر يُحدِّد هذا الذنب: {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] .
ونضع هذه القصة أمامنا لنفهم: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ}(17/10747)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
إذن: فالاستثناء هنا من قوله تعالى: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون} [النمل: 10] استثنى من ذلك {إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء} [النمل: 11] .
وكأنه عَزَّ وَجَلَّ يُعرِّض بهذه الحادثة الخاصة بموسى عليه السلام: {إِلاَّ مَن ظَلَمَ} [النمل: 11] أي: حين قتَل القبطي، لكن(17/10747)
موسى عليه السلام اعترف بذنبه واستغفر ربه، فقال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص: 16] .
ولا كلامَ لاحد بعد مغفرة الله عَزَّ وَجَلَّ للمذنب؛ لأنه بعد أنْ ظلم {ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء} [النمل: 11] يعني: عمل عملاً حسناً بعد الذنب الذي ارتكبه {فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النمل: 11] .
ثم يقول الحق سبحانه: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ}(17/10748)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
هذه آية أخرى ومعجزة جديدة، قال عنها في موضع آخر: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص: 32] .
فما الفرق بين: أَدْخِل يدك، واسْلُك يدك؟ قالوا: لأنه ساعة يُدخِل يده في جيبه يعني: في فتحة القميص، إنْ كانت فتحة القميص مفتوحة أدخل يده بسهولة فيُسمّى (إدخال) .
فإن كانت مغلقة (فيها أزرار مثلاً) احتاج أنْ يسلك يده يعني: يُدخلها برفق ويُوسِّع لها مكاناً، نقول: سلك الشيء يعني: أدخله بلُطْف ورِفْق، ومنه السلك الرفيع حين تُدخِله في شيء.
وساعةَ نسمع كلمة الجيب نجد أن لها معنىً عرفياً بين الناس، ومعنى لُغوياً: فمعناها في اللغة فتحة القميص العليا، والتي تكون للرقبة، وهي في المعنى العُرْفي فتحة بداخل الثوب يضع فيها(17/10748)
الإنسان نقوده، يقولون (جيب) والعوام لهم عُذْر في ذلك؛ لأنهم اضطروا إلى حِفْظ نقودهم داخل الثياب، حتى لا تكون ظاهرة، وربما سرقها منهم النشالون والأشقياء.
ولا يزال الفلاحون في الريف يجعلون الجيب في (السديري) الداخلي؛ لذلك سمعنا الحاوي مثلاً يقول ليُحنِّن الناس عليه بارك الله فيمَنْ يضع يده في جيبه يعني: بارك الله في الذي يعطيني جنيهاً.
وقوله تعالى {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12] أي: وأخرجها تخرج بيضاء ناصعة مُنوِّرة، ومعلوم أن موسى عليه السلام كان آدمَ اللون يعني: أسمر، فحين يروْنَ لونه تغيّر إلى البياض، فربما قالوا: إن ذلك مرضٌ كالبرص مثلاً.
لذلك أزال الله هذا الظنَّ بقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12] من غير مرض {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} [النمل: 12] ليعلم موسى عليه السلام أن هذه الآية واحدة من تسع آيات أخرى يُثبِّته الله بها أمام عدوه فرعون وقومه.
وهذه التسع هي: العصا ولها مهمتان: أن تتحول إلى حية أمام السحرة، وأنْ يضرب بها البحر أمام جيشه، حينما يهاجمه فرعون وجنوده.
ثم اليد، واثنتان هما الجدب، ونقص الثمرات في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} [الأعراف: 130] .
ثم: الطوفان، والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدَّم. هذه(17/10749)
تسع آيات. تُثبِّت موسى أمام فرعون وقومه. فهل أُرسل موسى عليه السلام إلى فرعون خاصة؟ لا، إنما أُرسِل إلى بني إسرائيل، لكنه أراد أنْ يُقنع فرعون بأنه مُرْسَل من عند الله حتى لا يحول بينه وبينهم، وجاءت مسألة دعوة فرعون إلى الإيمان بالله عَرَضاً في أحداث القصة، فليست هي أساسَ دعوة موسى عليه السلام.
ومعنى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [النمل: 12] إشارةً إلى أن الإنسان وإنْ كان كافراً خارجاً عن طاعة الله إلا أنَّ أصله من أصلاب مؤمنة، والمراد الإيمان الأول في آدم عليه السلام، وفي ذريته من بعده، لكنهم فسقوا أي: خرجوا من غشاء التكليف الذي يُغلِّف حركة حياتهم، كما نقول: فسقت الرطبة: يعني خرجت من غلافها، كذلك فَسَق الإنسان أي: خرج عن حيِّز التكليف الصائن له.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا}(17/10750)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
الآيات: المعجزات التي تُثبت صِدْق الرسول، والآيات تكون مُبْصَرة بصيغة اسم المفعول، لكن كيف تكون هي المبصرة بصيغة اسم الفاعل، وهذه المسألة عرفناها أخيراً، فكانوا منذ القدم عند اليونان والحضارات القديمة يظنون أن رؤية العين للأشياء تحدث من شعاع يخرج من العين إلى الشيء المرئي، إلى أن جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم ليثبت خطأ هذه النظرية ويقول بعكسها.(17/10750)
فالرؤية تتم بخروج شعاع من الشيء المرئيّ إلى العين، بدليل أننا لا نرى الشيء إنْ كان في الظلام، وأنت في النور، فإنْ كان الشيء في النور وأنت في الظلام تراه.
إذن: فكأن الآيات نفسها هي المبصِرة؛ لأنها هي التي ترسل الأشعة التي تسبب الرؤية. أو: أن الآيات من الوضوح كأنها تُلِحّ على الناس أنْ يروْا وأنْ يتأملوا، فكأنها أبصرُ منهم للحقائق.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ}(17/10751)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{وَجَحَدُواْ} [النمل: 14] أي: باللسان {بِهَا} [النمل: 14] بالآيات {واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] أي: إيماناً بها، إذن: المسألة عناد ولَدَد في الخصومة؛ لذلك قال تعالى بعدها {ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] أي: استكباراً عن الحق {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} [النمل: 14] وترْك عاقبتهم مبهمة لتعظيم شأنها وتهويلها.
ثم يترك قصة موسى مع فرعون وما كان من أمرهما لمناسبة أخرى تحتاج إلى تثبيت آخر، وينتقل إلى قصة أخرى في موكب الأنبياء، فيها هي الأخرى مواطن للعِبْرة وللتثبيت: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}(17/10751)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
وتسأل: لقد أعطى الله داود وسليمان عليهما السلام نِعَماً كثيرة غير العلم، أَلاَن لداود الحديد، وأعطى سليمان مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وسخَّر له الريح والجن، وعلَّمه منطق الطير. . إلخ ومع ذلك لم يمتنّ عليهما إلا بالعلم وهو منهج الدين؟
قالوا: لأن العلم هو النعمة الحقيقية التي يجب أن يفرح بها المؤمن، لا الملْك ولا المال، ولا الدنيا كلها، فلم يُعتد بشيء من هذا كله؛ لذلك حمد الله على أن آتاه الله العلم؛ لأنه النعمة التي يحتاج إليها كل الخَلْق، أما المُلْك أو الجاه أو تسخير الكون لخدمته، فيمكن للإنسان الاستغناء عنها.
والإمام علي كرم الله وجهه حينما نُفِى أبو ذر؛ لأنه كان يتكلم عن المال وخطره والأبنية ومسائل الدنيا، فَنَفَوْه إلى الربذة حتى لا يثير فتنة، لكنه قبل أن يذهب مرَّ بالإمام علي كي يتوسط له ليعفوا عنه، لكن الإمام علياً رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أراد ألاَّ يتدخل في هذه المسألة حتى لا يقال: إن علياً سلَّط أبا ذر على معارضة أهل الدنيا ومهاجمتهم، فقال له: يا أبا ذر إنك قد غضبتَ لله فارْجُ مَنْ غضبتَ له، فإن القوم خافوك على دُنْياهم ومُلكهم، وخِفْتهم أنت على دينك فاهرب بما خِفْتَهم عليه يعني: اهرب بدينك واترك ما خافوك عليه، فما أحوجهم إلى ما منعتهم، وما أغناك عَمَّا منعوك.(17/10752)
هكذا أزال الإمام هذه الإشكال، وأظهر أهمية العلم ومنهج الله بحيث لا يستغني عنه المسلم بحال من الأحوال، ولا يعيش بدونه، وبه ينال حياة أخرى رفعية باقية، في حين يستطيع الإنسان أن يعيش بدون المال وبدون الملك.
ولذلك يبعث خيلفة المسلمين إلى سيدنا جعفر الصادق: يا ابن بنت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ أي: تأتينا وتجالسنا وتسمر معنا، فقال: ليس عندي من الدنيا ما أخافك عليه يعني: ليس عندي مال تصادره وليس عندك من الآخرة ما أرجوك له. وهذا نفس المنطق الذي تكلم به الإمام علي.
وقوله تعالى: {وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فالحمد هنا على نعمة العلم وحِفْظ منهج الله، وفي الآية مظهر من مظاهر أدب النبوة، حيث قالا {فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} [النمل: 15] فكأن هناك مَنْ هم أفضل مِنّا، وليس التفضيل حَجْراً علينا، وهذا من تواضعهما عليهما السلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}(17/10753)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
قوله سبحانه: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] أي: بقيتْ فيه النبوة وحمل المنهج، لا الملك لأن الأنبياء لا تورث كما جاء في الحديث الشريف: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(17/10753)
وهذا يدل على أن سليمان جاء بعد داود، وقد ورث عنه النبوة مع أنهما متعاصران، بدليل قوله تعالى في موضع آخر: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] .
إذن: كان سليمان مع داود في هذه الحكومة وفي العلم، لكن الحق سبحانه جعل العلم منازل، بدليل أنه قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] مع أن أباه موجود، وحكم في القضية بأن يأخذ صاحبُ الزرع الغنم التي أكلت.
فلما خرجوا من عند داود سألهم سليمان عن حكم أبيه، فأخبروه بما قال، فقال سليمان: بل يأخذ صاحب الزرع الغنم ينتفع بها، ويأخذ صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى يعود كما كان، وعندها يأخذ صاحب الغنم غنمه، وصاحب الزرع زرعه.
والحق تبارك وتعالى يعطينا هذا المثل مع نبي وأبيه، لا مع نبيين مختلفين بعيدين، وفي هذا إشارة أن حقّ الأبوة على سليمان لم يمنعه من مخالفة أبيه في الحكم؛ لأن الله تعالى قال عنهما {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] فكلٌّ منهما يحكم على مقتضى علمه الذي منحه الله.
ومن هذه الحادثة أخذنا مشروعية الاستئناف والنقض وفي أحكام المحاكم، فقاضي الاستئناف حينما يُعدِّل في حكم القاضي الابتدائي لا يُعَدُّ هذا طعْناً فيه، إنما كل منهما حكم بناءً على علمه، وعلى(17/10754)
ما توفّر له من أدلة ووقائع، وربما فطِن القاضي الثاني لما لم يفطِنْ له القاضي الأول.
إذن: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] لا تعني أنه جاء بعده، إنما هما متعاصران، وورثه في العلم والنبوة والحكمة، لا في الملْك والمال؛ لأن الله تعالى يريد أن يكون الرسول بعيداً في رسالته وتبليغه عن الله عن أيِّ نفع يجيء له، أو لذريته.
لذلك كان الفقراء من أهل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يأخذون من زكاة المؤمنين، لكن أين هذا التشريع الحكيم مما يحدث الآن من الحكام والرؤساء والمسئولين ممَّنْ يوالون أقاربهم، وينهبون البلاد من أجلهم.
{وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير} [النمل: 16] فالطير له منطق ولغة؛ لأنه كما قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] والآن ومع تقدُّم العلم يتحدث العلماء عن لغة للنمل، ولغة للنحل، ولغة للسمك. . إلخ.
وهذه المخلوقات تتفاهم بلغاتها بدقَّة تفاهم غريزي، لكننا لا نفهم هذا المنطق، والحق تبارك وتعالى يُعلِّمنا: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}
[الإسراء: 44] . فإنْ قلتَ كمَنْ قالوا: هو تسبيح دلالة لا منطقَ ومقال، نقول: طالما أن الله تعالى قال {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] فلا بُدَّ أنه مقال وكلام، ولكن أنت لا تفهمه.
وعلماء اللغة يقولون: إن النطق خاصٌّ بالإنسان، أما ما تُحدثه الحيوانات والطيور فأصوات تُحدِثها في كل وقت، مثل مواء القطة، ونُباح الكلب، وخُوَار البقر ونقيق الضفادع، لكن هذه الأصوات لها معنى (فنونوه) القطة حين تجوع غير (نونوتها) حين تخاف.(17/10755)
إذن: فهي تُعبِّر، لكننا لا نعرف هذه التعبيرات، كيف ونحن البشر لا يعرف بعضنا لغات بعض؛ لأننا لم نتعلمها، وللغة ضرورة اجتماعية نتواضع عليها أي: نتفق أن هذا اللفظ يعني كذا، فإذا نطقتَ به أفهمك، وإن نطقتُ به تفهمني.
واللغة بنت الاستماع، فاللفظ الذي تسمعه تستطيع نُطْقه، والذي لم تسمعه لا تستطيع نُطْقه، حتى لو كان لفظاً عربياً من لغتك، ولا تعرف أيضاً معناه، فلو قلت لك: (إنما الحيزبون والدردبيس والطخا والنخالح والعصلبيص) فلا شكَّ أن لا تعرف لهذا معنى؛ لأننا لم نتواضع على معناه.
والطفل الذي نشأ في بيئة عربية يتكلم العربية؛ لأنه سمعها ولايتكلم الإنجليزية مثلاً: لأنه لم يسمعها، ولو وضعتَ نفس الطفل في بيئة إنجليزية لتكلم الإنجليزية؛ لأن اللغة لا ترتبط بجنس ولا دم، اللغة سماع.
ومعنى {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] أي: من النِّعَم على الإطلاق، وبعد قليل سنسمع نفس هذه العبارة يقولها الهدهد عن ملكة سبأ {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] إذن: فهي مثله فيما يناسب أمثالها من الملوك لا في النبوة وحَمْل المنهج {إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين} [النمل: 16] الفضل المحيط بكل الفضائل.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ}(17/10756)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
حُشِروا: جُمِعوا من كل مكان، ومنه قوله تعالى: {وابعث فِي(17/10756)
المدآئن حَاشِرِينَ} [الشعراء: 36] والحشْر: جَمْع الناس للحساب يوم القيامة.
وسُمِّي الجمع حَشْراً؛ لأن تجمع الناس من أماكن متفرقة في مكان واحد، حتى يضيق بهم ويزدحم، وهذا معنى الحشْر المتعارف عليه عندنا، نقول: نحشرهم على بعض.
ومعنى {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يعني: يُمنعون، ومنه قوله «إن الله ليزع بالسُّلْطان ما يزع بالقرآن» يعني: أن السلطان والقوة والبطش تمنع ما لا يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لأنهم يستبعدون القيامة والعذاب، أمّا السلطان فرادع حاضر الآن.
لكن، مِمَّ يمنعون وهم في موقف الحشر أمام سليمان؟ قالوا: يُمنعون أن يَسبق بعضهم بعضاً إلى سليمان، إنما نمنعهم حتى يأتي المتأخر منهم، ويدخلون جميعاً عليه مرة واحدة، وفي ذلك إحداثُ توازنٍ بين الرعية كلها.
وقد حدَّثونا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان من صفاته إذا جلس في مجلس تزوعَتْ نظراته وعينه على كل الجالسين حتى يُسوِّي بينهم، ولا ينظر لأحد أكثر من الآخر، ولا يُميز أحداً منهم على أحد، حتى لا يظن أحدهم أن النبي فضَّله على غيره.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يُقرِّب إلا أهل الفضل والتقوى الذي يُعرف منهم أنهم لا يستغلون هذه المكانة لنيل سلطة بين الناس؛ ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(17/10757)
لا يُوطِّن وينهي عن ذلك على خلاف ما نراه الآن من بعض المصلِّين الذين يضعون سجادة مثلاً في الصف الأول يشغلون بها المكان، ثم يذهب ويقضي حاجاته، ويعود وقد امتلأ المسجد فيتخطّى رقاب الناس ليصل إلى مكان في المقدمة، وهي ليس مكانه عند الله.
فالله تعالى قد وزَّع الأماكن على حَسْب الورود، فإتيانك إلى بيت الله أولاً يعطيك ثواب الصف الأول، وإنْ صليت في الصفِّ الأخير، وعدم توطين الأماكن ينشر الأُلْفة بين الناس، ويزيل الفوارق ويساعد على التعارف، فكل صلاة أنت بجانب شخص جديد تتعرف عليه وتعرف أحواله.
وهذا معنى {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] يمنع السابق أنْ يسبق حتى يأتي اللاحق، ليكونوا سواسية في الدخول على نبي الله سليمان عليه السلام.
لكن في ضوء هذا المعنى لمادة (وزع) كيف نفهم قوله تعالى: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: 19] .
أوزعني هنا يعني: أقْدِرني وامنعني من الغفلة عن نعمتك، لأضلَّ شاكراً لك.(17/10758)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
الضمير في {أَتَوْا} [النمل: 18] يعود على جنود سليمان من الإِنس والجن والطير، أي جاءوا جميعاً صَفَّاً واحداً ومرُّوا {على وَادِ النمل} [النمل: 18] يعني: قرية النمل، وقوله {على وَادِ النمل} [النمل: 18] يدلُّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل، أو أنهم قطعوا الوادي كله، كما نقول: فلان أتى على الطعام كله.
عندها {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] لماذا هذا التحذير؟ {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل: 18] ثم احتاطتْ النملة للأمر، فقالت {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18] فما كان سليمان وجنوده ليُحطِّموا بيوت النمل عن قَصْد منهم.
والمعنى: حالة كونهم لا يشعرون بكم، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان، وأنه ليس جباراً ولا عاتياً. إذن: فالنملة رأتْ عن بُعْد، ونطقتْ عن حق، وحكمتْ بعدل، لهذا كله تبسَّم سليمان ضاحكاً.
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه كُلٌّ مهمته، ويؤديها على أكمل وجه، فهذه النملة لا بُدَّ أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدَّرَك، ترقب الجو من حولها، وكأنها جندي الدورية اليقظ.
وسبق أن قُلْنا: لو أنك جلستَ في مكان، وتركتَ فيه بعض فضلات الطعام مثلاً أو الحلوى لرأيتَ بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها، ثم انصرفوا عنها، وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة، وكأن الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الذين(17/10759)
يكتشفون أماكن الطعام، ويُقدِّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء.
بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعفت هو أيضاً. ولو قتلتَ النمل الأول الذي جاء للاستطلاع تلاحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان، لماذا؟ لأن النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها، وحذَّرتهم من هذا المكان.
وفي مملكة النمل عجائب وآيات، سبحان خالقها، وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة.
ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشِّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى لا تنبت، وتهدم عليهم عُشَّهم، لكن حبَّة الكُسْبرة مثلاً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين، حيث ينبت كل نصف على حِدَة، لذلك لا حظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام.
كما لاحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش النمل، وبفحصها تبيَّن أنها زريعة النبات التي تحمل خلايا الإنبات أخرجوها كي لا تنبت.
وصدق الله العظيم: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] .
وقد سمَّى الله تعالى ما قالت النملة قولاً {قَالَتْ نَمْلَةٌ} [النملة: 18] ولا بُدَّ أن هذا التحذير {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النملة: 18] جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده، وهم على مشارف الوادي.
وكلمة {مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] تدل على أن لهم بُيوتاً ومساكنَ، ومجالَ معيشة، وكسْبَ أرزاق، كما نقول (بيلقّطوا رزقهم) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام(17/10760)
والفضلات، ويدخل إليها من أضيق الأماكن، لكن نرى مثلاً محلات الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلات نملة واحدة، لماذا؟ لما تتبَّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن النمل لا يدخل المكان إذا كان به سِمْسم، وهذه من عجائب النمل أيضاً.
وقوله تعالى: {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] الحَطْم هو التكسير، ومنه قوله سبحانه عن النار: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة} [الهمزة: 5] لأنها تحطم ما يُلْقى فيها.(17/10761)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
تبسَّم سليمان عليه السلام بالبسمة التي تتصل بالضحك لماذا؟ لأنه سمعها قبل أنْ يصل إليها، ولأنها رأتْ قبل أن يأتي المرئي، وقد تكلم البعض في هذه المسألة فقالوا: إن الريح نقلتْ إليه مقالة النملة، وهو ما يزال بعيداً عنها، وهذا الكلام يُقبل لو أن المسألة (ميكانيكا) إنما هي عمل رب وقدرة خالق مُنعِم ينعم بما يشاء.
ونطق قائلاً {رَبِّ أوزعني} [النمل: 19] أي: امنعني أنْ أغفل، أو أنْ أنسى هذه النِّعم، فأظل شاكراً حامداً لك على الدوام؛ لأن هذه النعَم فاقتْ ما أنعمت به على عامة الخَلْق، وفوق ما أنعمتُ به على إخواني من الأنبياء السابقين، وعلى كل ملوك الدنيا؛ لأنه عليه السلام جمع بين الملْك والنُّبوة، وإنْ كان سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(17/10761)
عرض عليه الملْك فرفضه، وآثر أن يكون عبداً رسولاً.
لذلك وجب على كل صاحب نعمة أنْ يستقبلها بحمد الله وشكْره، وسبق أنْ قُلْنا في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8] أن حق النعمة أن تحمد المنعم عليها، فلا تُسأل عنها يوم القيامة.
وما أشبه الحمد على النعمة بما يُسمُّونه عندنا في الريف (الرقوبة) ، وهي بيضة تضعها ربَّة المنزل في مكان أمين يصلح عُشَّا يبيض فيه الدجاج، فإذا رأتْ الدجاجة هذه البيضة جاءتْ فباضتْ عليها، وهكذا شكر الله وحمده على النعم هو النواة التي يتجمع عليها المزيد من نِعَم الله.
وقد شُرح هذا المعنى في قوله سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ألاَ ترى أن مَنْ علم علماً فعلم به أورثه الله علم ما لم يعلم؟ لماذا؟ لأنه ما دام عمل بعلمه، فهو مُؤْتمن على العلم؛ لذلك يزيده الله منه ويفتح له مغاليقه، على خلاف مَنْ عَلِم علماً ولم يعمل به، فإنَّ الله يسلبه نور العلم، فيغلق عليه، وتصدأ ذاكرته، وينسى ما تعلَّمه.
والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان: 12] أي: تعود عليه ثمرة شُكْره؛ لأنه إنْ شكر الله بالحمد شكره الله بالزيادة؛ لذلك من أسمائه تعالى (الشكور) .
وقوله: {عَلَيَّ} [النمل: 19] هذه خصوصية {وعلى وَالِدَيَّ} [النمل: 19] لأنه ورث عنهما الملْك والنبوة {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} [النمل: 19] وهذا ثمن النعمة أن أؤدي خدمات الصلاح في المجتمع لأكون مُؤْتمناً على النعمة أهْلاً للمزيد منها.(17/10762)
والحق تبارك وتعالى يريد منَّا أنْ نُوسِّع دائرة الصلاح ودائرة المعروف في المجتمع، أَلاَ ترى إلى قوله سبحانه: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] .
فسمَّى الخير الذي تقدمه قَرْضاً، مع أنه سبحانه واهب كل النِّعم، وذلك لِيُحنِّن قلوب العباد بعضهم على بعض؛ لأنه تعالى خالقهم، وهو سبحانه المتكفِّل برزقهم.
ثم يقول: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] وذكر الرحمة والفضل؛ لأنهما وسيلة النجاة، وبهما ندخل الجنة، وبدونهما لن ينجو أحد، واقرأ قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: ولا أنا إلا أنْ يتغمّدني الله برحمته» .
ويقول سبحانه في هذا المعنى: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ} [يونس: 58] فالمؤمن الحق لا يفرح بعمله، إنما يفرح: إنْ نال فَضْلَ الله ورحمته، كأنه يقول لربه: لن أتكل يا رب على عملي، بل فضلك ورحمتك هما المتكل، لأنني لو قارنتُ العبادة التي كلفتني بها بما أسدْيتَ إليَّ من نِعَم وآلاء لَقصُرَتْ عبادتي عن أداء حقِّك عليَّ، فإنْ أكرمتني بالجنة فبفضلك.
والبعض يقولون: كيف يعاملنا ربنا بالفضل والزيادة، ويُحرِّم علينا التعامل بالربا؟ أليست الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يزيد؟ نقول: نعم، لكن الزيادة هنا منه سبحانه وتعالى وليستْ من مُسَاو، إنها زيادة ربٍّ لعبيد.(17/10763)
وقوله {فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] دليل على تواضع سيدنا سليمان عليه السلام فمع مكانته ومنزلته يطلب أنْ يُدخِله الله في الصالحين، وأن يجعله في زمرتهم، فلم يجعل لنفسه مَيْزةً ولا صدارة ولا أدَّعى خيرية على غيره من عباد الله، مع ما أعطاه الله من الملْك الذي لا ينبغي لأحد من بعده.
وأعطاه النبوة وحمَّله المنهج، فلم يُورثه شيء من هذا غروراً ولا تعالياً، وها هو يطلب من ربه أن يكون ضمن عباده الصالحين، كما نقول (زقني مع الجماعة دول) ، حين تكون السيارة مثلاً كاملة العدد، وليس لي مقعد أجلس عليه.
مَنْ يقول هذا الكلام؟ إنه سليمان بن داود عليهما السلام الذي آتاه الله مُلْكاً، لا ينبغي لأحد من بعده، ومن ذلك كان يُؤثِر عبيده وجنوده على نفسه، وكان يأكل (الردة) من الدقيق، ويترك النقي منه لرعيته.
إذن: لم ينتفع من هذا الملْك بشيء، ولم يصنع لنفسه شيئاً من مظاهر هذا الملك، إنما صنعه له ربه لأنه كان في عَوْن عباد الله، فكان الله في عَوْنه، وأنت حين تُعين أخاك تُعينه بقدرتك وإمكاناتك المحدودة، أما معونة الله تعالى فتأتي على قَدْر قوته تعالى، وقدرته وإمكاناته التي لا حدودَ لها، إذن: فأنت الرابح في هذه الصفقة.(17/10764)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
مادة: فقد الفاء والقاف والدال، وكل ما يُشتقّ منها تأتي بمعنى ضاع منه الشيء، ومنه قوله تعالى في قصة إخوة يوسف: {قَالُواْ(17/10764)
وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ} [يوسف: 71] ، فإنْ جاءت بصيغة (تفقَّد) بالتضعيف دلَّتْ على أن الشيء موجود وأنا أبحث عنه في مظانّه.
فمعنى {وَتَفَقَّدَ الطير} [النمل: 20] أن الرئيس او المهيمن على شيء لا بُدَّ له من متابعته، وسليمان عليه السلام ساعةَ جلس في مجلس العلم أو مجلس القضاء نظر للحاضرين من مملكته، كأنه القائد يستعرض جنوده، وفي هذا إشارة إلى أنه عليه السلام مع أن هذا ملكه ومُسخَّر له ومُنقَاد لأمره، إلا أنه لم يتركه هَمَلاً دون متابعة.
لكن، لماذا تفقَّد الطير بالذات؟ قالوا: لأنه أراد أنْ يقوم برحلة في الصحراء، والهدهد هو الخبير بهذه المسألة؛ لأنه يعلم مجاهلها، ويرى حتى الماء في باطن الأرض، يقولون: كما يرى أحدكم الزيت في وعائه.
لذلك نرى أن من مميزات الهدهد أن الله تعالى جعل له منقاراً طويلاً؛ لأنه لا يأكل مما على سطح الأرض، إنما ينبش بمنقاره ليُخرج طعامه من تحت الأرض.
ألاَ تراه حين كلَّم سليمان في دقائق العقيدة والإيمان بالله يقول عن أهل سبأ: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] فاختار هذه المسألة بالذات؛ لأنه الخبير بها ورزقه منها.
ولما لم يجد الهدهد في الحاضرين قال {فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى(17/10765)
الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] فساعةَ يستفهم الإنسان عن شيء يعلم حقيقته، فإنه لا يقصد الاستفهام، إنما هو يستبعد أنْ يتخلَّف الهدهد عن مجلسه.
لذلك قال {مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد} [النمل: 20] يعني: ربما هو موجود، لكنِّي لا أراه لعلّة عندي أنا، فلما دَقّق النظر وتأكد من خُلوِّ مكانه بين الطيور، قال {أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين} [النمل: 20] إذن: لا بد من معاقبته:(17/10766)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
ومعاقبة المخالف أمر ضروري؛ لأن أيِّ مخالفة لا تُقابل بالجزاء المناسب لا بُدَّ أن تثمر مخالفات أخرى متعددة أعظم منها، فحين نرى موظفاً مُقصِّرًا في عمله لا يحاسبه أحد، فسوف نكون مثله، وتنتشر بيننا الفوضى والتكاسل واللامبالاة، وتحدث الطَّامة حينما يُثاب المقصر ويُرَقى مَنْ لا يستحق.
لذلك توعَّد سليمان الهدهد: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] .
وقد تكلَّم العلماء في كيفية تعذيب الهدهد، فقالوا: بنتف ريشه الجميل الذي يزهوا به بين الطيور، حتى يصير لحماً ثم يُسلط عليه النمل فيلدغه، أو يجعْله مع غير بني جنسه، فلا يجد لها إلفاً(17/10766)
ولا مشابهاً له في حركته ونظامه، أو: أنْ يُكلِّفه بخدمة أقرانه من الهداهد التي لم تخالف، أو: أجمعه مع أضداده، وبعض الطيور إذا اجتمعتْ تنافرتْ وتشاجرتْ، ونتف بعضها ريش بعض؛ لأنهم أضداد؛ لذلك قالوا: أضيق من السجن عِشْرة الأضداد.
والشاعر يقول:
وَمِنْ نكَدِ الدُّنْيا عليَ المرْءِ أنْ يرى ... عَدُواً لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَته بُدُّ
ثم رقَّى الأمر من العذاب الشديد إلى الذبح، وهذه المسألة أثار حولها المتمردون على منهج الله والذين يريدون أنْ يُعدِّلوا على الله أحكامه، أثاروا إشكالاً حول قوله تعالى في حَدِّ الزنا: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] أما الرَّجْم فلم يَرِدْ فيه شيء، فمن أين أتيتم به؟
نقول أتينا به أيضاً من كتاب الله، حيث قال سبحانه في جَلد الأمَة إنْ زنتْ وهي غير محْصنة: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فقالوا: وكيف نُنصِّف حدَّ الرجم؟ وهذا القول منهم دليل على عدم فهمهم لأحكام الله.
فالمعنى {فَعَلَيْهِنَّ} [النساء: 25] أي: على الإماء الجواري {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} [النساء: 25] الحرائر، ولم يسكت إنما خصص التنصيف هنا بالجَلْد، فقال: {مِنَ العذاب} [النساء: 25] فتجلد الأَمَة خمسين جلدة، وهذا التخصيص يدلُّ على أن هناك عقوبة أخرى لا تُنصف هي الرجْم.(17/10767)
وينتهي تهديد سليمان للهدهد بقوله {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21] أي: حجة واضحة تبرر غيابه، فنفهم من الآية أن المرؤوس يحوز له أنْ يتصرف برأيه، ودون أن يأخذ الإذن من رئيسه إنْ رأى مصلحة للجماعة لا تستدعي التأخير.
وعلى الرئيس عندها أن يُقدِّر لمرؤوسيه اجتهاده، ويلتمس له عذراً، فلعله عنده حجة أحمده عليها بل وأكافئه؛ لأن وقت فراغه مني كان في مصلحة عامة، كما نقول في العامية (الغايب حجته معاه) .
إذن: المرؤوس إنْ رأى خيراً يخدم الفكر العام، ووجد أن فرصته ضيقة يسمح له بالتصرف دون إذن، وفي الحرب العالمية الأولى تصرّف أحد القادة الألمان تصرُّفاً يخالف القواعد الحربية، لكنه كان سبباً في النصر؛ لذلك أعطوه وسام النصر ولم ينسُوا أنْ يُعاقبوه على مخالفة القواعد والقانون.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}(17/10768)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
معنى {فَمَكَثَ} [النمل: 22] أقام واستقر {غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل: 22] مدة يسيرة، فلم يتأخر كثيراً؛ لأنه يعلم أنه تخلّف عن مجلس سليمان، وذهب بدون إذنه؛ لذلك تعجَّل العودة، وما إنْ وصل إليه إلا وبادره {فَقَالَ} [النمل: 22] بالفاء الدالة على التعقيب؛ لأنه رأى سليمان غاضباً مُتحفِّزاً لمعاقبته.(17/10768)
لذلك بادره قبل أنْ ينطق، وقبل أنْ ينهره {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] أي: عرفتُ ما لم تعرف هذا الكلام مُوجَّه إلى سليمان الذي ملَك الدنيا كلها، وسخَّر الله له كل شيء؛ لذلك ذُهل سليمان من مقالة الهدهد وتشوَّق إلى ما عنده من أخبار لا يعرفها هو.
ثم يستمر الهدهد: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] .
أولاً: نقف عند جمال التعبير في سبأ ونبأ، فبينهما جناس ناقص، وهو من المحسّنات البديعية في لغتنا، ويعطي للعبارة نغمة جميلة تتوافق مع المعنى المراد، والجناس أن تتفق الكلمتان في الحروف، وتختلفا في المعنى، كما في قول الشاعر:
رَحَلْتُ عَنِ الدِّيَارِ لكُم أَسِيرُ ... وَقَلْبي في محبتكُمْ أَسير
وقَوْل الآخر:
لَمْ يَقْضِ مِنْ حقِّكم عَليَّ ... بَعْضَ الذي يَجِبُ
قَلْبٌ متَى مَا جَرَت ... ذِكْرَاكُمُ يَجِبُ
ومن الجناس التام في القرآن الكريم: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] .
فالتعبير القرآني {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] تعبير جميل لفظاً، دقيق مَعنىً، أَلاَ تراه لو قال (وجئتك من سبأ بخبر) لا ختلَّ اللفظ والمعنى معاً؛ لأن الخبر يُرَاد به مُطلْق الخبر، أمّا النبا فلا تُقال إلا للخبر العجيب الهام الملفت للنظر، كما في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 12] .
والجناس لا يكون جميلاً مؤثراً إلا إذا جاء طبيعياً غير مُتكلّف،(17/10769)
ومثال ذلك هذا الجناس الناقص في قوله تعالى: {ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فقد ورد اللفظ المناسب مُعبِّراً عن المعنى المراد دون تكلّف، فالهُمَزة هو الذي يعيب بالقول. واللمزة: الذي يعيب بالفعل، فالقرآن لا يتصيَّد لفظاً ليُحدِث جناساً، إنما يأتي الجناس فيه طبيعياً يقتضيه المعنى.
ومن ذلك في الحديث الشريف: «الخيْل معقود بنواصيها الخير» فبيْن الخيل والخير جناس ناقص، مُحسِّناً للفظ، مؤدّياً للمعنى.
وقد يأتي المحسِّن البديعي مُضطرباً مُتكلِّفاً، يتصيده صاحبه، كقول أحدهم ينحت الكلام نحتاً فيأتي بسجع ركيك: في أثناء ما كنا نسير نزل المطر كأفواه القِرَب، فوقع رجل كان يحمل العنب.
ومعنى {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] الإحاطة: إدراك المعلوم من كل جوانبه، ومنه البحر المحيط لاتساعه، ويقول سبحانه: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} [النساء: 126] ومنه: الحائط يجعلونه حول البستان ليحميه ويُحدِّده، ومنه: يحتاط للأمر.
ومحيط الدائرة الذي يحيط بالمركز من كل ناحية إحاطة مستوية بأنصاف الأقطار.
لكن أَيُعَدُّ قول الهدهد لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] نقصاً في سليمان عليه السلام؟ لا، إنما يُعَدُّ تكريماً له؛ لأن(17/10770)
ربه عَزَّ وَجَلَّ سخَّر له مَنْ يخدمه، وفَرْق بين أن تفعل أنت الشيء وبين أن يُفعل لك، فحين يفعل لك، فهذه زيادة سيادة، وعُلًُو مكانة.
كما أن الله تعالى يُعلِّمنا ألاَّ نكتم مواهب التابعين، وأن نعطي لهم الفرصة، ونُفسِح لهم المجال ليُخرجوا مواهبهم، وأن يقول كل منهم ما عنده حتى لو لم نكُنْ نعرفها؛ لأنها خدمة لي.
أليس من الكرامة أن يُحضر سليمان عرش بلقيس وهو في مكانه {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] .
ونلحظ أن الهدهد لم يُعرِّف سبأ ما هي، وهذا دليل على أن سليمان عليه السلام يعرف سبأ، وما فيها من ملك، إنما لا يعرف أنه بهذه الفخامة وهذه العظمة.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ}(17/10771)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وقوله {تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] يعني: تحكمهم امرأة، ورأينا نساءً كثيرات نابهات حكمْن الدول في وجود الرجال.
ثم يذكر من صفاتها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْ} [النمل: 23] وكأنها إشارة إلى ما سبق أنْ قاله سليمان عليه السلام {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] فهي كذلك أُوتيتْ من كل شيء بالنسبة لأقرانها، وإلا فسليمان أُوتي من الملْك ومن النبوة ما لم تُؤْتهُ ملكة سبأ.
{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] العرش مكان جلوس الملك، وكان العرش عادةً يتوافق مع عظمة الملك، فمثلاً (شيخ الغفر) أو العمدة(17/10771)
أو المحافظ. . إلخ لكل منهم كرسيٌّ يجلس عليه يناسب مكانته، إذن: العرش هو جِلْسة المتمكّن الذي يتولّى تَدبير الأمور.
ووصْف العرش بأنه عظيم مع أن هذا الوصف لعرش الله تعالى، فكيف؟ قالوا: عظيم بالنسبة لأمثالها من الملوك، أمّا عرْش الله فعظيم بالنسبة لكل الخَلْق عظمةً مُطْلقة.
هكذا حدَّث الهدهُد سليمانَ فيما يخصُّ ملكة سبأ من حيث الملك الذي تشبه فيه سليمان كملك، ثم يُحدِّثه بعد ذلك عن مسألة تتعلق بالنبوة والإيمان بالله، وهذه المسألة التي غار عليها سليمان، وثار من أجلها: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ}(17/10772)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
ذلك لأنه لما طاف حول قصر بلقيس وجد فيه كُوَّة تدخل منها الشمس، كما نرى في معابد الفراعنة، ففي أحد هذه المعابد طاقات بعدد أيام السنة، بحيث تدخل الشمس في كل يوم من واحدة بعينها لا تدخل من الأخرى. وكذلك كان عند بلقيس مثل هذه الكُوَّة تدخل منها الشمس فتتنبه لها وتستقبلها.
لذلك لما ذهب إليها بكتاب سليمان وقف على هذه الكُوَّة وسدَّها بجناحه، فلم تدخل الشمس في موعدها كما اعتادت الملكة، فقامت حتى وصلتْ إلى هذه الكُوَّة فرمى عندها الكتاب.(17/10772)
فالهدهد إذن مؤمن عارف بقضية العقيدة والإيمان بالله يَغَار عليها ويستنكر مخالفتها {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24] فهو يعرف أن الله هو المعبود بحقٍّ، بل ويعلم أيضاً قضية الشيطان، وأنه سبب الانصراف عن عبادة الله.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 24] فالقضية عنده كاملة بكل تفاصيلها، ولا تتعجب من مقالة الهدهد واقرأ: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .
إنها موعظة بليغة من واعظ مُتمكِّن يفهم عن الله، ويعلم منهجه ويدعو إليه، بل ويعزّ عليه ويحزّ في نفسه أن ينصرف العباد عن الله المنْعِم: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ}(17/10773)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{أَلاَّ} [النمل: 25] مكوَّنة من أنْ، لا، وعند إدغامهما تُقلَبُ النون لاَماً فتصير: ألاَّ، فالمعنى: وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم، لماذا؟ لألاَّ يسجدوا، فهنا حرف جر محذوف كما تقول: عجبتُ من أن يَقْدم علينا فلان، أو عجبت أن يقدم علينا فلان.
وفي قراءة أخرى: (أَلاَ) للحثِّ والحضِّ.(17/10773)
وقلنا: إنه اختار هذه الصفة بالذات {الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض} [النمل: 25] لأنه خبير في هذه المسألة، حيث يرى الماء في باطن الأرض، كما يرى أحدكم الزيت في إنائه.
والمراد بالخبْء في السموات: المطر، والخبْء في الأرض. النبات، ومنهما تأتي مُقوِّمات الحياة، فمن ماء المطر وخصوبة الأرض يأتي النبات، وعلى النبات يتغذَّى الحيوان، ويتغذّى الإنسان.
بل إن الحق سبحانه {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] ، كما قال في آية أخرى: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [إبراهيم: 38] ، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} [آل عمران: 29] .(17/10774)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
لما تكلّم عن عرش بلقيس قال {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] يعني: بالنسبة لأمثالها من الملوك ولأهل زمانها. فإذا عُرِّف {العرش العظيم} [النمل: 26] فإنه لا ينصرف إلا إلى عرشه تعالى، فله العظمة المطلقة عند كل الخَلْق.(17/10774)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
{قَالَ سَنَنظُرُ} [النمل: 27] والنظر محلُّه العين، لكن هل يُعرف الصدق والكذب بالعين؟ لا، فالكلمة انتقلت من النظر بالعين إلى العلم بالحجة، فهي بمعنى نعلم، ونقول: هذا الأمر فيه نظر يعني: يحتاج إلى دراسة وتمحيص.(17/10774)
وفي الآية مظهر من مظاهر أدب سليمان عليه السلام وتلطُّفه مع رعيته، فهو السيد المطاع، ومع ذلك يقول للهدهد: {أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} [النمل: 27] والصِّدْق يقابله الكذب، لكن سليمان عليه السلام يأبى عليه أدب النبوة أن يتهم أحد جنوده بالكذب فقال: {أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين} [النمل: 27] .
يعني: حتى لو وقع منك الكذب فلست فذَّاً فيه، فكثير من الخَلْق يكذبون، أو: من الكاذبين مَيْلاً لهم وقُرْباً منهم، مما يدلُّ على أنه بإلهاماته كنبي يعرف أنه صادق، إنما ما دام الأمر محلَّ نظر فلا بُدَّ أن نتأكد، ولن أجامل جندياً من جنودي.(17/10775)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
هذا هو النظر الذي ارتآه سليمان ليتأكد من صِدْق الهدهد: أنْ يرسله بكتاب منه إلى هؤلاء القوم، وهنا مظهر من مظاهر الإيجاز البليغ في القرآن الكريم، فبعد أن قال سليمان {سَنَنظُرُ} [النمل: 27] قال {اذهب بِّكِتَابِي هذا} [النمل: 28] .
فهل كان الكتاب مُعَدَّاً وجاهزاً؟ لا، إنما التقدير: قال سننظر(17/10775)
أصدقتَ أم كنت من الكاذبين، فكتب إليها كتاباً فيه كذا وكذا ثم قال للهدهد: {اذهب بِّكِتَابِي هذا} [النمل: 28] وقد حُذِف هذا للعلم به من سياق القصة.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} [النمل: 28] يعني: ابتعِدْ قليلاً، وحاول أنْ تعرف {مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28] يعني: يراجع بعضهم بعضاً، ويتناقشون فيما في الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} [طه: 89] .
والسياق يقتضي أن نقول: فذهب الهدهد بالكتاب، وألقاه عند بلقيس فقرأتْه واستشارتْ فيه أتباعها وخاصتها، ثم قالت: {قَالَتْ ياأيها الملأ}(17/10776)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
نلحظ هنا سرعة جواب الأمر {اذهب} [النمل: 28] فبعده مباشرة قالت ملكة سبأ: {قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] وهذا يدل على أن أوامر سليمان كانت محوطة بالتنفيذ العاجل؛ لذلك حذف السياق كل التفاصيل بين الأمر {اذهب} [النمل: 28] والجواب {قَالَتْ} [النمل: 29] هكذا على وجه السرعة.
ومعنى {الملأ} [النمل: 29] هم أعيان القوم وأشرافهم والمستشارون والخاصة {إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] فوصفتْ الكتاب بأنه كريم إما لأنها سمعتْ عن سليمان عليه(17/10776)
السلام وعظمة مُلْكه، أو: لأن الكتاب سُطِّر على ورق رَاقٍ وبخط جميل، وبعد ذلك هو ممهور بخاتمه الرسمي، مما يدل على أنه كتاب هام ينبغي دراسته وأَخذْ الرأي فيه.(17/10777)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
إذن: فهي تعرف سليمان، وتعرف نُبوّته وصفاته، وأنه يكاتبهم باسْم الله ويَصْدُر في دعوتهم عن أوامر الله، وكان مجمل الكتاب بعد بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي}(17/10777)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
إنها برقية موجزة في أبلغ ما يكون الإيجاز {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} [النمل: 31] العلو هنا بمعنى الغطرسة والزَّهو الذي يعتاده الملوك خاصة، وهي مِثْله، ملكة لها عَرْش عظيم، وأُوتيتْ من كل شيء وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال، هذا أمر يحتاج منها إلى نظر وإلى أَنَاةٍ.
لذلك بعد أن اخبرتْ مستشاريها بأمر الكتاب، وما ورد فيه طلبتْ منهم الرأي والمشورة: {قَالَتْ ياأيها الملأ}(17/10777)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
سبق أن تكلمنا في معنى الفتوى، وأنها من الفُتوة أي: القوة، وهي مثل: غَنِيَ فلان أي: صار غنياً بذاته، وأغناه غيره أمدَّه بالغنى، كذلك أفتاه يعني: أعطاه قوة في الحكم والحجة.
وقالت: {في أَمْرِي} [النمل: 32] مع أن الأمر خاصٌّ بالدولة كلها، لا بها وحدها؛ لأنها رمز للدولة وللملْك، وإنْ تعرض لها سليمان فسوف يُخدش مُلْكها أولاً، ويُنال من هيبتها قبل رعيتها.
{مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32] يعني: لا أَبُتُّ في أمر إلا في حضوركم، وبعد استشارتكم. وهذا يدل على أنها كانت تأخذ بمبدأ الشورى رغم ما كان لها من الملْك والسيطرة والهيمنة.
فردّ عليها الملأ من قومها: {قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ}(17/10778)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
يعني: نحن أصحاب قوة في أجسامنا، وأصحاب شجاعة وبأس أي جيوش فيها عَدَد وعُدة {والأمر إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي: إنْ رأيتِ الحرب، فنحن علىأُهْبة الاستعداد، فهم يعرضون عليها رأيهم دون أنْ يُلزموها به، فهو رَأْي سياسي لا رأي حربي، فهي صاحبة قرار الحرب إنْ أرادتْ {فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33] يعني: نحن على استعداد للسِّلْم وللحرب، وننتظر أمرك.(17/10778)
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَتْ إِنَّ الملوك}(17/10779)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وتعرض بلقيس رأيها {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} [النمل: 34] ، ذلك لأنهم يريدون مُلْكاً، فينهبون كل ما يمرُّون به بل ويُخربون ويفسدون لماذا؟ لأنهم ساعةَ يصل الملِك المغير لا يضمن النصر؛ لذلك يُخرِّب كل شيء، حتى إذا ما عرف أنه انتصر، وأن الأمور قد استقرتْ له يحافظ على الأشياء ولا يُخربها.
{وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] لأن الملْك يقوم على أنقاض مُلْك قديم، فيكون أصحاب العزة والسيادة هم أول مَنْ يُبدأ بهم؛ لأن الأمر أُخِذ من أيديهم، وسوف يسعَوْن لاستعادته، ولا بُدَّ أنْ يكون عندهم غَيْظ ولَدَد في الخصومة.
أما قوله تعالى: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] فللعلماء فيه كلام: قالوا إنه من كلام بلقيس، وكأنه تذييل لكلامها السابق، لكن ماذا يضيف {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] بعد أن قالت {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] .
فالرأي الصواب أن هذه العبارة من الحق سبحانه وتعالى ليُصدِّق على كلامها، وأنها أصابت في رأيها، فكذلك يفعل الملوك إذا(17/10779)
دخلوا قرية، مما يدل على أن الحق سبحانه رب الخلْق أجمعين، إذا سمع من عبد من عبيده كلمة حق يؤيده فيها، لا يتعصب ضده، ولا يهضمه حقه.(17/10780)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
بعد أنْ ترك لها المستشارون الأمر والتدبير أخذتْ تُعمِل عقلها، وتستخدم فطنتها وخبرتها بحياة الملوك، فقالت: إنْ كان سليمان مَلِكاً فسوف يطمع في خيرنا، وإنْ كان نبياً فلن يهتم بشيء منه، فقررتْ أنْ تُرسل له هدية تناسب مكانته كملك ومكانتها هي أيضاً، لتثبت له أنها على جانب كبير من الثراء والغنى.
ولا بد أنها كانت ثمينة لتستميل الملك، أو كما نقول (تلوحه أو تلويه) .
{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35] فإنْ كان ملكاً قَبِلها، وعرفنا أن علاجه في بعض الخراج والأموال تُسَاق إليه كل عام، وإنْ كان نبياً فلن يقبل منها شيئاً، وهذا رَأْي جميل من بلقيس يدل على فِطْنتها وذكائها وحصافتها، حيث جنَّبتْ قومها ويلات الحرب والمواجهة.(17/10780)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
أي: فلما جاء رسول بلقيس إلى سليمان بالهدية {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} [النمل: 36] فأيُّ هدية هذه، وأنا أملك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدي؟ {بَلْ} [النمل: 36] يعني: اضرب عن الكلام السابق {أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] .
أضاف الهدية إليهم، لا إليه هو، والإضافة تأتي إما بمعنى اللام مثل: قلم زيد يعني لزيد، أو: بمعنى من مثل: إردب قمح يعني: من قمح، أو: بمعنى في مثل: مكر الليلَ يعني: في الليل.
فقوله {بِهَدِيَّتِكُمْ} [النمل: 36] إما أن يكون المراد: هدية لكم. أي: فأنتم تفرحون إنْ جاءتكم هدية من أحد، أو لأنني سأردُّها إليكم فتفرحوا بردِّها كمَنْ يقول (بركة يا جامع) أو: هدية منكم. أي: أنكم تفرحون إنْ أهديتم لي هدية فقبلتُها منكم.
فهذه معَانٍ ثلاثة لقوله: {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل: 36] .(17/10781)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
نذكر أن الملكة قالت {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} [النمل: 35] فكأنه يستشعر نصَّ ما قالت، وينطق عن إشراقات النبوة فيه،(17/10781)
فيقول: {ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل: 37] .
وهكذا دخلتْ المسألة في طَوْر المواجهة؛ لأن كلامنا كلامُ النبوة التي لا تقبل المساومة، لا كلام الملك الذي يسعى لحطام الدنيا.
{وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] وكأنه يكشف لهم عن قَوْل ملكتهم: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 34] وهذه أيضاً من إشراقات النبوة.
ومعنى {لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} [النمل: 37] تقول: لا قِبَل لي بكذا. يعني: لا أستطيع مقابلته، وأنا أضعف من أنْ أقابله، أَوْ لا طاقة لي به {وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً} [النمل: 37] لأنه سيسلب مُلْكهم، فبعد أنْ كانوا ملوكاً صاروا عبيداً، ثم يزيد في حِدّته عليهم {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] لأنهم قد يقبلون حالة العبودية وعيشة الرعية، فزاد {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 37] لأن الصَّغَار لا يكون إلا بالقَتْل والأَسْر.
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ ياأيها الملأ}(17/10782)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
الملأ: أشراف القوم وسادتهم وأصحاب الرأي فيهم {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] هنا أيضاً مظهر من إشراقات النبوة عند سليمان، فهو يعلم ما سيحدث عندهم حينما تعود إليهم هديتهم، وأنهم سيسارعون إلى الإسلام، فردُّ الهدية يعني أننا أصحاب كلمة ورسالة ومبدأ ندافع عنه لا أصحاب مصلحة.(17/10782)
ولما علم أنهم سيأتون مسلمين طلب من جنوده أنْ يأتوه بعرشها، وحدَّد زمن الإتيان بهذا العرش {قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] .
إذن: لا بُدَّ من الذهاب إلى مملكة سبأ وفكِّ العرش، وحَمْله إلى مملكة سليمان، ثم إعادة تركيبه عنده، وهذه مهمة بالطبع فوق قدرة البشر؛ لذلك لم يتكلم منهم أحد، حتى الجن العادي لم يعرض على سليمان استعداده للقيام بهذه المهمة: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن}(17/10783)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
والجن في القدرة والمهارة مثل الإنس، منهم القوى الماهر، ومنهم العَييّ الذي لا يجيد شيئاً. نقول (لبخة) وكلمة عفريت من تعفير التراب، وكانوا حينما يتسابقون في العَدُو بالخيل أو غيرها، فمَنْ يسبق منهم يُثير الغبار في وجه الآخر فيُعطلّه عن السَّبْق. فقالوا: عفريت يعني عفَّر من وراءه. أو: المعنى أنه يُعفِّر وجه مَنْ عارضه بالتراب فسُمِّي عفريتاً.
إذن: فالعفريت هو الخبيث الماكر من الجنّ، وصاحب القوة الخارقة فيهم، وهو الذي تعرَّض لهذه المهمة، وقال {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] .
وهذا كلام مُجْمل؛ لأن مقام سليمان بين رعيته للحكم أو(17/10783)
للمدارسة سوف يستغرق وقتاً: ساعة أو ساعتين مثلاً، وقد تعهَّد العفريت أنْ يأتي بالعرش في هذا الوقت يعني: لن يُؤخِّره إلى جلسة أخرى.
وقوله: {وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] يدل على أن هذا العفريت يعلم فخامة هذا العرش وضخامته، وأنه شيء نفيس يستحق الاعتناء به، خاصة في عملية نقله؛ لذلك قال من ناحية كبره وضخامته «فأنا عليه قوي» قادر على حَمْله، ومن ناحية نفاسته وفخامته، فأنا عليه أمين لن أُبدِّد منه شيئاً.
ثم تكلَّم آخر لم يُحدِّده القرآن إلا بالوصف: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ}(17/10784)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
الطرف: الجِفْن الأعلى للعين.
تكلم العلماء في هذه الآية: أولاً: قالوا {الكتاب} [النمل: 40] يُراد به اللوح المحفوظ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسراراً من اللوح(17/10784)
المحفوظ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا: هو آصف بن برخيا، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله على أسرار الكون.
وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] قال هو: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] لأنه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية، وليس شَرْطاً في المِلك أنْ يعرف كل شيء، وإلا لَقُلْنا للمِلك: تَعَال أصلح لنا دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً: فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فمثلاً حين تُكلِّف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما، فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في مكانه، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل(17/10785)
المواصلات، ففرْق بين السفر بالسيارة، والسفر بالطائرة، والسفر بالصاروخ مثلاً.
وهذه تكلّمنا عنها في قصة «الإسراء والمعراج» فقد أُسْرِي برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه السرعة؛ لأن الله تعالى أَسْرى به، ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصوُّر البشر.
وما دام الزمن يتناسب مع القوة، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله، إنما إلى الله، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلاً، فإنْ قلتَ: فلماذا استغرقتْ الرحلة ليلةَ وأخذت وقتاً؟ نقول: لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرَّ بأشياء، ورأى أشياء، وقال، وسأل، وسمع، فهو الذي شغل هذا الوقت، أمّا الإسراء نفسه فلا زمنَ له.
لذلك قبل أن يخبرنا الحق تبارك وتعالى بهذه الحادثة العجيبة قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] أي: نزِّهه عن مشابهة غيره، كذلك مسألة نَقْل العرش في طرْفة عين لا بُدَّ أن مَنْ فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه، فنقله بكُنْ التي لا تحتاج وقتاً ولا قوة، وما دام الأمر بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا: آمين.
وفي قوله للجن: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] تحدٍّ لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإنْ أراد الله منحني من القوة ما أتفوّق عليك به، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي.
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13] .(17/10786)
وليعلموا أنهم جهلاء، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.
والتحدي قد يكون بالعُلُوِّ، وقد يكون بالدُّنُو، كالذي قال لصاحبه: أنا دارس باريس دراسة دقيقة، وأستطيع أنْ أركب معك السيارة وأقول لك: أين نحن منها، وأمام أيّ محل، وأنا مُغْمض العينين، فقال الآخر: وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ} [النمل: 40] أي: العرش {مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] إما لأنه أقدره على الإتيان به بنفسه، أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب، فأتاه به، فهذه أو ذلك فضل من الله.
{ليبلوني} [النمل: 40] يختبرني {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] يعني: أشكر الله فأُوفَّق في هذا الاختبار؟ أم أكفر بنعمة الله فأخفق فيه؟ لأن الاختبار إنما يكون بنتيجته.
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألاَّ يلهيه جمال النعمة عن جلال واهبها ومُسْديها، فيقول مثلاً: إنما أوتيته على علم عندي.
وقوله: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] أي: أن الله تعالى لا يزيده شُكْرنا شيئاً، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد، فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه، وهو ثمرة شُكْره.
{وَمَن كَفَرَ} [النمل: 40] يعني: جحد النعمة ولم يشكر المنعم {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] أي: عن شكره {كَرِيمٌ} [النمل: 40](17/10787)
أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛ لأن نعمه تعالى كثيرة لا تُعَدُّ، وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه.
لذلك لما نتأمل قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد تكررت هذه العبارة بنصِّها في آيتين من كتاب الله، مما جعل البعض يرى فيها تكراراً لا فائدة منه، لكن لو نظرنا إلى عَجُز كل منهما لوجدناه مختلفاً.
فالأولى تُختتم بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] والأخرى: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] .
إذن: فهما متكاملتان، لكلٍّ منهما معناها الخاص، فالأولى تبين ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عليه ويجحدها، وتضيف الأخرى أن الله تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به.
كما نلحظ في الآية: {وَإِن تَعُدُّواْ} [إبراهيم: 34] استخدم (إنْ) الدالة على الشك؛ لأن أحداً لا يجرؤ على عَدِّ نِعَم الله في الكون، فهي فوق الحصر؛ لذلك لم يُقْدِم على هذه المسألة أحد، مع أنهم بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إلا نعم الله لم يتصَدَّ لأحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن تخصصت في الإحصاء.
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها، كما لم نجد مثلاً مَنْ تصدّى لإحصاء عدد الرمل في الصحراء. كما نقف عند قوله سبحانه: {نِعْمَتَ الله} [إبراهيم: 34] ولم يقُلْ: نِعَم الله، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة؛ لأن تحتها نِعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر.
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبارَ عقلٍ، واختبارَ إيمان:(17/10788)
{قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا}(17/10789)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
قوله: {نَكِّرُواْ} [النمل: 41] ضده عرِّفوا؛ لأنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ، ولو رأتْه على حالته الأولى لقالتْ هو هو، ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] يعني: غيّروا بعض معالمه، ومنه شخص متنكر حين يُغيِّر ملامحه وزيّه حتى لا يعرف مَنْ حوله.
{نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] تهتدي إيماناً إلى الإسلام، أو تهتدي عقلياً إلى الجواب في مسألة العرش.(17/10789)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
جاء السؤال بهذه الصيغة {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] ليُعمِّي عليها أمر العرش، وليختبر دقة ملاحظتها، فلو قال لها: أهذا عرشك؟ لكان إيحاءً لها بالجواب إنما {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] كأنه يقول: ليس هذا عرشك، فلما نظرتْ إليه اجمالاً عرفتْ أنه عرشها، فلما رأتْ ما فيه من تغيير وتنكير ظنتْ أنه غيره؛ لذلك اختارتْ جواباً دبلوماسياً يحتمل هذه وهذه، فقالت {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42](17/10789)
وعندها فهم سليمان أنها على قَدْر كبير من الذكاء والفِطْنة وحصافة الرأي.
وكذلك كلام السَّاسَة والدبلوماسيين تجده كلاماً يصلح لكل الاحتمالات ولأيِّ واقع بعده، فإذا جاء الأمر على خلاف ما قال لك يسبقك بالقول: ألم أَقُلْ لك كذا وكذا.
ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس: يا أحنف لماذا لا تسبّ علياً على المنبر كما يسبّه الناس؟ فقال الأحنف: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: عزمتُ عليك إلاَّ فعلْتَ، فقال: أما وقد عزمت عليَّ فسأصعد المنبر، ولكني سأقول للناس: إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أنْ ألعنَ علياً، فقولوا معي: لعنه الله. عندها قال معاوية: لا يا أحنفُ، لا تقل شيئاً.
لماذا؟ لأن اللعن في هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى عَلِيّ؟
وتُحكَي قصة الخيّاط الأعور الذي خاط لأحد الشعراء جُبَّة فجاءت وأَحَد الكُمَّيْن أطول من الآخر، فلم يستطع لبسها، فلما سألوه عن عدم لُبْس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا: أُهْجه، فقال:
قُلْت شِعْراً لَيْس يُدْرَى ... أَمديحٌ أَمْ هِجَاءُ
خَاطَ لِي عَمْروا قُباء ... لَيْتَ عينيه سَوَاءُ
فالكلام يحتمل المعنيين: الدعاء له، والدعاء عليه. هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من المواجهة.(17/10790)
وكذلك قالتْ بلقيس جواباً دبلوماسياً {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] أما {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42] فيحتمل أنْ يكون امتداداً لقوْل بلقيس، يعني: أوتينا العلم من قبل هذه الحادثة، وعرفنا أنك نبيّ لما رددتَ إلينا الهدية، وقلت ما قلت، فلم نكُنْ في حاجة إلى مثل هذه الحادثة لنعلم نُبوّتك.
ويُحتمل أنها من كلام سليمان عليه السلام.(17/10791)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
المعنى: صدَّها ما فعل سليمان من أحداث، وما أظهر لها من آيات، صدَّها عن الكفر الذي أَلِفَتْه {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] فصدَّها سليمان بما فعل عما كانت تعبد من دون الله.(17/10791)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
الصَّرْح: إما أن يكون القصر المشيد الفخم، وإما أن يكون البهو الكبير الذي يجلس فيه الملوك مثل: إيوان كسرى مثلاً، فلما دخلتْ {حَسِبَتْهُ لُجَّةً} [النمل: 44] ظنَّته ماءً، والإنسان إذا رأى أمامه ماءً أو بَلَلاً يرفع ثيابه بعملية آلية قَسْرية حتى لا يصيبه البَلَل؛ لذلك كشفتْ بلقيس عن ساقيها يعني: رفعتْ ذَيْل ثوبها.
وهنا نَبهها سليمان {إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ} [النمل: 44] يعني: ادخلي لا تخافي بللاً، فهذا ليس لُجةَ ماء، إنما صَرْح ممرد من قوارير يعني: مبنيٌّ من الزجاج والبللور أو الكريستال، بحيث يتموج الماء من تحته بما فيه من أسماك.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44] بالكفر أولاً، وبظنِّ السوء في سليمان، وأنه يريد أنْ يُغرقني في لجة الماء {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [النمل: 44] ويبدو أنها لم تنطق بكلمة الإسلام صريحة إلا هذه المرة، وأن القول السابق {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42] كان من كلام سليمان عليه السلام.
وقولها {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] مثل قول سَحَرة فرعون لما رأوا المعجزة: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] لأن الإيمان إنما يكون بالله والرسول دال على الله، لذلك قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] ولم تقُلْ: أسلمتُ لسليمان، نعم لقد دانتْ له، واقتنعتْ بنبوته، لكن كبرياء الملك فيها جعلها لا تخضع له، وتعلن إسلامها لله مع سليمان؛ لأنه السبب في ذلك، وكأنها تقول له: لا تظن أنِّي أسلمتُ لك، إنما أسلمتُ معك، إذن: أنا وأنت سواء، لا يتعالى أحد منا على الآخر، فكلانا عبد لله.(17/10792)
وقد دخل هذه القصة بعض الإسرائيليات، منها أن سليمان عليه السلام جعل الصرح على هذه الصورة لتكشف بلقيس عن ساقيها؛ لأنه بلغه أنها مُشْعِرة الساقين، وإلى غير هذا من الافتراءات التي لا تليق بمقام النبوة.
ثم يأتي بنا الحق سبحانه إلى نبي آخر في موكب الأنبياء: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ}(17/10793)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
مرَّتْ بنا قصة نبي الله صالح عليه السلام مع قومه ثمود في سورة الشعراء، وأُعيد ذكرها هنا؛ لأن القرآن يقصُّ على رسول الله من موكب الأنبياء ما يُثبِّت به فؤاده، كلّما تعرض لأحداث تُزلزل الفؤاد، يعطيه الله النَّجْم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمرُّ بها، وهذا ليس تكراراً للأحداث، إنما توزيع للقطات، بحيث إذا تجمعتْ تكاملتْ في بناء القصة.
وقوله سبحانه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} [النمل: 45] لا بُدَّ أنه أرسل بشيء ما هو؟ {أَنِ اعبدوا الله} [النمل: 45] لذلك سُمِّيت (أنْ) التفسيرية، كما في قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] ماذا؟ {أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] .
وقد يأتي التفسير بجملة، كما في: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} [(17/10793)
طه: 120] بأي شيء؟ {قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120] .
فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله: {قَالَ ياآدم} [طه: 120] فرسالتنا إلى ثمود ملخصها ومؤداها {أَنِ اعبدوا الله} [النمل: 45] .
والعبادة كما ذكرنا أن نطيع الله بفعل ما أمر، وبترْك ما نهى عنه وزَجر، أما ما لم يرِدْ فيه أمر ولا نَهْي فهو من المباحات إنْ شئتَ فعلتها، وإنْ شئت تركتها، وإذا ما استعرضنا حركة الأحياء والخلفاء في الأرض وجدنا 5 ... من حركتهم تدخّل فيها الشارع بافعل ولا تفعل، أما الباقي فهو مُباح.
إذن: فالتكليف منُوط بأشياء يجب أنْ تفعلها؛ لأن فيها صلاحَ مجتمعك، أو أشياء يجب أن تتركها؛ لأن فيها فساد مجتمعك.
فماذا كانت النتيجة؟
{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] .
والاختصام أنْ يقف فريق منهم ضد الآخر، والمراد أن فريقاً منهم عبدوا الله وأطاعوا، والفريق الآخر عارض وكفر بالله.
وقد وقف عند هذه الآية بعض الذين يحبون أنْ يتهجَّموا على الإسلام وعلى أسلوب القرآن، وهم يفتقدون الملَكة العربية التي تساعدهم على فَهْم كلام الله، وإنْ تعلَّموها فنفوسهم غير صافية لاستقبال كلام الله، وفيهم خُبْث وسُوء نية.
واعتراضهم أن {فَرِيقَانِ} [النمل: 45] مثنى و {يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] دالة على الجمع، فلماذا لم يَقُل: يختصمان؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة.(17/10794)
ومنها قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .
والقياس يقتضي أن يقول: اقتتلتا. لكن حين نتدبَّر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة أخرى، فإنْ حدث قتالٌ حمل كُلٌّ منهم السلاح، لا أن تتقدم الطائفة بسيف واحد، فهم في حال القتال جماعة.
لذلك قال (اقتتلوا) بصيغة الجمع، أما في البداية وعند تقرير القتال فلكُلِّ طائفة منهما رأْي واحد يعبر عنه قائدها، إذن: فهما في هذه الحالة مثنى.
كما أن الطائفة وإنْ كانت مفردة لفظاً إلا أنها لا تُطلَق إلا على جماعة، فيقف كل واحد من الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الأخرى.
وهنا أيضاً {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ} [النمل: 45] أي: مؤمنون وكافرون {يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] لأن كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الأخرى.
وفي موضع آخر، شرح لنا الحق تبارك وتعالى هذه المسألة، فقال سبحانه: {فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ(17/10795)
حَدِيدٍ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} [الحج: 1922] .
أما الفريق الآخر: {إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد} [الحج: 2324] .
فبيَّن لنا الحق سبحانه كل فريق منهما، وبيَّن مصيره وجزاءه.
ونلحظ هنا {فَإِذَا} [النمل: 45] يسمُّونها الفجائية، ويُمثِّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أَسَدٌ بالباب، والمعنى: أنك فُوجِئْت بشيء لم تكُنْ تتوقعه، كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم نبيهم {أَنِ اعبدوا الله} [النمل: 45] لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان: مؤمنون وكافرون.
ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا الأمر بالطاعة والتسليم، ولا يختلفوا فيه هذا الاختلاف: فريق في الجنة وفريق في السعير {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 1314] .
وقالوا: إن الله تعالى لا يرسل الرسل إلا على فساد في المجتمع، الخالق عَزَّ وَجَلَّ خلق في الإنسان النفس اللوامة التي تردُّه إلى رُشْده وتنهاه، والنفس المطمئنة التي اطمأنتْ بالإيمان، وأَمنت الله على الحكم في افعل ولا تفعل، والنفس الأمَّارة بالسوء، وهَي التي لا تعرف معروفاً، ولا تنكر مُنْكَراً، ولا تدعو صاحبها إلا إلى السوء.
والله عزَّ وجلَّ رب، ومن عادة الرب أنْ يتعهّد المربَّي ليؤدي(17/10796)
غايته على الوجه الأكمل، أرأيتم أباً يُربِّي أبناءه إلا لغاية؟ وما دام هو سبحانه ربي فلا يأمرني إلا لصالحي، وصالح مجتمعي، فلا شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ولا شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق. إذن: كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر الله بالقبول والتسليم.
وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الإيمان. والكافرين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الكفر. لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر، بل وعند لقاء الله تعالى في الجنة؛ لأنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الآخرة في غاية الجزاء، كما يقول تعالى:
{الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] .
أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرَّأ بعضهم من بعض، والقرآن حين يُصوِّر تخاصم أهل النار يقول بعد أنْ ذكر نعيم أهل الجنة:
{هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهاد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً(17/10797)
ضِعْفاً فِي النار وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} [ص: 5564] .
إذن: فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر، أما في الآخرة فبين الكافرين بعضهم البعض، بين الذين أَضَلُّوا والذي أُضِلُّوا، بين الذين اتَّبعُوا، والذي اتُّبِعوا.(17/10798)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
لما ذُكِرت قصة ثمود في الشعراء، لم تذكر شيئاً عن استعجال السيئة، فما هي السيئة التي استعجلوها وربهم عَزَّ وَجَلَّ يلومهم عليها؟ هي قولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70] .
وعجيب أمْر هؤلاء القوم، ماذا يفعلون لو نزل بهم؟ قالوا معاً: حينما تأتينا السيئة نستغفر ونتوب يظنون أن الاستغفار والتوبة تُقبل منهم في هذا الوقت.
والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أولئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء: 1718] .(17/10798)
فلماذا تستعجلون السيئة والعذاب، وكان عليكم أن تستعجلوا الحسنة، واستعجالكم السيئة يحول بينكم وبين الحسنة؛ لأنها لن تُقبل منكم {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46] .(17/10799)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
اطيَّر: استعمل الطير، وهذه عملية كانوا يلجئون إليها عند قضاء مصالحهم أو عند سفرهم مثلاً، فكان الواحد منهم يُمسك بالطائر ثم يرسله، فإنْ طار ناحية اليمين تفاءل وأقبل على العمل، وإنْ طار ناحية الشمال تشاءم، وامتنع عما هو قادم عليه، يُسمُّونها السانحات والبارحات. فالمعنى: تشاءمنا منك، وممَّنْ اتبعك.
{قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47] يعني: قضاء مقضيٌّ عليكم، وليس للطير دَخْل في أقداركم، وما يجري عليكم من أحكام، فيكف تأخذون من حركته مُنطلقاً لحركتكم؟ إنما طائركم وما يُقدَّر لكم من عند الله قضاء يقضيه.
وفي آية يس: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19] يعني تشاؤمكم هو كفركم الذي تمسكتم به.
لكن، لماذا جاء التشاؤم هنا، ونبيهم يدعوهم إلى الله؟ قالوا: لأنه بمجرد أنْ جاءهم عارضوه، فأصابهم قحْط شديد، وضنَّتْ عليهم السماء بالمطر فقالوا: هو الذي جَرَّ علينا القَحْط والخراب.(17/10799)
وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] الفتنة: إما بمعنى الاختبار والابتلاء، وإما بمعنى فتنة الذهب في النار.(17/10800)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
وهذه المسألة أيضاً لقطة جديدة من القصة لم تُذكَر في الشعراء، وهكذا كل القَصَص القرآني لو تدبَّره الإنسان لوجده لقطاتٍ متفرقة، كلٌّ منها يضيف جديداً، ويعالج أمراً يناسب النجْم القرآني الذي نزل فيه لتثبيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والرَّهْط: اسم جمع، لا واحدَ له من لفظه، ويدل على العدد من الثلاثة إلى العشرة، فمعنى {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] كأنهم كانوا قبائل أو أسراً أو فصائل، قبيلة فلان وقبيلة فلان. . إلخ.
{يُفْسِدُونَ فِي الأرض} [النمل: 48] فلماذا قال بعدها: {وَلاَ يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] ؟ قالوا: لأن الإنسان قد يُفسد في شيء، ويُصلح في آخر، كالذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وهؤلاء عسى الله أنْ يتوبَ عليهم.
أما هؤلاء القوم، فكانوا أهل فساد مَحْض لا يعرفون الصلاح، فإنْ رأوْه عمدوا إليه فأفسدوه، فكأنهم مُصِرُّون على الإفساد، وللإفساد قوم ينتفعون به، لذلك يدافعون عنه ويعارضون في سبيله أهل الإصلاح والخير؛ لأنهم يُعطِّلون عليهم هذه المنفعة.(17/10800)
وقلنا: إن صاحب الدين والخلق والمبادىء في أيِّ مصلحة تراه مكروهاً من هذه الفئة التي تنتفع من الفساد، يهاجمونه ويتتبعونه بالهَمْز واللمز، يقولون: حنبلي، وربما يهزأون به. . إلخ؛ لذلك لم يقف في وجه الرسل إلا هذه الطائفة المنتفعة بالفساد.(17/10801)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{قَالُواْ} [النمل: 49] أي: الرهط {تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] انظر إلى هذه البجاحة وقلة العقل وتفاهة التفكير: إنهم يتعاهدون ويُقسمون بالله أنْ يقتلوا رسول الله، وهذا دليل غبائهم، وكأن الحق تبارك وتعالى يجعل لهم منافذ يظهر منها حُمْقهم وقِلّة عقولهم.
ومعنى {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل: 49] نُبيِّته: نجعله ينام بالليل، والبيتوتة أن ينقطع الإنسان عن الحركة حالَ نومه، ثم يعاود الحركة بالاستيقاظ في الصباح، لكن هؤلاء يريدون أنْ يُبيِّتوه بيتوتة لا قيامَ منها. والمعنى: نقلته.
فإذا ما جاء أولياء الدم يطالبوننا بدمه {لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ} [النمل: 49] أي: وليّ الدم من عُصْبته ورحمه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49] أي: ما شهدنا مقتل أهله، فمن باب أَوْلَى ما شهدنا مقْتله، ولا نعرف عنه شيئاً.
هذا ما دبره القوم لنبي الله صالح عليه السلام يظنون أن الله يُسْلِم رسوله، أو يُمكِّنهم من قتله، فحاكوا هذه المؤامرة ولم يفتهم تجهيز الدفاع عن أنفسهم حين المساءلة، هذا مكرهم وتدبيرهم.(17/10801)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
معنى {وَمَكَرُواْ مَكْراً} [النمل: 50] أي: ما دبّروه لقتل نبي الله ورسوله إليهم {وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل: 50] وفَرْق بين مكر الله عَزَّ وَجَلَّ {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] وبين مكْر الكافرين {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] .
إذن: حين تمكر بخير، فلا يُعَدُّ مكْراً، إنما إبطال لمكْر العدو، فلا يجوز لك أنْ تتركه يُدبِّر لك ويمكُر بك، وأنت لا تتحرك؛ لذلك قال تعالى {والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] لأنهم يمكرون بشرٍّ، ونحن نمكر لدفع هذا الشر لِنُصْرة رسولنا، ونجاته من تدبيركم.
والمكْر: مأخوذ من قولهم: شجرة ممكورة، وهذا في الشجر رفيع السَّاق المتسلق حين تلتفُّ سيقانه وأغصانه، بعضها على بعض، فلا تستطيع أن تُميِّزها من بعضها، فكُلٌّ منها ممكور في الآخر مستتر فيه، وكذلك المكر أن تصنع شيئاً تداريه عن الخصم.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] أي: أنه مكْر محبوك ومحكم، بحيث لا يدري به الممكور به، وإلا لا يكون مَكْراً.
وحين نتأمل: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] و {والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] نعلم أن المكر لا يُمدح ولا يُذَمُّ لذاته، إنما بالغاية من ورائه، كما في قوله تعالى عن الظن: {ياأيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن} [الحجرات: 12] فالظن منه الخيِّر ومنه السيىء.(17/10802)
ونسمع الآن تعبيراً جديداً يعبر عما يدور في المجتمع من انتشار المكر وسوء الظن، يقولون: الصراحة مكر القرن العشرين، فالذي يمكر بالناس يظن أنهم جميعاً ماكرون فلا يصدق كلامهم، ويحتاط له حتى إنْ كان صدقاً، فأصبح المكر وسوء الظن هو القاعدة، فإنْ صارحتَ الماكر لا يُصدقك ويقول في نفسه: إنه يُعمى عليَّ أو يُضلِّلني.(17/10803)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
أي: تأمل ما حاق بهم لما مكروا بنبي الله، واتفقوا على التبييت له وقَتْله، يُرْوى أنهم لما دخلوا عليه أُلْقي على كل واحد منهم حجر لا يدري من أين أتاه، فهلكوا جميعاً، فقد سخَّر الله له ملائكة تولَّتْ حمايته والدفاع عنه.
أو: أن الله تعالى صنع له حيلة خرج بها وذهب إلى حضرموت، وهناك مات عليه السلام، فَسُمِّيت حضرموت. وآخرون قالوا: بل ذهبوا ينتظرونه في سفح جبل، واستتروا خلف صخرة ليُوقِعوا به فسقطت عليهم الصخرة فماتوا جميعاً.
المهم، أن الله دمرهم بأيِّ وسيلة من هذه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] لقد أرادوا أنْ يقتلوه وأهلَه، فأهلكهم الله.(17/10803)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] دليل على أن الله أهلكهم فلم يُبْقِ منهم أحداً، وتُركَتْ بيوتهم خاوية بسبب ظلمهم {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً} [النمل: 52] عبرة وعظة {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52] .
وفي مقابل إهلاك الكافرين: {وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ}(17/10804)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
فمن آمن واتقى من قوم صالح نجّاه الله عَزَّ وَجَلَّ من العذاب الذي نزل بقومهم قوم ثمود.
انتهى الكلام هنا عن قصة ثمود، وحين نقارن الأحداث هنا بما ورد في سورة الشعراء نجد أحداثاً جديدة لم تُذكَر هناك، كما لم يذكر هنا شيئاً عن قصة الناقة التي وردتْ هناك، مما يدلُّ على تكامل لقطات القصة في السور المختلفة.
ثم يقصُّ علينا طرفاً من قصة نبي آخر، وهو لوط عليه السلام: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ}(17/10804)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
(لُوطاً) جاءت منصوبة على أنها مفعول به، والتقدير: أرسلنا لوطاً، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعبدوا الله} [النمل: 45] .
وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] فذكر الداء الذي استشرى فيهم. وفي سورة الشعراء قال سبحانه {أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} [الأعراف: 80] وهنا قال: {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] أي: تتعالمون بها وتتجاهرون بها، فدلَّ على أنهم أجعوا عليها وارتضوْهَا، وأنه لم يَعُدْ عندهم حياء من ممارستها.
أو: يكون المعنى: وأنتم تبصرون ما حَلَّ بأصحاب الفساد قبلكم من أقضية الله عليهم.(17/10805)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
هذا بيان وتفصيل للداء وللفاحشة التي انتشرت بينهم، ومعنى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] الآية في ظاهرها أنها تتعارض مع {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} [النمل: 54] لكن المعنى {تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] الجهل هنا ليس هو ضد العلم، إنما الجهل بمعنى السَّفه.
والبعض يظن أن الجهل أَلاَّ تعلم، لا إنما الأمية هي الاَّ تعلم، أمَّا الجهل فأنْ تعلم قضية مخالفة للواقع؛ لذلك الأميُّ أسهل في الإقناع؛ لأنه خالي الذِّهْن، أمّا الجاهل فلديه قضية خاطئة، فيستدعي الأمر أن تنزع منه قضية الباطل، ثم تُدخِل قضية الحق، فالجهل إذن أشقُّ على الدعاة من الأمية.(17/10805)
ثم يقول الحق سبحانه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}(17/10806)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
عجيبٌ أمر هؤلاء، فعِلَّة الإخراج عندهم وحيثيته {إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] سبحان الله، ومتى كان الطُّهْر ذنباً وجريمة تستوجب أنْ يخرج صاحبها من بلدة؟ إنها نغمة نسمعها دائماً من أهل الباطل في كل زمان ومكان حينما يهاجمون أهل الحق، ويَسْعَوْن لإبعادهم من الساحة لتخلو لباطلهم.
ومن عَدْل الله تعالى أن يظهر في منطقهم دليل إدانتهم وخُبْث طباعهم، فكلمة {يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56] التي نطقوا بها تعني: أنهم أنفسهم أنجاسٌ تزعجهم الطهارة، وما أحلَّ الله من الطيبات، وكأن الله تعالى يجعل في كلامهم منافذ لإدانتهم، وليحكموا بها على أنفسهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته}(17/10806)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
أي: من المُهْلَكين مع قومها، فقد كانت تدل قومها على ضيفان لوط؛ ليأتوا إليهم ليفعلوا معهم الفاحشة، لذلك أصابها من العذاب مثلما أصاب قومها.(17/10806)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
أي: قَبُح هذا المطر، وإنْ أبهم المطر هنا فقد وضَّحه الحق تبارك وتعالى في آيات أخرى فقال: من طين، ومن سِجِّيل، وهو الطين إذا حُرِق، فصار فخَّاراً، وهذه الحجارة منظمة مُسوَّمة صنعها الله لهم بحساب دقيق، فلكُلِّ واحد منهم حَجَره المسمَّى باسمه، والذي لا يُخطِئه إلى غيره.(17/10807)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
نعرف أن الله تعالى يُحمد على النعمة، لكن هناك {الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] جاءت بعد نقمة وعذاب وأَخْذ للمكذِّبين. قالوا: الخطاب هنا مُوجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفيه إشارة إلى أن جُنْد الله هم الغالبون، وأن العاقبة لهم ليطمئن رسول الله، كما أن تطهير الكون من المفسدين فيه، وحين تستريح منهم البلاد والعباد، هذه نعمة تستوجب {الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] .
وفي أهلاك الكافرين والمكذِّبين عبرة ودرسٌ لغيرهم، حتى لا يتورطوا في أسباب الهلاك، وهذه نعمة أخرى تستحق الحمد.
لذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمده إنْ رأينا خيراً نزل(17/10807)
بالأخيار، أو شراً حَلَّ بالأشرار. فالمعنى {قُلِ الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] أن الرسل انتصروا وغلبوا، وأن المفسدين انهزموا واندحروا.
ألاَ ترى قَوْلَ أهل الجنة: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 7374] .
كذلك حين نرى الشرير الذي شاع شرُّه وكثُرَ فساده حين ينزل به ما يستحق من عقاب الله نقول جميعاً ساعةَ نسمع خبره: الحمد لله، هكذا بعملية لا شعورية عند الجميع أنْ تلهج ألسنتُهم بالحمد عند نزول النعمة على أصحابها، والنقمة على مَنْ يستحقها.
ويقول تعالى عن أهل الشر والفساد: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء والضرآء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 4245] .
فبعد أنْ قطع الله دابر الظالمين قال: الحمد لله رب العالمين، ونلحظ هنا الفرق بين فتح لك، وفتح عليك؛ فتح لك يعني: فتح في صالحك، ومنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] .
أما فتح عليهم يعني: بالسوء نكايةَ فيهم، فمعنى {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] .
أعطاهم الخير ليهلكهم به، وهم في حال نعمة ومكانة، حتى إذا أخذهم الله كان أَخْذه أليماً شديداً.(17/10808)
وفي قصة نوح عليه السلام: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} [المؤمنين: 28] .
فحَمْد الله هنا على أمرين: الحمد لله لأنه أغرق الكافرين الظالمين وخلًّصنا منهم، والحمد لله لأنه نجَّى المؤمنين.
ثم يقول سبحانه: {وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] وهم المؤمنون الذين نصرهم الله، وجعل العاقبة لهم، والسلام عليهم بعدها لاقوه من عَنَتِ الكفار وعنادهم، فالحمد لله الذي أهلك المفسدين، وأتى بالسلام على المهتدين.
ثم يطرح الحق سبحانه قضية، ويأتي بها في صورة سؤال واستفهام؛ لتكون أبلغ في النفس من مجرد الإخبار بها: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] .
ولو أن الآية قالت: قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى لأن الله خير وما يشركون به شرٌّ لكان الكلامُ خبراً، والخبر في ذاته وبصرف النظر عن قائله يحتمل الصدق أو الكذب.
أمَّا حين تُعرض هذه القضية في صورة الاستفهام، فقد جعلتَ مخاطبك هو الذي ينطق بها، كما لو أنكر أحد الأصدقاء جميلَك وأياديك عليه، فبدل أن تخبر أنت: فعلتُ لك كذا وكذا تدَعْه هو الذي يُخبر فتقول: ألم أفعل لك كذا وكذا؟ ولا يقول هذا إلا واثقٌ ومعتقدٌ أن الإجابة ستكون في صالحه.
فالمعنى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] قولوا لنا أنتم ونحن نرتضي حكمكم بعدما رأيتُم وسمعتم من هذه القصة: آالله خير أم الذين أشركوا به خير؟ ولا بد أن تأتي الإجابة: الله خير؛ لذلك(17/10809)
لما نزلت هذه الآية انفعل لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأسرع بالجواب: «بل الله خير وأبقى وأجلُّ وأكرم» .
مما يدل على أن الانفعال بالقرآن واجب ونقصد الانفعال بمعانيه، لا الانفعال بالصوت والنغمات كالذي نسمعه من هؤلاء (الذكِّيرة) الذي يُشجِّعون المقرئين بالصياح والضجيج الذي لا يتناسب وجلال الآيات، وهم مع ذلك لا يفهمون المعاني ولا يتأثرون بها، لدرجة أن منهم مَنْ يسمع آيات العذاب فيقول بأعلى صوته: اللهم زِدْنا.
وقد كان الكتبة من الصحابة ينفعلون بالآيات معنىً، حتى إن أحدهم ليكمل الآية ويختمها بما يناسبها قبل أن تُملَي عليه، لماذا؟ لأنهم فهموا عن الله وتأثروا بالمعنى، مما يدل على أن القرآن جاء موافقاً للفطرة السليمة، ومن هذا التوافق قول أحد الصحابة {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنين: 14] فنزل بها القرآن كما قالها.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول عن سورة الرحمن «لقد قرأتُ سورة الرحمن على إخوانكم الجن، فكانوا أحسن استجابة منكم، فكانوا كلما قلت {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] .
قالوا: لا بشيء من نعمائك ربنا نكذب فلكَ الحمد» .
إذن: حين نسمع كلام الله علينا أن ننفعل به، وأنْ نتجاوبَ معه(17/10810)
تجاوباً واعياً، فعند آية التسبيح نُسبِّح، وعند آية الحمد نحمد الله، وعند آية الدعاء نقول: آمين، هذه مواجيد انفعالية لسماع القرآن والتجاوب معه، لا أنْ نسمعه أو نهذه كهذ الشِّعْر.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض}(17/10811)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
{أَمَّنْ} [النمل: 60] هذا استفهام آخر، وكأن الحق تبارك وتعالى بعد أن كتب الهزيمة على الكافرين والنصر للمؤمنين أراد أنْ يُربِّب في النفس الإيمان بالله، وأن تأخذ من نصر الله تعالى للمؤمنين خميرة إيمانية، ومواجيد جديدة تظل شحنة قوية تدفعهم بحيث يكونون هم أنفسهم على استعداد للتصدي لأعداء الدعوة والمناهضين لها.
يقول سبحانه:
{أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] .
إذن: المسألة لا تقف عند معركة انتصر فيها المؤمنين على الكافرين، فهناك في خلق الله ما هو أعظم من ذلك، فلو سألتَهم: مَنْ خلق السموات والأرض يقولون: الله ولئن سألتهم: مَنْ خلقهم يقولون: الله، فهذه مسائل لا يستطيعون إنكارها، فكأن الحق(17/10811)
تبارك وتعالى يقول لهم: آلله خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء. . أم ما تشركون؟
وما دام أن الله تعالى ادَّعى مسألة الخَلْق لنفسه سبحانه، ولم يَقُمْ لهذه الدعوى منازع، فقد ثبتتْ له سبحانه إلى أنْ يدَّعيها غيره {أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] فإنْ كان هناك إله آخر خلق الخَلْق فأين هو: إما أنه لم يَدْر بهذه الدعوى، أو دَرَى بها وجَبُن عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح إلهاً، وإلا فليأت هو الآخر بخَلْق ومعجزات أعظم مما رأينا.
فإذا قال الله تعالى أنا الله، ولا إله غيري، والخَلْق كله بسمائه وأرضه صنعتي، ولم يوجد معارض، فقد ثبتت له القضية؛ لذلك يقول سبحانه: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] .
فقضية الوحداينة شهد الله أولاً بها لنفسه، ثم شهد بها الملائكة أولو العلم من الخَلْق.
ويقول سبحانه في تأكيد هذا المعنى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] .
أي: لاجتمع هؤلاء الآلهة، وثاروا على الإله الذي أخذ منهم مُلْكهم، وادعاه لنفسه، أو لذهبوا إليه ليتقرَّبوا منه ويتودّدوا إليه.
وقوله تعالى: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً} [النمل: 60] السماء: كلُّ ما علاك فأظلَّك، والماء معروف أنه ينزل من السحاب وهو مما علانا، أو أن الإنزال يعني إرادة الكون، وإرادة الكون في كل كائن تكون من السماء، ألاَ ترى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25] .
وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] ومعلوم أن الحديد يأتي من الأرض، لكن إرادة كونه تأتي من السماء.(17/10812)
ثم يقول سبحانه: {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] للماء فوائد كثيرة في حياتنا، بل هو قِوَام الحياة؛ لذلك اقتصرتْ الآية على ذكْر الحدائق؛ لأنها قوام حياة الإنسان في الأكل والشرب.
فإنْ قُلْتَ: نحن نعتبر الآن الحدائق الجميلة من باب الكماليات، وليس بها مُقوِّمات حياتنا. نقول: نعم هي كذلك الآن، لكن في الماضي كانوا يسمون كل أرض زراعية محوطة بسور: حديقة، أو حائط.
وقال {ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل: 60] مع أنك لو نظرتَ إلى القمح مثلاً وهو عَصَب القوت لوجدته أقل جمالاً من الورد والياسمين والفُل مثلاً، وكأن ربك عَزَّ وَجَلَّ يقول لك: لقد تكفلتُ لك بالكماليات وبالجماليات، فمن باب أَوْلَى أوفر لك الضروريات.
والحق تبارك وتعالى يريد أن يرتقي بِذوْق عباده وبمشاعرهم، واقرأ مثلاً قوله تعالى: {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] يعني: قبل أن تأكل من هذه الثمار تأمل في جمالها ومنظرها البديع، وكأنها دعوة للرقي بالذوق العام والتأمل في بديع صُنْع الله.
أَلاَ ترى أن الله تعالى أباح لك النظر إلى كل الثمار لتشاهد جمالها، ولم يُبح لك الأكل إلاّ مما تملك؟ لذلك قال: {انظروا إلى ثَمَرِهِ} [الأنعام: 99] فإنْ لم تكونوا تملكونه، فكفاكم التمتُّع بالنظر إليه.
ومن هذا الارتقاء الجمالي قوله تعالى بعد أنْ حدَّثنا عن الضروريات في الأنعام: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] .(17/10813)
وقال: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] .
فأعطانا ربنا عَزَّ وَجَلَّ ضروريات الحياة، وأعطانا كمالياتها وجمالياتها. وتأمل دقة الأسلوب في {أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض} [النمل: 60] فالضمير في {خَلَقَ} ضمير الغائب (هو) يعود على الله عَزَّ وَجَلَّ، وكذلك في (وَأَنزَلَ) أما في (فَأَنْبَتْنَا) فقد عدل عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم (نحن) الدال على التعظيم، فلماذا؟
قالوا: لأن نِعَم الله فيها أشياء لا دخْل للإنسان فيها كالخَلْق وإنزال المطر، ومثل هذه المسائل لا شبهةَ لا شتراك الإنسان فيها، وهناك أشياء للإنسان دَخْلٌ فيها كالزرع والإنبات، فهو الذي يحرث ويزرع ويسقي. . الخ مما يُوحِي بأن الإنسان هو الذي يُنبت النبات، فأراد سبحانه أنْ يُزيل هذا التوهم، فنسب الإنبات صراحة إليه عَزَّ وَجَلَّ ليزيل هذه الشبهة.
وربك سبحانه وتعالى يحترم فعْلَك، ويذكر لك سَعْيك، فيقول: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون} [الواقعة: 6364] نعم لك عمل وسعي في هذه المسألة، لكنك استخدمتَ الأرض المخلوقة لله، وآلة الحديد المخلوقة لله، والبذور المخلوقة لله، والماء المخلوق لله، أما مسألة الإنبات نفسها فلا دَخْلَ لك بها، فلا تَقُلْ زرعت؛ لأننها نحن الزارعون حقيقة، لكن قُلْ: حرثتُ وسقيتُ.
لذلك تجد الرد في آخر الآية نافياً لأيِّ شبهة في أن لك دَخْلاً في مسألة الزرع: {لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65] وأكّد الفعل بلام التوكيد لينفي هذه الشبهة.
على خلاف الكلام عن الماء، حيث لا شبهة لك فيه، فيأتي نفس الفعل، لكن بدون لام التوكيد:
{أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ(17/10814)
أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 6870] .
ومعنى: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] العدل معلوم أنه صفة مدح فساعةَ تسمع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] قد تظن أنها صفة طيبة فيهم، لكن لا بُدَّ في مثل هذا اللفظ من تدقيق؛ لأنه يحمل معاني كثيرة. نقول: عدلَ في كذا يعني: أنصف، وعدل إلى كذا يعني: مال إليه، وعدل عن كذا: يعني: تركه وانصرف عنه، وعدل بكذا، يعني: سوَّى.
فالمعنى هنا {يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] عنه، ويا ليتهم يعدلون عنه فحسب، إنما يعدلون عنه إلى غيره، ويسوّون به غيره، كما قال سبحانه في موضع آخر: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .
أي: يسوُّونه سبحانه بغيره.
ثم يقول الحق سبحانه: {أَمَّن جَعَلَ الأرض}(17/10815)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
لما تكلم الحق سبحانه في الآية السابقة عن السموات والأرض أتى بأشياء مشتركة بينهما، فالسماء ينزل منها الماء، والأرض تستقبل الماء، وتنبت لنا الحدائق ذات البهجة.(17/10815)
أما في هذه الآية، فالكلام عن الأرض، لذلك ذكر لنا مسائل من خصوصيات الأرض، {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً} [النمل: 61] معنى: قراراً أي استقراراً، حيث خلقها سبحانه على هيئة مريحة تصلح لأنْ يستقرَّ عليها الإنسان.
{وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} [النمل: 61] الماء ينزل من السماء وينتفع به مَنْ سقط عليه مباشرة، أما ما ينزل على الجبال فيجتمع في الوديان وتُصنع له السدود لينتفع الناس به عند القحط، ومن الماء المطر ما ينساب في مَجَارٍ تُسمَّى الأنهار.
وتستطيع أنْ تُفرِّق بين النهر والقناة الصناعية، فالنهر ينساب الماء فيه من أعالي الجبال، ومن أماكن متفرقة تتتبع المنخفضات والسهل من الأرض الذي يستطيع الماء أنْ يشقَّ مجراه فيه فتراه ملتوياً متعرجاً، يدور حول الجبال أو الصخور ليشقَّ مجراه.
أما القناة الصناعية، فتراها على هيئة الاستقامة، إلا إذا اعترض طريق حفرها مثلاً أحد أصحاب النفوذ، فيحملهم على تعيير المسار والانحراف به ليتفادى المرور بأرضه.
وتستطيع أنْ تلاحظ هذه الظاهرة إذا تبولْتَ في أرض رملية ونظرتَ إلى مجرى البول، فتراه يسير متعرجاً حسب طبيعة الأرض التي يمرُّ بها.
{وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ} [النمل: 61] الرواسي: هي الجبال الثابتة الراسية، وفي موضع آخر بيَّن سبحانه الحكمة من هذه الجبال فقال: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] .
فالحكمة من خَلْق الجبال تثبيت الأرض حتى لا تضطرب،(17/10816)
ولو أنها خُلِقَتْ على هيئة الثبات والاستقرار لما احتاجتْ إلى الجبال، إذن: هي مخلوقة على هيئة الحركة، ولا بُدَّ لها من مُثقِّلات.
ولا تقتصر الحكمة من خَلْق الجبال على تثبيت الأرض، إنما لها مهمة أخرى في قوله تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 3233] .
فكيف تكون الجبال متاعاً للإنسان وللحيوان؟
نعم، هي متاع؛ لأنها مخزن مياه، حينما ينقطع المطر نجد المياه التي تساقطت على الجبال، إما في الأنهار، وإما في الشلالات، وخلف السدود بين الوديان، أو في العيون والآبار مما امتصته الأرض.
وكما أن الجبال هي مخازن للمياه، هي أيضاً مخازن للخصوبة التي تمدُّ الأرض الزراعية عاماً بعد عام بقدر، بحيث تستمر خصوبة الأرض، وسبق أنْ تكلمنا عن ظاهرة التعرية التي تُفتِّت الطبقة العليا من الصخور، فتنزل إلى الوديان مع ماء المطر، وتختلط بالتربة الزراعية فتزيد من خصوبتها.
ولولا صلابة الجبال وتماسك صخورها لتفتتتْ في عدة سنوات، ولفقدنا مصدر الخصوبة بعد ذلك، فهذه الظاهرة من علامات رحمة الله بخَلْقه؛ لأنها تتناسب مع الزيادة السكانية بحيث كلما زاد السكان زادتْ الرقعة الخصبة الصالحة للزراعة.
وسبق أنْ قُلْنا: إنك حين تتأمل وضع الجبال مع الوديان تجد أن الجبل مُثلث قاعدته إلى أسفل، وقمته إلى أعلى، أما الوديان فعلى عكس الجبال، فهي مثلث قاعدته إلى أعلى وقمته إلى أسفل، وهكذا(17/10817)
نرى أن كل زيادة من طَمْى الجبل والغِرْين الذي يتفتت منه يزيد في مساحة الوادي، فتزداد الرقعة الخصبة كل عام مع زيادة السكان.
لذلك يقول تعالى عن الجبال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 910] .
فجعل الجبال الرواسي هي مخازن القوت من طعام وشراب، ولك أن تتأمل نيل مصر وواديه، كيف تكوَّن من الطمي الذي حملتْه المياه من أعالي الجبال في إفريقيا، ليُكَوِّن هذه المنطقة الخِصْبة في مصر.
ثم يقول سبحانه: {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً} [النمل: 61] .
البحرين: أي العَذْب والمالح لأن الماء: منه العَذْب، ومنه المالح، ومن قدرته تعالى وحكمته أنْ يحجز بينهما، وإنْ كان الماء المالح هو مصدر الماء العَذْب، لذلك جعل الله تعالى مساحة السطح للماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وكلما اتسع سطح الماء اتسع البَخْر الذي يكوِّن السحاب، بحيث يسقط المطر الكافي لمعيشة أهل الأرض.
وما أجملَ قول الشاعر المادح:
أهدى لمجلسه الكريم وإنَّما ... أهدى لَهُ مَا حُزْتَ مَن نَعْمائِهِ
كَالبَحْرِ يُمطِرهُ السَّحابُ ومَا لَه ... فَضْلٌ عليْه لأنَّه مِنْ مَائِهِ
ولكي تعلم فضل الله علينا في إنزال المطر وتوفير الماء العَذْب،(17/10818)
انظر إلى التكلفة والمشقة التي تعانيها لتقطير عدة سنتميترات من الماء، في حين أنك لا تدري بعملية التقطير الواسعة التي تسقي البلاد والعباد في كل أنحاء الدنيا.
وقد مثَّلنْا لمسألة اتساع رقعة البَحْر بكوب الماء إذا أرقْتَه على الأرض، فإنه يجفُّ في عدة دقائق، أمّا لو تركت الماء في الكوب لعدة أيام، فإنه لا ينقص منه إلا القليل.
ومن الماء العَذْب ما سلكه الله تعالى ينابيع في الأرض ليخرجه الإنسان إذا أعوزه الماء على السطح، أو سلكه ينابيع في الأرض بمعنى أن يسير العَذْب بجوار المالح، لا يختلط أحدهما بالآخر مع ما عُرِف عن الماء من خاصية الاستطراق.
وهذه من عجائب قدرة الله الخالق، فمِنْ قَعْر البحر المالح تخرج عيون الماء العَذْب؛ لأن لكل منهما طريقاً ومسلكاً وشعيرات يسير فيها بحيث لا يبغي أحدهما على الآخر، كما قال تعالى:
{مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 1920] .
وكما أن الماء العَذْب يتسرب إلى باطن الأرض ليكوِّن الآبار والعيون، فكذلك الماء المالح يتسرب في باطن الأرض ليكوِّن من تفاعلاته الأحجار الكريمة، كالمرمر، والمعادن كالحديد والمنجنيز والجرانيت. . الخ.
وبعد أن ذكر لنا هذه الآيات الخاصة بالأرض جاء بهذا الاستفهام
{أإله مَّعَ الله} [النمل: 60] يعني خلق هذه الأشياء {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] والذين لا يعلمون أعلمناهم، وقطعنا حُجَّتهم بعدم العلم.(17/10819)
ولو نظرنا إلى الأرض لوجدنا فيها آيات أخرى غير أنها مُستقرٌّ وسَكَنٌ، فالأرض كثيفة، وفيها غبرة ليست صافية البياض؛ ذلك لأن الله تعالى يريد لها أنْ تستقبل حرارة الشمس وضوءها ليستفيد منها النبات، ولو أن الأرض كانت شفافة تعكس الضوء والحرارة لما استفاد منها النبات؛ لذلك نجد بعض المشروعات تنمو في الصيف، وأخرى في الشتاء.
ولما أجرَوْا بعض التجارب على النبات، فوضعوه في مكان مظلم، ثم جعلوا ثُقْباً في ناحية بحيث يدخل الضوء وجدوا أن النَّبْتة بما أودع الخالق فيها من غريزة تتجه ناحية الضوء لتأخذ حظها من النور والدفء، فسبحان الذي خلق فسوّى، والذي قدَّر فهدى.
ومن آيات الله في خَلْق الأرض أنْ جعلها على هيئة الحركة والدوران، لتأخذ كل مناطقها حظها من الحرارة ومن البرودة، ويتنوع فيها المناخ بين صيف وشتاء، وخريف وربيع، إنها أدوار تتطلبها مُقوِّمات الحياة.
لذلك تجد علماء النبات يُقسِّمون المناطق الزراعية على الأرض يقولون: هذا حزام القمح مثلاً، وهذا حزام الموز، وهذا حزام البطاطس، فتجد كل حزام منها يصلح لنوع خاص من المزروعات يناسب سكان هذه المنطقة وبيئتها وجوّها.
لذلك نجد أن كل نوع من المزروعات في مكانه المناسب لا تصيبه الآفات، أمّا حين يُنقل إلى مكان غير مكانه، وبيئة غير بيئته لا بُدَّ أنْ يُصاب.
وفي الأرض خاصية أخرى تتعلق بالإنسان تعلقاً مباشراً، فمن خصائص الأرض وهي من الطين الذي خُلِق منه الإنسان، فهي في(17/10820)
الحقيقة أمه الأولى فإذا مات لا يسعه إلا أحضان أمه حين يتخلى عنه أقرب الناس إليه، وألصق الناس به، عندها تستقبله الأم وتحتويه وتستر عليه كُلَّ ما يسوؤه.
ومن خصائص الأرض أنها تمتص فضلات الإنسان والحيوان ومخلَّفاته وتُحوِّلها بقدرة الله إلى مُخصِّب تزدهر به المزروعات، ويزيد به المحصول، وفي الريف يحملون رَوَثَ الحيوانات ذا الرائحة الكريهة إلى الحقول، فإذا به ينبت فيه الوردة الجميلة الذكية التي يتشوَّق الإنسان لرائحتها.
إنها عجائب في الخَلْق، لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، أتذكرون المثل الذي يقول: (فلان يعمل من الفسيخ شربات) هكذا قدرة الله التي تخلق الأضداد.
أَلاَ تروْن أن أفضل الفاكهة نأكلها الآن من الجبل الأصفر بمصر وهي تُرْوى بماء المجاري.
وبعد أنْ حدَّثنا الحق تبارك وتعالى عن هذه المظاهر العامة التي يحتاجها كل الخلق في السماء والأرض والجبال والمطر. . الخ يُحدِّثنا سبحانه عن مسائل خاصة يحتاجها إنسان دون آخر، وفي وقت دون آخر، فيقول سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر}(17/10821)