وجاء الحق سبحانه أيضاً بالتدبر، أي: ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن ينخدع بتلك الظواهر، بل لا بد من البحث في حقائق الأشياء.
لذلك يقول الحق جَلَّ وعَلاَ:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] .
أي: أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: «ثَوِّروا القرآن» أي: قَلِّبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها، فعجائب القرآن لا تنقضي.
ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلاً ما جاء على لسان سيدنا نوح:(11/6445)
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله}(11/6446)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
وهكذا يَسُدُّ نوح عليه السلام على هذا الملأ الكافر كل أسباب إعراضهم عن الإيمان، فإن ظنوا أن الإيمان يتطلب ثراءً، فنوح لا يملك خزائن لله، وهو لا يملك أكثر من هذا الملأ، وإن طلبوا أن يكشف لهم الغيب، فالغيب علمه عند الله تعالى وحده.
ولم يَدَّعِ نوح أنه من جنس آخر غير البشر، إنما هو بشر مثلهم، لا يملك ما يجبرهم به على الطاعة، ثراءً، أو جاهاً، أو علم غيب.
ولن يطرد نوح عليه السلام مَنْ آمن مِنَ الضِّعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكَّم عليهم عيون هذا الملأ الكافر؛ لأن نوحاً يخشى سؤال الله عَزَّ وجَلَّ له إن سَدَّ في وجوه الضعاف أبواب الإيمان.
ولا بد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه:
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} [هود: 31] .(11/6446)
ونلحظ هنا أن الخطاب قد حُوِّل إلى الغَيبة، فلم يخاطب نوح عليه السلام الضعاف ويقول لهم: إن الله سيمنع عنكم الخير، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم بما في نفوسهم، ولو قال نوح لهم مثل هذا القول لكان من الظالمين.
واللام في كلمة {لِلَّذِينَ} تعني الحديث عن الضعاف، لا حديثاً إلى الضعاف.
ومجيء «اللام» بمعنى «عن» له نظائر، مثل قول الحق سبحانه:
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [سبأ: 43] .
وهم هنا لا يقولون للحق، ولكنهم يقولون عن الحق، وهكذا جاءت «اللام» بمعنى «عن» .
وهكذا أوضح نوح عليه السلام أنه لو طرد من يقال عنهم «أراذل» ، لكان معنى ذلك أنه يعلم النوايا، ونوح عليه السلام يعلم يقيناً أن الله هو الأعلم بما في النفوس؛ لذلك لا يضع نوح نفسه في موضع الظلم لا لنفسه ولا لغيره.(11/6447)
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}(11/6448)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
والجدال هو قول كلام يقابل كلاماً آخر، والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الآخر عن مذهبه بحجة أو بشبهة، بهدف إسقاط المذهب.
إذن: فالجدال هو مناقشة طرفين، يتقاسمان الكلام بهدف أن يقنع أحدهما الآخر بأن ينصرف عن مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة «الجدال» مأخوذة من «الجَدْل» أي: الفَتْل، وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك، ثم ضَمِّ شعرتين إلى بعضهما، ثم القيام بِلَفِّ كل شعرتين أخريين، وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل.
ويقال للرجل القوي: «مفتول العضلات» ، أي: أن عضلاته ليست رخوة أو ضعيفة، بل مفتولة، أي: متداخلة ومشدودة.
وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل عضلة بشكل وأسلوب معين، يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلات لأداء الحركات المطلوبة منها.
فحين يرفع الإنسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة، وحين تعمل اليد فهي تحرك أكثر من عضلة، ولو تعطلت حركة عضلة واحدة، لامتنعت الحركة المقابلة لها.(11/6448)
وهم قد قالوا لنوح عليه السلام:
{قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] .
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام عاش ألف عام إلا خمسين عاماً، ومعنى ذلك أن جداله معهم أخذ وقتاً طويلاً.
والجدال يختلف عن المِرَاء، لأن الجدال إنما يكون لحقٍّ، والمراء، يكون بعد ظهور الحق.
الجدال إذن مطلوب، والحق سبحانه هو القائل:
{وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] .
وكذلك يقول سبحانه وتعالى:
{قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} [المجادلة: 1] .
إذن: فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق، شرط أن يكون جدلاً حسناً، لا احتكاك فيه ولا إيذاء.(11/6449)
وهناك فارق بين احتكاك الآراء، وتحكُّك الآراء، فالتحكك كالتلكَّك، وهو الرغبة في عدم الوصول إلى الحق، لكن الاحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق، مثلما نحكُّ الزناد بقطعة من حديد فتولد الشرر لنرى الحق، أما التحكُّك فهو يواري ويطمس الحقيقة.
والمِرَاء هو الجدَال بعد أن يظهر الحق، وهو مأخوذ من مَرَى الضَّرع، فحينَ يقومون بإنزال اللبن من ضرع الناقة أو البقرة، فالضرع يكون ملآن، وينزل منه اللبن بشدة وقوة، وبعد أن ينتهي حَلْبُ الضرع، يظل مَنْ يحلبها مُمْسِكاً بحَلَمات الناقة أو الجاموسة، ويستحلب ما بقى من اللبن، ويُقال لهذا الجزء الأخير «المريى» .
ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة «المراء» ، وهو ما بعد ظهور الحق.
وهناك بجانب الجدال والمراء، والاحتكاك، والتحكُّك، والحِجَاج؛ والمراد بالحجاج هو إظهار حجة الخصم على الخصم.
وبعد أن مَلُّوا من جدال نوح عليه السلام طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي أنذرهم به، وقد استبطأوا مجيء هذا العذاب؛ لأن نوحاً عليه السلام عاش بينهم ألف سنة إلا خمسين، وقالوا:
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32] .
وكأنهم بهذا القول قد أخرجوا نوحاً مَخْرج من بيده أن يأتي بالعذاب، أو يمنع العذاب، وهذه مسألة لا يملكها نوح، بل هي مِلْك لله سبحانه وتعالى.(11/6450)
ولذلك يُنبههم نوح عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله}(11/6451)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
لأن الحق سبحانه هو الذي يقدِّر للعذاب أواناً، ويقدِّر لكل تعذيب ميلاداً، ولا يَعْجَلُ الله بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وهم لن يعجزوا الله تعالى ولن يفلتوا منه؛ لأنه لا توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع مشيئة الله تعالى، أو أن تتأبَّى عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمَْ}(11/6451)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
والمعنى هنا: إن كان الله سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن أنصحكم؛ لأن الآية بها تعدُّد الشرطين.
ومثال ذلك من حياتنا: حين يطرد ناظر المدرسة طالباً، عقاباً له على خطأ معين، فالطالب قد يستعطف الناظر، فيقول الناظر: «إن جئتني غداً أقبل اعتذارك إنْ كان معك والدك» .(11/6451)
وقول الناظر: «إن كان معك والدك» هو شرط متأخِّر، ولكنه كان يجب أن يتقدَّم.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصددها جاء الشرط الأول متأخِّراً، ولكن هل يغوي الله سبحانه عِبادَه؟
لا، إنه سبحانه يهديهم، والغواية هي الضلال والبعد عن الطريق المستقيم.
والحق سبحانه يقول عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى} [النجم: 2] .
وقال سبحانه عن آدم عليه السلام حين أكل من الشجرة:
{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] .
ونحن يجب ألاَّ نقع في الآفة التي يخطىء البعض بها، حين يستقبلون ألفاظ العقائد على أساس ما اشتهر به اللفظ من معنى؛ فالألفاظ لها معانٍ متعددة.
لذلك لا بد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسِّياق.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] .(11/6452)
وقوله سبحانه هنا: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} .
أي: سوف يلقون عذاباً، لأن غَيَّهم كان سبباً في تعذيبهم، فسمَّى العذاب باسم مُسبِّبه.
ومثل قول الحق سبحانه:
{وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .
والحق سبحانه لا يُسيء لعباده، ولكنهم هم الذين يُسيئون لأنفسهم، فسمَّى ما يلقاهم من العذاب سيئةً.
وكذلك «الغَيُّ» يرد بمعنى «الإغواء» ، ويرد بمعنى الأثر الذي يترتب عن الغي من العذاب.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صوراً متعددة للإغواء، فآدم عليه السلام حين تَنكَّبَ عن الطريق، وأكل من الشجرة المحرَّمة رغم تحذير الحق سبحانه له ألاّ يقربها، قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف:
{وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] .
وقد فعل آدم عليه السلام ذلك بحكم طبيعته البشرية، فأراد الله تعالى أن يعلمه أنه إذا خالف المنهج في «افعل» و «لا تفعل» ستظهر عورته وتبدو له سوءاته.(11/6453)
وهكذا أخذ آدم عليه السلام التجربة ليكون مُستعِداً لاستقبال المنهج والوَحْي.
وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله:
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] .
ولكن هل أغوى الله سبحانه الشيطان؟
إن الحق سبحانه لا يُغْوِي، ولكنه يترك الخيار للمكلَّف إن شاء أطاع، وإن شاء عَصَى.
ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار، فإن أطاع الإنسان نال عطاء الله، وإن ضَلَّ، فقد جعل الله له الاختيار، ووَجَّهه لغير المراد مع صلاحيته للمراد.
إذن: فالاختيار ليس مقصوراً على الإغواء بل فيه الهداية أيضاً، والإنسان قادر على أن يهتدي، وقادر على أن يضلَّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6454)
{أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته}(11/6455)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
جاء هذا القول في صُلْب قصة نوح عليه السلام وقد يكون مما أوحى به الله سبحانه لنوح عليه السلام، أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الكلام.
والافتراء كما نعلم هو الكذب المتعمِّد الذي يناقض واقعاً.
وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد، ستجدون أنه مُلْزِمٌ للجميع، وستكون الفائدة التي تعود عليك بالتزام الجميع بما فيهم أنت فائدة كبيرة، فإن قال لك المنهج: لا تسرقْ؛ فهذا أمانٌ لك من أن يسرقك الناس.
ولذلك فساعة تسمع للمنهج، لا تنظرْ إلى المأخوذ منك، بل التفتْ إلى المأخوذ لك.
وعلى ذلك لا يمكن أن يكون المنهج افتراء.
ونحن نعلم أن المنهج يؤسِّس في المجتمعات مقاييس عادلة للاستقامة، وحين يُشَرِّع الحق سبحانه تشريعاً، قد يبدو لك أنه يُحِدُّ من حريتك، ولكنه في الواقع يُحقِّق لك منافع متعدِّدة، ويحميك من أن يعتدي الآخرين عليك.(11/6455)
وكان الردُّ على الاتهام بالافتراء يتمثَّل في أمرين: إما أن يفتروا مثله، أو أن يتحمَّل هو وِزْرُ إجرام الافتراء.
وإن لم يكن قد افتراه، فعليهم يقع وِزْرُ إجرامهم باتِّهامه أنه قد افترى.
وأسلوب الآية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الأول منها، ولو جاء بالقول دون احتباك، لقال سبحانه: قل إن افتريته فعليَّ إجرامي وأنتم براءه منه، وإنْ لم أفْتَرِ فعليكم إجرامكم وأنا برىء.
وجاء الحذف من شِقِّ المقابل من شِقِّ آخر، وهذا ما يسمَّى في اللغة «الاحتباك» .
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] .
والفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى.
وهكذا يوضِّح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى.(11/6456)
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى:
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] .
وحذف سبحانه صفة الإيمان عن الفئة الأولى، كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها تقاتل في سبيل الطاغوت والشيطان، وهذا يسمَّى «الاحتباك» .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
{قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] .
ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين خاطب قومه، فقال سبحانه:
{قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سبأ: 25] .
فلم يَقُلْ: «عَمَّا تُجرمون» . فلم يقابل إيذاءهم القوليَّ والمادِّيَّ له بإيذاء قوليٍّ.
وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] .
وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي أنزلها الله على العالم كله.(11/6457)
وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ}(11/6458)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
ومجيء «إلا» هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى «غير» أي: لن يؤمن من قومك غير الذي آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
و «إلا» هنا أيضاً بمعنى «غير» ، ولو كانت «إلا» بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه معاذ الله سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون «إلا» للاستثناء، بل هي بمعنى «غير» ، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية.
والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح عليه السلام من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة.
وهذا يعطينا تبريراً لاجتراء نوح عليه السلام على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله:(11/6458)
{رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26 27] .
وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زماناً طويلاً فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه:
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [هود: 36] .
والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}(11/6459)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة. ومعنى «أصنع» أي: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدوماً، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي، أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ.
وهناك عملية أخرى للاستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحَبَّ ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمَّى صاحب هذه المهنة «زارع» أو «فلاَّح» ؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازاً لم يكن موجوداً، والحرفيُّ هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم بعمليةٍ تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون لعرض الأشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام:
{واصنع الفلك} [هود: 37] .
أي: أوجد شيئاً من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحاً عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت في الجذع والفروع.
وبدأ نوح عليه السلام في عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها كما قيل ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعاً، وبلغ(11/6460)
ارتفاعها ثلاثين ذراعاً ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جداً لطول المدَّة التي قضاها نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضاً أن جذع الشجرة ينمو دائرياً بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة تمثِّل عاماً من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحاً عليه السلام على أن يصنع السفينة.
وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله سبحانه نبيِّه داود عليه السلام في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه جلَّ وعَلا قد أمر الجبال أو تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار:
{ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} [سبأ: 1011] .
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليِّنًا دون نار بإذنه سبحانه ليصنع منه داود دروعاً كبير مستوفية للظهور والصدر، لتحمي معاطب الإنسان.(11/6461)
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن يجعلها سابغات.
والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يُوضع العُود بجانب العود، ويربط الأعواد كلها بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو لَفِّه.
وفي نفس الآية يبيِّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة الدقيقة، فيقول سبحانه:
{وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 11] .
أي: أنك يا داود حين تنسج الحديد الليِّن بإذن الله تعالى لتجعله دروعاً عليك أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدِّرع ضيِّقة على صدر المقاتل فتضيق حركته، وتقلِّل من قدرته على التنفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال.
وكذلك يجب ألاَّ تكون الدِّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى لا تساعد سعة الدِّرع سيف الخصم، فيضرب الدِّرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدِّرع مضافة إلى قوة سيف الخصم، ولكن حين تكون الدِّرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يُكبِّل الحركة، فهذه الدِّرع المناسبة للقتال.(11/6462)
وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدُّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له: {وَقَدِّرْ} [سبأ: 11] وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان.
فعلى الذين يصنعون الأشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجِّه إلى الإتقان في الأداء والعمل، فإنه يعلمنا طريقة التقدير والإتقان في العمل والإبداع فيه، لتتخذ من هذا التوجيه نبراساً نسير عليه؛ ليكون العمل صالحاً، وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول: «الله» ، وكأن هذا القول اعتراف الفطرة الأولى بقدرة الحق سبحانه على أن يَهَبَ الإنسانَ طاقة الإتقان والإبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضاً في تعليمه لداود عليه السلام:
{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} [الأنبياء: 80] .
وهكذا يلقي الله تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن «افعل كذا» ؛ فيفعل.
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة، نجد كلَّ علومها وفنونها في التحنيط والألوان والنَّحت، كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثِّلون السلطة الدينية، ولم يكتب هؤلاء الكهنة أسرار تلك العلوم، فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها.
وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلام نجد الحق سبحانه يقول:(11/6463)
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] .
ومعنى «بأعيننا» هو بحفظنا وبرعايتنا. وكلمة «بأعيننا» تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية.
ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصُّ رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
{واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] .
وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلام:
{وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] .
وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلام من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل، وألقى الله تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون، وقال سبحانه:
{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] .
لأن موسى عليه السلام حين كان طفلاً رضيعاً قد ألقىَ في اليَمِّ،(11/6464)
والتقطه رجال الفرعون، لكن زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة:
{قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] .
ونحن نجد أن عَدُوَّ موسى وقومه، يلتقط موسى ليعيش في كنفه ورعايته، وكأن الله سبحانه يقول لهم: سأجعلكم تُربُّون مَنْ يتولّى قهركم.
وقول الحق سبحانه:
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] .
أي: إنك إن توقَّفتَ لأية عقبة، فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلام الفُلْك احتاج لألواح خشبية، ولا بد أن تتماسك تلك الألواح، ولم تكن مسامير قد اختُرعتْ بَعْدُ، فأوحى له الله تعالى أن يربط الألواح بالحبال المجدولة، وقد فعل هذا أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث، حين صنع سفينة من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلام:
{وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] .(11/6465)
أي: أن نوحاً عليه السلام قد أحضر من الخشب وربطها بحبال مجدولة، وأحْكَمَ الرَّبط بقدر مقتدر بما لا يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا، حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة، ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويٍّ، وحين يوضع فيها أي سائل، فالخشب يتشرَّب من هذا السائل ويتمدَّد ليسدَّ المسَام، فلا ينضح السائل من البرميل؛ لأن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدّد بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد بالحرارة.
ولذلك نجد النَّجَّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الأثاث أو الأبواب أو الشبابيك في الفصول الرتيبة؛ لأنه إن صنعها في الصيف، سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء الشتاء تمدَّد ذلك الخشب وسبَّب عدم إحكام إغلاق الأبواب والنوافذ، وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدِّد سيأتي الصيف وتنكمش الأبواب، وتكون لها متاعبها، فلا يسهل ضبط إغلاق الأبواب أو ضبط أي صندوق أو شبَّاك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه:
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] .
أي: لا تحدِّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر، وهم مَن ارتكبوا الظلم العظيم، وهو الكفر في القمة العقدية، وهي الإيمان بالله تعالى واحداً أحداً لا شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب، وهو الإغراق.(11/6466)
وهكذا عَلِمَ نوح عليه السلام أنَّ صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على مَنْ كفروا برسالته، فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون، أما مَنْ كفر فلسوف يغرق.
ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى حين يقول: {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ}(11/6467)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
وكان السادة والكبراء من ملأ نوح يمرون عليه وهو يصنع السفينة يسخرون منه، بما يعني: ها هو بعد أن ادَّعى النبوة يتحوَّل إلى نجَّار، ثم يتساءلون: كيف تصل هذه السفينة من «الموصل» إلى البحر؟
ولم يكونوا قد علموا ما علمه نوح عليه السلام من أن الماء هو الذي سوف يأتي ليحمل السفينة.
ونحن نلحظ في قول الحق سبحانه وتعالى:
{وَيَصْنَعُ الفلك} [هود: 38] .
تنفيذ الأمر الذي صدر من الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام حين قال سبحانه:
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] .(11/6467)
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}(11/6468)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
ونلحظ في قول الحق سبحانه: {فَسَوْفَ} {تَعْلَمُونَ} أن الفعل الذي يعلمه نوح عليه السلام وهو أمر الإغراق سيحدث مستقبلاً؛ لأن أي حدث كما نعلم له أكثر من صورة، فإن جاء الكلام عن الحدث بعد وقوعه؛ كان الفعل ماضياً، وإن جاء الكلام وقت الحدث كان الفعل مضارعاً.
وإن جاء الكلام عن حدث لم يأت زمنه فالأمر يقتضي أن نسبق الكلام عن الحدث بحرف «السين» كأن نقول: «سيعلمون» وهذا عن الاستقبال القريب، أما عن الاستقبال البعيد فتأتي كلمة «سوف» .
ونحن نعلم أن نوحاً عليه السلام قضى العديد من السنين وهو يصنع السفينة؛ ولذلك جاء ب «سوف» لتدل على أوسع مَدًى زمنيٍّ.
وما الذي سوف يعلمونه؟ إن العذاب، أيأتي لنوح ومن معه أم يأتي للذين كفروا من ملأ نوح.
لذلك يقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 39] .(11/6468)
وفي هذا القول ما يؤكِّد أن نوحاً عليه السلام يعلم أن العذاب سوف يأتيهم؛ لأنهم كفروا وسَخِروا وقالوا:
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [هود: 32] .
وقول الحق سبحانه:
{وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} هود: 39] .
نجد فيه كلمة {يَحِلُّ} وهي ضِدُّ الرحيل، وتفيد النزول من أعلى إلى مكان الإقامة، فَحَلَّ بالمكان، أي: نزلَ ليقيم به، والضِّدُّ هو الرحيل أو الترحال.
وقول الحق سبحانه: {مُّقِيمٌ} يعني أن العذاب الذي سيحِلُّ بهم عذاب دائم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور}(11/6469)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
وكلمة {حتى} تدل على الغاية وكلمة {أَمْرُنَا} تدل على الطوفان، ثم الأمر من الحق سبحانه بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، ومَنْ آمن معه وكانوا قِلَّة قليلة.
إذن: ففي قصة نوح عليه السلام أكثر من مرحلة، أمر من الله تعالى بقوله:
{واصنع الفلك} [هود: 37] .
وعمل من نوح عليه السلام بأن يصنع، وقد استغرق هذا الفعل وقتاً طويلاً من نوح عليه السلام إلى أن جاء أمر الطوفان الذي يدل عليه قول الحق سبحانه:
{وَفَارَ التنور} [هود: 40] .
ومعنى كلمة {فَارَ} أي: أن الماء قد وصل إلى درجة الغليان.
فالماء يحتوي على هواء بدليل أن السمك يتنفس من الماء، وحين نغلي الماء نرى فقاقيع الهواء وهي تخرج من الماء، ثم يثقل الماء إلى أن تشتد سخونة الغليان، فيفور الماء منثوراً خارج إناء الغليان.
و «التنور» هو المكان الذي تتم فيه عملية الخبز، وخروج الماء من التنور هو علامة مميزة يعلمها نوح عليه السلام ليحمل من يريد نجاتهم، من المؤمنين، ومن متاع الدنيا كله.
وكانت العلامة هي خروج الماء من غير مَظَانِّه وهو التنور.
واختلف العلماء في تفسير كلمة «التنور» فمنهم من قال: إن التنور هو(11/6470)
المكان الذي كان آدم عليه السلام يخبز فيه، أو هو المكان الذي كانت تعمل فيه حواء، أو هو بيت نوح، أو هو بيت سيدة عجوز.
وكل تلك التفسيرات لا تفيد ولا تضرُّ، المهم أن فوران التنور كان علامة بين نوح عليه السلام وربه، وأنه إذا ما فار التنور فعَلَى نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين.
وقول الحق سبحانه:
{احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] .
تعني: أن يحمل من كل الكائنات، وتدل على ذلك كلمة {كُلٍّ} المنونة وتفيد التعميم أي: احمل في السفينة من كل شيء، تطلبه حياة الناجين من جميع أصناف النباتات والحيوانات، حتى الخنزير كان ضمن ما حمله نوح عليه السلام.
والذين يقولون إن تحريم الخنزير جاء؛ لأن نوحاً عليه السلام لم يحمله معه، لم يفطنوا إلى أهمية الخنزير كحيوان يأكل القاذورات وينظف الأرض منها؛ لأن كل كائن له مهمة، وليست مهمة الكائنات فقط أن يأكلها الإنسان.
وكلمة:
{زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] .
تدل على أن كلمة «زَوْجٍ» هي مفرد؛ بدليل قول الحق سبحانه:(11/6471)
{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] .
إذن: كلمة «زَوْجٍ» تعني مفرد معه مثله، كزوج من الأحذية مثلاً.
أقول ذلك حتى لا نأخذ كلمة «الزوج» على أنها اثنان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى.
{ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين قُلْءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين}
[الأنعام: 143144] .
وحين نجمع العدد سنجده ثمانية، ولو كانت كلمة «زوج» تطلق على الاثنين لصار العدد في تلك الآية الكريمة ستة عشر.
ويوضِّح القرآن الكريم أن كلمة «زوج» مفرد في قول الحق سبحانه:
{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى} [القيامة: 3739] .
إذن: فالذكر زوج، والأنثى زوج أيضاً.
وواصل نوح عليه السلام تنفيذ أمر الحق سبحانه:(11/6472)
{احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] .
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يستبقي الحياة بنجاة كل ما تحتاجه الحياة بالسفينة، ويقال: إنهم عاشوا في تلك السفينة عامين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا}(11/6473)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
هذه هي المرحلة الأخيرة في قصة السفينة، وبدأت القصة بأمر من الله سبحانه لنوح عليه السلام أن اصنع الفلك، ثم تمهيد من نوح لقومه، ثم ظل يصنع الفلك حتى جاءت إشارة البدء بعلامة:
{وَفَارَ التنور} [هود: 40]
وحَمَلَ نوح عليه السلام في الفُلْك بأمر من الله تعالى من كل شيء زوجين اثنين، وأهله ومَنْ آمن معه.
وقال نوح عليه السلام لمن آمن:
{اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] .(11/6473)
وهذا القول منسوب لنوح عليه السلام؛ لأنه أضاف:
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] .
والركوب يقتضي أن يكون الراكب على المركوب، ومستعلٍ عليه. والاستعلاء يقتضي أن يكون الشيء المُستعلَى عليه في خدمة المُستعلِي، فكأن تسخير الله سبحانه للسفينة إنما جاء ليخدم المستعلِي.
ولكن الله تعالى يقول هنا:
{اركبوا فِيهَا} [هود: 41] .
ولم يقل: «اركبوا عليها» .
قال الحق سبحانه وتعالى ذلك؛ ليعطينا لقطة عن طريق صنع السفينة، فقد صنعها نوح عليه السلام بوحي من الله تعالى على أفضل نظام في البواخر، ولم يصنعها بطريقة بدائية، فهم إذن لم يركبوها على سطحها، بل تم بناؤها بما يتيح لهم السكن فيها، خصوصاً وأن تلك السفينة تحمل وحوشاً وهواماً وحيوانات بجانب البشر، لذلك كان لا بد من بنائها على هيئة طبقات وأدوار.
وقول الحق سبحانه:
{بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] .
يُبيِّن لنا أنها قد صُنعت لتُنجي من الغرق؛ لذلك لا بد أن تسير بالراكبين فيها إلى مكان لا يصله الماء، ولا بد أن يكون هذا المكان عالياً؛ ليتيح(11/6474)
الرُّسُوَّ، كما أتاح الفيضان عملية الجريان.
وهكذا كان جريانها باسم الله، ورُسُوُّها بإذنه سبحانه.
وقول نوح عليه السلام:
{بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] .
يعلِّمنا أن جريانها إنما يتمُّ بمشيئة الله تعالى وأنهم يركبون فيها، لا لمكانتهم الشخصية، ولكن لإيمانهم بالله تعالى.
ومثال ذلك من حياتنا ولله المثل الأعلى: نجد القاضي يقول مفتتحاً الحكم: «باسم الدستور والقانون» أي: أنه لا يحكم بذاته كقاضٍ، لكنه يحكم باسم الدستور والقانون.
ونوح عليه السلام يقول:
{بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]
لأن السفينة لله أمر، ولرسوله صناعة.
ولذلك يقال: «كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبْتر» .
لأنك حين تُقبل على فعل شيء، فالأفعال أو الأحداث تحتاج إلى طاقات متعددة، فإن كان الفعل عضليّا، فهو يحتاج لقوة، وإن كان الفعل عقليّا فهو يحتاج لفكر ورويَّة وأناة، وإن كان فعلاً فيه مواجهة لأهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة، وإن كان من أجل تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحِلْم؟
إذن: فاحتياجات الأحداث كثيرة ومختلفة، ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول: «باسم القوي القادر» ولكي تحصل على علم؛ تقول: «باسم العليم» ، وتريد الغني؛ فتقول: «باسم الغنيِّ» وحين تحتاج إلى الحلم تقول: «باسم الحليم» ، وعندما تحتاج إلى الشجاعة؛ تقول: «باسم القهار» .(11/6475)
وقد يحتاج الفعل الواحد لأشياء كثيرة، والذي يُغْنِي عن كل ذلك أن تنادي ربك وتتبرَّك باسم واجد الوجود وهو الله سبحانه وتعالى، ففيه تنطوي كل صفات الكمال والجلال.
وإياك أن تتهيَّب أو تستحي، بل ادخل على كل أمر باسم الله، حتى لو كنت عاصياً؛ لأن الحق سبحانه رحمن رحيم.
وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلام:
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [هود: 41] .
إنما يقصد أن هؤلاء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر، ولم يطبِّقوا كغالبية البشر كل التكاليف؛ لأنهم ليسوا ملائكة.
لذلك قَدَّر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم يؤاخذهم بها.
هذه هي الميزة في قول: «بسم الله الرحمن الرحيم» .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك يَصفُ السفينة ورُكَّابها: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال}(11/6476)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
وجرت بهم السفينة، لا بين موج هائج فحسب، ولكن كان الموج كالجبال، وهذا يدل على أنها مُسيَّرة بقوة عالية لا تؤثر فيها الأمواج، ثم يجيء الحديث عن عاطفة الأبوة حين ينادي نوح ابنه:
{ونادى نُوحٌ ابنه وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يابني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} [نوح: 42] .
ورفض الابن مطلب أبيه معتمداً على أن الجبل يحميه.
وفي هذا يقول الحق سبحانه مبيناً مُراد الابن في مُخالفة مراد أبيه: {قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء}(11/6477)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
هكذا ظن ابن نوح أنه سينجو إن آوى إلى جبل، لعل ارتفاع الجبل يعصمه من الغرق، لكن نوحاً عليه السلام يعلم أن لا نجاة لكافر، بل النجاة فقط هي لمن رَحِمَهُ اللَّهُ بالإيمان.
وهكذا فرَّق الموج بين نوح وابنه؛ وغرق الابن.(11/6477)
وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلام عن نوح عليه السلام، فجاء بلقطة استواء السفينة على الجودي.
ويقال: إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال: إنه ناحية الكوفة، وإن كان هذا القول مجرد علم لا ينفع، والجهل به لا يضر.
ويقول الحق سبحانه: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ}(11/6478)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
والبلع هو مرور الشيء من الحَلْق ليسقط في الجوف، وساعة أن يأتي في القرآن أمر من الله تعالى مثل:
{وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} [هود: 44] .
فافهم أن القائل هو من تَنْصَاع له الأرض.
ولم يَقُل الله سبحانه: «قال الله يا أرض ابلعي ماءك» ؛ لأن هناك أصلاً متعيّناً وإنْ لم يقُله، والحق سبحانه يريد أن ينمِّي فينا غريزة وفطنة الإيمان؛ لأن أحداً غير الله تعالى ليس بقادر على أن يأمر الأرض بأن تبلع الماء.(11/6478)
ويكون أمره سبحانه للسماء: {وياسمآء أَقْلِعِي} أي: أن توقف المطر.
وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصبَّ، وأعطى الأمر للمصرف أن يسحب الماء.
ونحن نلاحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحيِّ تطفح إن كان هناك ما يسدُّ تصريف الماء؛ لأن أرض المدن حالياً صارت من الأسفلت الذي لا يمتص المياه؛ ولذلك نجد الجهات المختصة تجنِّد طاقاتها لإصلاح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى لا تتعطل حركة الحياة.
وأقول هنا: إن حُسن استخدام الماء من حُسن الإيمان؛ لأني ألحظ أن الناس حين يتوضأون فهم يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيراً عن حاجتهم للوضوء الشرعي، فيجب ألا نرتكب إثم ترك الماء النقيِّ ليضيع دون جدوى.
وعلى الناس أن يدَّخروا الماء، ولا يُسيئوا استغلاله؛ لأن الماء حين يتوفَّر فهو يُحيي الأموات، ونحن نحتاج الماء لاستزراع الصحاري، ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات الصرف الصحيِّ.
باختصار؛ نحن نحتاج إلى حُسن استقبال نِعَمِ الله تعالى وحُسن التصرُّف فيها؛ لننعم بها، ونسعد بخيرها.
وقول الحق سبحانه:
{وياسمآء أَقْلِعِي} [هود: 44] .
أي: اتركي المطر. . ومن ذلك أخذنا كلمة «قِلْع» الذي يوضع فوق السفن الشراعية الصغيرة، وهو الشِّراع.(11/6479)
ويُقال: «أقلعت المركب» أي: تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على الشاطىء.
ويقول الحق سبحانه:
{وَغِيضَ المآء} [هود: 44] .
وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول؛ لنعلم أن الله تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض.
ومادة «غاض» تُستعمل لازمةً، وتُستعمل متعديةً.
ثم يقول سبحانه:
{واستوت عَلَى الجودي} [هود: 44] .
أي: استقرت السفينة على جبل الجودي.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [هود: 44] .
وهو بعدٌ نهائيٌّ إلى يوم القيامة.
وتتحرك عاطفة الأبوة في نوح عليه السلام، ويظهرها قول الحق سبحانه: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي}(11/6480)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
وعاطفة الأبوة عاطفة محمودة، والحق سبحانه يشحن بها قلب الأب على قَدْر حاجة البنوة، ولو لم تكن تلك العاطفة موجودة، لما تحمُّل أيُّ أبٍ أو أيُّ أمٍّ متاعب تربية الأبناء.
وحتى نعلم أن الأنبياء لا بنوة لهم إلا بنوة الاتِّباع نجد المثل في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حين قال فيه الحق سبحانه:
{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] .
أي: أن أداء إبراهيم عليه السلام للتكاليف كان على وجه التمام، مثلما أراد أن يرفع القواعد من البيت، فرفعها فوق قامته بالاحتيال، فاحضر حجراً ووقف عليه ليُعلي جدار الكعبة.
وقال له الله تعالى:
{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] .
لأنك مأمون على منهج الله وقادر على أن تنفِّذه بدقة، فقال إبراهيم عليه السلام:
{وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .
فقال الحق سبحانه:(11/6481)
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
من هذا نعلم أن النبوَّة ليس لها بنوَّة، بل النبوَّة لها أتباع.
ويتضح ذلك أيضاً في قول إبراهيم عليه السلام بعد أن استقرَّ في ذهنه قول الحق سبحانه:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
قال إبراهيم لربه سبحانه طلباً للرزق لمكة وأهلها:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126] .
هكذا طلب إبراهيم عليه السلام الرزق للمؤمنين، لكن الحق سبحانه يبيِّن له أنه نقل المسألة إلى غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر، لكن تكليفات الألوهية هي للمؤمن فقط؛ لذلك قال الحق سبحانه:
{وَمَن كَفَرَ} [البقرة: 126] .
أي: أن الرزق يشمل المؤمن والكافر، عطاء من الربوبية.
ونريد أن نقول إنَّ عاطفة الأبوة والأمومة إنما تتناسب مع حاجة الابن تناسباً عكسيّا، فإن كان الابن قوّياً فعاطفة الأبوة والأمومة تقلُّ.
ومثال ذلك: أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر الأبوين ويتكفَّل بهما، بينما الابن الآخر فقير لا يقدر على رعاية الأبوين.(11/6482)
وسنلحظ أن قلب الأب والأم يكون مع الفقير، لا مع الغَنيِّ، فعاطفة الأبوة والأمومة تكون مع الضعيف والمريض والغائب، وكلما كان الابن في حاجة؛ كانت العاطفة معه.
وفي نداء نوح عليه السلام لربه سبحانه نلحظ أن نوحاً كان يملك المبرِّر طلباً لنجاة الابن؛ لأن الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كلٍّ زوجين اثنين وكذلك أهله، فأراد نوح عليه السلام أن يطلب النجاة لابنه من أهله، فقال:
{رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} [هود: 45] .
إذن: فنوح عليه السلام يملك حق الدعاء؛ لأنه يطلب تحقيق وعد الله تعالى بأن يحمل أهله معه للنجاة.
وحين يقول نوح: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} هو إقرار بأن الله سبحانه لا يخطىء؛ لأن الابن قد غرق، بل لا بد أن ذلك الغرق كان لحكمة.
ويقول الحق سبحانه: {قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}(11/6483)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيَّه نوحاً إلى أن أهليَّة الأنبياء ليست أهلية الدم واللحم، ولكنها أهلية المنهج والاتِّباع، وإذا قاس نوح عليه السلام ابنه على هذا القانون، فلن يجده ابناً له.
ألم يقل نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن سلمان الفارسي: «سلمان منَّا آل البيت» .
إذن: فالبنوة بالنسبة للأنبياء هي بنوة اتِّباع، لا بنوة نَسَب.
وانظر إلى دقة الأداء في قول الله تعالى:
{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] .
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله:
{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
فكأن البنوة هنا عمل، وليست ذاتاً، فالذات منكورة هنا، والمذكور هو العمل، فعمل ابن نوح جعله غير صالح أن يكون ابناً لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للأنبياء ليس الدم، وليس الشحم، وليس اللحم، إنما هو الاتِّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ولو كان عملاً صالحاً لكان ابنه.
ويقول الحق سبحانه:
{فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] .(11/6484)
والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكِّر جيِّداً قبل أن يسأل، فلا غبار على الأنبياء حين يربيِّهم ربُّهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ}(11/6485)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
وهنا يدعو نوح عليه السلام ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله، وهو هنا يقرُّ بأنه لما أحبَّ أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله، ولكن الحق سبحانه وتعالى وحده هو القادر على أن يمنع من قبله مثل هذا السؤال، وهذه قمة التسليم لله تعالى.
وقول نوح عليه السلام:
{إني أَعُوذُ بِكَ} [هود: 47] .
يوضِّح لنا أن الإنسان لا يعوذ من شيء بشيء إلا إن كانت قوته لا تقدر على أن تمتنع عنه.
ولذلك يستعيذ نوح عليه السلام من أن يسأل ما ليس له به علم، ويرجو مغفرة الله سبحانه وتعالى ورحمته حتى لا يكون من الخاسرين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6485)
{قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ}(11/6486)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
وقوله الحق سبحانه:
{اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [يونس: 48] .
يدل على أن نوحاً عليه السلام قد تلقَّى الأمر بالنزول من السفينة ليباشر مهمته الإيمانية في أرض فيها مقومات الحياة، مما حمل في تلك السفينة من كلٍّ زوجين اثنين، ومن معه من المؤمنين الذين أنجاهم الله تعالى، وأغرق مَنْ قالوا عليهم إنهم أراذل.
وقول الحق سبحانه:
{أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] .
تضمَّن أهل نوح عليه السلام ومَنْ آمن به، وكذلك أمم الوحوش والطيور والحيوانات والدواب.(11/6486)
أي: أنها إشارة إلى الأمة الأساسية، وهي أمة الإنسان وإلى الأمم الخادمة للإنسان، وهكذا توفرت مقومات الحياة للمؤمنين، ويتفرَّغ نوح وقومه إلى المهمة الإيمانية في الأرض.
وقول الحق سبحانه:
{اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48] .
والمقصود بالسلام هو الأمن والاطمئنان، فلم يَعُدْ هناك من الكافرين ما ينغِّص على نوح عليه السلام أمره، ولن يجد من يكدِّر عليه بالقول:
{جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] .
ولن يجد مَنْ يتهمه بالافتراء.
ومَنْ بقي مع نوح هم كلهم من المؤمنين، وهم قد شهدوا أن نجاتهم من الغرق قد تمت بفضل المنهج الذي بلَّغهم به نوح عن الله تعالى.
وقول الحق سبحانه:
{وَبَركَاتٍ} [هود: 48] .
يعني أن الحق سبحانه يبارك في القليل ليجعله كثيراً.
ويقال: «إن هذا الشيء مبارك» كالطعام الذي يأتي به الإنسان ليكفي اثنين، ولكنه فوجىء بخمسة من الضيوف، فيكفي هذا الجميع.
إذن: فالشيء المبارك هو القليل الذي يؤدِّي ما يؤدِّيه الكثير، مع مظنَّة أنه لا يفي.(11/6487)
وكان يجب أن تأتي هنا كلمة {وَبَركَاتٍ} لأن ما يحمله نوح عليه السلام من كلٍّ زوجين اثنين إنما يحتاج إلى بركات الحق سبحانه وتعالى ليتكاثر ويكفي.
وقول الحق سبحانه:
{وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] .
هذا القول يناسب الطبيعة الإنسانية، فقد كان المؤمنون مع نوح عليه السلام هم الصفوة، وبمضيِّ الزمن طرأت الغفلة على بعضٍ منهم، ويأتي جيل من بعدهم فلا يجد الأسوة أو القدوة، ثم تحيط بالأجيال التالية مؤثرات تفصلهم تماماً عن المنهج.
وفي هذا يقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ينام الرجل النومة فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتُقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه مُنتبراً، وليس فيه شيء، ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله، فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، حتى يقال للرجل: ما أجلده {ما أظرفه} ما أعقله! وما في قلبه(11/6488)
مثقال حبة من خَرْدلٍ من إيمان» .
وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج، ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تُعرض الفِتَن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّما قلب أشْرِبَها نُكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا لا تضرُّه فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْباداً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشْرِبَ مِنْ هَواه» .
وأعوذ بالله تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب.
والحق سبحانه يتحدث في هذه الآية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلام وهم صفوة من المؤمنين، لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة، وسيمتِّعهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بمتاع الدنيا، ولن يضنَّ عليهم، ولكن سَيَلحقُهم العذاب.(11/6489)
فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثِّرين اثنين:
المؤثر الأول: غفلته هو.
المؤثر الثاني: أسوة الغافلين من السابقين عليه.
ونحن نعلم أن مِنْ ذرية نوح عليه السلام «قوم عادٍ» الذين أرسل الحق سبحانه إليهم هوداً عليه السلام، وكذلك «قوم ثمود» الذين أرسل إليهم أخاهم صالحاً عليه السلام، وقوم لوطٍ، وهؤلاء جميعاً رَانَتِ الغفلة على قلوبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ}(11/6490)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
وكلمة «تلك» إشارة وخطاب، والمخاطب هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و «التاء» إشارة إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب، ولم يكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاصراً لها ولا يعلمها هو، ولا يعلمها أحد من قومه.
وأنت يا رسول الله لم يُعلَم عنك إنك جلستَ إلى معلِّم، ولم يذكر عنك أنك قرأت في كتاب؛ ولذلك يأتي في القرآن:(11/6490)
{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44] .
وجاء:
{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .
إذن: فما دمتَ يا محمد لم تقرأ ولم تتعلَّم عن معلِّم فمَن علَّمك؟
إنما عَلَّمك الله سبحانه.
وكأن الله سبحانه وتعالى علَّم رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلِّمه إلى خصومة ولا أعدائه.
ولذلك يأتي القول الكريم: {فاصبر} ؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه:(11/6491)
{إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .
تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح، ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لا يُرسل رسولاً إلا إذا عَمَّ الفساد.
إذن: فقد حصلت الغفلة من بعد نوح، وانضمَّت لها أسوة الأبناء بالآباء فانطمس المنهج، وعزَّ على الموجودين أن يقيموه.
والله سبحانه وتعالى لا يبعث برسلٍ جُددٍ إلا إذا لم يوجد في الأمة من يرفع كلمة الله؛ لأننا نعلم أن المناعة الإيمانية في النفس الإنسانية قد تكون مناعة ذاتية، بمعنى أن الإنسان قد تُحدِّثه نفسه بالانحراف عن منهج الله، لكن النفس اللوَّامة تردعه وتردُّه إلى الإيمان.
أما إذا تصلَّبتْ ذاتُه، ولم توجد لديه نفس لوَّامة، فالمناعة الذاتية تختفي، ولكن قد يقوم المجتمع المحيط بِلَوْمِهِ.
ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية، والمناعة من المجتمع فلا بد أن يبعث ربُّ العزة سبحانه برسولٍ جديدٍ، وبيِّنة جديدة، وبرهان جديد.
هكذا حدث من بعد نوح عليه السلام.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}(11/6492)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
يفتتح الحق سبحانه الآية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم، فيُخبرهم أنه أخوهم، ولا يمكن للأخ أن يريد لهم العَنَتَ، بل هو ناصح، مأمون عليهم، وعلى ما يبلغهم به.
وحين يقول لهم:
{ياقوم} [هود: 50] .
فهذا للإيناس أيضاً.
ثم يدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده؛ لأنهم اتخذوا غير الله إلهاً، وهذا قمة الافتراء.
والله سبحانه لم يقل:
{إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] .
إلا لأن الفساد قد طَمَّ.
ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود: {ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}(11/6493)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
وكأن هوداً عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشقُّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدِّم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجراً، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالاً مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة تَرْك ما تَعوَّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة.
وما دُمْتُ لن آخذ منكم أجراً، إذن: فلا مشقة أكلِّفكم بها، كما أنني في غِنًى عن ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود: 51] .
أي: أنَّ أجري على مَنْ خَلَقني مُعَدّا لهذه الرسالة؛ لأن الفطرة تعني التكوين الأساسي للإنسان.
والحق سبحانه قد أعدَّ هوداً عليه السلام ليكون رسولاً، ونحن نعلم أيضاً أن الأجر يكون عادة مقابلاً للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتاً، فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه، وتُسمَّى هذه العملية بيعاً وشراءً.
أما إذا استأجر الإنسان بيتاً فهو يدفع إيجاراً مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلام:
{لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] .
يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجراً كبيراً مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلاً لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة!(11/6494)
ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة:
{لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [هود: 51] .
إلا إبراهيم وموسى عليهما السلام؛ فسيدنا إبراهيم لم يَقُلْها بسبب أبيه، وسيدنا موسى لم يقلها؛ لأن فرعون قال له:
{أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] .
إذن: كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة الجَمَّة، وهي المنهج الرِّسالي الذي جاء به هود عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام مخاطباً قومه: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ}(11/6495)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
وهكذا نعلم أن الاستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب، فنقول يارب اغفر لنا.
وساعة تطلب المغفرة من الله تعالى، فهذا إعلان منك بالإيمان، واعتراف بأن تكليف الحق لك هو تكليف حق.
وما دام الإنسان قد طلب من الله تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب، فعليه ألا يرتكب ذنوباً جديدة، وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي.
وعلى الإنسان أن يتذكّر أن ما به من نعمة فمن الله، وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر الله تعالى؛ فلا تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم.
والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولاً، فأول ما ينزل به الرسول إلى الأمة هو أن يصحِّح العقيدة في قمتها، ويدعوهم إلى الإيمان بإله واحد يتلقَّون عنه «افعل» و «لا تفعل» .
وهنا يكون الكلام من هود عليه السلام إلى قومه «قوم عاد» ، والدعوة إلى الإيمان بإله واحد وعبادته، والأخذ بمنهجه لا يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية الله تعالى، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.
ولكن عبادة الله تعالى هي أن تؤدِّي الشعائر والعبادات، وتتقن كل عمل في ضوء منهج الله، فلا تعزل الدين عن حركة الحياة.
والذين يخافون من دخول الإسلام في حركة الحياة، يريدون منَّا أن نقصر الدين على الطقوس، ونقول لهم: إن الإسلام حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها، وحارب حضارتين عريقتين؛ حضارة الفرس في الشرق، وحضارة الرومان في الغرب.(11/6496)
وهؤلاء كانوا أمماً لها حضارات قديمة وقوية، وثقافات وقوانين، ومع ذلك جاء قوم من البدو الأمِّيين؛ يقود عقيدتهم رجلٌ أمِّيٌّ أرسله الله سبحانه وتعالى؛ فيطيح بكل هؤلاء؛ نظماً وثقافات وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقل.
يريد هؤلاء إذن أن يقوقعوا الإسلام في الأركان الخمسة فقط؛ ليعزلوه عن حركة الحياة.
ونقول لهم: لا، لا يمكنكم أن تقصروا العبادات على الأركان الخمسة فقط؛ لأن العبادة معناها أن يوجد عابد لمعبود حقٍّ، وأن يطيع العابد أوامر المعبود؛ وتتمثَّل أوامر المعبود في «افعل» و «لا تفعل» ؛ وما لم يَردْ فيه «افعل» و «لا تفعل» ؛ فهو مباح؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛ وبفعله أو عدم فعله لا يفسد الكون.
إذن: فالعبادة هي كل أمر صادر من الله تعالى؛ فلا تعزلوها في الطقوس؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبلغنا؛ وأوضح لنا أن أركان الإسلام الخمس هي التي بني عليها الإسلام؛ وليست هي كل الإسلام.
إذن: فالإسلام بناء يقوم على أركان؛ لذلك لا يمكن أن نحصر الإسلام في أركانه فقط؛ فالإسلام هو كل حركة في الحياة، ولا بد(11/6497)
أن تنتظم حركات البشر تبعاً لمنهج الله، لتنتظم الحياة كما انتظم الكون من حولنا.
فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة، وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب العبادات في تقسيم الفقهاء، وأغفلوا أن باب المعاملات هو من العبادة أيضاً، واستقامة الناس في المعاملات تؤدي إلى انتظام حياة الناس.
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
{وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} [هود: 52] .
والاستغفار لا يكون إلا عن ذنوب سبقت؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه السلام لقومه؛ إذن: فالاستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول الذي جاء من قبله، أو هي الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة.
ثم يدعوهم بقوله: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 52] .
والتوبة تقتضي العزم على ألا تُنشئوا ذنوباً جديدة.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] .
ولقائل أن يقول: وما صلة الاستغفار بهذه المسألة الكونية؟
ونقول: إن للكون مالكاً لكلِّ ما فيه؛ جماده ونباته وحيوانه؛ وهو سبحانه قادر، ولا يقدر كائن أن يعصي له أمراً؛ وهو القادر أن يخرج الأشياء عن طبيعتها؛ فإذا جاءت غيمة وتحسب أنها ممطرة؛ قد يأمرها الحق سبحانه فلا تمطر.(11/6498)
مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم:
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] .
إذن: فلا تأخذ الأسباب على أنها رتابة؛ إنما ربُّ الأسباب يملكها؛ فإن شاء فعل ما يشاء.
وإذا ما عبدتَ الله تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة؛ فأنت تُقبل على عمارة الأرض؛ وتوفِّر لنفسك القُوْتَ باستنباطه من الأسباب التي طمرها الله سبحانه وتعالى في الأرض.
والقوت كما نعلم من جنس الأرض؛ لذلك لا بد أن نزرع الأرض؛ وتَمُدَّ البذور جذورها الضارعة المسبِّحة الساجدة لله تعالى؛ فيُمطر الحقُّ سبحانه السماءَ؛ فتأخذ البذور حاجتها من الماء المتسرِّب إليها عبر الأرض؛ ونأخذ نحن أيضاً حاجتنا من هذا الماء.(11/6499)
والسماء هي كل ما عَلاكَ فأظلَّكَ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر، وكل الأشياء دونها.
وانظروا قول الحق سبحانه:
{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] .
أي: من كان يظن أن الله تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما علاه ويعلِّق نفسه فيه؛ ولسوف يموت، وغيظه لن يرحل عنه.
{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} [هود: 52] .
والمدرار: هو الذي يُدِرُّ بتتابع لا ضرر فيه؛ لأن المطر قد يهطل بطغيان ضارٍّ، كما فتح الله سبحانه أبواب السماء بماء منهمر.
إذن: المدرار هو المطر الذي يتوالى توالياً مُصلحاً لا مُفسداً.
ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول حين ينزل المطر: «اللهم حوالينا ولا علينا» .
ومتى أرسِل المطر مدراراً متتابعاً مصلحاً؛ فالأرض تخضرُّ؛ وتعمر الدنيا؛ ونزداد قوة إلى قوتنا.(11/6500)
أما مَنْ يتولَّى؛ فهو يُجرم في حقِّ نفسه؛ لأن إجرام العبد إنما يعود على نفسه؛ لا تظنّ أن إجرام أَيِّ عبدٍ بالمعصية يؤذي غيره.
والحق سبحانه يقول:
{ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] .
ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالردِّ الذي قاله قوم عاد: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ}(11/6501)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
وهم هنا ينكرون أن هوداً قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ.
والبيِّنة كما نعلم هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هوداً هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت برداً وسلاماً عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام:(11/6501)
{ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] .
أي: إن كنتم أهلاً للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان.
وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحداً لن يستطيعَ إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله. . ما حدث هذا أبداً.
إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونحن نعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل عليهم جميعاً السلام قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفىء.(11/6502)
فمثلاً شفى عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص بإذن ربه فمَنْ رآه آمن به، ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى عليه السلام ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل قيام الساعة أن يقول: محمد رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء رسولاً عامّا؛ ولا رسول من بعده؛ لذلك كان لا بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له:
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 92] .
وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد:
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ}
[العنكبوت: 51] .(11/6503)
ومع ذلك كذَّبوا.
وأضاف قوم عاد:
{وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] .
هم إذن قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الأصنام «آلهة» ؛ لأن الإله مَنْ يُنزل منهجاً يحدِّد من خلاله كيف يُعْبَد؛ ولم تَقُل الأصنام لهم شيئاً؛ ولم تُبلغهم منهجاً.
إذن: فالقياس المنطقي يُلغي تَصوُّر تلك الأصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟
لقد عبدوها؛ لأن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها أوامر تحدُّ من شهوات النفس، فهذه الأوامر قد تكون صعبة على النفس، أما إن كانت تلك الآلهة بلا أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها، ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجَّة كل ادِّعاء نبوة أو ادِّعاء مَهديَّة في هذا العصر، فيدَّعي النبيُّ الكاذب النبوَّة، ويدعو للاختلاط مع النساء، وشرب الخمر، وارتكاب الموبقات، ويسمِّى ذلك ديناً.
وتجد مثل هذه الدَّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.(11/6504)
وقولهم:
{وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] .
يعني: وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] .
أي: وما نحن لك بمصدِّقين، لأن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدَّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه:
{وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] .
وإنْ عدَّيتها بحرف «الباء» مثل قول الحق سبحانه:
{مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 62] .
فالمعنى يتعلّق باعتقاد الألوهية.
وإن عدَّيتها بحرف «اللام» ؛ مثل قول الحق سبحانه:(11/6505)
{فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] .
تكون بمعنى التصديق.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء}(11/6506)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
و «إن» التي تُفتتح بها الآية الكريمة أداة شرطية، وأداة «إن» الشرطية يأتي بعدها جملة شرط، وجواب شرط، فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى النفي؛ مثل قول الحق سبحانه:
{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] .
وهنا يقول الحق سبحانه:
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك} [هود: 54] .
أي: «ما نقول إلا اعتراك» .
وهكذا نعلم أن كلمة «إنْ» هنا جاءت بمعنى النفي.
و «إلا» هي أداة استثناء، وقبلها فعل هو «نقول» ، وإذا وجدت أداة استثناء، ولم يذكر المستثنى منه صراحة، فاعلم أنه واحد من ثلاثة: إما أن يكون مصدر الفعل، وإما أن يكون ظرف الفعل، وإما أن يكون حال الفعل.(11/6506)
وعلى ذلك فمعنى الآية الكريمة:
وما نقول لك إلا أنَّ آلهتنا أصابتك بسوء؛ لأنك سَفَّهتهم وأبْطَلتَ ألوهيّتهم، وجئتَ بإلهٍ جديدٍ من عندك، فأصابتك الآلهة بسوء يراد به الجنون فأخذتَ تخلط في الكلام الذي ليس له معنى.
ويردُّ عليهم هود عليه السلام بما جاء في نفس الآية:
{قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54] .
وهو يُشهِد الله الذي يثق أنه أرسله، ويحمي ذاته، ويحمي عقله؛ لأن عقل الرسول هو الذي يدير كيفية أداء البلاغ عن الله.
والحق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرسل رسولاً ولا يحميه.
وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مجنون؛ فأنزل الحق سبحانه وتعالى قوله الكريم:
{مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 24] .
ونحن نعلم أن المجنون لا خُلُق له، وفي هذا البيان أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قمة العقل؛ لأنه في قمة الخُلُق الطيِّب.
وهنا يُشهد هود عليه السلام قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة، ويحكموا: أهو مجنون أم لا، ويشهدهم أيضاً أنه بريء من تلك الآلهة التي يُشركون بعبادتها من دون الله تعالى.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلام:(11/6507)
{مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ}(11/6508)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
وقوله: {مِن دُونِهِ} أي: من دون الله، فهم قد عبدوا أصناماً من دون الله سبحانه، ومطلب هود عليه السلام منهم أن يكيدوا له جميعاً، وهم كثرة طاغية، وهو فرد واحد؛ وإن كادت الكثرة المتجبِّرة لواحد، فمن المتوقع أن يغلبوه، وهو عليه السلام هنا يتحداهم ويطلب منهم أن يعملوا كل مكرهم وكيدهم، وأن يقتلوه لو استطاعوا، وهذه قمة التحدي.
والتحدي هنا معجزة؛ لأنه ساعة يتحداهم فهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى ينصره، وهو عليه السلام متأكد من قوله:
{أُشْهِدُ الله} [هود: 54] .
الذي قاله في الآية السابقة، ولا يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافاً، لأن الإنسان لا يجازف بحياته في كلمة.
وهو لم يَقُلْ: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [يونس: 55] إلا إذا كان قد آوى إلى ركن شديد، وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة على نفاذ الكلمة.
وهو قد أشهد الله تعالى، والله سبحانه هو أول من شهد لنفسه، يقول الحق سبحانه:
{شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] .(11/6508)
وكذلك شهدت الملائكة وأولو العلم، والله سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما يطمئننا أنه إذا ألقى أمراً علم أنه مُنفَّذ لا محالة.
وقد أشهد هود عليه السلام ربَّه سبحانه، وهو واثق من حمايته له وما كان الحق سبحانه ليرسل رسولاً ليُمكِّن منه قوماً يُزيحوه من حركة الرسالة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ}(11/6509)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
يعلن لهم هود عليه السلام حقيقة أنه يتوكَّل على الله تعالى الذي لا يعلوهم فقط، ولا يرزقهم وحدهم، بل هو الآخذ بناصية كل دابَّة تدُّب في الأرض ولها حرية وحركة، والناصية هي مقدّم الرأس، وبها خصلة من الشعر.
وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدُّه منها.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} [الرحمن: 41] .
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه:
{كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بالناصية} [العلق: 15] .
إذن: فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلِّطوا مجموعة ثعابين، وأعداداً من الكلاب المتوحشة مثلاً على سيدنا هود عليه السلام.
لم يستطيعوا ذلك، وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الإضرار به حين قال لهم:
{مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] .
ونحن نلحظ أنه عليه السلام قال في صدر الآية:
{رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] ، وفي عَجزُ الآية قال: {إِنَّ رَبِّي} [هود: 56] ، والسبب في قوله: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] أنهم كانوا قادحين في مسألة ربوبية الحق سبحانه.(11/6510)
لذلك قال عليه السلام في مجال السيطرة: {رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أما في عجز الآية فقال:
{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] .
أي: أن الإله الواحد سبحانه له مطلق العدالة، ولم يأتِ هنا بشيء يخصُّ أربابهم؛ لأنه هنا يتحدث عن مطلق عدالة الحق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته، وقَهْره وسيطرته، ولا شيء يُفلت منه، ومع كل قدرة الله تعالى اللامتناهية فهو لا يستعمل قهره في الظلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}(11/6511)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
الفعل «تولَّوا» أصله: «تتولَّوا» ، وفي اللغة: إذا ابتدأ فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة.
وهكذا يكون المعنى:
إن تتولَّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عُذر لكم عندي؛ لأن الحق سبحانه لا يعذِّب قوماً وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم.(11/6511)
أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبِّين له: فإن تولَّوا فقل لهم: {أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} [هود: 57] .
والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء لقوم، إما أن يكونوا عادلين؛ فلا يقفوا من المناهج ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد.
وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] .
والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعداً طيِّباً:
{وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55] .
إذن: فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا يتبعه، بل يتبع الشهوات.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] .
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً} [هود: 57] .(11/6512)
لأن المنهج الذي نزل على الخَلْق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو سبحانه خَلَق أولاً بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفاً من الأوصاف، ولن يسلبه أحد وصفاً من الأوصاف.
ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفراً، وللمتمردين على المنهج بالمعصية:
أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول: «لن أمرض» ؟ ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت؟
إذن: فما دُمْتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام الله القهرية فيك؟
إنك لن تستطيع؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن تستطيع أن تأمر قلبك بعدم التوقف.
لذلك قال هود عليه السلام:
{وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57] .
فالله سبحانه رقيب؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه.
وبعض الفلاسفة قالوا: إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس والقوانين، ثم تركها تقوم بعملها.(11/6513)
ولهؤلاء نقول: لا؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه:
{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] .
وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لأنه سبحانه مُنزَّه عن الغَفْلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ}(11/6514)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
وساعة تسمع {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} فأنت تعرف أن هناك آمراً وأمراً مُطاعاً، وبمجرد صدور الأمر من الآمر سبحانه يكون التنفيذ؛ لأنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ:
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق: 12] .
إذن: فهي بمجرد السمع نَفَّذت أمر الحق سبحانه.(11/6514)
وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلام من الذبح الذي أمر به فرعون؛ أوحى الله سبحانه لأمِّ موسى قائلاً:
{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] .
وكيف تفعل أمٌّ ذلك.
إن كل أمًّ إنما تحرص على ابنها؛ والذبح لموسى أمر مظنون، والإلقاء في البحر موت محقَّق، لكن أم موسى استقبلت الوحي؛ ولم تتردد؛ مما يدل على أنها تُناقش الأمر بمقاييس البشر، بل بتنفيذ إلهامٍ واردٍ إليها من الله سبحانه؛ إلهام لا ينازعه شَكٌّ أو شيطان.
وبعد ذلك يأمر الله سبحانه البحر:
{فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] .
وقد استقبل البحرُ الأمرَ الإلهي؛ لأنه أمر من قادر على الإنفاذ، كما قام بتنفيذ الضد.
في قصة نوح عليه السلام قال الحق سبحانه:(11/6515)
{حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] .
وحدث الطوفان؛ ليغرق الكافرين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 58] .
يعني: مجيء الأمر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلام، وقد تحقَّق هذا العذاب بطريقة خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة الآمر بها سبحانه وتعالى.
فحين تأتي رِيحٌ صَرْصَرٌ أو صَيحةٌ طاغيةٌ، فهذا العذاب من خارجهم، وما دام العذاب من الخارج، وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه الله؛ فقد يَعُمُّ المكذِّبين لسيدنا هود، ومعهم المصدِّقون به وبرسالته، فكيف يتأتَّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذِّبين فقط، وتخرق تلك الآذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟
إنها قدرة التقدير لا قوة التدمير. إن مُوجِّه الصيحة قد حدَّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك، وهي صيحة موجَّهة، مثلها مثل حجارة سِجِّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده؛ مع نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادَّعى بعضٌ من المتفلسفين.(11/6516)
وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه يُنجي المؤمن؛ ويعذِّب الكافر؛ فلا يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.
يقول المتنبي:
تُسَوِّدُ الشَّمْسُ مِنَّا بِيضَ أوجُهِنا ... وَمَا تُسوِّدُ بِيضَ العَينِ والَّلمَمِ
وَكَانَ حَالُهُما فِي الحُكْمِ واحِدَةً ... لَو احْتَكَمْنَا مِنَ الدُّنْيَا إلَى حَكَمِ
وهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في الشمس؛ يجعل بشرة الأبيض تميل إلى السمرة ولا تسود بياض الشعر، لكن إن تركت شيئاً أسود في الشمس فترة لوجدته يميل إلى الأبيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل مختلف.
والحق سبحانه يقول هنا:
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 58] .
فلا تقل كيف نجوا من العذاب الجامع والعذاب العام؛ لأن هذه هي الرحمة.
والرحمة كما نعلم هي ألا يمس الداء الإنسان من أول الأمر؛ أما الشفاء فهو يعالج الداء.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .(11/6517)
ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين:
النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول سبحانه:
{نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] .
والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا.
أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.
وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.
ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلاً بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج.
يقول الحق سبحانه:
{وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 21] .
وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ.(11/6518)
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}(11/6519)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
و «تلك» إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لأن الإشارة هنا لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
وهكذا فصل بين «عاد» المكان، و «عاد» المكين، وهم قوم عاد؛ لذلك قال سبحانه {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم.
و «عاد» إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه ب {تِلْكَ} فهي إشارة إلى الديار، والديار لم تجحد بآيات الله؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى:
{جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] .
والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.
والآيات كما نعلم جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتاً يوحي بإيمان بما تنص عليه.(11/6519)
ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود؛ بالله الرب الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة.
وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولاً من عند الله تعالى، وهي المعجزات.
وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه.
وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة، وأهملوا وتركوا منهج الله جحوداً بإعراض.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} [هود: 59] .
وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعنيُّ بالعصيان هنا؟
نقول: لا؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قال:
{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] .
إذن: فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل.
ولذلك قال الحق سبحانه:(11/6520)
{كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] .
فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] .
أي: أن هناك مُتَّبِعاً، ومُتَّبَعاً.
والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة.
ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة، فهو يتكلم أيضاً عن الفرق المضلة، فهناك ضالٌّ في ذاته، وهناك مُضِلٌّ لغيره.
والمضل لغيره عليه وزران: وزر ضلالة في ذاته، ووزر إضلال غيره.
أما الذين اتَّبعوا فلهم بعض العذر؛ لأنهم اتَّبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع والبينة.(11/6521)
وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] .
ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول:
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 79] .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً}(11/6522)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام: حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.(11/6522)
والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء، مجرد العرض، والحياة الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول الحق سبحانه:
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] .
هذه هي الأزمنة الثلاثة حياة، وبرزخ، وبعث وكل وقت منها له ظرف.
ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر:
{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] .
وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقاً لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار» .
إذن: فهنا زمنان: زمن عرضهم على النار غدوّاً وعشيّاً، وزمن دخولهم النار.(11/6523)
وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار، ويرى نصيبه من العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.
وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم القيامة.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] .
وكلمة «ألا» هي أداة تنبيه كما قلنا من قبل تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلاً، فتأتي كلمة «ألا» كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام.
والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذاباً في الدنيا بالريح العقيم، ثم أتبعوا لعنة من البرزخ، وسوف يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلاث.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم من لعن، فبيَّن بكلمة «ألا» أي: تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم.(11/6524)
وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة؛ لذلك نالوا عقاباً في الدنيا.
والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي لهم لعنة الآخرة.
وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم.
والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.
وقد أوضح لهم هود عليه السلام:
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56] .
أي: أن الحق سبحانه عادل.
وأنت حين تسمع جريمتهم؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه:
{ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] .
فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى.
ولسائل أن يقول: ولماذا يقول الحق سبحانه هنا:
{أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] .(11/6525)
ونقول: لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن:
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] .
وهذا يوضح لنا أن «عاداً» كانت اثنتين: عاداً الاولى، وهم قوم عاشوا وضَلُّوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً}(11/6526)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيِّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحداً منهم هو صالح عليه السلام.
وجاء الحق سبحانه بلفظ {أَخَاهُمْ} ليبين العلاقة التي بين صالح عليه السلام وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة وقد لمسوا صدقه فلا بد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلام: {ياقوم} ، وهي من القيام، يعني: يا من تقومون للأمور. والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال؛ لأن أمر النساء مستور دائماً في طي الرجال، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيراً من الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح، والمرأة تدير حياة السُكْنى وتربية الأولاد.
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها، فلماذا لا تلتفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة؟
وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك: إذا كنت لم تنتقد التهتك في الملابس، ووَصَفْتَهُ بأنه «حرية» ، فلماذا تتدخل في أمر الحجاب، ولا تعتبره «حرية» أيضاً.(11/6527)
ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله المعبود ب «افعل» و «لا تفعل» في كل حركة من حركات الحياة.
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود {اعبدوا الله} وأمر عبادة الله وحده مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحداً مخالفته.
{مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] .
تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتم ادعاء آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه:
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] .
والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال: أنشأ، أي: أوجد وجوداً ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر.
لذلك لا نقول لمن اخترع: إنه «أنشأ» لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه؛ فقد يكون مستعيناً بمادة أخذها من الجبال، وبخبره تجارب صنعها من سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشيء من عدم.
والوجود من العدم قسمان: قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض، وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.(11/6528)
والحق سبحانه جلَّت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشيء الإنسان من التقاء الزوج والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله.
فمنيُّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء مَردُّه إلى الأرض.
وقول الحق سبحانه:
{أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] .
نجد فيه كلمة {استعمركم} وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة «استعمر» هو طلب التعمير.
ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلاداً أخرى: «دول الاستعمار» .
أقول: إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى «دول الاستخراب» .(11/6529)
{واستعمركم فِيهَا} أي: طلب منكم عمارتها، وهذا يتطلب أمرين اثنين: أن يبقي الناس الأمر الصالح على صلاحه، أو يزيدوه صلاحاً.
وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية الأواني المستطرقة، فقد كان الناس يشربون الماء من الترع، ثم تم اختراع كيفية تكرير المياه، ثم جاءت نظرية الأواني المستطرقة، فاستغلها الناس في بناء خزانات عالية، وتوصيل الماء بواسطة مواسير تدخل لكل بيت.
وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل، وهكذا يزداد في الأمر الصالح صلاحاً.
وأيضاً إن استصلحنا الأرض البور، فنحن نزيد الأرض رقعة صالحة لإنتاج الغذاء لمقابلة الزيادة في عدد السكان.
وما دام عدد السكان في زيادة فلا بد من زيادة رقعة الأرض بالاستصلاح؛ لأن الأزمة التي نعاني منها الآن، هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا، فزاد التكاثر عن الاستصلاح، وكان الواجب يقتضي أن نزيد من الاستصلاح بما يتناسب مع الزيادة في السكان.
وهكذا نفهم معنى استعمار الأرض.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلَّى على الخَلْق بصفات من صفاته، فالقويُّ يعين الضعيف، والحق سبحانه له مطلق القوة، ويَهَبُ الخلق من حكمته حكمة، ومن قبضه قبضاً، ومن بسطه بسطاً، ومن غناه غنىً؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة منه لنا.(11/6530)
والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف، والغني منا قد يصيبه الفقر؛ حتى لا نفهم أن هذه الصفات ذاتية فينا، وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة لنفعل.
ومن أعطاه الله تعالى قدرة ليفعل؛ عليه أن يلاحظ أنه انتفع بفعل من سبقه، فإن أكل اليوم تمراً على سبيل المثال فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة هو من سبقه، فليزرع من يأكل البلح الآن نخلة لتفيده بعد سبع سنين وهو الزمن اللازم لتطرح النخلة بلحاً وليستفيد بها من يأتي من بعده.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لقومه «ثمود» في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61] .
فإن استغفر الإنسان، فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب لا تمثل حقوقاً للناس، والله سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة.
فماذا كان الرد من قوم ثمود؟
يقول الحق عَزَّ وَجَلَّ ما جاء على ألسنتهم:(11/6531)
{قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا}(11/6532)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
كانوا ينظرون إلى صالح عليه السلام بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة الله تعالى وحده، ولا إله غيره.
والمرجوُّ هو الإنسان المؤمَّل فيه الخير، ذكاءً، وطموحاً، وأمانة، وأية خصلة من الخصال التي تبشر بأنه له مستقبلاً حسناً.
ولكن ما إن دعاهم صالح عليه السلام إلى عبادة الله سبحانه وتعالى أعلنوا أنه بتلك الدعوة إنما يفسد رجاءهم فيه وما كانوا يأملون فيه.
وقد أوضح لهم صالح عليه السلام ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده، أن اتخاذ الأصنام أو الأشجار أو الشمس آلهة تُعْبد هو أمر خاطىء؛ لأن العبادة تقتضي أوامر ونواهي ينزل بها منهج؛ يتبعه من يعبدون، وتلك الكائنات المعبودة لا منهج لها، ولا عبادة دون منهج.
وأضاف قوم ثمود:
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62] .(11/6532)
والشك هو استواء الطرفين: النفي والإثبات.
إذن: فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة، ودعوة صالح عليه السلام لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة؛ وهذا يُظهر أن خصال الخير في صالح عليه السلام جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلام لثمود: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي}(11/6533)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
وكأن صالحاً قد ارتضاهم حكماً فقال: أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين بأنه أرسلني وأيَّدني، وأنا إن خدعت الناس جميعاً فلن أخدع نفسي، فهل أترك ما أكرمني به ربي وأنزل إليَّ منهجاً أدعوكم إليه؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلامكم؟ هل أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} [هود: 63] وهي النبوة؟
{فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63] .
وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو لا يستفهم إلا عن شيء يثق أن الإجابة ستكون بما يرضيه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلام:
{فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63] .
ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب، ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال. فهل التخسير واقع منه عليهم أم واقع منهم عليه.
إن ثراء الأسلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها، فإن أطاعهم صالح عليه السلام وعصى ربه، فهو قد أزاد في خسارته، أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر، لأنهم غير مهديين، ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون الله تعالى.
إذن: فالتخسير إما أن يكون واقعاً عليهم من صالح عليه السلام وإما أن يكون واقعاً منهم على صالح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلام:(11/6534)
{وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}(11/6535)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
وكان قوم صالح قد طلبوا آية، فقالوا له: إن كنت نبيّاً فأخرج لنا ناقة من تلك الصخرة، وأشاروا إلى صخرة ما، وهم قوم كانوا نابغين في نحتن بيوتهم في الجبال. ومن يَزُورْ المنطقة الواقعة بين الشام والمدينة، يمكنه أن يشاهد مدائن صالح، وهي منحوتة في الجبال.
وقد قال فيهم الحق سبحانه:
{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ} [الشعراء: 149] .(11/6535)
هم إذن قد حددوا الآية، وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها، فخرجت الناقة وهي حامل.
وبعد أن وُجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق، وقد قال لهم صالح عليه السلام:
{وياقوم هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] .
وساعة تسمع شيئاً مضافاً إلى الله تعالى، فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه.
مثلما نقول: «بيت الله» ، وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة، وإن حددنا موقعاً وقلنا عنه: «بيت الله» فنحن نبني عليه مسجداً، وتكون أرضه قد حُكرت لتكون مُصَلّى، ولا يُزاوَل فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت الله باختيار الله تعالى، وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت لله باختيار خَلْق الله.
ولذلك فبيت الله باختيار الله هو قبلة لبيوت الله باختيار خلق الله.
إذن: فإن أضيف شيء لله تعالى، فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى، وقد قال لهم صالح: {هذه نَاقَةُ الله} [هود: 64] وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلام، ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب لله تعالى له عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك: «ابن أبي لهب، وكان قد تزوج ابنة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وحين اشتد عناد أبي لهب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال أبو لهب لابنه: طلق بنت(11/6536)
محمد، فطلقها، وفعل فعلاً يدل على الازدراء، فدعا عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه «.
فقال أبو لهب: إني لأتوجس شرّاً من دعوة محمد.
ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة، وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكاناً في وسط رحال الركب كله خوفاً على ابنه من دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا بأسد يقفز من الرحال ويأكل الولد» ، فهنا نسب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمر إلى الله فقال: «أكلك كلب من كلاب الله» فكان كلب الله أسداً.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلام: هذه الناقة هي الآية التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر.
وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الأرقى من الجماد، وهو النبات، ولكن الحق سبحانه استجاب للآية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الأرضية إما أن تكون جماداً، وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير نباتاً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيواناً، وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة والفكر فيصير إنساناً.(11/6537)
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلام بشجرة من الصخر، وهذا أمر فيه إعجاز أيضاً، ولكن الحق سبحانه أرسل الآية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان، وحامل في الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلام أن يحافظوا عليها؛ لأنها معجزة، عليهم ألا يتعرضوا لها. وقال لهم:
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64] .
وهكذا وعظهم، وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله، وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم عذاب، فمن آمن به لا بد أن يكفر.
إذن: فلا بد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها.
وهم قد مسّوها بالفعل، وهو ما تبينه الآية الكريمة التالية: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ}(11/6538)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
وجلسوا في منازلهم ثلاثة أيام ثم جاءهم العذاب.
ولقائل أن يقول: ولمَ الإمهال بثلاثة أيام؟
ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسِّي ينقطع من المعذَّب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المُدَّة حتى يتألموا حِسِّيًا، وكل يوم يمرُّ عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى:
{وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] .
الحق سبحانه هو الذي يَعِدُ، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب.
على عكس الإنسان منا حين يَعِدُ بشيء، فمن الممكن أن يأتي وقت تنفيذ الوعد ولا يستطيع.
لذلك يقول لنا الحق سبحانه:
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] .
لأنك إن قلت: «أفعل ذلك غداً» ، وتعد إنساناً بلقائه لكذا وكذا؛ فقل: «إن شاء الله» ؛ لأن الله تعالى لا يمنع ترتيب أمور لزمن يأتي، وإنما يجب أن يردف من يرتب الأمور «بمشيئة القوي القادر» حتى إذا لم ينجز ما وعد به؛ يكون قد خرج عن الكذب، لأن الله تعالى لم يشأ، لأن الإنسان إذا وعد، فهو لا يعتمد على إرادته، ولكن مشيئة الله تعالى تعلو كل شيء.(11/6539)
والفعل كما نعلم يقتضي فاعلاً، ومفعولاً، وزمناً، وسبباً دافعاً، وقدرة تمكِّن الإنسان من الفعل، فهل يملك أحدٌ شيئاً من كل هذا؟
إن الإنسان لا يملك نفسه أن يعيش إلى الغد، ولا يملك من يعده أن يوجد غداً حتى يلقاه، ولا يملك أن يظل السبب سبباً للِّقاء؛ فربما انتهى السبب، ولا يملك حين تجتمع الأسباب كلها أن توجد له قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن: فإذا قال: «أفعل ذلك غداً مع فلان» ؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء لا يملك عنصراً واحداً من عناصره، فقل: «إن شاء الله» ، أي: أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات، قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل:
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] .
وقوله: {فِي دَارِكُمْ} لأن من هؤلاء الذين كفروا قوماً في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به أيضاً قوم كافرون، ومنهم المسافر، ومنهم العائد من سفر، فتتبعهم العذاب حيثما كانوا، فلم ينزل على مكان واحد، إنما نزل على المكين منهم في أي مكان.(11/6540)
ولم يَنْجُ من هذه المسألة إلا واحد اسمه «أبو رغال» ، وكان يحج إلى بيت الله، فلم يتبعه عذابه في بيت الله؛ لأن الله سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمِّن من دخل بيته، فهو سبحانه وتعالى أوْلى بأن يؤمِّن من دخل البيت الحرام، وظل الحجر الذي سيُضرب به، أو الصيحة التي كان عليها أن تأخذه، ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه.
. وعَمَّ العذابُ الكافرين من قوم صالح، وتتبع من في الديار إلا هذا الرجل، وما إن خرج من البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب.
ولذلك كان قاتل الأب أو الإنسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل، إذا ما دخل البيت الحرام فهو يُؤمَّن إلى أن يخرج، وكانوا يُضيِّقون عليه، فلا يطعمه أحد، ولا يسقيه أحد ليضطر إلى الخروج، فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام، ولتظل حرمة البيت الحرام مُصَانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام، صيانة وتكريماً للكرامة الإنسانية.(11/6541)
ونحن نعلم أيضاً أن كل حدث من الأحداث يقتضي زماناً، ويقتضي مكاناً.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض، فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه القتال؛ فخصَّ البيت الحرام بذلك، وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛ فكانت الأشهر الحرم؛ لان الحرب قد تكون سجالاً بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والأنفة والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب، ولكنه لا يحب أن يجبن أمام الناس، فأراد الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئاً يتوارون فيه من الزمان ومن المكان، فحرم القتال في الأشهر الحرم.
وما إن تأتي الأشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلاء: لولا الأشهر الحرم لكنت قد أنزلت بخصمي الهزيمة الساحقة، وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لأنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام، هنا يقول مَنْ كان يحاربه: لو لم يدخل الحرم؛ لأذقته عذاب الهزيمة.
وبمضيِّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالأمن والسلام، وربما عشقوه فانتهوا من الحرب.
ثم يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً والذين آمَنُواْ مَعَهُ}(11/6542)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
فحين شاء الحق أن يُنزل العذاب بثمود، بعد مُضيِّ المدة التي أنذروا بنزول العذاب بعدها، نجَّى الحق صالحاً عليه السلام والذين آمنوا برسالته من الهلاك، فحفظتهم رحمة الله؛ لأنهم آمنوا بما نزل على صالح من منهج، ولم يُعَانِ المؤمنون برسالة صالح ما عانى منه قوم ثمود من الذل والفضيحة.
هذا الذل وتلك الفضيحة التي حاقت بثمود.
ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز} [هود: 66] .
هذا خطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تسلية وتسرية عنه وتقوية لعزمه، فالحق سبحانه مقتدر يأخذ كل كافر، ولا يغلبه أحد ولا يعجزه شيء، وفي هذا إنذار لمن كفروا برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة}(11/6543)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
ويسمي الحق سبحانه هنا العذاب الذي نزل على ثمود «الصيحة» وسمّاه في موضع آخر «الطاغية» :
{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] .
وسمّاه في موضع آخر «صاعقة» فقال سبحانه:(11/6543)
{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] .
وفي سورة الأعراف سمّاه «الرجفة» ، وكل من الصاعقة والصيحة والرجفة تؤدي معنى الحدث الذي يَدْهَمُ، ولا يمكن الفكاك منه.
ولقائل أن يقول: لماذا لم يقل الحق سبحانه هنا: «وأخذت الذين ظلموا الصيحة» ؟ لماذا اختفت تاء التأنيث من الفعل، وقال سبحانه:
{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] .
ونقول: إن الذي يتكلم هنا هو رب العباد سبحانه، ولا يصح أن نفهم الصيحة على أنها جاءت لتعبر عن صيحة واحدة، فتاء التأنيث تعبر عن الصيحة لمرة واحدة، أما إذا تكررت وصارت صياحاً كثيراً تأخذهم كل صيحة من الصياح.
وهنا نلمح أن الصيحة فيها ضعف الأنوثة، أما الصياح ففيه عزيمة وقوة الرجولة، فأراد الحق سبحانه أن يجمع الأمرين، فقال: «أخذ» ولم يقل: «أخذت» .
ثم قال سبحانه:
{فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 67] .
أي: مُلْقون على رُكَبهم وعلى جباههم بلا حركة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6544)
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}(11/6545)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
ومادة «غَنِيَ» . . «غِنىً» ، أو «غَنَاءً» كلها متساوية؛ لأن الغَنَاء هو الوجود؛ وجود شيء يُغَنِي عن شيء، فالغِنَى هو وجود مال يغنيك عن غيرك، والغناء هو ما نسمعه من المُغَنِّين، والأغنية التي يعجب الإنسان من كلماتها ولحنها، فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلام على كثرة ما سمع أو قرأ، والغَناء هو للإقامة.
والحق سبحانه يقول:
{حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] .
أي: كأنها لم توجد من قبل.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 68] .(11/6545)
أي: لم يقيموا فيها، لأنها صارت حصيداً.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الآية: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] ، وهذه هي حيثية العذاب الذي نزل بهم.
وعادة ما تتعدى كلمة «كفر» بالباء، ويقال: كفروا بربهم، ولكن الحق سبحانه يقول هنا:
{أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 68] .
والفارق كبير بين المعنيين، فمعنى {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} أي: ستروا وجوده، فلا وجود له، ولكن معنى «كفروا بربهم» هو اعتراف بالله الموجود، لكنهم لم يؤمنوا به.
وقول الحق سبحانه: {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} يرد على الملاحدة الذين لا يقرون بوجود الله، لأن ذنب إنكار وجود الله ليس بعده ذنب، ولا يوجد ما هو أكثر منه في الذنوب.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} [هود: 68] .
أي: أنهم: يستحقون ما وقع عليهم من إهلاك وطرد من رحمة الله، ولن يعطف عليهم أحد لضخامة ذنبهم.
ويأتي الحق سبحانه في الآية التالية بقصة جديدة من قصص الأنبياء، وهي جزء من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يقول سبحانه:(11/6546)
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى}(11/6547)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
وكلمة «رسل» جمع «رسول» ، والرسول هو المرسَل من جهة إلى جهة، وأي إنسان تبعثه إلى جهة ما؛ اسمه رسول، ولكن المعنى الشرعي للرسول: أن يكون مُرسَلاً من الله.
ويقول الحق سبحانه:
{الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس} [الحج: 75] .
واصطفاء الملائكة كرسل لتيسير التلقِّي عن الخالق سبحانه؛ لأن القوة التي تتلقى عن الخالق سبحانه وتعالى لا بد أن تكون قوة عالية، والإنسان منا لا يقدر على أن يتلقى مباشرة عن الحق سبحانه.
لذلك يأتي لنا الله جَلَّ عُلاَه بالرسل، فيصطفي من الملائكة المخصوصين القادرين على التلقي لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة.(11/6547)
وهكذا نعلم أن الملائكة ليست كلها قادرة على التلقي من الله تعالى، ولا كل البشر بقادرين على التلقي عن الله أو عن الملائكة.
وهذه الحلقات في الإبلاغ أرادها الحق سبحانه، لتؤهل للضعيف أن يأخذ من الأقوى؛ والبشر يلجأون إلى ذلك في حياتهم.
وسبق أن ضربت المثل، بأننا أثناء الليل نطفىء نور المنزل، لكننا نترك ضوءاً خافتاً يوضح لنا ملامح البيت، فإن قمنا ليلاً من النوم؛ لا نصطدم بمتاع البيت، فيتحطم ما نصطدم به إن كان أضعف منا، أو نُصَاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا.
والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي.
وكذلك يفعل الله سبحانه وتعالى، فيأتي بمصطفى من الملائكة، يتلقى عن الحق سبحانه ويبلغ المَلَكُ من هؤلاء الرسولَ المصطفى من البشر.
والحق سبحانه هو القائل:
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] .
وهنا يقول الحق سبحانه:(11/6548)
{وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} [هود: 69] .
والبشرى هي الإخبار بشيء يسرُّ قبل أوان وقوعه، وهي عكس الإنذار الذي يعني الإخبار بشيء محزن قبل أوانه.
وقبل أن يوضح الرسل لإبراهيم عليه السلام البشارة التي جاءوا من أجلها، يعلمنا الحق سبحانه المقدمات اللازمة للدخول إلى الأماكن، فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن نسلِّم على أهل هذا المكان، والحق سبحانه القائل:
{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا} [النور: 27] .
ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملائكة من قبل إبلاغ البشرى:
{قَالُواْ سَلاَماً} [هود: 69] .
وجاء سبحانه بردِّ إبراهيم عليه السلام:
{قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] .
ونحن نلحظ أن السلام جاء على ألسنتهم بالنصب، والرد بالسلام جاء بالرفع، وقولهم: {سَلاَماً} دل على فعل يوضح التجدد، والرد جاء بكلمة {سَلاَمٌ} بالرفع؛ ليدل على الثبات والإصرار.
والحق سبحانه هو القائل:
{وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ}
[النساء: 86] .
هكذا استقبل إبراهيم عليه السلام رسل الحق سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه:(11/6549)
{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
والعجل هو ولد البقر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلام في أكثر من موضع من مواضع القرآن، لا بقصد التكرار، ولكن لأن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها دلائلها وأسرارها، فإذا جُمِعَتْ اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلام في شمول متكامل.
وعلى سبيل المثال: يقول الحق سبحانه:
{وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] .
وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لإبراهيم، فيقول سبحانه:
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي هاذآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 7679] .(11/6550)
إن هذه الآيات تبين وظيفة الحواس إدراكاً، ووظيفة الوجدان انفعالاً، ووظيفة الاختيار توحيداً وإذعاناً بيقين.
ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلام فخاطب عمه باحترام لمكانته التي تساوي منزلة الأب.
يقول الحق سبحانه:
{واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم: 4145] .
فهذه الآية تبين رفق الداعي مع جمال العرض.
فأصرَّ العَمُّ على الشرك، فقال إبراهيم عليه السلام:
{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] .
وبعد ذلك يتبرأ منه لإصراره على الكفر.
ثم هناك لقطة من يُحاجِج إبراهيم في ربه:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ الله الملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] .
وكانت تلك سفسطة في القول ناتجة عن عجز في التعبير، فليس(11/6551)
إصدار حكم بالقتل على إنسان، ثم العفو عنه، هو إحياء وإماتة، فأخذه إبراهيم عليه السلام إلى منطقة لا يجرؤ عليها أحد، وقال:
{فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} [البقرة: 258] .
وهذه الآية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل، ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين المقارنة بين فكرة الكفر، وفكرة الإيمان، فيقول سبحانه:
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
[الشعراء: 6974] .
وفي هذه الآية أمثلة تحمل جواب الإسكات.
ثم يقول الحق سبحانه، على لسان إبراهيم عليه السلام:
{الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 7882] .
يقول رب العزة سبحانه في سورة الأنبياء:
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: 5156] .(11/6552)
هذه هي التربية اليقينية التي أرادها الحق سبحانه لإبراهيم عليه السلام ليعلمنا كيف يكون الإيمان؟
وكان قوم إبراهيم يعبدون آلهة غير الله، لكن إبراهيم عليه السلام توصَّل إلى عبادة مَنْ خَلَقه وخَلَق الكون، وهو الصانع الذي يضع قانون صيانة ما يصنع سبحانه وتعالى:
ولذلك نلاحظ قوله:
{الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] .
فلم يقل: «الذي خلقني يهديني» لأن هذه دعوى؛ ستُدَّعى، وسيضع الناس قوانين لأنفسهم، فبيَّن الحق سبحانه أن الذي خَلَق هو الذي يَهْدِي.
وجاء الحق سبحانه بكلمة «هو» لحصر الأمر حتى لا يشارك الخلق خالقهم فيه، لكن الأمر الذي لم يُدَّعَ، لم يأت فيه بكلمة «هو» كقوله:
{والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] .
فما لا شركة فيه عند الخَلْق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير، ولكن في الأمر الآخر يأتي بتأكيد الضمير كقوله:
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .
فقد قال: «إن الطبيب هو الذي يشفيني» ، ولكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الله سبحانه هو الذي يضع العلم، وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء.(11/6553)
ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلام:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] .
إذن: فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني الإيمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة إبراهيم عليه السلام، وإذا جُمِعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يريد أن يقص على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القصص، فذلك لتثبيت فؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .
لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعرض لكثير من الأحداث فيذكِّره الله سبحانه بما حدث للرسل عليهم السلام ويأتي باللقطات الإيمانية ليثبت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: 52] .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه هذا الموقف:
{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ} [الذاريات: 28] .(11/6554)
أي: أحس في نفسه الخوف، وهذا من أمر المواجيد؛ لأن كل فعل من الأفعال له مقدمات تبدأ بالإدراك، ثم النزوع، ثم الفعل؛ فحين رآهم إبراهيم عليه السلام أوجس في نفسه خيفة، ثم نزع إلى فعل هو السلام.
والشرع لا يتدخل في الإدراك أو المواجيد، ولكنه يتدخل في النزوع، إلا في أمر واحد من مدركات الإنسان، وهو إدراك الجمال في المرأة.
لذلك أمر الشرع بغض البصر؛ حتى لا يدرك الإنسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه، ولأن إدراك حُسْن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري؛ لأن الغرائز لا تفصل النزوع عن الوجدان والإدراك.
وهنا بيَّن الحق مواجيد إبراهيم عليه السلام حين قال:
{وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} [هود: 70] .
وجاء بالمعنى النزوعي حين قال:
{قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] .
وهو حين التأكيد والتثبيت.
وقال الحق سبحانه:
{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
وهو: العجل السمين المشوي على الحجارة؛ لأن الشواء كما نعلم قد يكون على اللهب أو على الفحم، أو على الحجارة.(11/6555)
ومثل ذلك يحدث في البلاد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدّاً، ويحمُّونه على النار، ثم يشوون عليه اللحم، وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلات بين اللحم والحجر؛ لأن هناك تفاعلات تحدث من الحديد أو من الفحم؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء.
أو أن كلمة: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
أي: ينزل منه الدهن بعد الشواء.
وقول الحق سبحانه:
{فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] .
لأن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلام هي محبة الضيوف وإكرامهم.
ومن عادة الكرام أن يُعجِّلوا بإكرام الضيف، وتقديم الطعام له، والكريم هو من يفعل ذلك؛ لأنه لا يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام، فإن كان الضيف جائعاً؛ أكل، وإن كان شبعان فهو يعلن ذلك.
ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلام بالعجل المشوي: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ}(11/6556)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
وحين رأى إبراهيم أن أيديهم لا تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرّاً ونكرهم، أي: استنكر أنهم لم يأكلوا من طعام قدَّمه لهم، فهل علم إبراهيم أنهم ملائكة؟
لقد علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة من كلامهم.
وقد بيَّن ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 5258] .
إذن: فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلام:
{إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود: 81] .
وهنا حين قالوا لإبراهيم عليه السلام:
{لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] .
أي: أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم ملائكة؛ لأن المَلك قد يتشكل في هيئة إنسان، مثلما تشكَّل جبريل عليه السلام أمام سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وكذلك الجن لهم قدرة على التشكل، إلا أن هناك فارقاً بين تشكل الملك وتشكل الجن، فالجن إن تشكل تحكمه الصورة، فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه.(11/6557)
ألم يَقُلْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إن عفريتاً من الجن تفلَّت البارحة ليقطع عليَّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان:
{قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} [ص: 35] .
فرددته خاسئاً» .
إذن: إذا تشكل الجن حكمته الصورة، ويمكن أن نضربه مثلاً، أما الملاك إذا تشكل فالصورة لا تحكمه.
وحُكْم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا، وهو أيضاً يخاف منا مثلما نخاف منه، ولذلك لا يظهر الجني متشكلاً في صورة إلا لحظة قصيرة ليختفي على الفور؛ لأنه يخاف أن تكون قد علمتم أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن تفتك به؛ لذلك فالجن يخافون من البشر.
وشاء الحق سبحانه ذلك الأمر حتى لا يفزع الجنُّ الناسَ.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: 70] .(11/6558)
وكلمة {نَكِرَهُمْ} تقتضي أن ننظر في مادة «النون والكاف والراء» وكلمة «نكر» وكلمة «أنكر» كلتاهما مستعملة في القرآن.
والشاعر يقول:
وَأنْكَرتَنِي ومَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادِث إلاّ الشَّيبَ والصَّلَعا
والاستعمال اللغوي يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى منكرات، أي: ينكرها الإنسان بفطرته.
وهنا حين رأى إبراهيم عليه السلام أن أيديهم لا تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم، وأوجس في نفسه خيفة، فلاحَظوا ذلك، وقالوا:
{لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] .
وهكذا عرف لمن جاءوا، واطمأن أن قومه لم يأتوا بفعل يستحقون عليه العذاب، وخصوصاً أن كتب التاريخ تقول: إن إمرأة إبراهيم عليه السلام قالت له: ألا تضم ابن أخيك إلى كنفك هنا؛ لأن قومه يوشك أن يعمهم الله بالعذاب.
وحين سمعت أن الرسل إنما جاءت إلى قوم لوط سُرَّتْ من فراستها، وتبسَّمت لأنها تنبهت إلى هذه المسألة.(11/6559)
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 3234] .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}(11/6560)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
فعندما كانت أمرأته قائمة على خدمة الضيوف، وسمعت كلام الملائكة اطمأنت على أنه لا عذاب على قومهم، وتحققت فراستها فضحكت فأزادها الله سروراً، وبشَّرتها الملائكة بإسحق، ومن وراء إسحق يعقوب.
فبعد دفع العذاب، وبيان أمر العذاب لقوم آخرين مجرمين، تأتي البشارة بتحقيق ما كان إبراهيم عليه السلام وزوجه يصبوان إليه، وإن كان أوانها قد فات؛ لأن زوجة إبراهيم كانت قد بلغت التسعين من(11/6560)
عمرها، وبلغ هو المائة والعشرين عاماً. وفي هذا امتنان على إبراهيم بمجيء ابن الابن أيضاً، وكذلك يمتن الله سبحانه على عباده حين يقول:
{والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] .
ولذلك قال الحق سبحانه:
{فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] .
فالإنسان يحب أن يكون له ابن، ويحب أكثر أن يرى ابن ابنه، لأن هذا يمثل امتداداً له.
وهكذا توالت البشارات، فقد أعلنت الملائكة أنها جاءت لتعذب قوم لوط، هؤلاء الذين اختلف معهم إبراهيم عليه السلام؛ لما جاءوا به من الفواحش، وكذلك لأن إبراهيم عليه السلام وامرأته قد علما أنهما لم يأتيا بأي أمر يغضب الله تعالى.
والثالثة من البشارات هي الغلام، وكان ذلك حُلْماً قديماً عند امرأة إبراهيم عليه السلام لأنها عاقر، واستقبلت امرأة إبراهيم البشارة الأولى بالضحك، واستقبلت البشارة بالابن بالدهشة.(11/6561)
وهذا ما يقول فيه الحق سبحانه: {قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ}(11/6562)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
والشيء العجيب هو الذي يخالف نواميس الكون المعتادة، ولكن هناك فرقاً بين النواميس وخالق النواميس، الذي هو قادر على أن يخرق النواميس.
وها هو سيدنا إبراهيم يقول في موضع آخر:
{أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} [الحجر: 54] .
ولم يأت هنا بقول امرأة إبراهيم التي قالت:
{ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] .
وتسمية الزوج بعلاً فيها دقة شديدة؛ لأن البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ولا يحوجه لأحد.
كذلك الزوج يقوم بأمر زوجته فيما لا يستطيع أبوها ولا أخوها أن يقوما به، وهو الإحساس بالأنوثة والإخصاب، وهو أهم ما تطلبه المرأة.
وأيضاً سُمِّي النخل بالبعل، لأنه لا يطلب من زارعة أن يسقيه، وإنما يكتفي النخل بما يمتصه من الأرض، وما ينزل له من مطر السماء.(11/6562)
وكذلك سُمِّي نوع من الفول «بالفول البعلي» ، وهو الذي لا يحتاج إلى إرواء.
إذن: فالبعل هو الزوج الذي يقوم على أمر زوجته فلا يُحوجها إلى غيره في أي شيء من الأشياء.
وهنا تتعجب زوجة إبراهيم عليه السلام من أمر الإنجاب؛ لأن هذا شيء عجيب يقع على غير انتظار؛ ولذلك يرد الملائكة عليها.
ويقول الحق سبحانه عن ذلك: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله}(11/6563)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
والعجب إذن إنما يكون من قانون بشري، وإنما القادر الأعلى سبحانه له طلاقة القدرة في أن يخرق الناموس. . ومن خرق النواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلاغ عن الله تعالى، فالمعجزات أمر خارق للعادة الكونية.
والقصة التي حدثت لإبراهيم عليه السلام وامرأته تكررت في قصة زكريا عليه السلام، والحق سبحانه هو الذي أعطى مريم عليها السلام بشارة التذكير لزكريا عليه السلام حين سألها:
{أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] .
فقالت مريم:(11/6563)
{هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] .
إذن: فالحساب يكون بين الخلق وبعضهم، لا بين الخالق سبحانه وخَلْقه.
ولذلك ياتي قول الحق عَزَّ وَجَلَّ:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] .
وما دام زكريا عليه السلام قد تذكَّر بقول مريم:
{إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] .
فمن حقه أن يدعو:
{قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً} [آل عمران: 38] .
فأوحى له الله سبحانه وتعالى:
{يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} [مريم: 7] .
أي: أن الحق سبحانه لم يرزقه الابن فقط، بل وسماه له أيضاً باسمٍ لم يسبقه إليه أحد.
وتسمية الله تعالى غير تسمية البشر، فإن كان بعض البشر قد سموا من بعد ذلك بعض أبنائهم باسم «يحيى» فقد فعلوا ذلك من باب الفأل الحسن في أن يعيش الابن.(11/6564)
لكن الحق سبحانه حين يسمي اسماً، فقد سماه «يحيى» ليحيا بالفعل، ويبلغ سن الرشد، ثم لا يأتي الموت؛ لذلك قُتِل يحيى وصار شهيداً، والشهيد حيٌّ عند ربه لا يأتي إليه موتٌ أبداً.
وهذا عكس تسمية البشر؛ لأن الإنسان قد يسمي ابنه «سعيد» ويعيش الابن حياته في منتهى الشقاء.
والشاعر يقول عن الإنسان الذي سمى ابنه «يحيى» :
وَسَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَا فَلَمْ يَكُنْ ... لِرَدِّ قَضَاءِ الله فيهِ سَبِيلُ
وحين نرجع إلى أن مريم عليها السلام هي التي نبهت إلى قضية الرزق من الله، نجد أن زكريا عليه السلام قد دعا، وذكر أنه كبير السن وأن زوجه عاقر.
ولا بد أن زكريا عليه السلام يعرف أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلاً، ولذلك شاء الله سبحانه أن يطمئن زكريا عليه السلام بأنه سيرزقه الولد ويسميه، ويأتي قول الحق سبحانه وتعالى:(11/6565)
{كذلك قَالَ رَبُّكَ} [مريم: 9] .
وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي قرَّر، فلا رادَّ لما أراده، ولذلك يقول سبحانه:
{هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9] .
وهكذا توالت الأحداث بعد أن نبهت مريم زكريا عليه السلام إلى قضية خَرْق النواميس التي تعرضت هي لها بعد ذلك، حينما تمثَّل لها المَلك بشراً، وبشَّرها بغلام اسمه المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.
وتساءلت مريم عن كيفية حدوث ذلك وهي التي لم يمسسها بشر فيذكِّرها الملك بأنها هي التي أجرى الله سبحانه وتعالى على لسانها قوله الحق في أثناء كلامها مع زكريا عليه السلام:
{إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] .
وكان لا بد من طمأنتها؛ لأن إنجابها للمسيح عيسى عليه السلام دون أب هي مسألة عرض، ويجب أن تُقبل عليها وهي آمنة، غير مرتابٍ فيها ولا متهمة.
والآية التي نحن بصددها هنا تتعرض لامرأة إبراهيم عليه السلام حين جاءتها البشارة بالطفل، وكيف أوضحت لها الملائكة أنه لا عجب مما قدَّره الله تعالى وأراده، خلافاً للناموس الغالب في خلقه؛ لأن رحمة الله تبارك وتعالى بكل خير فيها قد وسعت أهل بيت النبوة، ومن تلك الرحمة والبركات هبة الأبناء في غير الأوان المعتاد.
ولهذا قال الحق سبحانه هنا:(11/6566)
{رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} [هود: 73] .
وينهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
{إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} [هود: 73] .
أي: أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته، وكل ما يصدر عنه يستوجب الحمد له من عباده، فلا حد لخيره وإحسانه، والله تعالى مُطْلَقُ صفات المجد.
وكلمة «حميد» في اللغة من «فَعِيل» وتَرِدُ على معنيين: إما أن تكون بمعنى فاعل مثل قولنا: «الله رحيم» بمعنى أنه راحم خلقه. وإما أن تكون بمعنى مفعول؛ كقولنا: «قتيل» بمعنى «مقتول» .
وكلمة «حميد» هنا تأتي بالمعنيين معاً: «حامدٌ» و «محمودٌ» ، مثل قول الحق سبحانه عن نفسه أنه «الشكور» ؛ لأنه سبحانه يشكر من يشكره على نعمه بطاعته. والله سبحانه «حميدٌ» ؛ لأنه حامدٌ لمن يطيعه طاعة نابعة من الإيمان، والله سبحانه «محمودٌ» ممن أنعم عليهم نعمه السابغة.
والله سبحانه هو المجيد الذي يعطي قبل أن يُسأل.
ولذلك نجد عارفاً بالله تعالى قد جاءه سائل، فأخرج كيساً ووضعه في يده، ثم رجع إلى أهله يبكي، فقالت له امرأته: وما يبكيك وقد أديت له حق سؤاله؟ قال: أنا أبكي لأني تركته ليسأل، وكان المفروض ألا أجعله يقف موقف السائل.
والحق سبحانه وتعالى أعطانا، حتى قبل أن نعرف كيف نسأل، ومثال ذلك: هو عطاء الحق سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه، والجنين لم يتعلم الكلام والسؤال.(11/6567)
والحق سبحانه وتعالى في كل لقطة من لقطات القرآن يعطي فكرة اجتماعية مأخوذة من الدين، فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يقدم العجل الحنيذ للضيوف، ليعلمنا أنه إذا جاء لك ضيف، وعرضت عليه الطعام، ولم يأكل، فلا ترفع الطعام من أمامه، بل عليك أن تسأله أن يأكل، فإن رد بعزيمة، وقال: لقد أكلت قبل أن أحضر إليك، فَلَكَ أن ترفع الطعام من أمامه بعد أن أكدت عليه في تناول الطعام.
ويروي بعض العارفين أن سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما قال: ألا تأكلون؟ قالت الملائكة: لا نأكل إلا إذا دفعنا ثمن الطعام. فقال إبراهيم، بما آتاه الله من حكمة النبوة ووحي الإلهام: ثمنه أن تُسمُّوا الله أوله، وتحمدوه آخره.
وأنت إذا أقبلت على طعام وقلت في أوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» وإذا انتهيت منه وقلت: «الحمد لله» ؛ تكون قد أديت حق الطعام مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8] .
وهكذا بيَّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم عليه السلام وزوجه قد أطمأنا على أن الملائكة قد جاءت لهما بالبشرى، وأنها لا تريد بإبراهيم أو بقومه سوءاً، بل هي مكلفة بتعذيب قوم لوط.(11/6568)
وهنا يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع}(11/6569)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
والجدل هو أن تأخذ حُجَّة من مقابل؛ وتعطيه حُجَّة؛ لتصل إلى حق. والجدل يختلف عن المراء فالمراء يعني أنك تعرف الحقيقة وتجادل بالباطل لأنك لا تريد أن تصل إلى الحق.
وقد نهانا الحق سبحانه عن المراء، وأمرنا بأن نجادل بشرط أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.
وهنا يبيِّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم بعد أن ذهب عنه الروع وجاءته البشرى بأن الله تعالى سيرزقه بغلام، وعلم إبراهيم من الملائكة أنهم ذاهبون لتعذيب قوم لوط:
{قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ} [الذاريات: 32 34] .(11/6569)
ومجادلة سيدنا إبراهيم في عقاب قوم لوط، لم تكن ردّاً لأمر الله، ولكن طلباً للإمهال لعلهم يؤمنون؛ ذلك أن قلب إبراهيم عليه السلام؛ قلب رحيم.
ولذلك يأتي الحق سبحانه بالعلة في المجادلة في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}(11/6570)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
إذن: فالعلة في الجدال أنه حليم لا يُعجِّل بالعقوبة، وأوَّاه؛ أي: يتأوه من القلب، والتأوه رقة في القلب، وإن كان التأوه من الأعلى فهذا يعني الخوف من ألا يكون قد أدى حق الله تعالى، وإن كان التأوه للأقل فهو رحمة ورأفة.
ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم يؤمنون، وتأوُّههُ هنا لله تعالى، وعلى هؤلاء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم.
وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه «منيب» أي: يرجع إلى الحكم وإلى الحق في قضاياه.
ألم يَقُلْ الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز:(11/6570)
{وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114] .
وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلام عن الحق، وأناب إليه، يبين لنا الله سبحانه وتعالى مظهرية الإنابة في قوله تعالى:
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خوطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم لله عَزَّ وَجَلَّ وتأوهه رحمة بهؤلاء الذين لم يؤمنوا، وهم قوم لوط، وأيضاً كانت حجة إبراهيم عليه السلام في الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت:
{وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قالوا إِنَّا مهلكوا أَهْلِ هذه القرية إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 3132] .
وكان سؤال إبراهيم للملائكة: كيف تُهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بالله وعلى رأسهم نبي من الله هو لوط عليه السلام، وردت عليه الملائكة:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} [العنكبوت: 32] .(11/6571)
وكأن إبراهيم خليل الرحمن يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة، يبيح له الجدال عن أهل القرية جميعاً.
ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الآية التالية: {ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ}(11/6572)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
وقول الملائكة:
{ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} [هود: 76] .
يعني إبلاغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمرٌ مُنتهٍ ومحسوم، فهم قد جاءوا لينفذوا، لا ليهدِّدوا؛ وأبلغوا إبراهيم:
{إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} [هود: 76] .
وإذا ما كان الأمر قد جاء من الله، فإبراهيم عليه السلام لأنه {مُّنِيبٌ} يعلم أن أي أمر من الله تعالى لا بد أن يُنفَّذ، فلا بد أن يَتقبَّل أمرَ الحق سبحانه:
{وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76] .
أي: لا أحد بقادر على أن يرد عذاب الله. وكما أن هناك وعداً من الله تعالى غير مكذوب، فهناك أيضاً عذاب غير مردود.(11/6572)
ويُروى أن إبراهيم عليه السلام في جداله قال للملائكة: إذا كان في قوم لوط خمسون قد آمنوا بالله تعالى، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال: وإن كان فيهم عشرة يؤمنون بالله، أتعذبونهم؟ قالوا: لا. قال وإن كان فيهم واحد هو لوط؟ فردَّت الملائكة:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32] .
وانتهى الجدال، وذهبت الملائكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب بقوم لوط.
ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ}(11/6573)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
أي: أن لوطاً شعر بالسوء، وضاق بهم ذرعاً، والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف والأصابع وندفع بها الأشياء، وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به، وإن لم تَطُله ذراعك؛ قلت: «ضقت به ذرعاً» أي: أن يدي لم تطله، وهو أمر فوق قوتي وطاقتي، وفوق ما آتاني الله من الآلات ومن الحيل.
وما الذي يسيء لوطاً في مجيء الملائكة؟(11/6573)
قيل: لأن الملائكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال، فحين يُقال: «فلان ملاك» ، أي: شكله جميل.
ولوط عليه السلام يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور، وامرأته تعلم هذه الآفة، لكن موقفها من ذلك غير موقف لوط، فهي ترحب بتلك الآفة.
ويُقال: إنها تنبهت لمجيء الرجال الحِسان ولم تعرف أنهم ملائكة العذاب وصعدت إلى سطح المنزل، وصفقت لعل القوم ينتبهون لها، فلم يلتفت لها أحد، فأشعلت ناراً فانتبه لها القوم، وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال.
وهنا قال لوط عليه السلام:
{هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] .
أي: يوم شديد المتاعب.
ويقال: «يوم عصيب» و «يوم عصبصب» ، ومنه «العُصْبَة» وهم جماعة يتكاتفون على شيء، ويقوى الفرد بمجموعهم، وقد صدق ظن لوط.
وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك:(11/6574)
{وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(11/6575)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
وقول الحق سبحانه: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] .
أي: يسرعون إليه في تدافق، والإنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دُربة، يكون متردداً خائفاً، أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط.
وكلمة «يهرعون» هي من الألفاظ العجيبة في اللغة العربية، وألفاظ اللغة تجد فيها فعلاً له فاعل، كقولنا: «يضربُ زيدٌ عَمْراً» أي: أن الضارب هو «زيد» والمضروب هو «عمرو» ، ونقول: «يُضْرَبُ عمرو» أي: أننا بنينا الفعل للمجهول، وسُمِّي عمرو «نائب فاعل» .
أما في الفعل «يُهْرَعُ» فلا نجد أحداً يقول: «يُهرع» إلا ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل، مثلها مثل الفعل «جُنَّ» فهل هناك من يأتي لنفسه بالجنون، أم أن الجنون هو الذي جاءه؟ لا أحد يعرف سبب الجنون؛ ولذلك بُنيت الكلمة للمجهول، ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلاً. وهذا من إعجاز البيان القرآني.(11/6575)
وكذلك نقول: «زُكِمَ فلان» فمن الذي أصابه بالزكام؟ لا نعرف سبباً ظاهراً للزكام.
إذن: فإذا جُهِلَ الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول، ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلاً.
وقول تعالى:
{يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] .
يبيِّن أنهم أقبلوا باندفاع، كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لأن كلاً منهم له دربة على ذلك الفعل المشين، أو أن كلاً منهم ذاهب إلى ما يحب دون تَهيُّب، باندفاع من نفسه ودَفْع من غيره، مثلما تقول: «سنوزع تمويناً بالمجان» ؛ هنا تجد الناس يتدافعون، كل منهم من تلقاء نفسه، وغيره يدفعه ليرتد إلى الوراء.
وقوم لوط كانوا على دُرْبة بتلك الفاحشة.
يقول الحق سبحانه عنهم:
{وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} [هود: 78] .
أي: أن هذه المسألة عندهم كانت محببة، ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم، ولا حياء يمنعهم عنها.
فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الآخرون أن يفعلوها، لكن إذا ما كانوا يحبون تلك السيئة، فلن يخجل أحد من الآخر.(11/6576)
وماذا يكون موقف لوط عليه السلام في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة، وفي كوكبة واندفاع، وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم، وفكَّر لوط عليه السلام في أن يصرفهم انصرافاً من جنس اندفاعهم.
يقول الحق سبحانه:
{قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] .
وقد قال ذلك لأن المرأة مخلوقة لذلك، ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته.
وكان العُرْف في أيام لوط عليه السلام لا يمنع أن يزوِّج المؤمن ابنته لغير المؤمن؟ وقد زَوَّجَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إحدى بناته لعُتبة بن أبي لهب، وأخرى لأبي العاص بن الربيع؟ قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن.
فهل كان المقصود: بناته من صُلبه أم بنات أمته، أم بنات المؤمنين به؟ وقد قيل: إنه لم يؤمن بالله إلا لوط وابنتاه، فكيف يكون الزواج لابنتين من كل هذا العدد من الرجال المتدافعين؟
وقيل: إنه بحث عن السادة الأقوياء الذين بيدهم القرار، وأراد أن يراضيهم بهذا الزواج؛ لعلهم يرجعون عن الفواحش والسيئات، وفي هذا طهر لهم، وبذلك يحفظون كرامته أمام ضيوفه.
يقول لوط عليه السلام:
{فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} هود: 78] .
وكلمة «ضيف» كما نعلم جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق(11/6577)
أيضاً على الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضاً، فإن جاء ضيف واحد تقول: «هذا ضيفي» ، وإن جاء اثنان تقول: «هذان ضيفي» ، وإن كانت امرأة تقول: «هذه ضيفي» ، وإن كانتا امرأتين تقول: «هاتان ضيفي» ، وإن جاءت جماعة تقول: «هؤلاء ضيفي» .
والحق سبحانه يقول:
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] .
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل: كلمة «طفل» فهي مفرد؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة «طفل» وُجِد لها جمع هو «أطفال» .
والحق سبحانه يقول:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ(11/6578)
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 31] .
إذن: فكلمة «طفل» تطلق أيضاً، ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس وأمام الناس.
والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيىء ما لم يره أحد، أما أن يراه الناس، ففي هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل السيىء بينه وبين نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلام:
{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} [هود: 78] .
أي: ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة، يمنع هذه المسألة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6579)
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ}(11/6580)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلباً للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له: أنت تعلم مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلاً من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال.
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}(11/6580)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وساعة تقرأ كلمة «لو» فهذا هو التمني، أي: رجاء أن يكون له قوة يستطيع أن يدفع بها هؤلاء، وكان لا بد من وجود شرط، مثل قولنا: «لو أن زيداً عندك لجئت» ، لكن نجد هنا شرطاً ولا جواب، كأن يقال: «لو أن لي بكم قوة لفعلت كذا وكذا» .(11/6580)
ولذلك يقال إن الملائكة قالت له: إن ركنك لشديد؛ ولذلك قال:
{أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] .
والشيء الشديد هو المتجمِّع تجمُّعاً يصعب فَصْلُه، أو المختلط اختلاطاً بمزجٍ يصعب تحلُّله؛ لأنك حين تجمع الأشياء؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصّلة، ولكنك تربطها ربطاً قوياً، مثل أن تربط المصلوب على شجرة برباط قوي، لكن كليهما المصلوب والشجرة، منفصل عن الآخر وله ذاته، وهناك ما يُسمَّى خلطاً، وهناك ما يُسمَّى مزجاً، والخلط هو أن تخلط أشياء، وكل شيء منها متميز عن غيره بحيث تستطيع أن تفصله، أما المزج فلا يمكن فصل الأشياء الممتزجة ببعضها.
ومثال ذلك: أنك قد تخلط فول التدميس مثلاً مع حبات من الفول السوداني، وتستطيع أن تفصل الاثنين بعضهما عن بعض؛ لأنك جمعتهما على استقلال. ولكن إن قُمْتَ بعصر ليمون على كوب من الماء المحلى بالسكر؛ فهذا مزج يصعب حَلُّه.
وقد قال لوط عليه السلام ذلك لأنه لم يكن في مَنعةٍ من قومه، أهل «سدوم» ويقال: إنها خمس قرى قريبة من «حمص» .
وقد تعجَّب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من قول لوط، فقال فيما رواه البخاري:
«رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» .
فَلِهوْل ما عانى لوط عليه السلام من كرب المفاجأة قال ذلك، وهو يعلم أنه لا يوجد سند أو ركن أشد من الحق سبحانه وتعالى.(11/6581)
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قالته الملائكة للوط عليه السلام: {قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ}(11/6582)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
وهكذا علم لوط لأول مرة أنهم رسل من الله تعالى، رغم أنهم حين تكلموا مع إبراهيم لم يقولوا أنهم رسل من الله؛ ليدلنا على أن إبراهيم عليه السلام كان يعلم أنهم رسل من الحق سبحانه، لكنه لم يكن يعلم سبب مجيئهم.
وهم حين أخبروا لوطاً: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} [هود: 81] فمن باب أولى ألا يصلوا إليهم، وتخبر الملائكة لوطاً أن يسري بأهله ليلاً أي: أخرج بأهلك في جزء من الليل، وقد أوضحت الملائكة أن موعد النكال بقوم لوط هو الصبح:
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .(11/6582)
لذلك قالوا:
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} [هود: 81] .
والمقصود أن يترك ربع الليل الأول، وربعه الآخر، وأن يسير في نصف الليل الذي بعد ربع الليل الأول وينتهي عند ربع الليل الأخير، وقيل: إن أليق ما يكون بالقطع هو النصف.
ثم يقول الحق سبحانه:
{وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81] .
والالتفات: هو الانصراف عن الشيء الموجود قبالتك، ويسمى الانصراف عن المقابل. فهل المقصود هو الالتفات الحسي أم الالتفات المعنوي؟
نحن نعلم أن لوطاً سيصحب المؤمنين معه؛ من ديارهم وأموالهم، وما ألفوه من مقام ومن حياة؛ لذلك تنبههم الملائكة ألا تتجه قلوبهم إلى ما تركوه، وعليهم أن ينقذوا أنفسهم، وسيعوضهم الله سبحانه خيراً مما فاتهم.
هذا هو المقصود بعد الالتفات المعنوي، وأيضاً مقصود به عدم الالتفات الحسي.
وتوصي الملائكة لوطاً عليه السلام ألا يصحب امرأته معه؛ لأنها خانته بموالاتها للقوم المفسدين، وإفشائها للأسرار، وعليه أن يتركها مع الذين يصيبهم العذاب.(11/6583)
ولكنها لحظة الخروج ادعت أنها مخلصة للوط، وقالت: سأخرج حيث تخرج، ثم نظرت إلى القوم وقالت: وا قوماه ورجعت لتمكث معهم، ولينالها العذاب الذي نالهم في الموعد الذي حددته الملائكة وهو الصبح:
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
وقد تحدد الصبح لإهلاكهم؛ لأنه وقت الدعة والهدوء فيكون العذاب أشد نكالاً.
ويقول الحق سبحانه: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}(11/6584)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
والحق سبحانه يبين لنا هنا أن الأمر بالعذاب حين يصدر، فالمأمور يستجيب قهراً، ويقال إن قرى قوم لوط خمس: قرية «سدوم» وقرية «دادوما» وقرية «ضعوه» ، وقرية «عامورا» وقرية «قتم» .
وقوله تعالى:
{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] .
أي: انقلبت انقلاباً تامّاً.(11/6584)
ويقول القرآن في موضع آخر:
{والمؤتفكة أهوى} [النجم: 53] .
والمؤتفكة من الإفك وهو الكذب المتعمَّد، أي: قول نسبة كلامية تخالف الواقع، ولأن من يقول الإفك إنما يقلب الحقيقة إلى غير الحقيقة زعماً، ويقلب غير الحقيقة إلى ما يشبه الحقيقة.
كذلك المؤتفكة، أي: القرى التي جعل عاليها سافلها فانقلبت فيها الأوضاع.
ونفذ أمر الله بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود، وهو طين قد تحجَّر.
والحق سبحانه يقول في آية أخرى {حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذرايات: 33] .
وكلمة «حجارة» تعطي الإحساس بالصلابة، أما كلمة «طين» فتعطي إحساساً بالليونة، ولكن الطين الذي نزل قد تحجر بأمر من الله تعالى، وهو قد نزل منضوداً. . أي: يتتابع في نظام، وكأن كل حجر يعرف صاحبه، لأن الحق سبحانه يقول بعد ذلك:(11/6585)
{مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ}(11/6586)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
وكلمة «مسوَّمة» أي: مُعلَّمة، وكأن كل حجر قد تم توجيهه إلى صاحبه، فهذا الحجر يذهب إلى فلان، وذلك إلى فلان، مثل الصواريخ الموجهة إلى البلاد، ولكن الدقة في هذه الحجارة أن كل حجر يعرف على من بالتحديد سوف ينزل بالعذاب، وقد جعلها الحق سبحانه لتعذيب المكين، أي: الإنسان، ولا تدمر البلاد.
وهي مُرتَّبة؛ لأن الحق سبحانه قال:
{سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} [هود: 82] .
ووردت كلمة (سجيل) أيضاً في قول الحق سبحانه:
{طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: 34] .
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] .
والظالمون هنا مقصود بهم الكافرون برسالة الحق سبحانه وتعالى التي تتابعت في الموكب الرسالي وخاتمها هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونحن نعلم أن القصص القرآني قد نزل تسلية وثباتاً بيقين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتذكرة بالأسوة:
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .(11/6586)
وتحكي القصص المعارك التي قامت بين كل رسول مُؤيَّد بمعجزة من الله، وبين المنكرين له والكافرين به، وقد انتهت كل هذه المعارك بنصرة الرسول على الكافرين، إلا أن الرسل السابقين لم يُكلّفوا أن يقاتلوا من أجل الإيمان، بل كان عليهم أن يعلنوا الحجة الإيمانية فقط، وأن يبلغوا المنهج، فإن عصى القوم؛ فالسماء هي التي تتدخل لتأديب المخالفين.
والحق سبحانه يقول:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 614] .(11/6587)
ولكن الأمر اختلف بمجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الدين الذي تقوم عليه الساعة، وقومه مأمونون على البلاغ عن الله تعالى خلافة للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وعلى كل واحد من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم حكماً من أحكام الله تعالى أن يبلغه؛ لأنه قائم مقام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والحق سبحانه يقول:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] .
إذن: فكل واحد من أمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو امتداد لرسالة الإسلام، وبدلاً من أن السماء كانت تتدخل لتأديب الكافرين، جعل الله سبحانه لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يقفوا بالقوة أمام الكافرين، لا لفرض الإيمان؛ لأن الإيمان لا يُفرض، ولا يُكره عليه؛ لأنك قد تُكره إنساناً في الأمور الحسية، لكنك لا تستطيع أن تملك قلبه، والحق سبحانه يريد الإيمان الغيبي الذي يملك القلوب.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34] .
إذن: فالحق سبحانه يريد قلوباً تخشع، لا أعناقاً تخضع.(11/6588)
وهكذا فُوِّضَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تفويضين: فُوِّضَتْ في نقل رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الأجيال، وكل جيل ينقلها إلى الجيل الذي يليه.
وها هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نَضَّر الله امرأ سمع مقاتلي فوعاها وأداها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامع» .
وفُوِّضَتْ أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن تقف من الكافرين موقف تأديب، لا لتفرض الدين ولكن لتحمي حق اختيار الدين، فلم يحدث أن رُفع سيفٌ في الإسلام ليفرض ديناً؛ بل رفع السيف ليحمي حرية اختيار الإنسان للدين.
يقول سبحانه:
{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .
فإذا آمن فعليه الالتزام بالإيمان، فلا يكسر حكماً من أحكام الإيمان، وهذا تصعيب للدخول في الإسلام، فمن أين يأتي ادعاء فرض الدين على المخالفين؟!
إذن: فقد آمن المؤمن من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيمانين: الإيمان الأول هو أن يؤمن بالإسلام، والإيمان الثاني أن يبلغ الدعوة.
ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» .
فهل المقصود بالعلماء هم من يعلمون العلم فقط؛ لا، بل يقصد كل من يعرف قضية من قضايا الإيمان معرفة سليمة وصحيحة وينساح(11/6589)
بالدعوة في الأرض ليعلِّم غير المؤمنين ويترك الناس أحراراً في اختيار الدين.
وكذلك يقف المؤمنون برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأية قوة تحارب حرية اختيار الدين.
وهكذا جاءت قصص القرآن لتثبيت فؤاده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد بعث المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في مكة، فصرخ بالدعوة، لا في آذان القبائل الواهية في أطراف الجزيرة، ولكن في آذان سادة الجزيرة، حتى لا يقال: إنه استضعف قوماً فناداهم إلى الإيمان به، ولم يجرؤ على السادة، وهم قريش، التي أخذت السيادة بحكم إقامتها في مكان البيت العتيق، وكان كل العرب يحجون إلى البيت الحرام، فإذا ما تعرضت قبيلة لقريش بسوء، فقريش قادرة على أن تنال من أبناء تلك القبيلة حين يحجون إلى البيت الحرام.
وهكذا أخذت قريش هيبتها من وجودها حول البيت.
إذن: فالبيت هو الذي صنع السيادة لقريش، وهو الذي صنع السيادة للآلهة المدَّعاة من الأصنام حين يأتي كل قوم بإلههم من الحجر؛ ليضعوه في البيت؛ ليكتسب الحجر قداسة من قداسة البيت.
إذن: فقد أخذت قريش السيادة من البيت الحرام، وجاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأعلن الدعوة على أسماع السادة، وسَفَّه أحلامهم، ولم يُبَالِ بجبروتهم وسيادتهم على الجزيرة.(11/6590)
لكن الحق سبحانه قد شاء ألا يكون انتصار الإسلام على يد السادة من قريش في مكة، بل جاء انطلاق الإسلام من المدينة؛ لأن الله سبحانه أراد أن يُعلِّم الدنيا كلها أن العصبية لمحمد لم تخلق الإيمان بمحمد.
ولكن الله تعالى قد شاء أن يكون المستضعفون من أطراف الجزيرة هم الذين نصروا الدعوة؛ فكأن الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي خلق العصبية لمحمد للحق الممثَّل في رسالة محمد، ولم تخلق العصبية لمحمد إيماناً به وبرسالته.
وإذا كان الحق سبحانه قد نعتهم بالظالمين، وبيَّن لهم أن المكان الذي قُلِبَ عاليه أسفله، ليس ببعيد عنهم، فهل لهم أن يتخذوا من ذلك عبرة؟
والظلم كما نعلم هو مجاوزة الحق للغير، أي: أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير ذي حق، فإذا كان ظلماً في الألوهية، فهذا هو الشرك العظيم، وإن كان ظلماً في إعطاء حق من حقوق الدنيا للغير، فهو ظلم للإنسانية، والظلم درجات بحسب الجريمة.
وقد ظلمت قريش نفسها ظلماً عظيماً؛ لأنها أشركت بالله؛ وجعلت له شركاء في الألوهية؛ وهذا أقصى أنواع الظلم.
والله سبحانه يريد أن يذكِّر هؤلاء الظالمين بأن عذاب الله حين يجيء، أو أمر الله حين يأتي؛ لا يمكن أن يقوم أمامه قائم يمنعه، فتنبهوا جيداً إلى أنكم عُرْضة أن يُنزل الله تعالى بكم العذاب كما أنزل بهذه القرى؛ وهي غير بعيدة عنكم، فالمسافة بين المدينة والشام قد تبدو مسافة طويلة إلا أن الله تعالى قد جعلهم يمرون عليها في كل رحلة من رحلات الصيف إلى الشام.
إذن: فهي قرى تقع على طريق مسلوكة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه عن موقعها:
{وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76] .
أي: بطريق تمرون عليها، لا يجرفها سيل، ولا يغير معالمها ريح.
بل هي طريق ثابتة مقيمة تمرون عليها حينما تذهبون في رحلة الصيف إلى الشام، فكان من الواجب أن تأخذوا في كل مرور لقطة وعبرة؛ حتى لا تقعوا في ظلم آخر.
وقد نبهكم الله سبحانه أيضاً بمروركم على ديار قوم صالح الذين خاطبهم الحق سبحانه بقوله:
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128130] .
هكذا ترون ديار ثمود وديار عاد وديار لوط وهي خاوية، وكان من الواجب معشر قريش ألا تبالغوا في الظلم، وأن تنتبهوا بالعبرة إلى مصير كل من يشرك بالله تعالى.(11/6591)
ويلفتهم الحق سبحانه إلى أنهم لم يكفروا بحق الألوهية فقط، ولكنهم ايضاً كفروا بشكر النعمة، وظلموا؛ لأن الله سبحانه هو الذي أنعم عليهم برحلة الشتاء إلى اليمن، وبرحلة الصيف إلى الشام،(11/6592)
والرحلتان للتجارة التي تأتي بالزيادة لقريش؛ لأنهم يخرجون بالأموال ويعودون بالبضائع التي يبيعونها لأهل مكة، ولزوار بيت الله الحرام.
وقد أخذت قريش مهابتها عند كل قوم يمرون عليهم أثناء الرحلتين، من أنهم يعيشون حول البيت الحرام، لذلك يمتن الله سبحانه على قريش في قوله سبحانه:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 15] .
فالقوم الذين جاءوا ليهدموا البيت الحرام وهو رمز السيادة لو هدم وتحوَّل الحجيج إلى صنعاء، لسقطت مهابة قريش، ولكن الله تعالى حمى البيت وأرسل عليهم طيراً أبابيل، وجعل الذين قصدوه بسوء كعصف مأكول.
لماذا صنع الله تعالى ذلك؟
تأتي الإجابة في السورة التالية لسورة الفيل حيث يقول الحق سبحانه في سورة قريش:(11/6593)
{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إلافهم رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 14] .
إذن: كان من الواجب حين يمرون على هذه الديار أن يأخذوا منها عبرة، وأنهم وإن كانوا يمرون على هذه الديار بقصد التجارة وهي سر معاشهم إذا لم يأخذوا من هؤلاء العبرة فهم يقترفون ظلماً جديداً آخر.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] .
أو: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينبه قريشاً إلى أن الهلاك الذي نزل بهؤلاء القوم المشركين، ليس ببعيد أن يصيب قريشاً، وأن يرسل الله سبحانه على كل واحد من الكافرين به حجراً مسوَّماً يصيبه في مكانه الذي يكون فيه.
والسطحيَّون في اللغة يخطئون فيأخذون على القرآن مآخذ، لا تلتفت إليها الملكة الصحيحة في اللغة، ويقولون: كيف يقول الله:
{وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} [هود: 83] .
وكلمة «ما هي» مؤنثة، وتقتضي أن يقول: «بعيدة» بدلاً من كلمة «بعيد» ، أي: أن يكون القول: «وما هي من الظالمين ببعيدة» ونسوا أن المتكلم هو الله تعالى، وأنهم لم يدرسوا اللغة دراسة صحيحة؛ لأن «فعيل» إن جاءت بمعنى «مفعول» ، فهنا يستوي المذكر والمؤنث.(11/6594)
ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضاً هو قول الحق سبحانه:
{وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وقول الحق سبحانه:
{إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] .
إذن: فعدم درايتهم باللغة هو الذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقصة أخرى من القصص التي جاء بها الله في هذه السورة لموكب الرسل، فيأتي بقصة شعيب عليه السلام، ويقول سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً}(11/6595)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
و «مدين» هو اسم ابن إبراهيم عليه السلام، ولم يكن هذا الابن موجوداً وقت بعثة شعيب، لكن القبيلة التي تناسلت منه سُمِّيت باسمه، وكذلك القرية التي أقامت فيها القبيلة سميت باسمه، فإن قلت إن شعيباً أرسل لقبيلة مدين، فهذا قول سليم، وإن قلت إنه أرسل لقرية مدين، فهذا قول سليم أيضاً؛ لأن القرية لا بد لها من سكان.
والحق سبحانه يقول على لسان إخوة يوسف عليه السلام:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] .
والمقصود «أسأل أهل القرية» .
إذن: فمرة يطلب الاسم على المكان، ومرة يطلق المكان ويراد به المكين.
وقد بدأ شعيب رسالته مع قومه من حيث بدأ كل الرسل بالدعوة إلى قمة التدين، وهو أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ولا إله غيره، وهذا هو القدر المشترك في كل الرسالات.
والحق سبحانه يقول:
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى: 13] .
إذن: فقمة الدين قي قضية العقيدة الإيمانية، وهي عبادة الله تعالى وحده ولا إله غيره، لأن الحق سبحانه حين يوجه الأوامر التكليفية «افعل»(11/6596)
و «لا تفعل» فالله سبحانه لا يوجهها إلا لمن آمن به إلهاً واحداً، أما الذي لا يؤمن به، فالله سبحانه لا يوجه إليه أي حكم.
ولذلك تجد حيثية كل حكم تكليفي في القرآن مُصَدَّراً بقوله تعالى:
{ياأيها الذين آمَنُواْ} [البقرة: 178] .
سواء أكان الأمر صياماً، أم قصاصاً، ففي كل تكليف يُصدَّر بهذا القول، لا بد أن يأتي المعنى: يا من آمنت بي إلهاً قادراً حكيماً، اسمع مني التكليف.
ولذلك أقول دائماً:
إن علة كل تكليف هي الإيمان بالمكلِّف، ولا داعي للبحث عن علة أخرى.
فمثلاً حيث يُقَال: إن علة الوضوء النظافة، نقول: وإن لم يوجد ماء، فنحن نلمس التراب أو الحجر ثم نمسح وجوهنا في التيمم.
إذن: فالمقصد هو أن نتهيأ للصلاة بأي شكل يحقق مقصود العبادة وهو الطاعة للخالق سبحانه وتعالى.
وإياك أن تؤخر تنفيذ الحكم إلى أن تبرره؛ لأن مبرره هو صدوره عن الله سبحانه وتعالى.(11/6597)
وكذلك كل شيء يقوله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنحن نتبعه، ولا نبحث عن علة له، وإلا لو كنا نؤجل الأحكام إلى أن تثبت تبريراتها العلمية مثل فساد لحم الخنزير بما يحمله من أمراض، ومثل قدرة الخمر على إهلاك المخ وتدمير خلاياه، فضلاً عن تدمير خلايا الكبد، فنحن لو كنا قد أجلنا تلك الأحكام، فماذا كان الموقف؟
لقد طبَّق المسلمون هذه الأحكام فور نزولها؛ لإيمانهم بالمنهج وحبهم في القرب من الله، ثم أثبتت الأيام صدق الله تعالى في تكليفه.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] .
وعرفنا أن العبادة ليست محصورة في الصلاة أو الصوم أو الزكاة أو الحج؛ لأن هذه هي الأركان الأساسية التي يقوم عليها الإسلام؛ ولكن الإسلام أيضاً هو عمارة الأرض بتنفيذ كل التكاليف، وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإقبال الإنسان على مهنة ما يحتاجها المجتمع هو عبادة، وإذا خلتْ صنعة من صانع فعلى ولي الأمر أن يكلف ويرغم بعض الناس على تعلمها؛ وأيضاً إتقان الصنعة عبادة.(11/6598)
وقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام:
{مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] .
أي: إياك أن تأخذ حكماً تكليفياً من أحد آخر غير الله سبحانه وتعالى، لأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وإياك أن تستدرك من البشر حكماً على الله سبحانه وتعالى، وتظلم نفسك وتقول: «لقد فات الله أن يقول لنا هذا الحكم، ولنأتي لأنفسنا بحكم جديد» .
إياك أن تستدرك حكماً على الله. افهم الحكم أولاً، فإن جاء حكماً محكماً فخذه، وإنْ كان غير محكم بأن جاء مجملاً، أو غير مبيَّن، فانظر باجتهادك إلى أية جهة تصل.
ولذلك «نجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل من أرسله مبعوثاً إلى اليمن فقال:» كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما يرضي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «.
وبعد أن دعا شعيب عليه السلام آل مدين لعبادة الله سبحانه وحده، وهذا هو الأمر المشترك بين جميع الرسل عليه السلام تأتي الأحكام الأخرى،(11/6599)
فمن يعمل فاحشة له علاجه، ومن ينقص في الكيل والميزان، فالرسول يعالج هذا الأمر.
لأن العالم القديم كان عالم انعزال، لا التحام فيه أو مواصلة؛ فقد يوجد عيب وآفة في مكان، ولا يوجد هذا العيب أو تلك الآفة في مكان آخر.
وكل رسول يأتي ليعالج عيباً محدداً في المكان الذي أرسله الله إليه، ولكن رسول الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم الأنبياء والمرسلين جاء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والدنيا على ميعاد بالالتقاء الإيماني، فلما تقاربت البلاد عن طريق سرعة الاتصالات، وما يحدث في عصرنا الآن بقارة أمريكا نجده عندنا في نفس اليوم أو غداً، فالعالم الآن عالم التقاء، وتعددت الداءات فيه وتوحدت بسبب سرعة الالتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث والطيب.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو خاتم الرسل.
وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة الله وحده، وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف في الكيل والميزان، لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام:
{وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] .
وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل والموزون، لأنه لو شاء لقال: «ولا تنقصوا المكيل أو الموزون» هذا(11/6600)
إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة ما يريد البائع، ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق حقه، أن يأخذ المشتري حقه من السلعة، وأن يأخذ البائع حقه في الربح.
إذن: فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معاً.
والكيل كما نعرف هو تعديل شيء بشيء، فإن كان في الخفة والثقل؛ فالأمر يحتاج إلى ميزان، وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم، فهذا يحتاج إلى الكيل، وهذا هو الأمر المشهور في الكيل والميزان، وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه؛ فالقماش مثلاً يتم تعديله بالمتر، والأرض يتم تعديلها بالمساحة؛ أي: قياس الطول والعرض، وبعض الأشياء تُباع بالحجم، وهذا يعني قياس الطول والعرض والارتفاع واستخراج الناتج بعملية ضرب كل منهم في الآخر.
إذن: فالأمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه، حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز عملاً، فأنت تعدل زمن وقوة العمل بالأجر الملائم، والأمر المشهور هو الكيل والميزان، لكن بقية التقييمات موجودة؛ ليأخذ كل ذي حق حقه.
لأن الإنسان لو أخذ غير حقه لاستمرأ أن يأخذ حقوق الناس، ولو أكل بعض الناس حقوق البعض الآخر؛ لَزهدَ من أكلتْ حقوقهم في العمل.
وأنت حين تعطي للإنسان أقل مما يستحق، أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر، تجده يبطىء في العمل، ولا ينجز المطلوب منه على تمام الدقة، ومن هنا يحدث الخلل.
ولذلك أقول: إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الأداء في العمل.(11/6601)
وعلينا أن نترك صاحب الطموح ليعمل؛ بدلاً من أن يخزن ماله أو يكنزه؛ لأن صاحب الطموح حين يقيم مشروعاً أو بناءً؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم حتى وإن كان لا يفكر في ذلك فالذي يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللازمة للبناء دون أن يقصد وسينتفع العامل الفقير دون أن يقصد صاحب العمل وربما انتفع كل الفقراء مما يصنعه صاحب العمل، قبله فيما يفعل.
إذن: فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه؛ مصداقاً لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه» .
وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر الأمر يحض على الإيثار، وفي واقع الأمر، هو يحرص على تأكيد ثواب الإنسان عند ربه؛ لأن الذي يؤثر غيره على نفسه ولو كان به خصاصة لو كان معه مال قليل وأعطاه لآخر عنده ضائقة، وليس عند هذا الآخر مال، هنا يكون صاحب المال القليل قد آثر الآخر على نفسه في ظاهر الأمر، ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال ثواباً من عند الله تعالى.(11/6602)
وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية، وهي النفعية التي يعاملنا بها الله سبحانه؛ وحين نترك قانون النفعية ليسيطر على حركة الناس، فنحن نوفر سيولة الانتفاع في المجتمع.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيباً قال لأهل مدين:
{وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] .
أي: أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك؛ لأن من يبيع منكم عنده سلع، ومن يشتري إنما يملك نقوداً، فاكتفوا بالخير الذي عندكم، وليأخذ كل ذي حق حقه، وهذه قضية يغفل عنها كثير من الناس؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفاً واحداً، فإن غش في الكيل أو الميزان، فسوف يغشه ويخدعه غيره في الأصناف الأخرى التي تلزمه لحياته.
وإن اشتغل واحد في إنقاص الكيل والميزان، فالآخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص حياته؛ لأن المخادع الواحد، سيلقي مخادعين كثيرين، وهنا يقول شعيب عليه السلام: ما الذي يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير؟
ثم يقول محذراً:
{وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84] .
لانك حين تنقص شيئاً وأنت تبيع أو تزيد شيئاً حين تشتري، فأنت لا تخدع من تتعامل معه، وإنما تخدع نفسك.
وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع، وقد تطرأ على المشتري، وقد يحاول بائع أن يستغل غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه، وقد(11/6603)
يحاول المشتري أن يستغل غفلة البائع بأن يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع، فيأخذ غير حقه، وهذا نوع من خداع النفس؛ لأن الحق سبحانه إنما يأمر بالاستقامة في البيع والشراء؛ لأن الانتفاع بأي شيء مهما كَثُر، فهو موقوت بعمر الإنسان في الدنيا، وعمر الإنسان موقوت، ولكن الذي يغش ويخدع إنما يُعرِّض نفسه لعذاب الله سبحانه في الآخرة، وهو عذاب بلا أمد ولا نهاية.
وهكذا يسلِّم الإنسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة، ثم يلقى عذاباً لا ينتهي في آخرة غير زائلة.
والعذاب في الآخرة عذاب محيط، بمعنى أن المعذَّب لا يستطيع أن يفلت منه، فأنت في الدنيا بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب، وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك ليحميك، ولكنك في الآخرة تواجه يوماً لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة، إن كنت من أهل النار.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلاً الحديث إلى أهل مدين: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط}(11/6604)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه:
{وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} [هود: 84] .
وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة؛ لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه:
{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطفيين: 13] .
ذلك لأن البائع قد يقول لك: أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك؛ وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس للاثنين.
وهنا يقول شعيب عليه السلام:
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} [هود: 85] .
والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء.
ثم يقول سبحانه:
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] .(11/6605)
وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقّاً له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها أمور تعني: أخذ غير حق بوسائل متعددة.
ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري، أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئاً، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ مالاً أو شيئاً مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى:
{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] .
تضم أشياء متعددة.
والبخس هو أن تضر غيرك ضرراً، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كَمٌّ، أو كَيْفٌ.
وكلمة «أشياء» مفردها: «شيء» ، ويقولون عن الشيء: «جنس الأجناس» فالثمرة يقال لها: «شيء» ، وكل الثمر يقال له: «شيء» .
والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلاً.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة «الناس» جمع، وكلمة «أشياءهم» جمع أيضاً، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحاداً. أي: لا تبخس الفرد شيئاً، وإنْ قَلَّ.(11/6606)
ونجد واحداً من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشياً على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشياً إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس: لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود؛ فأجاب العارف بالله: لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفاً آخر جلس يكتب كتاباً، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له: أنا أخذت تراباً من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار: والله لِورَعِك لا أقوِّم، أي: أنه قد تسامح في هذا الأمر.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [هود: 85] .(11/6607)
وكلمة عثا، يَعْثي، ويعثوا، وعثى. يعثي؛ كلها تعني: زاول فساداً، أي: أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طَمْر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح في ذاته عن صلاحه.
والمجتمع كله بكل فرد فيه مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك لصار المجتمع كله صالحاً، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد، ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ}(11/6608)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
أي: ما يبقى لكم من الأمر الحلال خير لكم؛ لأن من يأخذ غير حقه يخطىء؛ لأنه يزيل البركة عن الحلال بالحرام؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط الله عليه أبواباً تنهب منه الزائد عن حقه.
وأنت تسمع من يقول: «فلان هذا إنما يحيا في بركة» ، أي: أن دخله قليل، ولكن حالته طيبة، ويربي أولاده بيسر، على عكس إنسان آخر قد يكون غنيّاً من غير حلال، لكنه يحيا في ضنك العيش.(11/6608)
وقد تجد هذا الإنسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فلا يكفي ماله لصد همومه، لأن الله سبحانه قد جَرَّأ عليه مصارف سوء متعددة.
وقد يستطيع الإنسان أن يخدع غيره من الناس، ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبداً.
وقول الحق سبحانه:
{بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} [هود: 86] .
أي: أن الله تعالى يُذهِب عمن يراعي حقوق غيره مصارف السوء.
وسبق أن قلنا قديماً: فلننظر إلى رزق السلب لا إلى رزق الإيجاب؛ لأن الناس في غالبيتها تنظر إلى رزق الإيجاب، بمعنى البحث عن المال الكثير، وينسون أن الحق سبحانه وتعالى قد يسلط مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق، بينما يسلب عن الذي يرعى حقوق الناس تلك المصارف من السوء.
ومن يُربُّون أولادهم من سُحْت أو حرام، لا يبارك الله فيهم؛ لأن هناك في تكوينهم شيئاً حراماً. فنجد على سبيل المثال ابن المرتشي يأخذ دروساً خصوصية ويرسب، بينما ابن المنضبط والملتزم بتحصيل(11/6609)
الكسب الحلال مقبل على العلم وناجح. أو قد يرزق الله تعالى صاحب المال الحرام زوجة لا يرضيها أي شيء، بل تطمع في المزيد دائماً، بينما يعطي الله سبحانه من يرعى حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله.
يقول الحق سبحانه:
{بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 86] .
أي: إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيُّوم؛ فلا تأخذ حقّاً غير حقك؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله:
{وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] .
أي: أن شعيباً عليه السلام قد أوضح لأهل مدين: أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه من الإفساد؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيباً على نفسه ما دام قد آمن بالله سبحانه، وما دام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال:
{بَقِيَّةُ الله} [هود: 86] .
أي: أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة.
وهذه هي فائدة الإيمان: ما يأمر به وما ينهي عنه.
وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.
. أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة، والخافية.(11/6610)
ومن يتأمل الآيات الثلاث:
{وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 8486] .
من يتأمل هذه الآيات يجد عناصر الصيانة للحركة في المجتمع كله، والمجتمع إن لم تُصَنْ حركته يفسد؛ لأن حركة المجتمع أرادها الحق سبحانه حركة تكاملية، لا تكرار فيها؛ ولو تكررت المواهب لما احتاج أحد إلى مواهب غيره.
والمصلحة العامة تقتضي أن يحتاج كل إنسان إلى موهبة الآخر، فمن يدرس الدكتوراه فهو يحتاج إلى من يكنس الشارع، ومن يعالج الناس ليشفيهم الله نجده يحتاج إلى من يقوم بإصلاح المجاري.
وماذا كان رد أهل مدين على قول شعيب؟
يقول الحق سبحانه: {قَالُواْ ياشعيب أصلاوتك تَأْمُرُكَ}(11/6611)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
أي: أيأمرك إلهك ودينك أن نترك ما يعبد آباؤنا؟
ولقائل أن يقول: ولماذا قالوا: «أصلاتك» ؟
نقول: لأن الإسلام بُنِيَ على خمس: أولها شهادة ألاّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ويكفي أن يقولها الإنسان مرة واحدة في حياته كلها، ثم إقامة الصلاة، وبعد ذلك إيتاء الزكاة، ثم صوم رمضان، ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
وأنت إن نظرت إلى هذه الأركان فقد تجد إنساناً لا يملك ما يزكِّى به أو ما يحج به، وقد يكون مريضاً فلا صوم عليه، وهو ينطق بالشهادة مرة واحدة في حياته، ولا يبقى في أركان الدين إلا الصلاة؛ ولذلك يقال عنها: «عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين» لأنها الركن الوحيد الذي يعلن العبد فيه الولاء لربه كل يوم خمس مرات، دواماً في الولاء لله.
ولا تسقط الصلاة أبداً عن أي إنسان مهما كانت ظروفه، فإن عجز عن الحركة؛ فله أن يصلي برموش عينيه، وإن عجز عن تحريك رموش عينيه فَلْيُجْرِ الصلاة على قلبه، حتى في حالة الحرب والمسايفة(11/6612)
فالإنسان المسلم يصلي صلاة الخوف.
إذن: فالصلاة هي الركن الذي لا يسقط أبداً، ويُكرَّر في اليوم خمس مرات، وقد أعطاها الحق سبحانه في التشريع ما يناسبها من الأهمية.
وكل تكليفات الإسلام جاءت بوحي من الله سبحانه وتعالى، فجبريل عليه السلام يحمل الوحي إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ويبلغنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إياه، وتميزت الصلاة وحدها بأن الحق سبحانه قد كلَّف بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أثناء وجوده في الملأ الأعلى؛ عند سدرة المنتهى، وذلك لفرط أهميتها.
ومثال ذلك من حياتنا ولله المثل الأعلى نجد الرئيس في أي موقع من مواقع العمل؛ وهو يستقبل البريد اليومي المتعلق بالعمل، ويحول كل خطاب إلى الموظف المختص ليدرسه أو ليقترح بخصوصه اقتراحاً، وإذا وجد الرئيس أمراً مهمّاً قادماً من أعلى المستويات؛ فهو يستدعي الموظف المختص؛ ويرتب معه الإجراءات والترتيبات الواجب اتخاذها؛ وإذا كان هذا يحدث في الأمور البشرية، فما بالنا بالتكليف من الله سبحانه وتعالى للرسول؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يكون تكليف الصلاة لأهميته هو التكليف الوحيد الذي نال تلك المنزلة؛ لأنها الركن الذي يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد؛ ولا مناص منه.(11/6613)
فأنت قد لا تنطق الشهادة إلا مرة واحدة؛ لكنك تقولها في كل صلاة.
وفي الزكاة تضحِّي ببعض المال؛ وأنت لم تولد ومعك المال؛ إلا إن كنت قد ورثت وأنت في بطن أمك؛ ولا بد أن تزكِّي من مالك؛ والمال لا يأتي إلا من العمل؛ والعمل فرع من الوقت؛ وأنت في الصلاة تضحِّي بالوقت نفسه؛ والوقت أوسع من دائرة الزكاة.
وفي الصيام أنت تمتنع عن شهوتي البطن والفرج؛ من الفجر إلى المغرب؛ لكنك تمارس كل أنشطة الحياة؛ أما في الصلاة فأنت تصوم عن شهوتي الفرج والطعام؛ وتصوم أكثر عن أشياء مباحة لك في الصيام.
وفي الحج أنت تتوجه إلى بيت الله الحرام؛ وأنت في كل صلاة تتوجه إلى بيت الله الحرام.
وهكذا تجتمع كل أركان الإسلام في الصلاة.
وأهل مدين هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد هزءوا برسولهم شعيب عليه السلام، وصلاته؛ مثلما فعل كفار قريش مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقال أهل مدين لشعيب عليه السلام:
{أصلاوتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] .
وظنوا أنهم بهذا القول إنما يتهكمون عليه؛ لأن شعيباً كان كثير الصلاة؛ وهم ككفار قريش يجهلون أن الصلاة تأمر وتنهى.
والحق سبحانه يقول:(11/6614)
{إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] .
إذن: فللصلاة أمر، وللصلاة نهي، وما دام قد ثبت لشيء حكم؛ يثبت له مقابله، وأنت تسمع من يقول لآخر: أنت تصلي لذلك فأنا أثق في أمانتك وتسمع إنساناً آخر ينصح صديقاً بقوله: كيف تسمح لنفسك أن ترتكب هذا الإثم وأنت خارج من الصلاة؟
وكثير من الناس يغفلون عن أن التقابل في الجهات إنما يحل مشاكل متعددة؛ فيأخذون جهة ويتركون الأخرى.
ولذلك أقول: ما دام الحق سبحانه قد قال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا بد أنها تأمر بالبر والخير.
ومثال آخر: نجده في قول الحق سبحانه عن غرق قوم فرعون:
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض} [الدخان: 29] .(11/6615)
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد نفى بكاء السموات والأرض على قوم فرعون؛ ففي المقابل فلا بد أنها تبكي على قوم آخرين؛ لأن السموات والأرض من المسخّرات للتسبيح، وقال الحق سبحانه عنهما:
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} [الأحزاب: 72] .
وبهذا القول اختارت كل من السموات والأرض مكانة الكائنات المسبِّحة، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] .
فإذا رأت السموات والأرض إنساناً مُسبِّحاً؛ فلا بد أن تحبه، وإن رأت إنساناً كافراً، معانداً؛ فلا بد أن تكرهه.
وما دامت السموات والأرض لم تبكِ على قوم فرعون؛ فذلك لأنهم ضالون؛ لأنها لا تبكي إلا على المهديين.
وقد حلَّ لنا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هذه المسألة؛ فقال: «إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في الأرض، وموضع(11/6616)
في السماء، أما موضعه الذي في الأرض؛ فمصلاّه، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله» .
لأن موضعه الذي كان يصلي فيه؛ يُحرم من أن واحداً كان يصلي فيه، وأما موضعه الذي كان يصعد منه عمله؛ فيفتقد رائحة عبور العمل الصالح.
فإن أردت بالصلاة الدين؛ وهي رمز الدين؛ فللصلاة أمر هو نفس أمر الدين، وهي الأمر بالإيمان الحق، لأن الإيمان المقلد لا نفع له.
إذن: فقد أراد أهل مدين التهكم على دعوة شعيب لهم؛ وتساءلوا:
{أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} [هود: 87] .
وهذا القول يحمل أيضاً ردهم على دعوته لهم ألاّ يعبدوا غير الله؛ فلا إله غيره؛ وردوا كذلك على دعوته لهم ألاّ ينقصوا الكيل والميزان؛ وألاّ يبخسوا الناس أشياءهم؛ وأن يتيقنوا أن ما يبقى عند الله هو الخير لهم، وألا يعثوا في الأرض مفسدين.
وقالوا: أتنهانا أيضاً عن أن نفعل بأموالنا ما نشاء؟ وكأنهم قد عميت بصيرتهم؛ لأنهم إن أباحوا لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛(11/6617)
فغيرهم سيبيحون لأنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ وستصطدم المصالح، ويخسر الجميع.
وقولهم: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] .
استمرار في التهكم الذي بدءوه بقولهم:
{أصلاوتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} [هود: 87] .
مثلهم في ذلك مثل منافقي المدينة الذين قالوا للأنصار:
{لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ} [المنافقون: 7] .
وكانوا يريدون أن يضربوا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ وقد قالوا: {رَسُولِ الله} تهكماً؛ وهم يحرضون أثرياء المدينة على تجويع المهاجرين.
ومثلهم أيضاً مثل قوم لوط حين نهاهم عن فعل تلك الفحشاء؛ فقالوا تهكماً منه وممن آمن معه:
{أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] .
فهل تطهرهم علة للإخراج من القرية، ولكنهم قالوا هذا لأنهم لا يريدون أن يكون بينهم من يعكر ما هم فيه.
وهذا مثلما نسمع في حياتنا من يقول: «لا تستعن بفلان لأنه حنبلي» .(11/6618)
هم إذن قد قالوا:
{إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] .
وهذا منطق السخرية منه؛ لأنه لم يوافقهم على عبادة غير الله؛ ولم يوافقهم على إنقاص الكيل والميزان؛ ونهاهم عن بَخْس الناس أشياءهم.
وإذا قيل حُكْمٌ وهو حقٌّ؛ ويقوله من لا يؤمن به؛ فهو يقصد به الهُزْء والسخرية.
وهو لون من التهكم جاء في القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ فنجد الحق سبحانه يقول لمن تجبر وطغى في الدنيا؛ ويلقى عذاب السعير في الآخرة:
{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] .
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] .(11/6619)
وفي كُلٍّ من القولين تهكم وسخرية، وكذلك قولهم في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{أصلاوتك تَأْمُرُكَ} [هود: 87] .
وهذا قول يحمل التهكم بصلاته.
وكذلك قولهم:
{إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] .
يعني التساؤل: كيف يصح لك وأنت العاقل الحليم أن تتورط وتقول لنا:
{اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 84] .
وقد قالوا ذلك لأنهم قد ألفوا عبادة الأصنام، وكذلك تهكموا على دعوته لهم بعدم إنقاص الكيل والميزان.
وأيضاً لم يقبلوا منه قوله بأن يحسنوا التصرف في المال، والعلة التي برروا بها كل هذا السَّفَه أن شعيباً حليم رشيد؛ فيكف يدعوهم إلى ما يخالف أهواءهم؟
ويأتي الحق سبحانه بما قاله شعيب عليه السلام فيقول جَلَّ شأنه:(11/6620)
{قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي}(11/6621)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وهنا يعلن لهم شعيب عليه السلام أنه على يقين من أن الله سبحانه وتعالى قد أعطاه حجة ومنهجاً، وقد رزقه الرزق الحسن الذي لا يحتاج معه إلى أحد؛ فامور حياته ميسورة.
وقد يكون المقصود بالرزق الحسن رحمة النبوة.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان شعيب عليه السلام:
{وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] .
أي: أنني أطبق ما أدعوكم إليه على نفسي؛ فلا أنقص كيلاً أو أخْسِر ميزاناً، ولا أبخس أحداً أشياءه؛ لأني لا أعبد غير الله.(11/6621)
وكلمة «أخالف» تدل على اتجاهين متضادين، فإن كان قولك بهدف صرف إنسان عن فعل لكي تفعله أنت؛ تكون قد خالفته «إلى» كذا، وإن كنت تريده أن يفعل فعلاً كيلا تفعله أنت؛ تكون قد خالفته «عن» كذا.
فشعيب عليه السلام يوضح لهم أنه لا ينهاهم عن أفعال؛ ليفعلها هو؛ بل ينهاهم عن الذي لا يفعله؛ لأن الحق سبحانه قد أمره بألا يفعل تلك الأفعال، فالحق سبحانه هو الذي أوحى له بالمنهج، وهو الذي أنزل عليه الرسالة.
وشعيب عليه السلام لا ينهاهم عن أفعال يفعلها هو؛ لأنه لا يستأثر لنفسه بما يرونه خيراً؛ فليس في نقص الكيل والميزان؛ أو الشرك بالله أدنى خير، فكل تلك الأفعال هي الشر نفسه.
ويوضح لهم شعيب عليه السلام مهمة النبوة؛ فيقول:
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} [هود: 88] .
فالنبوات كلها لا يرسلها الله تعالى إلا حين يطم الفساد، ويأتي النبي المُرسَل بمنهج يدل الناس إلى ما يصلح أحوالهم؛ من خلال «افعل» و «لا تفعل» ويكون النبي المُرسَل هو الأسوة لتطبيق المنهج؛ فلا يأمر أمراً هو عنه بنَجْوةٍ؛ ويطبق على نفسه أولاً كل ما يدعو إليه.(11/6622)
ولذلك قال شعيب عليه السلام:
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} [هود: 88] .
لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وما يدخل في طوعها.
ويقول شعيب عليه السلام بعد ذلك:
{وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] .
وهكذا نعلم أن هناك فرقاً بين العمل؛ وبين التوفيق في العمل؛ لأن جوارحك قد تنشغل بالعمل؛ ولكن النية قد تكون غير خالصة؛ عندئذ لا يأتي التوفيق من الله.
أما إن أقبلت على العمل؛ وفي نيتك أن يوفقك الله سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلاص؛ فستجد الله تعالى وهو يصوِّب لك أيَّ خطأ تقع فيه؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال الإتقان، وفي الجمال جلال.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} ؛ أي: أنه لا يتوكل إلا على الله؛ ولا يصح أن تعطف على هذا القول شيئاً؛ لأنك إن عطفت على هذا القول وقلت «على الله توكلت وعليك» ؛ فتوقع ألا يوفقك الله، لأنك أشركت أحداً غير الله.
ونجد في القرآن الكريم قول الحق سبحانه على لسان هود عليه السلام:
{تَوَكَّلْتُ عَلَى الله} [هود: 56] .(11/6623)
ويجوز لك هنا أن تعطف.
ولك أن تتذكر قول أحد العارفين: «اللهم إني أستغفرك من كل عملٍ قصدتُ به وجهك فخالفني فيه ما ليس لك» .
فلا تترك شيئاً يزحف على توكلك على الله تعالى؛ لأنك إليه تنيب؛ وترجع؛ كما قال شعيب عليه السلام: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي}(11/6624)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
يقول لهم شعيب عليه السلام: أرجو ألا تحملكم عداوتكم لي على أن تُجرموا جُرْماً؛ يكون سبباً في أن ينزل الحق سبحانه بكم عقاباً، مثلما أصاب القوم(11/6624)
الذين سبقوكم؛ من الذين خالفوا رسلهم؛ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم العذاب كالغرق، والرجفة، والصيحة، والصاعقة، فاحذروا ذلك.
وشعيب عليه السلام ينصحهم هنا حرصاً منه عليهم، على الرغم من علمه أنهم يكنون له العداء؛ لأنه دعاهم إلى ترك عبادة الأصنام التي عبدوها آباءهم؛ ونهاهم عن إنقاص الكيل والميزان، وألا يبخسوا الناس أشياءهم؛ وسبق أن عذَّب الحق سبحانه المخالفين لشرع الله من الأمم السابقة؛ ويذكرهم شعيب عليه السلام بأقرب من عُذِّبوا زماناً ومكاناً؛ وهم قوم لوط.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ}(11/6625)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
وهذه الآية تبين لنا أن الحق سبحانه لا يغلق أمام العاصي حتى المُصِرّ على شيء من المعصية باب التوبة.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة» .(11/6625)
ولنا أن نتخيل بماذا يشعر من فقد بعيره؛ وهذا البعير يحمل زاد صاحبه ورَحْله؛ ثم يعثر الرجل على بعيره هذا.
لا بد إذن أن يفرح صاحب البعير بالعثور عليه.
والحق سبحانه يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلام لقومه:
{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} [هود: 90] .
وما دمتم ستستغفرونه عن الذنوب الماضية؛ وتتوبون إليه؛ بألا تعودوا إلى ارتكابها مرة أخرى؛ فالحق سبحانه لا يرد مَنْ قصد بابه: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90] لأن مغفرته تستر العذاب، ورحمته تمنع العذاب.
وجاء الحق سبحانه هنا بأوسع المعاني: المغفرة، والرحمة، ومعهما صفته «الودود» ؛ وهي من الود؛ والود هو الحب؛ والحب يقتضي العطف على قدر حاجة المعطوف عليه.
ولله المثل الأعلى: نرى الأم ولها ولدان: أولهما قادر ثري يأتي لها بما تريد؛ وثانيهما ضعيف فقير؛ فنجد قلب الأم دائماً مع هذا الضعيف الفقير؛ وتحنِّن قلب القويِّ القادر على الفقير الضعيف.
ونجد المرأة العربية القديمة تجيب على من سألها: أي أبنائك أحب إليك؟ فتقول: الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود؛ والمريض حتى يشفى.
إذن: فالحب يقتضي العطف على قدر الحاجة.
ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي:
«يا بن آدم؛ لا تَخَافنَّ من ذي سلطان؛ ما دام سلطاني باقياً؛ وسلطاني لا ينفد أبداً. يا بن آدم لا تَخْشَ من ضيق رزق؛ وخزائني ملآنة، وخزائني(11/6626)
لا تنفد أبداً. يا بن آدم خلقتك للعبادة؛ فلا تلعب، وضمنت لك رزقك فلا تتعب، فَوَعِزَّتي وجلالي إن رضيت بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك؛ وكنتَ عندي محموداً؛ وإن أنت لم ترض بما قسمتُه لك؛ فوعزتي وجلالي لأسلِّطنَّ عليك الدنيا، تركض فيها ركض الوحوش في البرية؛ ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك. يا بن آدم خلقت السموات والأرض ولم أعْيَ بخلقهنَّ؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك؟ يا بن آدم لا تسألني رزق غد كما أطلب منك عمل غدٍ. يا بن آدم أنا لك مُحِبٌّ؛ فبحقي عليك كنْ لي مُحِبّاً» .
وهذا الحديث الكريم يبيِّن مدى مودة الله سبحانه لخلقه؛ تلك المودة التي لا تستوعبها القلوب المشركة.
ويأتي الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك بقول أهل مدين رَدّاً على شعيب عليه السلام: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً}(11/6627)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
وهذا يُظاهي قول مشركي قريش لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد قالوا:
{قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] .
والإيمان يتطلب قلباً غير ممتلىء بالباطل؛ ليُحسن استقباله؛ أما القلوب الممتلئة بالباطل، فهي غير قادرة على استقبال الإيمان؛ إلا إذا أخلت العقولُ تلك القلوبَ من الباطل، وناقشت العقول كُلاً من الحق والباطل، ثم تأذن لما اقتنعت به أن يدخل القلوب.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يطبع ويختم على القلوب الممتلئة بالكفر؛ فلا يخرج منها الكفر ولا يدخل فيها الإيمان.
ولم يكتف أهل مدين بإعلان الكفر؛ بل هددوا شعيباً وقالوا:
{وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] .
وهذا التهديد يحمل تحدِّياً، وكأنهم ظنوا أن بقدرتهم الفتك به؛ لأنهم يبغضون حياته؛ وأعلنوا حجة واهية؛ وهي أن رهطه أي: قومه وأهله؛ لأن الرهط هم الجماعة التي يتراوح عدد أفرادها بين ثلاثة وعشرة أفراد ما زالوا على عبادة الأصنام؛ وأن هذا الرهط سيغضب لأي ضرر يصيب شعيباً؛ وتناسوا أن الذي أرسل شعيباً عليه السلام لا بد أن يحميه، وهم بتناسيهم هذا حققوا مشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ بأن يُسخِّر الكفر لخدمة الإيمان.
ومثال ذلك: هو بقاء عم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبي طالب على دين قومه؛ وقد ساهم هذا الأمر في حماية محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ظاهر الأسباب(11/6628)
ثم يأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بردِّ شعيب عليه السلام على قومه؛ فيقول: {قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله}(11/6629)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
وهنا يتساءل شعيب عليه السلام باستنكار: أوضعتم رهطي في كفة؛ ومعزَّة الله تعالى في كفة؟ وغلَّبتم خوفكم من رهطي على خوفكم من الله؟! ولم يأبه شعيب عليه السلام باعتزازهم برهطه أمام اعتزازه بربه؛ لأنه أعلن من قبل توكله على الله؛ ولأنه يعلم أن العزة لله تعالى أولاً وأخيراً.
ولم يكتفوا بذلك الاعتزاز بالرهط عن الاعتزاز بالله؛ بل طرحوا التفكير في الإيمان بالله وراء ظهورهم؛ لأن شعيباً عليه السلام يقول لهم:
{واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] .
أي: لم يجعلوا الله سبحانه أمامهم، فلم يأبهوا بعزة الله؛ ولا بحماية الله؛ وجعلوا لبعض خلقه معزَّة فوق معزَّة الله.
ولم يقل: (ظِهْرِيًّا) نسبة إلى (الظهر) ، فعندما ننسب تحدث تغييرات، فعندما ننسب إلى اليمن نقول: يمنيّ. ونقول: يمانيّ، فالنسب هنا إلى الظهري، وهي المنسي والمتروك، فأنت ساعة تقول: أنت طرحت فلاناً وراء ظهرك، يعني جعلته بعيداً عن الصورة بالنسبة للأحداث، ولم تحسب له حساباً. إذن: فهناك تغييرات تحدث في باب النسب.(11/6629)
ويذكِّرهم شعيب عليه السلام بقوله:
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92] .
أي: أن كل ما تقولونه أو تفعلونه محسوب عليكم؛ لأن الحق سبحانه لا تخفَى عليه خافية، وقد سبق أن عرفنا أن القول يدخل في نطاق العمل؛ فكلُّ حدث يقال لهم: «عمل» ؛ وعمل اللسان هو القول؛ وعمل بقية الجوارح هو الأفعال.
وقد شرَّف الحق سبحانه القول لأنه وسيلة الإعلام الأولى عنه سبحانه.
يقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب عليه السلام: {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ}(11/6630)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
إذن: فشعيب عليه السلام عنده القضية المخالفة؛ لأن الله تعالى عنده أعزُّ من رهطه؛ وباعتزازه بربه قد آوى إلى ركن شديد، وبهذا الإيمان يعلن لهم: افعلوا ما في وُسْعكم، وما في مُكْنتكم هو ما في مُكْنة البشر، وسأعمل ما في مُكْنتي، ولست وحدي، بل معي الله سبحانه وتعالى؛ ولن تتسامى قوتكم الحادثة على قدرة الله المطلقة.
ومهما فعلتم لمعارضة هذا الإصلاح الذي أدعوكم إليه؛ فلن يخذلني الذي أرسلني؛ وما دمتم تريدون الوقوف في نفس موقف الأمم السابقة التي(11/6630)
تصدت لموجات الإصلاح السماوية؛ فهزمهم الله سبحانه بالصيحة، وبالرجفة، وبالريح الصرصر، وبالقذف بأي شيء من هذه الأشياء، وقال لهم: اعملوا على مكانتكم، وإياكم أن تتوهموا أني أتودد إليكم؛ فأنا على بينة من ربي، ولكني أحب الخير لكم، وأريد لكم الإصلاح.
ولم يَقُلْ شعيب عليه السلام هذا القول عن ضعف، ولكن قاله ردّاً على قولهم:
{وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] .
وأبرز لهم مكانته المستمدة من قوة مَنْ أرسله سبحانه وتعالى، وقال:
{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93] .
وهكذا أوضح لهم: أنا لن أقف مكتوف الأيدي، لأني سأعمل على مكانتي، و {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] .
أي: أن المستقبل سوف يبيِّن مَنْ مِنَّا على الحق ومَنْ مِنَّا على الضلال، ولم سيكون النصر والغلبة، ومن الذي يأتيه الخزي؛ أي: أن يشعر باحتقار نفسه وهوانها؛ ويعاني من الفضيحة أمام الخلق؛ ومَنْ مِنَّا الكاذب، ومَنْ على الحق.
وكان لا بد أن تأتي الآية التالية:(11/6631)
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ}(11/6632)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
ونلحظ أن الحق سبحانه قد أورد في هذه السورة: أسلوبين منطوقين أحدهما بالواو، والآخر بالفاء.
الأول: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 94] ، في قصة اثنين آخرين من الرسل.
الثاني: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 66] .
في قصة اثنين من الرسل.
وقصة شعيب هي إحدى القصتين اللتين جاء فيهما {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} ولم يأت ب «الفاء» لأنها كما نعلم تقتضي التعقيب بسرعة، وبدون مسافة زمنية؛ وتسمى في اللغة «فاء التعقيب» ، مثل قول الحق سبحانه:
{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] .(11/6632)
أما «ثم» فتأتي لتعقيب مختلف؛ وهو التعقيب بعد مسافة زمنية؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] .
وقد جاءت «الفاء» مرة في قصة قوم لوط؛ لأن الحق سبحانه قد حدد الموعد الذي ينزل فيه العذاب، وقال:
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
فكان لا بد أن تسبق «الفاء» هذا الحديث عن عذابهم، فقال:
{فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ} [هود: 82] .
أما هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فقد قال الحق سبحانه:
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] .
ولم يذكر وعداً ولم يحدد موعد العذاب.
والحق سبحانه يقول:
{وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 94] .
وكل أمر يقتضي آمراً؛ ويقتضي مأموراً؛ ويقتضي مأموراً به.(11/6633)
والآمر هنا هو الله سبحانه؛ وهو القادر على إنفاذ ما يأمر به، ولا يجرؤ مأمور ما على مخالفة ما يأمر به الحق سبحانه؛ فالكون كله يأتمر بأمر خالقه.
إذن: فحين يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن العذاب قد جاء لقوم؛ فمعنى ذلك أن الأمر قد صدر؛ ولم يتخلف العذاب عن المجيء؛ لأن التخلف إنما ينشأ من مجازفة أمر لمأمور قد لا يطيعه، ولا يجرؤ العذاب على المخالفة لأنه مُسخَّر، لا اختيار له.
والقائل هنا هو الله سبحانه صاحب الأمر الكوني والأمر التشريعي؛ فإذا قال الحق سبحانه حكماً من الأحكام وسجله في القرآن؛ فتيقن من أنه حادث لا محالة؛ لأن القضية الكونية هي من الحق سبحانه وتعالى، ولا تتخلف أو تختلف مع مشيئته سبحانه، والحكم التشريعي يسعد به مَنْ يُطِّبقه؛ ويشقى من يخالفه.
والحق سبحانه يعطينا مثالاً لهذا في قصة أم موسى. . يقول جَلَّ شأنه:
{وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] .
فمنطق البشر يقول: كيف نقول لامرأة: إذا خِفْتِ على ابنك ألقيه في البحر؟ كيف ننجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟
هذا وإن كان مخالفاً لسنن العادة إلا أن أم موسى سارعت لتنفيذ أمر الله سبحانه؛ لأن أوامر الله بالإلهام للمقربين، لا يأتي لها معارض في الذهن.
والحق سبحانه كما أمرها بإلقاء وليدها في اليم، فقال:(11/6634)
{إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم} [طه: 3839] .
كذلك أمر الحق سبحانه وتعالى اليمَّ بإلقاء التابوت، وفي داخله موسى للساحل، ولذلك فيقين أم موسى في أن أوامر الله لا تتخلف، جعلها تسارع في تنفيذ ما أمرها الله به.
والحق سبحانه يريد أن يُربِّبَ الإيمان، أي: يزيده في قلوب عباده، فَهَبْ أن الله قضى بقضية أو أمر بأمر، ثم لم يأت الكون على وفق ما أمر الله، فماذا يكون موقف الناس؟
فما دام رب العزة سبحانه قد قال فلا بد أن يحدث ما أمر به، فعندما يقول الحق سبحانه: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .
فلا بد أن تكون الغلبة لجنود الله، فإذا ما غُلبوا فافهموا أن شرط الجندية لله قد تخلَّف، وأن عنصراً من عناصر الجندية قد تخلف وهو الطاعة.
ومثال هذا: الذين خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البقاء على الجبل يوم أحد، إنهم خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فماذا يحدث لو أنهم انتصروا مع هذه المخالفة؟
إذن: فقد انهزم المسلمون الذين اختلت فيهم صفة من صفات جنديتهم لله.
ولا بد أن تلتقي القضيتان: القرآنية والكونية؛ لأن قائل القرآن هو صاحب سنن الكون سبحانه وتعالى.
ولأن أهل مدين هنا قد أعلنوا الكفر؛ فلا بد أن يأتيهم العذاب.
وسمَّى الحق سبحانه هنا العذاب بالصيحة؛ وقال:
{وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] .(11/6635)
وسمَّى الحق سبحانه في سورة الأعراف العذاب الذي لحق بهم: «الرجفة» ؛ فقال:
{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91] .
وسماه في قصة قوم عاد:
{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] .
وسمَّاه بالخسف في عذاب قارون.
ومن عظمة التوجيه الإلهي أن العذاب كان ينتقي القوم الكافرين فقط؛ ولا يصيب الذين آمنوا، بدليل قول الحق سبحانه:
{نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [هود: 94] .
ولا يقدر على ذلك إلا إله قادر مقتدر؛ يُصرِّف الأمور كما يشاء سبحانه.
وكلمة «نجينا» : من النجاة؛ أي: أن يوجد بنجوة؛ وهي المكان العالي، والعرب قد عرفوا مبكراً طغيان الماء؛ فقد كانوا يقيمون في اليمن ثم بعثرهم السيل مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ(11/6636)
العرم وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 1516] .
هكذا تفرق العرب من اليمن؛ وانتشروا في الجزيرة العربية، وكانوا يخافون من الماء رغم أنه سر الحياة؛ وفضَّلوا التعب في البحث عن الماء للشرب لهم ولأنعامهم؛ بدلاً من الوجود بجانب الماء، ومن عداوة الماء جاءت كلمة «نجا» أي: صعد إلى مكان مرتفع.
واستخدمت كلمة «نجا» في كل موقف ينجو فيه الإنسان من الخطر الداهم، فيقال: «نجا من النار» ؛ «ونجا من العدو» ؛ «ونجا من الحيوان المفترس» ؛ وكلها مأخوذة من النجوة، أي: المكان المرتفع. ويقال في الفعل (نجا) : نجا فلان، إذا كانت قوته تسعفه ليخلص نفسه من العذاب.
أما إذا كانت قوته غير قادرة على تخليصه من العذاب، فهو يحتاج إلى مَنْ يُنجيه، ويُقال: «أنجاه» ، إذا كانت المسألة تحتاج إلى جهد ومعالجة صعبة ليتحقق الفوز.(11/6637)
ونسب الفعل فيها إلى الله؛ فقال «نجينا» .
ويأتي الحق سبحانه في مثل هذا الأمر بضمير الجمع، كقوله تعالى:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] .
فكل شيء فيه فعل من الحق سبحانه وتعالى يأتي الله فيه بضمير الجمع: إنَّا.
أما إذا كان الشيء متعلقاً بصفة من صفات الذات الإلهية، فإن الحق سبحانه يأتي بضمير الإفراد (أنا) مثل قوله تعالى:
{إنني أَنَا الله} [طه: 14] .
وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه؛ لأن شعيباً عليه السلام قال لقومه:
{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93] .
وكان عمل شعيب عليه السلام فيه صحة وعزيمة التوكل؛ لذلك أنجاه الله تعالى والذين آمنوا معه، فهو سبحانه لا يريد من عباده إلا التوجه بالنية الخالصة الصادقة إليه، فإذا توجَّه العبد بالنية الصادقة إلى الله، فالحق سبحانه يريح العبد، ويُعينه بالاطمئنان على أداء أي عمل.
ومجرد الإيمان بالله تعالى والاتجاه إليه بصدق وإخلاص؛ يفتح أمام العبد آفاقاً من النجاح والرفعة. . والمفتاح في يد العبد؛ لأن الحق سبحانه قد قال في الحديث القدسي:
«من ذكرني في نفسه ذكرته في ملأ خير منه» .(11/6638)
إذن: فالمفتاح في يد العبد.
والحق سبحانه هو القائل:
«ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً» .
وهكذا يترك الحق سبحانه أمر التقرب إليه للعبد، وعندما يتقرب العبد من الله تعالى، فإنه سبحانه يتقرَّب إلى العبد أكثر وأكثر.
ثم يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي:
«ومن جاءني يمشي أتيته هرولة» لأن المشي قد يُتعب العبد، لكن لا شيء يُتعب الحق سبحانه أبداً؛ لأنه مُنزَّهٌ عن ذلك.
إذن: فالحق سبحانه يريد منا أن نُخلص النية في الالتحام بمعية الله تعالى، ليضفي علينا ربنا سبحانه من صفات جلاله وصفات جماله.
وانظروا إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في الغار. . يقول الحق سبحانه:
{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}
[التوبة: 40] .
أي: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهى صاحبه عن الحزن بعلة معية الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن أبا بكر الصديق قد قال كلاماً يفيد الحزن؛ لأن الحزن لم يأت له من تلقاء نفسه، بل من قانونٍ كوني، حين قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا» لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتكلم عن القانون(11/6639)
الكوني، لكنه يتكلم عن طلاقة قدرة المكوِّن سبحانه، فقال: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» .
فمعية الله أضفت عليهما شيئاً من جلاله وجماله، والله سبحانه لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار.
وقد أنجى الحق سبحانه شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه، والرحمة ألا يصيبك شيء.
ومثال ذلك: إن الإنسان يعالج فيشفى، ومرة أخرى يحميه الله من الداء.
ولذلك انتبهوا إلى حقيقة أن القرآن قد جاء بأمرين: شفاء، ورحمة، فإذا كان هناك داء وترجعه إلى منهج الله؛ فالحق سبحانه يشفيه، والرحمة ألا يصيبك الداء من البداية.
وأما الذين ظلموا فقد أخذتهم الصيحة، وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] .
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه:
{وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} [هود: 94] .
لأن القرآن على جمهرته جاء على لغة قريش، لا ليُعْلي قريشاً؛ ولكن لأن لغة قريش كانت مُصفَّاة من جميع القبائل العربية، فهي تملك صفوة لغة كل القبائل، ولكن لم يكن ذلك يعني أن نطمس بقية القبائل.(11/6640)
ولذلك جاء في القرآن بعض من لغات القبائل الأخرى، حتى لا يعطي لقريش سيادة في الإسلام كما كان لها سيادة في الجاهلية، لذلك يأتي بلغات القبائل الأخرى، فمرة ياتي بتاء التأنيث ومرة لا يأتي بها.
والتأنيث إما أن يكون حقيقياً أو مجازياً. والتأنيث الحقيقي هو المقابل للمذكر، مثل: المرأة. والتأنيث المجازي مثل: «الصيحة» و «الحجرة» . وكانت القبائل العربية تتجاوز في المؤنث المجازي؛ فمرة تأتي «التاء» ومرة لا تأتي.
وإن كان هناك فَصْل بين الفعل والفاعل، فالفاصل قائم مقام التأنيث فيقول سبحانه:
{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] .(11/6641)
فكأن الصيحة لها مقدرة على أن تأخذ بما أودعه فيها مُرسِل الصيحة من قوة الأخذ، وأخذه أليم شديد.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى:
{فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] .
ونلحظ أن كل عذاب إنما يحدد له الحق سبحانه موعداً هو الصبح، مثل قوله تعالى:
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
ومثل قوله الحق:
{فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين} [الصافات: 177] .
والصبح هو وقت الهجمة على الغافل الذي لم يغادره النوم بعد، مثل زُوَّار الفجر الذين يقبضون على الناس قبيل النهار.
ويقول الحق سبحانه:
{فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94] .
ولم يقل سبحانه: «فأصبحوا في دارهم جاثمين» ؛ لأن بعضهم قد لا يكون في بيته، بل في مكان آخر لزيارة أو تجارة.
ومثال ذلك: قصة أبي رغال، وكان في مكة، لكن الحجر الذي قتله بإرادة الله سبحانه نزل عليه في البقاع ولم ينزل عليه الحجر في مكة؛ لأن(11/6642)
الله سبحانه قد شاء ألا ينزل عليه الحجر في البيت الحرام، الآمن، وكأن الحجر قد تتَّبعه، مثلما تتبعت الصيحة الكفار من أهل مدين.
ونلحظ في الكلمة الأخيرة من هذه الآية الكريمة وهي «جاثمين» أن حرفي «الجيم» و «الثاء» حين يجتمعان معاً بصرف النظر عن الحرف الثالث، ففيهما شيء من الهلاك، وشيء من الغنائية. ومعنى «جاثمين» أي: مُلقَون على بطونهم بلا حراك.
والحق سبحانه يقول:
{وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] .
أي: يركع كل مَنْ فيها على ركبتيه. ويقال عن الميت: «الجثة» .
وانظروا إلى عظمة الحق سبحانه حين يجعل الناس تنطق لفظ «الجثة» تعبيراً عن أي «ميت» عظيماً كان أم وضيعاً، ثم توضع جثته في القبر، لتحتضنه أمه الأولى؛ الأرض.(11/6643)
ومن يرغب في تهدئة إنسان ملتاع وغاضب لموت عزيز عليه، فَلْيقُلْ له: هل تتحمل جثمانه أسبوعاً؟ وسوف يجيب: «لا» .
إذن: فبمجرد أن ينزع الله سبحانه السر الذي به كان الإنسان إنساناً، وهو الروح، يصبح الإنسان جثة ثم يتخشب، ثم يَرِمُّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك وصفاً لمن أخذتهم الصيحة من أهل «مدين» : {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ}(11/6644)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
أي: أن من يمر على أهل «مدين» بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود.
والحق سبحانه يقول:
{حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا} [يونس: 24] .
فالإنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة، إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط على زر آلة، فإذا شاء الله سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر.(11/6644)
هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها الإنسان كمخدوم، وهي غير الجنة التي ينال فيها الإنسان ما يشتهي بمجرد أن يخطر الأمر بباله.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 95] .
ومادة «الغنى» منها: الغناء بكسر الغين وهو ما يغنيه المطربون، ومنها الغناء بفتح الغين وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر، فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي الناس.
وهكذا الغناء؛ لأن الأذن تسمع كثيراً، والعين تقرأ كثيراً، لكن الإنسان لا يردد إلا الكلام الذي يعجبه، والملحَّن بطريقة تعجبه؛ فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره.
والغَناء، أي: الإقامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر، وتتوطن في هذا المكان الذي يغنيك عن بقية الأماكن.
إذن: فقول الحق سبحانه:
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} [هود: 95] .
أي: كأنهم لم يقيموا هنا، ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه.
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم:
{مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] .(11/6645)
أي: أن الأطلال قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم، مثل معابد قدماء المصريين، وأنت حين تزورها لا تجد المعابد كلها سليمة، بل تجد عموداً منتصباً، وآخر مُلْقىً على الأرض، وباباً غير سليم، ولو كانت كلها حصيداً؛ لاختفت تماماً، ولكنها بقايا قائمة، ومنها ما اندثر.
وهذا يثبت لنا صدق الأداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات، لأنها لو ذهبت كلها؛ لما عرفنا أن هناك حضارات قد سبقت.
ثم يقول الحق سبحانه:
{أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] .
وكلمة «ألا» كما عرفنا من قبل هي «أداة استفتاح» ليلتفت السامع وينصت، فلا تأخذه غفلة عن الأمر المهم الذي يتكلم به المتكلم، وليستقبل السامع الكلام كله استقبال المستفيد.
وكلمة «بُعْداً» ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد؛ لأنها هلكت بالفعل، ومادة كلمة «بُعْداً» هي: «الباء» و «العين» و «الدال» وتستعمل استعمالين: مرة تريد منها الفراق؛ والفراق بينونة إلى لقاء مظنون، إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة ألا تكون، ولذلك جاء بعدها:
{كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] .
وهي تدل على أنه بعدٌ لا لقاء بعده إلا حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة.(11/6646)
والشاعر يقول:
يَقُولُون لا تبعدْ وهُمْ يَدفِنُونَني ... وأينَ مَكَانُ البُعدِ إلا مَكانِيَا
فهذا هو البعد الذي يذهب إليه الإنسان ولا يعود.
ولما خَصَّ الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا، وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين: «ألا بعداً» ؟
لأن الصيحة قد جاءت لثمود، وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب.
وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلام مع مدين، ونلحظ أن لها مساساً برسلٍ مثل موسى عليه السلام، مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلام.
وهكذا نعلم أن هناك رسلاً قد تعاصرت، أي: أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة ومكان معين. ولأن المرسل إليهم هم عبيد الله كلهم؛ لذلك أرسل لكل بيئة رسولاً يناسب منهجه عيوب هذه البيئة.
وإبراهيم عليه السلام هو عم لوط عليه السلام، وموسى عليه السلام هو صهر شعيب عليه السلام. وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله الله إلى فرعون.(11/6647)
ونحن نعلم أن الأماكن في الأزمنة القديمة كانت منعزلة، ويصعب بينها الاتصال، وكل جماعة تعيش في موقع قد لا يدرون عن بقية المواقع شيئاً، وكل جماعة قد يختلف داؤها عن الأخرى.
لكن حين أراد الحق سبحانه بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كرسولٍ خاتمٍ، فقد علم الحق سبحانه أزلاً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ميعاد مع ارتقاء البشرية، وقد توحدت الداءات.
فما يحدث الآن في أي مكان في العالم، ينتقل إلينا عبر الأقمار الصناعية في ثوانٍ معدودة، لذلك كان لا بد من الرسول الخاتم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما تعدد الرسل اللقطات لكل رسول بالقرآن، فليست تكراراً كما يظن السطحيون؛ لأن الأصل في القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد كانت الآيات تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى تثبيت للفؤاد.
ويبيِّن الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث لهم مع أقوامهم وانتصار الله لهم في النهاية، وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة محبوكة جاء بسورة يوسف.
وهكذا فليس في القرآن تكرار، بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلام مع قومه، ما كان يجب أن تنتهي إلا بأن تأتي فيها لقطة من قصة موسى عليه السلام، وهو صهر شعيب عليه السلام.(11/6648)
والملاحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلام لقطتين:
اللقطة الأولى: هي الإرسال بالآيات إلى فرعون.
واللقطة الثانية: هي خاتمة فرعون لا مع موسى عليه السلام، ولكن مع الحق سبحانه يوم القيامة، يقول تعالى:
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 9899] .
وكان لشعيب عليه السلام مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلام من الهلع، حين أعلن له أنه خائف من أن يقتله قوم فرعون لأنه قتل رجلاً منهم، فقال له شعيب عليه السلام ما ذكره الحق سبحانه في قوله:
{نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 25] .
وهكذا ثبَّته وهيَّأ له حياة يعيش فيها آمناً لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 2728] .(11/6649)
وهكذا باشر شعيب عليه السلام مهمة في قصة موسى عليه السلام.
ومن هذا ومن ذلك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون السماء؛ لأن الحق سبحانه لا يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة، لكن العقول قد تصل إلى الحقيقة بعد مرارة من التجربة، مثلما قنَّن الحق سبحانه الطلاق في الإسلام، ثم أخذت به بلاد أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرَّ المعاناة.
ومثلما حرَّم الحق سبحانه الخمر، ثم أثبت العلم مضارها على الصحة، فهل كنا مطالبين بأن نؤجل حكم الله تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج؟
لا؛ لأن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي الإنسان شر التجربة؛ لأن الذي أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا، وقد أثبتت الأيام صدق حكم الله تعالى في كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه.
وفي قصة موسى عليه السلام مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه، فها هو فرعون الكافر قد قام بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له، رغم أن فرعون كان يُقتِّل أطفال تلك الطائفة.
ثم تلحظ أخت موسى أخاها، ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلام إلى أمه.(11/6650)
وقد صوَّر الشاعر هذا الموقف بقوله:
إذا لَمْ تُصادِفْ في بَنِيكَ عِنَايةً ... مِنَ اللهِ فقدْ كَذبَ الرَّاجِي وخَابَ المأملُ
فَمُوسَى الذي رَبَّاهُ جِبريلُ كافرٌ ... ومُوسَى الذي ربَّاه فِرْعونُ مُرسَلُ
وقد جاءت قصة موسى عليه السلام هنا موجزة، في البداية وفي النهاية؛ ليبيِّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دوراً مع واحد من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام،
وكان مقصود موسى عليه السلام قبل أن يبعث هو ماء مدين، فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلاً لمشاكل الجنسين الرجل والمرأة وهي رأس الحربة التي تُوجَّه إلى المجتمعات الإسلامية؛ لأن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها، لإغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة.
لكن القرآن حَلَّ هذه المسألة في رحلة بسيطة، ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى:
{وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ} [القصص: 23] .
أي: تمنعان الماشية من الاقتراب من المياه، وكان هذا المشهد مُلْفتاً لموسى عليه السلام، وكان من الطبيعي أن يتساءل: ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية؟! وقال القرآن السؤال الطبيعي:(11/6651)
{مَا خَطْبُكُمَا} [القصص: 23] .
فتأتيه الإجابة من المرأتين:
{قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص: 23] .
وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الأب شيخ كبير، وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض المزاحمة على الماء، ولكن بسبب الضرورة، وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة، بل ظلَّتا محتجبتين بعيداً؛ لذلك تقدم موسى عليه السلام ليمارس مهمة الرجل:
{فسقى لَهُمَا} [القصص: 24] .
وهذه خصوصية المجتمع الإيماني العام، لا خصوصية قوم، ولا خصوصية قربى، ولا خصوصية أهل، بل خصوصية المجتمع الإيماني العام.
فساعة يرى الإنسان امرأة قد خرجت إلى العمل، فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك، فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها.
وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ، وكان يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد، وذهب به إلى المخبز، ثم عاد به بعد خبزه إلى(11/6652)
نفس الباب. وقال لي: إن هذه هي عادة أهل مكة، إن وجد إنسان لوحاً من العجين غير المخبوز؛ فعليه أن يفعل ذلك؛ لأن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن الرجل رب البيت غائب.
وهذا كله مأخوذ من كلمة:
{فسقى لَهُمَا} [القصص: 24] .
وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان يأمر الجنود أن تدق الأبواب لتسأل أهل البيوت عن حاجاتهم.
والأمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها ألا تستمرىء ذلك، بل تأخذها على قدر الضرورة، فإذا وجدت منفذاً لهذه الضرورة، فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ، ولذلك قالت الفتاة لأبيها شعيب:
{ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] .
ويُنهي شعيب عليه السلام هذا الموقف إنهاءً إيمانياً حكيماً حازماً، فيقول لموسى:
{قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] .
وهكذا يعلم موسى عليه السلام أن شعيباً لا يُلقي بابنته هكذا دون مهر،(11/6653)
لا. . بل لا بد أن يكون لها مهر، وأيضاً تصبح أختها محرمة عليه.
وهذه القصة وضعت لنا مبادىء تحل كل المشكلات التي يتشدق بها خصوم الإسلام.
وهنا نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية الأسرة والأولاد؛ ليس لأن المرأة ناقصة، ولكن لأن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل إليها، وهي تربية الأبناء.
ونحن نعلم أن طفولة الإنسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات، والأبناء الذين ينشأون برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم.
وهكذا نتعلم من قصة شعيب عليه السلام مع موسى عليه السلام.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا}(11/6654)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
ونحن نعلم أن الآيات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلاثة أشياء:
آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والأرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت(11/6654)
وربت، وكلها آيات كونية تلفت العقل إلى النظر في أن وراء هذا الكون الدقيق تكويناً هندسياً أقامه إله قادر.
وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلاغ عن الله، وهي المعجزات مثل: ناقة ثمود المبصرة، وشفاء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص بإذن الله.
ثم آيات الأحكام التي تبيِّن مطلوبات المنهج ب «افعل» و «لا تفعل» .
وهنا قال الحق سبحانه:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [هود: 96] .
فهناك آيات تدل على صدقه، وفوق ذلك سلطان ظاهر، إما أن يكون سلطاناً يقهر الغالب، أو سلطان حجة تقنع العقل.
وسلطان القوة قد يقهر الغالب، لكنه لا يقهر القلب، والله سبحانه يريد قلوباً، لا قوالب؛ لذلك قال سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34] .(11/6655)
إذن: فالحق سبحانه يطلب القلوب لا القوالب، قلوب تأتي إلى الله تعالى طواعية بدون إكراه.
لذلك فالسطان الأهم هو سلطان الحجة؛ لأنه يقنع الإنسان أن يفعل. . ولم يكن لموسى عليه السلام سلطانٌ من القوة ليظهر، بل كان له سلطان الحجة، وهو قول الحق سبحانه:
{وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 104105] .
فيرد عليه فرعون:
{قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 106108] .
وبياض اليد مسألة ذاتية في موسى عليه السلام، وطارئة أيضاً، فلم تكن مرضاً كالبهاق مثلاً، بدليل الاحتياط في قوله تعالى:
{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] .
أما العصا فهي الحجة التي دفعت فرعون إلى أن يأتي بالسحرة، ليغلبهم موسى أمام فرعون والملأ، فيتبع السحرة موسى ويؤمنوا برب موسى وهارون.(11/6656)
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد أرسل موسى عليه السلام بتسع آيات هي: العصا التي تصير ثعباناً يلقف ما صنع السحرة، واليد البيضاء من غير سوء، ثم أخذ آل فرعون بالسنين، ونقص في الأنفس والثمرات، لأن الجدب يمنع الزرع، ونقص الأموال يحقق المجاعة، وكذلك أرسل الحق سبحانه على قوم فرعون الطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع، هذه هي الآيات التسع التي أرسلها الحق سبحانه على آل فرعون، بسبب عدم إيمانهم برسالة موسى عليه السلام.
وهناك آيات آخرى أرسلها الحق سبحانه لقوم موسى بواسطة موسى عليه السلام؛ هي نتق الجبل، وضرب البحر بالعصا، ثم ضرب الحجر بالعصا لتتفجر اثنتا عشرة عيناً، وكذلك نزول التوراة في ألواح.(11/6657)
إذن: فالكلام في الآيات التسع المقصود بها الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون، أما هذه الآيات فقد كانت بعد الخروج من مصر أو مصاحبة له كضرب البحر بالعصا.
والدليل على أن قصة موسى مع فرعون خاصة، أن موسى كانت له رسالتان: الرسالة الأولى مع فرعون، والرسالة الثانية مع بني إسرائيل.
ولذلك نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا في آخر السورة بالخلاف بين موسى عليه السلام وبني إسرائيل:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} [هود: 110] .
إذن: فقصته مع بني إسرائيل تأتي بعد إيتائه الكتاب، أي: التوراة.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن آيات موسى عليه السلام مع فرعون فيقول:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [هود: 96] .
أي: سلطان محيط لا يدع للخصم مكاناً أو فكاكاً.
ثم يقول الحق سبحانه: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}(11/6658)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
والملأ: هم القوم الذين يملأون العيون، ويتصدرون المجالس. ويقال: «فلان ملء العين» أي: لا تقتحمه العيون؛ لأنه واضح ظاهر.(11/6658)
فالملأ إذن هم أشراف القوم، وهم عادة الذين يزينون للطاغية الاستخفاف بالرعية.
والحق سبحانه يقول:
{فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] .
وحين يتكلم الحق سبحانه عن فرعون والملأ والقوم، نجده يبيِّن ويفصل بين الملأ من جهة، وفرعون من جهة أخرى، وكذلك يفصل بين الفرعون والملأ من جهة، والقوم من جهة أخرى. . فلكل طرف من تلك الأطراف الثلاثة أسلوب يعامله الحق سبحانه به.
وهنا يبيِّن لنا الله سبحانه أن الملأ قد اتبعوا أمر فرعون، هذا الأمر الذي يصفه الحق سبحانه بقوله:
{وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] .
والرشد يقابله الغيُّ، وهذا القول يدلنا على أن الملأ من قوم فرعون لم يتدارسوا أمر فرعون بتأنٍّ، ولم تستقبله عقولهم بالبحث، وهم لو فعلوا ذلك لما اتبعوا أمر فرعون.
ويبيِّن الحق سبحانه لنا عدم رشد أمر فرعون، فهو يذكر لنا ما يحدث له يوم القيامة هو وقومه، فيقول تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة}(11/6659)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
وكلمة «يقدم» هي من مادة «القاف» و «الدال» و «الميم» . وعند استخدام هذه المادة في التعبير قولاً أو كتابة، فهي تدل على الإقبال بالمواجهة؛ فيقال: «قدم فلان» دليل إقباله عليك مواجهة. وإذا قيل: «أقبل فلان» فهذا يعني الإقبال بشيءٍ من العزم. و «قدم القوم يقدمهم» أي: أنهم يتقدمون في اتجاه واحد، ومن يقودهم يتقدمهم.
ويُفهم من هذا أن فرعون اتبعه الملأ، والقوم اتبعوا الملأ وفرعون، وما داموا قد اتَّبعوه في الأولى؛ فلا بد أن يتبعوه في الآخرة.
ويأتي القرآن بآيات ويُبيِّنها، مثل قول الحق سبحانه:
{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 6870] .
فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الأشد فتوة وسطوة، ويلقيه في النار، لأنه أعلم بمن يجب أن يَصْلَى السعير.
ويقول الحق سبحانه:
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} [مريم: 7172] .(11/6660)
ولم يقل الحق سبحانه: «وإنْ منهم إلاّ واردُها» .
وإنما قال: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] .
وبذلك عمَّم الخطاب للكل، أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل.
وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون:
{فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] .
وحين تكلم كتاب الله الكريم عن «الورود» ، وهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين، نجد أن الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء، قلت: «وردَ يردُ وروداً» ، وإن أردت التعبير عن شرب الماء مع الورود، فقل: «وردَ يردُ وِرْداً» بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا:
{وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] .
أي: إنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه.
إذن: فكلمة «الوِرْد» تطلق على عملية الشرب من الماء، وقد تطلق على ذات الورادين مثل قوله:
{وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] .(11/6661)
وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:
فَلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقاً جِمَامُهُ ... وَضَعْنَ عِصِيَّ الحاضِرِ الُمَتَخيّمِ
والشاعر هنا يصف الرَّكْب ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء يعكرها أو يُكدِّرها، فوضع القوم عصا الترحال.
وكان الغالب قديماً أن يحمل كل من يسير عصاً في يده، مثل موسى عليه السلام حين قال:
{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] .
ويقول الشاعر:
فألقتْ عصَاها واستقرَّ بها النَّوَى ... كمَا قَرَّ عيناً بالإياب المُسَافرُ(11/6662)
فساعة رأى الركب المياه زرقاء، فهذا يعني أنها مياه غير مكدَّرة.
ونحن نعلم أن المياه لا لون لها، ولكنها توصف بالزُّرْقة إن كانت خالية من الشوائب، شديدة الصفاء، فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء.
والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان.
وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه. والورد للماء يُفرح النفس أولاً، ثم يورده ويرويه ما يشربه منها، ومن يرد الماء لا شك أنه يعاني من ظمأ يريد أن يرويه، وحرارة كبد يريد أن يبردها.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] .
وفي هذا تهكم شديد، لأنهم قوم فرعون ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ وإبراد الحرارة، ولكنهم يشربون من ماء جهنم، فبئس ما يشربون، فهو يُطمعهم أولاً، ثم يؤيسهم بعد ذلك.
كما في قوله سبحانه:
{وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29] .
فهم ساعة يسمعون كلمة «يغاثوا» يفهمون أن هناك فرجاً قادماً لهم، فإذا ما علموا أنه ماء كالمهل يشوي الوجوه، عانوا من مرارة التهكم.
ولله المثل الأعلى: فأنت تجد من يدعوك لأطايب الطعام، وبعد ذلك تغسل يديك، فيلح عليك من دعاك إلى تناول الحلوى، فتستشرف نفسك(11/6663)
إلى تناول الحلوى، بينما يكون من دعاك قد أوصى الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات «الشطة» فيلتهب جوفك؛ أليس في هذا تهكم شديد؟!
والحق سبحانه يبيِّن لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد، لكن أكبادهم ستشتعل بما تشربونه من هذا الماء، وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار.
والحق سبحانه يقول:
{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] .
وهكذا تصير النكبة نكبتين.
وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه:
{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] .
بمعنىأنهم جميعاً سوف يَرِدون جهنم.
ولكن الحق سبحانه يقول أيضاً:
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 70] .
إذن: فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار، فإذا رأى المؤمنون النار وتسعُّرها، ولم يدخلوها، عرفوا كيف نجَّتهم كلمة الإيمان منها فيحمدون الله سبحانه وتعالى على النجاة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6664)
{وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة}(11/6665)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
أي: أن اللعنة قد بقيت لهم، وما زلنا نحن المسلمين نلعنهم إلى الآن، ثم يصيرون إلى اللعنة الكبرى، وهي لعنة يوم القيامة: {بِئْسَ الرفد المرفود} [هود: 99] والرفد: هو الغطاء، فهل تعد اللعنة في الآخرة عطاءً؟
إن هذا تهكم منهم أيضاً، مثلها مثل قول الحق سبحانه:
{وَبِئْسَ الورد المورود} [هود: 98] .
ثم يقول الحق سبحانه: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى}(11/6665)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب؛ لأنها كذَّبت أنبياءها. والخطاب موجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لتثبيت فؤاده، والحق سبحانه إنما يبيِّن له أن الكافرين لن يكونوا بمنجىً من العذاب؛ كما أخذ الله سبحانه الأمم السابقة الكافرة بالعذاب.
وقول الحق سبحانه:(11/6665)
{نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100] .
يتطلب أن نفرِّق بين المعنى الشائع عن القصة، والمعنى الحقيقي لها، فبعض الناس يقول: إن القرآن فيه قصص، والقصص عادة تمتلىء بالتوسع، وتوضع فيها أحداث خيالية من أجل الحبكة.
ولهؤلاء نقول: أنتم لم تفهموا معنى كلمة «القصة» في اللغة العربية، لأنها تعني في لغتنا الالتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث، فهي مأخوذة من كلمة: «قصّ الأثر» ، ومن يقص الأثر إنما يتتبع مواقع الأقدام إلى أن يصل إلى الشيء المراد.
إذن: فقصص القرآن يتقصى الحقائق ولا يقول غيرها، أما ما اصطُلح عليه من عرف العامة أنه قصص، بما في تلك القصص من خيالات وعناصر مشوقة، فهذا ما يُسمَّى لغوياً بالروايات، ولا يُعتبر قصصاً.
وقصص الإهلاك للأمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن لا يعتبر، والناس تعلم أن ما رواه القرآن من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت، وبقيت منها بقايا أحجار ونقوش على المقابر.(11/6666)
ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش، ومنها ما هو مُحطَّم.
ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
{وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137138] .
أي: أنكم تشاهدون من الآثار ما هو قائم وما هو حطيم.
ويقول الحق سبحانه عن تلك القرى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ}(11/6667)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
ويبيِّن الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك الأقوام بالعذاب لم يظلمهم؛ لأن معنى الظلم أن يكون لإنسانٍ الحق، فتسلبه هذا الحق.
وفي واقع الأمر أن تلك الأمم التي كفرت وأخذها الله بالعذاب، هي التي ظلمت نفسها بالشرك، وكذَّبت تلك الأقوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات الرسالة.
وهكذا ظلم هؤلاء الكفار أنفسهم؛ لذلك لا بد أن نعلم أن الحق سبحانه مُنزَّه عن أن يظلم أحداً.(11/6667)
وهم حين أشركوا بالله تعالى آلهة أخرى، لماذا لم تتحرك تلك الآلهة المزعومة وتتدخل لتحمي مَنْ آمنوا بها؟!
ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم، وهم في النار، وهذه الأحجار تكون وقوداً للنار.
والحق سبحانه يقول عن النار:
{فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] .
وهؤلاء الذين عبدوا واحداً من الناس أو بعضاً من الأصنام، إنما تجنَّوا، بالجهل على هذا الإنسان الذي عبدوه أو تلك الأحجار التي صلَّوا لها أو قدَّسوها.
والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور وكلامها من الأحجار فوجد أن غار حراء قد شهد نزول الوحي على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وغار ثور حمى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة، فتخيل الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال:
كَمْ حَسَدْنَا حِراءً حينَ يَرى الرُّوحَ ... أميناً يَغْزُوكَ بالأنْوَارِ
فَحِرَاءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً ... بِهما تَشفَّعْ لأمَّةِ الأحْجَارِ
فغار حراء شهد جبريل عليه السلام وهو يهبط بالنور على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لكن غار ثور نال أيضاً الشرف لحمايته الرسول في الهجرة.(11/6668)
ويقول الشاعر على لسان الأحجار:
عَبَدُونا ونَحْنُ أعْبَدُ للهِ ... مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ
قَدْ تَجنَّوا جَهْلاً كمَا قَدْ تجَنَّوا ... علَى ابنِ مَرْيَمَ والحوَارِي
لِلمُغَالِي جَزَاؤهُ والمُغَالَى فيهِ ... تُنْجِيهِ رَحْمَةُ الغَفَّارِ
وهكذا لا تُغني عنهم آلهتهم المعبودة شيئاً سواء أكانت بشراً أم حجارة، لم تُغنِ عنهم شيئاً ولم ترفع عنهم العذاب الذي تلقوه عقاباً في الدنيا وسعيراً في الآخرة، وإذا كانوا قد دعوهم من دون الله في الدنيا، فحين جاء العذاب لم تتقدم تلك الآلهة لتحميهم من العذاب.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] .
أي: أن تخلّي تلك الآلهة التي أشركوها مع الله تعالى أو عبدوها من دون الله. . هذا التخلي يزيدهم ألماً وإهلاكاً نفسياً وتخسيراً، لأن التتبيب هو القطع والهلاك.
والحق سبحانه يقول:
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] .(11/6669)
كذلك الأخذ الذي أخذ الله به القرى التي كذَّبت أنبياءها.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ}(11/6670)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
أي: أن الأخذ الذي أخذ به الله القرى الكافرة، إنما هو مثل حي لكل من يكفر.
والحق سبحانه يقول:
{والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 15] .
أي: أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقلٍ يستوعب ضرورة الإيمان، ويضرب الأمثلة بالقوم الذين جاءهم الأخذ بالعذاب، فيقول سبحانه:(11/6670)
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 614] .
فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلاء أخذ العزيز المقتدر.
وقوله سبحانه هنا:
{وكذلك} [هود: 102] .
أي: مثل الأخذ الذي أخِذَتْ به القرى التي كذَّبت رسلها، فظلمت نفسها.
والأخذ هنا عقاب على العمل، بدليل أنه أنجى شعيباً عليه السلام وأخذ قومه بسبب ظلمهم، فالذات الإنسانية بريئة، ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب.
ومثال ذلك: نجده في قصة نوح عليه السلام حين قال له الحق سبحانه:
{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] .
فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح؛ لذلك فلا يقولن نوح: إنه ابني.(11/6671)
فليس الإهلاك بعلَّة الذات والدم والقرابة، بل الإهلاك بعلة العمل، فأنت لا تكره شخصاً يشرب الخمر لذاته، وإنما تكرهه لعمله، ونحن نعلم أن البنوة للأنبياء ليست بنوة الذوات، وإنما بنوة الأعمال.
وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلام ألا يدعو لكل ذريته، فحين كرَّم الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام وقال:
{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] .
جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلام لله تعالى:
{وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] .
لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن تمتد الإمامة إلى ذريته أيضاً، فجاء الرد من الله سبحانه:
{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] .
وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلام، وعلم تماماً أن البنوَّة للأنبياء ليست بنوة ذوات، بل هي بنوة أعمال.(11/6672)
ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلام حين نزل بأهله في وادٍ غير ذي زرع، وقال:
{رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] .
وهنا انتبه إبراهيم عليه السلام وأضاف:
{مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126] .
فجاء الرد من الحق سبحانه موضحاً خطأ القياس؛ لأن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ فلا تخلط بين عطاء الربوبية وعطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق، لذلك قال الحق سبحانه:
{وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير}
[البقرة: 126] .
فأنت يا إبراهيم دعوتَ برزق الأهل بالثمرات لمن آمن، لأن بؤرة شعورك تعي الدرس، لكن هناك فرقاً بين عطاء الألوهية في التكليف، وعطاء الربوبية في الرزق، فمن كفر سيرزقه ربه، ويمتعه قليلاً ثم يكون له حساب آخر.
إذن: فأخْذُ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالفٍ، وتختلف قوة الأخذ بقوة الأخذ، فإذا كان الآخذ هو الله سبحانه، فهو أخْذ عزيز مقتدر.
وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر، وإن كان الظلم لحقوق الآخرين فهو فسق، وأيضاً ظلم النفس فسق؛ لأن الحق سبحانه حين يُحرِّم عليك أن تظلم غيرك فهو قد حرَّم عليك أيضاً ظلم نفسك.(11/6673)
ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله:
{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .
أي: أن أخذه موجع على قدر طلاقة قدرته سبحانه.
وهَبْ أن إنساناً أساء إلى إنسان، فالحق سبحانه أعطى هذا الإنسان أن يرد السيئة بسيئة، حتى لا تتراكم الانفعالات وتزداد.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .
حتى لا تبيت انفعالاتك عندك قهراً، ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر في قول الحق سبحانه:
{والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134] .
إذن: فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها، وإما أن تكظم غيظك، أي: لا تُترجم غيظك إلى عمل نزوعي، وإما أن ترتقي إلى الدرجة الأعلى وهي أن تعفو؛ لأن الله تعالى يحب من يحسن بالعفو.(11/6674)
ولذلك حين سألوا الحسن البصري: كيف يُحسِن الإنسان إلى من أساء إليه؟
أجاب: إذا أساء إليك عبد، ألاَ يُغضب ذلك ربه منه؟ قالوا: نعم. قال: وحين يغضب الله من الذي أساء إليك؛ ألا يقف إلى جانبك؛ أفلا تحُسِن إلى من جعل الله يقف إلى جانبك؟
ولهذا السبب يُروى عن أحد الصالحين أنه سمع أن شخصاً اغتابه؛ فأهدى إليه مع خادمه طبقاً من بواكير الرطب، وتعجب الخادم متسائلاً: لماذا تهديه الرطب وقد اغتابك؟
قال العارف بالله: بَلِّغْهُ شكري وامتناني لأنه تصدَّق عليَّ بحسناته عندما اغتابني، وحسناته بلا شك أنفَسُ من هذا الرطب.
ولذلك يقال: إن الذي يعفو أذكى فهماً ممن عاقب، لأن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته؛ والذي يعفو فهو الذي يترك العقاب لقوة الله تعالى، وهي قوة لا متناهية.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
{وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .(11/6675)
أي: أخذٌ موجعٌ على قدر قوة الله سبحانه؛ وهو أخذ شديد؛ لأن الشدة تعني: جمع الشيء إلى الشيء بحيث يصعب انفكاكه؛ أو أن تجمع شيئين معاً وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي منهما عن الآخر.
وهذه أقوى غاية القوة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة}(11/6676)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
من يخاف عذاب الآخرة، فإن هذه الآيات التي تخبر عن الذي حدث للأمم السابقة، إنما تلفته إلى ضرورة الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب كل إنسان على الإيمان وعلى العمل.
ومن يسمع لقصص الأقوام السابقة؛ ويعتبر بما جاء فيها؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت منها؛ فهو صاحب بصيرة نافذة؛ فكل ما حدث للأقوام السابقة آيات ملفتة.
ولذلك يقال: «إن لكل آية من مواليد؛ هي العبر بالآيات» ومن لا يؤمن فهو لن يعتبر؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه:(11/6676)
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
إذن: فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا بالآيات لنعتبر بها ونكون من أولي الألباب؛ فلا ندخل في دائرة من لا يخافون العذاب؛ أولئك الذي يتلقّون العذاب خزياً في الدنيا وجحيماً في الآخرة؛ وعذاب الآخرة لا نهاية له؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق.
لذلك قال الحق سبحانه:
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] .
أي: أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛ لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان؛ وأمام من لا يعرفهم.
وقول الحق سبحانه:
{ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103] .
وكلمة «مجموع» تقتضي وجود «جامع» ؛ و «المجموع» يتناسب مع قدرة «الجامع» ؛ فما بالنا والجامع هو الحق الخالق لكل الخلق سبحانه وتعالى.
ولا يجتمع الخلق يومها عن غفلة؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه؛ فالحق سبحانه يقول:(11/6677)
{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] .
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 97] .
وهنا يقول سبحانه:
{وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] .
أي: أن الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر بالآيات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليوم. {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}(11/6678)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة؛ لا يعني أنه لن يأتي؛ بل سوف يأتي لا محالة ولكن لكل حدث ميعاد ميلاد، ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن مواليد الأحداث إنما يحددها الله.
وقول الحق سبحانه:
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ} [هود: 104] .
يتطلب أن نعرف أن كلمة «الأجل» تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة ميلاده إلى لحظة نهايته.(11/6678)
والحق سبحانه يقول:
{لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] .
وتطلق كلمة «الأجل» مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] .
ولنعرف جميعاً أن كل أجل وإن طال فهو معدود، وكل معدود قليل مهما بدا كثيراً؛ لذلك فَلْنقُلْ أن كل معدود قليل. ما دُمْنَا قادرين على إحصائه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}(11/6679)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
وهنا جمع الحق سبحانه جماعة في حكم واحد، فقوله تعالى:
{لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 105] .
يعني: لا تتكلم أي نفس إلا بإذن الله، وقد كانوا يتكلمون في الحياة الدنيا بطلاقة القدرة التي منحهم أياها الله سبحانه حين أخضع لهم جوارحهم.
وجعل الحق سبحانه الجوارح مؤتمرة بأمر الإنسان؛ وشاء سبحانه أن يجعل بعضاً من خلقه نماذج لقدرته على سلب بعض تلك الجوارح؛ فتجد الأخرس الذي لا يستطيع الكلام؛ وتجد المشلول الذي لا يستطيع الحركة؛ وتجد الأعمى الذي لا يبصر، وغير ذلك. .
وبتلك النماذج يتعرف البشر على حقيقة واضحة هي أن ما يتمتعون به من سيطرة على جوارحهم هو أمر موهوب لهم من الله تعالى؛ وليست مسألة ذاتية فيهم.
وقول الحق سبحانه:
{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] .
يبيِّن لنا سبحانه حقيقة تسخير الجوارح لطاعتنا في الدنيا، فهي ترضخ لإرادتنا؛ لأنه سبحانه شاء أن يسخرها لأوامرنا ولانفعالاتنا، ولا أحد فينا يتكلم إلا في إطار الإذن العام للإرادة أن تنفعل لها الجوارح.
وقد يسلب الله سبحانه هذا الإذن فلا تنفعل الجوارح للإرادة، فتجد الحق سبحانه يقول في آية أخرى.
{لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] .(11/6680)
ويقول الحق عَزَّ وَجَلَّ في آية أخرى:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] .
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه:
{هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 3536] .
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] .
وفي موضع آخر يقول سبحانه:
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] .
وهكذا قد يُخيَّل للبعض أن هناك آيات تناقض بعضها؛ فهناك آيات تسمح بالكلام، وهناك آيات تنفي القدرة على الكلام.
وأقول: يجب أن نفهم أن الكلام الذي سيعجز الأشقياء عن نطقه يوم القيامة هو الكلام المجدي النافع، وسيتكلم البعض كلام السفسطة الذي لا يفيد، مثل لومهم بعضهم البعض؛ وذكره لنا القرآن في قوله سبحانه:
{وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] .(11/6681)
وهذا كلام لا يشفع لصاحبه ولا يجدي.
إذن: فالممنوع هو الكلام المجدي المفيد، أو أن مقامات القيامة متفاوتة؛ فوقت يتكلمون فيه؛ ووقت يؤخذون فيه، فينبهرون ولا يتكلمون، ويأمر الحق سبحانه الجوارح المنفعلة أن تتكلم وتشهد عليهم.
ويقسِّم الحق سبحانه أحوال الناس قسمين، كما في قوله تعالى في آخر الآية:
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] .
وجاء بالاسم المحدد لكل من القسمين: «شقي» و «سعيد» ؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، فالشقاء ثابت لمن نُعت بالشقي؛ والسعادة ثابتة لمن نُعت بالسعيد.
ثم يبيِّن لنا الحق سبحانه منازل مَنْ شَقُوا، ومنازل مَنْ سُعِدوا؛ ولذلك يعدل عن استخدام الاسم إلى استخدام الفعل، فيقول سبحانه: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار}(11/6682)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
والذين حكموا على أنفسهم بالشقاء لخروجهم عن منهج الله؛ يجمعهم الشقاء؛ لكنهم يدخلون النار أفراداً وزُمَراً.
والحق سبحانه يقول:
{وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر: 71] .
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] .
وهكذا نفهم أن الكافرين في الوصف الثابت أشقياء، لكنهم لحظة دخول النار إنما يدخلونها أفراداً؛ بل ويدخل معهم بعض من المسلمين العصاة، ويتلقى كل واحد منهم عقابه المناسب لما ارتكب من الذنوب والمعاصي؛ ويعاني كل منهم من شقاء يتناسب مع آثامه؛ وبذلك يجتمعون في الشقاء ويختلفون في نوع وكمية العذاب؛ كلٌّ حسب ذنوبه، ولا يظلم ربك أحداً.
وجاء الحق سبحانه هنا بالفعل «شقوا» ليبيِّن لنا أنهم هم الذين اختاروا الشقاء؛ وأتوا به لأنفسهم؛ لأن الحق سبحانه خلق عباده وترك لكل منهم حق الاختيار؛ وأنزل لهم المنهج؛ ليصونوا أنفسهم؛ وأعان من اختار الإيمان على الطاعة.
ثم يذكر الحق سبحانه في نفس الآية موقف مَنْ أدخلوا على أنفسهم الشقاء، فيقول عنهم:(11/6682)
{فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] .(11/6683)
ونحن نعلم أن الذي يتنفس في النار سيخرج الهواء من صدره ساخناً مثلما يأخذ الشهيق ساخناً.
ويواصل الحق سبحانه وتعالى وَصْفَ ما يتلقاه أهل الشقاء في النار، فيقول سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض}(11/6684)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
وكلمة «الخلود» تفيد المكث طويلاً؛ مكوثاً له ابتداء ولا نهاية له؛ وإذا أبِّد فهو تأكيد للخلود.
والذين شقوا إنما يدخلون النار؛ بدءاً من لحظة:
{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] .
وهو عذاب لا نهاية له بالنسبة للكافرين.
وأما عذاب المسلم العاصي على ما ارتكب من آثام؛ فبدايته من لحظة انتهاء الحساب إلى أن تنتهي فترة عذابه المناسبة لمعاصيه؛ ويدخل الجنة من بعد ذلك.(11/6684)
ولهذا قال الحق سبحانه:
{إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} [هود: 107] .
وهكذا ينقص الحق سبحانه الخلود في النار بالنسبة لأنصاف المؤمنين، فالحق سبحانه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ولا يحكمه أي شيء.
وإياكم أن تظنوا أن قدر الله يحكمه؛ فالقدر فِعْلُه، ولا أحد يسأل الله سبحانه عمَّا يفعل؛ لأن ذات الله هي الفاعلة؛ فإن شاء سبحانه أن ينقص خلود مسلم عاصٍ في النار؛ فالنقص يكون في النهاية؛ وبذلك يتحقق أيضاً نقص خلوده في الجنة، لأنه لا يدخلها إلا بعد أن يستوفي عقابه.
وبهذا التصور ينتهي الإشكال الذي اختلف حوله مائة وخمسون عالماً؛ فقد ظن بعضهم أن الحق سبحانه يغلق أبواب النار على من أدخلهم إياها، ويستمر ذلك إلى ما لا نهاية، وكذلك من دخل الجنة من البداية سيظل فيها أبداً، ولن يُلحق الله أصحاب الكبائر بالجنة، ومن قال بذلك الرأي إنما يُسوِّي بين من ارتكب الكبيرة وبين الكافر بالله، وهذا أمر غير متصور، وهو بعيد عن رحمة الله.
وإذا كان هذا البعض من العلماء قد استدل على رأيه بالآية الكريمة التي جاءت في سورة الجن، والتي يقول فيها الحق سبحانه:
{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23] .
فنحن نقول: إن الحق سبحانه يربِّب لطفه للكافر حتى يؤمن، وللعاصي حتى يتوب، وهذا من رحمة الله سبحانه، فتأبيد الخلود في العذاب لم(11/6685)
يرد إلا في آيتين، وهذا دليل على عظيم رحمة الله وسِعَة عفوه سبحانه.
ولذلك قيل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه رحمة الله للعالمين؛ وكلمة «العالمين» جمع «عالَم» والعالَم هو ما سِوى الله تعالى.
ولذلك هناك رحمة للكافر؛ هي عطاء الله له في الدنيا.
وهكذا نعلم أن الله سبحانه هو الذي يملك نواميس الكون، ولم يتركها تفعل وحدها، بل يزاول سبحانه سلطانه عليها، وما دام القدر هو فعله سبحانه؛ فهو يغيِّر فيه كما يشاء.
فهو سبحانه رب الزمان والمكان والحركة، وما دام هو رب كل شيء فإنه فعال لما يريد، وهنا تخضع أبدية الزمان لمراده ومشيئته.
وقول الحق سبحانه:
{مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107] .
نفهم منه أن الجنة أو النار لا بد أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظللهما، ولا بد أن يوجدا فوق أرض ما.
وإذا قال قائل: إن الحق سبحانه قد ذكر في القرآن أن السماء سوف تمور وتنفطر.(11/6686)
نقول رداً عليه: لا تأخذ آية في القرآن إلا بضميمة مثيلاتها.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات} [إبراهيم: 48] .
والحق سبحانه يورث أرض الجنة لمن يشاء؛ لأنه سبحانه هو القائل على لسان المؤمنين يوم القيامة:
{وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] .
أو لأن الإنسان له أغيار، وما حوله له أغيار.
ومن العجيب أن الإنسان المخدوم بالمادة الجامدة؛ وبالنبات النامي؛ وبالحيوان الذي يحس ويتحرك؛ هذا الإنسان قد يكون أطول عمراً من بعض المخلوقات المسخَّرة لخدمته؛ لكنه أقل عمراً من الشمس ومن القمر.(11/6687)
لكن الحق سبحانه هنا يصور عمر الإنسان في الآخرة؛ فكأنه سبحانه يعطي الأمد على أطول ما عرفنا من الأعمار؛ ولذلك قال سبحانه:
{مَا دَامَتِ السموات والأرض} [هود: 107] .
وإذا علَّق الله سبحانه شيئاً على شيء، فلا بد أن يوجد هذا التعليق.
والحق سبحانه يتكلم عن أهل النار من الكفار، فيقول تعالى:
{وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] .
فهل سيلج الجمل في سَمِّ الخِياط؟ إن ذلك محال.
ولذلك أقول: فلنأخذ التعليقات في نطاق أنه سبحانه:
{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .
وقد جاء في الكتاب قول سيدنا عيسى عليه السلام:
{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] .
فكان مقتضى السياق أن يقول سبحانه: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم.
وهذه نظرة سطحية لمدلولات القرآن، بعقول البشر، أما ببلاغة(11/6688)
الحق سبحانه فيكون الأمر مخالفاً، فأمر التعذيب أو الغفران موكول لله سبحانه بيده وحده، وليس لأحد أن يسأله لِمَ فعل هذا؟ ولِمَ ترك هذا؟
لذلك كان هذا هو معنى العزة؛ ولذلك كان سبحانه عزيزاً، وهو سبحانه أيضاً حكيم في أي أمر يحكم فيه سواء أكان بالتعذيب أو المغفرة.
لذلك جاء سبحانه بالخاتمة التي تثبت للحق سبحانه التعذيب أو المغفرة.
ففي تعذيب الكافرين قال سبحانه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] .
وفي الكلام عن الطائعين الذين أدخلوا الجنة قال سبحانه: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة}(11/6689)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
فالحق سبحانه يعطي المؤمنين ما شاء، ويؤكد خلودهم في الجنة، وعطاؤه لهم لا مقطوع ولا ممنوع.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء}(11/6689)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
فهل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مرية؟
هل كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شك؟
لا، ولكنه قول الآمر الأعلى سبحانه للأدنى، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صدد هذا الأمر؛ وبذلك ينصرف أمر الحق سبحانه إلى الدوام.
مثلما قال الحق سبحانه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{أَقِمِ الصلاة} [الإسراء: 78] .
وكان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقيم الصلاة قبلها، ولكن قول الحق سبحانه هنا إنما يمثل بداية التشريع.
ومثل هذا أيضاً قول الحق سبحانه في خطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] .
فهل كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يتقي الله؟
نقول: لا، إنما هو لإدامة التقوى، فإنه إذا أمر الأعلى الأدنى بأمر هو بصدد فعله، انصرف هذا الأمر إلى الدوام، واتباع أمته للتقوى والإعراض عن النفاق والكفر، وهو خطاب للرسول وأمته، فللرسول الدوام والترقي والحصانة، ولأمته الاتباع لمنهج الله.
ومثل هذا قوله تعالى:
{يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [البقرة: 153] .
وهو سبحانه يناديهم بالإيمان؛ لأنهم اعتقدوا اعتقاد الالوهية الواحدة، ومن يسمع منهم هذا الخطاب عليه أن يداوم على الإيمان.(11/6690)
وما دام قد آمن بالإله الواحد قبل الخطاب، فقد استحق أن ينال التكريم من الحق سبحانه بأن يخاطبه ويصفه بأنه من المؤمنين، فإذا نُودِي عليهم بهذه الصفة فهي علامة السمو المقبول.
وإذا طُلبت الصفة ممن توجد الصفة فيه، فاعلم أنه سبحانه يطلب دوام الصفة فيه واستمرارها، وفي الاستمرارية ارتقاء.
وقول الحق سبحانه هنا:
{مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} [هود: 109] .
نجد أن التحقيق لا يثبت لهم عبادة؛ لأن معنى العبادة ائتمار عابدٍ بأمر معبود. وهؤلاء إنما يعبدون الأصنام، وليس للأصنام منهج يسير عليه من آمنوا بها.
ولكن الحق سبحانه أثبت لهم هنا أنهم عبدوا الأصنام، وهم قد قالوا من قبل:
{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] .(11/6691)
وهو إيمان فقد حجية التعقل الإيماني، أي: أن تستقبل أنت بذاتك القضية الإيمانية وتناقشها لتدخل عليها باقتناع ذاتك.
وهم قد دخلوا إلى الإيمان بعبادة الأصنام باقتناع الغير، وهم الآباء، فإيمانهم إيمان تقليد، وفي التقليد جفاف الفطرة السليمة وهو لا ينفع.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل النِّسَب في الكون إما ليثبت نسبة إيجابية، أو نسبة سلبية.
{مَا يَعْبُدُونَ} [هود: 109] .
أي: على ما قالوا إنه عبادة، ولكنه ليس عبادة، لأن العبادة تقتضي أمراً ونهياً، وليس للأصنام أوامر أو نواهٍ، وعبادتهم هي عبادة تقليدية للآباء؛ ولذلك قالوا:
{بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170] .
ولذلك يقرر الحق سبحانه هنا جزاءهم، فيقول تعالى:
{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} [هود: 109] .(11/6692)
أي: سنعطيهم جزاءهم كاملاً؛ لأنهم يفسدون في الكون، رغم أن الحق سبحانه قد جعل لكل منهم حق الاختيار في أن يفعل الشيء أو لا يفعله، وإن لم تنضبط حركة الاختيار، فالتوازن الاجتماعي يصير إلى اختلال.
وما دام للإنسان حق الاختيار؛ فقد أنزل الحق سبحانه له المنهج الذي يضم التكاليف الإيمانية.
وهم حين قلدوا الآباء قد ساروا في طريق إفساد الكون؛ لذلك يُوفِّيهم الحق سبحانه نصيبهم من العذاب.
والمفهوم من كلمة «النصيب» أنها للرزق، ويذكرها الحق سبحانه هنا لتقرير نصيب من العذاب، وفي هذا تهكم عليهم، وسخرية منهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ}(11/6693)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول واحد مرتين، فقد ذكر الحق سبحانه أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، وأن يريه الآيات، ولم يزد، ثم انتقل من ذلك الإبلاغ فقال سبحانه:
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} [هود: 98] .
أي: أنه أعقب أولية البلاغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة، فيُورِد قومه النار.
ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلام بعد ابتداء رسالته؛ ولذلك يقول تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] .
ونحن نعلم أن ذِكْر موسى عليه السلام في البداية كان بمناسبة ذِكْر ما له علاقة بشعيب عليه السلام حين ورد موسى ماء مدين، ولكن العجيب أنه عند ذِكْر شعيب لم يذكر قصة موسى معه، وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون.
وقد علمنا أن موسى عليه السلام لم يكن آتياً إلى فرعون إلا لمهمة واحدة، هي أن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم.
وأما ما يتأتى بعد ذلك من الإيمان بالله فقد جاء كأمر تبعيٍّ، لأن(11/6694)
رسالة موسى عليه السلام لم تكن إلا لبني إسرائيل؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل منهجاً، أما في الموضع الأول فقد ذكر سبحانه الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون.
ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم عليهم جميعاً السلام وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلام مرتين: مرة في علاقته بفرعون، ومرة في علاقته ببني إسرائيل.
وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج الإلهي للناس عموماً، من أول آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة؛ إلا أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي تعالج داءً موقوتاً عند القوم.
فالقَدْر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه:
{اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] .
ثم يختلف الأمر بعد ذلك من رسول لآخر، فمنهم من يأمر قومه ألا يعبدوا الأصنام؛ ومنهم من يأمر قومه ألا ينقصوا الكيل والميزان.
وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علاج داء من داءات تلك(11/6695)
الأمة، أما الإسلام فقد جاء ليعالج داءات البشرية كلها؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج للبشرية.
لذلك فالحق سبحانه لا يقص علينا القصص القرآني للتسلية، أو لقتل الوقت، أو لتعلم التاريخ؛ ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج داءها.
وبما أن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ستكون آخر عهدٍ لالتقاء البشر بالبشر، وستكون فيها كل أجواء وداءات الدنيا، لذلك فعليهم التقاط تلك العبر؛ لأن رسالتهم تستوعب الزمان كله، والمكان كله.
والحق سبحانه هنا يقول:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} [هود: 110] .
ونحن نعلم أنه إذا تقدم أمران على ضمير الغيبة؛ فيصح أن يعود الضمير إلى كل أمر منهما.
وقوله سبحانه: {فاختلف فِيهِ} [هود: 110] .
يصح أن يكون الاختلاف في أمر موسى، ويصح أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والخلاف في واحد منهما يؤدي إلى الخلاف في الآخر؛ لأنه لا انفصال بين موسى عليه السلام، والكتاب الذي أنزله الله عليه.
وهكذا فالأمران يلتقيان: أمر الرسالة في الكتاب، وأمر الرسول في الاصطفاء؛ ولذلك لم يجعلهما الحق سبحانه أمرين، بل هما أمر(11/6696)
واحد؛ لأن الرسول لا ينفصل عن منهجه.
وقوله الحق: {آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] أمر يتعلق بفعل الحق سبحانه، ولله ذات، ولله صفات، ولله أفعال.
وهو سبحانه مُنزَّه في ذاته عن أي تشبيه، ولله صفات، وهي ليست ككل الصفات، فالحق سبحانه موجود، وأنت موجود، لكن وجوده قديم أزليٌّ لا ينعدم، وأنت موجود طارىء ينعدم.
ونحن نأخذ كل ما يتعلق بالله سبحانه في إطار:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعلٍ صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية.
وقوله سبحانه هنا:
{آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] .
نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة، علماً وحكماً، وقدرةً، وعفواً، وجبروتاً، وقهراً، فهناك أشياء كثرة تتكاتف لتحقيق هذا الإتيان.
وقد يسأل سائل: وما دام موسى عليه السلام قد أوتي الكتاب، واختُلف فيه، فلماذا لم يأخذ الحق سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح، أو قوم عاد، أو قوم ثمود، أو بقية الأقوام الذين أخذهم الله بالعذاب؟(11/6697)
ونقول: ما نجوا من عذاب الله بقدرتهم؛ بل لأن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلاً، وهو يوم الحساب.
ولذلك قال سبحانه في الآية نفسها:
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110] .
وبذلك حكم الحق حكماً فاصلاً، كما حكم على الأمم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي البلاغ، ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق؛ ولذلك كانت السماء هي التي تتدخل بالأمر النهائي.
لكن اختلف الأمر في رسالة موسى عليه السلام، فقد سبق فيه قول الله تعالى بالتأجيل للحساب إلى يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه هنا:
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] .
كأنهم في شك من يوم القيامة، وفي شك من الحساب، مثل قوله سبحانه في أول الآية عن الاختلاف في الكتاب وموسى عليه السلام.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}(11/6698)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة.
ويبيِّن الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفِّى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت لا محالة وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفراً أو إيماناً، صلاحاً أو فساداً، وميعاد ذلك هو يوم القيامة.
وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية كمَلَكة، كما فهمها العرب الأقدمون.
ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة؛ لأنه من أمة مفطورة على الأداء البياني الدقيق، الرقيق، الرائع.
فاللغة كما نعلم ليست جنساً، وليست دماً، بل هي ظاهرة اجتماعية، فالمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد لغته، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية، سوف ينطق بالعربية،(11/6699)
والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية، سينطق بالإنجليزية؛ لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن.
وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة، وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة السليمة.
أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة، ومكة بما لها من مكانة كانت تستقبل أغراباً كثيرين؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية؛ حتى لا يسمع إلا اللغة العربية الفصيحة، وحتى لا يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية.
ولنقرِّبْ هذا الأمر، ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الآن لغتين: لغة نتعلمها في المنازل والشوارع ونتخاطب بها، وتسمى «اللغة العامية» ، ولغة أخرى نتعلمها في المدارس، وهي اللغة المصقولة المميزة بالفصاحة والضبط.
وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الأذن الفصاحة، وكانت اللغة الفصيحة هي «العامية» في البادية، ولم يكن الطفل في(11/6700)
البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها؛ لأن أذنه لا تسمع إلا الفصاحة.
وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة، وهي تختلف عن اللغة التي نكتسبها الآن، ونصقلها في مدارسنا، وهي لغة تكاد تكون مصنوعة، فما بالنا بالذين لم يتعلموا العربية من قبل من المستشرقين، ويتعلمون اللغة على كِبَر.
وهؤلاء لم يمتلكوا صفاء اللغة، لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن، وادعى بعض أغبيائهم أن في القرآن لحناً، قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة، رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم أهل الفصاحة، لم يجدوا في القرآن لحناً، ولو أنهم أخذوا لحناً على القرآن في زمن نزوله؛ لأعلنوا هذا اللحن؛ لأن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة، بليغة صناعتها الكلام.
ولأمرٍ ما أبق الله سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة، ولو أن أحداً منهم اكتشف لحناً في القرآن لأعلنه.
وذلك حتى لا يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوباً(11/6701)
فيه. ولو كان عند أحدهم مَهْمَزٌ لما منعه كفره أن يبين ذلك، فهل يمكن لهؤلاء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن يجدوا لحناً في القرآن، وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة، بل تعلموها صناعة، والصنعة عديمة الإحساس الذوقي.
ومثال ذلك: عدم فهم هؤلاء لأسرار اللغة في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فالحق سبحانه يقول:
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] .
أي: أن كل واحد من الذين صدَّقوا أو من الذين كذَّبوا، له توفية في الجزاء، للطائع الثواب؛ وللعاصي العقوبة.
وكلمة «إنَّ» كما نعلم هي في اللغة «حرف توكيد» في مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها.
والإنكار كما نعلم مراحل، فإذا أردت أن تخبر واحداً بخبر لا يعلمه، فأنت تقول له مثلاً: «زارني فلان بالأمس» .
وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي، فإن قال لك: «لكن فلاناً كان بالأمس في مكان آخر» ، فأنت تقول له: «إن فلاناً زارني بالأمس» .(11/6702)
وحين يرد عليك السامع: «لكنني قابلت فلاناً الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلاني» .
وهنا قد تؤكد قولك: «والله لقد زارني فلان بالأمس» .
إذن: فأنت تأتي بالتوكيد على حَسْب درجة الإنكار.
وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا، قد يقول غافل: لعل الله لم يعد يعذِّب أحداً.
ولذلك بيَّن الحق سبحانه مؤكداً أن الحساب قادم، لكل من الطائع والمصدِّق، والعاصي المكذِّب، فقال سبحانه:
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] .
والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة، كالمستشرقين، وأخذوها صناعة، توقفوا عند هذه الآية وقالوا: لماذا جاء بالتنوين في كلمة «كلاً» ؟
وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة، فساعة تسمع أو تقرأ التنوين، فاعلم أنه عِوَضٌ عن جملة، مثل قول الحق سبحانه:(11/6703)
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 8384] .
و «كلاً» في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلاً من الطائع المؤمن، والعاصي الكافر، سوف يلقى جزاءه ثواباً أو عقاباً.
أما قوله سبحانه: {لَّمَّا} في نفس الآية، فنحن نعلم أن «لما» تستعمل في اللغة بمعنى «الحين» و «الزمان» مثل قول الحق سبحانه:
{وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] .
ومثل قوله سبحانه:
{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] .
أي حين فصلت العير وخرجت من مصر قال أبوهم: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] .(11/6704)
و «لما» تأتي أيضاً للنفي مثل قوله سبحانه:
{قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] .
أي: أن الإيمان لم يدخل قلوبهم بعد، وتحمل كلمة «لما» الإذن بأن الإيمان سوف يدخل قلوبهم بعد ذلك.
وحين تستخدم كلمة «لما» في النفي تكون «حرفاً» مثلها مثل كلمة «لم» ، ولكنها تختلف عن «لم» لأن «لم» تجزم الفعل المضارع، ولا يتصل نفيها بساعة الكلام، بل بما مضى، وقد يتغير الموقف. أما «لما» فيتصل نفيها إلى وقت الكلام، وفيها إيذان بأن يحدث ما تنفيه.
وهكذا نفهم أن قول الحق سبحانه:
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] .
أي: أن كلاً من الطائع والعاصي سيوفَّى حسابه وجزاؤه ثواباً أو عقاباً، حين يأتي أجل التوفية، وهو يوم القيامة.
وقد جاءت «لما» لتخدم فكرة العقوبة التي كانت تأتي في الدنيا، وشاء الله سبحانه أن يؤجل العقوبة للكافرين إلى الآخرة، وأنسب حرف للتعبير عن ذلك هو «لما» .
وحين تقرأ {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} تجد اللام، وهي لام القسم بأن الحق سبحانه سيوفيهم حسابهم إن ثواباً أو عقاباً.(11/6705)
والله سبحانه بما يفعل العباد خبير، هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع، ولكنها حين تقع لا يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح؛ لأن من يعلمها هو «الخبير» صاحب العلم الدقيق، والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم الإجماليات، لكن الخبير هو المدرَّب على التخصص.
ولذلك غالباً ما تأتي كلمتا «اللطيف والخبير» معاً؛ لأن الخبير هو من يعلم مواقع الأشياء، واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الأشياء.
ومثال هذا: أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلاً، هذه المعرفة وهذه الخبرة لا تكفيان للوصول والنفاذ إلى مكانه، بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر، وهو الدقة واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلام ليسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لأن بعضاً من الكافرين برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قالوا: ما دام الله يأتي بالعذاب ليبيد من يكفرون برسله، فلماذا لا يأتي لنا العذاب؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلاء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين، لا محالة، فإياك أن يخادعوك يا رسول الله في شيء،(11/6706)
أو يساوموك على شيء، مثلما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة.
وقد سبق أن قطع الحق سبحانه هذا الأمر بأن أنزل:
{قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 14] .
وهذا هو قطع العلاقات التام في تلك المسألة التي لا تقبل المساومة، وهي العبادة.
ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي، لا يمكن المساومة فيه، وقطع العلاقات في مثل هذا الأمر أمر واجب؛ لأنه لا يمكن التفاوض حوله؛ فهي ليست علاقات ظرف سياسي، ولكنه أمر ربَّاني، يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه:
{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} [الكافرون: 24] .
هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على(11/6707)
عبادة غير الله، وأن محمداً سيظل على عبادة الله، وأن كلمة «الله» ستعلو؛ لأن الحق سبحانه يأتي بعد سورة «الكافرين» بقوله تعالى:
{إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 13] .
وهنا يقول الحق سبحانه: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ}(11/6708)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
والاستقامة معناها: عدم الميل أو الانحراف ولو قيد شعرةٍ وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لأن الفاصل بين الضدين، أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الأحيان.
ومثال ذلك: حين ترى الظل والضوء، فأحياناً يصعد الظل على الضوء، وأحياناً يصعد الضوء على الظل، وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور، مهما دقت المقاييس.(11/6708)
وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعباً، ولذلك فالاستقامة أمر شاق للغاية.
وساعة أن نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شيبتني هود وأخواتها» .
ولولا أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم:
{فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] .
فلولا نزول هذه الآية لتعب المسلمون تماماً، وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال:
{اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] .
وعزَّ ذلك على صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن قال سبحانه:
{فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] .
إذن: فالأمر بالاستقامة هو أمر بدقة الأداء المطلوب لله أمراً ونهياً، بحيث لا نميل إلى جهة دون جهة.(11/6709)
وهكذا تطلب الاستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة.
ويقول الحق سبحانه:
{فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] .
وهذا إيذان بألاَّ ييأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم سيتساقطون يوماً بعد يوم.
وقول الحق سبحانه:
{وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] .
يعني ألا نتجاوز الحد، فالطغيان هو مجاوزة الحد.
وهكذا نعلم أن الإيمان قد جعل لكل شيء حدّاً، إلا أن حدود الأوامر غير حدود النواهي؛ فالحق سبحانه إن أمرك بشيء، فهو يطلب منك أن تلتزمه ولا تتعده.
وقال الحق سبحانه:
{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] .
وهذا القول في الأوامر، أما في النواهي فقد قال سبحانه:
{تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] .(11/6710)
أي: أن تبتعد عنها تماماً.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه» .
وحين ينهانا الحق سبحانه عن الاقتراب من شيء فهذه هي استقامة الاحتياط، وهي قد تسمح لك بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلاً فيه، فمثلاً عند تحريم الخمر، جاء الأمر باجتنابها أي: الابتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى لا يجتمع المسلم هو والخمر في مكان.
وجعل الحق سبحانه أيضاً الاستقامة في مسائل الطاعة، وهو سبحانه يقول:
{وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا}
[الأنعام: 141] .(11/6711)
والنهي عن الإسراف هنا؛ ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا، ولكننا لا نجد ما نقيم به الأود فقد يسرف الإنسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده، ثم تأتي له ظروف صعبة فيقول: «يا ليتني لم أُعْطِ» . وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل» ؛ لأن الدين قوي متين، و «لن يشاد الدين أحد إلا غلبه» .
وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلم بنا، والله لا يريد منا عدم الطغيان من ناحية المحرمات فقط، بل من ناحية الحلِّ أيضاً، فيوصينا سبحانه بالرفق واللين والهوادة، وأن يجعل الإنسان لنفسه مُكْنة الاختيار.
ومثال ذلك: أن يلزم الإنسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة، وهو يلزم نفسه بذلك نذراً لله تعالى في ساعة صفاء، لكنه حين يبدأ في مزوالة ذلك القدر يكتشف صعوبته، فتكرهه نفسه.(11/6712)
ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالاستقامة وعدم الطغيان؛ استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه؛ ولذلك كان الاحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الاستقامة.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحلال بيِّن، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» .
ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الاحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة، وأن نحتاط بمرة بالنقص، فحين تصلي خارج المسجد الحرام، يكفيك أن تكون جهتك الكعبة، أما حين تصلي في المسجد الحرام، فأنت تعلم أن الكعبة قسمان: قسم بنايته عالية، وقسم اسمه «الحطيم» وهو جزء من الكعبة، لكن نفقتهم أيام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قصرت؛ فلم يبنوه.
لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته، وهذا هو الاحتياط بالنقص.(11/6713)
أما الاحتياط بالزيادة، فمثال ذلك: هو الطواف، وقد يزدحم البشر حول الكعبة، ولا تسمح ظروفك إلا بالطواف حول المسجد.
وهكذا يطول عليك الطواف، لكنه طواف بالزيادة فعند الصلاة يكون الاحتياط بالنقص، أما عند الطواف فيكون الاحتياط بالزيادة.
وهكذا نجد الاحتياط هو الذي يحدد معنى الاستقامة.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله تعالى:
{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] .
وفي الآية السابقة قال سبحانه: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] .
وعلمنا معنى الخبير، أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة؛ لأن حركة العبادة مرئية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ}(11/6714)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
والكافرون كما نعلم قد عرضوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعبد آلهتهم سنة، وأن يعبدوا هم الله سنة، ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا الأمر.
ويأتي هنا توكيد هذا الأمر؛ فيقول سبحانه:
{وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] .
والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة، وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته شأناً في دعوتك.
والركون أيضاً يعني: المجاملة، وإعانة هذا الظالم على ظلمه، وأن تزِّين للناس ما فعله هذا الظالم.
وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم، والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.
وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات الإنسانية إنما تنشأ من الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم، وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم تُعرْض عنه إلا لأنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسباً حساب القوة التي تركن إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه.(11/6715)
والركون للظالم إنما يجعل الإنسان عرضة لأن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113] .
فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج الله؛ فيتخلى الله عنكم ولا ينصركم أحد؛ لأنه لا وليَّ ولا ناصر إلا الله تعالى.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار}(11/6716)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وهذا أمر بالخير؛ يوجهه الله سبحانه إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونحن نلحظ في هذه الآيات من سورة هود أنها تحمل أوامر ونواهي؛ الأوامر بالخير دائماً؛ والنواهي عن الشر دائماً.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال:
{فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] .(11/6716)
ثم وَجَّه النهي للأمة كلها: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} [هود: 112] ولم يقل: «فاستقم ولا تطغي» لأن الأمر بالخير يأتي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته معه؛ وفي النهي عن الشر يكون الخطاب موجهاً إلى الأمة، وفي هذا تأكيد لرفعة مكانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونرى نفس الأمر حين يوجه الحق سبحانه الحديث إلى أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقول سبحانه وتعالى:
{وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] .
ولم يقل: «ولا تركن إلى الذين ظلموا» .
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأمته:
{وَأَقِمِ الصلاة} [هود: 114] .
والإقامة تعني: أداء المطلوب على الوجه الأكمل، مثل إقامة البنيان؛ وأن تجعله مؤدياً للغرض المطلوب منه.
ويقال: «أقام الشيء» أي: جعله قائماً على الأمر الذي يؤدي به مهمته.
وقول الحق سبحانه:
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] .
أي: نهايته من ناحية، ونهايته من الناحية الأخرى؛ لان طرف الشيء هو نهايته.(11/6717)
وتتحدد نهاية الطرفين من منطقة وسط الشيء، فالوسط هو الفاصل بين الطرفين؛ فما على يمين الوسط يعد طرفاً؛ وما على يسار الوسط يعد طرفاً آخر؛ وكل جزء بعد الوسط طرف.
وعادةً ما يعد الوسط هو نقطة المنتصف تماماً، وما على يمينها يقسم إلى عشرة أجزاء، وما على يسارها يقسم إلى عشرة أجزاء أخرى، وكل قسم بين تلك الأجزاء التي على اليمين والتي على اليسار يعد طرفاً.
وقول الحق سبحانه:
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 114] .
يقتضي أن تعرف أن النهار عندنا إنما نتعرف عليه من بواكير الفجر الصادق، وهذا هو أول طرف نقيم فيه صلاة الفجر، ثم يأتي الظهر؛ فإن وقع الظهر قبل الزوال حسبناه من منطقة ما قبل الوسط، وإن كان بعد الزوال حسبناه من منطقة ما بعد الوسط.
وبعد الظهر هناك العصر، وهو طرف آخر.
وقول الحق سبحانه:
{وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] .
يقتضي منا أن نفهم أن كلمة {زُلَفاً} هي جمع؛ زلفة، وهي مأخوذة من: أزلفه، إذا قرَّبه.
والجمع أقله ثلاثة؛ ونحن نعلم أن لنا في الليل صلاة المغرب، وصلاة العشاء،(11/6718)
ولذلك نجد الإمام أبا حنيفة يعتبر الوتر واجباً، فقال: إن صلاة العشاء فرض، وصلاة الوتر واجب؛ وهناك فرق بين الفرض والواجب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك مباشرة:
{إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] .
وهذا التعقيب يضع الصلاة في قمة الحسنات، وقد أوضح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا بأن قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» .(11/6719)
واختلف العلماء في معنى السيئات والحسنات، وقال بعضهم: الحسنة هي ما جعل الله سبحانه على عملها ثواباً، والسيئة هي ما جعل الله على عملها عقاباً.
وأول الحسنات في الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله، وهذه حسنة أذهبت الكفر؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.
ولذلك قال بعض العلماء: إن المسلم الذي ارتكب معصية أو كبيرة من الكبائر، لا يخلد في النار؛ لأنه إذا كانت حسنة الإيمان قد أذهبت سيئة الكفر، أفلا تذهب ما دون الكفر؟ .
وهكذا يخفّف العقاب على المسلم فينال عقابه من النار، ولكنه لا يخلد فيها؛ لأننا لا يمكن أن نساوي بين من آمن بالله ومن لم يؤمن بالله.
والإيمان بالله هو أكبر حسنة، وهذه الحسنة تذهب الكفر، ومن باب أولى أن تذهب ما دون الكفر.
وتساءل بعض العلماء: هل الفرائض هي الحسنات التي تذهب السيئات؟
وأجاب بعضهم: هناك أحاديث صحيحة قد وردت عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن حسنات في غير الفرائض، ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن صوم يوم عرفة إلى صوم يوم عرفة يذهب السيئات» .
ألم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إن الإنسان الذي يستقبل نعمة الله بقوله: الحمد لله الذي رزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، والحمد لله الذي(11/6720)
كساني من غير حولٍ مني ولا قوة» . وهذا القول يكفّر السيئات.
ألم يقل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنك إذا قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم» فهذا القول كفارة؟
إذن: فالحسنات مطلقة سواء أكانت فرضاً أم غير فرضٍ، وهي تذهب السيئات. والسيئة هي عمل توعد الله سبحانه من يفعله بالعقوبة.
وتساءل أيضاً بعض العلماء: إن السيئة عمل، والعمل إذا وقع يُرفع ويُسجَّل، فكيف تُذهبها الحسنة؟
وأجابوا: إن ذهاب السيئة يكون إما عن طريق مَنْ يحفظ العمل، ويكتبه عليك، فيمحوه الله من كتاب سيئاتك، أو أن يعفو الله سبحانه وتعالى عنك؛ فلا يعاقبك عليه، أو يكون ذهاب العمل في ذاته فلا يتأتى، وما وقع لا يرتفع؛ أو يحفظها الله إن وقعت؛ لأنه هو سبحانه القائل:(11/6721)
{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .
ويقول سبحانه:
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 1011] .
وهكذا يكون إذهاب السيئة، إما محوها من الكتاب، وإما أن تظل في الكتاب، ويذهب الله سبحانه عقوبتها بالمغفرة.
والحق سبحانه يقول:
{الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة} [النجم: 32] .
واجتناب الكبائر لا يمنع من وقوع الصغائر.
والحق سبحانه يقول:
{إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] .(11/6722)
وحين ننظر إلى مواقيت الصلاة، نجدها خمسة مواقيت، فمن تعلَّق قلبه بالصلاة، إنما ينشغل قلبه طوال وقت حركته بإقامة الصلاة، ثم يأتي وقت الليل لينام، وكل من يرتكب معصية سينشغل فكره بها لمدةٍ، ولو لم يأت له وقت صلاة لأحسَّ بالضياع، أما إذا ما جاء وقت الصلاة فقلبه يتجه لله سبحانه طالباً المغفرة.
وإن وقعت منه المعصية مرة، فقد لا تقع مرة أخرى، أو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في وقت الاستعداد لها، فمن جلس لينمَّ على غيره، أو يظلم الناس، إذا ما سمع أذان الصلاة وقام وتوضأ؛ فقد رحم الناس في وقت وضوئه ووقت صلاته ووقت ختمه للصلاة.
وهناك أعمال كثيرة من الفروض والحسنات وهي تمحو السيئات، وعلى المسلم أن ينشغل بزيادة الحسنات، وألا ينشغل بمحو السيئات؛ لأن الحسنة الواحدة بشعرة أمثالها وقد يضاعفها الله سبحانه، أما السيئة فإنما تكتب واحدة.
ويُنهي الحق سبحانه هذه الآية الكريمة بقوله:
{ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .
أي: إن إقامة الصلاة طرفي النهار، وزلفاً من الليل هي حسنات تذهب السيئات؛ وفي ذلك ذكرى وتنبيه للنفس إلى شيء غُفِل عنه، أي: أن هذا الشيء كان موجوداً من قبل، ولكن جاءت الغفلة لتنسيه، والإخبار الأول أزال الجهل بهذا الشيء، والإخبار الثاني يذكِّرك(11/6723)
بالحكم؛ لأن آفة الإنسان أن الأمور التي تمر به من المرائي والمدركات، تتوالى وتصير الأشياء التي في بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور، فيغفل الإنسان عما صار في حاشية الشعور، ولا بد من مجيء معنى جديد ليذكِّر بما غاب في حاشية الشعور.
ومثال ذلك: إنك إذا ألقيت حجراً في بحر، فهذا الحجر يستقر في بؤرة تصنع حولها دوائر من المياه، وتذهب هذه الدوائر إلى أن تختفي من رؤية الإنسان، ودليل ذلك أنك قد تتذكر أحداثاً مرت عليك من عشرين عاماً أو أكثر، هذه الأحداث كانت موجودة في حاشية الشعور، ثم جاء لك ما ينبهك إليها.
والمخ كآلة التصوير الفوتوغرافية يلتقط أحياناً من مرة واحدة، وأحياناً من مرتين، أو أكثر، والالتقاط من أول مرة إنما يتم لأن المخ في تلك اللحظة كان خالياً من الخواطر.
ونحن نجد أن من فقدوا أبصارهم إنما ينعم الله سبحانه عليهم بنعمة أخرى، هي قدرتهم الكبيرة على حفظ العلم؛ لأنه حين يسمع الكفيف العلم لا تشغله الخواطر المرئية التي تسرق انتباه بؤرة الشعور، أما المبصر، فقد تسرق بؤرة شعوره ما يمر أمامه، فيسمع العلم لأكثر من مرة إلى أن يصادف العلم بؤرة الشعور خالية فيستقر فيها.
وهكذا تفعل الذكرى؛ لأنها تستدعي ما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور، فإذا انشغلت عن طاعة وذهبت إلى معصية، فالذكرى توضح لك آفاق المسئولية التي تتبع المعصية، وهي العقاب.(11/6724)
ولذلك يقال: «لا خير في خيرٍ بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة» .
والحق سبحانه يقول هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [هود: 114] .
وأنت حين تنظر إلى أركان الإسلام، ستجد أنك تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله مرة واحدة في العمر، والركن الثاني، وهو الصلاة، وهو ركن لا يسقط أبداً، فهي كل يوم خمس مرات، فيها تنطق بالشهادة، وتزكِّي ببعض الوقت ليبارك لك الله سبحانه وتعالى فيما بقي لك من وقتٍ، وفيها تصوم عن الطعام والشراب وكل ما يفسد الصيام، وأنت تتجه لحظة قيام الصلاة إلى البيت الحرام.
ففي الصلاة تتضح العبادات الأخرى، ففيها من أركان الإسلام الخمس.
ولذلك لا تسقط الصلاة أبداً؛ لأنك إن لم تستطع الصلاة واقفاً؛ فَلَكَ أن تصلي قاعداً، وإن لم تكن تستطيع الحركة فَلَكَ أن تحرك رموش عينيك، وأنت تصلي.
وهكذا تجد في الصلاة كل أركان الدين، ولأهميتها نجد أنها تبقى مع الإنسان إلى آخر رمقٍ في حياته، وهي قد أخذت أهميتها في التشريع على قدر أهميتها في التكليف، وكل تكاليف الإسلام قد جاءت بواسطة الوحي إلا الصلاة، فقد جاءت مباشرة من الله تعالى، فقد استدعى الله(11/6725)
سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليه ليفرض عليه الصلاة وهي تحية لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ نظراً لأنها شرعت في قرب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ربه سبحانه وتعالى.
لذلك جعل الحق سبحانه الصلاة المفروضة في القرب وسيلة لقرب أمة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جميعاً؛ ولذلك فهي الباقية.
ويُحكَى أن الإمام علياً كرم الله وجهه ورضي عنه أقبل على قوم وقال لهم: أي آيةٍ في كتاب الله أَرْجَى عندكم؟
أي: ما هي الآية التي تعطي الرجاء والطمأنينة والبشرى بأن الحق سبحانه يقبلنا ويغفر لنا ويرحمنا، فقال بعضهم: هي قول الحق سبحانه:
{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] .
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها؟ أي: أنها آية تحقق ما طلبه، لكنها ليست الآية التي يعنيها.
فقال بعض القوم إنها قول الحق سبحانه:
{وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] .
فكرر الإمام علي: حسنة، وليست إياها.
فقال بعض القوم: هي قول الحق سبحانه:(11/6726)
{قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً}
[الزمر: 53] .
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها:
فقال بعضهم: هي قوله سبحانه:
{والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] .
فقال الإمام علي: حسنة، وليست إياها.
وصمت القوم وأحجموا، فقال الإمام علي كرَّم الله وجهه: ما بالكم يا معشر المسلمين؟ وكأنه يسألهم: لماذا سكتم؟ . . فقالوا: لا شيء.(11/6727)
وهكذا جعل الإمام علي التشويق أساساً يبني عليه ما سوف يقول لهم: واشرأبت أعناقهم، وأرهفوا السمع، فقال لهم الإمام علي: سمعت حبيبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أَرْجَى آية في كتاب الله هي قول الحق سبحانه:
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .
يا علي إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتتساقط عن جوارحه ذنوبه، فإذا أقبل على الله بوجهه وقلبه لا ينفتل أي: لا يلتفت إلا وقد غفر الله له كل ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فإذا أحدث شيئاً بين الصلاتين فله ذلك، ثم عدَّ الصلوات الخمس واحدة واحدة، فقال بين الصبح والظهر، وبين الظهر والعصر، وبين العصر والمغرب، وبين المغرب والعشاء، وبين العشاء والفجر، ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا علي إنما الصلوات الخمس لأمتي كنهر جارٍ بباب أحدكم، أو لو كان على جسد واحد منكم درن ثم اغتسل في البحر، أيبقى على جسده شيء من الدرن؟ قال: فذلكم والله الصلوات لأمتي «.
ولذلك لو نظرنا إلى الأعمال لوجدنا كل عمل له مجاله في عمره إلا مجال الصلاة، فمجالها كل عمر الإنسان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}(11/6728)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وجاءت كلمة «اصبر» لتخدم كل عمليات الاستقامة.
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] .
والصبر نوعان: صبر «على» ، وصبر «عن» وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات.
وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين: في الإيجاب للطاعة، وفي السلب عن المعصية.
ونحن نعلم أن الجنة حٌقَّتْ بالمكاره؛ فاصبر على المكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات؛ فاصبر عنها.
وافرض أن واحداً يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها؛ ولا يستدين.(11/6729)
ولذلك يقول الزهاد: ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس.
ولذلك نجد من يقول: إذا غلا شيء عليّ تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
والحق سبحانه يقول:
{واصبر على مَآ أَصَابَكَ} [لقمان: 17] .
وهنا يقول الحق سبحانه:
{واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115] .
وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرق الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله؛ لأن العبادة ليست اقتراحاً من عابدٍ لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه.
وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْراً؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك؛ حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر عنه، وكأنك والعياذ بالله(11/6730)
قد جرَّبت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلاً لها، وفي هذا طغيان منك.
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ الله.
وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد، وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك، وامتلأتَ بإشراقات نوارينة تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية.
ولذلك لا نجد واحداً من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدوداً للمرتاض ولغير المرتاض، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاة عبداً صالحاً، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى:(11/6731)
{عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] .
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام:
{إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: 67] .
وبيَّن العبد الصالح لموسى بمنتهى الأدب عذره في عدم الصبر، وقال له:
{وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف: 68] .
وردَّ موسى عليه السلام:
{ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] .
فقال العبد الصالح:
{فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: 70] .(11/6732)
ولكن الأحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح:
{هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] .
وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غير المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ ميزان الكون.
والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى:
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 1516] .
ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله سبحانه:
{كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] .
والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلاً من الليل، وللمسلم أن يصلي العشاء، وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه:(11/6733)
{وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] .
والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضاً:
{وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] .
ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقاً غير معلوم أو محددٍ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليودَّ الحق سبحانه.
ولله المثل الأعلى: نحن نجد الإنسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة، علماً، أو مالاً، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6734)
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} .(11/6735)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وكلمة «لولا» هنا تحضيضية، والتحضيض إنما يكون حثاً لعفلٍ لم يأت زمنه، فإن كان الزمن قد انتهى ولا يمكن استدراك الفعل فيه، تكون «لولا» للتحسر والتأسف.
وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه:
{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98] .
وذكَّرهم بالآيات. ونحن قد علمنا أن «لولا» لها استعمالان في اللغة، فهي إن دخلت على جملة اسمية، فهي تدل على امتناع لوجود، كقول إنسان لآخر: «لولا أن أباك فلاناً لضربتك على ما أذنبت» وتسمى «لولا» في هذه الحالة «حرف امتناع لوجود» .
وإذا دخلت «لولا» على جملة فعلية، فهي أداة تحضيض، وتحميس، وحث المخاطب على أن يفعل شيئاً، مثلما تشجِّع طالباً على المذاكرة، فتقول له: «لولا ذاكرت بجد واجتهاد في العام الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية» .(11/6735)
وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد، أما إذا قلت لراسب: «لولا ذاكرت لما رسبت» فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات، وشحن طاقته لما هو آت؛ لأن الزمن قد فات وانتهى وقت المذاكرة؛ لذلك تكون «لولا» هنا للتقريع والتوبيخ.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الأشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن، فأحداث الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولاً، ثم بما دونه ثم بما دونه، ويبقى الشيء القوي؛ لأنه ثابت على أحداث الزمن؛ وبقية الأشياء دائماً خيرها.
والحق سبحانه قد بيَّن لنا أنه قد أهلك الأمم التي سبقت؛ لأنه لم توجد فئة منهم تنهى عن الفساد في الأرض، وجاء الإهلاك لامتناع من يقاوم الفساد بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.(11/6736)
وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء، وأنها هي التي تبقى أمام الأحداث، ففي قصة شعيب عليه السلام يقول الحق سبحانه:
{ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 8486] .
ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده، ولكنه لا يلتفت إلى ماهو مدخور.
ولذلك قال شعيب عليه السلام:
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] .
فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب، فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم، لتجده مدخراً لك باقياً.
ولنا المثل في موقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها حينما سألها عن شاة أُهديت له، وكانت تعرف أن(11/6737)
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب من الشاة كتفها، فتصدقت بكل الشاة إلا جزءاً من كتفها، فلمَّا سألها: ما فعلت بالشاةّ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها.
هكذا نظرت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها هذا المنظور الواقعي؛ بأن الباقي من الشاة هو كتفها فقط، وأنها تصدقت بباقي الشاة، ويلفتها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لفتة إيمان ويقين، ويقول لها: «بقى كلها إلا كتفها» .
هكذا نظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى ما بقي من الشاة من خير.
ويؤيد ذلك حديث قاله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» .
ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور، وإلى المدخور، فيقول الحق سبحانه:
{المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} [الكهف: 46] .
ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله:(11/6738)
{ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] .
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] .
إذن: لا بد أن تنظر إلى الباقيات في الأشياء؛ لأنها هي التي يُعوَّل عليها.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم، فيقول تعالى:
{والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] .
ويقول سبحانه:
{وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60] .
إذن: فإياك أن تنظر إلى الذاهب، ولكن انظر إلى الباقي.
وإذا عضَّتِ الإنسان الأحداث في أي شيء، نجد أن سطحي الإيمان يفزع مما ذهب، ونجد راسخ الإيمان شاكراً لله تعالى على ما بقي.
وها هو ذا سيدنا عبد الله بن جعفر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حينما(11/6739)
جُرحت ساقه جرحاً شديداً، وهو في الطريق إلى الشام، ولحظة أن وصل إلى قصر الخلافة قال الأطباء: لا بد من التخدير لنقطع الساق المريضة، فقال: والله ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
وكان هذا القول يعني أن تجرى له جراحة بتر الساق دون مخدر، فلمَّا قُطعت الساق، وأرادوا أن يأخذوها ليدفنوها؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء الله؛ قال: ابعثوا بها، فجاءوا بها إليه، فأمسكها بيده وقال: اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو؛ فقد عافيت في أعضاء.
هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي.
وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي الإيمان يقول مرة:
{فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} [غافر: 40] .
ويقول عن أناس آخرين:
{أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] .
والجنة باقية بإبقاء الله لها، ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله، وهكذا تكون درجة الرحمة أرقى من درجة الجنة.
وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات.
وهنا يقول الحق سبحانه:(11/6740)
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] .
أي: لولا أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من الإيمان، وبقية من اليقين، وكانوا ينهون عن الفساد في الأرض، لولا هم لخسف الله الأرض بمن عليها.
والبقايا في كل الأشياء هي نتيجة الاختيار، والاختبار؛ مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد: 17] .(11/6741)
وفي العصر الحديث نقول: «البقاء للأصلح» .
إذن: فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلاء الذين ينهون عن الفساد في الأرض؛ لأنهم يعملون على ضوء منهج الله، وهذا المنهج لا يزيد ملكاً لله، ولا يزيد صفة من صفات الكمال لله، لأنه سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه، ومنهجه سبحانه إنما يُصلح حركة الحياة، وحركة الأحياء.
وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات الله، لا على الله الذي كوَّن الكون بكماله.
واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
{والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 78] .
فكما رفع الحق سبحانه السماء بلا عمد، وجعل الأمور مستقرة متوازنة؛ فلكم أن تعدلوا في الكون في الأمور الاختيارية بميزان دقيق؛ لأن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة الحياة.
ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح، ويرى الناس العاطل، وهو يحيا في ترفٍ من سرقة خير الكادح، فيفعلون مثله، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد.(11/6742)
وينزوي أصحاب المواهب، فلا يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته؛ لأن ثمرة عمله إن زادت فهي غير مصونة بالعدالة.
وهكذا تفسد حركة الحياة، وتختل الموازين، وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض} [هود: 116] .
وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير الأمم بشرط أن يأمورا بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
قال الله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] .
وجعلها الحق سبحانه الأمة الخاتمة، لأنه لا رسالة بعد رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كانت الرسالات قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات، وفي النفوس.
فقد وضع الحق سبحانه المنهج لأول الخلق في النفس الإنسانية، وكانت المناعة ذاتية في الإنسان، إن ارتكب ذنباً فهو يتوب ويرجع(11/6743)
بعد أن يلوم نفسه، ولكن قد يستقر أمره على المعصية، وتختفي منه «النفس اللوَّامة» ، ويستسلم للنفس الأمَّارة بالسوء، فيجد من المجتمع من يقوِّمه، فإذا ما فسد المجتمع، فالسماء تتدخل بإرسال الرسل، إلا أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد أمَّنها الحق سبحانه أنه سيظل فيها إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير، ومن يأمر بالمعروف، ومن ينهى عن المنكر؛ ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تأكيداً لهذا المعنى: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» .
والعَالِم: هو كل من يعلم حكماً من أحكام الله سبحانه، وعليه أن يبلغه إلى الناس.
ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «نضَّر الله وجه امرىءٍ سمع مقاتلي فوعاها، وأدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ مُبلَّغ أوعى من سامِع» .
ويقول الحق سبحانه:
{أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116] .
وقد أنجى الحق سبحانه بعضاً ممن نهوا عن الفساد في الأرض.(11/6744)
ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر، وكانت تأتيهم حيتانهم شُرعاً يوم السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم.
ويقول الحق سبحانه:
{وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 164165] .(11/6745)
هكذا أنجى الله سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية، وقد نرى في بعض المجتمعات عنصرين:
الأول: أنه لا يوجد طائفة تنهى عن الفساد.
والعنصر الثاني: أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه، وفي انفتاح باب الترف على مصراعيه مذلَّة للبشر؛ لأنك قد تجد إنساناً لا تترفه إمكاناته؛ فيزيد هذه الإمكانات بالرشوة والسرقة والغصب.
وكل ذلك إنما ينشأ لأن الإنسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم لا تؤهله إمكاناته أن يتنعم به.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلاك مثل هذه المجتمعات:
{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} [الإسراء: 16] .
وبعض الناس يفهمون هذه الآية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة لأمر من الله سبحانه وتعالى والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر الله؛ لأن الحق سبحانه يقول:
{وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] .
أي: أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج الله، لكنهم خالفوا المنهج الإلهي مختارين؛ ففسقوا عن أمر ربهم.(11/6746)
وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} [هود: 116] .
وقوله سبحانه: (ظلموا) تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم، وأخذ حقوق الناس وامتصاص دماء الكادحين.
ومادة (ترف) تعني النعمة يتنعم بها الإنسان. ومنها: أَترف، وأُترف، وكلمة «أترف» أي: أطغته النعمة، وأنسته المنعم سبحانه. وأترف، أي: مد الله له في النعمة ليأخذه أخذ عزيز مقتدر.
والحق سبحانه يقول:
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] .
فمن يمسك عدوه ليرفعه؛ فلا يظنن أنه يدلِّله، ولكنه يرفعه ليلقيه من علٍ، فيزداد ويعظم ألمه. وكان الله سبحانه قد أعطى أمثال هؤلاء نعمة؛ ليطغوا.
ولنا أن ننتبه إلى كلمة «الفتح» التي تجعل النفس منشرحة، وعلينا أن ننتبه إلى المتعلق بها، أهو فتح عليك، أم فتح لك؟(11/6747)
إن فُتح عليك؛ فافهم أن النعمة جاءت لتطغيك، ولكن إن فُتح لك، فهذا تيسير منه سبحانه، فهو القائل:
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] .
وهؤلاء الذين يحدثنا الحق سبحانه عنهم في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ قد فتح الله سبحانه عليهم أبواب الضر؛ لأنهم غفلوا عنه.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116] .
أي: كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل؛ وهو اتباع منهج السماء؛ لأن كلمة (مجرمين) مأخوذة من مادة «جرم» وتعني: «قطع» ، وقطع اتباع منهج السماء؛ والغفلة عن الإيمان بالخالق سبحانه، والاستغراق في الترف الذي حققوه لأنفسهم بظلم الغير، وأخذ نتيجة عرق وجهد الغير.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:(11/6748)
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} .(11/6749)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
وساعة تقرأ أو تسمع (ما كان) يتطرق إلى ذهنك: ما كان ينبغي.
ومثال ذلك: هو قولنا: «ما كان يصح لفلان أن يفعل كذا» . وقولنا هذا يعني أن فلاناً قد فعل أمراً لا ينبغي أن يصدر منه.
وهناك فرق بين نفي الوجود؛ ونفي انبغاء الوجود.
والحق سبحانه يقول:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] .
وهذا لا يعني أن طبيعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جامدة، ولا يستطيع معاذ الله أن يتذوق المعاني الجميلة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جُبل على الرحمة؛ وقد قال فيه الحق سبحانه:(11/6749)
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
ولهذا نفهم قوله الحق:
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] .
أي: أن الحق سبحانه لم يشأ له ان يكون شاعراً.
وهكذا نفهم أن هناك فرقاً بين «نفي الوجود» وبين «نفي انبغاء الوجود» .
والحق سبحانه يقول هنا:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} [هود: 117] .
أي: لا يتأتى، ويستحيل أن يهلك الله القرى بظلم؛ لأن مراد الظالم أن يأخذ حق الغير لينتفع به؛ ولا يوجد عند الناس ما يزيد الله شيئاً؛ لأنه سبحانه واهب كل شيء؛ لذلك فالظلم غير وارد على الإطلاق في العلاقة بين الخالق سبحانه وبين البشر.
وحين يورد الحق سبحانه كلمة «القرى» وهي أماكن السكن فلنعلم أن المراد هو «المكين» ، مثل قول الحق سبحانه:
{وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} [الأعراف: 163] .
وقوله الحق أيضاً:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] .(11/6750)
والحق سبحانه في مثل هاتين الآيتين؛ وكذلك الآية التي نتناولها الآن بهذه الخواطر إنما يسأل عن المكين.
والله سبحانه يقول هنا:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} [هود: 117] .
أي: أنه مُنزَّه عن أن يهلكهم بمجاوزة حَدٍّ، لكن له أن يهلكهم بعدل؛ لأن العدل ميزان، فإن كان الوزن ناقصاً كان الخسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن مستوفياً كان الثواب.
وفي مجالنا البشرى؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة؛ فنحن نتبعه فعلاً؛ لكننا نريح كل المظلومين؛ وهذه هي العدالة فعلاً.
ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي؛ فقد تحدث الجريمة اليوم؛ ولا يصدر الحكم بعقاب المجرم إلا بعد عشر سنوات، واتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات الوضعية؛ ففي هذا تراخٍ في إنفاذ حقوق التقاضي؛ لأن اتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما يضعف الإحساس ببشاعة الجريمة.
ولذلك حرص المشرع الإسلامي على ألا تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين إنزال العقوبة، فعقاب المجرم في حُمُوَّة وجود الأثر النفسي عند المجتمع؛ يجعل المجتمع راضياً بعقاب(11/6751)
المجرم، ويذكِّر الجميع ببشاعة ما ارتكب؛ ويوازن بين الجريمة وبين عقوبتها.
ويقول الحق سبحانه هنا:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] .
إذن: لا بد من إزاحة الغفلة أولاً، وقد أزاح الله سبحانه الغفلة عنا(11/6752)
بإرسال الرسل وبالبيان وبالنذر؛ حتى لا تكون هناك عقوبة إلا على جريمة سبق التشريع لها.
وهكذا أعطانا الله سبحانه وتعالى البيان اللازم لإدارة الحياة، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بضرورة الإصلاح:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
والإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع بها، وقد كفانا الله ضروريات الحياة؛ وأمرنا أن نأخذ بالأسباب لنطور بالابتكارات وسائل الترف في الحياة.
وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون، والتزاوج متاح بوجود الذكر والأنثى في الكائنات المخلوقة، أما ما نصنعه نحن من تجويد لأساليب الحياة ورفاهيتها فهذا هو الإصلاح المطلوب منا.
وسبق أن قلنا: إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلاحه، أو يزيده صلاحاً يؤدي إلى ترفه وإلى راحته، وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت.
والقرى التي يصلح أهلها؛ لا يهلكها الله؛ لأن الإصلاح إما أن يكون قد جاء نتيجة اتباع منهج نزل من الله تعالى؛ فتوازنت به حركة الإنسان مع حركة الكون، ولم تتعاند الحركات؛ بل تتساند وتتعاضد، ويتواجد المجتمع المنشود.(11/6753)
وإما أن هؤلاء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم، مثل الأمم الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنع العقل البشري أن يصل إلى وضع قانون يريح الناس.
لكن هذا العقل لا يصل إلى هذا القانون إلا بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب، أما المنهج السماوي فقد شاء به الله سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب، فلا تعضهم الأحداث.
وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر، لا تعطي عائد الكمال الاجتماعي، أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فلا يقعون فيما يؤلمهم.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
{وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
لأنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي، وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي، لكنهم يصلحون أنفسهم.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة؛ بل يبقيها كافرة ما دامت تضع القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها؛ وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام.
ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج الله؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم، وإن لم يقبلوا؛ فعلى المؤمنين أن يكتفوا من هؤلاء الكافرين بعدم معارضة المنهج الإيماني.(11/6754)
ولذلك نجد في البلاد التي فتحها الإسلام أناساً بَقَوْا على دينهم؛ لأن الإسلام لم يدخل أي بلد لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين، بل جاء الإسلام بالدليل المقنع مع القوة التي تحمي حق الإنسان في اختيار عقيدته.
يقول الله جَلَّ علاه:
{لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8] .
فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بالله، ومُصْلِحة؛ فالحق سبحانه لا يهلكها بل يعطيهم ما يستحقونه في الحياة الدنيا؛ لأنه سبحانه القائل:
{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} .(11/6755)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله سبحانه في هذا الكون كل مقومات الحياة؛ المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان؛ ليمارس مهمة الخلافة في الأرض؛ ولم تتأبَّ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمناً أم كافراً؛ لأن الحق سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه؛ فهو سبحانه لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود؛ من بقاء حياة، وبقاء نوع.
وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله سبحانه لكل البشر: مؤمنهم وكافرهم، وهو عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني: «افعل» و «لا تفعل» .
ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة.
إذن: فقدرة الله سبحانه قد أرغمت الكون دون الإنسان أن يؤدي مهمته، وكان من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أرادة الله سبحانه وتعالى كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى المسخَّرة عن إرادته.(11/6756)
لأن الحق تبارك وتعالى أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده؛ بحيث لا تخرج عنه، وذلك يثبت لله سبحانه القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقاً؛ ويعطيهم في تكوينهم اختياراً.
ويجعل هذا الاختيار كلَّ واحدٍ فيهم صالحاً أن يطيع، وصالحاً أن يعصي، فلا يذهب إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله تعالى.
وهكذا نعلم أن الكون المسخَّر المقهور قد كشف لنا سَيَّال القدرة، والجنس الذي وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية.
والحق سبحانه هو القائل:
{فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] .
ولكن أيُترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائماً؟
لا. . فمع كونك مختاراً إياك أن تغتر بهذا الاختيار؛ لأن في طيِّك قهراً، وما دام في طيك قهر فعليك أن تتأدب؛ ولا تتوهَّم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن؛ ولا تتوهم أنك مُنفلت من قبضة الله تعالى فهو يملك زمامك في القهريات التي تحفظ لك(11/6757)
حياتك مثل: الحيوان والنبات والجماد، ولكنه سبحانه ميَّزك بالعقل.
وخطأ الإنسان دائماً أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة «العقل» مأخوذة من «عقل» وتعني: «ربط» ؛ فلا تجمح بعقلك في غير المطلوب منه؛ لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك. وتذكر دائماً: في قبضة من أنت؛ وفي زمام من أنت؛ وفي أي الأمور أنت مقهور؟
وما دُمْتَ مقهوراً في أشياء فاختر أن تكون مقهوراً لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك مع الله، واعلم أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.
وانظر إلى من سلبهم الحق سبحانه بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم، فتجد من كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها، أو يحاول أن يرفع يده فلا يستطيع.
ولو كانت مثل هذه الأمور ذاتية في الإنسان لما عَصَتْه، وهذا دليل على أنها أمور موهوبة من الله، وإنْ شاء أخذها، فهو سبحانه يأخذها ليؤدِّب صاحبها.
وما دام الإنسان بهذا الشكل، فليقُل لنفسه: إياك أن تَغترَّ بأن الله(11/6758)
جعل فيك زاوية اختيار، وتذكّر أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقَّى التكليف من الله ب «افعل» ، و «لا تفعل» ؛ لأن معنى «افعل كذا» : أنك صالحٌ ألاّ تفعل؛ ومعنى «لا تفعل كذا» : أنك صالحٌ أنْ تفعل؛ لأن لديك منطقة اختيار؛ ولكن لديك في زواياك الأخرى منطقة قَهْرٍ وتسخير، فتأدَّبْ في منطقة الاختيار، كما تأدبت في منطقة الاضطرار والقهر.
وقد وصف الحق سبحانه الإنسان بأنه كنود، قال تعالى:
{إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] .
لإن الإنسان لا يتذكر أحياناً أن مهمة عقله الأولى هي أن يعقل حدوده، وأن يقول لنفسه: ما دامت الحيوانية فيَّ مقهورة، وما دامت الجمادية فيَّ مقهورة؛ فَلأكُنْ مؤدباً مع ربي، وأجعل منطقة الاختيار على مراد منهج الله.
وأنت إنْ أردتَ أن تضع إحصائية ل «افعل» ولا «تفعل» لوجدت ما لم يَرِدْ فيه تكليف ب «افعل» و «لا تفعل» لا يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة، وهو المباح.
وأنزل الله سبحانه التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها إنْ جعلت التكليف هو مرادك وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة، ويعود خير ذلك عليك.(11/6759)
فساعة يقول لك التكليف: عليك أن تزكِّي عن مالك، فلا بد لك من أن تقدِّر المقابل، لأنك إن افتقرتَ واحتجْتَ؛ سيأتيك من زكاة الآخرين ما يلبِّي احتياجاتك، فمن «أفعل» التي تلتزم بها ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسدُّ عجز أي ضعف في المجتمع الإيماني بالتراحم المتبادل النابع عن اليقين بالمنهج.
وحين يقول لك التكليف: لا تعتدِ على حُرمات الغير، فهو يقيِّد حريتك في ظاهر الأمر، لكنه يحمي حُرماتك من أن يعتدي عليها الغير، وحين تتعقل أوامر التكليف كلها ستجدها لصالحك؛ سواء أكان الأمر ب «افعل» أو «لا تفعل» .
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] .
و «لو» تفيد الامتناع. أي: أن الله تعالى لم يجعل الناس أمة واحدة، بل جعلهم مختلفين.(11/6760)
وقد حاول بعض من الذين يريدون أن يدخلوا على الإسلام بنقد ما، فقالوا: ألاَ تتعارض هذه الآية مع قول الله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213] .
وظن أصحاب هذا القول أن البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم من البداية؛ ثم بعث الله الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج.
ونقول لهؤلاء: لا، فقد ضمن الحق سبحانه للناس قُوتَهم وقوام حياتهم، وكذلك ضمن لهم المنهج الإيماني منذ أن أمر آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمة الخلافة فيها، وقال الله سبحانه: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] .
ولو استقصى هؤلاء الآيات التي تعالج هذا الأمر، وهي ثلاث آيات؛ فهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] .(11/6761)
وفي الآية التي ظنوا أنها تتعارض مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه:
{كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] .
وهكذا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع آدم عليه السلام ثم طرأتْ الغفلة؛ فاختلف الناس، فبعث الله الأنبياء ليحكموا فيما اختلف فيه الناس.
إذن: فقول الله تعالى:
{وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] .
يعني أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية؛ لأنه بعد أن خلقهم؛ وأنزلهم إلى الأرض؛ وأنزل لهم المنهج؛ كانوا على هداية، ولكن بحكم خاصية الاختيار التي منحها الله لهم، اختلفوا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] .
أي: أنهم سيظلون على الخلاف.
ويأتي الحق سبحانه وتعالى في الآية التالية بالاستثناء فيقول:(11/6762)
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} .(11/6763)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
أي: أن الحق سبحانه قد خَلَقَ الخَلْق للرحمة والاختلاف.
وساعة نرى «اسم إشارة» أو «ضميراً» عائداً على كلام متقدِّم، فنحن ننظر ماذا تقدم. والمتقدم هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118119] .
والحق سبحانه وتعالى حين تكلم عن خلق الإنسان قال:
{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ومعنى العبادة هو طاعة الله سبحانه في «افعل» و «لا تفعل» وهذا هو المراد الشرعي من العبادة؛ ولكن المرادات الاجتماعية تحكَّمتْ فيها خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدُّد الأهواء.
فلو أن هَوَانَا كان واحداً؛ لما اختلفنا، ولكنّا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا هواه يميني؛ وذاك هواه يساري؛ وثالث هواه شيوعيٌّ؛ ورابع هواه رأسماليّ؛ وخامس هواه وجوديّ، وكل واحد لهم هوى.(11/6763)
ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71] .
ولم يكن العالم ليستقيم؛ لو اتبع الله سبحانه أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم؛ إذا صدرتْ حركته الاختيارية عن هوًى واحد؛ ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به» .
وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها؛ نجد فيها اختلافاً لا محالة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة.
ولو شاء سبحانه ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعاً مهندسين؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكاملٍ وضرورة؛ لا ارتباط تفضُّل.(11/6764)
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف: 32] .
وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء، والتي تدعي أن في ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلاً لشأن الفقير؛ لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب ما يُحسنه فيها؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يُحسنه ويُحسنه غيره، وغيره مكمل له.
وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم.
ولذلك قلنا: إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى؛ وقيمة كل امرىء ما يُحسنه.(11/6765)
وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلاح السيارات الذي يرتدي ملابس رثة ومتسخة؛ ليصلح له سيارته؛ فيقول له العامل: لا وقت عندي لإصلاح سيارتك؛ فيلحّ صاحب السيارة الفارهة بالرجاء؛ فيرضى العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجل صاحب السيارة الفارهة ويذهب لإصلاحها.
لذلك أقول: إذا نظرتَ لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فلا تغترَّ بما تفوقتَ وتميزتَ به عليه؛ ولكن قُلْ لنفسك: لا بد أن هذا الإنسان متفوق في مجال ما.
ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى ليس له أبناء ليميز واحداً بكامل المواهب، ويترك آخر دون موهبة.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} [هود: 118119] .
وإن كان الاختلاف في المقدرات والمنهج؛ فهذا ما يولِّد الكفر أو الإيمان، ولنا أن نعرف أن الكفر له رسالة؛ بل هو لازم ليستشعر المؤمن حلاوة الإيمان. ولو لم يكن للكفر وظيفة لما خلقه الله.
وقد قلت قديماً: إن الكفر يعاون الإيمان؛ مثلما يعاوِن الألم العافية، فلولا الألم لما جئنا بالطبيب ليشخِّص الداء، ويصفَ الدواء الشافي بإذن الله.
ولذلك نقول: الألم رسول العافية.
والحق سبحانه يقول هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118119] .
وأنت إن دقَّقت النظر في الاختلاف لوجدته عين الوفاق.(11/6766)
ومثال ذلك: اختلاف أبنائك فيما يحبونه من ألوان الطعام، فتجد ابناً يفضِّل صدر الدجاجة، وآخر يفضل الجزء الأسفل منها «الوَرِك» ، وتضحك أنت لهذا الاختلاف، لأنه اختلاف في ظاهر الأمر، ولكن باطنه وِفَاق، لو اتفقنا جميعاً في الأمزجة لوجدنا التعاند والتعارض؛ وهذا ما ينتشر بين أبناء المهنة الواحدة.
ولمن يسأل: هل الخلق للاختلاف أم الخلق للرحمة؟
نقول: إن الخلق للاختلاف والرحمة معاً، لأن الجهة مُنفكَّة.
ثم يقول سبحانه في نفس الآية: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] .
والحق سبحانه قد علم أزلاً بمن يختار الإيمان ومن يختار الكفر، وهذا من صفات العلم الأزليّ لله سبحانه وتعالى ولذلك قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي: علم سبحانه مَنْ مِنْ عباده سيختار أن يعمل في الدنيا عملَ أهل النار، ومن سيختار أن يعمل عملَ أهل الجنة؛ لسبْق علمه الأزليّ بمرادات عباده واختياراتهم.
وسبق أن ضربنا مثلاً ولله المثل الأعلى بعميد الكلية الذي(11/6767)
يعلن للأساتذة ضرورة ترشيح المتفوقين في كل قسم؛ لأن هناك جوائز في انتظارهم، فيرشح كل أستاذ أسماء المتفوقين الذين لمسَ فيهم النبوغ والإخلاص للعلم، ويطلب العميد من أساتذة من خارج جامعته أن يضعوا امتحانات مفاجئة لمجموع الطلاب؛ ويُفاجأ العميد بتفوق الطلبة الذين لمس فيهم أساتذتهم النبوغ والإخلاص للعلم، وهنا يتحقق العميد من صدق تنبؤ الأساتذة الذين يعملون تحت قيادته.
ولكن قد تحدث مفاجأة: أن يتخلف واحد من هؤلاء الطلبة لمرض أصابه أو طارىء يطرأ عليه من تعب أعصاب أو إرهاق أو غير ذلك؛ وبهذا يختلّ تقدير أستاذه؛ لكن تقدير الحق سبحانه مُنزَّه عن الخطأ، وما عَلِمه أزلاً فهو مُحقَّق لا محالة؛ لذلك بيَّن لنا أنه عِلْم أزليّ، ويتحدى الكافر به أن يغيره.
وكلنا يعرف أن الحق سبحانه أنزل قوله الكريم:
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] .
وسمعها أبو لهب ولم يتحدها بإعلان الإيمان ولو نفاقاً.
وقول الحق: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} تبيِّن لنا أن الحق سبحانه(11/6768)
إنْ قال شيئاً فهو قد تَمَّ بالفعل؛ فلا رادَّ لمشيئته، أما نحن فعلينا أن نسبق كل وعد بعمل سنقوم به بقول: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 24] .
لأن الحق يقول لنا: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] .
وفي هذا احترامٌ لوضعنا البشري، وإيمانٌ بغلبة القهر، ومعرفة لحقيقة أننا من الأغيار؛ لأن كل حدث من الأحداث يتطلب فاعلاً؛ ومفعولاً يقع عليه الفعل؛ ومكاناً؛ وزماناً؛ وسبباً؛ ولا أحدَ مِنَّا يملك أيَّ واحد من تلك العناصر.
فإن قُلْتَ: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} تكون قد عصمتَ نفسك من أن تكون كاذباً، أو أن تَعِدَ بما لا تستطيع، لكن إذا كان مَنْ يقول هو مالك كل شيء، ولا قوة تخرجه عَمَّا قال، فهو وحده القادر على أن ينفِّذ ما يقول.
ولذلك قلنا: إن كل فعل يُنسب إلى الله تعالى يتجرد عن(11/6769)
الزمن؛ فلا نقول: «فعل ماضٍ» أو «فعل سيحدث في المستقبل» أو «فعل مضارع» ؛ لأن تلك الأمور إنما تُقاسُ بها أفعال البشر، لكن أفعال الله سبحانه لا تقاس بنفس المقياس، فسبحانه حين يقرر أمراً فنحن نأخذه على أساس أنه قد وقع بالفعل.
والحق سبحانه يقول:
{أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] .
وقوله سبحانه: {أتى} بمعنى: تَقرَّر الأمر ولم يُنفَّذ بعد فلا تتعجَّلوه؛ وهذا هو تحدِّي القيومية القاهرة، ولا توجد قوة قادرة على أن تمنع وقوع أمر شاءه الله سبحانه وتعالى فهو يحكم فيما يملك، ولا مُنَازِع له سبحانه.
وقوله الحق: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [هود: 119] .
فسببه أن الإنس والجن هما الثقلان المكلَّفان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6770)
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل} .(11/6771)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وساعة ترى التنوين في قوله الحق {وَكُلاًّ} فاعلمْ أن المقصود هو قصة كل رسول جاء بها الحق سبحانه في القرآن الكريم.
وحين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن فعل قد أحدثه؛ فلنا أنْ ننظر: هل هذا الفعل مأخوذ من صفة له سبحانه أم مأخوذ من اسم موجود؟ فيحقّ لنا أن نأخذ الاسم ونأخذ الفعل مثل قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ} [النحل: 70] .
نعلم منه أنه سبحانه خالق، ولكن إنْ جاء فعل ليس له أصل في أسماء الله الحسنى، فإياك أنْ تشتقَّ من الفعل اسماً لله.
ومثال ذلك قوله سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ} [هود: 120] .
والذي يقصُّ هنا هو الله سبحانه لكن لا أحد في إمكانه أن(11/6771)
يقول: إن الله قصَّاص، مثلما لا يحق لأحد أن يقول: إن الله ماكر، رغم أن الله سبحانه قد قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30] .
وكذلك لا يصح لأحد أن يقول: الله المخادع، رغم أن الحق سبحانه قد قال: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .
وهكذا نتعلم أدب الحديث عن الله المتصف بكل صفات الكمال والجلال؛ وأن نكتفي بقول: إن مثل هذا الفعل جاء للمشاكلة ما دام ليس له وجود ضمن أسماء الله الحسنى.(11/6772)
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل} [هود: 120] .
و «أنباء» جمع «نبأ» ، وهو الخبر العظيم الذي له أهمية، والذي يختلف به الحال عند العلم به، وأخبار الرسل عليهم السلام تتناثر لقَطاتٍ مختلفة عَبْرَ سور القرآن الكريم، موضحة ما جاء به كل رسول معالجاً الداء الذي عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كل رسول من عَنَت القوم المبعوث لهم، وجاء ذكر تلك الأنباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الرسول سيصادف في الدعوة المتاعب والصعاب.
وقد ذكر القرآن بعضاً من تلك المواقف، يقول الحق سبحانه:
{وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] .
ويقول الحق سبحانه مصوِّراً حال المؤمنين:(11/6773)
{إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10] .
ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين الإيماني بربِّ أرسله رسولاً ليبلِّغ منهجاً، وما كان الله سبحانه ليرسل رسولاً ليبلِّغ منهجاً ثم يُسلمه لأعدائه.
فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض لها، ويثبت فؤاده.
و «الفؤاد» هو ما نقول عنه: «القلب» ، وهو وعاء العقائد، بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس وسائل الإدراكات من عين ترى، ومن أذن تسمع، ومن أنف يشُم، ومن فَمٍ يستطعم، ومن كفٍّ تلمس(11/6774)
فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ، ويرتبها كقضايا عقلية.
ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة لا يأتي بعدها ما ينقضها، فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة؛ لا تطفو بعدها إلى العقل لتُناقش من جديد؛ ولذلك يسمونها «عقيدة» من العقدة فلا تتذبذب بعد ذلك.
إذن: فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ من تمحيصها تمحيصاً وصل فيه إلى الحق، وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مُقْتضاها.
وعلى سبيل المثال: نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله، فيدرس مزايا وعيوب المهن المختلفة ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه؛ وأحلامه، ثم يدرس المحسَّات التي استقبلها بحواسه ليُمحِّصها بعقله؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه؛ ليصير عقيدة يدير بها حركة حياته.
مثال هذا: أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار مُحْرقة، ولكن من أين جاء هذا اليقين في أن النار محرقة؟ نقول: جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن مَنْ مسَّته النار أحرقته.
لا بد إذن أن يكون القلب ثابتاً؛ غير مذبذب.(11/6775)
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] .
لأن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعداً لاستقبال كلمة الحق؛ وليقبل تنبيه الذكرى، وجلال الموعظة، وكمال الوارد من الحق سبحانه وما يأتي من الحق سبحانه هو الحق أيضاً، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير.
وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف، ولا بد أن يكون الإنسان على ثقة من حكمه المكلِّف قبل أن يُقبِلَ على التكليف؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على وجود الحق سبحانه وهو قمة الوجود الأعلى قبل أن تأتي الموعظة، ويكون الإيمان بالوجود الأعلى الذي لا يتغير ولا تطرأ عليه الأغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة.
لأن الموعظة قد تتطلب من الإنسان شيئاً يكره أن يلتزم به، وهي هنا صادرة من الحق سبحانه، الذي خلق، ولا يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته، ويحملها لك رسول منه سبحانه.
وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك؛ لأنه لن يَعِظك إلا بكمال يتميز به ليعدد نقصاً فيك، وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به؛ بالموعوظ سيردُّ على الواعظ قائلاً: فَلْتعِظْ نفسك أولاً.(11/6776)
ولذلك نجد قول الحق سبحانه:
{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ}
[الصف: 3] .
لأن الواعظ الذي يَعِظُ بما لا يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة؛ وليقول لنفسه: «لو كان في هذا الأمر خير لطبَّقه على نفسه» .
وهكذا بيَّنت الآية الكريمة موقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كمُثَبَّتٍ، وأيضاً موقف المؤمنين برسالته كمذكَّرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب؛ متاعب مشقة التكليف التي سيعاني منها مَنْ لا يأخذ التكليف بعمق الفهم.
فقد يرى بعض المكلَّفين مثلاً أن الأمر بغَضِّ الطَّرْف(11/6777)
حرمانٌ من شهوة طارئة ولا يَسْبر غورَ الفهم بأن غَضَّ الطَّرْف أمراً لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن محارمه، وقد يرى في الزكاة أنها أخْذٌ من ماله، ولا يَسْبر غور الفهم بأن في الزكاة تأميناً له إنْ مرَّت عليه الأغيار وصار فقيراً؛ عندئذ سيقدم له المجتمع الإيماني التأمين الاجتماعي الذي يحميه وعياله من مَغبَّة السؤال.
وعمق الفهم أمر مطلوب؛ لأن الحق سبحانه هو القائل:
{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82] .
لأنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك؛ وستقول لنفسك: «ما كلفني الله إلا لخير نفسي؛ وإن ظهر أنه لخير الناس» .(11/6778)
ومن المتاعب أيضاً ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد؛ هؤلاء الذين يعيشون على الانتفاع من المفاسد، ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد؛ لأن الفساد في الأرض لا يعيش إلا إذا وُجِد منتفعٌ بهذا الفساد؛ والمنتفع بالفساد يكره ويعلن الخصومة لكلِّ مقاومٍ له.
إذن: فموقف خصوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موقف طبيعي لصالحهم، ولكنهم لحمقهم حددوا الصالح بمصالحهم الآنية في الحياة الدنيا؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة نعيماً أو عذاباً.
ولو أنهم امتلكوا البصيرة؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد مَنْ يُقوِّمهم حتى لا يقدموا لأنفسهم شراً يوجد لهم في الآخرة.
ولو أنهم فَطِنوا؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصلاح المستضعفين المستغلين بالفساد؛ جاء أيضاً لصالحهم، ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل؛ لكانوا من أنصار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولكان(11/6779)
من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد؛ وسمعوا من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد؛ أن يتبعوه وأن يشكروه؛ لأنه خلَّصهم من طاقة الشر الموجودة فيهم.
وهنا يوضح الحق سبحانه لرسوله: أنت لست بدعاً من الرسل، وكل رسول تعرَّض للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها، وأنت الرسول الخاتم، ولأن الدين الذي جئتَ به لن يأتي بعده دين آخر؛ لذلك لا بد أن تتركز المتاعب كلها معك؛ فكُنْ على ثقة تماماً أنك مُصادِفٌ للمتاعب.
ولذلك نثبِّت فؤادك بما نقصُّه عليك من أنباء الرسل؛ لأن هذا الفؤاد هو الذي سيستقبل الحقائق الإيمانية من قمة «لا إله إلا الله» إلى أن يكون ذكرى تذكّرك والمؤمنين معك.
وهكذا بيَّنتْ الآية موقف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كمثَّبت؛ وموقف المؤمنين كمذكَّرين من الرسول؛ لأنهم سيتعرضون للمتاعب أيضاً.
ونحن نعرف جميعاً ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للأنصار حين بايعوه في العقبة على نصرته، وقالوا: إنْ نحن وفينا بما عاهدناك عليه؛(11/6780)
فماذا يكون لنا؟ ولم يَقُلْ لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ستملكون الدنيا، وستصبحون سادة الفُرْس والروم» ، بل قال لهم: «لكم الجنة» .
لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم أن منهم مَنْ سيموت قبل أن تتحقق تلك الانتصارات؛ لذلك وعدهم بالقَدْر المشترك الذي يتساوى فيه مَنْ يموت بعد إعلانه للإيمان، وبين مَنْ سيعيش ليشهد تلك الانتصارات.
وهكذا تبينا كيف تضمَّنت الآية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وكيفية إعداد هذا الفؤاد لاستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه.
هذا هو الطرف الأول، فماذا عن الطرف الثاني؛ الطرف المكذِّب للرسول؟
كان ولا بد أن يتكلم الحق سبحانه هنا عن المكذِّبين للرسول؛ لأن استدعاء المعاني يجعل النفس قابلة للسماع عن الطرف الآخر.
وما دام الحق سبحانه قد تكلم عن تثبيت وعاء الاستقبال،(11/6781)
والموعظة، وتذكير المؤمنين؛ لحظة أن تخور منهم العزائم، فلا بُدَّ إذن أن يتكلم سبحانه عن القسم الآخر؛ وهو القسم المكذِّب، فيوضح سبحانه لرسوله أن له أن يتحداهم ولا يتهيَّب.
يقول الحق سبحانه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا} .(11/6782)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستندٌ إلى رصيد قويّ من الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم؛ ولا بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مدداً سوف يصله من الوطن الذي(11/6782)
يحارب من أجله؛ لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده؛ وممن لا يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير ولا يُجَار عليه.
ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى عليه السلام حين كاد الفرعون أن يلحق به؛ ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛ صرخوا:
{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61] .
لكن موسى عليه السلام يطمئنهم:
{كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .
فموسى عليه السلام يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله سبحانه بمعجزة جديدة:
{اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] .
فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقاً يابسة؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى(11/6783)
لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله سبحانه: {واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24] .
أي: أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق سبحانه البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق سبحانه وأهْلَكَ بالشيء الواحد؛ وهذه لا يقدر عليها غير الله سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا يَهَبُ الحق سبحانه المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله معركة من التحدي؛ تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق سبحانه يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 249] .
وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان.
وقد تميِّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولاً؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج من السماء؛ ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ(11/6784)
تميَّز بمعجزة لا تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة؛ فكان لا بد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول: محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن تقوم الساعة.
والحق سبحانه يقول هنا: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121] .
ونحن نعلم أن كل كائن منَّا له مكان، أي: له حَيِّز وجِرْم. ويقال: فلان له مكانة في القوم، أي: له مركز مرموق؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أنْ يشغله، وهو مكان يدلُّ على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
فقول الحق: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121] .
أي: اعلموا على قَدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد، فإن لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رباً سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمراً لهم؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا لأمر مِنْ عَدوِّهم.(11/6785)
ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد وربِّ محمد لَمَا كانوا كافرين؛ بل لأصبحوا من الطائعين.
وحين يقول لهم سبحانه في آخر الآية:
{إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121] .
فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث؛ أما فعل الله تعالى فهو غير محدود؛ لأنه سبحانه قديمٌ أزليٌّ لا تحده حدود، ولن يناقض عمل المُحدَث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره، أما قوة الحق سبحانه فهي ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أيَّ عمل إنما يُقَاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم إذا جاء عمل؛ نَسَوا مَنِ الذي عَمِلَ العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لَحقَّ للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله تعالى فليلزمِ الإنسان حدوده.
ومثال ذلك: هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد(11/6786)
الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] .
وقالوا: إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟
وكان الرد عليهم: إن محمداً لم يَقُلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى بقوته هو، بل أُسْرِيَ به، والذي عمل ذلك هو الله سبحانه وليس محمداً، فقيسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} .(11/6787)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرحمن لهم.
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا(11/6787)
وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] .
وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تَأْتِ الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا، وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق سبحانه:
{سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] .
وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية، حتى قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيُّ جَمْعٍ يهزم؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض المؤمنين على(11/6788)
حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن العجيب أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين، بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآناً يُتلى على مر العصور، مثل قوله الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16] .
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كما شاء سبحانه أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أَزْره، وليثبِّت فؤاده، ويذكِّر المؤمنين فيزدادوا إيماناً.
ثم يختتم الحق سبحانه سورة هود بقوله الكريم: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض}(11/6789)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
أي: أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم، يخبركم به الله سبحانه من خلال ما يُنزله على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقد شاء الحق سبحانه أن يحفظ هذا الذِّكْر الحكيم، ثقة منه سبحانه أنه إذا أخبرنا في القرآن بخبر لم يجيء أوانه، فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه، وبما له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات مؤمنهم وكافرهم فإذا حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن الإنسان، فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن الإنسان، وهناك حجاب بين وسائل إدراك الإنسان وبين بعض المُدْركات، ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ، فإذا أخبر الله تعالى عن أمر لم نشهده من قديم قد أَوْغَلَ في الزمن، ولم يقرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كتاب ولم يسمعه من معلِّم؛ فهذا كَشْف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء «ماكُنات القرآن»(11/6790)
مثل قوله الحق: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] .
وغير ذلك من الآيات التي تبدأ بقوله الحق: {مَا كُنْتَ} .
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيباً عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن الحق سبحانه أظهر هذا الغيب للرسول(11/6791)
الذي لم يجلس إلى مُعلِّم بشهادة أعدائه، وكذلك كشف الحق سبحانه لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضاً، والذي كشف هذا هو الحق سبحانه الذي قدَّر مجيء هذا العالم، وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم الساعة.
وقد طمر الحق سبحانه في القرآن أموراً لو كُشف عنها في زمن بَعْثة الرسول؛ لكان الحديث عنها فوق مستوى العقول والإدراك؛ وتحدث سبحانه عن وقائع مستقبلية بالنسبة للمعاصرين لرسول الله صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للإسلام؛ حضارة فارس وحضارة الروم، وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ. وهَزَمَتْ فارس التي لا تؤمن بإله امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية، ولا تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛ فَيُسرِّي الله سبحانه الأمر على رسوله، ويُنزِل الحق سبحانه(11/6792)
قرآناً يُتلَى على مَرِّ العصور وكل الأزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.
ويقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 15] .
هكذا تأتي النبوءة في القرآن تحمل التحديد لميعاد نصر الروم في بضع سنين؛ و «البِضْع» يقصد به من ثلاث لتسع سنوات.(11/6793)
وإنْ قيل: تلك نبوءة محمد، نقول: ما عِلْم محمد بأخبار المعسكرين ولا بأسرار السياسة الداخلية لهما؟
وقد جاء نصر الروم كما حدد القرآن، وكان هذا هَتْكا للحجب، حجاب الزمان، وحجاب المكان، وحجاب الناس، وأوحى به الحق سبحانه عالم الغيب المطلق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والغيب المطلق هو الذي لا يعرفه إلا الحق تبارك وتعالى وليس له مقدمات، ويكشفه الله لمن يرتضيه، مصداقاً لقوله سبحانه: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 2627] .
وهذا الغيب المطلق يختلف عن الغيب المقيّد الذي له مقدمات؛ ما إن يأخذ بها الإنسان ويرتبها حتى يصل إلى اكتشاف سرٍّ من أسرار الكون.
والحق سبحانه هو القائل:
{مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [البقرة: 255] .
وهكذا نعلم أن كل المكتشفات كانت موجودة في الكون ومطمورة فيه؛ وجعل الله تعالى لكل مستور منها ميلاداً، فالبخار واستخدامه في الحركات كان له ميلاد؛ والكهرباء كان لها ميلاد؛ واكتشاف الذرة كقوة ومصدر للطاقة كان له ميلاد، وكل مُكْتَشف ومُخْتَرع له ميلاد، وتتوالى مواليد الغيب مستقبلاً، وفي ميلادها(11/6794)
إيمان اليقين بمن أخفاه وأظهره، وهو الله الحكيم.
وقد يأتي هذا الميلاد بكشف وبحث؛ وقد يُظهره الله بدون بَحْث؛ أو يُظهره صدفة؛ مثلما أظهر قانون الطفو النابع من قاعدة «أرشميدس» ومثلما أظهر الحق سبحانه قانون الجاذبية صدفة؛ أي: أنه سبب من الأسباب جعل عبداً من عباده يبحث في شيء، فيظهر له شيء لم يكن يبحث عنه؛ ولذلك نسب الحق سبحانه الإحاطة له سبحانه.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] .
ولم يقل: «إليه يَرْجع الأمر كله» ، لأنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر.
ولله المثل الأعلى: كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين، وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في توقيت معين، والكون كله مُرتَّب على هذا الترتيب.
والله سبحانه القائل:
{إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] .
فكل شيء إما يرجع إلى الله في التوقيت الذي شاءه الله.
أو: أن الأمر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لأن الحق سبحانه قد خلق في الكون أشياء وترك ملكيتها له سبحانه والحق سبحانه لا ينتفع بها، أما الإنسان فينتفع بها، وإن كان لا يقربها ولا يملكها، مثل: الشمس التي ترسل أشعتها، ويستفيد الإنسان بضوئها وحرارتها، وهي لا تدخل في ملكية الإنسان؛ لأنها من(11/6795)
أساسيات الحياة؛ لذلك لم يجعل للإنسان الذي خَصَّه الله بخاصية الاختيار حق ملكيتها أو الاقتراب منها؛ حتى لا يعبث بها.
وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق سبحانه في سلطته وحده، ولم يَأْمَنْ أحداً من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس الهواء لأحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يُملِّكها لأحد؛ رحمةً منه بنا، ذلك أنه سبحانه عَلِمَ أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الأساسيات.
وسَخَّر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات، وسخَّر بعض المخلوقات ليسُوسها الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه؛ شاء الحق سبحانه أن يجعلها أغياراً؛ فالقوي يسير إلى الضَّعْف، والفقير قد يصبح غنياً.(11/6796)
وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من الله تعالى وليس هناك ما هو ذاتيٌّ فِينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع كل ما نملك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
{لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] .
ولذلك أيضاً تشهد الجوارح على الإنسان؛ لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا.
وإذا كان الحق سبحانه يقول هنا:
{وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123] .
فهو سبحانه يقول في آية أخرى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6] .
وكأن الحق سبحانه ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتنُّ الله تعالى بها على عباده أنه يملكها.(11/6797)
ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123] .
ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مُسْتهدفاً النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان قدرة من باطن قوته سبحانه وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه سبحانه وأعطاه حكمة من باطن حكمته سبحانه وأعطاه قبضاً وبسطاً من باطن قدرته سبحانه وكذلك أعطى لعبيده من كل صفة بعضاً من فَيْضها، ثم تظل الفيوضات للحق سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه.
فإنْ حُدِّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه، فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.(11/6798)
ولذلك كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ثقة أن الحق سبحانه حين أمره أن يتوعد أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه سبحانه.
واطمأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجازَوْا في الدنيا، فغداً ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد مَلَّكهم أشياء؛ فسيسلُبهم هذه الملكية في الآخرة، وإنْ كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار أنْ يؤمنوا ويطيعوا، أو أنْ يكفروا ويعصوا؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة، وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى الله.
وما دام الأمرُ كذلك فلنعبد الله وحده سبحانه لأنه صاحبُ الأمر فيما مضى؛ وله الأمر الآن؛ وله الأمر فيما يأتي.
وهو سبحانه الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثةَ أزمان: زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان من بعد آدم إلى وجود أيٍّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لا نهاية؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماضٍ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث.(11/6799)
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقلياً أن تتساءل عن ماضيك، وتاريخ الجنس البشري.
وأنت في هذه الحالة تكون رَهْناً بثقة المحدِّث: هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟ خُصوصاً إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولا بد أنْ تقول لنفسك: لا يمكن أن يُحدِّثني عن ذلك إلا مَنْ خلقني.
وساعة يُبلِّغُكَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بداية الخلق قائلاً: «كان الله، ولم يكُنْ شيء غيره» .
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلاماً عمَّا فاتَ قبل آدم هو الله سبحانه وتعالى.
وإنْ سألتَ: لماذا وُجِدتُ في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ كنت مؤمناً: «إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجَّحتْ وجودي في هذا الزمن عن أي زمن آخر» .
ولا بد أن تسأل نفسك: وما المطلوب مني؟(11/6800)
وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت، والحق يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61] .
فقد أعطاك الحق سبحانه العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخَّر لك الكون بالمطمور فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من الأعلى منك وتعطي للأدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتُعطي للأدنى منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك وتخرج للحياة بعد أن تُجدِّد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإنْ أحسنتَ الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنياً على هذا الإحسان.
والحق سبحانه يعطينا مثلاً لهاتين الحركتين، فيقول:
{ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] .
هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر(11/6801)
الله وترك البيع من أجل ذلك يعطي الإنسان طاقة إيمانية، يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات الإنسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد هذا:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10] .
ولذلك يقول الحق سبحانه في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] .
أي: أطِع الله في أمره؛ لأنه سبحانه الأعلى منك، بأن تؤدي المطلوب العبادي من: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلاً، لتأخذ من المدد الأعلى ما يعينك في حركتك الثانية التي تتحركها في الكون.
ومن العجيب أن حركتك في الكون الأدنى تُعينك على حركتك لاستمداد الطاقة من مُكوِّن الكون سبحانه.
فأنت حين تصلي تحتاج لِسَتْر عورتك بثوب، وحتى تأتي بالثوب لا بد لك من أن تعتمد على حركة الفلاح في الزراعة، وحركة(11/6802)
العامل في النَسْج، وحركة التاجر في البيع، وحركتك في عملك الذي يتيح لك أجراً تشتري منه الثوب.
وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلاة لتأخذ المدد من المدد الأعلى.
وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من الأعلى لتعطي الكون الأدنى، وتأخذ من الأدنى ما يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد الأعلى.
وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة، هي استقبال من المدد الأعلى، وانفعال مع المدد الأدنى، وكل منهما يعين على الآخر؛ لذلك فعليك أن تعبد الله بأن تنظِّم حركة حياتك على ضوء منهجه سبحانه.
واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على الله، وتلك فائدة من فوائد استمرار ولائك لله الذي تأخذ منه المدد.
ولذلك «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة» .(11/6803)
ومعنى «حزبة» أي خرج عن أسبابه، لذلك فهو يذهب إلى المسبب الأعلى، فإنْ عبدتَ الله وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لأنه سبحانه لا يغفل عما نعمل.
وهذه الآية تدلُّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لأنك إن كنت ترعى الله فسبحانه يكتب لك الحسنة بعشرة أمثالها، وقد يضاعف عن ذلك، وتُكتب السيئة بمثلها.
وبذلك تكون هذه الآية قد استوعبت وانتظمت حال الإنسان: قبل حياته، وحاضر حياته، ومستقبل حياته إلى أن تقوم الساعة.
يقول الحق سبحانه:
{ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] .
فدعوة الله بالطاعة، ودعوة الرسول بالسلوك السَّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة، وهي حياة تعيش في معية الله.(11/6804)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
لقد تعرضنا من قبل لفواتح السور؛ من أول سورة البقرة، وسورة آل عمران، وقلنا: إن فواتح بعض من سور القرآن تبدأ بحروف مُقطَّعة؛(11/6807)
ننطقها ونحن نقرؤها بأسماء الحروف، لا بمسميات الحروف.
فإن لكل حرف اسماً ومُسمَّى، واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة والكتابة، أما العامة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة؛ فهم يتكلمون بمسميات الحروف، ولا يعرفون أسماءها.
فإن الأمي إذا سُئل أن يتهجى أيَّ كلمة ينطقها، وأن يفصل حروفها نطقاً؛ لما عرف، وسبب ذلك أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف ومُسمَّياتها.
ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعاً، ولذلك أقول: إياك أن تقرأ كتاب الله إلا أن تكون قد سمعته أولاً؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول سورة البقرة: {الم} [البقرة: 1] .
مثلما تقول في أول سورة الشرح: {أَلَمْ} [الشرح: 1] .
أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جبريل عليه السلام «ألف لام ميم» ، وتقرأ أول سورة الشرح «ألم» .
وأقول ذلك لأن القرآن كما نعلم ليس كأي كتاب تُقبِل عليه لتقرأه من غير سماع، لا. بل هو كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح(11/6808)
قراءتك على قارئ؛ لتعرف كيف تنطق كل قَوْل كريم، ثم من بعد ذلك لك أن تقرأ بعد أن تعرفتَ على كيفية القراءة؛ لأن كل حرف في الكتاب الكريم موضوع بميزان وبقدر.
ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آياتٌ مُحْكمات وأُخَر مُتَشابهات. والآيات المُحْكماتُ تضم الأحكام التي عليك أن تفعلها لِتُثاب عليها، وإنْ لم تفعلها تُعاقب، وكل ما في الآيات المُحْكمات وَاضح.
أما الآيات المُتَشابهات إنما جاءت متشابهة لاختلاف الإدراك من إنسان لآخر، ومن مرحلة عُمرية لأخرى، ومن مجتمع لآخر، والإدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس، مثل: العين، والأذن، والأنف، واللسان، واليد.
ووسائل الإدراك هذه؛ لها قوانين تحكمها:(11/6809)
فعيْنُك يحكمها قانون إبصارك، الذي يمتد إلى أن تلتقي خطوط الأشعة عند بؤرة تمتنع رؤيتُك عندها؛ ولذلك تصغُر الأشياء تدريجياً كلما ابتعدت عنها إلى أن تتلاشى من حدود رؤيتك.
وصوتُك له قانون؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك.
وكذلك الشَّمُّ له حدود؛ لأنك لا تستطيع شَمَّ وردة موجودة في بلد بعيدة.
وكذلك العقل البشري له حدود يُدرك بها، وقد علم الله كيف يدرك الإنسان الأمور، فلم يمنع تأمل وردة جميلة، لكنه أمر بغضِّ البصر عند رؤية أي امرأة.
وهكذا يُحدِّد لكَ الحق الحلال الذي تراه، ويُحدِّد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع عن رؤيته.
وكذلك في العقل؛ قد يفهم أمراً وقد لا يفهم أمراً آخر، وعدم فَهْمك لذلك الأمر هو لَوْن من الفهم أيضاً، وإنْ تساءلتَ كيف؟
انظر إلى موقف تلميذ في الإعدادية؛ وجاء له أستاذه بتمرين(11/6810)
هندسي مما يدرسه طلبة الجامعة؛ هنا سيقول التلميذ الذكي لأستاذه: نحن لم نأخذ الأسس اللازمة لحلِّ مثل هذا التمرين الهندسي، هذا القول يعني أن التلميذ قد فهم حدوده.
وهكذا يعلمنا الله الأدب في استخدام وسائل الإدراك؛ فهناك أمر لك أن تفهمه؛ وهناك أمر تسمعه من ربك وتطيعه، وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه؛ لأنه فوق مستوى إدراكك.
ودائما أقول هذا المثل ولله المثل الأعلى إنك حين تنزل في فندق كبير، تجد أن لكل غرفة مفتاحاً خاصاً بها، لا يفتح أي غرفة أخرى، وفي كل دَوْر من أدوار الفندق يوجد مفتاح يصلح لفتْح كل الأدوار، ولا يفهم هذا الأمر إلا المتخصص في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى، وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب الله تعالى وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق تبارك وتعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في(11/6811)
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} [آل عمران: 7] .
إذن: فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مَأْربهم، وهو إبطال الدين بأيِّ وسيلة وبأي طريقة، ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب الله.
ولهؤلاء نقول: لقد أراد الله أن يكون بعضٌ من سور الكتاب الكريم مُبْتدئةً بحروف تنطق بأسمائها لا بمُسمَّياتها.
وقد أرادها الحق سبحانه كذلك ليختبر العقول؛ فكما أطلق سبحانه للعقل البشري التفكير في أمور كثيرة؛ فهناك بعض من الأمور يخيب فيها التفكير، فلا يستطيع العقل إدراك الأشياء التي تفوق حدود عقله.(11/6812)
والحق سبحانه وتعالى يصنع للإنسان ابتلاءات في وسائل إدراكه؛ وجعل لكل وسيلة إدراك حدوداً، وشاء أن يأتي بالمتشابه ليختبر الإنسان، ويرى: ماذا يفعل المؤمن؟
وقوله الحق سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم. .} [آل عمران: 7] .
قد يُفْهم منه أنه عطف؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله؛ وبالتالي سيُعلِّمون الناس ما ينتهون إليه من علم بالتأويل. ولكن تأويل الراسخين في العلم هو قولهم: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ... } [آل عمران: 7] .
إذن: فنهاية تأويلهم: هو من عند ربنا، وقد آمنا به.
وجاء لنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِيَحُل لنا إشكال المُتَشابَه:
«ما تشابه منه فآمنوا به» .(11/6813)
لأن المتشابه من ابتلاءات الإيمان.
والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لنا أن نستلم الحجر الأسود وأن نُقبِّله، وأن نَرْجُم الحجر الذي يمثل إبليس، وكلاهما حجر، لكننا نمتثل بالإيمان لما أمرنا به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وأنت لو أقبلتَ على كل أمر بحُكْم عقلك، وأردتَ أن تعرف الحكمة وراء كل أمر، لَعبدْتَ عقلك، والحق سبحانه يريد أن تُقبِل على الأمور بِحُكْمِه هو سبحانه.
وأنت إن قلتَ لواحد: إن الخمر تهري الكبد. ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق الصوتية الذي يكشف صورة الكبد، ثم ناولتَ الرجل كأس خمر؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر في الكبد، ورَاعَه ذلك؛ فقال: والله لن أشربها أبداً.(11/6814)
هل هو يفعل ذلك لأنه مؤمن؟ أم أنه ربط سلوكه بالتجربة؟
لقد ربط سلوكه بالتجربة، وهو يختلف عن المؤمن الذي نفَّذ تعاليم السماء فامتنع عن الخمر لأن الله أمر بذلك، فلا يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة منها.
إذن: فعِلَّة المُتَشابه؛ الإيمان به. وقد يكون للمُتَشابه حكمة؛ لكِنَّا لن نُؤجِّل الإيمان حتى نعرف الحكمة.
وأقول دائماً: يجب أن يعامل الإنسانُ إيمانَه بربه معاملته لطبيبه، فالمريض يذهب إلى طبيبه ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه؛ ليصفَ الطبيب له الدواء، كذلك عمل عقلك؛ عليه أن ينتهي عند عتبة إيمانك بالله.
ونجد من أقوال أهل المعرفة بالله مَنْ يقول: إن العقل كالمطيَّة، يُوصِّلك إلى باب السلطان، لكنه لا يدخل معك.
إذن: فالذي يناقش في عِلَل الأشياء هو مَنْ يرغب في الحديث مع مُسَاوٍ له في الحكمة، وهل يوجد مُسَاوٍ لله؟
طبعا لا، لذلك خُذْ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت، واختلافنا على معانيها يؤكد على أنها كَنْز لا ينفذ من(11/6815)
العطاء إلى أن تُحل إنْ شاء الله من الله.
ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنيةٌ على الوَصْل، ففي آخر سورة هود نجد قول الحق سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] .
وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة «تعملون» ساكنة النون، لكنها موصولة ب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ لذلك جاءت النون مفتوحة.
وأيضاً ما دامت الآيات مبنية على الوصل، كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف «ألفٌ لامٌ رَاءٌ» لكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علَّمنَا أن نقرأها «ألفْ لامْ راءْ» وننطقها ساكنة.
وهذا دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف، ودليل على أن لله سبحانه حكمة في هذا وفي ذاك.
ونحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل عليه السلام وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(11/6816)
وهكذا وصلنا القرآن كما أنزله الحق سبحانه على رسوله الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهنا يقول الحق: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] .
و «تلك» إشارة لما بَعْدَ (الر) ، وهي آيات الكتاب.
أي: خذوا منها أن آيات القرآن مُكوَّنة من مثل هذه الحروف، وهذا فَهْم البعض لمعنى: {الر ... } [يوسف: 1] لكنه ليس كل الفهم.
مثل: صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضاً من الخيوط التي تم نَسْج القماش منها؛ ليدلنا على دِقَّة الصنعة.
فكأنَّ الله سبحانه يُبيِّن لنا أن {الر ... } [يوسف: 1] أسماء لحروف هي من أسماء الحروف التي نتكلم بها، والقرآن تكوَّنت ألفاظه من مثل تلك الحروف، ولكن آيات القرآن معجزة، لا يستطيع البشر ولو عاونهم الجن أن يأتوا بمثله.
إذن: فالسُّمو ليس من ناحية الخامة التي تُكوِّن الكلام، ولكن المعجزة أن المتكلم هو الحق سبحانه فلا بد أن يكون كلامه مُعجزاً؛ وإن كان مُكوَّناً من نفس الحروف التي نستخدمها نحن البشر.(11/6817)
وهناك معنى آخر: فهذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينطق أسماء الحروف «ألِفْ لام رَاء» ، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الأمي بشهادة المعاصرين له بما فيهم خصومه، رغم أن القادر على نُطْق أسماء الحروف لا بُدَّ أن يكون مُتعلِّماً، ذلك أن الأمي ينطق مُسمَّيات الحروف ولا يعرف أسماءها، وفي هذا النطق شهادة بأن مَنْ علَّمه ذلك هو ربه الأعلى.
ويقول الحق سبحانه: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] .
كلمة «الكتاب» عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم.
ونجد كلمة «المبين» ، أي: الذي يُبيِّن كل شيء تحتاجه حركة الإنسانِ الخليفةِ في الأرض، فإن بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم(11/6818)
يتعرَّض له، فلا بد أن تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين لك ما غابَ عنك.
ويُروى عن الإمام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس؛ ووجَّه المستشرق سؤالاً إلى الإمام فقال:
مادامتْ هناك آية في القرآن تقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ... } [الأنعام: 38] فَدعْنِي أسألك: كم رغيفاً ينتجه أردبُّ القمح؟
فقال الإمام للمستشرق: انتظر. واستدعى الإمام خبازاً، وسأله: كم رغيفاً يمكن أن نصنعه من أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق: لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن، لا من الخباز.(11/6819)
فردَّ الإمامُ: إذا كان القرآن قد قال: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ... } [الأنعام: 38] فالقرآن قال أيضاً: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
لقد فَطِن الإمام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها الحياة؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يوزِّع المواهب بين البشر؛ ليصبح كل متفوق في مجال ما، هو من أهل الذكر في مجاله.
ونحن على سبيل المثال عندما نتعرض لمسألة ميراث؛ فنحن نلجأ إلى مَنْ تخصص في المواريث، ليدلنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث.
وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج، فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة؛ ويبحث عند بَدْء الحج عمَّنْ يُعلِّمه خُطوات الحج كما أدَّاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(11/6820)
وهذا سؤال لأهل الذكر، مثلما نستدعي مهندساً ليصمم لنا بيتاً حين نشرع في بناء بيت، بعد أن نمتلك الإمكانات اللازمة لذلك.
وهكذا نرى أن علوم الحياة وحركتها أوسع من أن يتسع لها رأس؛ ولذلك وزَّع الله أسباب فضله على عباده، ليتكاملوا تكاملَ الاحتياج، لا تكامل التفضُّل، ويصير كل منهم مُلْتحماً بالآخرين غَصبْاً عنه.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ... } .(11/6821)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
وبالنسبة للقرآن نجد الحق سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] .
فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومرة يقول: {نُزِّلَ ... } [محمد: 2] ، والنزول في هذه الحالة منسوب لله وجبريل والملائكة.
أما قول الحق سبحانه: {أُنْزِلَ ... } [البقرة: 91] ، فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه مَكْنوناً في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول الله صلى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(11/6821)
هذا هو معنى الإنزال للقرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل من بعد ذلك نجوماً متفرقة؛ ليعالج كل المسائل التي تعرَّض لها المسلمون.
وهكذا يؤول الأمر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح الأمين.
والحق سبحانه يقول: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ. .} [الإسراء: 105] أي: أن الحق سبحانه أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم أنزله مفرقاً ليعالج الأحداث ويباشر مهمته في الوجود الواقعي.(11/6822)
وفي هذه الآية يقول سبحانه:
{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ... } [يوسف: 2] .
وفي الآية السابقة قال: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ... } [يوسف: 1] .
فمرَّة يَصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء، ومرَّة يَصِفه بأنه كتاب؛ لأنه مسطور، وهذه من معجزات التسمية.
ونحن نعلم أن القرآن حين جُمِع ليكتب؛ كان كاتب القرآن لا يكتب إلا ما يجده مكتوباً، ويشهد عليه اثنان من الحافظين.
ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالأهواء، أما السطور فمُثْبتة لا لَبْسَ فيها.
وهو قرآن عربي؛ لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيجاهر بالدعوة في أمة عربية، وكان لابد من وجود معجزة تدل على صدق بلاغه عن الله، وأن تكون(11/6823)
مِمَّا نبغ فيه العرب؛ لأن المعجزة مشروطة بالتحدي، ولا يمكن أن يتحداهم في أمر لا ريادة لهم فيه ولا لهم به صلة؛ حتى لا يقولن أحد: نحن لم نتعلم هذا؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر، وكانوا يجتمعون في الأسواق، وتتفاخر كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوَّهين، وكانت المباريات الآدائية تُقَام، وكانت التحديات تجرى في هذا المجال، ويُنصَب لها الحكام.
أي: أن الدُّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة، محكوم عليها من الناس في الأسواق، فهم أمة بيان وبلاغة وفصاحة.
لذلك شاء الحق سبحانه أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب، وهم أول قوم نزل فيهم القرآن، وحين يؤمن(11/6824)
هؤلاء لن يكون التحدي بفصاحة الألفاظ ونسق الكلام، بل بالمبادىء التي تطغى على مبادىء الفرس والروم.
وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدِّية ليس لها قانون يجمعها، ولا وطن يضمهم يكون الولاء له، بل كل قبيلة لها قانون، وكلهم بَدْو يرحلون من مكان إلى مكان.
وحين نزل فيهم القرآن عَلِم أهل فارس والروم أن تلك الأمة المُبتدِّية قد امتلكتْ ما يبني حضَارة ليس لها مثل من قَبْل، رغم أن النبي أمِيٌّ وأن الأمة التي نزل فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك الأمة تحدَّاهم بما نبغُوا فيه، وما استطاع واحد منهم أن يقوم أمام التحدي، ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم يعرفوه.
ويشاء الحق سبحانه أن ينزل القرآن عربياً؛ لأن الحق لم يكن ليرسل رسولاً إلا بلسان قومه، فهو القائل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } [إبراهيم: 4] .(11/6825)
وأُرسِلَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن، الذي تميَّز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه؛ بأنه كتاب ومعجزة في آنٍ واحد، بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُنْفصلةً عن كُتب الأحكام التي أُنزِلَتْ إليهم.
ويظلُّ القرآن معجزة تحمل منهجاً إلى أنْ تقومَ الساعة، ومادام قد آمنَ به الأوائل وانساحوا في العالم، فتحقق بذلك ما وعد به الله أن يكون هذا الكتابُ شاملاً، يجذب كل مَنْ لم يؤمن به إلى الانبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار الإسلام في تلك المدة الوجيزة، يجدون أن الإسلام قد انتشر لا بقوة مَنْ آمنوا به؛ بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَشْدُوهِين بما فيه من نُظُمٍ تُخلِّصهم من متاعبهم.
ففي القرآن قوانين تُسعِد الإنسانَ حقاً، وفيه من الاستنباءات بما سوف يحدث في الكون؛ ما يجعل المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله الله على رسولهم لم يفرط في شيء.
وإذا قال قائل من المستشرقين: كيف تقولون: إن القرآن قد نزل(11/6826)
بلسان عربي مبين؛ رغم وجود ألفاظ أجنبية مثل كلمة «آمين» التي تُؤمِّنُون بها على دعاء الإمام؛ كما توجد ألفاظ رومية، وأخرى فارسية؟
وهؤلاء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظاً مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلاطه بتلك الأمم، ثم دارتْ هذه الألفاظ على لسانه، وصارت تلك الألفاظ عربية، ونحن في عصورنا الحديثة نقوم بتعريب الألفاظ، وندخل في لغتنا أيَّ لفظ نستعمله(11/6827)
ويدور على ألسنتنا، ما دُمْنا نفهم المقصود به.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] .
ليستنهض همة العقل، ليفكر في الأمر، والمُنْصف بالحق يُهِمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم بالعقل، عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانباً؛ لينفُذَ من وراء العقل.
وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما، ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها؛ فهو يفعل ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
أما لو كانت الصَّنْعة غير جيدة، فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لأنك حين تتدبر بعقلكَ الأمر تكتشف المُدلس وغير المُدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك، ويُعمِّي عليك، ولا يدع لك فرصة للتفكير.(11/6828)
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ... } .(11/6829)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
حين يتحدث الحق سبحانه عن فعل من أفعاله؛ ويأتي بضمير الجمع؛ فسبب ذلك أن كل فعل من أفعاله يتطلب وجودَ صفات متعددة؛ يتطلب: علماً؛ حكمة؛ قدرة؛ إمكانات.
ومَنْ غيره سبحانه له كل الصفات التي تفعل ما تشاء وقْتَ أن تشاء؟
لا أحد سواه قادر على ذلك؛ لأنه سبحانه وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في الحياة ومُقدَّر.
لكن حين يتكلم سبحانه عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فلا تأتي بصيغة الجمع، يقول تعالى: {إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني(11/6829)
وَأَقِمِ الصلاة لذكري} [طه: 14] .
وهنا يتكلم سبحانه بأسلوب يعبر عن أفعال لا يَقْدر عليها غيره؛ بالدقة التي شاءها هو سبحانه فيقول:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... } [يوسف: 3] .
وحدد سبحانه أنه هو الذي يقصُّ، وإذا وُجِد فعل لله؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه؛ ولا نحاول أن نشتق منه اسماً نطلقه على الله؛ إلا إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي عَلِمْناها في أسمائه الحسنى؛ لأنه الذات الأقدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً إنما نلتزم الأدب؛ لأننا لا نعرف شيئا عن ذات الله إلا ما أخبرنا الله عن نفسه، لذلك لا يصح أن نقول عن الله أنه قصَّاص، بل نأخذ الفعل كما أخبرنا به، ولا نشتق منه اسماً لله؛ لأنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك.(11/6830)
والواجب أن ما أطلقه سبحانه اسماً نأخذه اسماً، وما أطلقه فعلاً نأخذه فعلاً.
وهنا يقول سبحانه:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... .} [يوسف: 3] .
ونعلم أن كلمة «قص» تعني الإتباع، وقال بعض العلماء: إن القصة تُسمَّى كذلك لأن كل كلمة تتبع كلمة، ومأخوذة من قَصَّ الأثر، وهو تتبع أثر السائر على الأرض، حتى يعرف الإنسان مصير مَنْ يتتبعه ولا ينحرف بعيداً عن الاتجاه الذي سار فيه مَنْ يبحث عنه.
واقرأ قول الحق سبحانه: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 11] .
و {قُصِّيهِ ... } [القصص: 11] أي: تتبعي أثره.
إذن: فالقَصُّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة، إنما القَصُّ هو تتبُّع ما حدث بالفعل.(11/6831)
ويعطينا الحق سبحانه مثلاً من قصة موسى عليه السلام مع فتاه: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 6364] ، أي: تَابَعا الخطوات.
وهكذا نعلم أن القص هو تتبُّع ما حدث بالفعل، فتكون كل كلمة مُصوِّرة لواقع، لا لَبْسَ فيه أو خيال؛ ولا تزيُّد، وليس كما يحدث(11/6832)
في القصص الفنيِّ الحديث؛ حيث يضيف القصَّاص لقطاتِ خيالية من أجل الحَبْكة الفنية والإثارة وجَذْب الانتباه.
أما قصص القرآن فوضْعُه مختلف تماماً، فكلُّ قَصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلاً؛ لنأخذ منها العبرة؛ لأن القصة نوع من التاريخ.
والقصة في القرآن مرةً تكون للحدث، ومرَّة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم تَأْتِ قصة رسول في القرآن كاملة، إلا قصة يوسف عليه السلام.
أما بقية الرسل فقَصَصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتأتي لقطة من حياة رسول، ولقطة من حياة رسول آخر، وهكذا.
ولا يقولن أحد: إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة(11/6833)
مستوفية؛ فقد شاء الحق سبحانه أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها، مُسْتوفية، ففيها الحدث الذي دارتْ حوله أشخاصٌ، وفيها شخصٌ دارتْ حوله الأحداث.
فقصة يوسف عليه السلام في القرآن لا تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَوعَيْ القصة، بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات، وبالشخص الذي تدور حوله الأحداث.
جاءتْ قصة يوسف بيوسف، وما مَرَّ عليه من أحداث؛ بَدْءً من الرُّؤيا، ومروراً بحقد الأخوة وكيدهم، ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز، ثم السجن، ثم القدرة على تأويل الأحلام، ثم تولَّي السلطة، ولقاء الأخوة والإحسان إليهم، وأخيراً لقاء الأب من جديد.
إذن: فقول الحق سبحانه:
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص ... } [يوسف: 3] .
يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف، لكن أحبار اليهود حين قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك(11/6834)
بعضهم كتابه، واعتمد على القرآن في روايتها، فالقصة أحداثها واحدة، إلا صياغة الأداء؛ وتلمُّسات المواجيد النفسية؛ وإبراز المواقف المطْويَّة في النفس البشرية؛ وتحقيق الرُّؤى الغيبية كُلُّ ذلك جاء في حَبْكة ذات أداء بياني مُعْجز جعلها أحسنَ القَصَص.
أو: هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة، عِبَر في الطفولة في مواجهة الشيخوخة، والحقد الحاسد بين الأخوة، والتمرد، وإلقائه في الجبِّ والكيد له، ووضعه سجيناً بظلم، وموقف يوسف عليه السلام من الافتراء الكاذب، والاعتزاز بالحق حتى تمَّ له النصر والتمكين.
وكيف ألقى الله على يوسف عليه السلام محبَّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب خدمته.
وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة، بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفَا عن إخوته بما روتْه السورة: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92] .
وقالها سيد البشر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأهله يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» .(11/6835)
وهكذا تمتليء سورة يوسف بِعِبَر متناهية، يتجلَّى بعضٌ منها في قضية دخوله السجنَ مظلوماً، ثم يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي أحسنُ القَصص؛ إما لأنها جمعتْ حادثة ومَنْ دار حولها من أشخاص، أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.
أو: أنها أحسنُ القصص في أنها أدّتْ المُتَّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة، وجاء على لسان محمد الأمي، الذي لا خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَرْضُ الموضوع بأسلوب جذَّاب مُسْتمِيل مُقْنع مُمْتع.
أو: أنها أحسن القصص؛ لأن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير: العمر الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للإنسان في كل أطواره؛ ضعيفاً؛ مغلوباً على أمره؛ وقوياً مسيطراً، مُمكَّناً من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزَّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل آية جاءت في موقعها المناسب لها.
إذن: فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي لا يستطيع واحد من البشر أن يأتي بمثله.
يقول الحق سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] .
والمقصود بالغفلة هنا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أُمِّياً، ولم يعرف عنه أحدٌ قبل(11/6836)
نزول القرآن أنه خطيب أو شاعر، وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي صفات مطلوبة في المُبلّغ عن الله؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يُبلِّغ عن السماء رسالتها لأهل الأرض؟
إن الكذب أمر مُسْتبعد تماماً في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل البعثة وبعدها.
والمثال على تصديق الغير لرسول الله هو تصديق أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه له حين أبلغه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الوحي قد نزل عليه، لم يَقُلْ له أكثر من أنه رسول من عند الله، فقال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: صدقْتَ.
وحين حدثتْ رحلة الإسراء؛ وكذَّبها البعض متسائلين: كيف نضرب إليها أكباد الإبل شهراً ويقول محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر: أقال ذلك؟ قالوا: نعم. فقال أبو بكر: ما دام قد قال فقد صدق.(11/6837)
وهكذا نجد أن حيثية الصِّدْق قبل الرسالة هي التي دَلَّتْ على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من وحي.
مثال ذلك: تصديق خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي، فقالت له: «والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتُكسِب المَعْدُوم، وتَقْري الضَّيف، وتعين على نوائب الحق» .
وكان في صدق بصيرتها، وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نبوته.
وحين وقعت بعض الأمور التي لا تتفق مع منطق المقدمات والنتائج، والأسباب والمسببات؛ كانت بعض العقول المعاصرة(11/6838)
لرسول الله تقف متسائلة: كيف؟ فيوضح لهم أبو بكر: «انتبهوا إنه رسول الله» .
مثال هذا: ما حدث في صلح الحديبية، حين يقول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه متسائلاً ويكاد أن يكون رافضاً لشروط هذا الصلح: ألسْنا على الحق؟ عَلام نعطي الدَّنية في ديننا؟
ويرد عليه أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استمسك بِغَرْزِه يا عمر، إنه رسول الله.
أي: انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليس في ذلك انصياعٌ أعمى؛ بل هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.
والحق سبحانه يقول هنا:
{وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] .
والغافل: هو الذي لا يعلم لا عن جهل، أو قصور عقل ولكن لأن ما غفل عنه هو أمر لا يشغل باله.(11/6839)
أو: أن يكون المقصود بقوله:
{لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] .
أي: أنك يا محمد لم تكن ممَّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لأنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب، ولم تجلس إلى مُعلِّم يروي لك تلك القصة، ولم تجمع بعضاً من أطراف القصة من هنا أو هناك.
بل أنت لم تَتَلقَّ الوحي بها إلا بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة: اسألوه عن أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟
وكان ضَرْباً من الإعجاز أن ينزل إليك يا رسول الله هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة، كدليل عمليٍّ على أن مُعلِّم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الله، وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.
والوَحْي كما نعلم هو الإعلام بخفاء، وسبحانه يوحي للملائكة فيقول: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ ... } [الأنفال: 12] .(11/6840)
وسبحانه يوحي إلى مَنْ يصطفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقاً لقوله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] .
ويقذف الحق سبحانه بالإلهام وحياً لا يستطيع الإنسان دَفْعاً له، مثل الوحي لأم موسى بأن تلقي طفلها الرضيع موسى في اليَمِّ: {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 38 - 39] .
ويوحي سبحانه إلى الأرض وهي الجماد، مثل قوله الحق: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] .(11/6841)
وأوحى سبحانه إلى النحل، فقال الحق: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل: 68 - 69] .
والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء، فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه، وهو سبحانه يخاطبهم بِسِرِّ خلقه لهم، واختلاف وسائل استيعابهم لذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ... } .(11/6842)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
وهكذا تبدأ قصة يوسف، حين يقول لأبيه يعقوب عليهما السلام «يا أبت» ، وأصل الكلمة «يا أبي» ، ونجد في اللغة العربية كلمات «أبي» و «أبتِ» و «أبتَاهُ» و «أَبَة» وكلها تؤدي معنى الأبوة، وإن كان لكل منها مَلْحظ لغوي.
ويستمر يوسف في قوله:
{ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] .
وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ كُلٌّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيِّن أنه رآهما معاً، وكلنا رأينا الكواكب متناثرة في السماء آلافاً لا حَصْرَ لها، فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكباً فقط؟
لا بُدَّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميَّزتهم عن غيرهم من الكواكب الأخرى؛ وأنه قام بعدِّهِم.
ورؤيا يوسف عليه السلام تبيِّن أنه رآهم شمساً وقمراً وأحد عشر كوكباً؛ ثم رآهم بعد ذلك ساجدين.
وهذا يعني أنه رآهم أولاً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثم رآهم وهم ساجدون له؛ بملامح الخضوع لأمر من الله، ولذلك تكررت كلمة «رأيت» وهو ليس تكراراً، بل لإيضاح الأمر.
ونجد أن كلمة: {سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وهي جمع مذكر سالم؛ ولا يُجمع جَمْع المذكر السالم إلا إذا كان(11/6843)
المفرد عاقلاً، والعقل يتميز بقدرة الاختيار بين البدائل؛ والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين، وأسْمَى ما في الخضوع للدين هو السجود لله.
ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الله، فَهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى.
مثلهم في ذلك مَثَلْ ما جاء في قول الحق سبحانه: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2] هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها.
وقال عنها أنها بلا فُرُوجٍ:(11/6844)
{أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] وهي أيضاً تسمع أمر ربها، مصداقاً لقوله سبحانه: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] .
أي: أنها امتلكت حاسة السمع؛ لأن «أذنت» من الأذن؛ وكأنها بمجرد سماعها لأمر الله؛ تنفعل وتنشق.
وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون أُمَم مثل أمة البشر، ويتفاهم الإنسان مع غيره من البشر ممَّن يشتركون معه في اللغة، وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن لا يعرف لغتهم بالإشارة، أو من خلال مُترجم، أو من خلال تعلُّم اللغة نفسها.
ولكن الإنسان لا يفهم لغة الجماد، أو لغة النبات، أو لغة الحيوان؛ إلا إذا أنعم الله على عبد بأن يفهم عن الجماد، أو أن يفهم الجماد عنه.
والمثل: هو تسبيح الجبال مع داود، ويُشكِّل تسبيحه مع تسبيحها «جُوقة» من الانسجام مُكَوَّن من إنسان مُسبِّح؛ هو أعلى الكائنات، والمُردِّد للتسبيح هي الجبال، وهي من الجماد أدنى الكائنات.(11/6845)
ونحن نعلم أن كل الكائنات تُسبِّح، لكننا لا نفقه تسبيحها، ولكن الحق سبحانه يختار من عباده مَنْ يُعلِّمه مَنْطِق الكائنات الأخرى، مثلما قال سبحانه عن سليمان: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير. .} [النمل: 16] وهكذا عَلِمْنا أن للطير منطقاً. وعلَّم الحقُّ سبحانه سليمان لغة النمل؛ لأننا نقرأ قول الحق: {حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 18 - 19] .
إذن: فلكُلِّ أُمَّة من الكائنات لغة، وهي تفهم عن خالقها، أو مَنْ أراد له الله سبحانه وتعالى أن يفهم عنها، وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر ربها ليوسف في رؤياه؛ إنما فهمتْ عن أمر ربها.(11/6846)
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ يابني ... } .(11/6847)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وحين يُورِد القرآن خطاب أب لابن لا نجد قوله {يابني} وهو خطابُ تحنينٍ، ويدل على القرب من القلب، و «بُني» تصغير «ابن» .
أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول «ابني» مثل قول الحق سبحانه عن نوح يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على الإيمان: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي ... } [هود: 45] .
وكلمة «يا بني» بما فيها من حنان وعطف؛ ستفيدنا كثيراً فيما سوف يأتي من مواقف يوسف؛ ومواقف أبيه منه.
وقول يعقوب ليوسف «يا بني» يُفْهم منه أن يوسف عليه السلام ما زال صغيراً، فيعقوب هو الأصل، ويوسف هو الفرع، والأصل دائماً يمتلئ بالحنان على الفرع، وفي نفس الوقت نجد أيَّ أب يقول: مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.(11/6847)
وقول الأب: يا بني، يفهم منه أن الابن ما زال صغيراً، ليست له ذاتية منفصلة عن الأب ليقرر بها ما هو المناسب، وما هو غير المناسب.
وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه؛ أو أي أمر مُعْضَل؛ فهو يلجأ إلى مَنْ يحبه؛ وهو الأب؛ لأن الأب هو الأقدر في نظر الابن - على مواجهة الأمور الصعبة.
وحين روى يوسف عليه السلام الرؤيا لأبيه؛ قال يعقوب عليه السلام:
{قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] .
ونفهم من كلمة «رؤيا» أنها رؤيا منامية؛ لأن الشمس والقمر والنجوم لا يسجدون لأحد، وهذا ما يوضح لنا دقة اللغة العربية، فكلمة واحدة هي «رأى» قد يختلف المعنى لها باختلاف ما رُؤيَ؛ فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها «رؤية» ؛ ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها «رؤيا» .
والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع: فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما «الرؤيا» فهي تأتي للنائم.
وهكذا نجد الالتقاء في «رأى» والاختلاف في الحالة؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة. وفي الإعراب كلاهما مؤنث؛ لأن علامة التأنيث إما: «(11/6848)
تاء» ، أو «ألف ممدودة» ، أو «ألف مقصورة» .
وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة «التاء» وهي عمدة التأنيث؛ أما الرؤيا المنامية فقد أخذت ألف التأنيث.
ولا يقدح في كلمة «رؤيا» أنها منامية إلا آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن لحظة أن عُرِجَ به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] .
ولكن من يقولون: «إنها رؤيا منامية» لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛ فالمعنى هو: إن ما حدث شيء عجيب لا يحدث إلا في الأحلام، ولكنه حدث في الواقع؛ بدليل أنه قال عنها: أنها «فتنة للناس» .(11/6849)
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذَّبه أحد فيما قال: لكنه أعلن أنها رؤيا حقيقية؛ لذلك عَبّر عنها القرآن بأنها فتنة للناس.
وهنا يقول يعقوب عليه السلام:
{قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ. .} [يوسف: 5] .
لأن يعقوب عليه السلام كأب مأمونٌ على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه، وحين يقصُّ يوسف رؤياه على أبيه، فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلُّه عليه.
أما إن قصَّ الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الأغيار البشرية يحسدون أخاهم، وقد كان.
وإن تساءل أحد: ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية، رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عشرَ كوكباً يسجدون له؟
نقول: لا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد عَلِم تأويل الرُّؤيا: وأنها نبوءة لأحداث سوف تقع؛ ولا بُدَّ أن يعقوب عليه السلام قد علم أيضاً قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا، ولو قالها يوسف لهم لَفهِموا المقصود منها، ولا بُدَّ حينئذ أن يكيدوا له كيداً يُصيبه بمكروه.
فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلاً، فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل هذه الرؤيا التي سيجد له فيها الأب والأم مع الإخوة.(11/6850)
ولا يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الأشرار؛ فهم الأسباط؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب عُلُو عاطفة الأب تجاه يوسف هو من الأغيار التي تصيب البشر، فهم ليسوا أشراراً بالسَّليقة؛ لأن الشرير بالسَّليقة تتصاعد لديه حوادثُ السوء، أما الخيِّر فتتنزَّل عنده حوادث السوء.
والمثال على ذلك: أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنساناً آخر صفعة على الخَدِّ؛ ولكنه بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك الإنسان، فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلاً من صفعة واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين لا تكفيان؛ فيرغب أن يُزيد العدوان بأن يصوِّب عليه مسدساً؛ وهكذا يُصعِّد الشرير تفكيره الإجرامي.
أما الخَيِّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه «علقة» ؛ ولكنه يُقلِّل من التفكير في رَدِّ الاعتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلاً من «العلقة» ، ثم يهدأ قليلاً ويعفو عَمَّنْ أساء إليه.
وإخوة يوسف وهم الأسباط بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف، فقالوا لبعضهم:(11/6851)
{اقتلوا يُوسُفَ ... } [يوسف: 9] .
ثم هبطوا عن هذه الدرجة المُؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم ليوسف، فقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] .
وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضاً ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في الجُبِّ لعل أن يلتقطه بعض السيَّارة. فقالوا: {وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة ... }
[يوسف: 10] .
وهذا يدل على أنهم تنزَّلوا عن الانتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في نجاته.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:(11/6852)
{لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً ... } [يوسف: 5] .
والكيد: احتيال مستور لمَنْ لا تقوى على مُجَابهته، ولا يكيد إلا الضعيف؛ لأن القوي يقدر على المواجهة.
ولذلك يُقَال: إن كيد النساء عظيم؛ لأن ضعفهن أعظم.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5] .
وهذه العداوة معروفة لنا تماماً؛ لأنه خرج من الجنة ملعوناً مطروداً؛ عكس آدم الذي قَبِل الله توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة الله لَيُغْوِينَّ الكُلَّ، واستثنى عبادَ اللهِ المخلصين.
ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لقد أعانني الله على شيطاني فأسلم» .
ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للإنسان أنها عداوةٌ مُبينة. أي: محيطة. وحين نقرأ القرآن نجد إحاطة الشيطان للإنسان فيها يقظة: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ... } [الأعراف: 17](11/6853)
ولم يأت ذِكْر للمجيء من الفوقية أو من التحتية؛ لأن مَنْ يحيا في عبودية تَحتية؛ وعبادية فوقية؛ لا يأتيه الشيطان أبداً.
ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلام مخاطباً يوسف عليه السلام في هذه الآية:
{فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] ، ولم يقل: فيكيدوك، وهذا من نَضْح نبوة يعقوب عليه السلام على لسانه؛ لأن هناك فارقاً بين العبارتين، فقول: «يكيدوك» يعني أن الشرَّ المستور الذي يدبرونه ضدك سوف يصيبك بأذى. أما {فَيَكِيدُواْ لَكَ ... } [يوسف: 5] فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به إلحاق الشر بك سيكون لحسابك، ويأتي بالخير لك.
ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة: {كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ ... } [يوسف: 76] أي: كدنا لصالحه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6854)
{وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... } .(11/6855)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
أي: كما آنسَك الله بهذه الرؤيا المُفْرحة المُنْبِئة بأنه سيكون لك شأن كبير بالنسبة لإخوتك وبالنسبة لأبيك، فلسوف يجتبيك ربك؛ لا بأن يحفظك فقط؛ ولكن بأن يجعل كيدهم سبباً لصالحك، ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث ما يجعل أصحابَ الجاهِ والنفوذ يلتفتون إليك.
ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء، ونعلم أن الرُّؤى تأتي كطلاسم، ولها شَفرة رمزية لا يقوم بِحلِّها إلا مَنْ وهبه الله قدرة على ذلك؛ فهي ليست عِلْماً له قواعد وأصول؛ لأنها إلهامات من الله سبحانه وتعالى.(11/6855)
وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الأرض؛ حين يُوجد الجَدْبُ، ويعُمُّ المنطقة كلها، وتصبح عزيز مصر.
ويتابع الحق سبحانه:
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] .
فكل ما تَمَتَّع به يوسف هو من نعم الدنيا، وتاج نعمة الدنيا أن الله اجتباه رسولاً.
أو أن: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] .
بمعنى إلا تسلب منك النعمة أبداً؛ ففي حياة يوسف منصبٌ مهم، هو منصب عزيز مصر، والمناصب من الأغيار التي يمكن أن تنزع.
أو أن: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ... } [يوسف: 6] .
بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أُخْراك.
ويتابع الحق سبحانه:
{وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: 6] .
يُذكِّر الحق سبحانه يوسف عليه السلام بأن كيد إخوته له لا يجب أن يُحوِّله إلى عداوة؛ لأن النِّعم ستتم أيضاً على هؤلاء فهم آلُ يعقوب؛ هم وأبناؤهم حَفَدة يعقوب، وسينالهم بعضٌ من عِزِّ(11/6856)
يوسف وجاهه وماله، كما أتمَّها من قبل على إبراهيم الجد الأول ليوسف باتخاذه خليلا لله، وأتمَّ سبحانه نعمته على إسحق بالنبوة.
وهو سبحانه أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة، وهو الحكيم الذي لا يترك شيئاً للعبث؛ فهو المُقدِّر لكل أمر بحيث يكون مُوافِقاً للصواب.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ ... } .(11/6857)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
أي: أن يوسف صار ظَرْفاً للأحداث، لأن «في» تدل على الظرفية، ومعنى الظرفية أن هناك شيئاً يُظْرف فيه شيء آخر، فكأن يوسف صار ظَرْفاً ستدور حوله الأحداث بالأشخاص المشاركين فيها.
و «يوسف» اسم أعجمي؛ لذلك فهو «ممنوع من الصرف» أي: ممنوع من التنوين فلا نقول: في يوسفٍ.
و {يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]
وهذا يعني أن ما حدث إنما يُلفِت لقدرة الله سبحانه؛ فقد أُلقِيَ في الجُبِّ وأُنقِذ ليتربى في أرقى بيوت مصر.(11/6857)
ونعلم أن كلمة آية تطلق على الأمر العجيب الملفت للنظر، وهي تَرِد بالقرآن بثلاثة معانٍ:
آية كونية: مثل الشمس والقمر والليل والنهار، تلك الآيات الكونية رصيد للنظر في الإيمان بواجب الوجود وهو الله سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظماً بتلك الدقة المتناهية؛ لا بُدًَّ أن تفكر في ضرورة وجود خالق لهذا الكون.
والآيات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل على صدق بلاغهم عن الله، مثل النار التي صارت بَرْداً وسلاماً على إبراهيم، ومثل الماء الذي انفلق وصار كالطور العظيم أمام عصا موسى.
وهناك المعنى الثالث لكلمة آية، والمقصود بها آيات القرآن الكريم.
وفي قول الحق سبحانه:
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] .(11/6858)
نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كَادَ له إخوته ليتخلصوا منه؛ لكن كَيْدهم انقلب لصالح يوسف.
وفي كل ذلك سَلْوى لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لتثبيت فؤاده؛ فلا يُعِير بالاً لاضطهاد قومه له، وتآمرهم عليه، ورغبتهم في نَفْيه إلى الشام، ومحاولتهم قَتْله، ومحاولتهم مُقاطعته، وقد صاروا من بعد ذلك يعيشون في ظلال كَنفِه.
إذن: فلا تيأس يا محمد؛ لأن الله ناصرك بإذنه وقدرته، ولا تستبطئ نصر الله، أنت ومَنْ معك، كما جاء في القرآن. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} [البقرة: 214] .
ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث ليوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته، ويمر الوقت إلى أن تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلام.
ويُقال: إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين(11/6859)
أربعين سنة وثمانين عاماً.
ولذلك نجد رُؤْيَا الخير يطول أَمَدُ تصديقها؛ ورُؤْيَا الشر تكون سريعة؛ لأن من رحمة الله أن يجعل رؤيا الشر يقع واقعاً وينتهي، لأنها لو ظلَّتْ دون وقوع لأمد طويل؛ لوقع الإنسان فريسةَ تخيُّل الشر بكُلِّ صوره.
والشر لا يأتي إلا على صورة واحدة، ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك الله مُتخيلاً لما سوف يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى.
والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] .(11/6860)
ويقول الحق سبحانه:
{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية وتُجمع آيات.
وهناك قراءة أخرى: «لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين» أي: أن كل القصة بكل تفاصيلها وأحداثها آية عجيبة.
والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلاً على جَمْع الأكثر من آية في آية واحدة، مثلما قال: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] مع أن كلاً منهما آية منفردة.
ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات، أو تنظر إلى كل لقطة على أنها آية بمفردها.
ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الآية أن القصة: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] .
والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرَّضهم اليهود على أنْ(11/6861)
يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مسألة يوسف، وإما من المسلمين الذين يطلبون العِبَر من الأمم السابقة، وجاء الوَحْيُ لينزل على الرسول الأميِّ بتلك السورة بالأداء الرفيع المُعْجِز الذي لا يَقْوَى عليه بشر.
وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة، هاتْ أنت أيَّ إنسان ليتكلم ثُلث ساعة، ويظل حافظاً لما قاله؛ لن تجد أحداً يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] .
ولذلك نجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحفظ ما أُنزل إليه من ربه، ويُمليه على صحابته ويصلي بهم؛ ويقرأ في الصلاة ما أُنزِل عليه، ورغم أن في القرآن آياتٍ متشابهات؛ إلا أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن.
والأمثلة كثيرة منها قوله الحق: {واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17] .
ومرة أخرى يقول: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] وكذلك قول الحق سبحانه:(11/6862)
{إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] .
وفي موقع آخر يقول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور: 17] .
فكيف يتأتَّى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك، لولا أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له ذلك.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ ... } .(11/6863)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
ولا بُدَّ لنا هنا أن ننظر إلى الأخوة بنوعياتها؛ فقد تكون الأخوة من ناحية الأبوين معاً؛ وقد تكون من ناحية الأب دون الأم، أو من ناحية الأم دون الأب، وكان عدد أبناء يعقوب عليه السلام اثنا(11/6863)
عشر: سبعة من واحدة؛ وأربعة من اثنتين: زلفى وبلهه؛ واثنين من راحيل هما: يوسف، وأخوه بنيامين.
وتبدأ الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا. .} [يوسف: 8] .
وحرف اللام الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد، وكأنهم قالوا: والله إن أبانا يحب يوسف وأخاه أكثر من حُبِّه لنا. والتوكيد لا يأتي إلا بصدد إنكار.
وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلام؛ فأحدهم يريد أن ينتقم من يوسف، وآخر يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحبُّ إلى أبيهم منهم.
وفي قولهم لَمْحة من إنصاف؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم؛ ولكن قولهم به بعضٌ من غفلة البشر؛ لأنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة حُبِّ أبيهم ليوسف وأخيه.
فيوسف وأخوه كانوا صِغَاراً وماتت أمهما؛ ولم يَعُدْ لهم إلا الأب الذي أحسَّ بضرورة أن يَجتمع فيه تجاههما حنانُ الأب وحنانُ الأم؛ ولأنهما صغارٌ نجد الأب يحنُو عليهما بما أودعه الله في قلبه من قدرة على الرعاية.
وهذا أمر لا دَخْل ليعقوب فيه؛ بل هي مسألة إلهية أودعها الله(11/6864)
في القلوب بدون اختيار؛ ويُودعها سبحانه حتى في قلوب الحيوانات.
وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة؛ فالقطة على سبيل المثال إن اقتربَ أحد من صغارها المولودين حديثاً؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها.
ولذلك نجد العربي القديم قد أجاب على مَنْ سأله «أي أبنائك أحب إليك؟» فقال: «الصغير حتى يكبر؛ والغائب حتى يعود، والمريض حتى يشفى» .
وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية، فنجد امرأة لها ولدان، واحد أكرمه الله بسعة الرزق ويقوم بكل أمورها واحتياجاتها؛ والآخر يعيش على الكفاف أو على مساعدة أخيه له؛ ونجد قلبها دائما مع الضعيف.
ولذلك نقول: إن الحب مسألة عاطفية لا تخضع إلى التقنين؛ ولا تكليف بها؛ وحينما يتعرض القرآن لها فالحق سبحانه يوضح: أن الحب والبغض انفعالات طبيعية؛ فأحبِبْ مَنْ شئتَ وأبغِضْ مَنْ شئتَ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت؛ أو تظلم مَنْ أبغضت.(11/6865)
اقرأ قول الحق سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] .
فأحبب مَنْ شئتَ، وأبغض مَنْ شئتَ، ولكن لا تظلم بسبب الحب أو البغض.
وقد يقول قائل: ولكن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:
«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» .
نقول: اقرأ ما جاء في نفس رواية الحديث؛ فقد قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بوضوحه وصراحته وجراءته؛ دون نفاق: أحبك يا رسول الله عن مالي وعن ولدي أما عن نفسي؛ فلا، فكرر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» .(11/6866)
ففطِنَ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى أن الأمر هو التزام عقديٌّ وتكليفي؛ وفَهِم أنَ المطلوب هو حُبُّ العقل؛ لا حب العاطفة.
وحب العقل كما نعلم هو أن تُبصر الأمر النافع وتفعله؛ مثلما تأخذ الدواء المُرَّ؛ وأنت تفعل ذلك بحبٍّ عقلي؛ رغبةً منك في أن يأذن الحق بالشفاء.
والمسلم يحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعقله؛ لأنه يعلم أنه لولا مجيء رسول الله لما عرف حلاوة الإيمان، وقد يتسامى المسلم في حُبِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى أن يصير حب الرسول في قلبه حباً عاطفياً.
وهكذا نرى أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قد أوضح لنا الخطوط الفاصلة بين مباديء الحب العقلي والحب العاطفي.
والمثال الآخر من سيرة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في نفس المسألة؛ حب العقل وحب العاطفة؛ حين مَرَّ عليه قاتل أخيه؛ فقال واحد ممَّنْ يجلسون معه: هذا قاتل أخيك. فقال عمر: وماذا أفعل به وقد هداه الله للإسلام؟
وصرف عمر وجهه بعيداً عن قاتل أخيه؛ فجاء القاتل إليه قائلاً: لماذا تزوي وجهك عني؟ قال عمر: لأنِّي لا أحبك، فأنت قاتل أخي. فقال الرجل: أو يمنعني عدم حبك لي من أيِّ حق من حقوقي؟ قال عمر: لا. فقال الرجل: «لك أن تحب مَنْ تريد، وتكره مَنْ تريد، ولا يبكي على الحب إلا النساء» .
وكان على إخوة يوسف أن ينتبهوا إلى حب والدهم ليوسف(11/6867)
وأخيه هو انفعال طبيعي لا يُؤاخَذُ به الأب؛ لأن ظروف الولدين حتمت عليه أن يحبهم مثل هذا الحب.
وتستمر القصة بما فيها من تصعيد للخير وتصعيد للشر؛ ولسائل أن يسأل: ولماذا أنصبَّ غضبهم على يوسف وحده؟
ويقال: إنهم لم يرغبوا أنْ يَفْجعوا أباهم في الاثنين يوسف وأخيه أو أن شيئاً من رؤيا يوسف تسرب إليهم.
ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] .
والعصبة من عدد عشرة فما فوق؛ والعصبة أيضاً هم المُتكاتفون المُتعصِّبون لبعضهم البعض؛ وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات؛ وقد تقاعد أبوهم؛ وترك لهم إدارة أعمال العائلة.
وقالوا: «ما دُمْنَا نقوم بمصالح العائلة، فكان من الواجب أن يَخُصَّنا أبونا بالحب» ولم يلتفتوا إلى أنهم عُصْبة، وهذا ما جعل الأب يحبهم، لكنه أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيداً من الرعاية، ولكنهم سدروا في غَيِّهم، ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم:(11/6868)
{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] .
وهذا القول هو نتيجة لا تنسجم مع المقدمات، فيوسف وأخوه طفلان ماتت أمهما، ولا بُدَّ أن يعطف عليهم الأب؛ وحبُّه لهما لم يمنع حبه للأبناء الكبار القادرين على الاعتماد على أنفسهم.
وحين يقولون:
{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8]
قد يفهم بعض الناس كلمة «ضلال» هنا بالمعنى الواسع لها.
نقول: لا؛ لأن هناك ضلالاً مقصوداً، وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل، وهذا ضلال مذموم.
وهناك ضلال غير مقصود، مثل: ضلال رجل يمشي فيسلك طرقاً لا يعرفها فيضل عن مقصده؛ ومثل مَنْ ينسى شيئاً من الحق. وسبحانه القائل: {أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى ... } [البقرة: 282] .
وسبحانه القائل أيضاً: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] .
إذن: فالضلال المذموم هو أن تعرف طريق الحق، وتذهب إلى الضلال.
وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر حُبِّ أبيهم ليوسف(11/6869)
وأخيه؛ ووصلوا إلى نتيجة ضارَّة؛ لأن المقدمات التي أقاموا عليها تلك النتيجة كانت باطلة؛ ولو أنهم مَحَّصُوا المقدمات تمحيصاً دقيقاً لَمَا وصلوا إلى النتيجة الخاطئة التي قالوها:
{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8] .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف: {اقتلوا يُوسُفَ ... } .(11/6870)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
والقتل هو قمة ما فكّروا فيه من شرّ؛ ولأنهم من الأسباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛ فقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضاً} [يوسف: 9] .
فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبِّ أبيهم؛ لأنهم قالوا: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] .
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات.
والمقصود ب: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] ،(11/6870)
هو ألا يوجد عائق بينكم وبين أبيهم.
وقولهم: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، أي: أنهم يُقدِّرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكَّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلاح؛ ولذلك قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نَسُوا أن أمر المَوْت قد أبهم حتى لا يرتكب أحدٌ المعاصيَ والكبائرَ.
أو: أن يكون المقصود ب: {قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبُهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود ب: {قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءاً من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلاً؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شئون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة.(11/6871)
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ ... } .(11/6872)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
وهكذا نرى التخفيف في الشر حين يرفض واحد منهم مبدأ القتل، واستبدله بالإخفاء بإلقائه في الجُبِّ.
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعاً من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئراً، فمياه البئر تتدفق طوال الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدُّ البئر؛ ولذلك يبنون حول فُوَّهة البئر بعضاً من الطوب لحمايته من الرَّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر «بئر مطوي» ، وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.(11/6872)
وكلمة: {غيابت الجب} [يوسف: 10] ، أي: المنطقة المخفية في البئر؛ وعادة ما تكون فوق الماء؛ وما فيها يكون غائباً عن العيون.
ولسائل أن يقول: وكيف يتأتَّى إلقاؤه في مكان مَخْفيٍّ مع قول أحد الإخوة: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] .
ونقول: إن في مثل هذا القول تنزيلاً لدرجة الشر التي كانت مُتوقِّدة في اقتراح بعضهم بقتل يوسف؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضاً.
وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية، وصَحَتْ فيه عاطفة الأخوة؛ وقال:
{إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] ، أي: أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه.
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمَّتْ تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الأرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلَّ منهم ثورة الغضب؛ فلم يَقُلْ لهم «لا تقتلوه» ، ولكنه قال: «لا تقتلوا يوسف» .
وفي نُطْقِه للاسم تحنين لهم.(11/6873)
ويضيف:
{وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] .
وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ ياأبانا ... } .(11/6874)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
وبعد أن وافقوا أخاهم الذي خفَّف من مسألة القتل، ووصل بها إلى مسألة الإلقاء في الجب؛ بدأوا التنفيذ، فقال واحد منهم مُوجِّهاً الكلام لأبيه، وفي حضور الإخوة: {قَالُواْ ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] .
وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحداً منهم هو الذي قال، وأمَّنَ الباقون على كلامه؛ إِما سُكوتاً أو بالإشارة.
ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلام على فرعون وكان معه هارون.(11/6874)
قال موسى عليه السلام: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] .
ورد الحق سبحانه على دعاء موسى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا ... } [يونس: 89] .
والذي دعا هو موسى، والذين أمَّنَ على الدعوة هو هارون عليه السلام.
وهكذا نفهم أن الذي قال:
{ياأبانا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] .
تلك الكلمات التي وردتْ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، هو واحد من إخوة يوسف، وأمَّن بقية الإخوة على كلامه.
وقولهم: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] ، يدل أنه كانت هناك محاولات سابقة منهم في ذلك، ولم يوافقهم الأب.(11/6875)
وقولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] .
يعني أنهم سوف ينتبهون له، ولن يحدث له ضرر أو شرّ؛ وسيعطونه كل اهتمام فلا داعي أن يخاف عليه الأب.
ويستمر عَرْض ما جاء على لسان إخوة يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً ... } .(11/6876)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
ولأنهم كانوا يخرجون للرعي والعمل؛ لذلك كان يجب أن يأتوا بعِلَّة ليأذن لهم أبوهم بخروج يوسف معهم، ويوسف في أوان الطفولة؛ واللعب بالنسبة له أمر مُحبَّب ومسموح به؛ لأنه ما زال تحت سن التكليف، واللعب هو الشغل المباح لقصد انشراح النفس.
ويُفضِّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدُّ مستقبلاً؛ كأن يتعلمَ الطفلُ السباحةَ، أو المصارعة، أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى اللعب: إنه شُغُل لا يُلهِي عن واجب، أما اللهو فهو شغُلُ يُلهِي عن واجب.(11/6876)
وهناك بعضٌ من الألعاب يمارسها الناس؛ ويجلسون معاً؛ ثم يُؤذِّن المؤذن؛ ويأخذهم الحديث؛ ولا يلتفون إلى إقامة الصلاة في ميعادها؛ وهكذا يأخذهم اللهو عن الضرورة؛ أما لو التفتوا إلى إقامة الصلاة: لَصَار الأمر مجرد تسلية لا ضرر منها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ إِنِّي ليحزنني. .} .(11/6877)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
وكلام الأب هنا لا بُدَّ أن يغيظهم فهو دليل المحبة الفائقة إلى الدرجة التي يخاف فيها من فِراق يوسف لِقلَّة صبره عنه، وشدة رعايته له؛ ثم جاء لهم بالحكاية الأخرى، وهي:
{وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] وقال بعض الناس: لقد علَّمهم يعقوب الكذبة؛ ولولا ذلك ما عرفوا أن يكذبوها.
ونلحظ أن يعقوب جعل للأخوة لَحْظاً؛ فلم يقل: «أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون» بل قال:
{وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] .(11/6877)
وهذا ليُربِّي فيهم مواجيد الأخوة التي تفترض ألاَّ يتصرفوا مع أخيهم بشرّ؛ ولا أن يتصرف غيرهم معه بشرّ إلا إذا غفلوا عن أخيهم.
ونلحظ في ردِّهم عجزَهم عن أنْ يردوا على قوله:
{قَالَ إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ. .} [يوسف: 13] .
فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف، ورَدُّوا فقط على خوفه من أنْ يأكله الذئب، وجاء القرآن بما قالوه: {قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ... } .(11/6878)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
وهنا يكشف لنا الحق سبحانه محاولاتهم لطمأنة أبيهم؛ كي يأذن في خروج يوسف معهم؛ ولهذا استنكروا أن يأكله الذئب وهم مُحِيطون به كعُصْبة، وأعلنوا أنه إنْ حدث ذلك فهم سيخسرون كرامتهم أمام أنفسهم وأمام قومهم، وهم لا يقبلون على أنفسهم هذا الهوان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(11/6878)
{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ ... } .(11/6879)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
وقوله الحق:
{وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب ... } [يوسف: 15] يدلنا على أن تلك المسألة أخذتْ منهم مناقشة، فيها أَخْذٌ ورَدٌّ، إلى أن استقروا عليها.
وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلام بما سوف يفعلونه، والوحي كما نعلم هو إعلام بخفاء.
وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلام بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه أمسك بقدح ونقر عليه بأصابعه، وقال لهم: اسمعوا ما يقوله القدح؛ إنه يقول: إن لكم أخاً وقد فعلتم به كذا وكذا.(11/6879)
وبعض المفسرين قال: إن الحق سبحانه أوحى له، ولم يَلْحَظ إخوته هذا الوحي.
ونقول: إن الوَحْي إعلام بخفاء، ولا يمكن أن يشعر به غير المُوحَى إليه، وعلى ذلك نرى أنهم لم يعلموا هذا الأمر إلا بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر؛ بل إنهم لم يعرفوا أن يوسف أخوهم؛ لأنهم قالوا له لحظتها: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] .
والمقصود بالوحي في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو إيناس الوَحْشة؛ وهو وارد إلهي لا يرده وارد الشيطان؛ والإلهام وارد بالنسبة لمَنْ هم غير أنبياء؛ مثلما أوضحنا الأمر الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها الله أن تلقيه في اليم.(11/6880)
والوارد الإلهي لا يجد له معارضة في النفس البشرية، وقد أوحى الله ليوسف ما يُؤنِسُ وحشته حين ألقاه إخوته في الجُبِّ الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه بأخيه، ومفارقته لبلده التي درج فيها وأُنْسه بالبيئة التي اعتاد عليها.
فكان لا بُدَّ أن تعطيه السماء دليلاً على أن ما حدث له ليس جَفْوة لك يا يوسف؛ ولكنه إعداد لك لتقابل أمراً أهمَّ من الذي كنت فيه؛ وأن غُرمَاءك وهم إخوتك سوف يُضطَّرون لدقِّ بابك ذات يوم يطلبون عَوْنك، ويطلبون منك أقواتهم، وستعرفهم أنت دون أن يعرفوك.
هذا من جهة يوسف؛ وجهة الجُبِّ الذي ألقوْه فيه، وبقي أن تعالج القصة أمر الإخوة مع الأب، فيقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وجآءوا أَبَاهُمْ ... } .(11/6881)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
وهنا تتجلى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقاً معبراً عن الانفعالات التي توجد في النفس الإنسانية، فها هم إخوة خدعوا أباهم ومكروا(11/6881)
بأخيهم، وأخذوه وألقوْه في الجُبِّ مع أنهم يعلمون أن أباه يحبه، وكان ضنيناً أن يأتمنهم عليه، فكيف يواجهون هذا الأب؟
هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء: والعشاء مَحَلُّ الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث؛ بل بحديث مُخْتلق.
وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا: الليل أخْفَى للوجه من النهار، وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا.
وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم:
{وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] .
والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطريّ؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار؛ ومَنْ يريد أن يفتعله فهو يتباكى، بأن يَفْرُك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويُقرِّبه من عينيه، ولا يستر ذلك إلا أن يكون الضوء(11/6882)
خافتاً؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يُمثِّلون البكاء.
والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته، ولم يُعْطِها لأحد من خلقه؛ أعلمنا أنه سبحانه هو الذي يميت ويحي، وهو الذي يُضحك ويُبْكي.
والحق سبحانه هو القائل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43 - 44] .
ولا يوجد فَرْق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي؛ ولا يوجد فرق بين موت أو ميلاد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر.
وإذا ما افتعل الإنسان الضحك؛ فهو يتضاحك؛ وإذا ما افتعل الإنسان البكاء فهو يتباكى؛ أي: يفتعل الضحك أو البكاء. والذي يفضح كل ذلك هو النهار.
والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف؛ والمثل في سيدنا الحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه؛ حين جاءت موقعة كربلاء، ورأى العدو وقد أحاط به؛ ورأى الناس وقد انفضوا عنه بعد أن دَعَوْهُ ليبايعوه، ولم يَبْقَ معه إلا قلة؛ وعَزَّتْ عليه(11/6883)
نفسه؛ وعَزَّ عليه أن يقتل هؤلاء في معركة غير متكافئة صمم هو على دخولها.
فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم:
«إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهاراً، فالليل جاء وقد ستركم، فمَنْ شاء فليذهب واتركوني» .
يقص الحق سبحانه ما بدر منهم فَوْرَ أنْ دخلوا على أبيهم: {قَالُواْ ياأبانآ ... } .(11/6884)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
كلمة: {نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] تعبر عن بيان تفوُّق ذات على ذات في حركة ما؛ لنرى من(11/6884)
سيسبق الآخر؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى مَنْ فيهما سبق الآخر؛ وهذا هو الاستباق.
وقد يكون الاستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوِّبها إلى الهدف؛ ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال.
وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن غُصْن مَرنٍ، يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبَّت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده الرامي فينطلق السهم إلى الهدف.
وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك «تحديد الهدف» .
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة الرامي.
وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة؛ وكل ذلك حلال؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا مانع أن يلعب الإنسان لُعْبة لا تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَجِدُّ من أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛ واللعب الذي لا يَنْهي عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لَعِب حلال.(11/6885)
وهناك ألعاب قد لا يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم.
وأقول: قد يوجد عَدوَّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن لا بد ألا يُلْهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلاً حين يؤذن المؤذن للصلاة، والوَاجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يُراعُوا عدم ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا:
{وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا ... } [يوسف: 17] .
وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] .
وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] .
وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] .
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة؛ وتحفظونه، أم ليحفظ لكم متاعكم وأنتم تستبقون.(11/6886)
وهذا أول الكذب الذي كذبوه؛ وهذه أول مخالفة لشرط إذن والده له بالخروج معكم؛ ولأن «المريب يكاد يقول خذوني» نجدهم قد قالوا:
{فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] .
أو: أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدِّقهم مهما قالوا. ونعلم أن «آمن» إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل «آمنه الله من الجوع» ، أو قوله الحق: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] .
أو: تجئ بالباء، ويُقال «آمن به» أي: صدَّق واعتقد.
أو: يُقَال «آمن له» أي: صدَّقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدٍّ لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم غير صادقين؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ ... .} .(11/6887)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
كأن قميص يوسف كان معهم. ويُقال: إن يعقوب علِّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب بأن الذئب كان رحيماً، فأكل لحم يوسف ولم يُمزِّق قميصه؛ وكأنه قد عرف أن هناك مؤامرة سيكشفها الله له.
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص:
فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة العزيز لتراوده عن نفسه.
وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومعاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(11/6888)
أن معاوية أمسك بقميص عثمان بن عفان طلباً للثأر من علي، فقيل «قميص عثمان» رمزاً لإخفاء الهدف عن العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلاً من علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{وَجَآءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] ، وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب؛ مثلما تقول «فلان عادل» ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك «فلان عَدْل» أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول «فلان ذو شر» ، فيرد عليك آخر «بل هو الشر بعينه» ، وهذه مبالغة في الحديث.
وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟
نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق. ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول «أنا كذب» .
فلو كان قد أكله الذئب فعلاً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج.(11/6889)
وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلاً، ألم تكُنْ أنيابه قد مزَّقَتْ القميص؟
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همساً: قولوا لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه؛ وهذا ما تقوله كتب السير.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل؛ حين يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال: «إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً» .
ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب:
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .
«والسَّوَل» : هو الاسترخاء؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه(11/6890)
مشدودة؛ ثم يحب أن يسترخي، فيستريح قليلاً، وبعد ذلك يجد في نفسه شيئا من اليُسْر في بدنه ونبضه.
ونأخذ {سَوَّلَتْ ... } [يوسف: 18] هنا بمعنى يَسَّرت وسهَّلتْ، وما دامت قد سوَّلتْ لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر.
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... } [يوسف: 18] .
والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون «وهل يمكن أن يكون الصبر جميلاً؟» .
نقول: هم لا يعرفون أن الصبر يُقال فيه «اصبر عن كذا» إذا كان الأمر عن شهوة قد تُورِث إيلاماً؛ كأن يُقال «اصبر عن الخمر» أو «اصبر عن الميسر» أو «اصبر عن الربا» .
ويُقال «اصبر عن كذا» إذا كان الصبر فيه إيلام لك. والصبر يكون جميلاً حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع.
والحق سبحانه يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] .
وهؤلاء الذين يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية استقباله وفهمه؛ وقد بيَّن لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وهو القائل: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ... } [يوسف: 86] .(11/6891)
وهكذا نعلم أن هناك فارقاً بين الشكوى للربِّ؛ وشكوى من قدر الربِّ.
ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا:
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. .} [يوسف: 18] ، ويتبعها: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، كأن الصبر الجميل أمر شاقٌّ على النفس البشرية، ولم يكُنْ يعقوب قادراً على أن يُصدِّق ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يُصدِّق الكذب؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟ وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قِيلَ لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك، فقال:
أقولُ لنفسِي تأساء وتعزيةً ... إحدى يديَّ أصَابتْنِي ولم تُردِ
كِلاهُمَا خلف عَْن فَقْدِ صاحبِه ... هذا أخي حين أدعُوه وذَا ولدِي
ومثل هذه المواقف تكون صعبة وتتطلب الشفقة؛ لأن مَنْ يمر بها يحتار بين أمر يتطلب القسوة وموقف يتطلب الرحمة؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين؟
إنها مسألة تعزُّ على خَلْق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك علَّمنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر(11/6892)
ما يعني: أن مواجهة هذا الأمر تفوق أسباب الإنسان؛ فيلجأ إلى المُسبِّبِ الأعلى؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام:
{والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .
وقوله: «تصفون» يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا يصادف الواقع، مثل قوله تعالى:
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ ... } [النحل: 116] .
أي: أن ألسنتكم نفسها تَصِفُ الكلام أنه كذب.
والحق سبحانه يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] .
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير كذبهم مفضوحاً.
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .
وهكذا عبّر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لا بد من الاستعانة بالله.(11/6893)
وقد علَّمنا الحق سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتُخلِص في عبادتك.
وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجُبِّ.
يقول سبحانه: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ. .} .(11/6894)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
ولم يَقُلِ الحق سبحانه من أين جاء السيارة؟ أو إلى أين كانوا ذاهبين؟
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف؛ بهدف التجارة وجَلْب البضائع.
وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛ ليأتي لهم بالمياه ويُسمَّى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسَّ الوارد بثقل ما حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلاماً يتعلق بالدلو فنادى:
{يابشرى هذا غُلاَمٌ} [يوسف: 19] .
أي: أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط، بل حمل غلاماً أيضاً.
ويقول الحق سبحانه: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19] .
أي: أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛(11/6895)
خشية أن يكون عبداً آبقاً ويبحث عنه سيده؛ وهم يريدون بيعه.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله:
{والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] .
وهذا قول يعود على مَنْ أسرُّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع. ثم يقول الحق سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ... } .(11/6896)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
ونعلم أنهم لم يشتروه بل عثروا عليه؛ ونعلم أن كلمة شراء تدل على البيع أيضاً، أي: أنهم باعوه بثمن بخس؛ أي: بثمن زهيد، وكانت العبيد أيامها مُقوَّمة بالنقود.
والبخس أي: النقص، وهو إما في الكم أو في الكَيْف؛ فهو يساوي مثلاً مائة درهم وهم باعوه بعشرين درهماً فقط؛ وكان العبد في عُمر يوسف يُقوَّم بالنقد؛ وهم باعوه بالبخْس، وبثمن أقل قيمة إما كَمّاً وإما كَيْفاً.(11/6896)
ثم أراد الحق سبحانه أن يوضح الأمر أكثر فقال:
{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] ، والزهد هنا هو حيثية الثمن البَخْس؛ فهُم قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه؛ وكأنهم قالوا لأنفسهم: أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة لنا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ الذي اشتراه ... } .(11/6897)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
وكان للشراء عِلَّة؛ فهو قد اشتراه لامرأته ليقوم بخدمتها، وكانت لا تنجب وتكثر في الإلحاح عليه في طلب العلاج، وتقول أغلب السير: إن من اشتراه كان ضعيفاً من ناحية رغبته في النساء.
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلاً، لكنهم لا يحسبون حساب المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال، وقد تعوَّد أن تحمله ربة البيت وتُقبِّله، وتغدق عليه من التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولأن الطفل يكبر انسيابياً؛ فقد يقع المحظور وندخل في متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه:
{وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] .
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه، وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.
ولسائل أن يقول: كيف ينتفع به الرجل؛ وهو عزيز مصر، والكُلُّ في خدمته؟
ونقول: إن النفع المقصود هنا هو النفْع الموصول بعاطفة مَنْ ينفع؛ وهو غير نفع الموظفين العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر، فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل وزَوْجه؛ وكإنسان تربَّى في بيت الرجل؛ هنا ستختلف المسألة، ويكون النفع مُحَمَّلاً بالعاطفة التي قال عنها الرجل:(11/6898)
{أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] .
وقد عَلِمنا من السِّيَر أنهما لم يُرزَقا بأولاد.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
وقد بدأ التمكين في الأرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة؛ وليعلمه الله تأويل الحديث؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرُّؤى والأحلام؛ وليغلب الله على أمره.
ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلام فسيعرفون أن مرادهم قد خاب؛ وأن مراد الله قد غلب؛ بإكرام يوسف؛ وهم لو علموا ذلك لَضَنَّوا عليه بالإلقاء في الجُبِّ، وهذا شأن الظالمين جميعاً.
ولذلك نقول: إن الظالم لو عَلِم ما أعدَّه الله للمظلوم لَضَنَّ عليه بالظلم.
وساعة يقول الحق سبحانه:
{والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ... } [يوسف: 21] .
فهذا قول نافذ؛ لأنه وحده القادر على أن يقول للشيء كُنْ فيكون؛ ولا يوجد إله غيره ليرد على مراده.(11/6899)
ولذلك قلنا قديماً: إن الله سبحانه وتعالى قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو؛ وهو يملك الرصيد المطلق المؤكد بأنه لا إله غيره؛ فهو وحده الذي له المُلْك، وهو وحده القادر على كل شيء.
ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يُخطِّطوا ويمكروا؛ متناسين أو ناسين أن فوقهم قَيُّوم؛ لا تأخذه سنة ولا نوم، ولو انتبه هؤلاء لَعلِمُوا أن الله يُملِّك بحق مَنْ يُظلم فوق إلى ظَلمه.
ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظُلْم الناس؛ وكان مصيرهم أسوأ من الخيال؛ وأشد هَوْلاً من مصيرهم لو تحكم فيهم مَنْ ظلموهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ... } .(11/6900)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
والبلوغ هو الوصول إلى الغاية، وقوله تعالى:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] أي: وصل إلى غايته في النُّضْج والاستواء؛ ومن كلمة «بلغ» أخذ مصطلح البلوغ؛ فتكليف الإنسان يبدأ فَوْرَ أن يبلغ أشده؛ ويصير في قدرة أن ينجب إنساناً مثله.
وحين يبلغ إنسانٌ مثل يوسف أشده، وهو قد عاش في بيت ممتليء بالخيرات؛ فهذا البلوغ إنْ لم يكُنْ محروساً بالحكمة والعلم؛ ستتولد فيه رعونة؛ ولهذا فقد حرسه الحق بالحكمة والعلم.
والحُكْم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه الله الحُكْم، فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ.
وقد أعطاه الله العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير، والذي سيكون منه تأويل الرؤى، وغير ذلك من العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر.
إذن: فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم. ويُذيِّل الحق سبحانه هذه الآية بقوله:
{وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] .
وكل إنسان يُحسِن الإقامة لِمَا هو فيه؛ يعطيه الله ثمرة هذا(11/6901)
الحُسْن، والمثل: حين لا يتأبى فقير على قَدَرِ الله أن جعله فقيراً، ويحاول أن يُحسن ويُتقِن ما يعمل، فيوضح الله بحُسْن الجزاء: أنت قبلت قدري، وأحسنت عملك؛ فخُذْ الجزاء الطيب. وهذا حال عظماء الدنيا كلهم.
وهكذا نجد قول الحق سبحانه:
{وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] .
لا ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل مَنْ يحسن استقبال قَدَرِ الله؛ لأنه سبحانه ساعة يأتي بحُكْم من الأحكام؛ وبعد ذلك يعمِّم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصاً بل هو عام.
وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها، فإنه يقرر بعدها أن كل مُحْسِن يعطيه الله الحُكْم والعلم.
وقول الحق سبحانه:
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ. .} [يوسف: 22] .
يوحي لنا أن يوسف عليه السلام كان قد بلغ مرحلة الفتوة، وهنا بدأت متاعبه في القَصْر، ففي طفولته نظرتْ إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكُنْ يملك ملامح الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغيَّر، فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح فيما هو أكثر من الإدراك، وهو التهاب الوجدان(11/6902)
بالعاطفة المشبوبة، وما بعد الإدراك والوجدان يأتي النزوع.
ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالإدراك والوجدان.
وهذا يعطينا عِلَّة غَضِّ البصر عن المثيرات الجنسية؛ لأنك إنْ لم تغضّ البصر أدرَكتَ، وإن أدركتَ وجدتَ، وإن وجدتَ نزعتَ إلى الزواج أو التعفف بالكبْت في النفس، وتعيش اضطراب القلق والتوتر، وإن لم تتعفف عربدتَ في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه ألا تُبدِي النساء زينتهن إلا لأناس حددهم الحق سبحانه في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء. .} [النور: 31] .(11/6903)
أي: الذي بلغ من العمر والشيخوخة حداً لا يجعله يفكر في الرغبة في النساء.
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلام وهو في فتوته، بعد أن بلغ أَشُدَّه نظرةً مختلفة، يوضحها الله تعالى في قوله: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ ... } .(11/6904)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وساعة تسمع «راود» فافهم أن الأمر فيه منازعة مثل: «فَاعَل» أو «تَفاعل» ومثل: «شارك محمد علياً» أي: أن علياً شارك محمداً؛ ومحمد شارك علياً؛ فكل منهم مفعول مرة، وفاعل مرة أخرى.
والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده مِمَّنْ تريده؛ فإنْ كان الأمر مُسهَّلاً، فالمُراودة تنتهي إلى شيء ما، وإنْ تأبَّى الطرف(11/6904)
الثاني بعد أن عرفَ المراد؛ فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي كنت تصبو إليه.
وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلام، أي: طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه لِيُخرِجه عمَّا هو فيه إلى ما تطلبه.
ومن قبْل كان يوسف يخدمها، وكانت تنظر إليه كطفل، أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف الأمر، ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئاً؛ وحين يقدمه لها تقول له «لماذا تقف بعيداً؟» وتَدعوه ليجلس إلى جوارها، وهو لن يستطيع الفكاك؛ لأنه في بيتها؛ وهي مُتمكِّنة منه؛ فهي سيدة القصر.
وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات؛ فهو قد تربَّى في بيتها؛ وهي التي تتلطف وترقُّ معه، وفَهِم هو مرادها.
وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍٍ غير مكشوف، فقال تعالى:
{وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبواب ... } [يوسف: 23] .
وكلمة: {وَغَلَّقَتِ الأبواب ... } [يوسف: 23] .
توضح المبالغة في الحدث؛ أو لتكرار الحَدث، فهي قد أغلقت أكثرَ من باب. ونحن حين نحرك المزلاج لنؤكد غَلْق الباب، ونحرك المفتاح، ونديره لتأكيد غَلْق الباب.(11/6905)
فهذه عملية أكبر من غَلْق الباب؛ وإذا أضفنا مِزْلاجاً جديداً نكون قد أكثرنا الإغلاق لباب واحد؛ وهكذا يمكن أن نَصِفَ ما فعلنا أننا غلّقنا الباب.
وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلاق لأكثر من باب، فَقُصور العظماء بها أكثر من باب، وأنت لا تدخل على العظيم من هؤلاء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب، بل يجتاز الإنسان أكثر من باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله.
يحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة، فأمر معاوية باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق.
هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة الأريب أنها أُبهة ضرورية لإبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة، فسكتَ عنها عمر.
وحين استدعى معاوية الرجل، دخل بصحبة الحرس من باب، وظن أنه سوف يلقى معاوية فَوْر الدخول؛ لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب؛ فلم ينخلع قلب الرجل، بل دخل بثبات على معاوية وضَنَّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين، وقال بصوت عال:(11/6906)
«السلام على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» .
ففطن معاوية إلى أن الرجل يرفض مبايعته.
ونعود إلى الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ فنجد أن امرأة العزيز قد غلَّقتْ الأبواب؛ لأن مَنْ يفعل الأمر القبيح يعلم قُبْح ما يفعل، ويحاول أن يستر فِعْله، وهي قد حاولتْ ذلك بعيداً عن مَنْ يعملون أو يعيشون في القصر، وحدثتْ المراودة وأخذتْ وقتاً، لكنه فيما يبدو لم يَستجِبْ لها.
{وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ... } [يوسف: 23] أي: أنها انتقلتْ من مرحلة المُراودة إلى مرحلة الوضوح في طلب الفعل؛ بأن قالت: تهيأتُ لك؛ وكان ردُّه:
{قَالَ مَعَاذَ الله ... } [يوسف: 23] .
والمَعَاذ هو مَنْ تستعيذ به، وأنت لا تستعيذ إلا إذا خارتْ أسبابك أمام الحدث الذي تمرُّ به عَلَّك تجد مَنْ ينجدك؛ فكأن المسألة قد عَزَّتْ عليه؛ فلم يجد مَعَاذاً إلا الله.
ولا أحد قادر على أن يتصرف هكذا إلا مَنْ حرسه الله بما أعطاه له من الحكمة والعلم؛ وجعله قادراً على التمييز بين الحلال والحرام.
ولبيان خطورة وقوة الاستعاذة نذكر ما ترويه كتب السيرة من «أن(11/6907)
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عقد على ابنة ملكٍ؛ كانت شديدة الجاذبية، وشعرت بعض من نساء النبي بالغيرةَ منها، وقالت واحدة منهن لعلها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: إن تزوجها ودخل بها قد يفضلها عنَّا. وقالت للعروس: إن النبي يحب كلمة ما، ويحب مَنْ يقولها. فسألت الفتاة عن الكلمة، فقالت لها عائشة: إن اقترب منك قولي» أعوذ بالله منكِ «.
فغادرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال:» قد عُذْتِ بمعاذ «وسرَّحها السراح الجميل» .
وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلام، نجدها قد قالت لحظة أن تمثَّل لها الملاك بشراً سوياً: {إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] .
فهي استعاذت بمَنْ يقدر على إنقاذها.(11/6908)
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [يوسف: 23] ، وأعطانا هذا القول معنيين اثنين:
الأول: أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحتْ ما تريد.
والمعنى الثاني: أنه طلب المعونة من الله، وهو سبحانه مَنْ أنجاه من كيد إخوته؛ ونجَّاه من الجُبِّ؛ وهيَّأ له أفضل مكان في مصر، ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه لأشُدَّه. وبعد كل هذا أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية؟ طبعاً لا.
أو: أنه قال: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] .
ليُذكِّر امرأة العزيز بأن لها زوجاً، وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لها: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف: 21] .
فالصعوبة لا تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها؛ بل الصعوبة تزداد سوء لأن لها زوجاً فليست خالية، وهذا الزوج قد طلب منها أن تُكرِم يوسف، وتختار له مكانَ إقامةٍ يليق بابن، ولا يمكن أن يُستَقبل ذلك بالجحود والخيانة.
وهكذا يصبح قول يوسف: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] .
قد يعود على الله سبحانه؛ وقد يعود على عزيز مصر.(11/6909)
وتلك مَيْزة أسلوب القرآن؛ فهو يأتي بعبارة تتسع لكل مناطات الفهم، فما دام الله هو الذي يُجازي على الإحسان، وهو مَنْ قال في نفس الموقف: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] فمعنى ذلك أن مَنْ يسيء يأتي الله بالضد؛ فلا يُفلح؛ لأن القضيتين متقابلتان: {وكذلك نَجْزِي المحسنين} [يوسف: 22] .
و {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [يوسف: 23] .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ... } .(11/6910)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
والهَمُّ هو حديث النفس بالشيء؛ إما أن يأتيه الإنسان أو لا يأتيه. ومن رحمة ربنا بخلْقه أن مَنْ هَمَّ بسيئة وحدَّثتْه نفسه أن يفعلها؛ ولم يفعلها كُتِبتْ له حسنة.
وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها، والامتناع الذي كان منه، واقتضى ذلك الأمر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء.
فأحد الاثنين امرأة العزيز يقول الله في حقها:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف: 24] .
وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الآية السابقة موقفها حين قالت: «هيت لك» وكذلك بيَّن موقف يوسف عليه السلام حين قال يوسف «معاذ الله» .
وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضاً؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن رأى برهان ربه.
ويكون فَهْمُنا للعبارة: ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها؛ لأننا نعلم أن «لولا» حرف امتناع لوجود؛ مثلما نقول: لولا زيد عندك لأتيتك.
ولقائل أن يقول: كيف غابت قضية الشرط في الإيجاد والامتناع عن الذين يقولون؛ إن الهم قد وُجِد منه؟(11/6911)
ولماذا لم يَقُل الحق: لقد همَّتْ به ولم يهم بها؛ حتى نخرج من تلك القضية الصعبة؟
ونقول: لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القولُ اللقطةَ المطلوبة؛ لأن امرأة العزيز هَمَّتْ به لأن عندها نوازع العمل؛ وإنْ لم يَقُلْ لنا أنه قد هَمَّ بها لظننا أنه عِنِّين أو خَصَاه موقف أنها سيدته فخارتْ قواه.
إذن: لو قال الحق سبحانه: إنه لم يَهِمّ بها؛ لكان المانع من الهَمِّ إما أمر طبيعي فيه، أو أمر طاريء لأنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهَمِّ بها.
ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعياً وهو قد بلغ أشُدَّه ونُضْجه؛ ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها.
وهكذا لم يَقُمْ يوسف عليه السلام بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ولا لأن الموقف كان مفاجأة ضَيَّعَتْ رجولته بغتة؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف، حين لا يستطيع أن يَقربَ عروسه؛ وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه. ويقرب عروسه.
إذن: لو أن القرآن يريد عدم الهَمِّ على الإطلاق؛ ومن غير شيء، لَقَال: ولقد هَمَّتْ به ولم يَهِم بها.(11/6912)
ولكن مثل هذا القول هو نَفْيٌ للحدث بما لا يستلزم العفة والعصمة، لجواز أن يكون عدم الهَمِّ راجعاً إلى نقص ما؛ وحتى لا يتطرق إلينا تشبيهه ببعض الخدم؛ حيث يستحي الخادم أن ينظر إلى البنات الجميلات للأسرة التي يعمل عندها؛ ويتجه نظره إلى الخادمة التي تعمل في المنزل المجاور، لأن للعواطف التقاءات.
ومن لُطْفِ الله بالخلق أنه يُوجِد الالتقاءات التفاعلية في المتساويات، فلا تأتي عاطفة الخادم في بعض الأحيان ناحية بنات البيت الذي يعمل عنده؛ وقد يطلب من أهل البيت أن يخرج لشراء أي شيء من خارج المنزل، لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة الجيران.
ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو هَمَّ بواحدة من بنات الأسرة التي يعمل لديها؛ فقد تطرده الأسرة من العمل؛ بينما هو يحيا سعيداً مع تلك الأسرة.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الأحيان.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] .
إذن: فبرهان ربه سابق على الهَمِّ، فواحد هَمّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهمّ؛ لأن برهان ربه في قلبه، وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.(11/6913)
وبذلك تنتهي المسألة، ولذلك فلا داعي أن يدخل الناس في متاهات أنه هَمّ وجلس بين شعبتيها، ولم يرتعد إلا عندما تمثِّل له وجه والده يعقوب ونهاه عن هذا الفعل؛ فأفسقُ الفُسّاق ولو تمثَّل له أبوه وهو في مثل هذا الموقف لأصيب بالإغماء.
وحين تناقش مَنْ رأى هذا الرأي؛ يردّ بأن هدفه أن يثبت فحولة يوسف؛ لأن الهمّ وجد وأنه قد نازع الهمّ.
ونقول لصاحب هذا الرأي: أتتكلم عن الله، أم عن الشيطان؟ .
أنت لو نظرتَ إلى أبطال القصة تجدهم: امرأة العزيز؛ ويوسف والعزيز نفسه؛ والشاهد على أن يوسف قد حاول الفِكَاك من ذلك الموقف، ثم النسوة اللاتي دَعتْهُنَّ امرأة العزيز ليشاهدوا جماله؛ والله قد كتب له العصمة.
فكُلُّ هؤلاء تضافروا على أن يوسف لم يحدث منه شيء.(11/6914)
وقال يوسف نفسه: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] وامرأة العزيز نفسها قالت مُصدِّقة لِمَا قال: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] .
وقالت: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 51 - 52] .
وعن النسوة قال يوسف: {مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .
وقال يوسف لحظتها: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] .
والصَّبْوة هي حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلام على الفعل، وحماه الله من الصبوة؛ لأن الحق سبحانه قد قال:(11/6915)
{فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] .
وانظر إلى لقطة النسوة اللاتي تهامسْنَ بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف، ألم يَقُلْنَ: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] ، فحين دخل عليهن اتجهت العيون له، وللعيون لغات؛ وللانفعال لغات؛ وإلا لماذا قال يوسف: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 33] .
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مُقدِّمات تدل على أن النسوة نَويْنَ له مثل ما نَوَتْه امرأة العزيز؛ وظَننَّ أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هُنَّ؛ وهذا دَأب البيوت الفاسدة.
وهل هناك أفسد من بيت العزيز نفسه، بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودتْ يوسف عن نفسه؛ فيدمدم العزيز على الحكاية، ويقول: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29] .
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال.
وحين سأل الشاهد النسوة، بماذا أَجبْنَ؟
يقول الحق سبحانه أن النسوة قُلْنَ:(11/6916)
{مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} [يوسف: 51] .
وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائماً بالغُواية، وهو لا يدخل أبداً في معركة مع الله؛ ولكنه يدخل مع خَلْق الله؛ لأن الحق سبحانه يورد على لسانه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82 - 83] .
فالشيطان نفسه يُقِرُّ أن مَنْ يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عَن غوايته، ولا يجرؤ على الاقتراب منه.
والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز، واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 27] .(11/6917)
وبعد كل هذه الأدلة فليس من حَقِّ أحد أن يتساءل: هل هَمَّ يوسف بامرأة العزيز، أم لم يَهِمّ؟
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه:
{لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] .
والبرهان هو الحجة على الحكم. والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] .
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] .
أي: لا بُدَّ أن يبعث الحقُّ رسولاً للناس مُؤيداً بمعجزة تجعلهم يُصدِّقون المنهج الذي يسيرون عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني، ولا يعذبهم الله في الآخرة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله:
{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] .
والفحشاء هي الزنا والإتيان؛ والسوء هي فكرة الهَمِّ، وبعض المعتدلين قالوا: إنها بعد أن راودتْه عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى(11/6918)
مرحلة السُّعَار لحظة أن سبقها إلى الباب؛ فكَّرتْ في أن تقتله؛ وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها، ولو قتلها فلسوف يُجازى كقاتل.
فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق «السوء» ؛ ولكني اطمئن إلى أن السوء هو فكرة الهَمِّ، وهي مُقدِّمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلام من عباده المُخْلصين، وفي هذا رد على الشيطان؛ لأن الشيطان قال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 83] .
وقوله الحق هنا:
{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] يؤكد إقرار الشيطان أنه لن يَقْرب عباد الله المخلصين. وهناك «مُخْلِصِين» . و «مُخْلَصِين» والمخلِص هو مَنْ جاهد فكسب طاعة الله، وَالمُخْلَص هو مَنْ كسَب فجاهد وأَخلصه الله لنفسه.
وهناك أُناس يَصِلُون بطاعة الله إلى كرامة الله، وهناك أُناس(11/6919)
يكرمهم الله فيطيعون الله ولله المثل الأعلى مُنزَّه عن كل تشبيه، أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من فضل الله عليك؛ فتستضيفه وتُكرمه، ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحداً لتعطيه من فضل الله عليك، أي: أن هناك مَنْ يطلب فتأذن له، وهناك مَنْ تطلبه أنت لتعطيه.
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وأَخْذٍ ورَد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما حدث من حركة، فيقول تعالى: {واستبقا الباب ... } .(11/6920)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
وعرفنا أن كلاهما حاول الوصول إلى الباب قبل الآخر؛ وتسابقا في هذا الاستباق، ونلحظ أن الحق سبحانه يذكر هنا باباً واحداً؛ وكانت امرأة العزيز قد غلَّقَتْ من قبل أكثر من باب.
لكن قول الحق سبحانه:
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب} [يوسف: 25] .(11/6920)
يدلنا على أنها لحقتْ بيوسف عند الباب الأخير؛ وهي قد استبقتْ مع يوسف إلى الأبواب كلها حتى الباب الأخير؛ لأنها تريد أن تغلق الباب لتسد أمامه المنفذ الأخير، وهذا الاستباق يختلف باختلاف الفاعل فهي تريده عن نفسه، وهو يريد الفرار من الموقف، ثم قدَّتْ قميصه من دُبر.
هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب؛ فشدَّته من قميصه من الخلف، وتمزَّق القميص في يدها، وقد محَّص الشاهد الذي هو من أهلها تلك المسألة ليستنبط من الأحداث حقيقة ما حدث.
وقوله تعالى:
{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الباب} [يوسف: 25] .
أي: حدثت لهما المفاجأة، وهي ظهور عزيز مصر أمامهما؛ وصار المشهد ثلاثياً: امرأة العزيز؛ ويوسف؛ وزوجها.
وهنا ألقت المرأة الاتهام على يوسف عليه السلام في شكل سؤال تبريري للهروب من تبعية الطلب، وإلقاء التهم على يوسف:
{قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا} [يوسف: 25] .
ثم حددت العقاب:
{إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] .
ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلام:(11/6921)
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] .
وهنا وجد عزيز مصر نفسه بين قوليْنِ مختلفين؛ قولها هي باتهام يوسف؛ وقوله هو باتهامها، ولا بُدَّ أن يأتي بمَن يفصِل بين القولين، وأن يكون له دِقَّة استقبال وفَهْم الأحداث.
ويتابع الحق سبحانه: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي ... } .(11/6922)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
وتأتي كلمة «شاهد» في القرآن بمعانٍ متعددة.(11/6922)
فهي مرَّة تكون بمعنى «حضر» ، مثل قول الحق سبحانه: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] .
وتأتي مرَّة بمعنى «علم» ، مثل قوله سبحانه: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] .
وتأتي «شهد» بمعنى «حكم وقضى» أي: رجَّح كلاماً على كلام لاستنباط حق في أحد الاتجاهين. والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من ناحية المحكوم عليه، وهو امرأة العزيز، فلو كان من طرف المحكوم له لَرُدَّتْ شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعياً: امرأة العزيز، ويوسف، وعزيز مصر، والشاهد، وحملت الآية نصف قول الشاهد:
{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] .
لأن معنى هذا والواقع لم يكن كذلك أن يوسف عليه السلام وهو مَنْ أقبل عليها؛ تدلَّى منه ثوبه على الأرض، فتعثر فيه، فتمزَّق القميص. ويتابع الله قول الشاهد: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ. .} .(11/6923)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
أي: أن قميص يوسف عليه السلام إن كان قُدَّ من الخلف؛ فيوسف صادق، وامرأة العزيز كاذبة.
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الأساس الذي سينظر به إلى الأمر، وهو إطار دليل الإثبات.
وهذا ما تشرحه الآية التالية، فيقول سبحانه: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ... } .(11/6924)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ ... } [يوسف: 28] ، يدلُّ على أنه رتّب الحكم قبل أن يرى القميص، وقرر المبدأ أولاً في غيبة رؤية القميص، ثم رآه بعدها، وهكذا جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز:
{قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] .
والكيد كما نعلم هو الاحتيال على إيقاع السوء بخفاء، ويقوم به(11/6924)
مَنْ لا يملك القدرة على المواجهة، وكَيْد المرأة عظيم؛ لأن ضعفها أعظم.
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان الزوج: {يُوسُفُ أَعْرِضْ ... } .(11/6925)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
وبهذا القول من الزوج أنهى الحقُّ سبحانه هذا الموقف الرُّباعي عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يُقِرُّ أن امرأته قد أخطأت، ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر لِيَكتمه.
وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم، وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضاً؛ فنجد الرجل ذا الجاه وهو يتأبَّى أن يرى أهله في خطيئة، ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغيرُ أهله في مثل هذه القضية، ويحاول كتمان الأمر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف، ولا يريد أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه.
وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده، وهو قضية الإيمان، وهي(11/6925)
لا تزال متغلغلة حتى في المنحرفين والمتسترين على المنحرفين، فعزيز مصر يقول ليوسف:
{أَعْرِضْ عَنْ هذا ... } [يوسف: 29] .
ويقول لزوجته:
{واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29] .
وهو في قوله هذا يُقِرُّ بأن ذنباً قد وقع؛ وهو لن يُقِرَّ بذلك إلا إذا كان قد عرف عن الله منهجاً سماوياً، وهو في موقف لاَ يسعه فيه إلا أن يطلب منها أن تستغفر الله.
وبعد أن كان المشهد رباعياً: فيه يوسف، وامرأة العزيز، والعزيز نفسه، ثم الشاهد الذي فحص القضية وحكم فيها، ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعتْ فيه القضية.
وهذا يدل على أن القصور لا أسرار لها؛ لأن لأسرار القصور عيوناً تتعسس عليها، وألسنة تتكلم بها؛ حتى لا يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لأن هناك مَنْ سوف يكشفها مهما بلغتْ قدرة صاحبها على التستُّر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة.(11/6926)
ويحكي القرآن الموقف قائلاً: {وَقَالَ نِسْوَةٌ. .} .(11/6927)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
وكلمة «النسوة» ، وكلمة «نساء» تدلُّ على الجماعة، لكن مفردَ كلٍّ منهما ساقط في اللغة، فمفرد «نسوة» امرأة؛ ومفرد «نساء» أيضاً هو «امرأة» .
ومن العجيب أن المفرد، وهو كلمة «امرأة» له مثنى هو «امرأتان» ، لكن في صيغة الجمع لا توجد «امراءات» ، وتوجد كلمة نسوة اسم لجماعة الإناث، واحدتها امرأة، وجمعها نساء.
وقد قالت النسوة: {امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 30] .
وما قُلْنَه هو الحق؛ لكنهن لم يَقُلْنَ ذلك تعصباً للحق، أو تعصباً للفضيلة.(11/6927)
وشاء سبحانه أن يدفع هذه المقالة عنهن، ففضح الهدف المختفي وراء هذا القول في الآية التالية حين قال: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ... } [يوسف: 31 - 32] .
والمكر هو سَتْر شيء خلف شيء، وكأن الحق يُنبِّهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبةً للحق؛ ولا تعصباً للفضيلة، ولكنه الرغبة للنِّكاية بامرأة العزيز، وفَضْحاً للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
وأردْن أيضاً شيئاً آخر؛ أن يُنزِلْنَ امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فَأتيْنَ بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يُوصَفُ بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة «العزيز» مأخوذة من المعاني الحسية.(11/6928)
فيُقال: «الأرض العَزَاز» أي: الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها، ولا يقدر أحد أنْ يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة «العزيز» .
فكيف بامرأة العزيز حين تصير مُضْغة في الأفواه؛ لأنها راودتْ فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة.
وقالت النسوة أيضاً:
{قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} [يوسف: 30]
والحب منازل؛ وأول هذه المنازل «الهوى» مثل: شقشقة النبات، ويُقال: «رأى شيئاً فهواه» .(11/6929)
وقد ينتهي هذا الهَوَى بلحظة الرؤية، فإذا تعلَّق الإنسان بما رأى؛ انتقل من الهوى إلى العَلاقة.
وبعد ذلك يأتي الكلف؛ أي: تكلَّف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العَلاقة. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مرتبة فيها التقاء وهي العشق، ويحدث فيها تبادل للمشاعر، ويعلن كل طرف كَلَفه؛ ولذلك يسمونه «عاشق ومعشوق» .
ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها «التدليه» ؛ أي: يكاد أن يفقد عقله. ثم يصير الجسم إلى هُزَال ويقال «تبلت الفؤاد» أي: تاه الإنسان في الأمر.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهُيَام، أي: يهيم الإنسان على(11/6930)
وجهه؛ فلا يعرف له هدفاً، فإن تبع ذلك جرم صار اسمه «جوى» .
تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب، والقلب كما نعلم هو الجهاز الصنوبري، ويسمونه مَقَرّ العقائد المنتهية، والتي بحثها الإنسان واعتقدها بالفعل.
فالإنسان منا يدرك الأشياء بحواسه الظاهرة، يرى ويشُمُّ ويسمع ويذوق ويلمس، فإذا أدرك بعضاً من الأمور؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها؛ ويختار الأكثر قبولاً منه، وبعد ذلك تذهب تلك الأمور المقبولة إلى القلب؛ لتستقر عقيدة فيه لا يحيد عنها.
أما المسائل العقلية؛ فقد تأتي مسائل أخرى تزحزحها؛ ولذلك يُقال للأمور التي استقرت في القلب «عقائد» ، أي: شيء معقود لا ينحل أبداً.
وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه، وإذا ما استقر المبدأ في نفس الإنسان؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده.
وهكذا نعرف: كيف تمرُّ العقيدة بعدَّة مراحل قبل أن تستقر في النفس، فالإدراك يحدث أولاً؛ ثم التعقُّل ثانياً؛ وبعد ذلك يعتقد(11/6931)
الإنسان الأمر، ويصبح كل سلوك من بعد ذلك وِفْقاً لما اعتقده الإنسان.
وكلمة: {شَغَفَهَا حُبّاً. .} [يوسف: 30] .
تعني أن المشاعر انتقلتْ من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها، والشغاف هو الغِشَاء الرقيق الذي يستر القلب؛ أي: أن الحب تمكَّن تماماً من قلبها.
وقولهن:
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 30] .
هو قول حَقٍّ أُريد به باطل.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح مَقْصِدهن: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ... } .(11/6932)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
ولسائل أن يقول: وكيف انتقل لَهُنَّ الكلام عن الذي حدث بينها وبين يوسف؟
لا بُدَّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر؛ وكان أبطاله أربعة هم: العزيز، وامرأته، ويوسف، والشاهد، ولا بد أن يكون مَنْ نقل الكلام إلى خارج القصر؛ إنسان له علاقتان؛ علاقة بالقصر فسمع ورأى وأدرك؛ ونقل ما علم إلى مَنْ له به علاقة خارج القصر.
وبحث العلماء عن علاقة النسوة اللاتي ثرثرن بالأمر، وقال العلماء: هُنَّ خمسة نساء: امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة الحاجب، وامرأة صاحب الدواب (أي: سائس الخيل) ، وامرأة السجان.
وهؤلاء النسوة يَعِشْنَ داخل بيوتهن؛ فمَنِ الذي نقل لَهُنَّ أسرار القصر؟
لا بُدَّ أن أحداً من أزواجهن قد أراد أن يُسلِّي أهله، فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام؛ ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة.
وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر؛ وكيف يمكرن بها؛ أرسلت إليهن:
{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً. .} [يوسف: 31] .
والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه الإنسان حتى لا يطول به مَلَلٌ(11/6933)
من كيفية جِلْسته، والمقصود بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها، وقد خططتْ لتكشف وَقْعَ رؤية يوسف عليهن، فقدَّمتْ لكل منهن سكيناً؛ وهو ما يوحي بأن هناك طعاماً سوف يؤكل.
ويتابع الحق سبحانه:
{وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ... } [يوسف: 31] .
ويُقال: أكبرْتَ الشيء، كأنك قد تخيَّلته قبل أن تراه على حقيقته؛ وقد يكون خيالك قد رسم له صورة جميلة، إلا أنك حين ترى الشيء واقعاً؛ تكبر المرائي عن التخيُّل.
والمثل أن إنساناً قد يُحدِّثك بخير عن آخر؛ ولكنك حين ترى هذا الآخر تُفاجأ بأنه أفضل مما سمعتَ عنه.
والشاعر يقول:
كَادَتْ مُسَاءلةُ الرُّكْبانِ تُخبِرني ... عن جَعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ القيم
حتَّى التقيْنَا فَلا واللهِ مَا سَمِعتْ ... أُذني بأطيبَ مِمَّا قَدْ رأى بَصَرِي
ويقولون في المقابل: سماعك بالمعيدي خير من أن تراه. أي: يا ليتك قد ظللتَ تسمع عنه دون أن تراه؛ لأن رؤيتك له ستُنقِص من قدر ما سمعت.(11/6934)
وهُنَّ حين آذيْنَ امرأة العزيز بتداول خبر مُراودتها له عن نفسه، تخيَّلْنَ له صورةً ما من الحُسْن، لكنهُنَّ حين رأَيْنَهُ فاقتْ حقيقته المرئية كل صورة تخيَّلْنَها عنه؛ فحدث لهُنَّ انبهار.
وأول مراحل الانبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدده؛ فإن كان في يدك شيء قد يقع منك.
وقد قطعتْ كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة، أو الطعام المُقدَّم لَهُنَّ.
وقال الحق سبحانه في ذلك:
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] .
وهل هناك تصوير يوضح ما حدث لَهُنَّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟
ويتابع سبحانه:
{وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] .(11/6935)
وكلمة: {حَاشَ ... } [يوسف: 31] .
هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خَلْق هذا الجمال المثالي، أو: أنهُنَّ قد نَزَّهْنَ صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز، أو: أن يوسف عليه السلام لا بد أن يكون قد خرج عن صورة أرقى من صورة الإنس التي يعرفنها؛ فقُلْنَ: لا بدّ أنه مَلَكٌ كريم.
وصورة الملك كما نعلم هي صورة مُتخيَّلة؛ والإنسان يحكم على الأشياء المُتَخيَّلة بما يناسب صورتها في خياله، مثلما نتخيل الشيطان كأبشع ما تكون الصورة.
والبشاعة نفسها تختلف من واحد إلى آخر؛ فما تراه بَشِعاً قد لا يراه غيرك كذلك؛ لأن مقاييس القبح أو الجمال تختلف من أمة إلى أخرى.
فالمرأة الجميلة في أواسط أفريقيا في نظر الرجل هي ذات الشفاه الغليظة جداً؛ أو صاحبة الشعر المُجعَّد والمُتموج.
وأكدت الحضارة الحديثة أن هذا لونٌ من الجمال ينجذب إليه الرجل في بعض الحالات؛ بدليل أن بعضاً من السيدات ذوات الشعر الناعم للغاية يذهبْن إلى مُصفِّفة الشعر، ويطلبْنَ منها تجعيد شعورهن.(11/6936)
إذن: فالجمال يُقاس بالأذواق؛ هذا يرى جمالاً قد يراه غيره غير هذا؛ وذاك يرى جمالاً لا يراه غيره كذلك.
والحق سبحانه يقذف معايير الجمال في النفس الإنسانية على قَدْر مُقوِّمات الالتقاء في الانسجام.
ولذلك يُقال في الريف المصري هذا المثل «كل فُولة ولها كَيَّال» .
ونجد شاباً يتقدم لفتاة يرغب في الزواج منها؛ وما أنْ يراها حتى ينفر منها، ويتقدم لها شاب آخر فيقع في هَواها، ويتعجَّل الزواج منها، وهذا يعني أن مقاييس الأول تختلف عن مقاييس الثاني.
وحين يشاء الحق سبحانه أن يجمع بين اثنين فلا أحدَ بقادر على أن يمنع القبول من كل طرف للطرف الآخر؛ وهذه مسألة لها من الأسرار ما لا نعرفه نحن؛ لأنه سبحانه الذي يكتب القبول؛ ويُظهِر في المرأة جمالاً قد يجذب رجلاً ولا يجذب رجلاً آخر، ونفسَ المسألة تحدث في نفسية المرأة.
إذن: فحين رأت النسوة يوسف عليه السلام؛ قُلْنَ:
{مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] .
وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي لا يوجد لها مثيل في البشر.(11/6937)
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز رداً عليهن: {قَالَتْ فذلكن ... .} .(11/6938)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وكأنها وجدت الفرصة لتثبت لنفسها العذر في مراودتها له، فيوسف باعترافهن قد بلغ من الجمال ما لا يوجد مثله في البشر.
وقولها: {فذلكن} [يوسف: 32] ، مُكوَّن من «ذا» إشارة ليوسف، و «ذلِكُنَّ» خطاب للنسوة، والإشارة تختلف عن الخطاب.(11/6938)
وهنا موقف أسلوبي؛ لأن الكلام حين يُنطق به، أو حين يُكتب لِيُقْرأ؛ له ألوان متعددة، فمرة يكون نثراً لا يجمعه وزن أو قافية؛ وقد يكون نثراً مسجوعاً أو مُرْسَلاً، ومرة يكون الكلام شعراً محكوماً بوزن وقافية.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور} [الطور: 1 - 4] .
وهذا نثر مسجوع بلا تكلُّف، وأنت إذا سمعت أو قرأت كلاماً؛ فأذنك تأخذ منه على قدر سُمُوِّ أسلوبه، لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب، فأذنك تلتقط الفارق بين الأسلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفاً ابن جهور: «(11/6939)
هذا العَتْب محمودٌ عواقبه، وهذه الغَمْرة نَبْوة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي إنْ أبطأ سببه أو تأخر، غير ضنين ضناه، فأبطأ الدِّلاء قَبْضاً أملؤها، وأثقلُ السحابِ مشياً أعقلها، ومع اليوم غد. ولكل أجل كتاب، له الحمد على اهتباله، ولا عَتْب عليه في اغتفاله.
فإنْ يَكُن الفعلُ الذي سَاء واحداً ... فَأفْعالُه اللاتي سَرَرْنَ أُلوفُ
وهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر، ولكنك وأنت تقرأ القرآن، تنتقل من النثر المُرْسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر، فلا تكاد تفرق في الأسلوب بين شعر أو نثر.
والمثل نجده في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي} [يوسف: 32] .
فهي موزونه من بحر البسيط، ولكنك لا تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النور: 46] .
وأيضاً قوله الحق: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} [الحجر: 49] .(11/6940)
وتأتي تلك الآيات في مواقع قد يكون ما قبلها نثراً، مما يدلُّ على أن النغم الذي قاله الله نَظْماً أو شعراً أو نثراً لا نشاز فيه، ويكاد أن يكون سَيْلاً واحداً.
وهذا لا يتأتَّى إلا من كلام الحق تبارك وتعالى، وأنت لن تشعر بهذا الأمر لو لم يُنبِّهْك أحد لِمَا في بعض الآيات من وزن شعري.
أما كلام البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أحسَّتْ أُذنك بهذا الانتقال؛ ونفس المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور، ثم تنتقل إلى الموزون؛ وستشعر أذنك بهذا الانتقال.
{قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] .
قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف، وأعلنت أنه» استعصم «، وهذا يعني أنه قد تكلَّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل، وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة، فقد جاهد نفسه لِيكبتَها عن الفعل.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز:
{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32] .
قالت ذلك وكأنها هي التي تُصدِر الأحكام، والسامعات لها هُنَّ من أكبرْنَ يوسف لحظة رؤيته؛ تعلن لهُنَّ أنه إن لم يُطِعْها فيما(11/6941)
تريد؛ فلسوف تسجنه وتُصغِّر من شأنه لإذلاله وإهانته.
أما النِّسْوة اللاتي سَمِعْنَها؛ فقد طمعتْ كل منهن أن تطرد امرأة العزيز يوسف من القصر؛ حتى تنفرد أي منهن به.
ولذلك يُورِد لنا الحق سبحانه قول يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ ... } .(11/6942)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
ولسائل أن يقول: ولماذا جاء قول يوسف بالجمع، وقال:
{السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33] .
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت: {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ} [يوسف: 32] .(11/6942)
ونقول: لا بُدَّ أن يوسف عليه السلام قد رأى منهن إشاراتٍ أو غمزات تُوحي له بألاّ يُعرض نفسه لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلام في قوله المفرد امرأة العزيز في جمع النسوة اللاتي جمعتُهنَّ امرأة العزيز، وهُنَّ اللاتي طلبْنَ منه غَمْزاً أو إشارة أن يُخرج نفسه من هذا الموقف.
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لاستمالته، وللعيون والانفعالات وقَسَمات الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات، وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَلَّتْ يوسف على المراد الذي تطلبه كل واحدة منهن، وفي مثل هذه الاجتماعات تلعب لغة العيون دوراً هاماً.
وها هو ذا أبو دلامة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة، وكان أبو دلامة مشهوراً بقدرة كبيرة على الهجاء. وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له: عزمتُ عليك إلا هجوتَ واحداً منا.
ودارت عيون في المجلس، وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء إن ابتعد أبو دلامة عن هجائه؛ ولأن أبا دلامة معروفٌ بالطمع، وخشي أن يضيع منه أيُّ شيء من العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال:(11/6943)
ألا أبلغْ لدَيْك أباَ دلامة ... فليسَ منَ الكِرامِ ولاَ كرامه
إذَا لَبِسَ العِمَامةَ كان قِرداً ... وخِنْزِيراً إذا خلَع العِمَامه
وهكذا خرج من قسم الأمير؛ وكسب العطايا التي وعده بها من حضروا المجلس.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلام قد جمع امرأة العزيز مع النسوة؛ فقال:
{رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} [يوسف: 33] .
أي: أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء، أو يوافق النسوة على دعوتهن له أن يُحرِّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها، ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه، فقال:
{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] .
ولسائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلْ يوسف «يا إلهي» وهو يعلم أن مناط التكليف في الألوهية ب «افعل» و «لا تفعل» ؟
نقول: أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافاً بفضله سبحانه؛ لأنه هو جَلَّ وعلا مَنْ ربَّاه وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألاَّ يتخلى عنه في هذا الموقف.
فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف الله عنه كيدهُنَّ؛ لاستجاب لغوايتهن، ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفون إلى عواقب الأمور.(11/6944)
وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه؛ إلا أنه قد فضَّله على معصية خالقه، ولأنه لجأ إلى المُربِّي الأول. لتأتي الاستجابة منه سبحانه.
يقول الحق: {فاستجاب لَهُ ... } .(11/6945)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
وهكذا تفضَّل عليه الله الذي خلقه وتولّى تربيته وحمايته، فصرف عنه كيدهُنَّ؛ الذي تمثل في دَعْوتِهنَّ له أن يستسلم لِمَا دَعتْه إليه امرأة العزيز، ثم غُوايتهن له بالتلميح دون التصريح.
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء ... } [يوسف: 51] .
وهكذا أنجاه الله من مَكْر النسوة؛ وهو جَلَّ وعَلا له مُطْلق السمع ومُطْلق العلم، ولا يخفى عليه شيء، ويستجيب لأهل الصدق في الدعاء. ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ ... } .(11/6945)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
وبعد أن ظهرتْ العلامات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلام أمام العزيز وأهل مشورته، وانكشف لهم انحرافُ امرأة العزيز وإصرارها على أن تُوقِع بيوسف في الفعل الفاضح معها، دون خجل أو خوف من الفضيحة.
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلام في السجن؛ ليكون في ذلك فَصْلٌ بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر في بيت العزيز.
كما أن كلمة: {لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] .
فيها نوع من استبقاء الحب الذي يُكِنُّه العزيز ليوسف، فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيداً؛ بل احتفظ به بعيداً عن الزوجة المُصِرَّة على الخيانة، وعن المجتمع الذي يَلُوكُ تلك الوقائع.
والسجن كما نعلم هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه القاضي أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلال المسجون، أو وقاية المجتمع من شرِّه.
ونعلم أن الإنسان لا يجتريء على الأحكام إلا حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله غلبة؛ فيعلن له القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة، ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته سَجَّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الإهانة.
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة، حين تعزل المسجون عن المجتمع، وقد يعطف عليه بعض من أبناء(11/6946)
المجتمع، ويزوره بعضٌ من أقاربه؛ ومعهم المأكولات؛ والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ حين عزل المجتمع الإيماني عن السجين، وقد أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يُكلِّم أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَزْلاً عن الأهل، إلى أن أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
يقول الحق سبحانه: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن ... .} .(11/6947)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات، وقِيلَ: إنهما الخبَّاز والساقي، وقيل: إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على ما حدث من فضيحة كبرى؛ هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف؛ ورفض يوسف لذلك.
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة وضع السُّمِّ للعزيز.
وبعد فترة من حياة الاثنين مع يوسف داخل السجن، وبعد معايشة يومية له تكشَّف لهما سلوك يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حُلْماً، فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين، والسجين غالباً ما يكون كثير الوساوس، وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في الأمر الذي يُهِمهم:
{قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] .
ومن سياق الكلام نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمراً، ورأى الثاني أنه يحمل خُبْزاً فوق رأسه تأكل منه الطير، واتجه كلاهما أو كُلٌّ منهما على حِدَة يطلبان تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ، أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا الأمر الذي رأياه.(11/6948)
وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما:
{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] .
وهذا يدل على أن الإحسان أمر معلوم لكل البشر، حتى أصحاب النفوس المنحرفة، فلا أحد يمكن أن يحكم على آخر أنه محسن إلا إذا وافق عملُه مقاييسَ الإحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم.
فكل نفس تعرف السوء، وكل نفس تعرف الإحسان، ولكن الناس ينظرون إلى الإحسان وإلى السوء بذاتية أنفسهم، ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون، ونظروا إلى أيِّ أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الإحسان قَدْر مشترك بين الجميع.
ونجد اللص على سبيل المثال لا يسيئه أن يسرق أحداً، لكن يسيئه لو أن أحداً قام بسرقته، وهكذا نرى الإحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه، ويعرف حينئذ مقام الإحسان، ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجهاً منه إلى الغير؛ فهو يغفل عن مقام الإحسان.
إذن: إنْ أَردتَ أن تعرف مقام الإحسان في مقاييس الفضائل والأخلاق؛ فافهم الأمر بالنسبة لك إيجاباً وسَلْباً.
والمثال الذي أضربه دائماً هو: قبل أن تَمُدَّ عينيك إلى محارم غيرك، وتعتبر أن هذا ليس سوءً، هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ الأمر إلى الصورة العكسية؛ حين تتجه عيون الغير إلى محارمك.(11/6949)
هنا ستجد الميزان ميزانك للأمور وقد اعتدل.
وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر إلى الفعل يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من الأمرين ستجد قب الميزان منضبطاً.
وأقول دائماً: إن الحق سبحانه حين حرَّم عليك أن تسرق غيرك، لم يُضيِّق حريتك؛ بل ضيِّق حرية الملايين كي لا يسرقوك، وهذا مكسب لك.
إذن: فالذي يعرف مقام الإحسان؛ لا ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر من الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معاً؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين، وعَلِم يوسف عليه السلام من حكمهما عليه أن مقاييس الإحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى الأمر الذي جاءاه من أجله، واستغل هذه المسألة؛ لا لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة الإيمان بالإحسان؛ والإيمان بالمحسنين، فلماذا لا ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟
وكأنه قال لهما: ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن كلاً منكما قد رأى دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد لا تعرفان أن عندي بفضل الله ما هو أكثر، وهو ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الآية التالية:(11/6950)
{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا ... } .(11/6951)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وبذلك أوضح لهما أنهما لا يريان منه إلا الظاهر من السلوك، ولكن هناك أمور مخفية، وكأنه يُنمي فيهما شعورهما بمنزلته وبإحسانه وبقدرته على أن يخبرهما بأوصاف ونوع أيِّ طعام يُرزَقانِه قبل أن يأتي هذا الطعام.
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته، ولكنها من علم تلقَّاه عن الله، وهو أمر يُعلِّمه الله لعباده المحسنين؛ فيكشف الله لهم بعضاً من الأسرار.
وهما السجينان يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسناً الإيمان بالله. ولذلك يتابع الحق سبحانه:
{ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف: 37] .(11/6951)
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم الله بعضاً من هِبَات الخير، فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم.
وهذا يدلُّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى خير أكبر؛ وبذلك لا يحتجز الخصوصية لنفسه حتى لا يقطع الأسوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد في تجليات الله عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلام للسجينين أنه ترك مِلَّة قوم لا يؤمنون بالله بما يليق الإيمان به سبحانه، ولا يؤمنون بالبعث والحساب ثواباً بالجنة، أو عقاباً في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام: {واتبعت مِلَّةَ ... } .(11/6952)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وبذلك أوضح يوسف عليه السلام أنه ترك مِلَّة القوم الذين لا يعبدون الله حَقَّ عبادته، ولا يؤمنون بالآخرة، واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب، وهم مَنْ أرسلهم الله لهداية الخلق إلى التوحيد، وإلى الإيمان بالآخرة ثواباً بالجنة وعذاباً بالنار.
وذلك من فضل الله بإنزاله المنهج الهادي، وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه سبحانه؛ ولذلك ما كان لِمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بالله، فالشرك بالله يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
يقول الحق سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] .
فلو أن هناك آلهة غير الله سبحانه لصنع كلُّ إله شيئاً لا يقدر على صُنْعه الإله الآخر؛ ولأصبح الأمر صراعاً بين آلهة متنافرة.
ومن فضل الله هكذا أوضح يوسف عليه السلام أن أنزل منهجه على الأنبياء؛ ومنهم آباؤه إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه، وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من الله، بل أبلغوه للناس.
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] .
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة: {لاَ يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] اعلم أن الأمر الذي أنت بصدده هو في مقاييس العقل والفطرة(11/6953)
السليمة يستحق الشكر، ولا شُكْر إلا على النعمة.
ولو فَطِنَ الناس لَشكروا الأنبياء والرسل على المنهج الذي بلَّغوه عن الله؛ لأنه يهديهم إلى حُسْن إدارة الدنيا، وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين: {ياصاحبي السجن ... .} .(11/6954)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
وكلمة «صاحب» معناها ملازم؛ والجامع بين يوسف والسجينين هو السجن، ونحن نقول «فلان صاحب الدراسة» أو «صاحب حج» ، الشيء الذي يربط بين اثنين أو أكثر، إما أن تنسبه للمكان، أو تنسبه إلى الظرف الذي جمع بين تلك المجموعة من الصحبة.(11/6954)
وطرح يوسف السؤال:
{ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] وحين تطرح سؤالاً عبر مقابل لك، فأنت تعلم مُقدَّماً أنه يفهم أن أرباباً متفرقون ليسوا خيراً من إله واحد، وكأن يوسف قد وَثِق من أن إجابتهما لن تكون إلا بقولهم «بل عبادة إله واحد خير» .
وهو لم يكُنْ ليسأل إلاَّ إذا عرف أنهما سيُديرانِ كل الأجوبة؛ فلا يجدان جواباً إلا الجواب الذي أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة؛ وكان المفروض في مقاييس الأشياء أن تُغنِيكم تلك الآلهة عن اللجوء لمن يعبد الإله الواحد.
إذن: في قُوَى البشر نجد التعدد يُثْرِي ويُضخِّم العمل، لكن في الألوهية نجد الشرك يُضعِف العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول: اعمل لوجه واحد يكفيك كل الأوجه. ولذلك قال يوسف عليه السلام لصاحبي السجن:
{ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ ... } [يوسف: 39] .
ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ ذواتٍ لكانوا بلا كمال يستحقون من أجله العبادة، ولو كان تفرُّقهم تفرُّقَ تَكرار لما كان لهذا التكرار لزوم، ولو كان تفرُّقهم تفرُّق اختصاصات، فهذا يعني أن لكل منهم نقطةَ قوة ونقاطَ ضعف؛ وتفرُّقهم هذا دليل نقص.
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلهاً واحداً، فقال:(11/6955)
{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] .
وقد حاول يوسف عليه السلام أن يهديهم إلى عباد الإله الواحد، وقال لهم من بعد ذلك ما جاء به الحق سبحانه: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ ... } .(11/6956)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
ونلحظ أن يوسف عليه السلام لم يتكلم حتى الآن مع السجينين عن مطلوبهما منه، وهو تأويل الرُّؤيَتَيْنِ، وهو لو تكلم في المطلوب منه أولاً؛ لانصرف ذِهْن وانتباه كُلٍّ من السجينين إلى قضاء(11/6956)
حاجتهما منه؛ ولن يلتفتا بعد ذلك إلى ما يدعو إليه؛ ولأن الذي يدعو إليه هو الأمر الأبْقى، وهو الأمر العام الذي يتعلق بكل حركة من حركات الحياة.
وبذلك كان يوسف عليه السلام يؤثر السجينين؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى الأمر الجوهري قبل أن يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألانِ فيها؛ وأراد أن يُصحِّح نصرة الاثنين إلى المنهج العام الذي يدير به الإنسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي هذا إيثار لا أثرة.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلام:
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ ... } [يوسف: 40] .
أي: أن ما تعبدونه من آلهة مُتعدِّدة هو مُجرَّد عبادة لأسماء بلا معنى ولا وجود؛ أسماء ورثتموها عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم، فكفرتُمْ بإنشاء أسماء لآلهة غير موجودة، كما كفر آباؤكم كُفْر نسيان التكليف أو إنكار التكليف.
وتُوضع الأسماء عادةً للدلالة على المُسمَّى؛ فإذا نطقنا الاسم تجيء صورة المسمى إلى الذِّهْن؛ ولذلك نسمي المولود بعد ولادته باسم يُميِّزه عن بقية إخوته؛ بحيث إذا أُطلِق الاسم انصرف إلى الذات المشخصة.(11/6957)
وإذا أُطلق اسم واحد على متعددين؛ فلا بد أن يوضح واضع الاسم ما يميز كل ذات عن الأخرى.
والمَثل من الريف المصري؛ حين يتفاءل أب باسم «محمد» ؛ فيسمِّي كل أولاده بهذا الاسم، ولكنه يُميِّز بينهم بأن يقول: «محمد الكبير» و «محمد الأوسط» و «محمد الصغير» .
أما إذا وُضِع اسم لمُسمَّى غير موجود؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول، وهم قد وضعوا أسماء لآلهة غير موجودة؛ فصارت هناك أسماء على غير مُسمَّى.
ويأتي هؤلاء يوم القيامة؛ لِيُسألوا لحظة الحساب: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} [غافر: 73 - 74] .
وهكذا يعترف هؤلاء بأنه لم تَكُنْ هناك آلهة؛ بل كان هنا أسماء بلا مُسمَّيات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} [يوسف: 40] . وكأن يوسف يتساءل: ءَإذا كانت لكم حاجة تطلبونها من السماء، هل ستسألون الاسم الذي لا مُسمَّى له؟
وهل يسعفكم الاسم بدون مُسمَّى؟
ويوسف عليه السلام يعلم أن المعبود لا يمكن أن يكون اسماً بلا(11/6958)
مُسمَّى، وهو يعلم أن المعبود الحق له اسم يبلغه لرسله، ويُنزِل معهم المنهج الذي يوجز في «افعل» و «لا تفعل» .
وهم قد سموا أسماء لا مُسمَّى لها، ولا يستطيع غير الموجود أن يُنزِل منهجاً، أو يُجيب مضطراً.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلام في وَصْف تلك الأسماء التي بلا مُسمَّيات، فيقول:
{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] .
أي: ما أنزل الله بها من حجة.
وتتابع الآية الكريمة ما جاء على لسان يوسف:
{إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ... } [يوسف: 40] .
أي: إنني والكلام ليوسف إن قلتُ شيئاً فلأنِّي ناقلٌ للحكم عن الله، لا عن ذاتي؛ ولا من عندي؛ ولا عن هواي؛ لأنه هو سبحانه الذي أمر ألا تعبدوا إلا إياه، أي: لا تطيعوا أمراً أو نهياً إلا ما أنزله الله في منهجه الهادي للحق والخير.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة:
{ذلك الدين القيم ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] .
أي: أن هذا هو الدين المستقيم دون سواه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، بمعنى: أن الرسل قد بلَّغتهم بالمنهج،(11/6959)
ولكنهم لم يُوظِّفوا هذا العلم في أعمالهم.
ثم بدأ يوسف عليه السلام في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه: {ياصاحبي السجن ... } .(11/6960)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
وهكذا رجع يوسف عليه السلام إلى مطلب السجينين، وفسَّر رؤيا مَنْ يسقي الخمر بأنه سيخرج من السجن ويعود ليسقي سيده، وأما الآخر فلسوف يُصلَبُ وتأكل الطير من رأسه، لأن رمزية الرؤيا تقول: إن الطير سيأكل من رأسه؛ وهذا يعني أن رأسه ستكون طعاماً للطير.
وتأويل الرؤيا علم يقذفه الله في قلوب مَنْ علَّمهم تأويل الأحاديث، وهي قدرة على فَكِّ شَفْرة الحُلْم، ويعطيها الله لمَنْ يشاء من عباده.
وقد قال يوسف لمَنْ قال: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] .
أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها، وأما(11/6960)
الآخر فسيأكل من رأسه الطير. أي: سيُصلب كما أوحتْ بذلك رموز الرُّؤيا.
ونلحظ أن يوسف عليه السلام قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الاثنين صاحبي الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبًّا على الحكم؛ لا على المحكوم عليه، فقد سمع يوسف منهما؛ وهو لا يعرف مَنْ سينال البراءة، ومَنْ الذي سوف يُعاقب.
فنزع يوسف ذاته من الأمر، ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه؛ لأن الهوى يُلوِّن الحكم، ولا أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته، ولا بد للقاضي لحظة أن يصدر حكماً أن يتجرد تماماً من الهوى والذاتيات.
ويُعلِّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي(11/6961)
بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 21 - 24] .
وكان من ذكر عدد نِعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلام لِصفِّه؛ وكان يريد أن يُصوِّر الظلم الذي وقع عليه، وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم؛ وشعر داود أنه لم يُوفَّق في الحكم؛ لأنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالأخذ وحده كان هو المبرر عند داود لإدانة الذي أراد الاستيلاء على ما ليس من حقه؛ ولذلك اعتبر أن هذا الأمر كله فتنة لم يُوفَّق فيها، واستغفر الله بالركوع والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلام حكيماً حين قال تأويل الرُّؤيا متجرداً من الذاتية، وأنهى التأويل بالقول:
{قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] .
أي: أنه لا مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل؛ فقد جاء التأويل وفقاً لما علَّمه الله له.
وهناك الكثير من الروايات عما تحمَّله يوسف من صعاب قبل الجُبِّ وقبل السجن، وقيل: إن عمته ابنة إسحق، وهي أكبر أولاده؛ قد استقبلته بعد أن ماتت أمه لترعاه فتعلقت به؛ ولم تحب أحداً قَدْر محبتها له.(11/6962)
وتاقت نفس يعقوب إلى ولده؛ فذهب إليها وقال لها: سلِّمي إليَّ يوسف. لكنها قالت: والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، ولن أتركه.
فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها، عمدتْ إلى شيء من ميراث إبراهيم عليه السلام يتوارثه اكبر الأبناء، ووضعته تحت ملابس يوسف.
وكان العُرفُ الجاري أنه إذا سرق أحد شيئاً وتَمَّ ضبطه؛ تحول من حرٍّ إلى عبد، وحين كاد يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائداً إلى بيته؛ أعلنت العمة فقدان الشيء الذي أعطاه لها والدها إسحق؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته: والله إنه لَسَلْم أي عبد وكان العرف أن مَنْ يسرق شيئاً يتحول إلى عبد عند صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروماً من أبيه لفترة، ولم يستطع الأب استرداده إلا بعد أن ماتت العمَّة.
ثم جاءت حادثة الجُبِّ، ومن بعدها محاولة امرأة العزيز لِغُوايته، ورغم تيقُّن العزيز من براءته إلا أنه أُودِع السجن؛ ويقول الرواة:
«إن يوسف عليه السلام قد عُرف في السجن بالجود، والأمانة، وصدق الحديث، وحُسْن السمت، وكثرة العبادة، ومعرفة التعبير أي تأويل الرؤيا والإحسان إلى أهل السجن.(11/6963)
ولما دخل هذان الفَتيانِ معه السجن؛ تآلفا به وأحبَّاه حُبّاً شديداً وقالا له: والله لقد أحببناك حباً زائداً. قال: بارك الله فيكما؛ إنه ما من أحد أحبَّني إلا دخل عليَّ من محبته ضررٌ، أحبتني عمَّتي فدخل الضرر بسببها، وأحبَّني أبي فأوذيتُ بسببه، وأحبَّتني امرأة العزيز فكذلك.
أي: أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جَنَاه.
قال السجينان: إنا لا نستطيع غير ذلك» .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظَنَّ أنه سينجو من السجن: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ ... } .(11/6964)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
والمقصود هنا هو السجين الذي رأى حُلْماً يعصر فيه العنب، فهو الذي فسر له يوسف رؤياه بأنه سينجو؛ ويواصل مهمته في صناعة الخمر لسيده.(11/6964)
وقوله سبحانه:
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ. .} [يوسف: 42] .
يعني أن الأمر بالنجاة لم يتيقن بعد، ولم يصبح علماً.
وقد أوصاه يوسف عليه السلام:
{اذكرني عِندَ رَبِّكَ ... } [يوسف: 42] .
والذكر هو حضور شيء بالبال؛ وكان له بالبال صِلَة استقبال، مثل أي قضية عرفتَها من قبل ثم تركتَها، ونسيتَهَا لفترة، ثم تذكرتَها من جديد.
وهكذا نعلم أن للإنسان استقبالات للإدراكات، وهي لا تظل في بُؤْرة الشعور كل الوقت؛ لأن الذهن لا يستطيع أن يكون مشغولاً إلا بشيء واحد، فإن جاء شيء آخر فهو يزحزح الأمر الأول إلى حافة الشعور، ليستقر الأمر الجديد في بؤرة الشعور.
والمثل الذي أضربه دائماً هو إلقاء حجر في الماء، فيصنع الحجر دوائر تكبر ويتتابع اتساع أقطارها، وهكذا بؤرة الشعور، حين تستقبل أمراً أو خاطراً جديداً.
فالخاطر الجديد يُبعد كل الخواطر الأخرى من المركز إلى الحاشية، ثم يأتي ما يُذكِّرك بما في حاشية الشعور؛ ليعود لك الخاطر أو الأمر الذي كنت قد نسيتَه وتتذكره بكل تفاصيله؛ لأن ذاكرة الإنسان تعمل على مُسْتويين؛ فهي تحفظ المعلومات؛ وتسترجع المعلومات أيضاً.(11/6965)
وقد قال يوسف لمن ظن أنه نَاجٍ:
{اذكرني عِندَ رَبِّكَ. .} [يوسف: 42] .
أي: اذكر ما وجدته عندي من خير أمام سيدك.
وقال بعض المفسرين: إن يوسف عليه السلام حين نطق هذا القول؛ شاء له الله أن يمكث في السجن بضع سنين؛ فما كان ينبغي له كرسول أن يُوسِّط الغير في مسألة ذِكْره بالخير عند سيد ذلك السجين.
فيوسف كرسول إنما يتلقى عن الله بواسطة الوحي؛ وهو قد قال لذلك السجين وزميله: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] .
وهذا يعني أنه يستقبل عن الله مباشرة، وكان عليه أن يظل موصولاً بالمصدر الذي يفيض عليه.
ويتابع الحق سبحانه:
{فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] .
ونسيان ذكر الله فيه نوع من العقوبة، أو يحمل شيئاً من التأديب ليوسف، وهكذا نرى أن الشيطان نفسه إنما يُعِين الحق على مُرَاداته من خَلْقه.(11/6966)
وهذا ما يشرح لنا بقاء يوسف في السجن بضع سنين؛ ونعرف أن البِضْع من السنين يعني من ثلاث سنوات إلى عَشْر سنوات، وبعض العلماء حَدَّده بسبع سنين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ الملك ... } .(11/6967)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
والأرض التي وقعتْ عليها، وجَرَتْ فوقها تلك القصة هي مصر، وسبق أن عرفنا ذلك حين قال الحق سبحانه: {وَقَالَ الذي اشتراه مِن مِّصْرَ} [يوسف: 21] .
وهكذا نعرف أن هناك «ملك» ، وهناك «عزيز» .
ونحن نعلم أن حكام مصر القديمة كانوا يُسمَّوْنَ الفراعنة، وبعد أن اكتُشِفَ «حجر رشيد» ، وتم فَكُّ ألغاز اللغة الهيروغليفية؛ عرفنا(11/6967)
أن حكم الفراعنة قد اختفى لفترة؛ حين استعمر مصرَ ملوكُ الرُّعاة، وهم الذين يُسمَّوْنَ الهكسوس.
وكانت هذه هي الفترة التي ظهر فيها يوسف، وعمل يوسف وأخوه معهم، فلما استرجع الفراعنة حكم مصر طردوا الهكسوس، وقتلوا مَنْ كانوا يُوالونهم.
وحديث القرآن عن وجود مَلِك في مصر أثناء قصة يوسف عليه السلام هو من إعجاز التنبؤ في القرآن.
وساعة تقرأ:
{وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} [يوسف: 43] .
ثم يطلب تأويل رؤياه؛ فهذا يعني أنها رُؤيا منامية.
وكلمة: {سِمَانٍ} [يوسف: 43] .
أي: مُمْتلئة اللحم والعافية. وكلمة {عجاف} أي: الهزيلة؛ كما يُقال عند العامة «جلدها على عظمها» ؛ فكيف تأكل العجاف السمان؛ مع أن العكس قد يكون مقبولاً؟
وأضاف الملك:
{وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ... } [يوسف: 43] .
ولم يَصِف الملك أيَّ فعل يصدر عن السنابل، ثم سأل مَنْ حوله من أعيان القوم الذين يتصدرون صُدور المجالس، ويملأون العيون:(11/6968)
{أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] .
وكلمة (تعبرون) مأخوذة من «عبر النهر» أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ، وكأنه يطلب منهم المراد المَطْوي في الرُّؤيا.
ومن هذا المعنى أخذنا كلمة «العبْرة» ، وهي التجربة التي نستفيد منها، ومنه أيضاً «العبارَة» وهو أن يكون هناك شيء مكتوم في النفس، ونُؤدِّيه، ونُظهِره بالعبارة.
ومنه «العَبْرة» ، وهو الدَّمعْة التي تسقط من العين تعبيراً عن مشاعر ما؛ سواء كانت مشاعر حُزْن أو فرح، والمادة كلها تدور حول تعريف مجهول بمعلوم.
وهكذا يفعل مُفسِّر الرُّؤْيا حين يَعبُر من خلال رموزها من الخيال إلى الحقيقة.
ولم يعرف الملأ الذين حول المَلِك تفسيراً للرُّؤيا التي رآها في منامه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: {قالوا أَضْغَاثُ ... } .(11/6969)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
وهكذا أعلن الملأ أن رؤيا الملك ليست سوى أخلاط أحلام بلا معنى.(11/6969)
و «الضِّغْث» هو حِزْمة من الحشائش مختلفة الأجناس؛ فكأن رُؤْيا الملك لا تأويلَ لها عندهم؛ لأنهم ليسوا من أهل التمييز في التأويل.
وهذا صِدْق من البطانة في ألاَّ يخبر أحدهم بشيء، إلا إذا كان على علم به؛ ولا يضير أحدهم أن يعلن جهله بأمر ما لا يعلمه.
والذي يعلن جهله بأمر لسائله ويكون قد علمه يجعله يسأل غيره، أما إن أجاب بجواب؛ فربما جعله يَثْبُتُ على هذا الجواب.
ولذلك قال العلماء ليفسحوا مجال الصِّدْق في الفُتْيا: «مَنْ قال لا أدري فقد أفتى» ؛ لأنه حين يقول «لا أدري» ؛ سيضطرك إلى أن تسأل غيره.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ الذي ... } .(11/6970)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
وكان الذي نجا من السجينين يسمع مقالة الملك وردّ الملأ؛ فاسترجع بذاكرته ما مَرَّ عليه في السجن، وكيف رأى الرُّؤيا، وكيف قام يوسف بتأويلها.(11/6970)
وقوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ. .} [يوسف: 45] .
يعني: أنه أجهد عقله وذهْنه؛ وافتعل التذكُّر لأن فترة لا بأس بها من الزمن قد مَرَّتْ، وكلمة «أمة» تعني فترة من الزمن؛ كما في قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [هود: 8] .
و «الأمة» قد يُراد بها الجماعة من الناس، ويُراد بها أيضاً الرجل الجامع لكل صفات الخير، كما قال الحق سبحانه في وصف إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} [النحل: 120] .
أي: أن كل خصال الخير مجموعة في إبراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وبعد أن افتعل ساقي الملك واجتهد ليتذكر ما حدث له منذ فترة هي بضع سنين؛ أيام أنْ كان سجيناً ورأى رُؤيا منامية أوَّلَها له يوسف، قال الساقي للملأ وللملك عن تلك الرؤيا:
{أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] .
وبذلك استأذن ليذهب إلى مَنْ يُؤوِّل له رُؤيا الملك.
وقوله: {فَأَرْسِلُونِ} [يوسف: 45] .(11/6971)
يعني أن التأويل ليس من عنده؛ بل هو يعرف مَنْ يستطيع تأويل الرُّؤى.
ونلحظ أن القرآن لم يحمل على لسان هذا الرجل: إلى من سوف يذهب؛ لأن ذلك معلوم بالنسبة له ولنا، نحن الذين نقرأ السورة.
وانتقل القرآن من طلب الإرسال إلى لقاء يوسف عليه السلام؛ فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان ساقي الملك: {يُوسُفُ أَيُّهَا ... } .(11/6972)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
وقوله: {أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 46] .
يدل على أنه قد جرَّبه في مسائل متعددة، وثبت صدقه.
و «صِدِّيق» لا يقتصر معناها على أنه صادق في كل أقواله؛ وصادق في كل أفعاله، وصادق في كل أحواله، ولكن معناها يتسع لِيدُلَّنا على أن الصدق ملازم له دائماً في القول وفي الفعل.(11/6972)
أما في الأقوال فصدقه واضح؛ لأنه يقول القضية الكلامية ولها واقع من الخارج يدلُّ عليها.
وأما صدق الأفعال فهو ألاَّ تُجرِّب عليه كلاماً، ثم يأتي فعله مخالفاً لهذا الكلام؛ وهذا هو مَنْ نطلق عليه «صِدِّيق» .
ونحن نعلم أن حركات الإنسان في الحياة تنقسم قسمين؛ إما قول وإما فعل؛ والقول أداته اللسان، والفعل أداته كل الجوارح.
إذن: فهناك قول، وهناك فعل؛ وكلاهما عمل؛ فالقول عمل؛ والرؤية بالعين عمل؛ والسمع بالأذن عمل، والمسُّ باليد عمل.
لكن القول اختصَّ باللسان، وأخذتْ بقية الجوارح الفعل؛ لأن الفعل هو الوسيلة الإعلامية بين متكلم وبين مخاطب، وأخذ شق الفعل.
وهكذا نعلم أن الفعل قسمان: إما قول؛ وإما فعل.
والصَّدِّيق هو الذي يصدُق في قوله، بأن تطابق النسبة الكلامية الواقع، وصادق في فعله بألاَّ يقول ما لا يفعل.
ولذلك قال الحق سبحانه: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] .
ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان:(11/6973)
التجربة الأولى: تجربة مُعَايشته في السجن هو وزميله الخباز، وقولهما له: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] .
وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يُؤوِّل لهما الرؤييين: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخر إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 36] .
والتجربة الثانية: هي مجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقاً لتأويله للرؤييين. ولذلك يقول له هنا:
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46] .
أي: أفتِنَا في رُؤيا سبع بقرات سِمَان؛ يأكلهن سبعُ بقرات شديد الهُزَال، وسبع سُنْبلات خُضْر، وسبع أُخر يابسات، لَعلِّي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
وقوله: {أَفْتِنَا} [يوسف: 46] .
يوضح أنه لا يسأل عن رؤيا تخصُّه؛ بل هي تخص رائياً لم يُحدده، وإنْ كنا قد عرفنا أنها رُؤيا الملك.
وقوله: {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} [يوسف: 46] .
هو تحرُّز واحتياط في قضية لا يجزم بها؛ وهو احتياط في واقع(11/6974)
قدر الله مع الإنسان، والسائل قد أخذ أسلوب الاحتياط؛ ليخرجه من أن يكون كاذباً، فهو يعلم أن أمر عودته ليس في يده؛ ولذلك يُعلمنا الله:
{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} [الكهف: 2324] .
وساعة تقول: «إن شاء الله» تكون قد أخرجتَ نفسك من دائرة الكذب؛ وما دُمْتَ قد ذكرتَ الله فهو سبحانه قادر على أن يَهديك إلى الاختيار المناسب في كل أمر تواجه فيه الاختيار.
فكأن الله يُعلِّم عباده أن يحافظوا على أنفسهم، بأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم؛ لأنك مهما خططتَ فأنت تخطط بعقل موهوب لك من الله؛ وحين تُقدِم على أيِّ فعل؛ فأيُّ فعل مهما صَغُر يحتاج إلى عوامل متعددة وكثيرَة، لا تملك منها شيئاً؛ لذلك فعليك أنْ تردَّ كلَّ شيء إلى مَنْ يملكه.
وهنا قال الساقي:
{لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} [يوسف: 46] .
وبذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه الاحتياط.
وأضاف الحق سبحانه على لسان الرجل:
{لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 46] .
وكأن الرجل قد عرف أنه حين يأخذ التأويل من يوسف عليه(11/6975)
السلام؛ ويعود به إلى الناس؛ فهو لا يعلم كيف يستقبلون هذا التأويل؟
أيستقبلونه بالقبول، أم بالمُحاجَّة فيه؟ أو يستقبلون التأويل بتصديق، ويعلمون قَدْرك ومنزلتك يا يوسف؛ فيُخلِّصوك مما أنت فيه من بلاء السجن.
وقوله تعالى: {لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس ... .} [يوسف: 46] .
قد يدفع سائلاً أن يقول: مَنِ الذي كلَّف الساقي بالذَّهاب إلى يوسف؛ أهو الملك أم الحاشية؟
ونقول: لقد نسبها الساقي إلى الكل؛ للاحتياط الأدائي.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {قَالَ تَزْرَعُونَ ... } .(11/6976)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
وهذه بداية تأويل رُؤْيا الملك.
والدَّأْب معناه: المُواظبة؛ فكأن يوسف عليه السلام قد طلب أن يزرع أهل مصر بدأبٍ وبدون كسل.(11/6976)
ويتابع: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] .
أي: ما تحصدونه نتيجة الزرع بجِدٍّ واجتهاد؛ فلكم أنْ تأكلوا القليل منه، وتتركوا بقيته محفوظاً في سنَابله.
والحفظ في السنابل يُعلِّمنا قَدْر القرآن، وقدرة مَنْ أنزل القرآن سبحانه، وما آتاه الله جل علاه ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خُزِّن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس.
وبعض العلماء قال في تفسير هذه الآية؛ إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله وعيدانه.
وأقول: إن المقصود هو تَرْك القمح في سنابله فقط؛ لأن العيدان هي طعام الحيوانات.
ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان؛ وعاء يحميها؛ وهو ينفصل عن القمحة أثناء عملية «الدَّرْس» ؛ ثم يطير أثناء عملية «التذرية» مُنفصِلاً عن حبوب القمح.
ولحبة القمح وعاء ملازم لها، وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن القمح، ونسميها «الردة» وهي نوعان: «ردة خشنة» و «ردة ناعمة» .
ومن عادة البعض أن يَفصِلوا الدقيق النقي عن «الردة» ،(11/6977)
وهؤلاء يتجاهلون أو لا يعرفون الحقيقة العلمية التي أكدت أن تناول الخبز المصنوع من الدقيق الأبيض الخالي من «الردة» يصيب المعدة بالتلبُّك.
فهذه القشرة الملازمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط؛ بل تحتوي على قيمة غذائية كبيرة.
وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من «الردة» ويسمُّونه «الدقيقة العلامة» ؛ الذي إنْ وضعت ملعقة منه في فمك؛ تشعر بالتلَبُّك؛ أما إذا وضعت ملعقة من الدقيق الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من «ردة» ؛ فلن تشعر بهذا التلبُّك.
ويمتنُّ الله على عباده بذلك في قوله الحق: {والحب ذُو العصف والريحان} [الرحمن: 12] .
وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في طَحْن القمح، مع الحفاظ على ما فيه من قشر القمح، وثبت لهم أن مَنْ يتناول الخبز المصنوع من الدقيق النقي للغاية؛ يعاني من ارتباك غذائي يُلجِئه إلى تناول خبز مصنوع من قِشْر القمح فقط، وهو ما يسمى «الخبز السِّن» ؛ ليعوض في غذائه ما فقده من قيمة غذائية.
وهنا يقول الحق سبحانه:(11/6978)
{فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] .
وهكذا أخبر يوسف الساقي الذي جاء يطلب منه تأويل رُؤْيا الملك؛ بما يجب أن يفعلوه تحسُّباً للسنوات السبع العجاف التي تلي السبع سنوات المزدهرة بالخُضْرة والعطاء، فلا يأكلوا مِلْء البطون؛ بل يتناولوا من القمح على قَدْر الكفاف:
{إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] .
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام من بقية التأويل لحُلْم الملك: {ثُمَّ يَأْتِي مِن ... } .(11/6979)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وهكذا أوضح يوسف عليه السلام ما سوف يحدث في مصر من جَدْب يستمر سبع سنوات عجاف بعد سبع سنوات من الزرع الذي يتطلب هِمَّة لا تفتر.
وقوله سبحانه في وصف السبع «سنوات» بأنها:
{شِدَادٌ. .} [يوسف: 48] .
يعني: أن الجَدْب فيها سوف يُجهِد الناس؛ فإنْ لم تكُنْ هناك(11/6979)
حصيلة تَمَّ تخزينها من محصول السبع السنوات السابقة، فقد تحدُث المجاعة، وليعصم الناسُ بطونهم في السنوات السبع الأولى، وليأكلوا على قَدْر الضرورة؛ ليضمنوا مواجهة سنوات الجَدْب.
ونحن نعلم أن الإنسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب؛ والطعام إنما يَمْري على الإنسان، ويعطيه قوة يواجه بها الحياة.
ولكن أغلب طعامنا لا نهدف منه القوة فقط؛ بل نبغي منه المتعة أيضاً، ولو كان الإنسان يبغي سَدَّ غائلة الجوع فقط، لاكتفى بالطعام المسلوق، أو بالخبز والإدام فقط، لكننا نأكل للاستمتاع.
ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقول: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] .
أي: بدون أن يضرك، ودون أن يُلجِئك هذا الطعام إلى المُهْضِمات من العقاقير.
وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه: {هَنِيئاً ... } [النساء: 4] ، أما المقصود بقوله: {مَّرِيئاً} [النساء: 4] .(11/6980)
فهو الطعام الذي يفيد ويمدُّ الجسم بالطاقة فقط؛ وقد لا يُستساغ طعمه.
وهنا قال الحق سبحانه:
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] .
وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل؛ بل البشر الذين يعيشون في تلك السنوات هم الذين يأكلون.
ونحن نفهم ذلك؛ لأننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان؛ ومرة يُنسب الحَدث للزمان؛ ومرة يُنسب الحَدث للمكان.
والمثال على نسبة الحَدث للمكان هو قول الحق سبحانه: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير ... } [يوسف: 82] .
وطبعاً نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب القوافل التي كانت معهم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد الحدث منسوباً للزمان؛ وهم سيأكلون مما أحصنوا إلا قليلاً؛ لأنهم بعد أن يأكلوا لا بد لهم من الاحتفاظ بكمية من الحبوب والبُذُور لاستخدامها كتقاوي في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.(11/6981)
وقوله تعالى:
{مِّمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] .
نجده من مادة «حصن» وتفيد الامتناع؛ ويقال: «أقاموا في داخل الحصن» أي: أنهم إنْ هاجمهم الأعداء؛ يمتنعون عليهم؛ ولا يستطيعون الوصول إليهم.
ويقول الحق سبحانه: {والمحصنات مِنَ النسآء ... } [النساء: 24] .
أي: المُمْتنعات عن عملية الفجور؛ وهُنَّ الحرائر.
وأيضاً يقول الحق سبحانه: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] .
أي: التي أحكمتْ صيانة عِفَّتها، وهي السيدة مريم البتول عليها السلام، وهكذا نجد مادة «حصَن» تفيد الامتناع.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ... } .(11/6982)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
ونلحظ أن هذا الأمر الذي تحدث عنه يوسف عليه السلام خارج عن تأويل الرُّؤيا؛ لأن ما احتوته رُؤيا الملك هو سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات سِمَانٍ؛ وسبع سُنبلات خُضْر وأُخَر يابسات.
وأنهى يوسف عليه السلام تأويل الرُّؤيا، وبعد ذلك جاء بحكم العقل على الأمور؛ حيث يعود الخِصْب العادي ليعطيهم مثلما كان يعطيهم من قبل ذلك.
وهذا يمكن أن يطلق عليه «غَوْث» ؛ لأننا نقول «أغِثْ فلاناً» أي: أَعِنْ فلاناً: لأنه في حاجة للعون، والغيث ينزل من السماء لِيُنهِي الجَدْب.
وقوله: {يُغَاثُ الناس ... } [يوسف: 49] .
أي: يُعانون بما يأتيهم من فضل الله بالضروري من قوت يمسك عليهم الحياة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 49] .
أي: ما يمكن عَصْره من حبوب أو ثمار؛ مثل: السمسم، والزيتون، والعنب، والقصب، أو البلح، وأنت لن تعصر تلك الحبوب أو الثمار إلا إذا كان عندك ما يفيض عن قوت ذاتك وقوت من تعول.(11/6983)
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه أنهم سوف يُرزَقُونَ بخير يفيض عن الإغاثة؛ ولهم أن يدخروه، وما سبق في آيات الرؤيا وتأويلها هو حوار بين يوسف الصديق عليه السلام وبين ساقي الملك.
ولاحظنا كيف انتقل القرآن من لقطة عجز الحاشية عن الإفتاء في أمر الرؤيا، وتقديم الساقي طلباً لأن يرسلوه كي يُحضِر لهم تأويل الرؤيا، ثم جاء مباشرة بالحوار بين يوسف والساقي.
هنا ينتقل القرآن إلى ما حدث، بعد أن عَلِم الملك بتأويل الرُّؤيا، فيقول سبحانه: {وَقَالَ الملك ... } .(11/6984)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
ومعنى ذلك أن الساقي ذهب إلى مجلس الملك مباشرة، ونقل له تأويل الرُّؤيا، وأصرَّ الملك أنْ يأتوا له بهذا الرجل؛ فقد اقتنع بأنه يجب الاستفادة منه؛ وعاد الساقي ليُخرِج يوسف من السجن الذي هو فيه.
لكنه فُوجِيء برفض يوسف للخروج من السجن، وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك:
{ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .
وهكذا حرص يوسف على ألاَّ يستجيب لمَنْ جاء يُخلِّصه من عذاب السجن الذي هو فيه؛ إلا إذا برئتْ ساحته براءةً يعرفها الملك؛ فقد(11/6984)
يكون من المحتمل أنهم ستروها عن أذن الملك.
وأراد يوسف عليه السلام بذلك أن يُحقق المَلِك في ذلك الأمر مع هؤلاء النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن؛ ودَعَوْنَهُ إلى الفحشاء.
واكتفى يوسف بالإشارة إلى ذلك بقوله:
{إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] .
ويُخفي هذا القول في طيَّاته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في طلبها للفحشاء.
وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العِبْرة التي تخدمنا في واقع الحياة؛ فليست تلك القصص للتسلية، بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر مُهِمٌ؛ كي تزول أيُّ ريبة من الإنسان قبل أن يُسند إليه أي عمل.
وهكذا طلب يوسف عليه السلام إبراء ساحته، حتى لا يَقُولَنَّ قائل في وشاية أو إشاعة «همزاً أو لَمْزاً» : أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة العزيز، وهو مَنْ راودته عن نفسه؟
وها هو رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أُرْسِل إليه ليُستفتى في الرؤيا، وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، وعجبت من(11/6985)
صبره وكرمه والله يغفر له أُتِي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره، ولو كنت أنا لبادرت الباب، ولكنه أحب أن يكون له العذر» .
وشاء نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُوضِّح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس والنزاهة والكرامة فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم. قال لو لبثتُ في السجن ما لبثَ، ثم جاءني الرسول أجبتُ ثم قرأ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {فَلَمَّا جَآءَهُ الرسول قَالَ ارجع إلى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. .} [يوسف: 50] » .
وهكذا بيَّنَ لنا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكانة يوسف من الصبر والنزاهة، وخشيته أن يخرج من السجن فَيُشَار إليه: هذا مَنْ راود امرأة سيده.
وفي قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك الأمر، وكان من الأحوط أن يخرج من السجن، ثم يعمل على كشف براءته.
ومعنى ذلك أن الكريم لا يستغل المواقف استغلالاً أحمق، بل يأخذ كل موقف بقدْره ويُرتِّب له؛ وكان يوسف واثقاً من براءته، ولكنه أراد ألاَّ يكون الملك آخر مَنْ يعلم.(11/6986)
وصدق رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبك، فإن الصدقَ طُمأنينة، وإن الكذبَ ريبة» .
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرى أن الإيمان بالله يقتضي ألاَّ يقف المؤمن موقفَ الرِّيبة؛ لأن بعض الناس حين يَرَوْنَ نَابِهاً، قد تثير الغيرةُ من نباهته البعضَ؛ فيتقوَّلون عليه.
لذلك فعليك أن تحتاطَ لنفسك؛ بألاَّ تقف موقف الرِّيبة، والأمر الذي تأتيك منه الرِّيبة؛ عليك أن تبتعد عنه.
ولنا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسوة حسنة، «فقد جاءته زَوْجه صفية بن حُيي تزوره وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامتْ تنقلب أي: تعود إلى حجرتها فقام معها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول الله صلى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مرّ بهما رجلان من الأنصار فسلَّما على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» على رِسْلكما، إنما هي صفية بنت حُيي. قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال. قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما «.(11/6987)
وهنا في الموقف الذي نتناوله بالخواطر، نجد الملك وهو يستدعي النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن، ورَاودْنَ يوسف عن نفسه، وهو ما يذكره الحق سبحانه: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ ... } .(11/6988)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
ونعلم أن المُرَاودة الأولى ليوسف كانت من امرأة العزيز؛ واستعصم يوسف، ثم دَعَتْ هي النسوة إلى مجلسها؛ وقطَّعْنَ أيديهن حين فُوجئْنَ بجمال يوسف عليه السلام، وصدرت منهن إشارات، ودعوات إثارة وانفعال.
قال عنها يوسف ما أورد الحق سبحانه: {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} [يوسف: 33] .
واستدعاهن الملك، وسألهن: {مَا خَطْبُكُنَّ} [يوسف: 51] .
والخَطْب: هو الحَدَثْ الجَلَل، فهو حدث غير عادي يتكلم به الناس؛ فهو ليس حديثاً بينهم وبين أنفسهم؛ بل يتكلمون عنه بحديث(11/6988)
يصل إلى درجة تهتز لها المدينة؛ لأن مثل هذا الحادث قد وقع.
ولذلك نجد إبراهيم عليه السلام، وقد قال لجماعة من الملائكة: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الذاريات: 31 - 32] .
أي: أن الملائكة طمأنتْ إبراهيم عليه السلام؛ فهي في مهمة لعقاب قوم مجرمين.
وموسى عليه السلام حين عاد إلى قومه، ووجد السامري قد صنع لهم عِجْلاً من الذهب الذي أخذوه من قوم فرعون نجده يقول للسامري: {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري} [طه: 95] .
وقَوْل الملك هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} [يوسف: 51] .
يدلُّ على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتزَّ لها؛ واعتبرها خَطْباً؛ مما يوضح لنا أن القيم هي القيم في كل زمان أو مكان.
وبدأ النسوة الكلام، فقُلْنَ:
{حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} [يوسف: 51] .
ولم يذكُرْنَ مسألة مُرَاودتهِنَّ له، وكان الأمر المهم هو إبراء ساحة يوسف عند المَلِك.
وقولهن: {حَاشَ للَّهِ ... } [يوسف: 51] أي: نُنزِّه يوسف عن هذا، وتنزيهُنَا ليوسف أمْرٌ من الله.(11/6989)
وهنا تدخلتْ امرأة العزيز:
{قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق ... } [يوسف: 51] .
أي: أنها أقرَّتْ بأنه لم يَعُدْ هناك مجال للستر، ووضح الحقُّ بعد خفاء، وظهرتْ حِصَّة الحق من حِصَّة الباطل، ولا بُدَّ من الاعتراف بما حدث:
{أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] .
وواصلت امرأة العزيز الاعتراف في الآية التالية: {ذلك لِيَعْلَمَ. .} .(11/6990)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
قالت ذلك حتى تُعلِنَ براءة يوسف عليه السلام، وأنها لم تنتهز فرصة غيابه في السجن وتنتقم منه؛ لأنه لم يستجِبْ لمُراودتها له، ولم تنسج له أثناء غيابه المؤامرات، والدسائس، والمكائد.
وهذا يدلُّنا على أن شِرَّةَ الإنسان قد تتوهج لغرض خاص، وحين يهدأ الغرض ويذهب، يعود الإنسان إلى توازنه الكمالي في نفسه، وقد يجعل من الزَّلة الأولى في خاطره وسيلة إلى الإحسان فيما ليس له فيه ضعف، كي تستر الحسنةُ السيئة، مصداقاً لقول الحق سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] .
ولو أن إنساناً عمل سيئة وفضحه آخر عليها؛ فالفاضح لتلك(11/6990)
السيئة إنما يحرم المجتمع من حسنات صاحب السيئة.
ولذلك أقول: استروا سيئات المسيء؛ لأنها قد تلهمه أن يقدم من الخير ما يمحو به سيئاته.
ولذلك قالوا: إذا استقرأتَ تاريخ الناس، أصحاب الأنفس القوية في الأخلاق والقيم؛ قد تجد لهم من الضعف هنات وسَقَطات؛ ويحاولون أن يعملوا الحسنات كي تُذهِب عنهم السيئات؛ لأن بالَ الواحد منهم مشغولٌ بضعفه الذي يُلهِبه؛ فيندفع لفعل الخيرات.
وبعد أن اعترفتْ امرأة العزيز بما فعلت؛ قالت:
{وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52] .
أي: أنها أقرَّتْ بأنه سبحانه وتعالى لا يُنفِذ كيد الخائنين، ولا يُوصِّله إلى غايته.
وتواصل امرأة العزيز فتقول: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي ... } .(11/6991)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
هذا القول من تمام كلام امرأة العزيز؛ وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس؛ فهي لم تحضر لتبرىء نفسها:
{إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ ... } [يوسف: 53] .
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكِّد أن النفس على إطلاقها أمَّارة بالسوء؛ يجعلنا نقول: إن يوسف أيضاً نفس بشرية.(11/6991)
وقد قال بعض العلماء: إن هذا القول من كلام يوسف، كردٍّ عليها حين قالت: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 51 - 52] .
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلام بالقول:
{وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} [يوسف: 53] .
ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كَلَوْنٍ من الحرص على ألاَّ يلمسه غرور الإيمان، فهو كرسول من الله يعلم أن الله سبحانه هو الذي صرف كيدهُنَّ عنه.
وهذا لَوْن من رحمة الله به؛ فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له الغواية؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزَّلَل.
ومن لُطْف الله أن قال عن النفس: إنها أمَّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس؛ فهي ليستْ آمرةً بالسوء، بمعنى أنها تأمر الإنسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي الأمر.
لا، بل انتبه أيها الإنسان إلى حقيقة عمل النفس، فهي دائماً أمَّارة بالسوء، وأنت تعلم أن التكليفات الإلهية كلها إمَّا أوامر أو نَوَاهٍ،(11/6992)
وقد تستقبِل الأوامر كتكليف يشقُّ على نفسك، وأنت تعلم أن النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك، لأنها في ظاهرها ممتعة، وتلبي نداء غرائز الإنسان.
ولذلك يقول المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُفَّتْ الجنة بالمكاره، وحُفَّتْ النار بالشهوات» .
أي: أن المعاصي قد تُغريك، ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه، ويُقدِّر العواقب البعيدة، ولا ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية؛ إلا إذا نظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة؛ لأن شيئاً قد تستلِذُّ به لحظة قد تَشْقى به زمناً طويلاً.
ولذلك قلنا: إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة، ولو استحضر الثواب على الطاعة، والعذاب على المعصية؛ لامتنع عن الإسراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» .
إذن: فلحظة ارتكاب المعصية نجد الإنسان وهو يستر إيمانه؛ ولا يضع في باله أنه قد يموت قبل أن يتوبَ عن معصيته، أو قبل أن يُكفِّر عنها.(11/6993)
ويخطيء الإنسان في حساب عمره؛ لأن أحداً لا يعلم ميعاد أجله؛ أو الوقت الذي يفصل بينه وبين حساب الموْلَى عَزَّ وجَلَّ له على المعاصي.
وكل مِنَّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الموت القيامة، فمَنْ مات فقد قامت قيامته» .
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهو الخليفة الثالث لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلَّ لحيته، فسُئِل عن ذلك؛ وقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي إذا وقفتَ على قبر؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإنْ نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم يَنْجُ منه، فما بعده أشد» .
لذلك فلا يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
وتستمر الآية: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53] .
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء، وهناك ما يُحصِّن الإنسان، ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء، والحق سبحانه غفور، بمعنى أنه يغفر الذنوب، ويمحوها، والحق سبحانه رحيم، بمعنى أنه يمنح الإنسان مناعة، فلا يصيبه الداء، فلا يقع في زلة أخرى.(11/6994)
والحق سبحانه هو القائل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسياً ويُقويَّ قدرتك على مقاومة الداء؛ ويُفجِّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك. وهو رحمة لك حين تتخذه منهجاً، وتُطبِّقه في حياتك؛ فيمنحك مناعة تحميك من المرض، فهو طِبّ علاجيّ وطبّ وقائيّ في آنٍ واحد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ الملك ... } .(11/6995)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
ونلحظ أن الملك قد قال: {ائتوني بِهِ} [يوسف: 54] .
مرتين، مرة: بعد أن سمع تأويل الرؤيا؛ لكن يوسف رفض الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته؛ أو: أنه خرج وحضر المواجهة مع النسوة بما فيهنّ امرأة العزيز.
ورأى الملك في يوسف أخلاقاً رفيعة؛ وسِعَة عِلْم.
وانتهى اللقاء الأول ليتدبر الملك، ويُفكر في صفات هذا الرجل؛(11/6995)
والراحة النفسية التي ملأتْ نفس الملك؛ وكيف دخل هذا الرجل قلبه.
والمرة الثانية عندما أراد الملك أن يستخلصه لنفسه ويجعله مستشاراً له.
ويورد الحق سبحانه هذا المعنى في قوله:
{ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] .
وهذا الاستخلاص قد جاء بعد أن تكلم الملك مع يوسف، وبعد أن استشفَّ خفَّة يوسف على نفسه؛ وتيقَّن الملك من بعد الحوار مع يوسف أنه رجل قد حفظ نفسه من أعنف الغرائز؛ غريزة الجنس.
وتيقن من أن يوسف تقبّل السجن، وعاش فيه لفترة طالتْ؛ وهو صاحب عِلْم، وقد ثبت ذلك بتأويل الرُّؤيا؛ وقد فعل ذلك وهو سجين، ولم يقبل الخروج من السجن إلا لإثبات براءته، أو بعد إثبات البراءة.
ولكلِّ ذلك صار من أهل الثقة عند الملك، الذي أعلن الأمر بقوله:
{إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] .
وذلك ليسُدَّ باب الوِشَاية به، أو التآمر عليه. ومكانة «المكين» هي المكانة التي لا ينال منها أيُّ أحد.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما تكلَّم عن الوحي من جبريل عليه السلام قال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20] .
فالمعنى: أن يوسف عليه السلام أَهْل ٌللثقة عند الحاكم؛ وهو الذي سيُنفذ الأمور، وله صِلَة بالمحكومين، وإذا كان هو المُمَكَّن من عند الحاكم؛ فهو أيضاً أمين مع المحكومين.(11/6996)
والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يُرجِّح الحاكمُ من يراهم أهلَ الثقة على أهل الخبرة والأمانة، فتختل موازين العدل.
وعلى الحاكم الذكيّ أن يختار الذين يتمتعون بالأمرين معاً: أمانة على المحكوم؛ وثقة عند الحاكم. وبهذا تعتدل الحياة على منهج الله.
وحين سمع يوسف عليه السلام هذا الكلام من الحاكم:
{إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] .
قرر أن يطلب منه شيئاً يتعلق بتعبيره لرُؤْياه، التي سبق أن أوَّلها يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47 - 49] .
وهذه عملية اقتصادية تحتاج إلى تخطيط وتطبيق ومتابعة وحُسْن تدبير وحزم وعِلْم.
لذلك كان مطلب يوسف عليه السلام فيه تأكيد على أن الواقع القادم سيأتي وفقاً لتأويله للرؤيا، فتقول الآيات: {قَالَ اجعلني ... } .(11/6997)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة، لا تبعثر ما سوف يأتي في سنين الخصب؛ لتضمن الاطمئنان في سنين الشدة، وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم.
وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلَّى بهما يوسف عليه السلام.
وقد يقول قائل: أليس في قول يوسف شبهة طلب الولاية؟ والقاعدة تقول: إن طالب الولاية لا يولَّى.
فيوسف عليه السلام لم يطلب ولاية، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته وتحقيقاً لرسالته، حيث أنه كان آمراً فيستجاب، ولم يكن مأموراً للإيجاب حيث أنه كان واثقاً بالإيمان ومؤمناً بوثوق.
وقد تأتي ظروف لا تحتمل التجربة مع الناس، فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن يعرض نفسه.
ومثال ذلك: لنفترض أن قوماً قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجتْ الرياح وهبَّتْ العاصفة؛ وتعقَّدت الأمور؛ وارتبك القبطان، وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا الأمر، ويُحسن إدارة قيادة المركب، وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك.
هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛ على القبطان أن يُوجِّه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.
إذن: فمن حقِّ الإنسان أن يطلب الولاية إذا تعيَّن عليه ذلك، بأن يرى أمراً يتعرض له غير ذي خبرة يُفسد هذا الأمر، وهو يعلم وَجْه الصلاح فيه. وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ المجتمع.(11/6998)
وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولاية وهو يملك شجاعتين:
الشجاعة الأولى: أنه طلب الولاية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمة.
والشجاعة الثانية: إنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصباً لا يعلم إدارته، وبهذا يصير الباطل متصرفاً.
وبذلك يُظهر وَجْه الحق؛ ويُزيل سيطرة الباطل.
ولذلك نجد يوسف عليه السلام يقول للملك:
{اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] .
والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة الاقتصاد.
وقالوا: إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، لوضع سياسة اقتصادية يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب، وتلك مسألة تتطلب حكمة وحِفْظاً وعِلْماً.
وكان يوسف عليه السلام يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الأثمان من ذهب وفضة، ومَنْ لا يملك ذهباً وفضة كان يُحضر الجواهر من الأحجار الكريمة؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاماً.
ومَنْ لا يملك كان يُحضر بعضاً من أبنائه للاسترقاق، أي: يقول رَبُّ الأسرة الفقيرة: خُذْ هذا الولد ليكون عبداً لقاء أن آخذ طعاماً لبقية أفراد الأسرة.
وكان يوسف عليه السلام يُحسِن إدارة الأمر في سنوات الجَدْب ليشُد كل إنسان الحزام على البطن، فلا يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد، كما يقول رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف:
«المؤمن يأكلَ في مِعيٍّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» .(11/6999)
وكان التموين في سنوات الجَدْب يقتضي دِقَّة التخطيط، ولا يحتمل أيَّ إسراف.
وما دام لكل شيء ثمن يجب أن يُدفع، فكل إنسان سيأخذ على قَدْر ما معه، وبعد أن انتهت سنوات الجَدْب، وجاءت سنوات الرخاء؛ أعاد يوسف لكل إنسان ما أخذه منه.
وحين سُئِل: ولماذا أخذتَ منهم ما دُمْتَ قد قررت أن تردَّ لهم ما أخذته؟
أجاب: كي يأخذ كل إنسان في أقلَّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض، وهو يشتري الخبز المُدعَّم ليُطعِم به الماشية، وحين يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود، ويحرص على ألاَّ يُلقِي مما اشترى شيئاً.
وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك الأمر، وهو يتكرر في حياتنا؛ فحين لا يجد أحد ثمن اللحم فقد لا تهفو نفسه إلى اللحم، وقد يعلن في كبرياء: «إن معدتي لم تَعُدْ تتحمل اللحم» .
وقد يعلن الفقير حُبَّه للسمك الصغير؛ لأن لحمه طيِّب، عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه «مِتفِّلاً» ، أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج، لأنه لذيذ الطعم.
وقديماً في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل، ونحن نعيش بعيداً عن بيوت الأهل في سنوات الدراسة، ولا نجد إلا قرصاً واحداً من «الطعمية» ، كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة في الرغيف،(11/7000)
أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية، فكان الواحد منا يأكل نصف قرص من الطعمية مع لقمة واحدة.
وهكذا يتحمل كل واحد على قَدْر حركته وقدرته.
والشاعر يقول:
والنفسُ راغبةٌ إذَا رغَّبتَها ... وإذَا تُرَدُّ إلى قَليلٍ تَقْنَعُ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وكذلك مَكَّنَّا ... } .(11/7001)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وهكذا كان تمكين الله ليوسف عليه السلام في الأرض، بحيث أدار شئون مصر بصورة حازمة؛ عادلة؛ فلما جاء الجدب؛ لم يَأتِهَا وحدها؛ بل عَمَّ البلاد التي حولها.
بدليل أن هناك أُنَاساً من بلاد أخرى لجئوا يطلبون رزقهم منها؛ والمثل: إخوة يوسف الذين جاءوا من الشام يطلبون طعاماً لهم ولمن ينتظرهم في بلادهم، فهذا دليل على أن رُقْعة الشدة كانت شاسعة.
وقول الحق سبحانه:
{وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ} [يوسف: 56] .(11/7001)
نفهم منه أنه جعل لنفسه بيتاً في أكثر من مكان؛ ولا يَظُنَّن ظَانٌّ أن هذا لَوْنٌ من اتساع أماكن التَّرَف.
لكن: لماذا لا ننظر إليها بعيون تكشف حقيقة رجال الإدارة في بعض البلاد؛ فما أنْ يعلموا بوجود بيت للحاكم في منطقة ما؛ وقد يزوره؛ فهم يعتنون بكل المنطقة التي يقع فيها هذا البيت.
وهذا ما نراه في حياتنا المعاصرة، فحين يزور الحاكم منطقة ما فَهُمْ يُعيدون رَصْف الشوارع؛ ويصلحون المرافق؛ وقد يُحضِرون أُصَص الزرع ليُجمِّلوا المكان.
فما بَالُك إنْ عَلِموا بوجود بيت للحاكم في مكان ما؟ لا بُدَّ أنهم سَيُوالون العناية بكل التفاصيل المتعلقة بالمرافق في هذا الموقع.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا عن يوسف عليه السلام:
{يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ. .} [يوسف: 56] .
يعني: شُيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد؛ فلا تأخذ الأمر على أنه تَرَف وشَرَف، بل خُذْ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المُحيطون، سواء كانوا مقصودين به أو غير مقصودين.
وتلك لقطة توضح أن التبُّوء حيث يشاء ليس رحمةً به فقط؛ ولكنه رحمةٌ بالناس أيضاً.
ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الآية:
{نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ} [يوسف: 56] .
فَمَنْ كان يحيا بلا مياه صالحة للشرب ستصله المياه النقية؛ ومَنْ كان يشقى من أجل أن يعيش في مكان مُريح ستتحول المنطقة التي(11/7002)
يسكن فيها إلى مكان مُريح به كل مُستلزمات العصر الذي يحيا فيه.
فيوسف المُمكّن في الأرض له مسكن مجاور له؛ وسيجد العناية من قِبَل الجهاز الإداري حيثما ذهب، وتغمر العناية الجميع، رحمة من الله له، وللناس من حوله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 56] .
والمُحْسِن هو الذي يصنع شيئاً فوق ما طُلب منه.
وهنا سنجد الإحسان يُنسب ليوسف؛ لأنه حين أقام لنفسه بيتاً في أكثر من مكان؛ فقد أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت؛ بارتفاع مستوى الخدمة في المرافق وغيرها.
وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الأجر، وقد كافأ يوسف عليه السلام بالتمكين مع محبة من تولَّى أمرهم.
ويتابع الحق سبحانه: {وَلأَجْرُ الآخرة. .} .(11/7003)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
ويوضح هنا سبحانه أنه لا يجزي المحسنين في الدنيا فقط؛ ولكن يجازيهم بخير أبقى في الآخرة. وكلمة «خير» تستعمل استعمالين:
الأول: هو أن شيئاً خير من شيء آخر؛ أي: أنهما شركاء في الخير، وهو المعنى المقصود هنا، والمثال: هو قول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «(11/7003)
المؤمن القويُّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلِّ خير. احرص على ما ينفعك، واستعِنْ بالله ولا تعجز، وإنْ أصابك شيء فلا تَقُلْ: لو أنِّي فعلتُ كذا وكذا، ولكن قُلْ: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان» .
والاستعمال الثاني لكلمة «خير» : هو خير مقابله شرّ، والمثال: هو قول الحق تبارك وتعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] ، والحق سبحانه يريد أن يعتدل ميزان حركة الحياة، لن يعتدل ميزان حركة الحياة بأن نقول للإنسان على إطلاقه: سوف تأخذ أجر عملك الطيب في الآخرة؛ لأن المؤمن وحده هو الذي سيصدق ذلك.
أما الكافر فقد يظلم ويسفك الدماء، ويسرق ويستشري الفساد في الأرض.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الجزاءَ نوعين: جزاء في الدنيا لمَنْ يُحسِن، سواء أكان مؤمناً أو كافراً؛ وجزاءً في الآخر يختصُّ به الحقُّ سبحانه المؤمنين به.
والحق سبحانه يقول هنا:
{وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يوسف: 57] .
أي: أنه أكثر خيراً من جزاء الدنيا؛ لأن جزاء الآخرة يدوم أبداً،(11/7004)
على عكس خير الدنيا الذي قد تفوتُه أو يفوتُك، بحُكْم أن الدنيا موقوتة بالنسبة لك بعمرك فيها؛ ولكن الآخرة لها الدَّيْمومة التي شاءها الله سبحانه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك عن إخوة يوسف: {وَجَآءَ إِخْوَةُ ... } .(11/7005)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وقد عرفهم يوسف؛ لكنهم لم يعرفوه، فقد ألقَوْهُ في الجُبِّ صغيراً؛ ومرَّتْ رحلته في الحياة بعد أن عثر عليه بعض السيَّارة؛ وباعوه لعزيز مصر، لتمر به الأحداث المتتابعة بما فيها من نُضْج جسدي وحُسْن فائق، ومُراودة من امرأة العزيز، ثم سنوات السجن السبع.
ولكل حدث من تلك الأحداث أثر على ملامح الإنسان؛ فضلاً عن أنهم جاءوه وهو في منصبه العالي، بما يفرضه عليه من وجاهة في الهيئة والملبس.
أما هو فقد عرفهم؛ لأنه قد تركهم وهم كبار، وقد تحددت ملامحهم، ونعلم أن الإنسان حين يمر عليه عِقْد من الزمان؛ فهذا الزمن قد يزيد من تحديد ملامحه، إذا ما كانَ كبيراً ناضجاً، لكنه لا يغيرها مثلما يُغيِّر الزمنُ ملامح الطفل حين يكبر ويصل إلى النضج.
والذي دفعهم إلى المجيء هو القحط الذي لم يُؤثِّر على مصر وحدها؛ بل أثَّر أيضاً على المناطق المجاورة لها.
وذاع أمر يوسف عليه السلام الذي اختزن الأقوات تحسُّباً لذلك القحط؛ وقد أرسلهم أبوهم ليطلبوا منه الَميْرة والطعام، ولم يتخيَّلوا(11/7005)
بأي حال أن يكون مَنْ أمامهم هو أخوهم الذي ألقوْه في الجُبِّ.
ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم ... .} .(11/7006)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
ولا بُدَّ أنه قد تكلم معهم عن أحوالهم، وتركهم يَحْكُونَ له عن أبيهم وأخيهم، وأنهم قد طلبوا المَيْرة؛ وأمر بتجهيزها لهم.
وكلمة «الجهاز» تُطلق هنا على ما تسبَّب في انتقالهم من موطنهم إلى لقاء يوسف طلباً للميرة.
وطلب منهم من بعد ذلك أن يأتوا بأخيهم «بنيامين» معهم، وقال لهم:
{أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} [يوسف: 59] .(11/7006)
وفي هذا تذكير لهم بأنه يُوفِي الكيل تماماً، وفيما يبدو أنهم طلبوا منه زيادة في المَيْرة؛ بدَعوى أن لهم أخاً تركوه مع أبيهم الشيخ العجوز، فطلب منهم يوسف أن يُحضِروا أخاهم كي يزيد لهم كيلاً إضافياً؛ لأنه لا يحب أن يعطي أحداً دون دليل واضح؛ التزاماً منه بالعدل.
وكان كل منهم قد أتى على بعير، عليه بضائع يدفعونها كأثمان لِمَا يأخذونه، وحين يحضرون ومعهم أخوهم سيأخذون كَيْل بعير فَوق ما أخذوه هذه المرَّة.
وهم قد قالوا لأبيهم هذا القول، حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في الرحلة حسب طلب يوسف عليه السلام؛ لذلك تقول الآية: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] .
وقوله:
{وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} [يوسف: 59] .
يعني: أنه يرحب بالضيوف؛ وقد لمسوا ذلك بحُسْن المكان الذي نزلوا فيه. بما فيه من راحة وطيب الاستقبال، ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة «مُنْزِل» في ظاهر الأمر أنها ضدّ مُعْلِي، وحقيقة المعنى هو: مُنزِل مِنَ الذي ينزل بالمكان الموجود به كل مطلوبات حياته.
والحق سبحانه يقول عن الجنة: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 32] .(11/7007)
أي: أنه سبحانه قد أعدَّ الجنة بما يفوق خيال البشر؛ وبمُطْلق صفات المغفرة والرحمة، وإذا كان المَوْلى عَزَّ وجَلَّ هو الذي يعدّ؛ فلا بُدَّ أن يكون ما أعدَّه فوق خيال البشر.
وقلت لإخواني الذين بُهروا بفندق رَاقٍ في سان فرانسيسكو: إن الإنسان حين يرى أمراً طيباً، أو شيئاً رَاقِياً، أو جميلاً عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من استقبالين: تظهر نَفسه فيه؛ فإن كان حَقُوداً فسينظر للأشياء بكراهية وبحقد، وإنْ كان مؤمنا يفرح ويقول:
هذه النعمة التي أراها تزيد من عِشْقي في الجنة؛ لأن تلك النعمة التي أراها قد صنعها بشر لبشر؛ فماذا عن صُنْع الله للجنة؟ وهو مَنْ خلق الكون كله بما فيه من بشر؟
ودائماً أقول: ما رأيتُ نعيماً عند أحد إلا ازداد إيماني، بأن الذي أراه من نعمة قد أعدَّه البشر للبشر؛ فما بالنا بما أعدَّه خالق البشر للمؤمنين من البشر؟
أما مَنْ ينظر نظرةَ حِقْد إلى النعمة عند الغير؛ فهو يحرم نفسه من صَبابة النعمة عند الغير؛ لأن النعمة لها صَبابة عند صاحبها، وتتعلق به، وإن فرحتَ بالنعمة عند إنسان؛ فثِقْ أن النعمة ستطرق بابك، وإن كرهتها عند غيرك؛ كرهتْ النعمة أن تأتي إليك.
فإنْ أردتَ الخير الذي عند غيرك؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير؛ لتسعى النعمة إليك؛ دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها؛ لأنها ستأتي إليك بقدرة الحق سبحانه.
وقَوْل يوسف عليه السلام في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:(11/7008)
{وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} [يوسف: 59] .
هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل، وتوفية للكيل، وحُسْن الضيافة، ولا شك أنهم حين يُحضِرون أخاهم سيجدون نفس الاستقبال.
ويواصل الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي ... } .(11/7009)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
ويوسف يعلم مُقدَّماً صعوبة أن يأمنهم أبوهم على أخيهم؛ لذلك وجَّه إليهم هذا الإنذار:
{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي. .} [يوسف: 60] .
قال لهم ذلك، وهو يعلم أن المَعَاد مَعَادُ قَحْط وجَدْب ومجاعة.
وأضاف يوسف:
{وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] .
أي: لا تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه؛ ولذلك سنجدهم يقولون لأبيهم من بعد ذلك: {اأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 63] .
وتلقَّوْا الإنذار من يوسف، وقالوا ما أورده القرآن هنا:(11/7009)
{قَالُواْ سَنُرَاوِدُ ... .} .
وقولهم:(11/7010)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ... } [يوسف: 61] .
يعني: أن الأمر ليس سهلاً؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف، والمُرَاودة تعني أخْذ وردّ، وتحتاج إلى احتيال؛ وسبق المعنى في قوله الحق سبحانه: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ... } [يوسف: 23] .
وأكدوا قولهم:
{وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} [يوسف: 61] .
أي: أنهم سيبذلون كُلَّ جهودهم؛ كي يقبل والدهم إرسالَ أخيهم معهم، وهم يعلمون أن هذا مطلبٌ صَعْب المَنال، عسير التحقيق.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ ... } .(11/7010)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
أي: أن يوسف عليه السلام أمر مساعديه أنْ يُعيدوا البضائع التي أحضرها هؤلاء معهم ليقايضوا بها ما أخذوه من قمح وطعام، وكان على مساعدي يوسف عليه السلام أن يُنفِّذوا أمره بوضع هذه البضائع بشكل مُسْتتر في الرِّحال التي أَتَوْا عليها، وفي هذا تشجيع لهم كي يعودوا مرة أخرى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَلَمَّا رَجَعُوا ... } .(11/7011)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
وكان قولهم هذا هو أول خبر قالوه لأبيهم، فور عودتهم ومعهم المَيْرة، وكأنهم أرادوا أن يُوضِّحوا للأب أنهم مُنِعوا مستقبلاً من أنْ يذهبوا إلى مصر، ما لم يكن معهم أخوهم.
وحَكَوْا لأبيهم قصتهم مع عزيز مصر، وإن وافق الأب على إرسال أخيهم «بنيامين» معهم؛ فلسوف يكتالون، ولسوف يحفظون أخاهم الصغير.(11/7011)
وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيبةَ الأب عَمَّا حدث ليوسف من قبل.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما قاله أبوهم يعقوب عليه السلام: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ ... .} .(11/7012)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
وهنا يُذكِّرهم أبوهم بأنهم لم يُقدِّموا من قبل ما يُطمئِنه على ذلك؛ فقد أضاعوا أخاهم يوسف وقالوا: إن الذئب قد أكله.
وأضاف: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 64] .
وهو قَوْل نتنسَّم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم، وأنه يدعو الحق ليحفظ ابنه.
وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة، وبعد الحوار مع أبيهم.
ويقول الحق سبحانه: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ ... .} .(11/7012)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
وهكذا اكتشفوا أن بضائعهم التي حملوها معم في رحلتهم إلى مصر ليقايضوا بها ويدفعوها ثمناً لِمَا أرادوا الحصول عليه من طعام ومَيْرة قد رُدَّتْ إليهم؛ وأعلنوا لأبيهم أنهم لا يرغبون أكثر من ذلك؛ فهم قد حصلوا على المَيْرة التي يتغذَّوْنَ بها هم وأهاليهم.
ولا بُدَّ أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة، ولسوف يحفظونه، ولسوف يعودون ومعهم كيْل زائد فوق بعير، وهذا أمر هَيِّن على عزيز مصر.
ولكن والدهم يعقوب عليه السلام قال ما أورده الحق سبحانه هنا: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ ... } .(11/7013)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
ونلحظ هنا رِقَّة قلب يعقوب وقُرْب موافقته على إرسال ابنه «بنيامين» معهم إلى مصر، هذه الرِّقَّة التي بَدَتْ من قبل في قوله: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 64] .
وطلب منهم أن يحلفوا بيمين مُوثقة أن يعودوا من رحلتهم إلى(11/7013)
مصر، ومعهم أخوهم «بنيامين» إذا ما ذهب معهم؛ ما لم يُحِطْ بهم أمر خارج عن الإرادة البشرية، كأن يحاصرهم أعداء يُضيِّعونهم ويُضيِّعون بنيامين معهم؛ وهذا من احتياط النبوة؛ لذلك قال:
{إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ... } [يوسف: 66] .
وأقسم أبناء يعقوب على ذلك، وأعطَوْا أباهم اليمين والعهد على رَدِّ بنيامين، وليكون الله شهيداً عليهم.
قال يعقوب:
{الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] .
أي: أنه سبحانه مُطلع ورقيب، فإن خُنْتم فسبحانه المنتقم.
ويُوصِي يعقوب أولاده الأسباط: {وَقَالَ يابني ... .} .(11/7014)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
وقد قال يعقوب عليه السلام ذلك الكلام في المرة الثانية لذهابهم إلى مصر، بعد أن عَلِم بحُسْن استقبال يوسف لهم، وأن بضاعتهم رُدَّتْ إليهم، وعلم بذلك أنهم صاروا أصحاب حَظْوة عند عزيز مصر.(11/7014)
وساعةَ ترى إنساناً له شأن؛ فترقب أن يُعادى، لذلك توجَّس يعقوب خِيفة أن يُدبِّر لهم أحد مكيدة؛ لأنهم أغراب.
ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة، وكانت المدن قديماً لها أبواب؛ تُفتح وتقفل في مواعيد محددة، وحين يدخلون فُرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة.
وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد، ونعلم أن الحسد موجود.
وقد علَّمنا سبحانه أن نستعيد به سبحانه من الحسد؛ لأنه سبحانه قد عَلِم أزلاً أن الحسد أمر فوق طاقة دَفْع البشر له، وهو القائل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] .
وفي أمر الحسد أنت لا تستطيع أن تستعيذ بواحد مُسَاوٍ لك؛ لأن الحسد يأتي من مجهول غير مُدْرَك، فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة، وإذا كان عصرنا، وهو عصر الارتقاءات المادية قد توصَّل إلى استخدام الإشعاع في تفتيت الأشياء.
إذن: فمن الممكن أن يكون الحسدُ مثل تلك الإشعاعات؛ والتي(11/7015)
قد يجعلها الله في عيون بعض خلقه، وتكون النظرة مثل السهم النافذ، أو الرصاصة الفتاكة.
والحق سبحانه هو القائل: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] .
وإنْ قال قائل: ولماذا يُعطي الحق سبحانه بعضاً من خلقه تلك الخواص؟
أقول: إنه سبحانه يعطي من الإمكانات لبعض من خلقه، فيستخدمونها في غير موضعها، وكلُّ إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة، ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة المُؤْذية، ويمكنك أن تنظر دون حسد إنْ قُلْتَ: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم بارك.
بذلك لا تتحقق الإثارة اللازمة لتأجُّج الشرارة المؤذية، ويمكنك أن تستعيذ بالله خالق البشر وخالق الأسرار، وتقرأ قول الحق سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 1 - 5] .
وأن تقول كلمات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يُعوِّذ الحسن والحسين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ويقول: «(11/7016)
أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامَّة» .
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان أبوكما إبراهيم يُعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام» .
كما «أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كان إذا حَزَبَهُ أمر قام وصلى «
، لأن معنى حَزْب أمر للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو لواحد من اتباع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن هذا الأمر يخرج عن قدرة البشر.
وهنا على الإنسان أن يأوي إلى المُسبِّب، فهو الركن الشديد، بعد أن أخذتَ أنت بالأسباب الممدودة لك من يد الله، وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المُضطر؛ لا ذهاب الكسول عن الأخذ بالأسباب.
والحق سبحانه يقول: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] .
والمضطر هو من استنفد كل أسبابه، ولم يَدْعُ ربه إلا بعد أن(11/7017)
أخذ بكل الأسباب الممدودة، فلا تطلب من ذات الله قبل أن تأخذ ما قدمه لك بيده سبحانه من أسباب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد يعقوب عليه السلام وقد أوصى أبناءه ألاَّ يدخلوا مصر من باب واحد؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد، وتنبهت قضية الإيمان بما يقتضيه من تسلم لمشيئة الله، فقال:
{وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ. .} [يوسف: 67] .
أي: لست أُغْني عنكم بحذري هذا من قدر الله، فهو مجرد حرص، أما النفع من ذلك الحرص والتدبير فهو من أمر الله، ولذلك قال:
{إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} [يوسف: 67] .
فكل الخَلْق أمرهم راجع إلى الله، وعليه يعتمد يعقوب، وعليه يعتمد كل مؤمن.
ونفَّذَ أبناءُ يعقوب ما أمرهم به أبوهم، يقول سبحانه: {وَلَمَّا دَخَلُواْ ... } .(11/7018)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
أي: ما كان دخولهم من حيث أمرهم أبوهم يردُّ عنهم أمراً أراده سبحانه، فلا شيء يردُّ قضاء الله، ولعل أباهم قد أراد أنْ يردَّ عنهم حسد الحاسدين، أو: أن يُدسَّ لهم أو يتشككوا فيهم، ولكن أي شيء لن يمنع قضاء الله.
ولذلك قال سبحانه:
{إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ... } [يوسف: 68] ويعقوب يعلم أن أيَّ شيء لن يردَّ قدر الله، وسبحانه لم يُعْطِ الاحتياطات الولائية ليمنع الناس بها قدرَ الله.
ويقول سبحانه هنا عن يعقوب:
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ... } [يوسف: 68] .
أي: أنه يعرف موقع المُسبِّب وموقع الأسباب، ويعلم أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله؛ لأنه سبحانه قد خلق الأسباب رحمةً بعباده:
{ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] .
أي: يعزلون الأسباب عن المُسبِّب، وهذا ما يُتعِب الدنيا.
ويقول سبحانه بعد ذلك:(11/7019)
{وَلَمَّا دَخَلُواْ ... } .(11/7020)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
أي: أنهم حين دخلوا على يوسف أحسن استقبالهم؛ وأكرم وفادتهم؛ بعد أن وَفَّوْا بوعدهم معه، وأحضروا أخاهم وشقيقه بنيامين معهم، وكان يوسف عليه السلام مُشْتاقاً لشقيقه بنيامين.
وقد عرفنا من قبل أنه الشقيق الوحيد ليوسف؛ فهما من أم واحدة؛ أما بقية الإخوة فهم من أمهات أخريات.
وقول الحق سبحانه عن يوسف:
{آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] .
يدلُّ على أن يوسف كان مُتشوِّقاً لرؤية شقيقه.
وقوله:
{قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] .
يوضح لنا أن إخوة يوسف قد استفردوا لفترة ببنيامين، ولم(11/7020)
يُحْسِنوا معاملته، وحاول يوسف أن يُسرِّي عن أخيه، وأن يُزيل عنه الكَدَر بسبب ما كان إخوته يفعلونه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ ... } .(11/7021)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
أي: أن يوسف عليه السلام قد قام بصرف المَيْرة لهم، كما سبق أن وعدهم، وكما سبق أن جَهَّزهم في المرَّة السابقة؛ وأراد أن يُبِقي أخاه معه في مصر؛ ولكن كيف يأخذه من إخوته لِيُبقِيه معه؛ وقد أخذ أبوهم ميثاقاً عليهم ألاَّ يضيعوه، وألا يُفرِّطوا فيه، كما فعلوا مع أخيه من قبل؟
إذن: لا بُدَّ من حيلة يستطيع بها أن يستبقي بها أخاه معه، وقد جَنَّد الله له فيها إخوته الذين كانوا يُعَادونه، وكانوا يحقدون عليه وعلى أخيه.
وجاءت هنا حكاية صُوَاع الملك، التي يشرب فيها الملك، وتُستخدم كمكيال، وجعلها في رَحْل أخيه.(11/7021)
وكلمة «السقاية» تُطلق إطلاقات متعددة من مادة «سقى» أي: «السين» و «القاف» و «الياء» ، فتُطلق على إسقاء الناس والحجيج الماء.
والقرآن الكريم يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [التوبة: 19] .
فكان معنى السقاية أيضاً هو المكان الذي يُوضَع فيه الماء ليشرب منه الناس.
أو: تُطلق «السقاية» على الآلة التي يُخرج بها الماء للشاربين.
وهنا تُطلق كلمة «السقاية» على الإناء الذي كان يشرب به الملك، ويُستخدم كمكيال، وهذا دليلٌ على نَفَاسة المَكِيل.
وتُطلق أيضاً كلمة «صواع» على مثل هذه الأداة التي يُشرب منها، أو يُرفع بها الماء من المكان إلى فَمِ الشارب؛ وأيضاً يُكَال بها؛ ومفردها «صاع» .
ويقول الحق سبحانه هنا عن حيلة يوسف لاستبقاء أخيه معه:
{جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] .
أي: أمر بعضاً من أعوانه أن يَضَعوا «السقاية» في رَحْل(11/7022)
أخيه، و «الرَّحْل» : هو ما يوضع على البعير، وفيه متاع المسافر كله. وبعد أن ركب إخوة يوسف جِمالهم استعداداً للعودة إلى الشام؛ وقعت المفاجأة لهم؛ والتي يقول عنها الحق سبحانه:
{ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] .
أي: يا أصحاب تلك العير أنتم سارقون. والسرقة فعل قبيح حينما يترتَّبُ عليها جزاء يُوقَّع على السارق، والمسروق هو شيء ثمين.
وفيما يبدو أن هذه الحيلة تمَّتْ بموافقة من «بنيامين» ليمكث مع أخيه يوسف حتى يحضر أبواه إلى مصر.
ولسائل أن يقول: وكيف رَضِى بنيامين بذلك، وهو أمر يُزِيد من حُزْن يعقوب؟ وكيف يتهم يوسف إخوته بسرقة لم يرتكبوها؟
أقول: انظروا إلى دِقَّة القرآن، ولنُحْسِنَ الفهم عنه؛ لنرى أن حزن يعقوب على فَقْد يوسف قد غلبه؛ فلَن يُؤثِّر فيه كثيراً فَقْد بنيامين.
ودليل ذلك أن يعقوب عليه السلام حين عاد أبناؤه وأخبروه(11/7023)
بحكاية السرقة؛ واستبقاء بنيامين في مصر قال: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
ولم يذكر يعقوب بنيامين.
وأما عن اتهامهم بالسرقة؛ فالآية هنا لا تُحدِّد ماذا سرقوا بالضبط، وهم في نظر يوسف قد سَرَقوه من أبيه، وألقوْه في الجُبِّ.
وهنا يأتي الحق سبحانه بموقف إخوة يوسف عليه السلام: {قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ. .} .(11/7024)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
أي: أن إخوة يوسف أقبلوا على مَنْ يتهمونهم بالسرقة مُتسائِلين: ماذا فقدتم؟ ولماذا تتهموننا؟
وهنا يقول الحق سبحانه ما قاله من اتهموهم: {قَالُواْ نَفْقِدُ ... } .(11/7024)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
أي: أن الذين أعلنوهم بالسرقة قالوا لهم: لقد ضاعت سقاية(11/7024)
الملك؛ ويُقَال لها «صواع» ، ومَنْ سيُخرجها من المكان المختفية به سوف ينال مكافأة قدرها وَزْن حِمْل بعير؛ فلعل صُواع الملك قد خُبئت في حِمْل أحدكم دون قصد.
وأكد رئيس المنادين أنه الضامن لمن يُخرج صواع الملك، ويحضرها دون تفتيش أن ينال جائزته، وهي حِمْل بعير من المَيْرة والغذاء.
وهنا قال إخوة يوسف عليه السلام: {قَالُواْ تالله ... } .(11/7025)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
وقولهم {تالله} هو قسم، وعادةً تدخل «التاء» على لفظ الجلالة عند القَسَم المقصود به التعجُّب، أي: أن إخوة يوسف أقسموا مُندهشين لاتهامهم بأنهم لم يسرقوا؛ وأن الكُلَّ قد علم عنهم أنهم لم يأتوا بغرض الإفساد بسرقة أو غير ذلك، لم يسبق أن اتهمهم أحد بمثل هذا الاتهام.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنة مَنْ أعلنوا عن وجود سرقة، وأن المسروق هو صُوَاع الملك.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم: {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ ... .} .(11/7025)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
وهذا سؤال من مُسَاعدي يوسف لإخوة يوسف عن العقوبة المقررة في شريعتهم لمن يسرق؟ وماذا نفعل بمن نجد في رَحْله صُواع الملك؛ وثبت كذبكم بأنكم لم تسرقوه؟
وكان المعروف أن مَنْ يُضبط بسرقة في شريعة آل يعقوب أن يُسترقَّ أو يظل في خدمة مَنْ سرقهم، كما فعلت عمة يوسف التي أحبته وعاش معها بعد وفاة أمه؛ وحين أراد والده أن يسترده أخفَتْ في ثياب يوسف شيئاً عزيزاً ورثته عن أبيها إسحاق، وبذلك استبقتْ يوسف معها، ولم يأخذه أبوه إلا بعد أن ماتت عمَّته.
وكان هدف يوسف عليه السلام إذن أن يستبقي أخاه معه؛ وهو قد علم من قبل هذا الحكم، وهكذا تركهم يوسف عليه السلام يحكمون بأنفسهم الحكم الذي يَصْبُو إليه، وهو بقاء أخيه معه.
ويُورِد الحق سبحانه قولهم: {قَالُواْ جَزَآؤُهُ ... } .(11/7026)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
وهكذا نطقوا بالحُكْم هم أنفسهم، وأكَّدُوه بقولهم:
{كذلك نَجْزِي الظالمين} [يوسف: 75] .(11/7026)
وهكذا أعانوا هم يوسف لتحقيق مَأْربه ببقاء شقيقه معه، وأمر يوسفُ بتفتيش العير.
ويقول الحق سبحانه: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ... } .(11/7027)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وكان الهدف من البَدْء بتفتيش أوعيتهم؛ وهم عشرة؛ قبل وعاء شقيقه، كي ينفي احتمال ظنِّهم بأنه طلب منهم أن يأتوا بأخيهم معهم ليدبر هو هذا الأمر، وفتش وعاء شقيقه من بعد ذلك؛ ليستخرج منه صُوَاع الملك؛ وليُطبِّق عليه قانون شريعة آل يعقوب؛ فيستبقي شقيقه معه. وهذا دليل على الذكاء الحكيم.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد مُحْكماً لصالح يوسف، وهو الحق القائل:
{كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] .
أي: كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه:
{مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [يوسف: 76] .(11/7027)
أي: ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك الذي يحكم مصر؛ لولا فتوى الإخوة بأن شريعتهم تحكم بذلك.
ويتابع سبحانه:
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
وهكذا رفع الله من شأن يوسف، وكَادَ له، وحقَّق له أمله، وهو يستحق كل ذلك؛ ورفعه سبحانه درجاتٍ عالية من العلم والحكمة.
ولم يكُنْ الكيد بسبب أن يُنزِل بشقيقه عذاباً أو ضياعاً، بل نريد ليوسف ولأخيه الرِّفْعة، فكأن كثيراً من المصائب تحدث للناس، وهم لا يَدْرون ما في المحنة من المِنَح.
وعلى المؤمن أن يعلم أن أيَّ أمر صعب يقع عليه من غير رأي منه؛ لا بُدَّ وأن يشعر أن فيه من الله نفعاً للإنسان.
وإخوة يوسف سبق أنْ كَادوا له، فماذا كانت نتيجة كَيْدهم؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف، وجعله سبحانه ذَا علم، فقال:
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
و (ذي علم) أي: صاحب علم. وكلاهما مُنْفِصل، أي: هناك «صاحب» ، وهناك «علم» ، والصاحب يوجد أولاً؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم؛ فيصير صاحبَ عِلْم، ولكن فوقه:
{عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .(11/7028)
أي: أن العلم ذاتيّ فيه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
فماذا كان موقف أخوة يوسف؟
بطبيعة الحال لابد أنهم قد بُهِتوا، أول تصرف منهم كان لا بُدَّ أن ينصرف إلى الأخ الذي وُجدت السقاية في رَحْله؛ وأخذوا يُوبِّخونه؛ لأنه أحرجهم وفضحهم، وبحثوا عن أسباب عندهم للحفيظة عليه؛ لا للرفق به.
وموقفهم المُسْبق منه معروف في قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] .
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي «راحيل» ، ولو كان شقيقاً لهم لَتلَّطفوا به. وأوضح لهم: إن مَنْ جعل البضاعة في رِحَالي هو مَنْ جعل البضاعة في رِحَالكم.
وهنا قال أحد الأخوة: تالله، يا أبناء راحيل، ما أكثر ما نزل علينا من البلاء منكم، فَرَدَّ بنيامين: بنو راحيل نزل عليهم من البلاء منكم فوق ما نزل عليكم من البلاء منهم.
ويورد الحق سبحانه هنا قولهم:(11/7029)
{قالوا إِن يَسْرِقْ ... } .(11/7030)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
وهكذا ادَّعَوْا أن داء السرقة في بنيامين قد سبقه إليه شقيق له من قبل، وقالوا ذلك في مجال تبرئة أنفسهم، وهكذا وَضُحَتْ ملامح العداوة منهم تجاه يوسف وأخيه.
وقولهم:
{إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ. .} [يوسف: 77] .
يُسمَّى في اللغة قضية شرطية. ومعنى القضية الشرطية؛ أن حدثاً يقع بسبب حَدَث وقع قبله، فهناك حَدَث يحدث وحده، وهناك حَدَث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ: إنْ تذاكر دروسك تنجحْ، وهنا حَدَثان، المذاكرة والنجاح، فكأن حدوثَ النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة، ولا بُدَّ أن يحدث الشرط أولاً؛ ثم يحدث الحدث الثاني، وهو هنا قولهم:
{فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] . كتعليل لسرقة بنيامين.
والمثل من القرآن أيضاً:(11/7030)
{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [آل عمران: 184] .
فكأن الله يوضح للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنْ كذَّبوك الآن فيما تنقل لهم من أخبار السماء؛ فلا تحزن ولا تبتئس؛ فهذا التكذيب ظاهرة عَانَى منها كل الرسل السابقين لك؛ لأنهم يجيئون بما يُنكره المرسل إليهم أولاً، فلا بد أن يكذبوا، وهكذا يستقيم الشرط، لأن الحق سبحانه هنا قد عدل بالشيء عن سببه، فكان جواب الشرط بعد الزمان الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه:
{إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ. .} [يوسف: 77] .
أي: لا تعجب يا عزيز مصر؛ لأن هذه خصلة في أولاد راحيل، قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل!!
وكل حدث يحدث للمَلَكات المستقيمة؛ لا بُدَّ أن يُخرج تلك المَلَكات عن وضعها، ونرى ذلك لحظة أن يتفوَّه واحد بكلمة تُخرج إنساناً مستقيماً عن حاله وتُنغِّصه، ويدرك بها الإنسان المستقيم ما يؤلمه؛ وينفعل انفعالاً يجعله ينزع للردِّ.
ولذلك يوصينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه الغضب؛ وإلا فليضطجع» .(11/7031)
كي يساعد نفسه على كَظْم ضيقه وغضبه، ولِيُسرِّب جزءاً من الطاقة التي تشحنه بالانفعال.
ولكن يوسف عليه السلام لم ينزع إلى الرد، لذلك قال الحق سبحانه:
{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ... } [يوسف: 77] .
وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمَّته التي اتهمته بالباطل أنه سرق؛ لتحتفظ به في حضانتها من فَرْط حُبِّها له، لكن يوسف عليه السلام أراد أن يظل مجهولاً بالنسبة لهم، لتأخذ الأمور مجراها:
{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ. .} [يوسف: 77] .
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثَّر فيه، ولكن قال رأيه فيهم لنفسه:
{أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] .
لأنكم أنتم مَنْ أخذتموني طفلاً لألعب؛ ثم ألقيتموني في الجب؛ وتركتم أبي بلا موانسة.
. وأنا لم أسرق بل سُرِقت، وهكذا سرقتم ابناً من أبيه.
وهو إنْ قال هذا في نفسه فلا بُدَّ أن انفعاله بهذا القول قد ظهر على ملامحه، وقد يظهر المعنى على الملامح، ليصِلَ إليهم المعنى، والقول ليس إلا ألفاظاً يصل به مدلول الكلام إلى مُسْتمع.
وقد وصل المعنى من خلال انفعال يوسف.(11/7032)
وقوله: {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] .
أي: أنه سبحانه أعلم بما تنعتون، وتظهرون العلامات والسِّمات، وغلبت كلمة «تصفون» على الكلام.
ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116] .
أي: أن ما تقولونه يُوحي من تلقاء نفسه أنه كَذِب، وهكذا نعرف أن كلمة «تَصِف» وكلمة «تصفون» غلب في استعمالهما للكلام الذي يحمل معه دليلَ كَذِبه.
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنتهم بعد ذلك: {قَالُواْ ياأيها ... } .(11/7033)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
وهكذا دخلوا مع يوسف في نقاش، وبدأوا في الاستعطاف؛ بقولهم:
{إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ... } [يوسف: 78] .
ونلحظ أن كلمة «كبير» تُطلق إطلاقات متعددة، إنْ أردتَ الكِبَر في السنِّ تكون من «كَبرَ يَكْبَر» ، وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام تقول: «كَبُرَ يَكبُر» .(11/7033)
والحق سبحانه يقول: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] .
والكِبَر واحد من معاني العظمة، أما الكِبَرُ في السِّنِّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا:
{إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ... } [يوسف: 78] .
قد تكون ترقيقاً بالعزة، أو ترقيقاً بالضعف.
أي: إن له أباً شيخاً كبيراً عظيماً في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من أجل سرقة، فهذا أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدِّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للأب شرفه ومَجْده وعظمته، واسْتُرْ ذلك الأمر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو: أن يكون قولهم مقصوداً به، أن الأب شيخ مُهدَّم، لا يحتمل الصدمة، وخصوصاً أن له ابناً قد فُقِد.
ثم يعرضون عَرْضاً آخر، فيقولون:
{فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} [يوسف: 78] .
أي: أنهم سألوه أن يُتمِّمَ إحسانه عليهم، فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم منزلاً كريماً، وأعطاهم المَيْرة، ولم يأخذ بضائعهم ثمناً لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ لا يضِنُّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم، بأن يأخذ واحداً منهم بدلاً من أخيهم الصغير.(11/7034)
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه، ولكن القاعدة هي ألاَّ يُؤاخذ بالذنب إلا صاحبه؛ ولذلك لم يَفُتْ هذا الأمر على يوسف، فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك: {قَالَ مَعَاذَ الله ... } .(11/7035)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
ويستعيذ يوسف عليه السلام بالله أن يأخذ أحداً بدلاً ممَّنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك، فما ذنبه في هذا الأمر؟ ولا أحد يمكن أن ينال عقاباً على ذنب ارتكبه غيره.
وساعةَ تقرأ «إذا» مُنوَّنة؛ فاعرف أن هناك جملةً محذوفةً، أي: أن يوسف قال: إنْ أخذنا غير مَنْ وجدنا متاعنا عنده نكون من الظالمين.
وجاء «التنوين» بدلاً من الجملة المحذوفة التي ذكرناها.
ومثال آخر من القرآن هو قول الحق سبحانه: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] .
ويحدث ذلك حين تبلغ الرُّوح الحلقوم، وجاء «التنوين» عِوَضاً عن الجملة كلها.
وهكذا أراد يوسف أن يُذكِّرهم أنه لا يحِقُّ له أن يأخذ أخاً منهم بدلاً من بنيامين؛ لأنه هو مَنْ وُجِد في متاعه صُوَاع الملك؛(11/7035)
ولا يصح له أن يظلم أحداً، أو يأخذ أحداً بجريرة أحد آخر.
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة لا يُبَتُّ فيها بسهولة؛ لأنها تتعلق بأمر خطير.
ويصور الحق سبحانه حالتهم هذه فيقول: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ. .} .(11/7036)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
ويقال: «يئس» أي: قطع الأمل من الشيء، وهم لم يقطعوا الأمل فقط، بل استيأسوا، وهو أمر فوق اليأس.
فهم قد أخذوا يُرقِّقون كل ألوان المُرقِّقات؛ ولا فائدة؛ وكلما أوردوا مُرقِّقاً؛ يجدون الباب أمامهم مُوصَداً.
وكأنهم بذلك يُلِحُّون على اليأس أن يأتيهم؛ لأن الظروف المحيطة والجو المحيط لا يحمل أي بارقة أملٍ، وكلما تبدو بارقةُ أملٍ(11/7036)
ويطلبونها يجدون الطريق مُوصَداً؛ فكأنهم يطلبون اليأس من أن يأذن يوسف بسفر أخيهم بنيامين معهم في رحلة العودة إلى أبيهم.
وهنا: {خَلَصُواْ نَجِيّاً. .} [يوسف: 80] .
أي: أنهم انفردوا عنه، وعن أعين الحاضرين؛ العزيز يوسف، ومَنْ حوله من المُعَاونِين له، وأخيهم موضع الخلاف، وانفردوا بأنفسهم.
والانفراد هو المناجاة؛ والمناجاة مَسرَّة؛ والمَسرَّة لا تكون إلا في أمر لا تحب لغيرك أن يطلع عليه.
ونلحظ أن: {خَلَصُواْ ... } [يوسف: 80] هي جمع، و: {نَجِيّاً} [يوسف: 80] مفرد، وهذا من ضمن المواقع التي يتساءل فيها مَنْ لا يملكون مَلَكةً عربية: كيف يأتي القرآن بمفرد بعد الجمع؟
ونقول دائماً: لو أنهم امتلكوا اللغة كملَكَة لَعرفوا أن ذلك جائز جداً. ومثال هذا هو قول الحق سبحانه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] .
وهم لا يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع، كأن الملائكة يجمعون قوة كل واحد منهم لتكون قوة واحدة.
ومثال آخر: هو قول إبراهيم خليل الرحمن:(11/7037)
{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 75 - 77] .
أي: أن إبراهيم عليه السلام جمع الآلهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدواً واحداً له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة «صديق» ، وكذلك كلمة «عَدْل» فحين ينظر القضاء في أمر قضية ما؛ فالقاضي لا يُصدِر الحكم وحده؛ بل يُصِدره بعد التشاور مع المُستَشارين؛ ويصدر الحكم من الثلاثة: رئيس المحكمة، وعضو اليمين، وعضو اليسار وكلاهما بدرجة مستشار.
ويُقَال: «حكم القضاة عَدْلاً» . ولا يقال: إن كل مستشار أو قاض له عدل.
وكذلك: {نَجِيّاً} [يوسف: 80] في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، فهم حين استيأسوا من يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا.
وعادة يكون الرأي الأول للأخ الأكبر، الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما يتيح له أن يُبدِي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يوسف: 80] .(11/7038)
وقد يكون كبيرهم هو أكبرهم عمراً؛ أو هو رئيس الرحلة، وحين رآهم قد قَبِلوا فكرة العودة دون أخيهم الذي احتجزه عزيز مصر؛ قال لهم رأيه الذي حذرهم فيه أنْ يغفلوا عن أن أباهم قد أخذ منهم موثقاً من الله إلا أنْ يُحَاط بهم؛ كما يجب ألا ينسوا أن لهم سابقة حين أخذوا يوسف وضيَّعوه.
وبناءً على ذلك استقر قراره ألاّ يبرحَ المكان، ولن يعود إلى أبيه إلا إنْ أذِنَ له بذلك؛ أو أن يحكمَ الله له بأن يُسلِّمه عزيزُ مصر أخاه، أو أن يموت هنا في نفس البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس؛ وخجل من أن يعود إلى أبيه بدون بنيامين؛ ولذلك ترك أخوته يتحملَّون تلك المواجهة مع الأب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الأب؛ لأنه فقد في الرحلة الأولى يوسف، وفي الرحلة الثانية يفقد ابنه بنيامين، وكذلك الابن الكبير الذي يرأس الرحلة.
وفي هذا تصعيد للقسوة على الأب، وكان المفروض أن تدور مُدَاولَة بين الأخوة في تلك المُنَاجاة، ولكن الأخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم الأمر.
وحين سألوه: ماذا نفعل يا كبيرنا؟ جاء قوله الذي أوردته الآية التالية:(11/7039)
{ارجعوا إلى أَبِيكُمْ ... } .(11/7040)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وهكذا أمر الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة إخوته أن يرجعوا إلى أبيهم، ويقولوا له ما حدث بالضبط، فقد اتُّهم ابنه بالسرقة، ونحن لا نقول هذا الكلام إلا بعد أن وجد فِتيان العزيز صُوَاع الملك في رَحْلِه، ولا نعلم هل دَسَّها أحد له؟ وهل هي حِيلة ومكيدة؟
ونحن لا نقول لك يا أبانا إلا ما وصل إلينا من معلومات، وقد أخذه العزيز طبقاً لشريعتنا، ونحن بخبرتنا بأخينا لا نشهد عليه بالسرقة، إلا أن ثبوتَ وجود صُواع الملك في رَحْله هو السبب في كل ذلك.
ويعلم الأخ الأكبر أن يعقوب عليه السلام قد يُكذِّب أولاده؛ لأن هناك سوابقَ لهم؛ لذلك أوصاهم الأخ الأكبر أو رئيس الرحلة أن يقولوا لأبيهم إنْ كَذَّبهم ما جاء به الحق على ألسنتهم: {وَسْئَلِ القرية ... } .(11/7040)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
أي: أنك يا أبانا إنْ كنتَ تشك في أقوالنا؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان الذي كنا فيه؛ لأن هذا الموضوع قد أحدث ضجَّة وحدث أمام جمع كبير من الناس، والقوافل التي كانت معنا شهدتْ الواقعة؛ فقد أذَّن مُؤذِّن بالحادث، وتَمَّ تفتيش العِير علناً.
فإذا أردتَ أن تتأكد من صدق أقوالنا، فاسأل العِير التي كانت تسير معنا في الطريق، وهم يعرفون هذه القضية كما نعرفها، أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلام أخوة يوسف لأبيهم يعقوب:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا. .} [يوسف: 82] .
ونحن نعلم أن كل حَدَثٍ من الأحداث لا بُدَّ له من فاعل، ومن مفعول يقع عليه، ومن مكان يقع فيه، ومن زمان يقع فيه؛ ومن سبب يُوجِبه، ومن قوة تنهض به.
وفي بعض الحالات نجد أن المكان هو الأمر الظاهر والقوي في الحدث، فننسبه إليه، فيُقال:
{وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .
والمراد بطبيعة الحال أن يَسأل أهل القرية، أو: أن المسألة كانت واضحة تماماً لدرجة أن الجماد يعرف تفاصيلها، أو: أنك نبيٌّ ويوحي لك الله فَسَلْهُ أن يجعل الأرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم:(11/7041)
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير} [يوسف: 82] .
ونعلم أن العير هي المَطايا؛ سواء أكانت نِياقاً أو كانت من الجمال أو الحمير أو البِغَال التي تحمل البضائع.
وحين يُقَال:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا والعير ... } [يوسف: 82] .
أي: أن العير كان لها في الأمر شيء فوق المُلاَبسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر؛ فقد خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلقَى العير القادمة من الشام وهي مُحمَّلة بالبضائع؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين التي كانت بمكة، ولم يكن مع هذه العير إلا قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذين قَدِموا من مكة؛ وصفهم بالنفير، أي: الجماعة الذين نفروا لمواجهة معسكر الإيمان.
إذن: فكل حَدَث يأخذ الأمر البارز فيه.
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقَوْا أباهم، وليس معهم أخوهم بنيامين؛ وكذلك تَخَلُّف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة.
يقول الحق سبحانه: {وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا ... } [يوسف: 82] .
ويجوز أن تفتيشهم قد تَمَّ في مكان بعيد قليلاً عن العُمْران؛(11/7042)
وفحص جنود أو مساعدو يوسف أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسُمى المكان «قرية» ، مثلما نفعل نحن حالياً حين نخصص مكاناً للجمارك؛ نفحص فيه البضائع الخارجة أو الداخلة إلى البلد، فقولهم:
{وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا ... } [يوسف: 82] .
أي: اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش.
وكذلك قولهم: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] .
أي: اسأل مَنْ كانوا معنا، وجِئْنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الأخرى.
وكرر قولهم:
{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] .
لأنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك؛ لذلك أرادوا هنا أن يُثبتوا صدقهم؛ وحين يسأل أبوهم يعقوب؛ سيجد أنهم صادقون فعلاً، وهم لم يطلبوا شهادة الغير إلا لأنهم واثقون من صدقهم هذه المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة الاسمية:
{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 82] .
لأنهم قد فهموا أن والدهم قد شَكَّ فيهم من قبل، حين جاءوا بدم كذبٍ، وادَّعوا أنه قميص يوسف، وأن الذئب قد أكله.(11/7043)
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ ... } .(11/7044)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
الأمور التي تخالف الضمير؛ ويُستحى منها؛ ويُخشى مَغبَّتها؛ هي أمور تستعصي على النفس؛ وتحتاج النفس إلى علاج حتى تبرزها، وتحتاج إلى مَنْ يُيسّر لها، ما أن تُقدِم على فعل الأمر المستهجن، وهذا ما يُقال له: «سَوَّل» .
وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب:
{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ... } [يوسف: 83] .
أي: يسَّرتْ لكم أنفسكم أمراً يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة، وسبق أن قال يعقوب لحظةَ أنْ جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] .(11/7044)
وهنا طلب يعقوب عليه السلام العون مما يدل على أن ما قالوه، وكذلك أحداث القصة لن تقف عند هذا الحّدِّ، بل ستأتي من بعد ما قالوه أحداث تتطلب تجنيد قوى الصبر في النفس، وتتطلب معونة الله.
ويختلف الأمر هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل النفس، واستلهام الصبر من الله، فَهِبَات الفرج قد اقتربتْ، فقال:
{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ... } [يوسف: 83] .
في هذه الآية طلب الأمل الذي يوحي بالفرج، وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون:
لماذا قال يعقوب:
{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً. .} [يوسف: 83] .
والغائب عنه هما يوسف وأخوه؟
ونقول: ولماذا تنسوْنَ كبير الأخوة الذي رفض أن يبرحَ مصر، إلا بعد أن يأذن له يعقوب، أو يفرج عنه الله؟
لقد غاب عن يعقوب ثلاثة من أولاده: يوسف وبنيامين وشمعون؛ لذلك قال:
{عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً. .} [يوسف: 83] .
ولم يَقُلْ: يأتيني بهما.(11/7045)
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله:
{إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} [يوسف: 83] .
فالله سبحانه يعلم أين هم؛ لأنه العليم بكل شيء، وهو سبحانه حكيم فيما يُجريه علينا من تصرّفات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وتولى عَنْهُمْ ... } .(11/7046)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
وأعرض يعقوب عليه السلام عنهم؛ فما جاءوا به هو خبر أحزنه، وخَلاَ بنفسه؛ لأنه ببشريته تحسَّر على يوسف، فقد كانت قاعدة المصائب هي افتقاده يوسفَ.
وساعةَ تسمع نداءً لشيء محزن، مثل: «وا حُزْناه» أو «وا أسفاه» أو «وا مُصيبتاه» ؛ فهذا يعني أن النفس تضيق بالأحداث وتقول «يا همّ، هذا أوانك، فاحضر» . أو أنه قال:
{ياأسفى عَلَى يُوسُفَ ... } [يوسف: 84] .
لأن أخاه بنيامين كان أشبهَ الناس به؛ فكان حُزْنه على يوسف(11/7046)
طاقة من الهَمِّ نزلتْ به، وتبعتها طاقة هَمٍّ أخرى، وهي افتقاد بنيامين.
وقول الحق سبحانه:
{وابيضت عَيْنَاهُ} [يوسف: 84] .
أي: أن دموع يعقوب كثُرتْ حتى بَدا الجزء الأسود في العين وكأنه أبيض. أو: ابيضتْ عيناه من فَرْط حُزنه، الذي لا يبثُّه لأحد ويكظمه.
وهو قد يكظم غيظه من كل ما حدث، أما الانفعالات فلا أحد بقادر على أن يتحكم فيها. «ونجد رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبكي؛ وتذرف عيناه حُزْناً على موت ابنه إبراهيم، فقال له عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أتبكي؟ أو لم تكن نهيْتَ عن البكاء؟ قال:» لا، ولكن نهيتُ عن صوتين أحْمقيْنِ فاجرين: صوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة شيطان «.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»(11/7047)
إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون «.
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه لا يريد من الإنسان أن يكون جلموداً أو يكون صخراً لا ينفعل للأحداث، بل يريده مُنفعلاً للأحداث؛ لأن هذا لَوْنٌ يجب أن يكون في إنسانيته، وهذه عاطفة يريد الله أن يُبقيها، وعلى المؤمن أن يُعلِيها.
فسبحانه هو الذي خلق العاطفة، والغريزة في الإنسان، ولو أراد الله الإنسانَ بلا عاطفة أو غريزة لَفعلَ ما شاء، لكنه أراد العاطفة والغريزة في الإنسان لمهمة.
ولحظة أن تخرج العاطفة أو الغريزة عن مُهمتها، يقول لك المنهج: لا. لأن مهمة المنهج أن يُهذِّب لك الانفعال.
والمثل الذي أضربه هنا هو حُبُّ الإنسان للاستمتاع بالطعام، يقول له المنهج: كُلْ ما يفيدك ولا تَكُنْ شَرِهاً.
والمثل الآخر: غريزة حب الاستطلاع، يقول لك المنهج: اعرف ما يفيدك؛ ولا تستخدم هذه الغريزة في التجسُّس على الناس.(11/7048)
وغريزة الجنس أرادها الله لإبقاء النوع، ولتأتي بالأولاد والذرية، لكن لا تستعملها كانطلاقات وحشية. وهكذا يحرس المنهجُ الغرائزَ والعواطفَ لتبقى في إطار مهمتها.
والعاطفة على سبيل المثال هي التي تجعل الأب يَحنُو على ابنه الصغير ويرعاه، وعلى ذلك فالمؤمن عليه أن يُعْلِي غرائزه وعواطفه.
وقول الحق سبحانه عن يعقوب:
{فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] .
أي: أنه أخذ النزوع على قَدْره. وكلمة» كظيم «مأخوذة من» كظمت القربة «أي: أحكمنا غَلْق فوهة القِرْبة، بما يمنع تسرُّب الماء منها.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {قَالُواْ تَالله ... } .(11/7049)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
ولقائل أن يسأل: ومَنِ الذين قالوا ليعقوب ذلك، وقد ذكرت الآية السابقة أنه تولَّى عنهم؟(11/7049)
نقول: لقد عاش يعقوب مع أبنائه وأحفاده، ويُقَال في الأثر: إن يعقوب دخل عليه بعض الناس، فقالوا له «تالله انهشمت يا يعقوب، ولم تبلغ سِنَّ أبيك إسحاق» .
والمعنى: أنك صِرْت عجوزاً عاجزاً، مهشماً. قال: إنما هشَّمني يوسف. فعتب عليه الله في هذه القَوْلة، وأوضح له: أتشكو ربك لخلقه؟ فرفع يده وقال: خطيئة أخطأتها يا رب فاغفرها لي. قال: غفرتُها لك.
وقد نبَّهه بعض أبنائه أو أحفاده فقالوا:
{تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [يوسف: 85] .
أي: لا تزال تذكر يوسف وما حدث له، حتى تُشرف على الهلاك. و «الحَرَض» كما نعلم هو المُشْرِف على الهلاك، أو يهلك بالفعل.
وجاء الرد من يعقوب عليه السلام، وأورده الحق سبحانه:(11/7050)
{قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُواْ ... } .(11/7051)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
وشكاية الأمر إلى الله لَوْن من العبادة لله، والبَثُّ: هي المصيبة التي لا قُدرة لأحد على كتمانها؛ فينشرها، وإذا أصاب الأعلى الأدنى بما يراه الأدنى سوءً، يتفرع الأدنى إلى نوعين: نوع يتودد إلى الأقوى، ويتعطفه ويلين له، ويستغفره ويستميحه، ونوع آخر يتأبى على المُبْتَلى. ويتمرد، ولسان حاله يقول: «فليفعل ما يريد» .
والحق تبارك وتعالى يقول في كتابه: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} [الأنعام: 43] .
فساعة يأتي البأْسُ ونتضرع إلى الله؛ يكون البأس قد غسلنا من الذنوب ونسيان الذِّكْر؛ وأعادنا إلى الله الذي لن يزيل البأس إلا هو.
أما الذي يتمرد ويستعلي على الأحداث، فويل له من ذلك التمرد. والحق سبحانه حين يصيب إنساناً بمصيبة، فهو يلطف بِمَنْ يدعوه.
وتساءَل بعضهم: ولماذا لم يَقُلْ يعقوب ما علَّمنا إياه رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] .(11/7051)
ونقول: إن هذا من النعم التي اختصَّ بها الحق سبحانه أمةَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وحين دخل بعضهم على عليّ بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وأرضاه وكان يعاني من وَعْكة، وكان يتأوه، فقالوا له: يا أبا الحسن أتتوجَّع؟ قال: أنا لا أشجع على الله.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يعلن يعقوب عليه السلام أنه لا يشكو حُزْنه وهَمَّه إلا إلى الله، فهو القادر على كشف الضُّرِّ؛ لأن يعقوب عليه السلام يعلم من الله ما لا يعلم أبناؤه أو أحفاده.
فقد كان يشعر بوجدانه، وبما كان لديه من شكوك لحظة إبلاغهم له بحكاية الذئب المكذوبة أن يوسف ما زال حياً، وأن الرُّؤيا التي حكى يوسف عنها لأبيه، سوف يأذن الحق بتحقيقها.
ويذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان يعقوب فيقول: {يابنى اذهبوا ... } .(11/7052)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ونلحظ أن الذين غابوا هم ثلاثة: يوسف، وبنيامين، والأخ(11/7052)
الأكبر الذي أصرَّ على ألاَّ يبرح مصر إلا بعد أن يأذنَ أبوه، أو يأتي فرج من الله.
وهنا في هذه الآية جاء ذِكْر يوسف وأخيه، ولم يَأْتِ ذِكْر الأخ الكبير أو رئيس الرحلة. ونقول: إن يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية الأخوة، وهما قد فارقا الأب صغاراً، أما الأخ الأكبر فيستطيع أن يحتال، وأن يعود في الوقت الذي يريد.
وقول يعقوب:
{اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ. .} [يوسف: 87] .
نجد فيه كلمة (تحسسوا) ، وهي من الحسِّ، والحسُّ يُجمع على «حواس» ، والحواس هي منافذ إدراك المعلومات للنفس البشرية، فالمعلومات تنشأ عندنا من الأمور المُحسَّة، وتدركها حواسنا لتصير قضايا عقلية.
وهكذا نعلم أن الحواس هي قنواتُ المعرفة، وهي غير مقصورة على الحواس الخمس الظاهرة؛ بل اكتشف العلماء أن هناك حواسَّ أخرى غير ظاهرة، وسبق أن تعرضنا لهذا الأمر في مراتٍ كثيرة سابقة.
وقوله:
{فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ. .} [يوسف: 87] .
يعني أعملوا حواسكم، بكل ما فيها من طاقة، كي تصلوا إلى الحقيقة.(11/7053)
ونعلم أن كلمة «الجاسوس» قد أُطلِقَتْ على مَنْ يتنصَّتْ ويرى ويشُمُّ رائحة الأخبار والتحرُّكات عند معسكر الأعداء؛ ويقال له «عين» أيضاً.
وفي عُرْفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الأخبار «شَمْ شِمْ لنا على حكاية الأمر الفلاني» .
وتابع يعقوب القول:
{وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] .
أي: إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا؛ ولم نجد حلاً، لأن الله موجود، ولا يزال لله رحمة.
والأثر يقول: «لا كَرْبَ وأنت رَبُّ» .
وما يَعِزُّ عليك بقانونك الجأ فيه إلى الله.
وقد علَّمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنه كلما حَزَبه أمر قام وصلى» .
وبهذا لجأ إلى ربِّ الأسباب، وسبحانه فوق كل الأسباب، وجَرِّبوا ذلك في أيِّ أمر يُعضِلكم، ولن ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلاة إلا ويجد حَلاّ لِمَا أعضلَه.(11/7054)
وكلمة «رَوْح» نجدها تُنطَق على طريقتين «رَوْح» و «رُوح» ، و «الرَّوْح» هي الرائحة التي تهبُّ على الإنسان فيستروح بها، مثلما يجلس إنسان في يوم قَيْظ؛ ثم تهبُّ نسمة رقيقة ينتعش بها.
والحق سبحانه يقول: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] .
ونأخذ لهذه الروح مثلاً من المُحسَّات حين يشتد القيظ، ونجلس في بستان، وتهبُّ نسمة هواء؛ فيتعطر الجو بما في البستان من زهور.
والرُّوح هي التي ينفخها الحقُّ سبحانه في الجماد فيتحرك.
ويأتي هنا يعقوب عليه السلام بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن، فيقول:
{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] .
لأن الذي ليس له رَبٌّ هو مَنْ ييأس، ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملاحدة كبيرة، لكن المؤمن لا يفعل ذلك؛ لأنه يعلم أن له رباً يساعد عباده.
وما دام المؤمن قد أخذ بالأسباب؛ فسبحانه يَهبُه ممَّا فوق الأسباب.(11/7055)
وسبحانه يقول: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 2 - 3] .
وهذه مسألة تحدث لمن يتقي الله. أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه الأمور، ما دام يأخذ بالأسباب ويتقي الله، وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد جاء من حيث لا يحتسب؛ لأن الله هو الرصيد النهائي للمؤمن.
وهَبْ أنك سائر في الطريق، وفي جيبك جنيه واحد، وليس عندك غيره وضاع منك؛ هل تحزن؟ نعم سوف تحزن، ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفاً لضياع الجنيه، ولو كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات، فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع.
ومَنْ له رَبٌّ، يبذل الجَهْد في الأخذ بالأسباب؛ سيجد الحل والفرج من أيِّ كرب مِمَّا هو فوق الأسباب.
ولماذا ييأس الإنسان؟
إن المُلحِد هو الذي ييأس؛ لأنه لا يؤمن بإله، ولو كان يؤمن بإله، وهذا الإله لا يعلم بما فيه هذا الكافر من كَرْب، أو هو إله يعلم ولا يساعد مَنْ يعبده؛ إما عجزاً أو بُخْلاً، فهو في كل هذه الحالات ليس إلهاً، ولا يستحق أن يُؤمَن به.(11/7056)
أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلهاً قادراً، يعطي بالأسباب، وبما فوق الأسباب؛ وهو حين يمنع؛ فهذا المَنْع هو عَيْنُ العطاء؛ لأنه قد يأخذ ما يضره ولا ينفعه.
وينقلنا الحق سبحانه إلى نَقْلة أخرى؛ وهي لحظة أنْ دخلوا على يوسف عليه السلام في مقرِّه بمصر؛ ونقرأ قوله الحق: {فَلَمَّا دَخَلُواْ ... } .(11/7057)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
ولم يذكر الحق سبحانه اسم مَنْ دخلوا عليه، لأنه بطل القصة، والضمير في «عليه» لا بُدَّ أن يعود إلى معلوم، ونادوه بالتفخيم قائلين:
{ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} [يوسف: 88] .
أي: أن الجوع صَيَّرنا إلى هُزَال، وبدأوا بترقيق قلب مَنْ يسمعهم؛ بعد تفخيمهم له؛ فهو الأعلى وهُم الأدنى.
ويستمر قولهم:(11/7057)
{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88] .
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه، وقد اختاروا مَدْخل الترقيق والتفخيم كَلَوْن من المَكْر، فالتفخيم بندائه بلقب العزيز؛ أي: المالك المُتمكِّن؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه منه هو أمر في متناول سلطته.
والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هُزال، وأعلنوا قدومهم ومعهم بضاعة مزجاة، أي: بضاعة تُستخدم كأثمان لِمَا سوف يأخذونه من سِلَع.
وكلمة: {مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] .
أي: مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع.
والحق سبحانه يقول: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [النور: 43] .
وكلمة «يزجي» بمعنى: يدفع.
إذن: فما معنى قول الحق سبحانه:
{بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] .(11/7058)
ولكي تعرف المعنى بإحساسك؛ جَرِّب هذا الأمر في نفسك، وراقب كيف تدفع ثمن أيَّ شيء تشتريه؛ فإنْ كان معك نقود قديمة ونقود جديدة؛ ستجد أنك تدفع قيمة ما تشتريه من النقود القديمة؛ وسوف تجد نفسك مرتاحاً لاحتفاظك بالنقود الجديدة لنفسك.
وقد يقول لك مَنْ تشتري منه: «خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها لي، واستبدلها لي بورقة جديدة» .
فما دامت النقود سوف تُدفع؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة؛ وتفعل ذلك وأنت مُرتاح، وبذلك يمكننا أن نفهم معنى:
{بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] .
على أنها بِضَاعة رديئة.
فكأن الضُّرَّ الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الأثمان للمَيْرة التي سوف يأخذونها، مثل الأثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم:
{فَأَوْفِ لَنَا الكيل وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88] .
أي: أنهم يرجونه أن يُوفِّي لهم الكيل ولا ينقصه؛ إنْ كان ما جاءوا به من أثمان لا يُوفى ما تساويه المَيْرة، وطالبوه أن يعتبر تلك التَّوْفِية في الكَيْل صدقة.
وبذلك رَدُّوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان، وفوق قدرة البشر على الدَّفْع؛ لأن الصدقة إنما يُثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.(11/7059)
ولقائل أن يسأل: أليسوا أبناء نبوة، ولا تجوز عليهم الصدقة؟
نقول: إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختصَّ به الحق سبحانه آل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أمر خاص بأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» .
وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها؛ نظر إليهم يوسف عليه السلام وتبسم، ولما تبسَّم ظهرت ثناياه، وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع مَنْ رأوه.
وجاء الحق سبحانه بما قاله: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ... } .(11/7060)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
ومجيء هذا القول في صيغة السؤال؛ يدفعهم إلى التأمل والتدقيق؛ لمعرفة شخصية المُتحدِّث.
ثم يأتي التلطُّف الجميل منه حين يضيف:
{مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89] .
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العُذْر بالجهل، ولم يتحدث(11/7060)
إليهم بعِزَّة الكبرياء، وغرور المكانة التي وصل إليها، وهدفه أن يخفف عَنهم صَدْمة المفاجأة، فذكر لهم أنهم فعلوا ذلك أيام جهلهم.
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقِّك قديماً بسلوك غير مقبول، ولكن الأيام أزالتْ مرارتك من سلوكه، فتُذكِّره بما فعله قديماً وأنت تقول له: إن فعلك هذا قد صدر منك أيام طَيْشك، لكنك الآن قد وصلت إلى درجة التعقُّل وفَهْم الأمور.
وقول يوسف عليه السلام لهم هذا الأمر بهذه الصيغة من التلطُّف، إنما يعبر أيضاً عن تأثُّره بشكواهم، ثم تبسُّمه لهم، وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكُّره، ودار بينهم وبينه الحوار الذي جاء في الآية التالية: {قالوا أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ ... } .(11/7061)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
وهكذا انتبهوا إلى شخصية يوسف وتعرَّفوا عليه، وقالوا:
{أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ ... } [يوسف: 90] .
وجاء قولهم بأسلوب الاستفهام التقريريّ الذي أكّدوه ب «إنْ» و «اللام» ، وقد قالوا ذلك بلهجة مُمتلئة بالفرح والتعجُّب بنجاحهم في التحسُّس الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم:
{أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} [يوسف: 90] .
وبطبيعة الحال هم يعرفون أخَ يوسف «بنيامين» ، وجاء ذكْر يوسف له هنا دليلاً على أن بنيامين قد دخل معه في النعمة، وأن الحق سبحانه قد أعزَّ الاثنين.
ويجيء شُكْر يوسف لله على نعمته في قوله:
{قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 90] .
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له، وتنفع أيَّ سامع لها وكل مَنْ يتلوها، وقد قالها يوسف عليه السلام بعد بيِّنة من واقع أحداث مرَّتْ به بَدْءً من الرُّؤيا إلى هذا الموقف.
فهو كلام عليه دليل من واقع مُعَاش، فقد مَنَّ الله على يوسف وأخيه مما ابْتُلِيا به واجتمعا من بعد الفُرْقة، وعَلَّل يوسف ذلك بالقول:
{إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} [يوسف: 90] .
أي: مَنْ يجعل بينه وبين معصية الله وقاية، ويخشى صفات(11/7062)
الجلال، ويتبع منهجه سبحانه، ويصبر على ما أصابه، ولا تفتُر هِمَّته عن عبادة الله طاعة، ويتجنب كل المعاصي مهما زُيِّنَتْ له.
فسبحانه وتعالى لا يُضيع أجر المحسنين الذين يتقونه، وصاروا بتقواهم مُستحقِّين لرحمته، وإحسانه في الدنيا والآخرة.
ويأتي قول الحق سبحانه بعد ذلك ليحمل لنا ما قاله أخوة يوسف في هذا الموقف: {قَالُواْ تالله ... } .(11/7063)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
و «تالله» قَسَم بالله.
و {آثَرَكَ الله عَلَيْنَا. .} [يوسف: 91] .
أي: خصَّك بشيء فوق ما خَصَّ به الآخرين، وهو لم يُؤثِرْك بظلم لغيرك، ولكنك كنت تستحق ما آثرك به من المُلْك وعلو الشَأن والمكانة.
وهكذا صدَّق إخوة يوسف على ما قاله يوسف، واعترفوا بخطيئتهم، حين حاولوا أن يكونوا مُقرَّبين مثله عند أبيهم، ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مُقرباً مُقدَّماً عند ربِّ أبينا وربِّ العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا كنا خاطئين، ولا بُدَّ أن ننتبه إلى الفَرْق بين «خاطئين» و «مخطئين» .
والعزيز قد قال لزوجته:(11/7063)
{واستغفري لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} [يوسف: 29] .
ولم يَقُلْ لها «كنت من المخطئين» فالمادة واحدة هي: «الخاء» و «الطاء» و «الهمزة» ، ولكن المعنى يختلف، فالخاطئ هو مَنْ يعلم منطقة الصواب ويتعدَّاها، أما المُّخْطئ فهو مَنْ لم يذهب إلى الصواب؛ لأنه لا يعرف مكانه أو طريقه إليه.
ويقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلام لأخوته بعد أن أقرُّوا بالخطأ: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ ... } .(11/7064)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
والتثريب هو اللوم العنيف، وهو مأخوذ من الثَّرْب؛ فحين يذبحون ذبيحة، ويُخرِجون أمعاءها يجدون حول الأمعاء دُهْناً كثيفاً؛ هذا الدُّهْن يُسمَّى ثَرْب.
أما إن كانت هزيلة، ولم تتغذَّ جيداً، فأمعاؤها تخرج وقد ذاب من عليه هذا الثَّرْب.
والتثريب يعني: أن اللوم العنيف قد أذابَ الشحم من لحمه، وجعل دمه ينزّ، ويكاد أن يصل بالإنسان إلى أن ينزل به ويسلّه.
وفي الحديث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «(11/7064)
إذا زنت أَمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها الحدّ، ولا يُثرِّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يُثرِّب عليها، ثم إنْ زنت الثالثة فتبيّن زِنَاها فَليبِعْها، ولو بحبل من شعر» .
أي: لا يقولن لها: يا مَنْ فعلت كذا وكذا، بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله الله لمثل هذه الجريمة؛ فإن لم ترتدع عن الفعل فَلْيبِعْها، وهكذا نفهم أن التثريب أو اللوم العنيف قد يُولِّد العِناد.
وقال يوسف عليه السلام:
{اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92] .
ولقائل أن يتساءل: ولماذا قال يوسف ذلك؛ وقد يكونون قد استغفروا الله من قبل؟
ونقول: إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته ولتصفية النفوس مما شابها بهذا اللقاء.
وقوله:
{وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92] .
هو فَهْمٌ لحقيقة أن أيَّ رحمة في العالم، أو من أي أحد إنما هي مُستمدَّة من رحمته سبحانه.(11/7065)
وقد قال يوسف ذلك وهو واثق من إجابة دعوته، لأنه قد غفر لهم خطأهم القديم وعَفَا عنهم؛ والله أَوْلَى منه بالعفو عنهم.
ثم يعود الحديث بينه وبينهم إلى والدهم، فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف لإخوته، وهو الذي عَلِم ما حدث لأبيه بعد فراقه له: {اذهبوا بِقَمِيصِي ... } .(11/7066)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وكان يوسف عليه السلام، قد عَلِم أن أباه يربط عينيه من الحزن، وكاد أن يفقد بصره، فأمر أخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه إلى أبيه.
وتقول كتب السِّير أن أخاه الأكبر الذي رفض أن يبرح مصر، وقال: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حتى يَأْذَنَ لي أبي أَوْ يَحْكُمَ الله لِي وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} [يوسف: 80] .
قد قال ليوسف:
«يا أيها العزيز إنني أنا الذي حملتُ القميص بدم كذب إلى أبي، فدعْني احمل هذا القميص لأبي، كي تمحو هذه تلك» .(11/7066)
وقال يوسف عن فعل القميص مع الأب:
{فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] .
ونلحظ أنه لم يَقُلْ: «وجه أبيكم» .
وفي قوله:
{وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] .
إشارة إلى الحنان الأبوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف، فغرق والده في الحزن.
و {يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] أي: يرتدّ إليه بصره، أو يراه أمامه سليماً.
ويضيف يوسف:
{وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] .
هذا تعبير قُرآني دقيق، أن يُحضروا معهم كل مَنْ يَمُتُّ بصلة قرابة لهم أو يعمل معهم، ولم يَقُلْ يوسف «بآلكم» حتى لا يأتوا بالأعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لأخوته أن يأتوه بكل مَنْ يمُتُّ لهم بصلة قُرْبى؛ لأن في مثل هذا الأمر من موقع عزيز مصر إجباراً للأب على المجيء، وهو يُجِلُّ أباه عن ذلك.(11/7067)
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَلَمَّا فَصَلَتِ ... } .(11/7068)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
و «فصلت» تدل على شيء كان مُلْتصقاً بشيء آخر وانفصل عنه، وفَصِلت العِيرُ. أي: خرجتْ من المدينة وتجاوزتْها؛ لتسير في رحلتها، والمقصود خروج القافلة من حدود مصر قاصدةً مكان يعقوب عليه السلام.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الأحفاد وأبناء الأبناء:
{إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] .
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الأكبر يحمل رائحة يوسف، لكن الذين حول يعقوب من أقربائه لم يُصدِّقوا قوله، فأضاف:
{لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] .
أي: لولا اتهامكم لي بالخَرف، لأن التفنيد هو الخرف.(11/7068)
ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صُورَ المرائي والأصوات، توجد لها آثار في الجو، رغم ما يُخيَّل للإنسان أنها تلاشتْ.
ويحاول العلم بوسائل من الأشعة أن يكشف صورة أيِّ جماعة كانت تجلس في مكان ما، ثم رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين، ممَّا يدلُّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلال يظل بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الأصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون: لا شيءَ يضيع في الكون، بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.
والرائحة أيضاً لا تضيع، بدليل أن الكلب يشُمُّ الريح من على مسافات بعيدة، ويميز الآن المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلاب المدرَّبة في المطارات وعلى الحدود؛ لتكشف أيَّ محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة الله قادراً على التقاط الرائحة من بين آلاف الروائح، وإذا كان العلم الموهوب من الله للبشر؛ يبحث الآن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من الفضاء المحيط بالإنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلام؛ استطاع يعقوبُ بقدرة الله أن يَشُمَّ رائحة يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.(11/7069)
ولسائل أن يقول: ولماذا ارتبط تنسُّم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العِير من مصر، وتواجدها على الطريق إلى موطن يعقوب؟
نقول: لأن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها من الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الأخرى داخل أي مدينة، ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب على كل الروائح؛ ويختلف الأمر في الخلاء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبَّة الرائحة دون أن يعترضها شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ولا يضيع؛ مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] .
وكل ما يصدر منك مُسجَّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه، وتكون على نفسك حسيباً.
ويردُّ مَنْ بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف: {قَالُواْ تالله ... } .(11/7070)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
وكأنهم قد مَلُّوا حديثه عن يوسف؛ وأعرضوا عن كلامه قائلين له: إلى متى ستظل على ضلالك، وهم لا يعنُون الضلال بمعنى الخروج عن المنهج، ولكنهم يعنُونَ الضلال بمعنى الجزئيات التي لا علاقة لها بالتديُّن من محبة شديدة ليوسف، وتعلُّق به، والتمنِّي لعودته، وكثرة الحديث عنه، وتوقُّع لقائه، وهم الذين ظَنُّوا أن يوسف قد مات.(11/7070)
ويأتي البشير ليعقوب، يقول الحق سبحانه: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير. .} .(11/7071)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
وحين حضر البشير، وهو كما تقول الروايات كبير الأخوة؛ ويُقال أيضاً: إنه يهوذا؛ وهو مَنْ رفض أن يغادر مصر إلا بعد أن يأذن له والده، أو يأتي حَلٌّ من السماء لمشكلة بقاء بنيامين في مصر، بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة، طبقاً لما أراده يوسف ليستبقي شقيقه معه.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الأب تنفيذاً لأمر يوسف عليه السلام.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب، وفَرِح يعقوب فرحاً شديداً؛ لأنه في أيام حزنه على يوسف، وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدَّثه قلبه بالإلهام من الله أن يوسف ما زال حياً؛ وكان البكاء عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.(11/7071)
وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من الله أن إلقاء القميص على وجه أبيه يردُّ إليه بصره، بإذن من الحق سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس على الحالة الصحية، وهكذا تجلَّتْ انتصارات الحقِّ والنبوة.
وقال يعقوب عليه السلام:
{أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] .
ولم يَقُلْ ذلك إذلالاً لهم، بل ليعطي الثقة والتوثيق لأخبار كل نبي، وأن الواقع قد أيَّد الكلام الذي قاله لهم: {يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87] .
فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لأن العقول تأخذ مُدْركات الأشياء على قَدْرها، وهناك أشياء فوق مُدْركات العقول.
وحين يُحدِّثكم معصوم عن ما فوق مُدْركات عقولكم إياكم أن تُكذِّبوه؛ سواء فهمتم ما حدَّثكم عنه، أو لم تستوعبوا حديثه عَمَّا فوق مُدْركات العقول.(11/7072)
وهنا يقرّ أخوة يوسف بذنوبهم فيقول الحق سبحانه: {قَالُواْ ياأبانا استغفر ... } .(12/7073)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
وهم هنا يُقِرُّون بالذنب، ويُحدِّثون والدهم بنداء الأبوة كي يستغفر لهم ما ارتكبوه من ذنوب كثيرة، فقد آذَوْا أباهم وجعلوه حزيناً، ولا يسقط مثل هذا الذنب إلا بأن يُقِرَّ به مَنْ فعله، ونلحظ أنهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]
أي: أنهم كانوا يعلمون الصواب، ولم يفعلوه.
ويأتي الحق سبحانه بما قاله يعقوب: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ... }(12/7073)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
ونلحظ أن يوسف قد قال لهم من قبل: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92]
لكن والدهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول:(12/7073)
{سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ... } [يوسف: 98]
ولم يقل: «سأستغفر لكم ربي» ، وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت أكبر من وقت الشباب؛ لذلك أجَّل يعقوب الاستغفار لما بعد.
والشيخ الألوسي في تفسيره يقول: «إنما كان ذلك لأن مطلوبات البر من الأخ لأخوته غير مطلوبات البر من ابن لأبيه؛ لأن الأخ ليس له نفس حق الأب؛ لذلك يكون غضب الأب أشدَّ من غضب الأخ» .
ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الأب زمن طويل. ويقال: إن يعقوب عليه السلام قد أخَّر الاستغفار لهم إلى السَّحَر، لأن الدعاء فيه مُستجَاب.
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك إلى لحظة اللقاء بين يوسف عليه السلام وأهله كلهم، بعد أن انتقلوا إلى حيث يعيش يوسف، فيقول سبحانه:
{فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ... }(12/7074)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
ونعلم أن الجَدَّ إسحق لم يكُنْ موجوداً، وكانوا يُغلِّبون جهة الأبوة على جهة الأمومة، ودخلت معهم الخالة؛ لأن الأم كانت غير موجودة.(12/7074)
ويبدو أن يوسف قد استقبلهم عند دخولهم إلى مصر استقبال العظماء، فاستقبلهم خارج البلد مرة ليريحهم من عناء السفر ويستقبلهم وجهاء البلد وأعيانهم؛ وهذا هو الدخول الأول الذي آوى فيه أبويْه.
ثم دخل بهم الدخول الثاني إلى البلد بدليل أنه قال: { ... ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [يوسف: 99]
ففي الآية دخولان.
وقول الحق سبحانه: {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ... } [يوسف: 99]
يدل على حرارة اللقاء لمغتربين يجمعهم حنان، فالأب كان يشتاق لرؤية ابنه، ولابُدَّ أنه قد سمع من أخوته عن مكانته ومنزلته، والابن كان مُتشوِّقاً للقاء أبيه.
وانفعالات اللقاء عادة تُترك لعواطف البشر، ولا تقنينَ لها، فهي انفعالات خاصة تكون مزيجاً من الود، ومن المحبة، ومن الاحترام، ومن غير ذلك.
فهناك مَنْ تلقاه وتكتفي بأن تسلم عليه مُصَافحة، وآخر تلتقي به ويغلبُك شوقك فتحتضنه، وتقول ما شِئتَ من ألفاظ الترحيب.
كل تلك الانفعالات بلا تقنين عباديّ، بدليل أن يوسف عليه السلام آوى إليه أبويه، وأخذهما في حضنه.(12/7075)
«والمثل من حياة رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سياق غزوة بدر حيث كان يستعرض المقاتلين، وكان في يده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قدح يعدل به الصفوف، فمَرَّ بسواد بن غزية من بني عدي بن النجار، وهو مستنصل عن الصف أي خارج عنه، مما جعل الصف على غير استواء فطعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بطنه بالقدح وقال له:» اسْتَوِ يا سواد «.
فقال سواد: أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني.
فكشف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بطنه وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» استقد «. فاعتنقه سَواد وقَبَّل بطنه.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما حملك على هذا يا سواد؟ «.
قال: يا رسولَ الله، قد حضر ما ترى يقصد الحرب فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جِلْدي جلدك. فدعا له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخير» .
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(12/7076)
{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ... }(12/7077)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وقد رفع يوسف أبويه على العرش لأنه لم يحب التميُّز عنهم؛ وهذا سلوك يدل على المحبة والتقدير والإكرام.
والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم. وهم قد خَرُّوا سُجَّداً لله من أجل جمع شمل العائلة، ولم يخروا سُجَّداً ليوسف، بل خَرُّوا سُجَّداً لمن يُخَرّ سجوداً إليه، وهو الله.
وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب ليوسف أقول: هل أنتم أكثر غَيْرةً على الله منه سبحانه؟(12/7077)
إنه هو سبحانه الذي قال ذلك، وهو سبحانه الذي أمر الملائكة من قَبْل بالسجود لآدم فلماذا تأخذوا هذا القول على أنه سجود لآدم؟
والمؤمن الحق يأخذ مسألة سجود الملائكة لآدم؛ على أنه تنفيذ لأمر الحق سبحانه لهم بالسجود لآدم، فآدم خلقه الله من طين، ونفخ فيه من روحه؛ وأمر الملائكة أن تسجد لآدم شكراً لله الذي خلق هذا الخَلْق.
وكذلك سجود آل يعقوب ليوسف هو شكر لله الذي جمع شملهم، وهو سبحانه الذي قال هذا القول، ولم يُجرِّم سبحانه هذا الفعل منهم، بدليل أنهم قَدَّموا تحية ليوسف هو قادر أن يردَّها بمثلها.
ولم يكن سجودهم له بغرض العبادة؛ لأن العبادة هي الأمور التي تُفعل من الأدنى تقرباً للأعلى، ولا يقابلها المعبود بمثلها؛ فإنْ كانت عبادة لغير الله فالله سبحانه يُعاقب عليها؛ وتلك هي الأمور المُحرَّمة.
أما العبادة لله فهي اتباع أوامره وتجنب نواهيه؛ إذن: فالسجود هنا استجابة لنداء الشكر من الكل أمام الإفراج عن الهم والحزن وسبحانه يُثيب عليها. أما التحية يقدمها العبد، ويستطيع العبد الآخر أن يردَّ بمثلها أو خَيْرٍ منها، فهذا أمر لا يحرمه الله، ولا دَخْل للعبادة به.(12/7078)
لذلك يجب أن نفطن إلى أن هذه المسألة يجب أن تُحرَّر تحريراً منطقيّاً يتفق مع معطيات اللغة ومقتضى الحال، ولو نظرنا إلى وضع يعقوب عليه السلام، وما كان فيه من أحزان وموقف إخوته بين عذاب الضمير على ما فعلوا وما لاقوه من متاعب لأيقنا أن السجود المراد به شكر من بيده مقاليد الأمور بدلاً من خلق فجوات بلا مبرر وَهُمْ حين سجدوا ليوسف؛ هل فعلوا ذلك بدون علم الله؟ طبعاً لا.
ومن بعد ذلك نجد قول يوسف لأبيه: {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ... } [يوسف: 100]
وقد كانت الرُّؤيا هي أول لَقْطة في قصة يوسف عليه السلام حيث قال الحق ما جاء على لسان يوسف لأبيه: { ... إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] وقوله في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ... } [يوسف: 100] أي: أمراً واقعاً، وقد رآه والد يوسف وأخوته لحظة أنْ سجدوا ليوسف سجودَ الشكر والتحية لا سجود عبادة، وقد سجد الأخوة الأحد عشر والأب والخالة التي تقوم مقام الأم، ورؤيا الأنبياء كما نعلم لابُدَّ أن تصير واقعاً.
ولقائل أن يقول: وماذا عن رُؤْيا إبراهيم عليه السلام التي أمره(12/7079)
فيها الحق سبحانه أن يذبح ابنه؛ فقام إلى تنفيذها؛ واستسلم إسماعيل لأمر الرُّؤْيا.
نقول: إن الأنبياء وحدهم هم الملتزمون شرعاً بتنفيذ رؤاهم؛ لأن الشيطان لا يُخايلهم؛ فهم معصومون من مخايلة الشيطان.
أما إنْ جاء إنسان وقال: لقد جاءتني رؤيا تقول لي نَفِّذ كذا. نقول له: أنت غير مُلْزم بتنفيذ ما تراه في منامك من رُؤَى؛ فليس عليك حكم شرعي يلزمك بذلك؛ فضلاً عن أن الشيطان يستطيع أن يُخايلك.
أما تنفيذ إبراهيم عليه السلام لما رآه في المنام بأن عليه أن يذبح ابنه، وقيام إبراهيم بمحاولة تنفيذ ذلك؛ فسببه أنه يعلم بالتزامه الشرعي بتنفيذ الرُّؤيا.
وقد جاء لنا الحق سبحانه بهذا الذي حدث ليبين لنا عِظَم الابتلاءات التي مرَّتْ على إبراهيم، وكيف حاول أن يتم كل ما توجهه له السماء من أوامر، وأن ينفذ ذلك بدقّة.
وقال الحق سبحانه مُصوِّراً ذلك: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ... } [البقرة: 124](12/7080)
وكانت قمة الابتلاءات هي أن يُنفِّذ بيديه عملية ذبح الابن؛ ولذلك أؤكد دائماً على أن الأنبياء وحدهم هم المُلْزمون بتنفيذ رُؤاهم، أما أي إنسان آخر إنْ جاءته رُؤْيا تخالف المنهج؛ فعليه أن يعتبرها من نزغ الشيطان.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن ... } [يوسف: 100]
ولقائل أن يسأل: ولماذا لم يذكر يوسف الأحداثَ الجِسَام التي مرَّتْ به في تَسَلسُلها؛ مثل إلقاء أخوته له في الجُبِّ؟
نقول: لم يُرِدْ يوسف أن يذكر ما يُكدِّر صَفْو اللقاء بين العائلة من بعد طول فراق. ولكنه جاء بما مرّ به من بعد ذلك، من أنه صار عبداً، وكيف دخل السجن؛ لأنه لم يستسلم لِغُواية امرأة العزيز، وكيف مَنَّ الله عليه بإخراجه من السجن، وما أن خرج من السجن حتى ظهرت النعمة، ويكفي أنه صار حاكماً.
وقد يقول قائل: إن القصة هنا غير مُنْسجمة مع بعضها، لأن بعضاً من المواقف تُذكر؛ وبعضها لا يُذْكر.
نقول: إن القصة مُنْسجمة تماماً، وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ؛ وبين قَصص يوضح المواقف الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الآية هي اجتماع الإخوة والأب والخالة، ولا داعي لذكر ما يُنغِّص هذا اللقاء؛ خصوصاً؛ وأن يوسف قد قال من قبل:(12/7081)
{قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين} [يوسف: 92]
وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهل: { ... هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89]
وهو هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً.
. .} [يوسف: 100]
ويُثني على الله شاكراً إحسانه فيقول: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن ... } [يوسف: 100]
وهو إحسان له في ذاته، ثم يذكر إحسان الله إلى بقية أهله: {وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو ... } [يوسف: 100]
وكلمة «أحسن» كما نعلم مرة تتعدى ب إلى، فتقول: «أحسن إليه» ، ومرة تتعدى بالباء، فنقول: «أحسن به» ، وهو هنا في مجال «أحسن بي» .
أي: أن الإحسان بسببه قد تعلَّق بكل ما اتصل به؛ فجعله حاكماً، وجاء بأهله من البدو؛ أما الإحسان إليه فيكون محصوراً في ذاته لا يتعداه.(12/7082)
وجعل الحق سبحانه الإحسان هنا قسمين: قسم لذاته؛ وقسم للغير، واعتبر مجيء الأهل من البدو إحساناً إليه، لأن البَدْو قوم يعيشون على الفطرة والانعزالات الأسرية، ولا تَوطُّن لهم في مكان، ولا يضمُّهم مجتمع، وليس لهم بيوتٌ مبنية يستقِرُّون فيها، ولكنهم يتبعون أرزاقهم من منابت الكلأ ومساقط المياه، ويحملون رِحَالهم إلى ظهر الجمال متنقلين من مكان لآخر.
وتخلو حياتهم من نِعَم الحضارة. ففي الحضارة يحضر إليك كل ما تطلب، ولكن الحياة في البدو تُحتِّم أن يذهب الإنسان إلى حيث يجد الخير؛ ولذلك تستقر الحياة في الحضر عنها في البادية.
ويعطينا الشاعر أحمد شوقي رحمة الله عليه صورة تبين الفارق بين البدو والحضر، حين صنع مناظرة بين واحدة تتعصب للبدو، وأخرى تتعصب للحضر. فقال:
فأنا مِنَ البِيدِ يا ابن جُرَيج ... ومن هذه العِيشَة الجَافِيه
ومن حَالبِ الشاة في موضعٍ ... ومن مُوقِد النارِ في نَاحِيه
مُغَنِّيكُمو معبدٌ والغَريق ... وقَيْنتنا الضبع العَاوِيه
هُمْ يأكلونَ فُنونَ الطهاةِ ... ونحن نأكل ما طَهَتِ المَاشِيه
فابن جريج يشكو السَّأَم من حياة البادية، حيث لا يرى إلا المناظر المُعَادة من حَلْبٍ لشاة، أو إشعال نار، ولا يسمع كأهل(12/7083)
الحضر صوت المُغنِّين المشهورين في ذلك الزمن؛ بل يسمع صوت الضِّبَاع العاوية، ولا يأكل مثل أهل الحضر ما قام بِطَهْيهِ الطُّهاة؛ بل يأكل اللبن وهو ما تقدمه لهم الماشية.
وتردُّ ليلى المتعصِّبة للبادية:
قد اعتسفتْ هِنْدُ يا ابنَ جرَيج ... وكانت على مَهْدِها قَاسيه
فَمَا البِيِد إلاّ دِيَارُ الكِرَام ... ومنزِلةُ الذِّمَمِ الوَاقِيه
لها قِبْلةُ الشمسِ عند البُزُوغِ ... وللحضر القبلة الثانيه
ونحنُ الرَّياحِين مِلْء الفضاءِ ... وهُنَّ الرَّياحِينُ في آنِيه
ويَقْتُلنا العِشْقُ والحَاضِراتُ ... يَقُمْنَ من العِشق في غَامِيه
وقولها «اعتسفت» يعني «ظلمت» ، أي: أن هنداً ظلمت البيد يا ابن جريج، ثم جاءت بميزات البدو؛ فأوضحت أن بنات البادية كالرياحين المزروعة في الفضاء الواسع، عكس بنات الحَضَر التي تشبه الواحدة منهن الريحانة المزروعة في أُصص الزرع، أو أي آنية أخرى.
ثم تأتي إلى القيم؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العِشْق، ولا تنال ممَّنْ تعشق شيئاً؛ فتنسلّ وتموت، أما بنت الحضر؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يشكر يوسف ما مَنَّ به الله عليه، وعلى أهله الذين جاء بهم سبحانه من البادية، ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة؛ وبذلك يكون قد ضخَّم(12/7084)
الفرق بين ما كانوا يعيشون فيه من شَظَف العيش إلى حياة اللين والدَّعة.
ثم يلمس ما كان من إخوته تجاهه فيقول: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي ... } [يوسف: 100]
وهذا مَسٌّ لطيف لما حدث، وقد نسبه يوسف للشيطان؛ وصَوَّره على أنه «نَزْغ» .
أي: أنه لم يكن أمراً مستقراً على درجة واحدة من السوء. أي: أن ما فعله الشيطان هو مجرد وَخْزة تُنبِّه إلى الشيء الضار فيندفع له الإنسان، وهي مأخوذة من المِهْماز الذي يُروِّض به مدرب الخيل أيَّ حصان، فهو ينغزه بالمِهْماز نزغة خفيفة، فيستمع وينفذ ما أمره به، فالنَّغْز تنبيه لمهمة، ويختلف عن الطَّعْن.
والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله الشيطان؛ فيقول لنا: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله ... } [الأعراف: 200]
وكُلٌّ منا يعلم أن الشيطان عدوٌّ له عداوة مُسبقة، وحين تستعيذ بالله من الشيطان، فأنت تكتسب حَصَانه من الشيطان.
وسبحانه القائل:(12/7085)
{ ... إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]
أي: أن الإنسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة الإيمانية ضد هذا النَّزْغ.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقول يوسف: { ... إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} [يوسف: 100]
فسبحانه هو المدير الذي لا تَخْفى عليه خافية أبداً، وكلمة «لُطْف» ضد كلمة «كثافة» فاللطيف هو الذي له جِرْم دقيق، والشيء كلما لَطُف عَنُفَ؛ لأنه لا توجد عوائق تمنعه.
ولا شيء يعوق الله أبداً، وهو العليم بموقع وموضع كل شيء، فهو يجمع بين اللطف والخبرة، فلُطْفه لا يقف أمامه أي شيء، ولا يوجد ما هو مستور عنه، ولا يقوم أمام مراده شيء، وسبحانه خبير بمواضع الأشياء، وعلْمه سبحانه مُطْلق، وهو حكيم يُجرِي كل حَدَث بمراد دقيق، ولا يضيف إليه أحد أيَّ شيء، فهو صاحب الكمال المطلق.
ويذكر الحق سبحانه بعد ذلك مناجاة يوسف لله سبحانه:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ... }(12/7086)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
ونعلم أن الربوبية تعني الخَلْق من عدم، والإمداد من عدم؛ والإقاتة لاستبقاء الحياة، والتزاوج لاستباق النسل، وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير.
فالحق سبحانه أوجد من عدم، واستبقى الحياة الذاتية بالقوت، واستبقى الحياة النوعية بما أباح من تزاوج وتكاثر.
وكل مخلوق له حَظٌّ في عطاء الربوبية، مؤمناً كان أم كافراً، وكل مخلوقات الكون مُسخَّرة لكل الخلق، فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود؛ ولذلك تكفل بما يحقق لهم الحياة.
ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالإضافة لعطاء الربوبية؛ وهو عطاء الألوهية المتمثل في المنهج.
يقول يوسف عليه السلام مناجياً ربه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك ... } [يوسف: 101]
أي: أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة، وهذا النفوذ والسلطان؛ فلا أحد يملك قَهْراً عن الله، وحتى الظالم لا يملك قهراً عن الله؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى من القرآن: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
وإتيان المُلْك لا توجد فيه مقاومة ممَّنْ يملك؛ ولكن نَزْع المُلْك هو الذي يقاومه المنزوع منه.(12/7087)
والحق سبحانه هو أيضاً الذي يُعِز مَنْ يشاء، وهو الذي يُذل مَنْ يشاء.
وحين تتغلغل هذه الآية في نفس المؤمن؛ فهو يُوقِن أنه لا مفرَّ من القدر، وأن إيتاء المُلْك خير، وأن نزع الملك خير، وأن الإعزاز خير والإذلال خير؛ كي لا يطغى الإنسان، ولا يتكبر، ولا يُعدِّل في إيمان غيره.
وكان بعض الناس يقولون: لابد أن تُقدر محذوفاً في الآية.
وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الآية وشَرَّيْن محذوفين.
وأقول: لا، إن ما تظنه أيها الإنسان أنه شر إنما هو خير يريده الله؛ فكل ما يُجريه الله خير.
وقول يوسف عليه السلام: {آتَيْتَنِي مِنَ الملك ... } [يوسف: 101]
يقتضي أن نفهم معنى «المُلْك» ؛ ومعنى «المِلْك» ، ولنا أن نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه؛ مثل ملابسه أو قلمه أو أثاث بيته، ومثل ذلك من أشياء، وهذا ما يُسمَّى: «المِلْك» . أما «المُلْك» فهو أن تملك مَنْ يملك.
وقد ملَّك الله بعضاً من خَلْقه لخلقه، ملَّكهم أولاً ما في حوزتهم، وملَّكهم غيرهم، وسبحانه ينزع المُلْك من واحد ويهبه لآخر، كي لا تصبح المسألة رَتَابة ذات.(12/7088)
ومثال هذا: هو ما حدث لشاه إيران، وكان له المُلْك، وعنده كل أسباب الحضارة، وفي طَوْعه جيش قوي، ثم شاء الحق سبحانه أن ينزع منه المُلْك، فقام غيره بتفكيك المسامير غير المرئية التي كان الشاه يُثبِّت بها عرشه؛ فزال عنه المُلْك.
وأنت في هذه الدنيا تملك السيطرة على جوارحك؛ تقول لليد «إضربي فلان» فتضرب يدُك فلاناً، إلى أن يأتي اليوم الآخر فلا يملك الإنسان السيطرة على جوارحه؛ لأن المُلْك يومها يكون لله وحده، فسبحانه القائل: { ... لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16]
ففي اليوم الآخر تنتفي كل الولايات، وتكون الولاية لله وحده.
وبجانب «المُلْك» و «المِلْك» ؛ هناك الملكوت، وهو ما لا تراه بأجهزة الحواس.
وسبحانه يقول: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض ... } [الأنعام: 75]
أي: أن الحق سبحانه قد كشف لإبراهيم أسرار العالم الخفية من المخلوقات، وأنت ترى العلماء وهم يتتبعون أسرار ممالك النباتات والحيوانات؛ فتتعجب من دِقَّة خَلْق الله.
ومَنْ وهبه الله دِقَّة العلم وبصيرة العلماء، يرى بإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت، ويستخرج الأسرار، ويستنبط الحقائق.
ويضيف يوسف عليه السلام في مناجاته لربه:(12/7089)
{وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ... } [يوسف: 101]
وهو يعترف بفضل الله عليه حين اختصّه بالقدرة على تأويل الأحاديث؛ تلك التي أوَّل بها رُؤْيا الفتييْنِ اللذين كانا معه في السجن؛ وأوَّل رؤيا المِلَك؛ هذا التأويل الذي قاده إلى الحكم، وليس هذا غريباً أو عجيباً بالنسبة لقدرة الله سبحانه.
ويقول يوسف شاكراً لله: {فَاطِرَ السماوات والأرض ... } [يوسف: 101]
ومادام سبحانه هو خالق كل شيء؛ فليس غريباً أن يُعلِّمه سبحانه ما شاء، وكأن إيمان يوسف قد وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانه: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14]
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازاً يستفيد منه غيره؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز أو الأداة، حتى ولو كانت نورجاً أو مِحْراثاً؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة السَّوِيَّة التي يؤدي بها الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها؛ فإن كان أميناً، فهو يُشخِّص بدِقَّة ما تحتاجه السيارة، ويُصلِحها، وإن كان غير أمين ستجده يُفسد الصالح، ويزيد من الأعمال التي لا تحتاجها السيارة.(12/7090)
وهكذا نرى أن كل صانع في مجاله يعلم أسرار صنعته، فما بالنا بالخالق الأعظم سبحانه وتعالى؟
إنه خبير عليم بكل شيء.
ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه: {فَاطِرَ السماوات والأرض ... } [يوسف: 101]
لأنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق الإنسان؛ والإنسان له بداية ونهاية، لا يعلمها أحد غير الله سبحانه، فقد يموت الإنسان وعمره يوم، أو يموت في بطن أمه، أو بعد مائة سنة، وتمر على الإنسان الأغيار.
أما السماوات والأرض فهي مخلوقات ثابتة، فالشمس لا تحتاج إلى قطعة غيار، ولم تقع، وتعطي الدفء للأرض، وهي مرفوعة عن الأرض؛ لا تقع عليها بمشيئة الله.
والحق سبحانه هو القائل: { ... وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
[الحج: 65]
واسمع قوله الحق: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]
فالإنسان يتغير ويموت؛ أما السماوات والأرض فثابتة إلى ما شاء الله.(12/7091)
ويقول يوسف عليه السلام مواصلاً المناجاة لله: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة ... } [يوسف: 101]
وصحيح أن الحق سبحانه وليّ ليوسف في الدنيا، وقد نصره وقرَّبه وأعانه؛ بدليل كل ما مَرَّ به من عقبات، ويرجو يوسف ويدعو ألاّ يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية، وأن يثيبه أيضاً في الباقية، والآخرة.
ومادام سبحانه وليَّه في الدنيا والآخرة؛ فيوسف يدعوه: { ... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101]
وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً ... } [يوسف: 101]
إنما بسبب أن يكون أهلاً لعطاء الله له في الآخرة؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا واستمتع به، ومَتّع به، ومشى فيه بما يُرضِى الله.
وعند تمنِّي يوسف للوفاة وقف العلماء، وقالوا: ما تمناها أحد إلا يوسف.
فالإنسان إن كان مُوفّقاً في الدنيا، تجده دائم الطموح، وتوَّاقاً إلى المزيد من الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قَبِل الإمارة، حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم؛ كان يطلب(12/7092)
الأكثر منه نعومة، وإذا جِيءَ له بطعام ليِّن؛ كان يطلب الأكثر لُيونة.
وحين صار خليفة؛ كانوا يأتونه بالثوب؛ فيطلب الأكثر خشونة وظن مَنْ حوله أنه لم يَعُدْ منطقياً مع نفسه، ولم يفهموا أن له نفساً توَّاقة إلى الأفضل؛ تستشرف الأعلى دائماً، فحينما تَاقَ إلى الإمارة جاءتْه؛ وحين تاق إلى الخلافة جاءتْه، ولم يَبْقَ بعدها إلا الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملازماً له؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل ربَّه الموت. فقال: يا أمير المؤمنين، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً؛ فأحيَيْتَ سُنناً وأَمَتَّ بِدعاً؛ وبقاؤك خير للمسلمين؟
فقال عمر بن عبد العزيز: ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتمَّ الله عليه نعمته قال: { ... تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101]
وقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً ... } [يوسف: 101]
مكونة من شِقَّين:
الشق الأول: طلب الموت.
والشق الثاني: أن يموت مسلماً.
وكُلُّنا يُتوفَّى دون أن يطلب، وعلى ذلك يكون الشق الأول غير(12/7093)
مطلوب في ذاته؛ لأنه واقع لا محالة، ويصبح المطلوب إذن هو الشق الثاني، وهو أن يتوفاه الله مسلماً؛ ولذلك حين نأتي إلى القبور نقول: السلام عليكم ديار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
وإنْ قال سائل: ولماذا نقول إن شاء الله بكم لاحقون، رغم أننا سنموت حَتْماً؟
نقول: إن قولنا «إن شاء الله» سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين.
وأيضاً قد يسأل سائل: لماذا يقول نبي لربه: { ... وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [يوسف: 101]
وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل؟
نقول: إن كلمة «الصالحين» تضم الأنبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلام؛ ولذلك يتجه الحق(12/7094)
سبحانه من بعد تلك النهاية إلى المُرَاد من القصة التي جاءتْ مكتملة في سورة كاملة، غير بقية قَصَص القرآن التي تتناثر أيٌّ منها في لقطات متفرقة بمواقع مختلفة من القرآن الكريم.
وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضاً، لدرجة أن بعض السطحيين قالوا «إن هذا تكرار للقصة في لقطات مختلفة» ودائماً أقول رداً على ذلك: إنه تأسيس للقطات؛ إن اجتمعت جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة؛ لأن كل لَقْطة إنما جاءت لمناسبة ما، وكل القَصَص القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه خلال عمره الرِّسالي الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً تعرَّض لأحداث جِسَام. وكل لحظة كانت تحتاج لتثبيت، فيُنزِل الحق سبحانه ما يُثبِّت به فؤاد رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيوضح له في موقع ما: لا تحزن؛ لأن مَنْ سبقك من الرسل حدث معهم كذا.
بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتيْن، مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون.
قال الحق سبحانه: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ... } [القصص: 8]
وهنا تكون العداوة من طرف موسى.(12/7095)
ويقول في نفس المسألة أيضاً: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... } [طه: 39]
وهنا تكون العداوة من جهتين؛ لأن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين، فلا يمكن أن يستمر عداءٌ من طرف واحد، وتقوم من أجل هذا العداء معركة، لكن حين تكون العداوة من جهتين فهذا يُطيل أَمَد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى؛ وهي لقطة متقدمة حدثتْ في الأيام الأولى من حياة موسى، وقبل أن تُلقيه أمه في اليَمِّ؛ فقد مهَّد الله لها الأمر.
يقول الحق سبحانه عن ذلك: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني ... } [القصص: 7]
وهذا شَحْذٌ لِهمَّتها قبل الحادث، وتنبيه لها من قبل أن يقع، ولحظةَ أن جاء الحادث نفسه أوحى لها الحق سبحانه: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ... } [طه: 39]
والذين قالوا: إن قَصص القرآن جاء مُبعثراً، قد نسوا أن قصة نوح جاءت في موقع واحد، وجاءت سورة يوسف مَحْبوكة من أول الرؤيا إلى تولي المُلْك، وجمع شَمْل العائلة.
ونزلت القصة في سورة واحدة بعد أن سألوا عنها؛ وهم يعلمون(12/7096)
أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يجلس إلى مُعلِّم، ولم يقرأ في كتاب، وتاريخه معروف بالنسبة لهم، وحين يأتي لهم مُوضِّحاً أن الحق سبحانه قد أنزل عليه، فكذَّبوه؛ وادَّعَوْا أنه يسمع لقطة من هنا؛ ولقطة من هناك. حين سألوه أن يأتي بقصة يوسف جاء بها كاملة؛ من أولها إلى آخرها.
ويقول الحق سبحانه في نهاية القصة:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب ... }(12/7097)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
و «ذلك» إشارة إلى هذه القصة، والخطاب مُوجَّه إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: أنك يا محمد لم تَكُنْ معهم حين قالوا: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا ... } [يوسف: 8]
فالحق سبحانه أخبرك بأنباء لم تكن حاضراً لأحداثها، والغيب كما عَلِمنا من قبل هو ما غاب عنك، ولم يَغِبْ عن غيرك، وهو غيب نسبيّ؛ وهناك الغيب المُطْلق، وهو الذي يغيب عنك وعن أمثالك من البشر.
والغيب كما نعلم له ثلاثة حواجز:
الأول: هو حاجز الزمن الماضي الذي لم تشهده؛ أو حاجز الزمن المستقبل الذي لم يَأْتِ بَعْد.(12/7097)
والثاني: هو حاجز المكان.
والثالث: هو حاجز الحاضر، بمعنى أن هناك أشياء تحدثُ في مكان أنت لا توجد فيه، فلا تعرف من أحداثه شيئاً. و {نُوحِيهِ إِلَيْكَ ... } [يوسف: 102]
أي نُعلِمك به بطَرْفٍ خَفيّ، حين اجتمعوا ليتفقوا، إما أن يقتلوا يوسف، أو يُلْقوه في غيابة الجب.
وكشف لك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمر لم يُعلمه لرسول الله؛ ولم يشهد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما دار بين الإخوة مباشرة، أو سماعاً من مُعلِّم، ولم يقرأ عنه؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أُمِيّ لم يتعلم القراءة أو الكتابة.
وسبحانه يقول عن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48]
وهم بشهادتهم يعلمون كل حركة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يُبعث؛ إقامة وتِرْحالاً والتقاءً بأيِّ أحد.
فلو عَلموا أنه قرأ كتاباً لكانت لهم حُجَّة، وحتى الأمر الذي غابتْ عنهم فِطْنتهم فيه؛ وقالوا:(12/7098)
{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... } [النحل: 103]
فرد عليهم الحق سبحانه: { ... لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]
وأبطل الحق سبحانه هذه الحجة، وقد قَصَّ الحق سبحانه على رسوله الكثير من أنباء الغيب، وسبق أن قلنا الكثير عن: «ما كُنَّات القرآن» ، مثل قوله تعالى: { ... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]
وقوله الحق: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} [القصص: 44]
فكأن مصدر علم الرسول بكل ذلك هو من إخبار الله له.
وقد استقبل أهل الكهف ما طلبوا أن يعرفوه من قصة يوسف(12/7099)
باللدد والجحود وهم قد طلبوا مطلبهم هذا بتأسيس من اليهود وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء لهم بقصة يوسف في مكان واحد، ودفعة واحدة، وفي سورة واحدة، لا في لقطات متعددة منثورة كأغلب قصص القرآن.
وقد جاء لهم بها كاملة؛ لأنهم لم يطلبوا جزئية منها؛ وإنما سألوه عن القصة بتمامها، وتوقعوا أن يعزف عن ذلك، لكنه لم يعزف، بل جاء لهم بما طلبوه.
وكان يجب أن يلتفتوا إلى أن الله هو الذي أرسله، وهو الذي علَّمه؛ وهو الذي أنبأه، لكنهم لم يؤمنوا، وعَزَّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأوضح له سبحانه: لا تبتئس ولا تيأس: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]
ويقول له سبحانه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6]
فأنت يا رسول الله عليك البلاغ فقط، ويذكر الحق ذلك لِيُسلِّي رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى لدد الكافرين؛ بعد أن جاء لهم بما طلبوه، ثم جحدوه: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ... } [النمل: 14](12/7100)
وهم قد جحدوا ما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم حرصوا على السلطة الزمنية فقط، وكان من الواجب أن يؤمنوا بما جاءهم به، لكن العناد هو الذي وقف بينهم وبين حقيقة اليقين وحقيقة الإيمان.
وأنت لا تستطيع أن تواجه المُعَاند بحجة أو بمنطق، فهم يريدون أن يظل الضعفاء عبيداً، وأن يكونوا مسيطرين على الخَلْق بجبروتهم، والدين سيُسوِّي بين الناس جميعاً، وهم يكرهون تلك المسألة.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقضية كونية، فيقول:
{وَمَآ أَكْثَرُ الناس ... }(12/7101)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
فأنت يا محمد لن تجعل كل الناس مؤمنين؛ ولو حرصت على ذلك، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شديد الحرص على أن يؤمن قومه، فهو منهم.
ويقول فيه الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
لكنهم جحدوا ما جاءهم به؛ وقد أحزنه ذلك الأمر. وفي الحرص نجد آية خاصة باليهود؛ هؤلاء الذين دفعوا أهل مكة أن يسألوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصة يوسف؛ يقول الحق سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ ... } [البقرة: 96](12/7101)
وكان على أهل مكة أن يؤمنوا مادام قد ثبت لهم بالبينات أنه رسول من الله.
وجاء قول الحق: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
جاء ذلك القولُ تسليةً من الحق سبحانه لرسوله، وليؤكد له أن ذلك ليس حال أهل مكة فقط، ولكن هذه هي طبيعة معظم الناس. لماذا؟
لأن أغلبهم لا يُحسن قياس ما يعطيه له منهج الله في الدنيا والآخرة، والإنسان حين يُقبل على منهج الله، يقيس الإقبال على هذا المنهج بما يُعطِيه له في الآخرة؛ فلسوف يعلم أنه مهما أعطى لنفسه من مُتَع الدنيا فعُمْره فيها مَوْقُوت بالقَدْر الذي قدَّره له الله، والحياة يمكن أن تنتهي عند أية لحظة.
والحق سبحانه حين خبأ عن الناس أعمارهم في الدنيا، لم يَكُنْ هذا الإخفاء إبهاماً كما يظن البعض، وهذا الإبهام هو في حقيقته عَيْن البيان، فإشاعة حدوث الموت في أي زمن يجعل الإنسان في حالة ترقُّب.
ولذلك فميتات الفُجَاءة لها حكمة أن يعرف كل إنسان أن الموت لا سببِ له، بل هو سبب في حَدِّ ذاته؛ سواء كان الموت في حادثة أو بسبب مرض أو فجأة، فالإنسان يتمتع في الدنيا على حسب عمره المحدد الموقوت عند الله، أما في الآخرة فإنه يتمتع على قدر إمدادات الخالق سبحانه.(12/7102)
والإنسان المؤمن يقيس استمتاعه في الآخرة بقدرة الله على العطاء، وبإمكانات الحق لا إمكانات الخَلْق.
وهَبْ أن إنساناً معزولاً عن أمر الآخرة، أي: أنه كافر بالآخرة وأخذها على أساس الدنيا فقط، نقول له: انظر إلى ما يُطلب منك نهياً؛ وما يُطلب منك أمراً، ولا تجعله لذاتك فقط، بل اجعله للمقابل لك من الملايين غيرك.
سوف تجد أن نواهي المنهج إن منعتْك عن شر تفعله بغيرك؛ فقد منعتْ الغير أن يفعل بك الشر، في هذا مصلحة لك بالمقاييس المادية التي لا دَخْل للدين بها.
ويجب أن نأخذ هذه المسألة في إطار قضية هي «دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة» .
وهَبْ أن إنساناً مُحباً لك أمسك بتفاحة وأراد أن يقذفها لك، بينما يوجد آخر كاره لك، ويحاول أن يقذفك في نفس اللحظة بحجر، وأطلق الاثنان ما في أيديهما تجاهك، هنا يجب أن تردَّ الحجر قبل أن تلتقط التفاحة، وهكذا يكون دَرْء المفسدة مُقدّماً على جَلْب المصلحة.
وعلى الإنسان أن يقيس ذلك في كل أمر من الأمور؛ لأن كثيراً من أدوات الحضارات أو ابتكارات المدنية أو المخترعات العلمية قد تعطينا بعضاً من النفع، ولكن يثبت أن لها من بعد ذلك الكثير من الضرر.
مثال هذا: هو اختراع مادة «د. د. ت» التي قتلت بعض الحشرات، وقتلت معها الكثير من الطيور المفيدة.(12/7103)
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } [الإسراء: 36]
وعليك أن تدرس أيَّ مُخْتَرع قبل استعماله؛ لترى نفعه وضرره قبل أن تستعمله.
وقد رأينا مَنْ يُدخِلون الكهرباء إلى بيوتهم، يحاولون أن يرفعوا موقع «فِيَش» الكهرباء عن مستوى تناول الأطفال؛ كي لا يضيع طفل أصابعه في تلك الفتحات فتصعقهم الكهرباء، ووجدنا بعضاً من المهندسين قد صَمَّموا أجهزة تفصل الكهرباء آلياً إنْ لمستْها يَدُ بشر.
وهذا هو دَرْء المفسدة المُقدَّم على جَلْب المنفعة، وعلينا أن نحتاط لمثل هذه الأمور.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه يقول: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
وهل قوله: {أَكْثَرُ الناس ... } [يوسف: 103]
نسبة للذين لا يؤمنون، يعني أن المؤمنين قلة؟(12/7104)
نقول: لا؛ لأن «أكثر» قد يقابله «أقل» ، وقد يقابله «الكثير» .
ويقول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ... } [الحج: 18]
وهكذا نجد أن كلمة «كثير» قد يقابلها أيضاً كلمة «كثير» .
وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه لو حرص ما استطاع أن يجعل أكثر الناس مؤمنين، والحِرْص هو تعلُّق النفس وتعبئة مجهود للاحتفاظ بشيء نرى أنه يجلب لنا نفعاً أو يذهب بضُرٍّ، وهو استمساك يتطلب جهداً.
ولذلك يوضح له الحق سبحانه: أنت لن تهدي مَنْ تحرص على هدايته.
ويقول سبحانه: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ... } [النحل: 37]
ومن هذه الآية نستفيد أن كل رسول عليه أن يوطن نفسه على أن الناس سيعقدون مقارناتٍ بين البدائل النفعية؛ وسيقعون في أخطاء اختيار غير الملائم لفائدتهم على المدى الطويل؛ فوطِّنْ نفسك يا محمد على ذلك.
وإذا كنتَ يا رسول الله قد حملتَ الرسالة وتسألهم الإيمان(12/7105)
لفائدتهم، فأنت تفعل ذلك دون أجر؛ رغم أنهم لو فَطِنوا إلى الأمر لكان يجب أن يقدروا أجراً لمن يهديهم سواء السبيل، لأن الأجر يُعْطَى لمن يقدم لك منفعة.
والإنسان حريص على أن يدفع الأجر لمن يُعينه على منفعة؛ والمنفعة إما أن تكون موقوتة بزمن دنيوي ينتهي، وإما أن تكون منفعة ممتدة إلى ما لا نهاية؛ راحة في الدنيا وسعادة في الآخرة.
ويأتي القرآن بقول الرسل: {لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ... } [الأنعام: 90]
ولم يَقُلْ ذلك اثنان هما: إبراهيم عليه السلام، وموسى عليه السلام.
وكان العقل يقول: كان يجب على الناس لو أنها تُقدِّر التقدير السليم؛ أن تدفع أجراً للرسول الذي يُفسِّر لهم أحوال الكون، ويُطمئنهم على مصيرهم بعد الموت، ويشرح لهم منهج الحق، ويكون لهم أُسْوة حسنة.(12/7106)
ونحن نجد في عالمنا المعاصر أن الأسرة تدفع الكثير للمدرس الخصوصي الذي يُلقِّن الابن مبادئ القراءة والكتابة، فما بالنا بمَنْ يضيء البصر والبصيرة بالهداية؟
ومقتضى الأمر أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقدم نفعاً أبدياً لمن يتبعه، لكنه لم يطلب أجراً.
ويقول الحق سبحانه:
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... }(12/7107)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
وفي هذا القول الكريم ما يوضح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يسأل قومه أجراً على هدايته لهم؛ لأن أجره على الله وحده.
والحق سبحانه هو القائل: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور: 40]
والحق سبحانه يقول على لسان رسوله في موقع آخر: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله ... } [سبأ: 47]
وهو هنا يُعلِي الأجر، فبدلاً من أن يأخذ الأجر من محدود القدرة على الدَّفْع، فهو يطلبها من الذي لا تُحَدّ قدرته في إعطاء الأجر؛ فكأن العمل الذي يقوم به لا يمكن أن يُجَازى عليه إلا من الله؛ لأن العمل الذي يؤديه بمنهج الله ومن الله، فلا يمكن إلا أن يكون الأجر عليه من أحد غير الله.(12/7107)
ولذلك يقول سبحانه: { ... إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104]
والذكر يُطْلَق إطلاقات متعددة، ومادة «ذال» و «كاف» و «راء» مأخوذة من الذاكرة. وعرفنا من قبل أن الإنسان له آلات استقبال هي الحواس الإنسانية، وتنتقل المعلومات أو الخبرات منها إلى العمليات العقلية، وتمرُّ تلك المعلومات ببؤرة الشعور، لِتُحفظ لفترة في هذه البؤرة، ثم تنتقل إلى حاشية الشعور، إلى أن تستدعيها الأحداث، فتعود مرة أخرى إلى بُؤْرة الشعور.
ولذلك أنت تقول حين تتذكر معلومة قديمة «لقد تذكرتها» ؛ كأن المعلومة كانت موجودة في مكان ما في نفسك؛ لكنها لم تَكُنْ في بؤرة الشعور. وحين جاءت عملية الاستدعاء، فهي تنتقل من حاشية الشعور إلى بُؤْرة الشعور.
والتذكُّر هو: استدعاء المعلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
والحق سبحانه يقول: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ... } [إبراهيم: 5]
أي: ذكِّرهم بما مَرَّ عليهم من أحداث أجراها الله؛ وهي غير موجودة الآن في بُؤْرة شعورهم. وسُمِّي القرآن ذكراً؛ لأنه يُذكِّر كل مؤمن به بالله الذي تفضَّل علينا بالمنهج الذي تسير به حياتنا إلى خير الدنيا والآخرة.(12/7108)
فالذكر إذن يكون للعاقل معونة له، وهو من ضمن رحمة الله بالخَلْق، فلم يترك الخلقَ منشغلين بالنعمة عن مَنْ أنعمها عليهم، فهذا الكون منظم بِدقَّة بديعة، وفي كل مُقوِّمات حياة البشر.
ومن فضل الله عليهم أنه أرسل الرسل مُذكِّرين لهم بهذا العطاء الرباني.
وكلمة «ذكر» تدل على أن الفطرة في الإنسان كان يجب أن تظل واعية ذاكرة لله، وقد قَدَّر الله غفلة الأحداث، فجعل لهم الذكر كله في القرآن الكريم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات ... }(12/7109)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
وإذا سمعتَ «كأين» افهم أن معناها كثير كثير كثير؛ بما يفوق الحَصْر، ومثل «كأين» كلمة «كم» ، والعَدُّ هو مظنة الحصر، والشيء الذي فوق الحصر؛ تنصرف عن عَدِّه، ولا أحد يحصر رمال الصحراء مثلاً، لكن كلاً منا يعُدُّ النقود التي يردُّها لنا البائع، بعد أن يأخذ ثمن ما اشتريناه.
إذن: فالانصراف عن العَدِّ معناه أن الأمر الذي نريد أن نتوجه لِعَّده فوق الحصر، ولا أحد يعُدُّ النجوم أو يحصيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُنبِّهنا إلى هذه القضية، لإسباغ نعمه على خلقه، ويقول:(12/7109)
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا ... } [إبراهيم: 34]
و «إنْ» هي للأمر المشوك فيه، وأنتم لن تعدُّوا نعمة الله؛ لأنها فوق الحصر، والمعدود دائماً يكون مُكَرراً، وذَكَر الحق هنا نعمة واحدة، ولم يحددها؛ لأن أيَّ نعمة تستقبلها من الله لو استقصيتها لوجدتَ فيها نِعَماً لا تُحصَر ولا تُعَدُّ.
إذن: فكلمة «كأين» تعني «كم» ، وأنت تقول للولد الذي لم يستذكر دروسه: كم نصحتك؟ وأنت لا تقولها إلا بعد أن يفيض بك الكيل.
وتأتي «كم» ويُراد بها تضخيم العدد، لا منك أنت المتكلم، ولكن ممَّنْ تُوجِّه إليه الكلام، وكأنك تستأمنه على أنه لن ينطق إلا صِدْقاً، أو كأنك استحضرتَ النصائح، فوجدتها كثيرة جداً.
والسؤال عن الكمية إما أنْ يُلْقَى من المتكلم، وإما أن يُطلب من المخاطب؛ وطلبُه من المخاطب دليل على أنه سَيِقُرّ على نفسه، والإقرار سيد الأدلة.
وحين يقول سبحانه: {وَكَأَيِّن ... } [يوسف: 105]
فمعناها أن ما يأتي بعدها كثير.
وسبحان القائل:(12/7110)
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا والله يُحِبُّ الصابرين} [آل عمران: 146]
وهكذا نفهم أن (كأين) تعني الكثير جداً؛ الذي بلغ من الكثرة مبلغاً يُبرر لنا العذر أمام الغير إنْ لم نُحْصِه.
والآيات هي جمع «آية» ؛ وهي الشيء العجيب، المُلْفِت للنظر ويُقال: فلان آية في الذكاء. أي: أن ذكاءه مضرب المثل، كأمر عجيب يفوق ذكاء الآخرين.
ويُقال: فلان آية في الشجاعة؛ وهكذا.
ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف، ولا يُنسَى.
وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة، ولكل منثور في الكون حكمة. وتنقسم معنى الآيات إلى ثلاث:
الأول: هو الآيات الكونية التي تحدثنا عنها، وهي عجائب؛ وهي حُجَّة للمتأمل أن يؤمن بالله الذي أوجدها؛ وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لابُدَّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدِّقة، وهذه الآيات تلفتنا إلى صدق توحيد الله والعقيدة فيه.(12/7111)
وقد نثر الحق سبحانه هذه الآيات في الكون.
وحينما أعلن الله بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها، ولم يَقُلْ أحد غيره: «أنا الذي خلقت» فهذه المسألة مسألة الخلق تثبُت له سبحانه، فهو الخالق وما سواه مخلوق، وهذه الآيات قد خُلِقت من أجل هدف وغاية.
وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون؛ فيقول الحق سبحانه: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 17 - 25]
كل هذه آيات تنبه الإنسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه(12/7112)
طبقاً لنواميس عليا؛ فيها سِرُّ بقاء حياته؛ فيجب أن ينتبه إلى مَنْ أوجدها.
وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى؛ كان عليه أن يسأل: ماذا يريد منه هذا الخالق الأعلى؟
هذه الآيات تفرض علينا عقلياً أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد الأعلى، وحينما يأتي رسول يقول لنا: إن مَنْ تبحثون عنه اسمه الله؛ وهو قد بعثني لأبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه؛ فتتبعوا أوامره وتتجنبوا نواهيه.
والنوع الثاني من الآيات هي آيات إعجازية، والمراد منها تثبيت دعوة الرسل، فكان ولابُدَّ أن يأتي كل رسول ومعه آية؛ لتثبت صِدْق بلاغه عن الله؛ لأن كل رسول هو من البشر، ولابد له من آية تخرق النواميس، وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل.
وهناك آيات حُكْمية، وهي النوع الثالث، وهي الفواصل التي تحمل جُملاً، فيها أحكام القرآن الكريم؛ وهو المنهج الخاتم.
وهي آياتٌ عجيبة أيضاً؛ لأنك لا تجد حُكْماً من أحكام الدين إلا ويمسُّ منطقياً حاجة من حاجات النفس الإنسانية، والبشر وإنْ كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها، ولكن لا حَلَّ للمشكلات التي يواجهونها، ولا تُحَلّ إلا بها.
والمثل الواضح هو الطلاق، وهم قد عَابُوا مجيء الإسلام به؛ وقالوا: إن مثل هذا الحل للعلاقة بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير(12/7113)
من القسوة على الأسرة، لكنهم لجأوا إليه بعد أن عضَّتهم أحداث الحياة، وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه.
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الآن وَضْع نظام ليتحللوا من الربا كله، ويقولون: لا شيء يمنع العقل البشري من التوصُّل إلى ما يفيد.
وهكذا نجد الآيات الكونية هي عجائب بكل المقاييس، والآيات المصاحبة للرسل هي معجزات خَرَقتْ النواميس، وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام تَقِي الإنسان من الداء قبل أن يقع، وتُجبرهم معضلات الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها.
وهم يُعرضون عن كل الآيات، يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ دَقَّقوا فيها لَثبتَ لهم وجود إله خالق؛ ولأخذوا عطاءً من عطاءات الله ليسري تربية وتنمية، وكل الاكتشافات الحديثة إنما جاءت نتيجةً لملاحظاتِ ظاهرةٍ ما في الكون.
وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ؛ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو؛ ففكَّر وتساءل: لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمُّل ذلك، واستنباط حقيقة تحوُّل الماء إلى بخار؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد؛ ويحتاج إلى حَيِّزٍ اكبر من الحَيِّز الذي كان فيه قبل التمدد.
وكان هذا التأمُّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات، وبدأ عصر سُمِّى «عصر البخار» . وهذا الذي رأى طَفْوَ طبقٍ على سطح الماء وتأمّل تلك الظاهرة، ووضع قاعدة باسمه، وهي «قاعدة أرشميدس» .(12/7114)
وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بِدِقَّة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا؛ كما استفاد العالم من تأملات أرشميدس وغيره؛ ممَّنْ قدَّموا تأملاتهم كملاحظات، تتبعها العلماء ليصلوا إلى اختراعات تفيد البشرية.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضِنُّ على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية.
إذن فقوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ... } [يوسف: 105]
إنْ أردتها وسيلة للإيمان بإله؛ فهي تقودك إلى الإيمان؛ وإنْ أردتها لفائدة الدنيا فالحقُّ لم يبخل على كافر بأن يُعطَيه نتيجة ما يبذل من جهد.
فكل المطلوب ألاّ تمُرَّ على آيات الله وأنت مُعرِض عنها؛ بل على الإنسان أن يُقبِل إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك؛ وتعطيك حياة لا نهايةَ لها، وهي حياة الآخرة، أو تُسعِد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك، وتفيد البشرية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله ... }(12/7115)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
وهكذا نرى المصافي التي يمر بها البشر ليصلوا إلى الإيمان.
المصفى الأول: قوله تعالى:(12/7115)
{وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
أي: أن الكثير من الناس لن يَصِلوا إلى الإيمان، حتى ولو حرص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكونوا مؤمنين.
وقلنا: إن مقابل «كثير» قد يكون «قليل» ، وقد يكون «كثير» ، وبعض المؤمنين قد يشوب إيمانهم شبهةٌ من الشرك، صحيح أنهم مؤمنون بالإله الواحد، ولكن إيمانهم ليس يقينياً، بل إيمان متذبذب، ويُشرِكون به غيره.
والمصفى الثاني: قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]
ومثال هذا: كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ... } [الزخرف: 87]
ويقول فيهم أيضاً: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ... } [لقمان: 25]
ورغم قولهم هذا إلا أنهم جعلوا شفعاء لهم عند الله، وقالوا: إن الملائكة بنات الله، وهكذا جعلوا لله شركاء. ومعهم كل مَنْ ادعى أن لله ابناً من أهل الكتاب.
وأيضاً مع هؤلاء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصُّون قوماً أقوياء بالخضوع لهم خضوعاً لا يمكن أن يُسمَّى في العرف مودة؛ لأنه تَقرُّب ممتلئ بالذلة؛ لأنهم يعتقدون أن لهم تأثيراً في النفع والضر؛ وفي هذا لون من الشرك.(12/7116)
ويأتي الواحد من هؤلاء ليقول لِمَنْ يتقرب منه: أرجو أن تقضي لي الأمر الفلاني. ويرد صاحب النفوذ: اعتمد على الله، وإن شاء الله سيقضي الله لك حاجتك.
لكن صاحب الطلب يتمادى في الذِّلة، ليقول: وأنا اعتمد عليك أيضاً، لتقضي لي هذه الحاجة.
أو يرد صاحب النفوذ ويقول: أنا سوف افعل لك الشيء الفلاني؛ والباقي على الله.
وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل: وماذا عن الذي ليس باقياً، أليس على الله أيضاً؟
وينثر الله حِكَماً في أشياء تمنَّاها أصحابها؛ فَقُضِيتْ؛ ثم تبين أن فيها شراً، وهناك أشياء تمناها أصحابها؛ فلم تُقْضَ؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل الخير.
نجد الأثر يقول:
وَاطلبُوا الأشياءَ بِعزَّةِ الأنفُسِ ... فَإِنَّ الأُمورَ تَجْرِي بِمقَادِير
وربما منعك هذا فكرهته، وكان المنع لك خيراً من قضائه لك، فإن المنع عَيْن العطاء، ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف دائماً أن الله هو الفاعل، وهو المسبب، وأن السبب شيء آخر.
ودائماً أذكِّر بأننا حين نحجُّ أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة(12/7117)
لنتذكر ما فعلتْه سيدتنا هاجر التي سَعَتْ بين الصفا والمروة؛ لتطلب الماء لوليدها بعد استنفدت أسبابها؛ ثم وجدت الماء تحت رِجْل وليدها إسماعيل.
فقد أخذتْ هي بالأسباب، فجاء لها رب الأسباب بما سألت عنه. ولم يأت لها الحق سبحانه بالماء في جهة الصفا أو المروة؛ ليثبت لها القضية الأولى التي سألت عنها إبراهيم عليه السلام حين أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له: ءأنزلتنا هنا برأيك؟ أم أن الله أمرك بهذا؟ قال: نعم أمرني رَبِّي. قالت: إذن لا يضيعنا.
وقد سَعَتْ هي بحثاً عن الماء أخذاً بالأسباب، وعثرتْ على الماء بقدرة المسبِّب الأعلى.
وقول الحق سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]
يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرَّب الشرك إلى الإيمان، ولنا أن نتساءل: مادام يوجد الإيمان؛ فمن أين تأتي لحظة الشرك؟
ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى(12/7118)
البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ} [العنكبوت: 65 - 66]
هم إذن قد آمنوا وهم في الفُلْك، وأخذوا يدعُون الله حين واجهتهم أزمة في البحر؛ لكنهم ما أن وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك.
حين يسألهم السائل: ماذا حدث؟
فيجيبون: أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم، واستعدوا بقوارب النجاة. ونَسَوْا أن الله هو الذي أنقذهم فانطبق عليهم قول الحق سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} [إبراهيم: 30]
وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لإنسان؛ وبعد أن يُسَهِّل لك الله قضاء تلك الحاجة؛ تلتفت فلا تجده، ولا يفكر في أن يُوجِّه لك كلمة الشكر.
وحين تلقاه يقول لك: كل ما طلبته منك وجدته مقضياً، لقد كلَّمْتُ فلاناً فقضاها.(12/7119)
وهو يقول لك ذلك ليُبعد عنك ما أسبغه الله عليك من فضل قضائك لحاجته؛ وذلك لأنه لحظة أن طلب منك مساعدته في قضاء تلك الحاجة تذلَّل وخضع، وبعد أن تنقضي يتصرف كفرعون ويتناسى.
ولا ينزعه من فرعنته إلا رؤياك؛ لأنه يعلم أنك صاحب جميل عليه، بل قد يريد بك الشر؛ رغم أنك أنت مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأن هذه هي طبيعة الإنسان.
يقول تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6 - 7]
ولذلك يقول في المثل: «اتَّقِ شَرَّ من أحسنت إليه» .
وأنت تتقي شره، بأن تحذر أن تمُنَّ عليه بالإحسان؛ كي لا تنمي فيه غريزة الكره لك.
والناصح يحتسب أيَّ مساعدة منه لغيره عند الله؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء فعل الخير، ولا ينتظر شيئاً ممَّنْ فعل الخير له؛ لأنك لا تعلم ماذا فكَّر لحظة أن أدَّيْتَ له الخدمة، فحين يجد ترحيبَ الناس بك في الجهة التي تُؤدِّي له الخدمة فيها؛ قد يتساءل: لماذا يحترمونك أكثر منه؟
وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك مُتواجِد معه في هذا المكان لتخدمه.
ولذلك يقول العامة هذا المثل: «اعمل الخير وارْمه في البحر» ؛(12/7120)
لأن الله هو الذي يجازيك وليس البشر؛ فاجعل كل عملك مُوجَّهاً لله، وانْسَ أنك فعلْتَ معروفاً لأحد.
والمعروف المنكُور هو أجْدى أنواع المعروف عليك؛ لأن الذي يُجازِي عليه هو الله؛ وهو سبحانه مَنْ سيناولك أجره وثوابه بيده؛ ولذلك عليك أن تنسى مَنْ أحسنتَ إليه؛ كي يُعوِّضك الله بالخير على ما فعلت.
ويُقال في الأثر: إن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، إني أسألك ألاّ يُقال فيّ ما ليس فيّ. فأوضح له الله: يا موسى لم أصنعها لنفسي؛ فكيف أصنعها لك.
ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار} [الزمر: 8]
والإنسان لحظةَ أن يمسَّه الضُّر؛ فهو يدعو الربوبية المتكفِّلة بمصالحه: يا ربّ أنت الذي خلقتني، وأنت المتكفِّل بتربيتي؛ وأنا(12/7121)
أتوكل عليك في مصالحي، فأنقذني ممَّا أنا فيه.
ومثل هذا الإنسان كمثل الرُّبان الذي ينقذه الله بأعجوبة من العاصفة؛ لكنه بعد النجاة يحاول أن ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه.
ولذلك أقول دائماً: احذروا أيها المؤمنون أن تنسَوْا المُنعِم المُسبِّب في كل شيء، وإياكم أن تُفْتنوا بالأسباب؛ فتغفلوا عن المُسبِّب؛ وهو سبحانه مُعْطي الأسباب.
وأقول ذلك حتى لا تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بالله؛ فسبحانه القائل: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]
والظلم كما نعلم هو أن تُعطِي الحق لغيره صاحبه؛ فكيف يَجْرؤ أحد على أن يتجاهل فَضْل الله عليه؟ فيقع في الشرك الخفي، والظلم الأكبر هو الشرك.
وسبحانه القائل: { ... إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:(12/7122)
{أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ ... }(12/7123)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
ألم يحسب هؤلاء حساب انتقام الله منهم بعذاب الدنيا الذي يَعُمُّ؛ لأن الغاشية هي العقاب الذي يَعُمُّ ويُغطِّي الجميع؛ أم أنهم استبطئوا الموت، واستبطئوا القيامة وعذابها؛ رغم أن الموت مُعلَّق على رقاب الجميع، ولا أحد يعلم ميعاد موته.
فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «من مات قامت قيامته» .
فما الذي يُبطئهم عن الإيمان بالله والإخلاص التوحيدي لله، بدون أنْ يمسَّهم شرك؛ قبل أن تقوم قيامتهم بغتةً؛ أي: بدون جرس تمهيدي.
ونعلم أن مَنْ سبقونا إلى الموت لا يطول عليهم الإحساس بالزمن إلى أن تقومَ قيامة كُلِّ الخَلْق؛ لأن الزمن لا يطول إلا على مُتتبع أحداثه.
والنائم مثلاً لا يعرف كَمْ ساعةً قد نام؛ لأن وَعْيَه مفقود فلا(12/7123)
يعرف الزمن، والذي يوضح لنا أن الذين سبقونا لا يشعرون بمرور الزمن هو قوله الحق: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]
ويأتي قول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو ... }(12/7124)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
أي: قل يا محمد هذا هو منهجي. والسبيل كما نعلم هو الطريق، وقوله الحق: {هذه سبيلي ... } [يوسف: 108]
يدل على أن كلمة السبيل تأتي مرة مُؤنَّثة، كما في هذه الآية، وتأتي مرة مُذكَّرة؛ كما في قوله الحق: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ... } [الأعراف: 146]
وأعْلِنْ يا محمد أن هذه الدعوة التي جِئْتَ بها هي للإيمان بالله الواحد؛ وسبحانه لا ينتفع بالمنهج الذي نزل عليك لِيُطبِّقه العباد، بل(12/7124)
فيه صلاح حياتهم، وسبحانه هو الله؛ فهو الأول قبل كل شيء بلا بداية، والباقي بعد كل موجود بلا نهاية؛ ومع خَلْق الخَلْق الذين آمنوا هو الله؛ وإن كفروا جميعاً هو الله، والمسألة التكليفية بالمنهج عائدة إليكم أنتم، فمَنْ شاء فَلْيؤمن، ومَنْ شاء فَلْيكفر.
ولنقرأ قول الحق: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1 - 2]
فهي تنشقُّ فَوْرَ سماعها لأمر الله، وتأتي لحظة الحساب.
وقوله الحق: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ ... } [يوسف: 108]
أي: أدعو بالطريق المُوصِّل إلى الله إيماناً به وتَقبُّلاً لمنهجه، وطلباً لما عنده من جزاء الآخرة؛ وأنا على بصيرة مما أدعو إليه.
والبصر كما نعلم للمُحسَّات، والبصيرة للمعنويات.
والبصر الحسيُّ لا يُؤدِّي نفس عمل البصيرة؛ لأن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور يُقنِع النفس البشرية، وإنْ لم تَكُنْ الأمور الظاهرة مُلجئة إلى الإقناع.
ومثال هذا: أم موسى حين أوحى الله لها أن تقذف ابنها(12/7125)
في اليَمِّ، ولو قاسَتْ هي هذا الأمر بعقلها لما قَبِلَتْه، لكنها بالبصيرة قَبِلَتْه؛ لأنه وارد من الله لا مُعانِدَ له من النفس البشرية.
فالبصيرة إذن: هي يقين ونور مبني على برهان من القلب؛ فيطيعه العبد طاعة بتفويض، ويُقال: إن الإيمان طاعة بصيرة.
ويمكن أن نقرأ قوله الحق: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ ... } [يوسف: 108]
وهنا جملة كاملة؛ ونقرأ بعدها: {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني ... } [يوسف: 108]
أو نقرأها كاملة: {قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [يوسف: 108]
وقول الحق: {وَسُبْحَانَ الله ... } [يوسف: 108]
أي: أنه سبحانه مُنزَّه تنزيهاً مطلقاً في الذات، فلا ذاتَ تُشبِهه؛ فذاته ليست محصورة في القالب المادي مثلك، والمنفوخة فيه الروح، وسبحانه مُنزَّه تنزيهاً مُطْلقاً في الأفعال، فلا فعلَ يشبه فِعله؛ وكذلك صفاته ليست كصفات البشر، فحين تعلم أن الله يسمع ويرى، فخُذْ ذلك في نطاق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11](12/7126)
وكذلك وجوده سبحانه ليس كوجودك؛ لأن وجوده وجود واجد أزليّ، وأنت حَدَثٌ طارئ على الكون الذي خلقه سبحانه.
ولذلك قاس بعض الناس رحلة الإسراء والمعراج على قدرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولم ينتبهوا إلى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لقد أُسري بي» .
ونزل قول الحق سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} [الإسراء: 1]
وهكذا تعلم أن الفعل لم يكن بقوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ ولكن بقوة من خلق الكون كله، القادر على كل شيء، والذي لا يمكن لمؤمن حق أن يشرك به، أمام هذا البرهان. ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ... }(12/7127)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
وينتقل الحق سبحانه هنا إلى الرسل الذين سبقوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فالحق سبحانه يقول: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94]
أي: أنهم كانوا يطلبون رسولاً من غير البشر، وتلك مسألة لم تحدث من قبل، ولو كانت قد حدثتْ من قَبْل؛ لقالوا: «ولماذا فعلها الله مع غيرنا؟» .
ولذلك أراد سبحانه أن يَرُدُّ لهم عقولهم؛ فقال تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95]
والملائكة بطبيعتها لا تستطيع أن تحيا على الأرض، كما أنها لا تصلح لأنْ تكون قُدْوة أو أُسْوة سلوكية للبشر.
فالحق سبحانه يقول عن الملائكة: { ... لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
والملاك لا يصلح أن يكون أُسْوة للإنسان؛ لأن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُحَسٍّ من البشر؛ ولو أراده الله رسولاً لَجسَّده بشراً؛ ولو جعله بشراً لبقيتْ الشبهةُ قائمةً كما هي.
أو: أن الآية جاءت لِتسُدَّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك(12/7128)
على الناس في حروب الرِّدة حين ادَّعَتْ سجاح أنها نبية مُرْسَلة.
لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقول: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى ... } [يوسف: 109]
ليوضح لنا أن المرأة لا تكون رسولاً منه سبحانه؛ لأن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم التحامَ بلاغٍ، والمرأة مطلوب منها أن تكون سكناً.
كما أن الرسول يُفترض فيه ألاّّ يسقط عنه تكليف تعبديّ في أي وقت من الأوقات؛ والمرأة يسقط عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث، ومهمة الرسول تقتضي أن يكون مُسْتوفي الأداء التكليفي في أيِّ وقتٍ.
ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَأْتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إلا رجالاً، ولم يسأل الحق أيّاً منهم، ولم يستأذن من أيِّ واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته؛ بل تلقَّى التكليف من الله دون اختيار منه، ويتلقى ما يؤمر أن يبلغه للناس، ويكون الأمر بواسطة الوحي.
والوحي كما نعلم إعلام بخفاء، ولا ينصرف على إطلاقه إلا للبلاغ عن الله. ولم يوجد رسول مُفوَّض ليبلغ ما يحب أو يُشرِّع؛ لكن كل رسول مُكلَّف بأن ينقل ما يُبَلغ به، إلا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقد فوَّضه الحق سبحانه في أن يُشرِّع، ونزل في القرآن: {مَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا ... } [الحشر: 7](12/7129)
ويقول الحق سبحانه عن هؤلاء الرسل السابقين أنهم: {مِّنْ أَهْلِ القرى ... } [يوسف: 109]
والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر. وأنت حين تزور أهل المدينة تجد عندهم الخير عكس أهل البادية، فالبدويّ من هؤلاء قد لا يجد ما يُقدِّمه لك، فقد يكون ضرع الماشية قد جَفَّ؛ أو لا يجد ما يذبحه لك من الأغنام.
والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطُّن؛ ويملكون قدرة التعايش مع الغير، وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض، وترِقُّ حاشية كل منهم للآخر، وتتسع مداركهم بمعارف متعددة، وليس فيهم غِلْظة أهل البادية.
فالبدويُّ من هؤلاء لا يملك إلا الرَّحْل على ظهر جَمله؛ ويطلب مساقط المياه، وأماكن الكلأ لما يرعاه من أغنام.
وهكذا تكون في أهل القرى رِقَّة وعِلْم وأدبُ تناولٍ وتعاملٍ؛ ولذلك لم يَأْتِ رسول من البدو كي لا تكون معلوماته قاصرة، ويكون جافاً، به غِلْظة قوْلٍ وسلوك.
والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرِّفق واللِّين وحُسْن المعاشرة؛ لذلك يكون من أهل القرى غالباً؛ لأنهم ليسوا قُسَاة؛ وليسوا على جهل بأمور التعايش الاجتماعي.(12/7130)
ويتابع الحق سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ... } [يوسف: 109]
أي: أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها؛ ولا يعلمون متى يعودون؛ فليأخذوا الدنيا مِقْياساً؛ وَلْينظروا في رُقْعة الأرض؛ وينظروا ماذا حدث للمُكذِّبين بالرسل، إنهم سيجدون أن الهلاك والعذاب قد حاقا بكل مُكذِّب.
ولو أنهم ساروا في الأرض ونظروا نظرة اعتبار، لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في الجبال وقد عصف بها الحق سبحانه، ولَرأوْا أن الحق قد صَبَّ سَوْط العذاب على قوم عاد وآل فرعون، فإن لم تَخَفْ من الآخرة؛ فعليك بالخوف من عذاب الدنيا.
وقول الحق سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ... } [يوسف: 109]
وهذا القول هو من لَفتاتِ الكونيات في القرآن، فقديماً كنا لا نعرف أن هناك غلافاً جوياً يحيط بالأرض، ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي به الأكسوجين الذي نحتاجه للتنفس.
ولم نَكُنْ نعرف أن هذا الغلاف الجوي من ضمن تمام الأرض،(12/7131)
وأنك حين تسير على اليابسة، فالغلاف الجوي يكون فوقك؛ وبذلك فأنت تسير في الأرض؛ لأن ما فوقك من غلاف جوي هو من مُلْحقات الأرض.
والسَيْر في الأرض هو للسياحة فيها، والسياحة في الأرض نوعان: سياحة اعتبار، وسياحة استثمار.
ويُعبِّر الحق سبحانه عن سياحة الاعتبار بقوله: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ... } [الروم: 9]
ويعبر سبحانه عن سياحة الاستثمار بقوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة ... } [العنكبوت: 20]
إذن: فالسياحة الاعتبار هي التي تَلْفتك لقدرة الله سبحانه، وسياحة الاستثمار هي من عمارة الأرض، يقول الحق سبحانه: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ... } [النساء: 100]
وأنت مُكَّلف بهذه المهمة، بل إن ضاق عليك مكان في الأرض فابحث عن مكان آخر، بحسب قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ... }
[النساء: 97]
ولك أن تستثمر كما تريد، شرطَ ألاَّ يُلهِيك الاستثمار عن الاعتبار.
ويتابع الحق سبحانه: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ ... } [يوسف: 109](12/7132)
ويا لَيْتَ الأمر قد اقتصر على النكال الذي حدث لهم في الدنيا؛ بل هناك نَكَالٌ أشدُّ وَطْأة في انتظارهم في الآخرة.
يقول الحق سبحانه: { ... وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]
وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين كَذَّبوا؛ يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين، ولم تذكر الآية مصير هؤلاء المُكذِّبين بالتعبير المباشر، ويُسمُّون ذلك في اللغة بالاحتباك.
مثل ذلك قوله الحق: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... } [الرعد: 41] وكل يوم تنقص أرض الكفر، وتزيد رقعة الإيمان.
وهكذا يأتي العقاب من جانب الله، ونأخذ المقابل له في الدنيا؛ ومرة يأتي بالثواب المقيم للمؤمنين، ونأخذ المقابل في الآخرة.
ولقائل أن يقول: ولماذا لم يَقُلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شراً من عذاب الدنيا في اليوم الآخر؟(12/7133)
وأقول: إن السياق العقلي السطحي الذي ليس من الله؛ هو الذي يمكن أن يُذكِّرهم بأن عذاب الآخرة هو أشدُّ شراً من عذاب الدنيا.
ولكن الحق سبحانه لا يقول ذلك؛ بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين؛ فقال: { ... وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]
فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين؛ ثم جاء في الآخرة بالثواب لِلمُتقين؛ أخذ من هذا المقابل أن غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير، وقد حذف من هنا ما يدل عليه هناك؛ كي نعرف كيف يُحْبَك النظم القرآني.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{حتى إِذَا استيأس الرسل ... }
وكلمة: {حتى} [يوسف: 110](12/7134)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
تدل على أن هناك غاية، ومادامتْ هناك غاية فلابُدَّ أن بداية ما قد سبقتْها، ونقول: «أكلتُ السمكة حتى رأسها» . أي: أن البداية كانت أَكْل السمكة، والنهاية هي رأسها.
والبداية التي تسبق:(12/7134)
{استيأس الرسل ... } [يوسف: 110]
هي قوله الحق: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ ... } [يوسف: 109]
ومادام الحقُّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد ضَمِنوا النصر، ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس الرسل، وكان هذا الإبطاء مقصوداً من الحق سبحانه؛ لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في الأرض إلى أن تقوم الساعة، فيجب ألا يضطلع بها إلا المُخْتَبر اختباراً دقيقاً.
ولابُدَّ أن يمر الرسول الأُسْوة لمَنْ معه ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة، ومَنْ صبر على المِحَن وخرج منها ناجحاً؛ فهو أَهْلٌ لأن يحمل المهمة.
وهو الحق سبحانه القائل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ... } [البقرة: 214]
إذن: لابُدَّ من اختبار يُمحِّص. ونحن في حركة حياتنا نُؤهِّل التلميذ دراسياً؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام الدراسة الابتدائية، ثم نُؤهِّله(12/7135)
لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة الإعدادية؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام الدراسة الثانوية، ثم يلتحق بالجامعة، ويتم اختباره سنوياً إلى أن يتخرج من الجامعة.
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه، فهو يبذل المزيد من الجَهْد.
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها، فما بَالُنا بعملية بَعْث رسول إلى قوم ما؟
لابُدَّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه، وكي لا يبقى على العهد إلا المُوقِن تمام اليقين بأن ما يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيراً افضل منه عند الله في الآخرة.
ولقائل أن يقول: وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
نقول: فَلنفهم أولاً معنى «استيأس» ؛ وهناك فرق بين «يأس» و «استيأس» ، ف «يأس» تعني قطع الأمل من شيء. و «استيأس» تعني: أنه يُلِحّ على قَطع الأمل.
أي: أن الأمل لم ينقطع بعد. ومَنْ قطع الأمل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء، ولا ينقطع أمل إنسان إلا إنْ كان مؤمناً بأسبابه المعزولة عن مُسبِّبه الأعلى.
لكن إذا كان الله قد أعطى له الأسباب، ثم انتهت الأسباب، ولم تَصِلْ به إلى نتيجة، فالمؤمن بالله هو مَنْ يقول: أنا لا تُهمّني الأسباب؛ لأن معي المُسبِّب.(12/7136)
ولذلك يقول الحق سبحانه: { ... وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون}
[يوسف: 87]
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملاحدة الكافرين؛ لأنهم لا يملكون رصيداً إيمانياً، يجعلهم يؤمنون أن لهم رباً فوق كل الأسباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى رُكْن شديد، هو قدرة الحق سبحانه مُسبِّب كل الأسباب، والقادر على أن يَخْرِق الأسباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: {متى نَصْرُ الله ... } [البقرة: 214]
فضلاً عن ظَنِّهم أنهم كُذّبوا، والحق سبحانه يقول هنا: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ... } [يوسف: 110]
ومادة «الكاف» ، و «الذال» و «الباء» منها «كَذَبَ» ، و «كُذِبَ عليه» و «كُذِّب» . والكذب هو القول المخالف للواقع، والعاقل هو من يُورِد كلامه على ذِهْنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي لا يمتلك القدرة على التدبُّر؛ فينطق الكلام(12/7137)
على عَواهِنه؛ ولا يمرر الكلام على ذهنه؛ ولذلك يقال عنه «مخرف» .
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق، وقلنا: إنه تطابق النسبة الكلامية مع الواقع، والكذب هو ألاَّ تتطابق النسبة الكلامية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلاماً يعلم أنه لا يطابق الواقع؛ يقال عنه: إنه مُتعمِّد الكذب، ومَنْ يقول كلاماً بغالبية الظن أنه لا يطابق الواقع، ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً، والإنسان الذي يتوخَّى الدِّقة ينقل الكلام منسوباً إلى مَنْ قاله له؛ فيقول «أخبرني فلان» فلا يُعَدُّ كاذباً.
ولذلك أقول دائماً: يجب أن يُفرِّق العلماء بين كذب المُفْتين، وكذب الخبر؛ وكذب المُخْبر. فالخبر الكاذب مسئول عنه مَنْ تعمَّد الكذب، أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله، فموقفه مختلف.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي: «وظنوا أنهم قد كُذبوا» أي: حدَّثهم غيرهم كَذِباً؛ وقراءة ثانية هي: «وظنوا أنهم قد كُذِّبوا» وهي تعني: أنهم قد(12/7138)
ظنُّوا أن ما قيل لهم من كلام عن النصر هو كذب.
ولقائل أن يسأل: كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول: إن الرسول حين يطلب من قومه الإيمان؛ يعلم أن ما يُؤكِّد صدق رسالته هو مجيء النصر؛ وتمرُّ عليه بعض من الخواطر خوفاً أن يقول المقاتلون الذين معه: «لقد كذب علينا» ؛ لأن الظن إخبار بالراجح.
ولا يخطر على بال الرسل أن الله سبحانه وتعالى معاذ الله قد كَذَبهم وعده، ولكنهم ظَنُّوا أن النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلاً على أن النصر لن يأتي.
أو: أنهم خافوا أن يُكذِّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه يُعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه، ولا يعرفه أحد، فسبحانه لا يَعْجَلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ الأمور ما أراد.
ويقول سبحانه: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا ... } [يوسف: 110](12/7139)
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون وَقْعه كوقع الماء على ذي الغُلَّة الصَّادي، ولنا أن نتخيل شَوْق العطشان لكوب الماء.
وأيضاً فإن إبطاء النصر يعطي غروراً للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضاً يتضاعف غَمُّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لأن تلك هي مشيئة الله الذي يقع بَأْسه وعذابه على الكافرين به.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ... }(12/7140)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
ونلحظ أن هذه الآية جاءت في سورة يوسف؛ أي: إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته؛ ففي السورة كل القصة بمَراميها وأهدافها وعِظَتها، أو المهم في كل قصص الأنبياء.
يقول الحق سبحانه: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... } [هود: 120]
ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من قَصِّ الأثر؛ وتتبُّعه بلا زيادة أو نقصان.(12/7140)
ويقول الحق سبحانه هنا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ... } [يوسف: 111]
وفي أول السورة قال الحق: { ... إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]
ونعرف أن مادة «العين» و «الباء» و «الراء» تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ.
والعِبْرة في هذه القصة قصة يوسف وكذلك قصص القرآن كلها؛ نأخذ منها عِبْرة من الجَليِّ فيها إلى الخَفيِّ الذي نواجهه؛ فلا نفعل الأمور السيئة؛ ونُقدِم على الأمور الطيبة.
وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية؛ وحين نبتعد عن العمل السيئ الذي جاء خَبرُه في القصة القرآنية؛ بذلك نكون قد أحسنَّا الفهم عن تلك القصص.
وعلى سبيل المثال: نحن نجد الظالم في القصَص القرآني؛ وفي قصة يوسف تحديداً؛ وهو ينتكس، فيأخذ الواحد مِنَّا العبرة، ويبني حياته على ألاّ يظلم أحداً. وحين يرى الإنسان منا المظلومَ وهو ينتصر؛ فهو لا يحزن إنْ تعرَّض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتصر؛ فهو لا يحزن إن تعرض لظلم؛ لأنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن الله.
ونحن نقول: «عبر النهر» أي: انتقل من شاطئ إلى شاطئ.
وكذلك قولنا «تعبر الرُّؤْيا» أي: تؤوّلها؛ لأن الرُّؤْيا تأتي رمزية؛ وتعبرها أي: تشرحها وتنقلها من خفيّ إلى جليّ؛ وإيضاح المطلوب منها.(12/7141)
ونَصِفُ الدَّمْعة بأنها «عَبْرة» ؛ والحزن المدفون في النفس البشرية تدل عليه الدَّمْعة.
وهنا قال الحق سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب ... } [يوسف: 111]
والعِبْرة قد تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلا العاقل الذي يُمحِّص الأشياء، أما الذي يمرُّ عليها مُرور الكرام؛ فهو لا يستفيد منها.
و «أولو الألباب» هم أصحاب العقول الراجحة، و «الألباب» جمع «لُبّ» . واللب: هو جوهر الشيء المطلوب؛ والقَِشْر موجود لصيانة اللُّبِّ، وسُمِّي العقل «لُبّاً» لأنه ينثرُ القشور بعيداً، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها.
ويتابع الحق سبحانه: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ ... } [يوسف: 111]
أي: أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْياً عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمَّد؛ بل هو الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه.
ويُقال: «بين يديك» أي: سبقك؛ فإذا كنت تسير في طابور؛ فَمَنْ أمامك يُقال له «بين يديك» ، ومَنْ وراءك يُقال له «مَنْ خلفك» .
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه؛ وليست هي التي تُصدِّق عليه؛ لأنه الكتاب المهيمن، والحق سبحانه هو القائل:(12/7142)
{وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... } [المائدة: 48]
ويضيف الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ... } [يوسف: 111]
فالقرآن يُصدِّق الكتب السابقة، ويُفصِّل كل شيء؛ أي: يعطي كل جزئية من الأمر حُكْمها في جزئية مناسبة لها. فهو ليس كلاماً مُجْملاً، بل يجري تفصيل كل حُكْم بما يناسب أيَّ أمر من أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول: «فلان قام بشراء بذلة تفصيل» . أي: أن مقاساتها مناسبة له تماماً؛ ومُحْكمة عليه حين يرتديها.
وفي الأمور العقدية نجد والعياذ بالله مَنْ يقول: إنه لا يوجد إله على الإطلاق، ويقابله مَنْ يقول: إن الآلهة مُتعددة؛ لأن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد؛ فهناك إله للسماء، وإله للأرض؛ وإله للنبات؛ وإله للحيوان.
ونقول لهم: كيف يوجد إله يقدر على شيء، ويعجز عن شيء آخر؟
وإنْ قال هؤلاء: «إن تلك الآلهة تتكاتف مع بعضها» .
نرد عليهم: ليست تلك هي الألوهية أبداً، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:(12/7143)
{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب؛ أما الرجل المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لأنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحاً.
ونجد الحق سبحانه يقول عن الآلهة المتعددة: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]
أما مَنْ يقول بأنه لا يوجد إله في الكون، فنقول له: وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق المُحْكم بلا صانع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يُفَصّلَ هذا الأمر ليؤكد أنه لا يوجد سوى إله واحد في الكون، ونجد القرآن يُفصِّل لنا الأحكام؛ ويُنزِل لكل مسألة حُكْماً مناسباً لها؛ فلا ينتقل حُكْم من مجال إلى آخر.
وكذلك تفصيل الآيات، فهناك المُحْكم والمُتَشابه؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه. {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات ... } [آل عمران: 114]
ويقول في موقع آخر:(12/7144)
{وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ... } [آل عمران: 133]
جاء مرة بقول «إلى» ، ومرة بقول «في» ؛ لأن كلاً منها مناسبة ومُفصَّلة حَسْب موقعها.
فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها، وهي الغاية التي سيصل إليها، أما مَنْ يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الآن، ونطلب منه أن يزيد في الخير.
وأيضاً نجد قوله الحق: { ... واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17]
ونجد قوله الحق: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]
وواحدة منهما وردتْ في المصائب التي لها غَرِيم، والأخرى قد وردتْ في المصائب التي لا غريم فيها؛ مثل المرض حيث لا غَرِيم ولا خُصومة.
أما إذا ضربني أحد؛ أو اعتدى على أحد أبنائي؛ فهو غريمي وتوجد خصومة؛ فوجوده أمامي يَهِيج الشر في نفسي؛ وأحتاج لضبط النفس بعزيمة قوية، وهذا هو تفصيل الكتاب.
والحق سبحانه يقول: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ... } [فصلت: 3]
أي: أن كل جزئية فيه مناسبة للأمر الذي نزلتْ في مناسبته.(12/7145)
ومثال هذا هو قوله سبحانه: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ... } [الإسراء: 31]
وقوله الحق: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ... } [الأنعام: 151]
وكل آية تناسب موقعها، ومعناها مُتَّسق في داخلها، وتَمَّ تفصيلها بما يناسب ما جاءت له، فقوله: {وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ ... } [الأنعام: 151]
يعني أن الفقر موجود، والإنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه.
أما قوله: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ... } [الإسراء: 31]
أي: أن الفقر غير موجود، وهناك خَوْف أن يأتي إلى الإنسان؛ وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد.
وهكذا نجد في القرآن تفصيلاً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم، وهو تفصيل لكل شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ ... } [النمل: 23](12/7146)
وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا، بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه، أو يُمكِن أن تملكه في الدنيا.
وقول الحق سبحانه: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ... } [يوسف: 111]
لا يعني أن نسأل مثلاً: «كم رغيفاً في كيلة القمح؟» .
وقد حدث أن سأل واحد الإمام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز، وسأله هذا السؤال؛ فأجاب الخباز؛ فقال السائل: ولكنك لم تَأْتِ بالإجابة من القرآن؟ فقال الإمام محمد عبده: لماذا لا تذكر قوله الحق: { ... فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرِّط في الكتاب من شيء.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير، وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني: علاج لمَنْ وقع في المعصية.
وإليك المثال: هَبْ أن أُناساً يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لأنه مرض، وهو رحمة بمعنى ألاَّ يقعوا في المرض بداية.(12/7147)
إذن: فهناك ملاحظتان يشيران إلى القسمين:
الملاحظة الأولى: أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية.
والملاحظة الثانية: أن المنهج يتضمن العلاج لِمَنْ وقع في المعصية.
ويُحدِّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلاجاً، فيقول: { ... وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
أي: هؤلاء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون، ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم، ومن المنطقيِّ أن يسمع المؤمن كلامه ويُنفذه؛ لأنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما يصون حياتك، فإنْ كنت مؤمناً بالله؛ فُخُذ الهدى، وخُذ الرحمة.
ونسأل الله أن نُعطَي هذا كله.(12/7148)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلاً في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها بعض من سور القرآن الكريم: مثل قوله الحق: {الم} [البقرة: 1]
وقوله: {المر ... } [الرعد: 1]
ومثل قوله: {المص} [الأعراف: 1](12/7151)
وغير ذلك من الحروف التوقيفية التي جاءتْ في أول بعض من فَواتِح السُّور.
ولكن الذي أُحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مَبْنية على الوَصْل؛ لا على الوَقْف؛ ولذلك تجدها مَشْكُولة؛ لأنها مَوْصُولة بما بعدها.
وكان من المفروض لو طبَّقْنَا هذه القاعدة أن نقرأ «المر» فننطقها: «ألفٌ» «لامٌ» «ميمٌ» «راءٌ» ، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مَبْنية على الوقف، فنقول: «ألفْ» «لامْ» «ميمْ» «راءْ» .
وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وهكذا نقرأها نحن.
ويتابع سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ... } [الرعد: 1]
أي: أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم القرآن وهي إضافة إلى ما سبق وأُنْزِل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث مَعَانٍ؛ فمرَّة تأتي الإضافة بمعنى «من» مثل قولنا «أردب قمح» والمقصود: أردب من القمح.
ومرة تأتي الإضافة بمعنى «في» مثل قولنا: «مذاكرة المنزل» والمقصود: مذاكرة في المنزل.(12/7152)
ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى «اللام» وهي تتخذ شَكْليْنِ.
إمَّا أن تكون تعبيراً عن ملكية، كقولنا «مالُ زيدٍ لزيد» .
والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا «لجام الفرس» أي: أن اللجام يخص الفرس؛ فليس معقولاً أن يملك الفرس لِجَاماً.
إذن: فقول الحق سبحانه هنا: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب ... } [الرعد: 1]
يعني تلك آياتٌ من القرآن؛ لأن كلمة «الكتاب» إذا أُطلِقتْ؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم.
والمثل هو القول «فلانٌ الرجل» أي: أنه رجل حقاً؛ وكأن سُلوكه هو مِعْيار الرجولة، وكأن خِصَال الرجولة في غيره ليست مُكْتملة كاكتمالها فيه، أو كقولك «فلان الشاعر» أي: أنه شاعر مُتميِّز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة «الكتاب» إذا أُطْلِقتْ ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أُطِلقت في النحو انصرفتْ إلى كتاب سيبويه الذي يضم قواعد النحو.
ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم: { ... والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئاً من وراء تلك المخالفة.(12/7153)
وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف: {وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]
ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى: { ... مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكَسْب منكم، لكنه شاء أن يُنزِل هذا الكتاب لتكسبوا أنتم: { ... ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]
أي: أن أكثر مَنْ دعوتَهُم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك من ربك؛ لأنهم لم يُحسِنوا تأمُّل ما جاء فيه؛ واستسلموا للهَوَى. وأرادوا السلطة الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا والآخرة.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{الله الذي رَفَعَ السماوات ... }(12/7154)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
وكلمة «الله» عَلَمٌ على واجب الوجود؛ مَطمورة فيه كُلُّ صفات الكمال؛ ولحظةَ أنْ تقول «الله» كأنك قُلْتَ «القادر» «الضار» «النافع» «السميع» «البصير» «المُعْطي» إلى آخر أسماء الله الحسنى.
ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كُلُّ عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر» .
لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سَخَّر لك كُلَّ الأشياء، ولم تُسخِّرْ أنت الأشياء بقدرتك.
ولذلك، فالمؤمن هو مَنْ يدخل على أيِّ عمل بحيثية «بسم الله الرحمن الرحيم» ؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلَّلَ للإنسان كل شيء، ولو لم يُذلِّلها لَمَا استجابتْ لك أيها الإنسان.
وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة؛ فنجد الطفل الصغير يُمسِك بحبل ويربطه في عنق الجمل، ويأمره بأن «ينخّ» ويركع على أربع؛ فيمتثل الجمل لذلك.
ونجد البرغوث الصغير؛ يجعل الإنسان ساهراً الليل كُلَّه عندما يتسلل إلى ملابسه؛ ويبذل هذا الإنسان الجَهْدَ الجَهِيد لِيُمسِك به؛ وقد يستطيع ذلك؛ وقد لا يستطيع.
وهكذا نعرف أن أحداً لم يُسخِّر أي شيء بإرادته أو مشيئته،(12/7155)
ولكن الحق سبحانه هو الذي يذلِّل كُلَّ الكائنات لخدمة الإنسان.
والحق سبحانه هو القائل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72]
وأنت حين تُقبِل على أيِّ عمل يحتاج إلى قدرة فتقول: «باسم القادر الذي أعطاني بعض القدرة» .
وإنْ أقبلتَ على عمل يحتاج مالاً؛ تقول: «باسم الغني الذي وَهَبنِي بعضاً من مال أقضي به حاجتي» .
وفي كل عمل من الأعمال التي تُقبِل عليها تحتاج إلى قدرة؛ وحكمة؛ وغِنىً، وبَسْط؛ وغير ذلك من صفات الحق التي يُسخِّر بها سبحانه لك كُلَّ شيء؛ فشاءتْ رحمتُه سبحانه أنْ سَهَّل لنا أن نفتتح أيَّ عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال «بسم الله الرحمن الرحيم» .
ولذلك يُسَمُّونه «عَلَمٌ على واجب الوجود» .
وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المُطْلق إلاَّ فيه؛ فصارتْ كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكِنَّا نقول عن إنسان ما «عزيزُ قومِه» ، ونقول «الغَنيّ» على إطلاقه هو الله، ولكِنْ نقول «فلان غنيّ» و «فلان فقير» .
وهكذا نرى أنها صفاتٌ أخذتْ مرتبة الأسماء؛ وهي إذا أُطِلقَتْ إنما تشير إليه سبحانه.(12/7156)
وعرفنا من قَبْل أن أسماء الله؛ إما أن تكون أسماءَ ذات؛ وإما أن تكون أسماءَ صفات؛ فإنْ كان الاسم لا مقابل له فهو اسمُ ذاتٍ؛ مثل: «العزيز» .
أما إنْ كان الاسم صفةَ الصفة والفعل، مثل «المُعِز» فلابُدَّ أن له مقابلاً، وهو هنا «المُذِلّ» .
ولو كان يقدر أنْ يُعِزَّ فقط؛ ولا يقدر أن يُذِلَّ لما صار إلهاً، ولو كان يضر فقط، ولا ينفع أحداً لَمَا استطاع أن يكون إلهاً، ولو كان يقدر أنْ يَبسُطَ، ولا يقدر أن يقبض لما استطاع أنْ يكون إلهاً.
وكل هذه صفات لها مُقَابِلها؛ ويظهر فعْلُها في الغير؛ فسبحانه على سبيل المثال عزيزٌ في ذاته؛ ومُعِزٌّ لغيره، ومُذِلٌّ لغيره.
وكلمة «الله» هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى علَّمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إنْ شاء الله حين نلقاه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]
ونلحظُ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العُلْوي أولاً؛ ولم يتحدث عن الأرض؛ فقال:(12/7157)
{الله الذي رَفَعَ السماوات ... } [الرعد: 2]
وكلمة «رفع» إذا استعملتَها استعمالاً بشرياً؛ تدلُّ أن شيئاً كان في وَضْع ثم رفعتَه عن موضعه إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ... } [يوسف: 100]
فقد كان أَبَوا يوسف في موضع أقلّ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كَانَا فيه، فهل كانت السماء موضوعة في موضع أقلّ؛ ثم رفعها الله؟ لا، بل خلقها الله مرفوعة.
ورَحِم الله شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال: «لو قلت: سبحان الله الذي كبَّر الفيل؛ فهل كان الفيل صغيراً ثم كبَّره الله؛ أم خلقه كبيراً؟ لقد خلقه الله كبيراً. وإنْ قلت: سبحان الله الذي صغَّر البعوضة؛ فهل كانت كبيرة ثم صَغَّرها الله؟ لا بل خلقها الله صغيرة» .
وحين يقول سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ ... } [الرعد: 2]
فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة، وفي العُرْف البشري نعرف أن مُقْتضى رَفْع أيِّ شيء أَنْ تُوجَد من تحته أعمدة ترفعه.
ولكن خلقَ الله يختلف؛ فنحن نرى السماء مرفوعة على امتداد الأفق؛ ويظهر لنا أن السماء تنطبق على الأرض؛ ولكنها لا تنطبق بالفعل.(12/7158)
ولم نجد إنساناً يسير في أيِّ اتجاه ويصطدم بأعمدة أو بعمود واحد يُظَنُّ أنه من أعمدة رَفْع السماء؛ وهي مَرْئية هكذا؛ فهل هناك أعمدة غير مَرْئية؛ أم لا توجد أعمدة أصلاً؟ .
وقد يكون وراء هذا الرَّفْع أمر آخر؛ فقد قلنا: إن الشيء إذا رُفع؛ فذلك بسبب وجود ما يُمسكه أو ما يَحْمله؛ وسبحانه يقول في أمر رفع السماء: { ... وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج: 65]
فإذا كانت مَمْسُوكة من أعلى؛ فهي لا تحتاج إلى عَمَد، وقوله الحق: (يمسك) يعني أنه سبحانه قد وضع لها قوانينها الخاصة التي لم نعرفها بَعْدُ.
وقد قام العلماء المعاصرون بمَسْح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصناعية وغيرها، ولم يجدوا عَمَداً ترفع السماوات أو تُمْسِكها.
والمهندسون يتبارَوْنَ في عصرنا لِيرفعوا الأسْقُفَ بغير عَمَدٍ؛ لكنهم حتى الآن؛ مازالوا يعتمدون على الحوائط الحاملة.
وهكذا نعلم أنه سبحانه إمَّا أنه حمل السماء على أعمدة أدقّ وألطفَ من أن تراها أعيننا؛ ولذلك نراها بغير أعمدة، أو أنها مرفوعة بلا أعمدة على الإطلاق.(12/7159)
و «عَمَد» اسم جمع لا جمع ومفردها «عمود» أو «عِمَاد» وقد جاءتْ هذه الآية بمثابة التفسير لِمَا أُجمِل في قول الحق سبحانه في سورة يوسف: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]
وجاء سبحانه هنا بالتفصيل؛ فأوضح لنا أنه: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... } [الرعد: 2]
أي: لا ترونها أنتم بِحُكْم قانون إبصاركم. ولا تعجب من أنْ يوجد مخلوق لا تراه؛ لأن العينَ وسيلة من وسائل الإدراك، ولها قانون خاص؛ فهي ترى أشياء ولا ترى أشياء أخرى.
هذا بدليل أنك إذا نظرتَ إلى إنسان طوله مِتْران يتحرك مُبْتعداً عنك؛ تجد يَصْغُر تدريجياً إلى أن يتلاشى من مجال رؤيتك؛ لكنه لا يتلاشى بالفعل.
وهذا معناه أن قانون إبصارك مَحْكوم بقانون؛ له مدىً مُحدّد.
وهناك قوانين أخرى مثل: قانون السمع؛ وقانون الجاذبية؛ وقانون الكهرباء؛ وكلها ظواهر نستفيد بآثارها، ولكِنّا لا نراها، فلا تعجب من أن يوجد شيء لا تدركه؛ لأن قُوَى إدراكك لها قوانين خاصة.
ويشاء الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق ذلك بأن يجعل ما يكتشفه العلماء في الكون من أشياء وقُوىً لم تكُنْ معروفة من قبل؛ ولكننا كنا نستفيد منها دون أن ندري؛ مما يدلُّ على أن إدراك(12/7160)
الإنسان غَيْرَ قادر على إدراك كل شيء.
وذلك يوضح لنا أن رؤيتنا للسماء مرفوعة بغير عَمَد نراها؛ قد يعني وجود أعمدة مصنوعة بطريقة غير معروفة لنا؛ أو هي مرفوعة بغير عَمَدٍ على الإطلاق.
وقول الحق سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... } [الرعد: 2]
هو كلام خبري، والمثل من حياتنا حين تقول لابنك: «أنا خارج إلى العمل؛ وذاكر أنت دروسك» ، وبذلك تكون قد أوضحت له: «ذاكر دروسك» وهذا كلام خبريّ؛ لكن المراد به إنشائيّ.
وإبراز الكلام الإنشائي في مَقَام الكلام الخبري له مَلْحظ، مثلما تقول: «فلان مات رَحِمَهُ اللَّهُ» وقولك «رَحِمَهُ اللَّهُ» كلام خبريّ؛ فأنت تخبر أن الله قد رحمه.
على الرغم من أنك لا تدري: هل رَحِمَهُ اللَّهُ أم لا؛ ولكنك قلت ذلك تفاؤلاً أن تكون الرحمةُ واقعة به، وكان من الممكن أن تقول: «مات فلان يا ربي ارحمه» ، وأنت بذلك تطلب له الرحمة.
كذلك قول الحق سبحانه: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.
. .} [الرعد: 2]
أي: دَقِّقوا وأمعِنُوا النظر إليها، وابحثوا فيما يعنيكم على ذلك إن استطعتم، وإذا لفتَكَ المتكلم إلى شيء لِيُحرِّك فيك حواسَّ إدراكك فمعنى ذلك أنه واثقٌ من صَنْعته.(12/7161)
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى، وسبحانه مُنزَّه عن أن يكون له مثل حين تدخل لتشتري صُوفاً؛ فيقدم لك البائع قماشاً؛ فتسأله: هل هذا صوف مائة في المائة؟ «فيقول لك البائع:» نعم إنه صوف مائة في المائة، وهاتِ كبريتاً لنشعل فتلة منه لترى بنفسك «.
ويوضِّح الحق سبحانه هنا: أن السماوات مرفوعة بغير عَمَدٍ، وانظروا أنتم؛ بمَدِّ البصر، ولن تجدوا أعمدة على هذا الامتداد، وضمان عدم وجود أعمدة مُتحقِّق لك ولغيرك على مدى أفُق أيٍّ منكم.
ولكُلِّ إنسان أُفُقه الخاص على حسب قدرة بصره، فهناك من تنطبق السماء على الأرض أمام عيونه؛ فنقول له: أنت تحتاج إلى نظارة طبية تعالج هذا الأمر.
فالآفاق تختلف من إنسان إلى آخر، وفي التعبير اليومي الشائع يقال:» فلان ضَيِّق الأفق لا يرى إلا ما تحت قدميْه «.
ولقائل أن يقول: إن هذا يحدث معي ومع مَنْ يعيشون الآن ولا أحد يرى أعمدة ترفع السماوات؛ فهل سيحدث ذلك مع من سيأتون مَنْ بعدنا؟
ونقول: لقد مسحتْ الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي كل مساحات الأرض؛ ولم يجد أحدٌ أية أعمدة ترفع السماء عن الأرض.
وهذا دليل صدق القضية التي قالها الحق سبحانه في هذه الآية:(12/7162)
{الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... } [الرعد: 2]
والسماوات جمع» سماء «وهي كل ما عَلاَك فأظلَّك، والحق سبحانه يقول: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء ... } [البقرة: 22]
ونعلم أن المطر إنما نزل من السُّحُب التي تعلو الإنسان، وتبدو مُعلَّقة في السماء، وإذا أُطِلقتْ السماء انصرفت إلى السماء العليا التي تُظلِّل كل ما تحتها.
وحين أراد الناس معرفة كُنْه السماء، وهل لها جِرْم أم ليس لها جِرْم؛ وهل هي امتداد أجواء وهواء؟ لم يتفق العلماء على إجابة.
وقد نَثَر الحقُّ سبحانه أدلة وجوده، وأدلة قدرته، وأدلة حكمته وأدلة صَنْعته في الكون؛ ثم أعطاك أيها الإنسان الأدلة في نفسك أيضاً؛ وهو القائل سبحانه: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ... } [الذاريات: 21]
وانظر إلى نفسك تجد العلماء وهم يكتشفون في كل يوم شيئاً جديداً وسِرّاً عجيباً، سواء في التشريح أو علم وظائف الأعضاء.
وسوف تعجب من أمر نفسك، وأنت ترى تلك الاكتشافات التي كانت العقول السابقة تعجز عن إدراكها، وقد يُدرَك بعضها الآن، ويُدرَك بعضها لاحقاً.(12/7163)
وإدراكُ البعض للمجهول في الماضي يُؤذِن بأنك سوف تدرك في المستقبل أشياء جديدة.
وإن نظرت خارج نفسك ستجد قول الحق سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ... } [فصلت: 53] ومعنى {سَنُرِيهِمْ ... } [فصلت: 53] أن الرؤية لا تنتهي؛ لأن» السين «تعني الاستقبال، ومَنْ نزل فيهم القرآن قرءوها هكذا، ونحن نقرؤها هكذا، وستظل هناك آيات جديدة وعطاء جديد من الله سبحانه إلى أن تقوم الساعة.
وسبحانه القائل: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]
وأنت حين تفكر في خَلْق السماوات والأرض ستجده مسألة غايةً في الضخامة؛ ويكفيك أن تتحيّر في مسألة خَلْقك وتكوينك؛ وأنت مجرد فرد محدود بحيّز، ولك عمر محدود ببداية ونهاية، فما بَِالُك بخَلْق السماوات والأرض التي وُجِدَت من قَبْلك، وستستمر من بعدك إلى أن تنشقَّ بأمر الله، وتتكسر لحظتها النجوم.
ولابُدَّ أن خَلْق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس،(12/7164)
فالسماوات والأرض تشمل الكون كله.
وحين تُحدَّث عنها إياك أن تخلط فيها بوهمك؛ أو بتخمينك؛ لأن هذه مسألة لا تُدرك في المعامل، ولا تستطيع أن تُجرِي تحليلات لمعرفة كيفية خَلْق السماوات والأرض.
ولذلك عليك أنْ تكتفي بمعرفة ما يطلبه منك مَنْ خلقها؛ وماذا قال عنها، وتذكر قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } [الإسراء: 36]
وقد حجز الحق سبحانه عن العقول المتطفلة أمرين؛ فلا داعي أن تُرهِق نفسك فيهما:
الأمر الأول: هو كيفية خَلْق الإنسان؛ وهل كان قرداً في البداية ثم تطوَّر؟ تلك مسألة لا تخصُّك، فلا تتدخل فيها بافتراضات تؤدي بك إلى الضلال.
والأمر الثاني: هو مسألة خَلْق السماوات والأرض فتقول: إن الأرض كانت جزءاً من الشمس، ومثل هذا الكلام لا يستند إلى وقائع.
وتذكر قول الحق سبحانه: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ... } [الكهف: 51](12/7165)
ولو كان الحق سبحانه قد أراد أن تعلم شيئاً عن تفاصيل هذين الأمرين لأشهد خلقهما لبعض من البشر، لكنه سبحانه نفى هذا الإشهاد؛ لذلك ستظل هذه المسألة لُغْزاً للأبد؛ ولن تَحُلًّ أنت هذا اللُّغْز أبداً؛ بل يحلُّه لك البلاغ عن الحقِّ الذي خلق.
وقد أوضح لك أنه قد خلقك من طين، ونفخَ فيك من روحه، فاسمع منه كيفية خَلْقك وخَلْق الكون كله.
ويدل الإعجاز البياني في القرآن على أن بعضاً مِمَّنْ يملكون الطموح العقلي أرادوا أن يأخذوا من القرآن أدلة على صِحَّة تلك النظريات التي افترضها بعض من العلماء عن خَلْق الإنسان وخَلْق الأرض، فيبلغنا الحق سبحانه مقدَّماً ألاّ نصدقهم.
ويقول لنا: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} [الكهف: 51]
والمُضِلّ هو مَنْ يُضِلُّك في المعلومات، هكذا أثبت لنا الحق سبحانه أن هناك مُضلِّين سيأتون ليقولوا كلاماً افتراضياً لا أساسَ له من الصِّحة.
وأوضح لنا سبحانه أن أحداً لم يتلصَّصْ عليه، ليعرف كيفية خَلْق الشمس أو الأرض، ومَنْ يدعي معرفة ذلك فهو من المُضلِّين؛ لأنهم قَفَوْا ما ليس لهم به علم.(12/7166)
ومادام الحق سبحانه قد قال ذلك، فنحن نُصدِّق ما قال.
وقد أثبتت التحليلات صِدْق ما قاله سبحانه عن خَلْق الإنسان، فسبحانه قد خلق الكون أولاً، ثم خلق السيد لهذا الكون وهو الإنسان، وكل الكون مُسخَّر للإنسان ويخدم هذا الخليفة في الأرض، وكل ما في الكون يسير بنظام وانتظام.
والمُتمرد الوحيد في الكون هو الإنسان، فيأتي الحقُّ سبحانه إلى هذا المتمرِّد؛ ليجعل الآية فيه؛ وليثبت صِدْق الغيب في الأرض.
وأوضح سبحانه أنه خلق آدم من الطين؛ والإنسان من نسل آدم الذي سَوَّاه الله، ونفخ فيه من روحه، وبعد ذلك أمر الملائكة؛ من المُدبِّرات أمراً ومن الحَفَظة؛ أنْ تسجدَ للإنسان.
وهذا السجود هو إعلان الطاعة لأمر الله بخدمة الإنسان. هذا الذي بدأت حكاية خَلْقه من تراب، ثم خُلط التراب بالماء؛ ليصير طيناً؛ ثم تُرِكَ قليلاً ليصير حَمَأً مَسْنوناً؛ ثم يجفّ الحَمأ ليصير صَلْصالاً كالفخَّار؛ ثم ينفخ فيه الحق بالروح.
فإذا ما انتهى الأجل؛ فأول ما يُنقض هو خروج الروح؛ ثم يتصلَّب الجثمان، وبعد أن يُوارَى التراب يصير الجثمان رِمّة؛ ثم(12/7167)
يتسرَّب الماء الموجود في الجثة إلى الأرض، وتبقى العظام إلى أن تتحول هي الأخرى إلى تراب.
وهكذا يتحقق نَقْضُ كل بناء؛ فما يُبني في نهاية أيِّ بناء هو ما يُنقض أولاً، وهكذا يتأكد لنا صدق الحق سبحانه حين نرى صدق المقابل فيما أخبرنا به سبحانه عن كيفية الخلق.
وعندما يُخبِرنا الحق سبحانه أن كيفية خَلْق السماوات والأرض ليست في مُتَناولنا؛ فقد أعطانا من قبل الدليل على صِدْق ما جاء به، فيما أخبرنا به عن أنفسنا.
وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ ... } [الرعد: 2]
وكلمة «السماوات» في اللغة جمع، وفي آية أخرى، يقول سبحانه: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ... } [فصلت: 12]
وقديماً كانوا يقولون: إن المقصود بالسبع سماوات هو الكواكب السبعة: الشمس، والقمر، وعطارد، والزهرة، والمريخ، والمشترى.(12/7168)
وشاء سبحانه أن يُكذِّب هذا القول وأصحابُه أحياء؛ فرأى علماء الفلك كواكبَ أخرى مثل: نبتون وبلوتو؛ وكان في ذلك لَفْتة سماوية لِمَنْ قالوا: إن المقصود بالسماوات السبع هو الكواكب السبعة.
وقد قالوا هذا القول بحُسْن نية وبرغبة في رَبْط القرآن بالعلم؛ لكنهم نَسُوا أن يُدقِّقوا الفهم لِمَا في كتاب الله، فسبحانه قد أوضح أن الشمس والقمر والكواكب زينة السماء الدنيا، فما بالُنَا بطبيعة وزينة بقية السماوات؟
ويتابع سبحانه: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش ... } [الرعد: 2]
وهذه قضية هي أهمُّ قضية كلامية ناقشها علماء الكلام؛ قضية الاستواء والعرش، وحتى نفهم أيَّ قضية لابُدَّ أن نُحلِّل ألفاظها لنتفقَ على معانيها، ثم نبحثها جملة واحدة، لكن أن نجلس لنتجادل ونحن غير مُتوارِدين ومتفقين على فَهْم واحد؛ فهذا أمرٌ لا يليق.
ولننظر الآن معنى «الاستواء» ومعنى «العرش» ، ونحن حين نستقرئ كلمة «استوى» في القرآن نجدها قد وردتْ في آيات متعددة.
وجاءت مرّة واحدة بمعنى الاستواء أي: النضج، في قول الحق سبحانه:(12/7169)
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ... } [القصص: 14]
أي: أنه قد بلغ نُضْجه الكماليّ، ويستطيع أن يكون رجلاً صالحاً لممارسة ما يُبقِي نوعه، وإنْ تزوج فسلوف يُنجِب مثله؛ وهذا استواء لمخلوق هو الإنسان.
ومرة أخرى يقول القرآن: {ذُو مِرَّةٍ فاستوى وَهُوَ بالأفق الأعلى} [النجم: 6 - 7]
والمعنى هنا هو: صعد؛ والمقصود هو صعود محمد وجبريل عليهما السلام إلى الأفق الأعلى.
وهناك قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ... } [البقرة: 29]
أي: أنه سبحانه قد استوى إلى السماء؛ وإياك أن تظن أن استواءه سبحانه إلى السماء مساو لاستواء البشر؛ لأننا قلنا من قبل: إن كل شيء بالنسبة لله إنما نأخذه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11](12/7170)
وبذلك يكون استواؤه سبحانه إلى السماء هو استواء يليق بذاته، والاستواء المطلق شيء مختلف عن الاستواء على العرش.
وهكذا نجد استواءً لغير الله من إنسان؛ وهناك استواء لغير الله من إنسان ومن ملك؛ وهناك استواء من الله إلى غير العرش. وبجانب ذلك هناك استواء على العرش.
وقد وردَ الاستواء على العرش في سبعة مواقع بالقرآن؛ في: سورة الأعراف؛ وسورة يوسف؛ والرعد، وطه، والفرقان، والسجدة، والحديد.
وورد ذكر العرش في القرآن بالنسبة لله واحداً وعشرين مرَّة، وورد بالنسبة لبلقيس أربع مرات؛ فهو القائل سبحانه: { ... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]
وقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا ... } [النمل: 38]
ثم قال: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا ... } [النمل: 41]
وقال: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ ... } [النمل: 41]
وبالنسبة ليوسف قال سبحانه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ... } [يوسف: 100]
وإيَّاك أن تأخذ الاستواء بالنسبة لله على أن معناه «النُّضْج» ؛(12/7171)
لأن النُّضْجَ إشعارٌ بكمالٍ سَبقه نَقْصٌ.
ولذلك نجد العلماء المُدقِّقين قد عَلِمُوا أن ذِكْر استواء الله على العرش قد ورد في سبعة مواضع بالقرآن الكريم وقالوا:
وَذِكْرُ اسْتواءِ اللهِ فِي كَلِمَاتِه عَلى ... العَرْشِ في سَبْعِ مَوَاضِع فَاعْدُدِ
فَفِي سُورَةِ الأعْرَافِ ثُمَّةَ يُونُسَ ... وَفِي الرَّعْدِ مع طَه فَلِلْعَدِّ أَكِّدِ
وَفِي سُورَةِ الفُْرقَانِ ثُمَّة سَجْدة ... كَذَا في الحدِيدِ افْهمْهُ فَهْم مُؤيَّدِ
وقالوا في المعنى:
فَلَهُمْ مَقالاتٌ عَليْهَا أَرْبعة ... قََدْ حُصِّلَتْ لِلْفارسِ الطَّعَّانِ
وَهي اسْتقرَّ وقَدْ عَلاَ ... وَكذلِكَ ارتَفَع مَا فِيهِ مِنْ نُكْرانِ
وَكَذاكَ قَدْ صَعَد الذِي هُوَ رَابِعٌ ... بِتمَامِ أمْرٍ مِنْ حِمَى الرَّحمَانِ
والصعود إلى العرش هو حركة انتقال من وضع إلى وضع لم يَكُنْ فيه.
وهكذا نجد أن المعاني التي تتمشَّى مع الاستواء في عُرْفنا البشري لا تتناسب مع كمال الله.
واختلف العلماء: قال واحد منهم: «سآخذ اللفظ كما قاله الله» .
ونردُّ على هذا بسؤال: وهل يمكنك أن تُغَيِّبَ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11]
طبعاً، لا أحدَ يستطيع ذلك، وعليك أن تأخذ كل فَهْمٍ لشيء يخصُّ الذات العَلية في إطار:(12/7172)
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11]
ولذلك نجد أهل الدِّقة يقولون: «الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول، والسؤال عنه الكيفية بدعة؛ لأن المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يسألوا عن تلك الكيفية، رغم أنهم سألوا عن كثير من الأمور.
وهناك آيات متعددة تبدأ بقول الحق سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ ... } [البقرة: 189]
وكان السؤال وارداً بالنسبة لهم؛ لكنهم بملكتهم العربية الفطرية قد فَهِموا الاستواء كشيء يناسب الله، فلم يسألوا عنه.
وجاء السؤال من المتأخرين الذين تمحَّكوا، فقال واحد: سآخذ الألفاظ بمعناها؛ فإن قال: إن له صعوداً؛ فهو يصعد، وإنْ قال: إن له استواء فهو يستوي.
ولِمَنْ قال ذلك نردُّ عليه: إن ما تقوله صالحٌ للأغيار، ولا يليق أن تقول ذلك عن الذي يُغيِّر ولا يتغيَّر. وإذا سألتَ عن معنى كلمة» استواء «فهو» استتب له الأمر «. وهل كان الأمر غير مستتب له سبحانه؟(12/7173)
ونقول: نحن نعلم أن لله سبحانه وتعالى صفات متعددة، وهذه الصفات كانت موجودة قبل أن يخلق الله الخَلْق والكون؛ فسبحانه موصوفٌ أنه خالق قبل أنْ يخلق الخَلْق، ومُعِزٌّ قبل أن يخلق مَنْ يُعزّه، ومُذِلّ قبل أنْ يخلق مَنْ يُذِلّه، وله سبحانه صفاتُ الكمال المُطْلق.
وبهذه الصفات خلق الخلق، يقول الحق: { ... رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50]
وكذا نؤمن بأن صفة الخَلْق كانت في ذاته قبل أن يخلق خَلْقه، وحين خلق سبحانه السماوات والأرض أبرز الصفة التي كانت موجودة فيه وليس لها مُتعلِّق؛ فأوجد هو سبحانه المُتعلِّق، وهكذا استتبَّ له الأمر سبحانه.
إذن: إذا ذُكِر استواءُ الله، فهذا يعني تمامَ المُرَاد له، فصار للصفات التي كانت فيه، وليس لها مُتعلِّق أو مَقْدُور؛ مُتعلِّق ومَقْدور.
وإذا وُجِدَتْ هذه الصفة في البشر مثل بلقيس التي وصفها سبحانه: { ... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]
فهي تختلف عن صِفَة الله؛ لأنها لم تجلس على العرش إلا بعد أن خلقها الله، ولا يستتب الأمر لملك أو ملكة إلا بمتاعب ومعارك، وقد ينشغل هذا الشخص في معارك وحروب، ثم يستتبّ له الأمر.
وهكذا يختلف استواءُ الله عن استواءِ خَلْق الله، وإذا ذُكر استواء(12/7174)
الله على العرش؛ فنحن نُنزِّه الله عن كل استواء يناسب البشر، ونقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11]
واستواؤه هو تمام الأمر له، لأن أمره صادر، وعند تحقيق أمره في توقيته المراد له يكون تمام الأمر، وتمام الأمر استواؤه، أما كلمة» العرش «فنحن نجدها في القرآن بالنسبة لله.
إما مُضَافاً لاسم ظاهر: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ ... } [الحاقة: 17]
وإما مُضَافاً للضمير المخاطب أو الغائب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء ... } [هود: 7]
وإما مضافاً للتنسيب: { ... فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 7]
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر.
. .} [الرعد: 2]
والتسخير هو طلب المُسخِّر أن يكون كما أراده تسخيراً، بحيث لا تكون له رغبة، ولا رَأْي، ولا هَوَى، والتسخير ضِدُّه الاختيار.
والكائن المُسخَّر لا اختيارَ له، أما الكائن الذي له اختيار فهو إنْ شاء فعل، وإنْ شاء لم يفعل.(12/7175)
وقُلْنا قديماً: إن الحق سبحانه قد خَيَّرَ الإنسان: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]
وبذلك قَبِل الإنسان أداء الأمانة وَقْتَ أدائها؛ لا وَقْتَ تحمُّلها، ووقت الأداء غير وقت التحمُّل، وضربتُ المَثَل بمَنْ يقول لصديقه «عندي ألف جنيه؛ وأخاف أنْ يضيعوا مِنِّي؛ فاحفظهم لي معك؛ وحين أحتاجهم اعْطِهمْ لي» .
ويقول الصديق: «هَاتِ النقود وسأُعطِيها لك وقت أنْ تطلبها» .
والصديق صادقٌ وقت تحمُّل الأمانة؛ لكن ظروفاً تمرُّ عليه، فيتصرَّف في هذه الأمانة؛ وحين يطلبها صاحبها؛ قد يعجز حامل الأمانة عن رَدِّها، وهو بذلك ضَمِنَ نفسه وقت التحمُّل؛ لكنه لم يضمن نفسه وقت الأداء.
وكان من الواجب عليه أن يقول لصديقه لحظةَ أنْ طلب منه ذلك: «أرجوك، ابتعد عنِّي لأنِّي لا أضمن نفسي وَقْت الأداء» .
وقد أَبَتِ السماء والأرض والجبال تحمُّل الأمانة وَقْت عَرْضِها؛ وقَبِلتْ كل منهم التسخير؛ فلا الجبال ولا السماوات ولا الأرض لها قدرة الاختيار، ولا هَوى لأيٍّ منها في هذه القدرة؛ مثلها في ذلك مثل كل أجناس الكون ما عدا الإنسان؛ ولم نجد فساداً في الأرض(12/7176)
قد نشأ من ناحية المُسخَّرات.
أما الإنسان فقد قَبِل تحمُّل الأمانة؛ لأن له عقلاً يُفكِّر ويختار؛ ومن الاختيار ونتيجة للهوى جاء الفساد في الكون، ولو أقبل الإنسان على العمل وكأنه مُسخَّر خاضع لمنهج الله؛ لاستقام عمل الإنسان مِثْلما يستقيم عَمَلُ كل الكائنات المُسخَّرة بأمر الله.
فإن أردتم أن تستقيمَ أموركم فيما لكم فيه اختيار، فطبِّقوا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 8 - 9]
وانظروا ماذا يطلب الحق منكم في منهجه، فإنْ نفَّذتم المنهج تَسْتقِمْ أموركم، كما استقامتْ الكائنات المُسخَّرة.
ولا يأتي الخَلَل إلا من أننا نحن البشر نقوم ببعض الأعمال باختيارنا، وتكون مخالفة لمنهج المُشرِّع، أما إذا كنا نؤدي أعمالنا ونضع نُصْب أعيننا قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان} [الرحمن: 8]
فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج الله، وسنجد في أعمالنا ما يَسرُّنا مثل سرورنا حين نجد الأفلاك منتظمة بدقة وحساب.
إذن: فالفساد لا يأتي إلا من الاختيار غير المُرْتجي لمنهج مَنْ(12/7177)
خلق فينا الاختيار، وإن كنت تريد أن تكون مختاراً؛ فعليك أن تلتزم بمنهج مَنْ خيَّرك.
ولذلك نجد الصالحين من خَلْق الله قد ساروا على منهج ربهم؛ والتزموا باختيار مراد ربهم فيما لهم فيه اختيار؛ فصاروا وكأنهم مُسخَّرون لمُرَادات الله.
وهؤلاء يسمُّونهم «العباد» لا «العبيد» ؛ فكل مملوك لله من العبيد؛ آمن به أو كفر؛ أطاع أو عصى؛ أما العباد فَهُمْ مَنْ جعلوا مرادات الله هي اختيارهم، يقول تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63]
هؤلاء هم مَنِ اتجهوا بالاختيار إلى ما يختاره لهم الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في الملائكة: {عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]
وإذا ما التزم العبد بمنهج ربه في حال الاختيار؛ فهو لا يتساوى مع الملائكة فقط، بل قد يسمو عنهم؛ لأنهم مَقْهورون بالتسخير؛ بينما تتمتع أنت بالاختيار؛ وآثرْتَ منهج ربك.
ويقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:(12/7178)
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [لقمان: 29]
ولحظةََ تجد التنوين مثل «كلٌّ» فهذه يعني كُلاّ من السابق. أي: الشمس والقمر. أما الجَرْي إلى أَجَلٍ مُسمّى؛ فيقتضي مِنَّا أن نفهم معنى الجَرْي؛ وهو تقليل الزمن عن المسافة.
فحين تريد الوصول إلى مكان مُعيَّن فقد تمشي الهُوَيْنا؛ لِتَصِلَ في ساعة زمن، وقد تجري لتقطع نفس المسافة في نصف ساعة؛ والجَرْي بطبيعة الحال ملحوظ مِمَّن يراك.
لكن: هل يرى أحدنا الشمس وهي تجري؟
لا، لأنها تجري في ذاتها؛ ويُسمَّى هذا النوع من الجري «جري انسيابي» . أي: لا تدركه بالعين المجردة، وهناك ما يُسمّى «انتقال قفزي» ، وهناك ما يُسمّى «انتقال انسيابي» .
وانظر إلى عقارب الساعة؛ ستجد عقربَ الثَّواني أسرعَ من عقرب الدقائق الذي يبدو ساكناً رغم أنه يتحرك؛ وأنت ترى حركة عقرب الثواني؛ لأنها تتم قَفْزاً؛ بينما لا ترى حركة عقرب الدقائق؛ لأنه يتحرك تِبَعاً لدورة هادئة من التروس داخل الساعة؛ وكل جزئية في حركة التُّرْس الخاص بعقرب الدقائق تتأثر بحركة تُرْس عقرب الثَّواني؛ والحركة القفزية لعقرب الثواني تتحول إلى حركة انسيابية في عقرب الدقائق.(12/7179)
وحركة كل من العقربين تتحول إلى حركة أكثر انسيابية في عقرب الساعات، وهذا يعني أن كل جزئية من الزمن فيها جزئية من الحركة.
وحتى في النمو بالنسبة للإنسان أو الحيوان أو النبات، تجد عملية النمو غير ظاهرة لك؛ لأن الكائن الذي ينمو إنما ينمو بقدر بسيط غير ملحوظ، وهذا القدر البسيط شائع في اليوم كله.
وإن أردتَ أن تعرف هذه المسألة أكثر، انظر إلى الظل، وأنت ترى الظل واضحاً ساعةََ سطوع الشمس، ثم ينحسر الظل بانحسار الشمس.
واقرأ قول الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} [الفرقان: 45]
أي: أن الظل متحرك وغير ثابت، وكل جزئية من الزمن تؤثر في حركة الشمس، فيتأثر بها الظل.
وهكذا يجب أن نُفرِّق بين الحركة القفزية والحركة الانسيابية، وحين تقدمنا في العلم نجدهم يقولون: سنزيد من الحركة الانسيابية عن الحركات القفزية «.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [الرعد: 2] والأجل هو المدة المحدودة للشيء؛ وهي محدودة زمناً إنْ أردنا ظرف الزمان؛ أو محدودة بالمسافة إن أردنا المكان.(12/7180)
والمقصود هنا بالأجل؛ إما الأجل النهائي لوجود الشمس والقمر؛ ثم إذا انشقتْ السماء كُوِّرتْ الشمس، وانكدرت النجوم.
أو: أن المقصود هنا بالأجل هو للتعبير عن عملها اليومي.
وقد عرفنا أن هناك مطالع متعددة للشمس، وعلى الرغم من أن المشرق له جهة عامة واحدة؛ لكن المطالع مختلفة، بدليل أن قدماء المصريين أقاموا في بعض المعابد طاقاتٍ وفتحاتٍ في البناء.
فتطلع الشمس كُلَّ يوم من أحد هذه الطاقات؛ فكل يوم توجد لها منزلة مختلفة عن اليوم السابق، وتظل تقطعها، ثم تعود مرة أخرى، وتفعل ذلك إلى أجل مُسمّى أي يومياً.
ونُسمِّي نحن تلك المنازل» البروج «كبرج الحَمَل؛ والجَدي؛ والثور؛ والأسد؛ والسنبلة؛ والقوس؛ والحوت؛ ونحن نرصد هذه الأبراج كوسيلة لمعرفة أحوال الطقس من حرارة، وبرودة، ومطر، وغير ذلك، ذلك أن كُلَّ برج له زمن، ويمكن تعريف أحوال الجو خلال هذا الزمن بدقة.
ولكن بعضاً من تصرفات الإنسان تفسد عملية التحديد الدقيق في الكون، مثلما يشعل البعض الحرائق في الغابات؛ فتحرق النار(12/7181)
الأكسوجين الذي يحتاجه البشر والحيوانات للتنفس، ويحاول الغلاف الجوي أن يتوازن، فيشُدّ كميات من الهواء من منطقة أخرى، فيختلّ ميزان الطقس لأيام.
وكذلك يفسد الجو من التجارب الذرية التي تُجريها الدول أعضاء النادي الذري؛ تلك التجارب التي تقوم بتفريغ الهواء، فتجعل الطقس غَيْرَ مُسْتقر وغير منضبط؛ وهذا ما يفسد استخدامنا للأبراج كوسيلة لمعرفة تقلُّبات الطقس.
وقد أوجز الشاعر تلك الأبراج في قوله:
حَملَ الثورُ جَوْزةَ السَّرطَانِ ... ورعى الليث سنبل الميزان
عَقْرب القَوْس جَدْي دَلْو وحُوت ... مَا عَرفْنَا مِنْ أُمةِ السُّرْيَانِ
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { ... يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]
وسبحانه قد أوضح من أول الآية مسألة رَفْع السماوات بغير عَمَدٍ، واستوائه على العرش، وتسخير الشمس والقمر، وكيف يجري كُلُّ شيء لأجل مُسمّى.
وكُلُّ ذلك يتطلب تدبيراً للأمر بعد أن أبرز القدرة؛ ثم يصون ذلك كله، فكما قَدَّر فخلق، فهو يُدبِّر بقيوميته، فهو القائم على كل شيء، وسبحانه كل يوم هو في شَأْن.(12/7182)
وأقول هذا المثل لأوضح لا لأُشبِّه فسبحانه مُنَزَّه عن التشبيه ونحن نقول: فلان فكَّر أولاً ثم دبَّر، والتفكير هو العملية التي تبحث فيها عن الشيء لإخراج المطلوب منه؛ كأن تأتي بقليل من حبوب القمح لتفركه بيدك لتخرج القمحة من قشرته.
هذا هو التفكير الذي يطلب منك أن تبحث وتُنقِّب إلى أن تصل إلى لُبِّ الأشياء.
والتدبُّر يقتضي ألاَّ تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللحظة، ولكن أن تُمحِّص الأمر لترى ماذا سينتج عن تنفيذ ما وصل إليه فكرك؟
فربما ما فكرتَ فيه يُسعِفك ويُعينك في لحظتِكَ الحالية؛ لكنه سيأتي لك بعَطَبٍ بعد قليل.
والمَثَلُ الذي أضربه على مثل هذه الحالة دائماً هو اختراع المُبيدات الحشرية؛ ولم يَفْطِنوا إلى أن هذه المبيدات لا تقتل الحشرات الضارة وحدها، بل تُسمِّم الطيور التي كانت تفيد الفلاح.
ووصل الأمر إلى حَدِّ تحريم استخدام هذه المبيدات؛ وجاء هذا التحريم ممن تفاخروا من قَبْل على كل شعوب الأرض باختراعهم لتلك المبيدات، فقد فَطِنوا إلى أنَّ ما جاءهم من خَير عن طريق تلك المبيدات هو أقلُّ بكثير من الضُّرِّ الذي وقع بسببها.
وهذا يعني أنهم لم يتدبروا اختراعهم لتلك المبيدات؛ فقاموا بتصنيعها لفائدة عاجلة، دون أن يتلفتوا إلى الخطورة الآجلة، وكان لابُدَّ لهم أن يتدبروا الأمر، لأن التدبُّر معناه النظر في دُبُر الأشياء.(12/7183)
والحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24]
أي: لا تنظر إلى واجهة الآية فقط، بل انظر في أعماقها، ولذلك يقول لنا سيدنا عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ثَوِّروا القرآن» .
أي: استخرجوا منه الكنوز بالتدبُّر؛ لأن التدبر يحمي من حماقة التفكير، والمثل البسيط المتكرر في بيوتنا هو أننا نغسل أفواهنا بعد تناول الطعام ونتمضمض مِمَّا بَقِي في الفم من بقايا.
ونجد من بين هذه البقايا بعضاً من «الفتافيت الصلبة بعض الشيء» ، ثم نغسل حوض المياه بتيار متدفق من ماء الصنبور، ونُفَاجأ بعد فترة من الزمن بانسداد ماسورة الصرف الخاصة بالحوض؛ وحين يفتح السباك ماسورة الصرف هذه يجدها مليئة برواسب من بقايا الأطعمة.
وأنت حين تمضمضتَ لم تلتفت إلا لنظافة الفَمِ من البقايا، ولم تتدبر أمر تلك البقايا، ولو أنك تدبرتَ ذلك لَقُمْتَ بتركيب ماسورة صرف للحوض أكبر من الماسورة التقليدية الضيقة؛ ولَجعلْتَ صندوق الطرد الخاص بالحوض أكبر من الحجم المعتاد والمُجهَّز لصرف المياه فقط.(12/7184)
وهكذا نرى أن الفكر يحثُّك على أن تبحث عن مطلوب لك؛ ولكن عليك أن تنظر وتُدقِّق: هل يحقق لك ما يقترحه عليك فكرك؛ ما يفيدك أم ما يضرك؟
هذا هو التدبُّر، وهو ما نُسمِّيه صيانة الأشياء.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: { ... يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]
وتفصيل الآيات يعني أنه جعل لكل أمر حُكْماً مناسباً له. ودائماً أقول لمن يسألني عن فتوى؛ ويُلِحّ أن تتوافق الفتوى مع مراده: «نحن لا نُفصِّل الفتوى من أجل هواك؛ لأن ما عندي هي فتاوى جاهزة؛ وعليك أن تضبط مقاسك أنت على الفتوى، لا أن نُفصِّل لك الفتوى على هواك» .
أقول ذلك؛ لأن المسألة ليست حياة تنتهي إلى العَدَم، ولكن هناك حياة أخرى تُحاسب فيها على كل تصرُّف، فالحق سبحانه هو القائل: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23]
وهو القائل سبحانه أيضاً جَلَّ وعلا:(12/7185)
{كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ... } [إبراهيم: 18]
ولذلك فعليك أن تُقبِل على كل عمل وأنت مُوقِن بأن هذا العمل لا ينتهي بتركك للحياة الدنيا، ولكن لكل عمل آثاره في حياة باقية، وإذا كانت الدنيا تحمل لك راحة موقوتة أو تعباً موقوتاً، فالراحة في الآخرة باقية أبداً؛ والتعب فيها غير مَوْقوت.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ... }(12/7186)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
ويتابع الحق سبحانه سَرْد آياته الكونية في هذه الآية: {مَدَّ الأرض ... } [الرعد: 3]
يعني أنها موجودة أمامك ومُمْتدة، وبعض الناس يفهمون المَدَّ بمعنى البسط، ونقول: إن البَسْطَ تابع للمَدِّ.(12/7186)
ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا: ومن قال إن الأرض كُرَويّة؟
إن الحق سبحانه قال: إنها مبسوطة، وهو سبحانه الذي قال: إنه قد مَدَّ الأرض.
وقلتُ لهؤلاء العلماء: فَلْنفهم كلمة المَدِّ أولاً، وَلنْفهَمْ أيضاً كلمة «الأرض» وهي التي تقف عليها أنت وغيرك، وتعيش عليها الكائنات، وتمتد شمالاً إلى القُطْب الشمالي، وجنوباً إلى القُطْب الجنوبي، أيّاً ما كُنْت في أيِّ موقع فهي مَمْدودة شرقاً وغرباً.
ومعنى: {مَدَّ الأرض ... } [الرعد: 3]
تعني أنك إنْ وقفتَ في مكان وتقدمتَ منه؛ تجد الأرض ممدودة أمامك؛ ولا توجد حَافّة تنتهي لها، ولو أنها كانت مبسوطة لَكانَ لها نهاية، ولكانت على شكل مُثلّث أو مُربع أو مستطيل؛ ولكانَ لها حافة؛ ولوجدنا مَنْ يسير إلى تلك الحافة، هو يقول: «لقد وصلتُ لحافة الأرض؛ وأمامي الفراغ» ولم يحدث أنْ قال ذلك واحد من البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الاستواء مثلاً؛ فسيظل ماشياً على اليابسة أو راكباً لمركب تقطع به البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سَيْره.
وهكذا نجد الأرض ممدودة غير محدودة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، بحيث إذا مشيت مُتتبِّعاً أيَّ خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لانتهتْ إلى النقطة التي بدأت منها سَيْركَ.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الأرض؛ قبل أن يخترعوا فكرة التصوير من خارج الغلاف الجوي.(12/7187)
ونأخذ من قول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض ... } [الرعد: 3]
معنى آخر هو ضرورة أن ينظر الإنسانُ في هذا الامتداد؛ ومَنْ تضيق به الحياة في مكان يُمكنه أن يرحلَ إلى مكان آخر، فأرضُ الله واسعة، والحق سبحانه هو القائل: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا ... } [النساء: 97]
ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الاضطرابات، وذلك واحد من نتائج تعوق مَدِّ الأرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه؛ يجد الحراسات والعوائق عند حدود البلاد المجاورة، وتناسَى الجميع قَوْل الحق سبحانه: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]
فسبحانه قد سَخَّر الأرض وأخضعها للأنام كل الأنام، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ القرآني؛ سيظل العالم في صراع؛ وستظلُّ بعض من البلاد في حاجة للبشر وبعض من البلاد في ضِيق من الرزق؛ لزيادة السكان عن إمكانات الأرض التي يعيشون عليها.
وستظل هناك أرض بلا رجال؛ ورجال بلا أرض، نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلاد.(12/7188)
وحتى تُحل هذه القضية كما قلنا في الأمم المتحدة لابد من تطبيق المبدأ القرآني:
{والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]
ومَنْ تضيق به الأرض التي نشأ فيها فليسمح له بالهجرة.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً ... } [الرعد: 3]
والرواسي هي جمع «رَاسٍ» وهو الشيء الثابت.
وسبحانه يقول: {والجبال أَرْسَاهَا} [النازعات: 32]
وهكذا جاء الحق بالحكم الذي شاء أن تكون عليه الجبال، وفي آية أخرى يأتينا الله بعلة كونها رواسي؛ فيقول: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ... } [الأنبياء: 31]
أي: لا تضطرب بكم الأرض، ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات؛ لما احتجْنَا إلى الجبال الرواسي كي تُثبِّتها، ولكن الأرض مخلوقة متحركة، وهي عُرْضة للاضطراب، ولولا الجبال الرواسي لَمَادتْ الأرض.
ولسائل أن يقول: ولكننا نقطع الآن الجبال، ونأخذ الجرانيت من جبل لِنُزيِّن به أرضية بعض المناطق؛ ونقطع الرخام من جبل آخر لنصنع منه حماماتٍ وأحواضاً ودرجات السلالم، ونقتطع بعض أحجار أنواع معينة من الجبال؛ لنستخلص اليورانيوم منها؟(12/7189)
ونقول: انظر إلى حكمة الحق تبارك وتعالى حين خلق؛ وحكمته حين دَبَّر، فهذه الأرض لها محيط؛ ولها مركز؛ ولها أقطار، وكلما اقتربتْ من مركز الأرض فالقطر يَقِلّ.
ومثال هذا هو البطيخة؛ فأنت إن استخلصتَ القشرة الخارجية لها يكون لديْكَ كرة من القشرة الخضراء؛ وكرة أخرى من مُكوِّنات البطيخة التي نأكلها، ولو استخلصتَ كرة أخرى من مكونات الألياف الحمراء التي تتكون منها البطيخة، لصار عندك كرة أخرى، ولصار قُطْر الكرة الجديدة أصغر بطبيعة الحال من الكرة الخضراء.
وكلما استخلصتَ كُريّات أخرى من مُكوِّنات البطيخة؛ صَغُرَتْ الأقطار؛ لأنك تقترب من مركز الدائرة، والمحيط الأخضر الذي يحيط بالبطيخة وهو القشرة؛ يشبه المحيط الذي يوجد على الكرة الأرضية؛ وهذه القشرة التي توجد حول الكرة الأرضية صُلْبة؛ أما ما بداخل الأرض وجَوْفها؛ فهو مُكوَّن من أشياء ومواد متعددة، منها ما هو سائل ومنها ما هو صَلْب.
وكلما اقتربنا من مركز الأرض؛ وجدنا ارتفاعاً في درجة الحرارة؛ وتدلُّنا على ذلك كُتَل الحُمَم التي تخرج فوَّارة من فُوَّهات البراكين؛ وهي حُمَم ذات حرارة مرتفعة للغاية؛ وهي حُمَم مُحْرِقة.
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل بطن الأرض سائلاً، رحمةً بنا؛ ذلك أننا حين نبني بيوتاً؛ أو نقتطع أحجاراً من الجبال؛ أو نستخدم مُكوِّنات الجبال في أي غرض؛ إنما ننقل بعضاً من مُكوِّنات الأرض من موقع إلى آخر.
وحين ينتقل ثقل من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر؛(12/7190)
فالسائل الذي في باطن الأرض ينتقل من المنطقة التي زاد عليها الثقل إلى المنطقة التي خَفَّ من فوقها الثقل ليتحقق التوازن، ولو لم يحدث ذلك لَتسَاقطتْ العمارات الشاهقة التي نراها أثناء دوران الأرض.
والمَثَلُ الذي يُوضِّح ذلك أنك لو وضعتَ قطعة من العجين على سطح بطيخة أو كرة، وجعلت البطيخة أو الكرة في حالة دوران لَطردتْ الكرة أو البطيخة قطعة العجين من على سطحها.
وقد شرح العلماء في «علم الحركة» ذلك فقالوا: إن كل شيء مستدير يتحرك؛ إنما تنشأ عن حركته عملية اسمها الطرد الذاتي؛ لأن قطعة العجين أو أيَّ شيء نضعه على شيء مستدير يتحرك تكون له كثافة وثقل على المنطقة التي يوجد فيها، ويصل هذا الثقل إلى المركز، ولكي تستمر الحركة الدائرية متوازنة لابد أن يطرد الشيء المستدير ما فوقه من ثُقْل زائد.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل نِصْفي الكرة الأرضية من أي موقع تتخيله، متساوياً في الوزن مع النصف الآخر، ومهما أخذتَ من مواد ونقلتَها من موقع إلى آخر، فالوزن يتعادل نتيجة لحركة السوائل التي في بطن الأرض.
وهذا يدلُّ على عظمة الخالق الذي خلق بتدبير دقيق، ويكفي أن ننظر إلى عظمة الحق الذي لم يجعل الجبال رواسيَ ليمنع الأرض من أنْ تميدَ بنا، بل جعل في الجبال والصحاري ما استنجدنا به حين ضاقت الأرض بنا؛ فذهبنا إلى الجبال؛ لنستخرج منها المواد الخام؛ ونُصدِّرها؛ ثم نشتري بثمنها القمح.(12/7191)
ونرى من حولنا الصحاري حيث كان المقيمون فيها يلهثون قديماً من العطش، ولا يجدون شجرة يستظلون بها؛ فيُفجِّر فيها الحق آبار البترول.
وهكذا نرى أن كل قطاع من الأرض فيه خير مُسَاوٍ لأي قطاع آخر من الأرض، وجعل الله لكل أمر زمناً يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذا الأمر في ذلك الزمن.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الجبال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9 - 10]
أي: أنه سبحانه بارك في الجبال،، وهي جزء من الأرض، وشاء أن يُقدِّر الأقواتَ في الجبال والأرض؛ ويكفي أن نعلم أن المطر حين يتساقط من السماء على الجبال؛ فيحمل المطر بعضاً من الطَّمْي من على أسطُح تلك الجبال، فتتجدد خُصوبة الأرض.
ولو كانت الجبال هشة لذابت الجبال من عدد قليل من مرات سقوط المطر، ولذابت القشرة الخصبة التي تغذي النبات حين نزرعه في الأرض.(12/7192)
ولكنه سبحانه شاء أنْ تمُرَّ الظروف الجوية باختلافها وتنوُّعها في تتابع يُوفِّر من الحرارة والرطوبة ما يجعل الأرض تتشقق؛ فيصير سطح الجبال الصّلْبة هَشَّاً لينزل مع المطر؛ ولِيُغذِّي الأرض بالخُصوبة من أجل أن يستمر استبقاء الحياة بإنتاج ما نحتاجه من نباتات مزروعة.
ونلحظ قوله سبحانه في نفس الآية: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً ... } [الرعد: 3]
وهنا يجمع الحق بين الرواسي وهي الثوابت، وبين الأنهار وهي التي تحمل الماء السائل، وهذا جَمْعٌ بين الأضداد.
والنهر يُطلق على ما يحمل المياه العَذْبة؛ أما البحر فهو المُكوَّن من الماء المالح، وأنت إذا استعرضت أنهار الدنيا كلها؛ ستجد أن مجاريها تصبُّ في البحار، وهذا دليل على أن منسوب النهر أعلى دائماً من منسوب البحر، ولو كان الأمر بالعكس؛ لَطَغى ماء البحر على مياه النهر، ولَمَا استطعنا أن نشرب أو نزرع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الماء العذب هو الأعلى؛ لأن له مهمة يُؤدِّيها قبل أن يصُبَّ في البحر. أقول ذلك حتى نعلم الحكمة في قول الحق سبحانه: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20](12/7193)
ومن العجيب أن البرزخ الذي يفصل بين النهر والبحر يكون انسيابياً، يتدرج نزول مياه النهر في مياه البحر بما يُحقِّق سهولة في هذا الانتقال، ومن العجيب أيضاً أنك إنْ حفرتَ عند شاطئ البحر قد تعثر على الماء العذب.
ولذلك حين نزور العريش نجد شاطئاً باسم شاطئ النخيل؛ ونحن نعلم أن النخيل يحتاج إلى الماء العَذْب، وكأن الحق سبحانه قد جعل في هذا النخيل خاصية استخلاص الماء العَذْب من هذا المكان الذي يوجد على البحر؛ وقد تكون له جداول عذبة.
فسبحانه القائل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض ... } [الزمر: 21]
ونحن في الريف نجد من يحفر بئراً ويكون ماؤه عَذْباً؛ وآخر يحفر بئراً ويكون ماؤه مالحاً. وهذا دليل على أن الماء في بطن الأرض غير مختلط، بل لكل ماء مسارب تختلف باختلاف نوعية المياه.
ويُرتِّب الحق سبحانه في نفس الآية مجيء الثمرات كنتيجة على وجود الثابت الجبال كمصدر للغِرْيَن وخصوبة الأرض، وعلى وجود الأنهار التي تحمل الماء اللازم للري، وهكذا يكون مجيء الثمرات أمراً طبيعياً.(12/7194)
والثمرة كما نعلم هي الغاية من أي زرع.
وفي نفس الآية يواصل الحق ذكر عطائه، فيقول سبحانه: {وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ... } [الرعد: 3]
ويستعمل البعض كلمة «زوج» ويراد به شيئان كقولنا «زوج أحذية» مع أن التعبير الدقيق يقتضي أن نقول «زوجان من الأحذية» كتوصيف لفردة حذاء يُمْنى وفردة حذاء يسرى؛ لأن كلمة «زوج» مرد، وتستخدم في الشيء الذي له مثْل؛ ولذلك نجد العدد الفردي والعدد الزوجي؛ والعدد الزوجي مُفْرد له مثيل؛ وفي الإنسان هو الذكر والأنثى.
وسبحانه القائل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]
ويخطئ الناس أيضاً في فهم كلمة التوأم، ويظنون أنها تعني الاثنين اللذين يولدان معاً، ولكن المعنى الدقيق للتوأم وهو الفرد الذي يُولَد مع آخر، ويقال لاثنين معاً «التوأمان» .
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين ... } [الرعد: 3]
ولم يخلق الحق سبحانه أيَّ شيء إلا وشاء له أن يتكاثر، مصداقاً لقول الحق سبحانه:
{سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس: 36](12/7195)
وكُلُّ تكاثر إنما يحتاج إلى زوجين، وكنا نعتقد قديماً أن التكاثر يحدث فقط في النبات؛ مثلما نُلقِّح النخلة بالذَّكَر، وفي الحيوان يخصب الفَحْل الأنثى، ثم كشف لنا العلم بعد ذلك أن الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر تتكون من سالب وموجب وغير ذلك كثير، وكل ما قدمه العلم من كشوف يؤيد صِدْقه سبحانه: {سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا ... } [يس: 36]
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {يُغْشِي اليل النهار ... } [الرعد: 3]
أي: أن تأتي الظُّلْمة على النهار فتُغطيه؛ وهو القائل في موقع آخر من القرآن: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً ... } [الإسراء: 12]
وذلك تحقيقاً لمشيئته التي قالها: {وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً ... } [الفرقان: 62]
وإن سأل سائل: هل الليل هو الذي خُلِقَ أولاً أم النهار؟
أقول: نحن نرى الآن الليل والنهار، كُلٌّ منهما يُؤدِّي مُهِمَّته في نصفٍ ما في الكرة الأرضية، وكل منهما يخلف الآخر، ولابد أن الأمر كذلك من أول الخلق.(12/7196)
فإنْ كان سبحانه قد أوجد الأرض مبسوطة وفي مواجهتها الشمس، لَكان النهار هو الأسبق في الخَلْق، وإنْ كان قد خلق الشمس غير مواجهة للأرض؛ يكون الليل هو الذي سبق النهار في الخَلْق.
ويوضح الحق سبحانه هذا الأمر قليلاً في سورة يس حين يقول: {لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]
وكان العرب قديماً يظنُّون أن الليل هو الذي سبق النهار في الخَلْق؛ لأنهم كانوا يُؤرِّخون الشهور بالقمر؛ فيدخل الشهر بليله لا بنهاره، ونحن نعلم أن رمضان يأتينا بأول ليلة فيه.
وقد أوضح الحق سبحانه لهم على قَدْر معارفهم، ثم ثبت لنا أن الليل والنهار قد وُجِدا في وقت واحد بعد أن وضحتْ لنا أن صورة الأرض كروية، وأنه سبحانه قد خلقها كذلك، فما واجه الشمس كان نهاراً؛ وما غابتْ عنه الشمس كان ليلاً، ويخلف كل منهما الآخر.
وهكذا وضَّح لنا أنهما موجودان في آنٍ واحد.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]
أي: أن على الإنسان مسئولية التفكُّر فيما يراه من حوله ليصل إلى لُبِّ الحقائق.(12/7197)
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ... }(12/7198)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
هذه الآية جاءت بشيء من التفصيل لقول الحق سبحانه في أواخر سورة يوسف: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105]
وتلك آية تنضم إلى قوله تعالى: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ... } [الرعد: 2]
وتنضم إلى: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات ... } [الرعد: 2]
وتنضم إلى قوله سبحانه: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين يُغْشِي اليل النهار ... } [الرعد: 3]
وحين نتأمل قول الحق سبحانه:(12/7198)
{وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ... } [الرعد: 4]
نجد أننا لا نستطيع أن نعرفها بأنها التي يعيش عليها أمثالنا؛ تلك هي الأرض، ولو أردنا تعريفها لأبهمناها، فهي أوضح من أن تُعَرّف.
وكلمة «قِطَع» تدلُّ أول ما تدلُّ على «كل» ينقسم إلى أجزاء، وهذا الكُلُّ هو جنس جامع للكلية؛ وفيه خصوصية تمييز قطع عن قطع.
وأنت تسمع كلام العلماء عن وجود مناطق من الأرض تُسمّى حزام القمح، ومناطق أخرى تُسمَّى حزام الموز؛ ومناطق حارة؛ وأخرى باردة.
وقول الحق سبحانه: {قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ... } [الرعد: 4]
هو قول يدل على الإعجاز؛ فعلى الرغم من أنها متجاورات إلا أن كلاً منها تناسب الطقس الذي توجد فيه؛ فزراعة الذرة تحتاج مناخاً مُعيناً؛ وكذلك زراعة الموز.
وهكذا تجد كل منطقة مناسبة لما تنتجه، فالأرض ليست عجينة واحدة استطراقية، لا بل هي تربة مناسبة للجو الذي توجد به.
ومن العجيب أن فيها الأسرار التي يحتاجها الإنسان؛ هذا السيد الذي تخدمه كل الكائنات، فليست الأرض سائلة في التماثل؛ بل تختلف بما يناسب الظروف، فهناك قطعة سبخة لا تنبت؛ وأخرى خصبة تنبت.(12/7199)
بل وتختلف الخصوبة من موقع إلى آخر؛ ومن قطعة إلى أخرى؛ فثمرة الجوافة من شجرة معينة في منطقة معينة تختلف عن ثمرة الجوافة من شجرة في منطقة أخرى؛ والقمح في منطقة معينة يختلف عن القمح في منطقة أخرى؛ ويقال لك «إنه قمح فلان» .
ويحدث ذلك رغم أن الأرض تُسْقَى بماء واحد.
ويقول العلماء البعيدون عن منطق السماء: «إن السبب في الاختلاف هو عملية الاختيار والانتخاب» . وكأنهم لا يعرفون أن الاختيار يتطلب مُخْتاراً، وأن يكون له عقل يُفكِّر به ليختار، وكذلك الانتخاب فهل البُذَيْرات تملك عقلاً تُفكِّر به وتختار؟ طبعاً لا.
ويقولون: إن النبات يتغذَّى بالخاصية الشعرية، ونعلم أن الأنابيب الشعرية التي نراها في المعامل تكون من الزجاج الرفيع؛ وإذا وضعناها في حوض ماء، فالماء يرتفع فيها على مستوى الإناء.
وإنْ صدَّقْنا العلماء في ذلك، فُكيف نصدِّقهم في أن شجرة ما تأخذ ماءً من الشجرة الأخرى؛ وتنتج كل منهما نفس الثمار؛ لكن ثمار شجرة تختلف عن الأخرى في الطَّعْم؟
ونقول: إن كل شجرة تأخذ من الأرض ما ينفعها؛ ولذلك تختلف النباتات، ويحدث كل ذلك بقدرة الذي قَدَّر فهدى.
وهكذا نرى الأرض قطعاً متجاورات؛ منها ما يصلح لزراعة تختلف عن زراعة الأرض الأخرى.
وقد يقول بعض من الملاحدة: إن هذا الاختلاف بسبب الطبيعة والبيئة.(12/7200)
وهؤلاء يتجاهلون أن الطبيعة في مجموعها هي الشمس التي تعطي الضوء والحرارة والإشعاع، والقمر أيضاً يعكس بعضاً مَنْ الضوء، والنجوم تهدي من يسير في الفَلاَة، وتيارات الهواء تتناوب ولها مسارات ومواعيد.
ورغم كل ذلك فهناك أرض خِصْبة تنتج، وأرض سبخة لا تنتج، وأرض حمراء؛ وأخرى سوداء، وثالثة رملية، وكلها متجاورة.
لابد إذن من وجود فاعل مختار يأمر هذه أمراً مختلفاً عن تلك.
ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ... } [الرعد: 4]
وجاء الحق سبحانه هنا بالمُرفِّهاتِ أولاً؛ فتحدث عن الفاكهة؛ ثم تحدث عن الزرع الذي منه القُوت الأساسي، ونحن في حياتنا نفعل ذلك؛ فحين تدخل على مائدة أحد الكبار؛ تجد الفاكهة مُعدَّة على أطباق بجانب المائدة الرئيسية التي يُقدَّم عليها الطعام.
ويأتي الحق سبحانه بعد الأعناب والزَّرْع الذي منه القُوت الضروري بالنخيل، وهو الذي ينتج غذاء، وقد يكون التمر الذي ينتجه تَرَفاً يتناوله الإنسان بعد تناول الطعام الضروري.
وقول الحق سبحانه: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ... } [الرعد: 4](12/7201)
يتطلب مِنَّا أن نعرف ما الصنوان؟ ونجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «العم صنو أبيك» أي: أن الصِّنْو هو المِثْل.
وبهذا يكون معنى الصِّنْوان هو المِثْلان. ونرى ذلك واضحاً في النخيل؛ فنرى أحياناً أصلاً واحداً تخرج منه نخلتان؛ أو ثلاث نخلات؛ وأحياناً يخرج من الأصل الواحد أربع أو خمس نخلات.
ويُطلق لقب «الصنوان» على الأصل الواحد الذي يتفرع إلى نخلتين أو أكثر؛ فكلمة «صنوان» تصلح للمثنى وللجمع، ولكنها في حالة المثنى تعامل في الإعراب كالمثنى؛ فيقال «أثمرتْ صنوان» و «رأيت صنوين» أما في حالة الجمع فيقال «رأيت صنواناً» و «مررْتُ بصنوان» . والمفرد طبعاً هو «صِنْو» .
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ... } [الرعد: 4]
ومن العجيب أن كل شجرة تأخذ عَبْر جذورها كمية من الماء والغذاء اللازم لإنتاج ثمارٍ ذات شكل وطَعْم مختلف.
وهذا ما جعلنا نقول من قَبْل: إن افتراضات العلماء المتخصصين في علوم النبات عن أن النباتات تتغذَّى بخاصية الأنابيب الشعرية هو افتراض غير دقيق.
فلو كان الأمر كذلك لأخذت الأنابيب الشعرية الخاصية بنبات(12/7202)
المواد التي أخذتها الأنابيب الشعرية الخاصة بنبات آخر.
والأمر ليس كذلك، فكل نبات يأخذ من الأرض ما يخصه فقط، ويترك ما عدا ذلك.
ذلك أن الثمار لكل نبات تختلف ولا تتشابه؛ بل إن الشجرة الواحدة تختلف ثمارها من واحدة إلى أخرى.
مثال هذا: هو شجرة المانجو أو النخلة المثمرة، ويمكنك أن تلاحظ نفسك، وسترى أنك تنتقي من ثمار المانجو القادمة من شجرة واحدة ما يعجبك، وترفض غيرها من الثمار، وسترى أنك تنتقي من ثمار البلح القادم من نخلة واحدة ما يروقُ لك؛ وترفض بعضاً من ثمار نفس النخلة.
وحين تذهب لشراء الفاكهة؛ فأنت تشتري حسب موقفك في الادخار؛ فإنْ كنتَ تحب الادخار فسوف تشتري الفاكهة التي من الدرجة الثانية؛ وإذا كنت تحب أن تستمتع بالطيب من تلك الفاكهة فسوف تشتري من الفاكهة المتميزة.
وأتحدى أنْ يقف واحد أمام قفص للفاكهة، وينتقي الثمار غير الجميلة الشكل والرَّوْنق، بل يحاول كل إنسان أن يأخذ الجميل والطيب من تلك الفاكهة، وحين يدفع ثمن ما اشترى سنجده يدفع النقود الورقية القديمة التي تُوجد في جيبه، وسيحتفظ لنفسه بالنقود الجديدة.
وهذا الموقف يغلب على مواقف أي إنسان، فهو مُقبِل دائماً على رَفْض أخذ السيئ؛ وخائف دائماً من التفريط في الحَسَن.(12/7203)
والحق سبحانه يقول: {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق ... } [الإسراء: 100]
وأنت لا تجد في الثمار تشابهاً، بل اختلافاً في الطَّعْم من نوع إلى نوع؛ كذلك تجد اختلافاً في طريقة تناولها؛ فلا أحد مِنَّا يأكل البلحة بكاملها، بل نأكل ثمرة البلحة بعد أن نُخرِج منها النواة؛ ونأكل ثمرة التين بأكملها، ونخرج ما في قلب حَبَّة المشمش من بذرة جامدة، ثم نأكل المشمشة من بعد ذلك.
فكل ثمرة لها نظام خاص؛ وليست مسألة ميكانيكية في عطاء الله لثمار متشابهة؛ بل هناك اختلاف، ويمتد هذا الاختلاف إلى أدقِّ التفاصيل؛ لدرجة أنك حين تتناول قِطْفاً من العنب تجد اختلافاً لبعض من حبَّات العنب عن غيرها.
ونحن لا نُفضِّل بعضاً من الفاكهة على البعض الآخر في الأُكُل فقط، بل نُفضِّل في الصنف الواحد بعضاً من ثماره عن البعض الآخر.
وحين تقرأ: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ... } [الرعد: 4]
فاعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مُفضّل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما دُمْنَا نُفضِّل بعضه على البعض الآخر؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مُفضَّل في ناحية، ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمثل الواضح أمامنا جميعاً أننا حين نجلس إلى مائدة عليها ديك رومي قد تجد يدك تتجه إلى طبق «المخلل» قبل أن تمتدّ يدك إلى الديك الرومي؛ لأن «نفسك» قد طلبتْه أولاً، فلا تَقُلْ: إن هناك(12/7204)
شيئا مفضولاً عليه طوال الوقت، أو شيئاً مفضلاً كل الوقت.
وكذلك الناس؛ إياك أن تظن أن هناك إنساناً فاضلاً على إطلاقه؛ وآخر مفضولاً على إطلاقه؛ بل هناك إنسان فاضل في ناحية ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمَثَل: هو صاحب السيارة الفارهة؛ ثم ينفجر إطار سيارته؛ فيتمنى أن يرزقه الله بمَنْ يمرُّ عليه ليقوم بتغيير إطار السيارة؛ فيمرُّ عليه هذا الإنسان صاحب الملابس غير النظيفة بما عليها من شحوم؛ فيكون هذا الإنسان أفضل منه في قدرته على فَكِّ الإطار المنفجر بالإطار السليم الاحتياطي.
وهكذا نشر الله الفضل على الناس ليحتاج بعضهم لبعض؛ ولذلك أقول: حين تجد نفسك فاضلاً في ناحية إياك أنْ تقعَ في الغرور؛ واسأل نفسك: ما الذي يَفْضُل عليك فيه غيرك؟
وتذكر قول الحق سبحانه: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ... } [الحجرات: 11]
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يُوزِّع الفضل بين الناس، ليحتاج كل منهم الآخر، وليتكامل المجتمع. وكذلك وَزَّع سبحانه الفضل في الأطعمة والفواكه والثمار، وانظر إلى نفسك لحظة أنْ تُقدَّم لك أصناف متعددة من الفاكهة؛ فقد تأخذ ثمرة من الجميز قبل أن تأخذ ثمرة من التفاح؛ فساعة طلبتْ نفسك ثمرة الجميز صارت في تقدير الموازين والتبادل هي الأفضل، وكل إنسان يمكن أن يجد ذلك فيما يَخصُّه أو يُحبه.(12/7205)
والحق سبحانه هو القائل: { ... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]
ولذلك نجد الإنسان وهو يُلوِّن ويتفنَّن في صناعة الطعام، ويختلف إقبال الأفراد على الأطعمة المُنوَّعة، وقد تجد اثنين يُقبِلان على لحم الدجاج؛ لكن أحدهما يُفضِّل لحم الصدر؛ والآخر يُفَضِّل لحم «الوَرِك» ، وتجد ثالثاً يُفضِّل لحم الحمام؛ وتجد رابعاً يفضل تناول السمك.
بل إنك تجد اختلافاً في طريقة تناول مَنْ يحبون السمك؛ فمنهم مَنْ يحب أكل رأس السمكة، ومنهم مَنْ يحب لحم السمكة نفسها، ولا أحد يملك معرفة السبب في اختلاف الأمزجة في الانجذاب إلى الألوان المختلفة من الأطعمة.
وحين تتأمل تلك المسألة قد يأتي إلى خاطرك قول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } [البقرة: 28]
والسؤال هنا من الله للتعجُّب؛ والتعجُّب عادة يكون من شيء خَفِي سببه، فهل يَخْفَى سبب على الله ليتعجب؟
طبعاً لا، فسبحانه مُنَّزه عن ذلك، وسبحانه يعلم سبب كفر الكافرين؛ لكنه ينكر عليهم أسباب الكفر.
والمثَلُ من حياتنا ولله المَثَلُ الأعلى فأنت تجد نفسك وأنت تنطق بكلمة «كيف تسُبّ أباك؟» لإنسان يوجه كلمات جارحة لوالده؛ فتتعجب لتنكر ما فعله هذا الإنسان.(12/7206)
وكذلك القول: كيف تكفرون بالله؟ لأن الكفر شيء لا يتأتى من عاقل. وكان لنا شيخ هو فضيلة العالم أحمد الطويل؛ وكان يحدثنا عن شيخ له حين كان يقرأ قول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } [البقرة: 28]
كان يقول: إن الخطاب هنا عام لكل إنسان؛ لأن الحق بعدها يأتي بالقضية العامة:
{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ... } [البقرة: 28]
وهذا القول للعموم. وكان شيخنا يحكي عن شيخه أنه حدَّثهم أن إنساناً كان مُسرِفاً على نفسه؛ ثم انصبَّتْ عليه الهداية مرة واحدة؛ ورآه كل مَنْ حوله وهو مُقْبِل على الله؛ فسألوه عن سبب الهداية، فقال:
كنت أجلس في بستان، ثم رَاقَ لي عنقود من العنب؛ فقطفتُ العنقود، وأخذتُ أتأمل فيه؛ فوجدت غِشاءً رقيقاً شفافاً وهو قشرة حبة العنب يشِفُّ عما تحته من لحم العنبة الممتلئ بالعصير.
وحين وضعتُ حبة العنب في فمي؛ صارت ماء رطباً، وأخذني العجب من احتفاظ حبة العنب ببرودتها ورطوبتها رغم حرارة جَوِّ شهر بؤونة؛ ثم وجدت بذرة الحبة ولها طَعْم المِسْك؛ فلما غمرني السرور من طَعْم وجمال العنب سمعت هاتفاً يهتف بي: «كيف تكفر بالله وهو خالق العنب؟» فهتفت: آن يا رب أن أُومن بك.
وكل مِنَّا له أن ينظر إلى شيء يعجبه؛ وسيجد الشيء كأنه يقول له: كيف تكفر بالله وهو خالقي؟ وهكذا سنجد كل إنسان وهو(12/7207)
مُخاطب بهذه العبارة، لأنه ما من كائن إلا وله شيء يعجبه في الكون.
وهكذا نفهم معنى قول الحق سبحانه: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل ... } [الرعد: 4]
ونجد أي شيء هو فاضل في وقت الحاجة إليه وطلبه؛ وكل شيء مَفْضُول عليه في وقت ما؛ وإنْ كان فاضلاً عند مَنْ يحتاجه. ونجد أن التفضيل هنا عند الأَكْل.
والأُكل هو ما يُؤكَل؛ لا الآن فقط إنما ما يؤكل الآن أو بعد ذلك وسبحانه القائل: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ... } [البقرة: 265]
وسبحانه يقول أيضاً: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
وكذلك قال: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ... } [إبراهيم: 25]
وهكذا نجد أن الأُكل مقصود به ما يُؤكل الآن، وما بعد الأكل أيضاً.(12/7208)
ويُذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]
وبعض الناس يظنون أن العقل يعني أنْ يمرحَ الإنسان في الأشياء، وأنه يعطي الإنسان الحرية المطلقة، ومثل هذا الظن خاطئ؛ لأن العقل جاء لِيُبصِّر الإنسانَ بعواقب كُلِّ فعل ونتائجه، فيقول للإنسان: «إياكَ أنْ يستهويك الأمر الفلاني لأن عاقبته وخيمة» . ومن مادة العين والقاف واللام عقل. ويقال: عقلْتُ البعير.
ومن مهام العقل أنْ يُفرِز الأشياء، وأنْ يفكر فيها ليستخرج المطلوب، وأنْ يتدبر كل أمر، فعمليات العقل هي الاستقبال الإدراكي والبحث فيه لاستخلاص الحقائق والنتائج، وأن يتدبر الإنسان كل أمر كي يتجنب ما فيه من ضرر.
والمثل: هو ما توصَّل إليه بعضٌ من العلماء من اكتشاف لأدوية يستخدمونها لفترة ما، ثم يعلنون عن الاستغناء عنها؛ لأن آثارها الجانبية ضارة جداً؛ وهذا يعني أنهم لم يتدبروا الأمر جيداً؛ وخَطَوْا خطوات إلى ما ليس لهم به كامل العلم.
وقول الحق سبحانه: { ... إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4]
نلحظ فيه توجيهاً بالتعاون بين العقول، لتبحث في آيات رَبِّ العقول؛ فلا يأخذ أحد قراراً بعقله فقط؛ بل يسمع أيّ مِنّا لرأي عقل ثانٍ وعقل ثالث ورابع؛ ليستطيع الإنسان تدبُّر ما يمكن أنْ يقع؛ ولتتكاتف العقول في استنباط الحقائق النافعة التي لا يتأتَّى منها(12/7209)
ضرر فيما بعد؛ لأن من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ... }(12/7210)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
والعجب هو أن تُبدي دهشة من شيء لا تعرف سببه، وهذا التعجب لا يتأتَّى من الله؛ لأنه سبحانه يعلم كل شيء، فإذا صدر عجب من الله مثل قوله الحق: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله ... } [البقرة: 28]
فمعنى هذا أنه سبحانه يُنكِر أن يكفر الإنسان مع قيام الأدلة على الإيمان؛ لكن بعضاً من الناس رغم ذلك يكفر بالله.
وقول الحق سبحانه: {وَإِن تَعْجَبْ ... } [الرعد: 5]
هو خطاب مُوجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعجّب من أنهم كانوا يُسمُّونه قبل أن يبعثه الله رسولاً بالصادق الأمين؛ وبعد ما جاءت الرسالة قالوا: إنه ساحر كذاب.
فكيف يكون صادقاً أميناً ببشريته وذاتيته؛ ثم إذا أمدّه الحق سبحانه بالمَدَد الرِّسَالي تتهمونه بالكذب؟ ألم يَكُنْ من الأجدر أنْ(12/7210)
تقولوا إنه صار أكثر صِدْقاً؟ وهل من المُمْكن أن يكون صادقاً عندكم، ثم يكذب على الله؟
والتعجُّب أيضاً من أنهم أنكروا البعث من بعد الموت، رغم أنه سبحانه أوضح الأدلة على ذلك؛ ولكن المؤمنين وحدهم هم الذين استقبلوا أمر البَحْث بالتصديق؛ بمجرد أن أبلغهم به رسول الله مُبلِّغاً عن ربِّه.
ونجد الحقَّ سبحانه وتعالى قد احترم فُضُول العقل البشري، فأوضح سبحانه ذلك ونَصَبَ الأدلة عليه؛ وأبلغنا أنه لم يعجز عن الخَلْق الأول؛ لذلك لن يعجز عن البعث.
فقد جاء بنا سبحانه من عدم، وفي البعث سيأتي بنا من موجود، ومن الغباء إذنْ أن يتشكَّك أحد في البعث، والمُسْرِف على نفسه إنما يُنكِر البعث؛ لأنه لا يقدر على ضبْط النفس؛ ويظن أنه بإنكار البعث لن يَلْقَى المصير الأسود الذي سيلقاه في الآخرة.
ولذلك تجد المسرفين على أنفسهم يحاولون التشكيك في البعث ويأتي الحق سبحانه بتشكيكهم هذا في قَوْل الحق سبحانه: {وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر ... } [الجاثية: 24]
ولو أن الواحد منهم وضع مسألة البَعْث في يقينه لانصرف عن شهواته، بينما هو يريد أن ينطلق بالشهوات؛ ولذلك نجدهم يقولون: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض ... } [السجدة: 10]
وهم يقصدون بذلك أنهم بعد الموت سيصيرون تراباً، ويعودون(12/7211)
إلى الأرض كعناصر وتراب تَذْروه الرياح، فكيف سيأتي بهم الله للبعث، ويُنشئهم من جديد؟
ويقول سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79]
ومن الكافرين مَنْ قال: سنصير تراباً، ثم نختلط بالتربة، ويتم زراعة هذه التربة، فتمتزج عناصرنا بما تنبته الأرض من فواكه وخُضر وأشجار؛ ثم يأكل طفل من الثمرة التي تغذَّتْ بعناصرنا؛ فيصير بعضٌ مِنَّا في مكونات هذا الطفل؛ والقياس يُوضِّح أننا سوف نتناثر؛ فكيف يأتي بنا الله؟
كل ذلك بطبيعة الحال من وسوسة الشيطان ووحيه: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ ... } [الأنعام: 121]
وأقول: لنفترض أن إنساناً قد مرض؛ وأصابه هُزَال، وفقد ثلاثين كيلوجراماً من وزنه، وما نزل من هذا الوزن لابُدَّ أنه قد ذهب إلى الأرض كعناصر اختلطتْ بها، ثم جاء طبيب قام بتشخيص الداء وكتب الدواء، وشاء الله لهذا المريض الشفاء واستردَّ وزنه، وعاد مرة أخرى لحالته الطبيعية؛ فهل الثلاثين كيلو جراماً التي استردَّها هي هي نفس الكمية بنوعيتها وخصوصيتها التي سبق أنْ فقدها؟ طبعاً لا.(12/7212)
وهكذا نفهم أن التكوين هو تكوين نسبيّ للعناصر، كذا من الحديد؛ كذا من الصوديوم؛ كذا من المغنسيوم؛ وهكذا.
إذن: فالجزاء في اليوم الآخر عملية عقلية لازمة، يقول الحق: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]
مادام هناك أمر؛ وهناك نهي؛ وهناك نهي؛ وهناك منهج واضح يُبيِّن كل شيء. وإنْ كنت تعجبُ يا محمد من الكفار وما يثيرونه من أقضية، فَلَكَ أنْ تعجب لأنها أمور تستحق العجب.
والحق سبحانه حين يخاطب الخَلْق فهو يخاطبهم إمَّا في أمر يشكُّون فيه، أو في أمر لا يشكُّ فيه أحد.
والمَثَل من حياتنا ولله المَثَلُ الأعلى حين تخاطب أنت واحداً في أمر يَشُكُّ هو فيه؛ فأنت تحاول أن تؤكد هذا الأمر بكل الطرق، وهكذا وجدنا بعضاً من الناس ينكرون البعث والحساب؛ ووجدنا الحق سبحانه وتعالى يُذكِّرهم به عبر رسوله ويؤكده لهم.
وأيضاً خاطبهم الحق سبحانه فيما لم يَشكُّوا فيه؛ وهو الموت؛ وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ... } [آل عمران: 185]
ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت» .(12/7213)
فالموت يقين، ولكن لا أحد يحاول التفكير في أنه قادم، وسبحانه يقول: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15]
وهذا تأكيد لأمر يُجمع الناس على أنه واقع، لكنهم لغفلتهم عنه بَدَوْا كالمنكرين له، لذلك خاطبهم خطابَ المنكرين، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16]
ولم يَقُل: «ولتبعثون» لأن البعث مسألة لا تحتاج إلى تأكيد، وعدم التأكيد هنا آكد من التأكيد، لأن أمر الموت واضح جداً رغم الغفلة عنه، أما البعث فهو واقع لا محالة بحيث لا يحتاج إلى تأكيد.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى يذهب الإنسان إلى الطبيب؛ فيقول له الطبيب بعد الكشف عليه «اذهب فلن أكتب لك دواء» . وهذا القول يعني أن هذا الإنسان في تمام الصحة؛ وكأن كتابة الدواء يحمل شبهة أن هناك مرضاً.
وكذلك الحق سبحانه يخاطب الخَلْق في الشيء الذي ينكرونه وعليه دليل واضح؛ فيأتي خطابه لهم بلا تأكيد؛ وهو يوضح بتلك الطريقة أنهم على غير حق في الإنكار، أما الشيء الذي يتأكدون منه وهم غافلون عنه؛ فهو يؤكده لهم؛ كي لا يغفلوا عنه.
وكذلك في القَسَم؛ فنجده سبحانه قد أقسم بالتين والزيتون؛ وأقسم بالقرآن الحكيم؛ وأقسم بغير ذلك، ونجده في مواقع أخرى يقول:(12/7214)
{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 1 - 3]
والعجيب أنه يأتي بجواب القسم، فيقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]
وقد يقول قائل: كيف يقول: {لاَ أُقْسِمُ ... } [البلد: 1]
ثم يأتي بجواب القسم؟
وأقول: لقد جاء هنا بقوله: {لاَ أُقْسِمُ ... } [البلد: 1]
وكأنه يُوضِّح ألاَّ حقَّ لكم في الإنكار؛ ولذلك ما كان يصحّ أنْ أقسم لكم، ولو كنت مُقْسِماً؛ لأقسمتُ بكذا وكذا وكذا.
وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ... } [الرعد: 5]
وهو جَلَّ وعلا يُذكِّرهم بما كان يجب ألاَّ ينسوه؛ فقد خلقهم من تراب؛ وخلق التراب من عدم، وهو القائل: {أَفَعَيِينَا بالخلق الأول بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15](12/7215)
إذن: فسبحانه يتعجب من أمر هؤلاء؛ ويزيد من العجب أنهم كذَّبوا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن جرَّبوا فيه الصدق، ولمسوا منه الأمانة؛ وقالوا عنه ذلك من قبل أن يُبعث؛ وفوق ذلك أنكروا البعث مع قيام الدليل عليه.
ويصفهم الحق سبحانه: {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ... } [الرعد: 5]
أي: أن هؤلاء المكذبين لك يا محمد والمنكرين للبعث لم يكفروا فقط بالله الذي أوجب التكليف العبادي؛ بل هم يكفرون بالربوبية التي تعطي المؤمن والكافر؛ والطائع والعاصي، وتأتمر بأمرها الأسباب لتستجيب لأي مجتهد يتبع قوانين الاجتهاد، فيأخذ من عطاءات الربوبية؛ وهي عطاءات التشريف التي تضمن الرزق، بينما عطاءات الألوهية؛ هي تكليفات بالطاعة للأوامر التعبدية؛ الممثلة في «افعل» و «لا تفعل» . وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا بعد أن يبلغ الإنسان درجة النضج التي تؤهله؛ لأن ينجب مثيلاً له؛ وقد ترك الحق سبحانه كل إنسان يرتع في خير النعم التي أسبغها سبحانه على البشر، وكان على الإنسان أن يسعى إلى الإيمان فور أن تصله الدعوة من الرسول المبلغ عن الله؛ هذا الرسول المشهود له بالصدق والأمانة. ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يصف المنكرين للإيمان: {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ... } [الرعد: 5]
ويضيف:(12/7216)
{ ... وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: 5]
والغُّلّ: هو طَوْق الحديد الذي له طرف في كل يد لِيُقيدها؛ وطرف مُعلَّق في الرقبة لِيُقلل من مساحة حركة اليدين، ولمزيد من الإذلال.
وهم أصحاب النار؛ وكلمة «صاحب» تُطلق على مَنْ تعرفه معرفةً تروق كيانك وذاتك؛ فهناك مَنْ تصاحبه؛ وهناك من تصادقه؛ وهناك من تؤاخيه؛ وهناك من تعرفه معرفة سطحية، ولا تقيم علاقة عميقة معه.
إن المعرفة مراتب، والصحبة تآلف وتجاذب بين اثنين؛ ومَنْ يصاحب النار فهو مَنْ تعشقه النار، ويعشق هو النار، ويجب كل منهما ملازمة الآخر ألاَ تقول النار لربها يوم القيامة: { ... هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30]
أي: أن العذاب نفسه يكون مَشُوقاً أنْ يصلَ إلى العاصي.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة ... }(12/7217)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
والاستعجال أن تطلب الشيء قبل زمنه، وتقصير الزمن عن الغاية، فأنت حين تريد غاية ما؛ فأنت تحتاج لزمن يختلف من غاية لأخرى، وحين تتعجل غايةً، فأنت تريد أنْ تصل إليها قبل زمنها.
وكل اختيار للتعجُّل أو الاستبطاء له مميزاته وعيوبه، فهل الاستعجال هنا لمصلحة أمر مطلوب؟
إنهم هنا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، وهذا دليل على اختلال وخُلْف موازين تفكيرهم، وقد سبق لهم أن قالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً ... } [الإسراء: 90 - 92]
وهكذا نجد هؤلاء الكافرين وهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، كما استعجلوا أنْ تنزل عليهم الحجارة، وهم لا يعرفون أنْ كل عذاب له مدة، وله ميعاد موقوت. ولم يفكروا في أنْ يقولوا: «اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه» .
بل إنهم قالوا: { ... اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خَلل في نفوسهم وفسادها؛ ذلك أن مقاييسهم انتهت إلى الكفر، وليس أدلّ على فساد المقاييس إلا استعجالهم للسيئة قبل الحسنة؛ لأن العاقل(12/7218)
حين يُخيَّر بين أمرين؛ فهو يستعجل الحسنة؛ لأنها تنفع، ويستبعد السيئة.
ومادامت نفوس هؤلاء الكافرين فاسدة؛ ومادامت مقاييسهم مُخْتلة، فلابد أن السبب في ذلك هو الكفر.
إذن: فاستعجال السيئة قبل الحسنة بالنسبة للشخص أو للجماعة؛ دليلُ حُمْق الاختيار في البدائل؛ فلو أنهم أرادوا الاستعجال الحقيقي للنافع لهم؛ لاستعجلوا الحسنة ولم يستعجلوا السيئة.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات ... } [الرعد: 6]
فلماذا يستعجلون العذاب؟ ألم ينظروا ما الذي حاق بالذين كذَّبوا الرسل من قبلهم؟
وحين يقول الرسول: احذروا أن يصيبكم عذاب، أو احذروا أنْ كذا وكذا؛ فهل في ذلك كذب؟ ولماذا لم ينظروا للعِبَر التي حدثتْ عَبْر التاريخ للأقوام التي كذبتْ الرسل من قبلهم؟
و «المَثُلات» جمع «مُثْلة» ؛ وفي قول آخر «مَثُلَة» . والحق سبحانه يقول لنا: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... } [النحل: 126]
ويقول أيضاً: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى: 40]
وهكذا تكون «مَثُلات» من المثل؛ أي: أن تكون العقوبة مُمَاثلة للفعل.(12/7219)
وقول الحق سبحانه: {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات ... } [الرعد: 6]
يعني: أنه سبحانه سبق وأنزل العذاب بالمثيل لهم من الأمم السابقة التي كذبتْ الرسل؛ إما بالإبادة إن كان ميئوساً من إيمانهم، وإما بالقهر والنصر عليهم.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ.
. .} [الرعد: 6]
أي: أنه سبحانه لا يُعجِّل العذاب لِمَنْ يكفرون؛ لعل رجلاً صالحاً يوجد فيهم، وقد صبر سبحانه على أبي جهل؛ فخرج منه عكرمة بن أبي جهل؛ وهو الصحابي الصالح؛ وصبر على خالد بن الوليد فصار سيفَ الله المسلول، بعد أن كان أحد المقاتلين الأشداء في معسكر الكفر.
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف قاتل عكرمة بن أبي جهل؛ إلى أن أصيب إصابة بالغة، فينظر إلى خالد بن الوليد قائلاً: أهذه ميتة تُرضِي عني رسول الله؟
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف حزن واحد من المقاتلين المسلمين لحظة أنْ أفلتَ من خالد بن الوليد أيام أنْ كان على الكفر؛ وهو لا يعلم أن الحق سبحانه قد ادخر خالداً ليكون سيف الله المسلول من بعد إسلامه.
وهكذا شاء الحق أن يُفلت بعض من صناديد قريش من القتل أيام أنْ كانوا على الكفر، كي يكونوا من خيرة أهل الإسلام بعد ذلك.(12/7220)
ويتابع سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ... } [الرعد: 6]
فمع أن الناس ظالمون؛ فسبحانه يغفر لهم؛ لأنه سبحانه أفرح بعبده التائب المؤمن من أحدكم، وقد وقع على بعيره، وقد أضلَّه في فلاة.
ولذلك أرى أن مَنْ يُعيِّر عبداً بذنب استغفر منه الله؛ هو إنسان آثم؛ ذلك أن العبد قد استغفر الله؛ فلا يجب أنْ يحشر أحد أنفه في هذا الأمر.
ونلحظ هنا قول الحق سبحانه: {على ظُلْمِهِمْ ... } [الرعد: 6]
وفي هذا القول يجد بعض العلماء أن الله قد استعمل حرفاً بدلاً من حرف آخر؛ فجاءت «على» بدلاً من «مع» .
ونلحظ أن «على» هي ثلاثة حروف؛ و «مع» مكونة من حرفين؛ فلماذا حذف الحق سبحانه الأخفَّ وأتى ب «على» ؟ لابد أن وراء ذلك غاية.
أقول: جاء الحق سبحانه ب «على» في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ ... } [الرعد: 6](12/7221)
ليؤكد لنا أن ظلم الناس كان يقتضي العقوبة؛ ولكن رحمته سبحانه تسيطر على العقوبة.
وهكذا أدت كلمة «على» معنى «مع» ، وأضافت لنا أن الحق سبحانه هو المسيطر على العقوبة؛ وأن رحمة الله تَطْغَى على ظلم العباد.
ومِثْل ذلك قوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ ... } [الإنسان: 8]
أي: أنهم يُحِبون الطعام حَبَّاً جَمَّاً؛ لكن إرادة الحفاوة والكرم تَطْغى على حُبِّ الطعام.
ولكن لا يجب أن يظن الناس أن رحمة الله تطغى على عقابه دائماً؛ فلو ظن البعض من المجترئين هذا الظن؛ وتوهموا أنها قضية عامة؛ لَفسد الكون؛ ولذلك يُنِهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6]
أي: أنه سبحانه قادر على العقاب العظيم، وهكذا جمعت الآية بين الرجاء والتخويف.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ ... }(12/7222)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
ونحن نعلم أن «لولا» إنْ دخلت على جملة اسمية تكون حرف امتناع لوجود؛ مثل قولك «لولا زيد عندك لَزُرْتك» ، أي: أن الذي يمنعك من زيارة فلان هو وجود زيد.
ولو دخلتْ «لولا» على جملة فعلية؛ فالناطق بها يحب أنْ يحدث ما بعدها؛ مثل قولك «لولا عطفتَ على فلان» أو «لولا صفحتَ عن ولدك» ، أي: أن في ذلك حَضّاً على أنْ يحدث ما بعدها.
وظاهر كلام الكفار في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنهم يطلبون آية لتأييد صدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البيان الذي يحمله من الحق لهم، وكأنهم بهذا القول يُنكِرون المعجزة التي جاء بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي القرآن الكريم، رغم أنهم أمةَ بلاغة وأدب وبيان، وأداء لُغوي رائع؛ وأقاموا أسواقاً للأدب، وخصصوا الجوائز للنبوغ الأدبي؛ وعلَّقوا القصائد على جدران الكعبة، وتفاخرت القبائل بمَنْ أنجبتهم من الشعراء ورجال الخطابة.
فلما نزل القرآن من جنس نبوغكم؛ وتفوَّق على بلاغتكم؛ ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية مثل آياته؛ كيف لم تعتبروه معجزة؛ وتطالبون بمعجزة أخرى كمعجزة موسى عليه السلام؛ أو كمعجزة عيسى عليه السلام؟
لقد كان عليكم أن تفخروا بالمعجزة الكاملة التي تحمل المنهج إلى قيام الساعة.
ولكن الحُمْق جعلهم يطلبون معجزة غير القرآن، ولم يلتفتوا إلى المعجزات الأخرى التي صاحبتْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لم يلتفتوا إلى أن(12/7223)
الماء قد نبع من أصابعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ والطعام القليل أشبع القوم وفاض منه، والغمامة قد ظللته، وجذع النخلة قد أَنَّ بصوت مسموع عندما نقل رسول الله منبره؛ بعد أنْ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخطب من فوق الجذع.
وقد يكونون أصحاب عُذْر في ذلك؛ لأنهم لم يَرَوا تلك المعجزات الحِسِّية؛ بحكم أنهم كافرون؛ واقتصرت رُؤْياهم على مَنْ آمنوا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وهكذا نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُحرم من المعجزات الكونية؛ تلك التي تحدث مرة واحدة وتنتهي؛ وهي حُجَّة على مَنْ يراها؛ وقد جاءتْ لتثبت إيمان القِلَّة المضطهدة؛ فحين يروْنَ الماء مُتفجِراً بين أصابعه، وَهُمْ مَزلْزلون بالاضطهاد؛ هنا يزداد تمسُّكهم بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولكن الكافرين لم يَرَوْا تلك المعجزات. وكان عليهم الاكتفاء بالمعجزة التي قال عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «القرآن كافيني» .
والقرآن معجزة من جنس ما نبغتُم فيه أيها العرب، ومحمّد رسول من أنفسكم، لم يَأْتِ من قبيلة غير قبيلتكم، ولسانه من(12/7224)
لسانكم، وتعلمون أنه لم يجلس إلى معلم؛ ولا عِلُمِ عنه أنه خطب فيكم من قبل، ولم يَقْرِض الشعر، ولم يُعرف عنه أنه خطيب من خطباء العرب.
ولذلك جاء الحق سبحانه بالقول على لسانه: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس: 16]
أي: أنني عِشْتُ بينكم ولم أتكلَّم بالبلاغة؛ ولم أنافس في أسواق الشِّعْرِ؛ وكان يجب أن تؤمنوا أنه قول من لَدُنْ حكيم عليم.
ولكن منهم مَنْ قال: «لقد كان يكتم موهبته وقام بتأجيلها» .
وهؤلاء نقول لهم: هل يمكن أن يعيش طفل يتيم الأب وهو في بطن أمه؛ ثم يتيم الأم وهو صغير، ويموت جَدّه وهو أيضاً صغير، ورأى تساقط الكبار من حوله بلا نظام في التساقط؛ فقد ماتوا دون مرض أو سبب ظاهر؛ أكان مثل هذا الإنسان يأمنُ على نفسه أن يعيش إلى عمر الأربعين ليعلن عن موهبته؟
ثم من قال: إن العبقرية تنتظر إلى الأربعين لتظهر؟ وكلنا يعلم أن العبقريات تظهر في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث.(12/7225)
ورغم عدم اعترافكم بمعجزة القرآن؛ هاهو الحق سبحانه يُجري على ألسنتكم ما أخفيتموه في قلوبكم؛ ويُظهره الناس في مُحكم كتابه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
وهكذا اعترفتُم بعظمة القرآن؛ وحاولتُم أن تغالطوا في قيمة المنزل عليه القرآن.
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ... } [الرعد: 7]
فلماذا إذنْ قُلْتم واعترفتم أنَّ له رباً؟ أمَا كان يجب أن تعترفوا برسالته وتُعلنون إيمانكم به وبالرسالة، وقد سبق أنْ قالوا: إن ربَّ محمد قد قَلاَه.
وهذا القول يعني أنهم اعترفوا بأن له رباً؛ فلماذا اعترفوا به في الهَجْر وأنكروه في الوَصْل.
وإذا كانوا يطلبون منك معجزة غير القرآن فاعلم يا محمد أن ربك هو الذي يرسل المعجزات؛ وهو الذي يُحدِّد المعجزة بكل رسول(12/7226)
حسب ما نبغ فيه القوم المُرْسَل إليهم الرسول، وأنت يا محمد مُنْذر فقط؛ أي مُحذِّر: { ... إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]
فكل قوم لهم هَادٍ، يهديهم بالآيات التي تناسب القوم؛ فبنو إسرائيل كانوا مُتفوِّقين في السحر؛ لذلك جاءت معجزة موسى من لَوْنِ ما نبغوا فيه؛ وقوم عيسى كانوا مُتفوقين في الطب؛ لذلك كانت معجزة عيسى من نوع ما نبغوا فيه.
وهكذا نرى أن لكل قوم هادياً، ومعه معجزة تناسب قومه؛ ولذلك رَدَّّ الله عليهم الرد المُفْحم حين قالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ ترقى فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ... }
[الإسراء: 90 - 93]
فيقول الحق سبحانه:(12/7227)
{ ... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 93 - 95]
ويأتي الرد من الحق سبحانه: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ... } [الإسراء: 59]
أي: أن قوماً قبلكم طلبوا ما أرادوا من الآيات؛ وأرسلها لهم الله؛ ومع ذلك كفروا؛ لأن الكفر يخلع ثوب العِنَاد على الكافر؛ لأن الكافر مُصَمِّم على الكفر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ ... }(12/7228)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
وما المناسبة التي يقول فيها الحق ذلك؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يؤكد مسألة أن لكل قوم هادياً، وأن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو منذر، وأن طلبهم للآيات المعجزة هو ابنٌ لرغبتهم في تعجيز الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(12/7228)
ولو جاء لهم الرسول بآية مما طلبوا لأصرُّوا على الكفر، فهو سبحانه العَالِم بما سوف يفعلون، لأنه يعلم ما هو أخفى من ذلك؛ يعلم على سبيل المثال ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
ونحن نعلم أن كُلَّ أنثى حين يشاء الله لها أن تحبل؛ فهي تحمل الجنين في رحمها؛ لأن الرحم هو مُسْتقرُّ الجنين في بطن الأم.
وقوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ ... } [الرعد: 8]
أي: ما تُنقص وما تُذهب من السَّقْط في أي إجهاض، أو ما ينقص من المواليد بالموت؛ فغاضت الأرحام، أي: نزلتْ المواليد قبل أن تكتمل خِلْقتها؛ كأن ينقص المولود عيناً أو إصبعاً؛ أو تحمل الخِلْقة زيادة تختلف عما نألفه من الخَلْق الطبيعي؛ كأن يزيد إصبع أو أن يكون برأسين.
أو أن تكون الزيادة في العدد؛ أي: أن تلد المرأة تَوْأماً أو أكثر، أو أن تكون الزيادة متعلقة بزمن الحَمْل.
وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام. أي: ما تنقصه في التكوين العادي أو تزيده، أو يكون النظر إلى الزمن؛ كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم أو شهر أو شهران، ثم إلى ستة أشهر؛ وعند ذلك لا يقال إجهاض؛ بل يقال ولادة.
وهناك مَنْ يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور(12/7229)
أو ثمانية شهور؛ وقد يمتد الميلاد لسنتين عند أبي حنيفة؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي؛ أو لخمس سنين عند الإمام مالك، ذلك أن مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويُقال: إن الضحاك وُلِد لسنتين في بطن أمه، وهرم بن حيان وُلِد لأربع سنين؛ وظل أهل أمه يلاحظون كِبَر بطنها؛ واختفاء الطَّمْث الشهري طوال تلك المدة؛ ثم ولدتْ صاحبنا؛ ولذلك سموه «هرم» أي: شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى «تغيض» نَقْصاً أو زيادة؛ سواء في الخِلْقة أو للمدة الزمنية.
ويقول الحق سبحانه: { ... وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8]
والمقدار هو الكمية أو الكيف؛ زماناً أو مكاناً، أو مواهب ومؤهلات.
وقد عَدَّد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام ... } [لقمان: 34](12/7230)
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالاً هنا، ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي، وهذا التقدم يتطرق إليه الاحتمال، وكل شيء يتطرق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وذلك بمعرفة نوعية الجنين قبل الميلاد، أهو ذكر أم أنثى؟ وتناسَوْا أن العلم لم يعرف أهو طويل أم قصير؟ ذكي أم غبي؟ شقي أم سعيد؟ وهذا ما أعجز الأطباء والباحثين إلى اليوم وما بعد اليوم.
ثم إنْ سألتَ كيف عرف الطبيب ذلك؟
إنه يعرف هذا الأمر من بعد أن يحدث الحَمْل؛ ويأخذ عينة من السائل المحيط بالجنين، ثم يقوم بتحليلها، لكن الله يعلم دون أخذ عينة، وهو سبحانه الذي قال لواحد من عباده: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى ... } [مريم: 7]
وهكذا نعلم أن عِلْم الله لا ينتظر عيِّنة أو تجربة، فعِلْمه سبحانه أزليّ؛ منزه عن القصور، وهو يعلم ما في الأرحام على أي شكل هو أو لون أو جنس أو ذكاء أو سعادة أو شقاء أو عدد.
وشاء سبحانه أن يجلي طلاقة قدرته في أنْ تحمل امرأة زكريا عليه السلام في يحيى عليه السلام، وهو الذي خلق آدم بلا أب أو أم؛ ثم خلق حواء من أب دون أم؛ وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقنا كلنا من أب وأم، وحين تشاء طلاقة القدرة؛ يقول سبحانه: { ... كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]
والمثل كما قلت هو في دخول زكريا المحرابَ على مريم عليها السلام؛ فوجد عندها رزقاً؛ فسألها: {أنى لَكِ هذا ... } [آل عمران: 37](12/7231)
قالت: { ... هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37]
وكان زكريا يعلم أن الله يرزق مَنْ يشاء بغير حساب؛ ولكن هذا العلم كان في حاشية شعوره؛ واستدعاه قول مريم إلى بُؤْرة الشعور، فزكريا يعلم عِلْم اليقين أن الله هو وحده مَنْ يرزق بغير حساب.
وما أنْ يأتي هذا القول مُحرِّكاً لتلك الحقيقة الإيمانية من حافة الشعور إلى بُؤْرة الشعور؛ حتى يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد؛ فيبشره الحق بالولد.
وحين يتذكر زكريا أنه قد بلغ من الكبر عتياً، وأن امرأته عاقر؛ فيُذكِّره الحق سبحانه بأن عطاء الولد أمر هَيِّن عليه سبحانه: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} [مريم: 9]
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{عَالِمُ الغيب والشهادة ... }(12/7232)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
ومَنْ كُلُّ شيء عنده بمقدار؛ لا يغيب عنه شيء أبداً، وما يحدث لأيِّ إنسان في المستقبل بعد أن يُولَد هو غيب؛ لكن المُطَّلع عليه وحده هو الله.(12/7232)
وكأن هناك «نموذجاً» مُصَغَّراً يعلمه الله أولاً؛ وإن اطلع عليه الإنسان في أواخر العمر؛ لوجده مطابقاً لِمَا أراده وعلمه الله أولاً؛ فلا شيء يتأبَّى عليه سبحانه؛ فكُلُّ شيء عنده بمقدار.
وهو عالم الغيب والشهادة؛ يعلمُ ما خَفِي من حجاب الماضي أو المستقبل، وكُلّ ما غاب عن الإنسان، ويعلم من باب أَوْلَى المشهودَ من الإنسان، فلم يقتصر علمه على الغيب، وترك المشهود بغير علم منه؛ لا بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود: {عَالِمُ الغيب والشهادة الكبير المتعال} [الرعد: 9]
والكبير اسم من أسماء الله الحسنى؛ وهناك مَنْ تساءل: ولماذا لا يوجد «الأكبر» ضمن أسماء الله الحسنى؛ ويوجد فقط قولنا «الله اكبر» في شعائر الصلاة؟
وأقول: لأن مقابل الكبير الصغير، وكل شيء بالنسبة لمُوجِده هو صغير. ونحن نقول في أذان الصلاة «الله اكبر» ؛ لأنه يُخرِجك من عملك الذي أوكله إليك، وهو عمارة الكون؛ لتستعين به خلال عبادتك له وتطبيق منهجه، فيمدُّك بالقوة التي تمارس بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من مأكل، ومَلْبس، وسَتْر عورة.
إذن: فكلُّ الأعمال مطلوبة حتى لإقامة العبادة، فإياك أن تقول: إن الله كبير والباقي صغير، لأن الباقي فيه من الأمور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم الأكبر؛ ولكن الله أكبرُ مِنَّا؛ ونقولها حين يُطلَب منا أن نخرج من أعمالنا لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون، ومطلوب حتى لإقامة العبادة، ولن توجد لك قوة لتعبد ربك لو لم يُقوِّك ربُّك على عبادته؛(12/7233)
فهو الذي يستبقي لك قُوتَك بالطعام والشراب، ولن تطعم أو تشرب؛ لو لم تحرُثْ وتبذر وتصنع، وكل ذلك يتيح لك قوة لِتُصلي وتُزكي وتحُج؛ وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وسبق أنْ قُلت: إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلاة الجمعة قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9]
وهكذا يُخرِجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلاة الموقوتة؛ ثم يأتي قول الحق سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل، وهو أمر كبير إلى ما هو أكبر؛ وهو أداء الصلاة.
وقول الحق سبحانه في وصف نفسه (المتعال) يعني أنه المُنزَّه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً؛ فلا ذات كذاته؛ ولا صفة كصفاته، ولا فعل كفعله، وكل ما له سبحانه يليق به وحده، ولا يتشابه أبداً مع غيره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول ... }(12/7234)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
وساعة تسمع كلمة «سواء» فالمقصود بها عدد لا يقل عن اثنين، فنقول «سواء زيد وعمرو» أو «سواء زيد وعمر وبكر وخالد» .
والمقصود هنا أنه مادام الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة؛ فأي سر يوجد لابد أن يعلمه سبحانه، وهو سبحانه القائل: {الرحمن عَلَى العرش استوى لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} [طه: 5 - 7]
وهل السر هو ما ائتمنتَ عليه غيرك؟ إذا كان السر هو ذلك؛ فالأخْفَى هو ما بَقِى عندك، وإنْ كان السر بمعنى ما يوجد عندك ولم تَقُلْه لأحد؛ فسبحانه يعلمه قبل أن يكون سراً.
ويتابع سبحانه: { ... هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10]
وهكذا جمع الحق سبحانه هنا كل أنواع العمل؛ فالعمل كما نعلم هو شغل الجوارح بمتعلقاتها؛ فعمل اللسان أن يقول وأن يذوق، وعمل الأيدي أن تفعل، وعمل الأذن أن تسمع، وعمل القلب هو النية، والعمل كما نعلم يكون مرَّة قَوْلاً، ومرَّة يكون فِعْلاً.
وهكذا نجد «القول» وقد أخذ مساحة نصف «العمل» ، لأن البلاغ عن الله قول، وعمل الجوارح خاضعِ لِمَقُول القول من الحق سبحانه وتعالى.(12/7235)
ولذلك أوضح لنا الحق سبحانه أن العمل هو كُلُّ فعل متعلق بالجوارح؛ وأخذ القول شِقاً بمفرده؛ وأخذتْ أفعال الجوارح الشِّقَّ الآخر؛ لأن عمل بقية الجوارح يدخل في إطار ما سمع من منهج الله.
ولذلك تجمع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها كل العمل من قَََوْل وفعل: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10]
ومَنْ يستخفي بالليل لابد أنه يُدبِّر أمراً؛ كأن يريد أن يتسمَّع ما وراء كل حركة؛ أو ينظر ما يمكن أنْ يشاهده، وكذلك مَنْ يبرز ويظهر في النهار فالله عالم به.
وكان على الكفار أن ينتبهوا لأمر عجيب كانوا يُسِرُّونه في أنفسهم؛ لحظة أنْ حكى الله؛ فقال: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ ... } [المجادلة: 8]
فكيف عَلِمَ الله ذلك لولا أنه يعلم السِّرَّ وأخْفَي؟
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ ... }(12/7236)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وكلمة (له) تفيد النفعية، فإذا قلت «لك كذا» فهي عكس أن نقول «عليك كذا» . وحين يقول سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ... } [الرعد: 11]
فكأنَّ المُعقِّبات لصالح الإنسان. و «مُعقِّبات» جمع مؤنث، والمفرد «مُعقِّبة» ، أي: أن للحق سبحانه وتعالى ملائكة يتناوبون على حراسة الإنسان وحِفْظه ليلاً ونهاراً من الأشياء التي لا يمكن الاحتراز منها.
والمَثَلُ هو تلك الإحصاءات التي خرجت عن البشر الذين تلدغهم الثعابين، فقد ثبت أنها لا تلدغهم وهم نائمون؛ بل في أثناء صَحْوتهم؛ أي: ساعةَ يكونون في ستْر النوم فهناك ما يحفظهم؛ أما في اليقظة فقد يتصرَّف الإنسان بطَيْشٍ وغَفْلة فتلدغه الأفعى.
ونحن نقول في أمثالنا الشعبية: «العين عليها حارس» ؛ ونلحظ كثيراً من الأحداث التي تبدو لنا غريبة كأنْ يسقط طفل من نافذة دور علوي؛ فلا يُصَاب بسوء؛ لأن الحق سبحانه شاء أن تحفظه الملائكة المُعقِّبات من السُّوء؛ لأن مهمة الحَفَظة أن يحفظوا الإنسان من كُلِّ سوء.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه قد أعدَّ للإنسان الكونَ قبل أن يخلقه ليستخلفه فيه؛ أعدَّ السماوات وأعدَّ الأرض؛ وسَخَّر الشمس والقمر؛ وأخرج الثمراتِ؛ وجعل الليل يَغْشَى النهارَ.
وكُلُّ ذلك أعدَّه سبحانه للخليفة قبل أن يوجد الخليفة؛ وهو سبحانه قَيُّوم على هذا الخليفة؛ فيصونه أيضاً بعد الخَلْق، ولا يَدَعُه لمقومات نفسه ليدافع عنها فيما لا يستطيع الدفاع عنها، ويُكلِّف الله الملائكة المُعقِّبات بذلك.(12/7237)
وقد ينصرف معنى المُعقِّبات إلى الملائكة الذين يتعقَّبون أفعال الإنسان وكتابة حسناته وكتابة سيئاته، ويمكن أن يقوما بالعملين معاً؛ حِفْظه وكتابة أعماله، فإن كتبوا له الحسنات فهذا لصالحه.
ولقائل أن يقول: ولكنهم سيكتبون السيئات؛ وهذه على الإنسان وليست له.
وأقول: لا؛ ويَحْسُن أن نفهم جيداً عن المُشرِّع الأعلى؛ ونعلم أن الإنسان إذا ما عرف أن السيئة ستُحْسب عليه وتُحْصى؛ وتُكتب؛ يمسك كتابه ليقرأه؛ فلسوف يبتعد عن فعل السيئات.
وهكذا يكون الأمر في مصلحته، مَثَلُه مَثَلُ الطالب الذي يرى المراقب في لجنة الامتحان، فلا يكرهه؛ لأنه يحمي حَقَّه في الحصول على التقدير الصحيح؛ بدلاً من أن يِِغُشَّ غيره، فيأخذ فرصة أكبر منه في التقدير والنجاح؛ فضلاً عن أن كل الطلبة يعلمون أن وجود المراقب اليَقِظ هو دافعٌ لهم لِلمُذَاكرة.
ولذلك أقول دائماً: إياك أنْ تكره أن يكون لك أعداء؛ لأن الذي يَغُرُّ الإنسانَ في سلوكه هو نفاقُ أصحابه له، أما عدوك فهو يفتح عينيه عليك طوال الوقت؛ ولذلك فأنت تحذر أن تقع في الخطأ.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
عِدَاي لَهُمْ فَضْل عليَّ ... فتعدَّى لهم شكر على نفعهم ليا
فَهم كَالدَّواءِ والشِّفَاءِ لِمُزْمنٍ ... فَلا أبعدَ الرحْمَانُ عنِّي الأعَادِيَا
هُمْ بَحثُوا عَنْ زَلَّتي فاجتْنبْتُهَا ... فَأصْبَحتُ مِمَّا ذله العربُ خَاليَا(12/7238)
إذن: فكتابة الحسنات والسيئات هي مسألةٌ لصالح الإنسان؛ وحين يتَعاقبُونَ على الإنسان؛ فكأنهم يصنعون دَوْريَّاتٍ لحماية الفرد؛ ولذلك نجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهُمْ يصلون، وتركناهم وهُمْ يُصلُّون» .
وكأن الملائكة دوريات.
ويقول الحق سبحانه: { ... إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78]
أي: أن ملائكة الليل يشهدون؛ ومعهم ملائكة النهار.
وحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملحوظ فيه الوقت الزمني للحركة الإنسانية؛ فَكُلُّ حركات الإنسان وعمله يكون من الصبح إلى(12/7239)
العصر، ثم يرتاح الإنسان غالباً من بعد ذلك؛ ثم ينام.
والمُعقِّبات يَكُنَّ من بين يدي الإنسان ومن خلفه؛ و (من بين يديه) من أجل الرصد، ولذلك وجدنا أبا بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أثناء الهجرة النبوية كان يسير بعض الوقت أمام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وكان يسير البعض الآخر خلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
كان أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يتقدم ليرقب: هل هناك مَنْ يرصد الرسول أم لا؟ ثم يتراجع إلى الخلف ليمسح كل المكان بنظره ليرقب: أهناك مَنْ يتتبعهما؟ وهكذا حرص أبو بكر على أنْ يحمي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الرَّصد أو التربُّص.
ويقول الحق سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ... } [الرعد: 11]
والسطحيّ يقول: إن تلك الملائكة يحفظون الإنسان من الأمر المراد به من الله.
ونقول: إن الله لم يُنزِل الملائكة ليعارضوا قَدَره؛ وهذا الحفظ لا يكون من ذات الإنسان لنفسه، أو من الملائكة ضد قَدَر الله؛ والمعنى هنا ينصرف إلى أن الملائكة إنما يحفظون الإنسان بأمر الله.(12/7240)
ولذلك نجد في القرآن قول الحق سبحانه: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ ... } [نوح: 25]
أي: بسبب خطيئتهم أغرقوا، فإياك أنْ تظن أنَّ الملائكة يحفظون الإنسان من قَََدَر الله؛ لأننا نعلم أن الحق سبحانه إذا أراد أمراً فلا رَادَّ له.
ويتابع سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... } [الرعد: 11]
وهو سبحانه الذي خلق الكون الواسع بكل أجناسه؛ جماداً ونباتاً وحيواناً وأفلاكاً وأملاكاً؛ وجعل كل ذلك مُسخَّراً للإنسان؛ ثم يحفظ الحق سبحانه الإنسان ويصونه بقيوميته.
وقد يقول قائل: ولماذا إذن تحدث الابتلاءات لبعض من الناس؛ رغم أنه سبحانه قد قال إنه يحفظهم؟
ونقول: إن تلك الابتلاءات إنما تجري إذا ما غَيَّر البشر من منهج الله؛ لأن الصيانة تُقوِّم ما قام بالمنهج.
واقرءوا قَوْل الحق سبحانه: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}
[النحل: 112](12/7241)
وهكذا نعلم أن الصيانة للإنسان والحفظ له والإمداد له من قبل أن يُولَد؛ كُلُّ ذلك لن يرجع عنه الله مادام الإنسان يمشي على صراط مستقيم؛ لكن إذا ما حَادَ الإنسان عن الصراط المستقيم؛ فيلفته الله ببعض من العِبَر والعظات ليعود إلى الصراط المستقيم.
والتغيير الذي يُجرِيه الله على البشر حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم؛ يشمل الإمدادات الفرعية؛ أما الإمدادات الأصلية فلا يمنعها عنهم مثل الشمس والقمر والنجوم والهواء؛ ولم يمنع الأرض أن تُخرِج لهم المياه.
ويصيبهم في الأشياء التي من الممكن أن يسير الكون في انتظامه رغم حدوثها؛ كالمصيبة في المال أو المصيبة في النفس؛ ويظل الكون على مسيرته المنتظمة.
ولهذا نجد أحد الفلاسفة وقد قال: «إن الله لا يتغير من أجلكم؛ ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله» .
وسبق أن قال الحق سبحانه: { ... فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123]
وهو القائل سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ... } [طه: 124](12/7242)
وأنت ترى في عالمنا المعاصر مجتمعاتٍ مُتْرَفة؛ نستورد منهم أدوات الحضارة المعاصرة؛ لكنهم يعيشون في الضَّنْك النفسي البالغ؛ وهذا ما يُثبت أن الثراءَ المادي بالنقود أو أدوات الحضارة؛ لا يُحقِّق للإنسان التوازن النفسي أو السعادة؛ وينطبق عليهم ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ:
ليسَ الحمْلَ مَا أَطَاقَ الظَّهْرُ ... مَا الحمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْر
فقد يكون الثراء المادي في ظَنِّ البعض هو الحُلْم؛ فيجنح الإنسان إلى الطريق غير السَّوي بما فيه من عُمولات؛ وعدم أمانة؛ ورغم النقود التي قد يكتنزها هذا الإنسان، إلا أن الأمراض النفسية أو الأمراض العضوية تفتِكُ به.
وهكذا نجد الحق سبحانه وهو يُغيِّر ولا يتغيَّر؛ فهو المُغيِّر لا المُتغيِّر.
وقول الحق سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... } [الرعد: 11]
يُوضِّح لنا أن أعمال الجوارح ناشئةٌ من نَبْعِ نفس تُحرِّك الجوارح؛ وحين تصلح النفس؛ تصبح الجوارح مستقيمة؛ وحين تفسد النفس تصير الجوارح غير مستقيمة.(12/7243)
فالحق سبحانه وتعالى أخضع كل الجوارح لِمُرادَات النفس، فلو كانت النفسُ مخالفةً لمنهج الله؛ فاللسان خاضع لها؛ ولا ينطق رغم إرادته بالتوحيد؛ لأن النفسَ التي تديره مخالفةٌ للإيمان.
والمَثَل: هم هؤلاء الذين نسبوا الرسل الذين اختارهم الله؛ فادَّعَوْا أنهم أبناءُ الله؛ وسبحانه مُنزَّهٌ عن ذلك؛ أما إذا كانت النفس مؤمنةً فهي تأمرُ اللسان أن يقول كلمة التوحيد؛ ويسعد هو بذلك؛ لكنه في الحالتين لا يعصي النفس التي سَخَّره لها الله.
وهكذا تكون الجوارح مُنفعِلَة لإرادة صاحبها، ولا تنحلُّ الإرادة البشرية عن الجوارح إلا حين يشاء الله ذلك في اليوم الآخر، وفي الموقف الحق.
ولحظتَها لن يستطيع أحد أنْ يسيطر على جوارحه؛ لأن المُلْك يومئذ للواحد القهار؛ وسقطتْ ولاية الفَرْد على جوارحه؛ وتشهد هذه الجوارح على صاحبها بما فعلتْه وَقْتَ أنْ كانت مقهورة لإرادته.
وهكذا نعلم أن التغيير كل في النفس التي تدير الجوارح.
وقول الحق سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ... } [الرعد: 11]
يَدلُّنا أنه سبحانه لا يتدخَّل إلا إذا عَنَّت الأمور؛ وفسد كل المجتمع؛ واختفتْ النفس اللوَّامة من هذا المجتمع؛ واختفى مَنْ(12/7244)
يَقْدِرون على الرَّدْع ولو بالكلمة من هذا المجتمع؛ هنا يتدخل الحق سبحانه.
وحين يُغيِّر الناس ما بأنفسهم، ويُصحِّحون إطلاق الإرادة على الجوارح؛ فتنصلح أعمالهم؛ وإياكم أنْ تظنوا أنَّ هناك شيئاً يتأبَّى على الله.
ولذلك يتابع سبحانه في نفس الآية: {إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ... } [الرعد: 11]
وعليكم أن تأخذوا الأمرين معاً: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ... } [الرعد: 11]
و {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ... } [الرعد: 11]
ثم يقول الحق سبحانه: { ... وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11]
إياك أن تفهم أن هناك سلطة تحُول دون أن يُغيِّر الله ما يريد تغييره؛ ولن يجدوا صَدْراً حَنُوناً آخر يُربِّت عليهم إذا ما أراد الله بهم السُّوء، فليس هناك وَالٍ آخر يأخذهم من الله ويتولَّى شئونهم وأمورهم من جَلْبِ الخير ودَفْعِ الشر.
ولذلك يقول الحق سبحانه: { ... وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} [الرعد: 11](12/7245)
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه عن ظاهرة في الكون لها وجهان وتُسْتقبل استقبالين؛ أحدهما: سَارّ، والآخر: مُزْعِج؛ سواء في النفس الواحدة أو في الجماعة الواحدة.
فيقول الحق سبحانه:
{هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق ... }(12/7246)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
وكُلُّنا يعرف البَرْق، ونحن نستقبله بالخوف مما يُزعِج وبالطمع فيما يُحَبّ ويُرْغَب، فساعةَ يأتي البرق فنحن نخاف من الصواعق؛ لأن الصواعقَ عادة تأتي بعد البَرْق؛ أو تأتي السحابات المُمْطِرة.
وهكذا يأتي الخَوْف والطَّمَع من الظاهرة الواحدة. أو: أنْ يكون الخوف لقوم؛ والرجاء والطمع لقوم آخرين.
والمثل الذي أضربه لذلك دائماً هو قول أحد المقاتلين العرب وصف سيفه بأنه «فَتْح لأحبابه، وحَتْفٌ لأعدائه» .
والمثل الآخر الذي أضربه ما رواه لنا أمير بلدة اسمها «الشريعة» وهي تقع بين الطائف ومكة؛ وقد حدثنا أمير الشريعة عام 1953 عن امرأة صالحة تحفظ القرآن؛ اسمها «آمنة» .
هذه المرأة كان لها بنتان؛ تزوَّجتا؛ وأخذ كُلُّ زَوْجٍ زوجته إلى(12/7246)
مَحَلِّ إقامته؛ وكان أحدُ زَوْجَي البنتين يعمل في الزراعة؛ والآخر يعمل بصناعة «الشُّرُك» . وقالت آمنة لزوجها: ألاَ تذهب لمعرفة أحوال البنتين؟ فذهب الرجل لمعرفة أحوال البنتين، فكان أول مَنْ لقي في رحلته هي ابنته المتزوجة مِمَّنْ يحرث ويبذر، فقال لها: كيف حالك وحال زوجك وحال الدنيا معك أنت وزوجك؟
قالت: يا أَبتِ، أنا معه على خير، وهو معي على خير، وأما حال الدنيا؛ فَادْعُ لنا الله أنْ يُنزِل المطر؛ لأننا حرثنا الأرض وبذرْنَا البذور؛ وفي انتظار رَيِّ السماء.
فرفع الأب يديه إلى السماء وقال: اللهم إنِّي أسألك الغَيْث لها.
وذهب إلى الأخرى؛ وقال لها: ما حالك؟ وما حال زوجك؟ فقالت: خير، وأرجوك يا أبي أن تدعوَ لنا الله أنْ يمنع المطر؛ لأننا قد صنعنا الشِّرَاك من الطين؛ ولو أمطرتْ لَفسدتِ الشُّرُك، فَدَعا لها.
وعاد إلى امرأته التي سألته عن حال البنتين؛ فبدا عليه الضيق وقال: هي سَنة سيئة على واحدة منهما، وروى لها حال البنتين؛ وأضاف: ستكون سنة مُرْهِقة لواحدة منهما.
فقالت له آمنة: لو صبرت؛ لَقُلْتُ لك: إن ما تقوله قد لا يتحقق؛ وسبحانه قادر على ذلك.
قال لها: ونعم بالله، قولي لي كيف؟ فقال آمنة: ألم تقرأ قول الله:(12/7247)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ... } [النور: 43]
فسجد الرجل لله شكراً أن رزقه بزوج تُعينه على أمر دينه، ودعا: اللهم اصْرِف عن صاحب الشِّراكِ المطر؛ وأفِضْ بالمطر على صاحب الحَرْث. وقد كان.
وهذا المثل يوضح جيداً معنى الخوف والطمع عند رؤية الرعد: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً ... } [الرعد: 12]
إما من النفس الواحدة بأن يخافَ الإنسانُ من الصواعق، ويطمع في نزول المطر، أو من متقابلين؛ واحد ينفعه هذا؛ وواحد يضره هذا.
ويضيف الحق سبحانه: { ... وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12](12/7248)
ونحن نعلم أن السحاب هو الغَيْم المُتَراكم؛ ويكون ثقيلاً حين يكون مُعَبئاً؛ وهو عكس السحاب الخفيف الذي يبدو كَنُتَفِ القطن.
ويُقال عند العرب: «لا تستبطئ الخَيْل؛ لأن أبطأَ الدلاء فَيْضاً أملؤها، وأثقلَ السحابِ مَشْياً أَحْفلُهَا» .
فحين تنزل الدَّلْو في البئر؛ وترفعه؛ فالدَّلْو المَلآن هو الذي يُرهقك حين تشدُّه من البئر؛ أما الدلو الفارغ فهو خفيفٌ لحظة جَذْبه خارج البئر؛ وكذلك السحاب الثِّقَال تكون بطيئة لِمَا تحمله من ماء.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ ... }(12/7249)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
وسبق أن جاء الحق سبحانه بذكر البرق وهو ضوئيّ؛ وهنا يأتي بالرعد وهو صوتيّ، ونحن نعرف أن سرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت؛ ولذلك جاء بالبرق أولاً، ثم جاء بالرعد من بعد ذلك.
وحين يسمع أحدُ العامةِ واحداً لا يعجبه كلامه؛ يقول له «(12/7249)
سمعت الرعد» ؛ أي: يطلب له أنْ يسمع الصوت المزعج الذي يُتعِب مَنْ يسمعه. ولنا أن ننتبه أن المُزْعِجات في الكون إذا ما ذكرت مُسَبَّحة لربها فلا تنزعج منها أبداً، ولا تظن أنها نغمة نَشّازٌ في الكون، بل هي نغمة تمتزج ببقية أنغام الكون.
ونحن نفهم أن التسبيح للعاقل القادر على الكلام، ولكن هذا عند الإنسان؛ لأن الذي خلق الكائنات كلها علَّمها كيف تتفاهم، مثلما عَلَّم الإنسان كيف يتفاهم مع بني جنسه؛ وكذلك عَلَّم كل جنس لغته.
وكلنا نقرأ في القرآن ماذا قالت النملة حين رأتْ جنودَ سليمان: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [النمل: 18]
وقد سمعها سليمان عليه السلام؛ لأن الله علَّمه مَنْطِق تلك اللغات، ونحن نعلم أن الحق سبحانه عَلَّم سليمان منطق الطير، قال تعالى: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير ... } [النمل: 16]
ألم يتخاطب سليمان عليه السلام مع الهدهد وتكلَّم معه؟ بعد أن فَكَّ سليمان بتعليم الله له شَفْرة حديث الهدهد؛ وقال الهدهد لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 22 - 23]
إذن: فكُلُّ شيء له لغة يتفاهم بها لقضاء مصالحه، ومَنْ يفيض الله عليه من أسرار خَلْقه يُسْمِعه هذه اللغات، وقد فاض الحقُّ سبحانه على سليمان بذلك، ففهم لغةَ الطير وتكلَّم بها مع الهدهد؛ وقال له:(12/7250)
{اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: 28]
وهكذا عرفنا بقصة سليمان وبلقيس؛ وكيف فَهم سليمان مَنْطِق الطير وتكلَّم بها مع الهدهد؟ وهكذا عَلِمنا كيف يتعلَّم الإنسان لغاتٍ متعددةً؛ فحين يذهب إنسان إلى مجتمع آخر ويبقى به مُدَّة؛ فهو يتعلم لغة ذلك المجتمع، ويمكن للإنسان أن يتعلم أكثر من لغة.
وقد عرض الحق سبحانه مسألة وجود لغاتٍ للكائنات في قصة النملة وقصة الهدهد مع سليمان؛ وهما من المرتبة التالية للبشر، ويعرض الحق سبحانه أيضاً قضية وجود لغة لكل كائن من مخلوقاته في قوله: { ... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 79]
وكأن الجبال تفهم تسبيح داود وتُردِّده من خلفه.
أيضاً يقول الحق سبحانه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 18 - 19]
وكذلك يخاطب الله الأرض والسماء، فيقول: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ... } [فصلت: 11]
فيمتثلان لأمره: { ... قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ}(12/7251)
[فصلت: 11]
وهكذا نعلم أن لكل جنس لغةً يتفاهم بها، ونحن نلحظ أن لكل نوع من الحيوانات صَوْتاً يختلف من نوع إلى آخر، ويدرس العلماء الآن لُغةَ الأسماك، ويحاولون أنْ يضعوا لها مُعْجماً.
إذن: فساعة تسمع: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ... } [الإسراء: 44]
فافهم أن ما من كائن إلا وله لغة، وهو يُسبِّح بها الخالق الأكرم.
ثم يقول تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... } [الإسراء: 44]
مثلما لا يفقه جاهل بالإنجليزية لغة الإنجليز.
وقال البعض: إن المُرَاد هنا هو تسبيح الدلالة على الخالق؛ وقد حكم سبحانه بأننا لا نستطيع فَهْم تسبيح الدلالة.
ولكني أقول: إن العلم المعاصر قد توصَّل إلى دراسة لغات الكائنات وأثبتها؛ وعلى ذلك يكون التسبيح من الكائنات بالنطق والتفاهم بين مُتكلِّم وسامع، بل ولتلك الكائنات عواطف أيضاً.(12/7252)
ونحن نرى العلماء في عصرنا يدرسون عواطف الشجر تجاه مَنْ يسقيه من البشر، وهنا تجربة تتحدث عن قياس العلماء لذبذبة النبات أثناء رَيِّه بواسطة مُزارِع مسئول عنه؛ ثم مات للرجل؛ فقاسوا ذبذبة تلك النباتات؛ فوجدوها ذبذبة مضطربة؛ وكأن تلك النباتات قد حزنتْ على مَنْ كان يعتني بها؛ وهكذا توصَّل العلماء إلى معرفة أن النباتات لها عواطف.
وقد بين لنا الحق سبحانه أن الجمادات لها أيضاً عواطف؛ بدليل قوله عن قوم فرعون: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض ... } [الدخان: 29]
فالسماء والأرض قد استراحتا لذهاب هؤلاء الأشرار عن الأرض، فالسماوات والأرض ملتزمتان مع الكون التزاماً لا تخرج به عن مُرادات الله، وحين يأتي كافر ليصنع بكفره نشازاً مع الكون؛ فهي تفرح عند اختفائه ولا تحزن عليه.
ومادامت السماء والأرض لا تبكيان على الكافر عند رحيله؛ فلابد أنها تفرحان عند هذا الرحيل؛ ولابد أنهما تبكيان عند رحيل المؤمن.
ولذلك نجد قَوْل الإمام علي كرم الله وجهه: إذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان؛ موضع في السماء، وموضع في الأرض؛ وأما(12/7253)
موضعه في الأرض فَموضِع مُصَلاَّه؛ وأما موضعه في السماء فَمصَعدُ عمله «.
وهكذا نجد أن معنى قول الحق سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ ... } [الرعد: 13]
أي: يُنزِّه الرعد ويُمجِّد اسم الحق تبارك وتعالى تسبيحاً مصحوباً بالحمد.
ونحن حين نُنزِّه ذات الله عن أن تكون مثل بقية الذوات، وحين ننزه فِعْل الله عن أن يكون كأفعال غيره سبحانه، وحين ننزه صفات الله عن أن تكون كالصفات، فلابد أن يكون ذلك مصحوباً بالحمد له سبحانه؛ لأنه مُنزَّه عن كل تلك الأغيار، وعلينا أنْ نُسَرَّ من أنه مُنزَّه.
ويقول تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ ... } [الرعد: 13]
ولقائل أنْ يتساءل: كيف تخاف الملائكة من الله؟ وهم الذين قال فيهم الحق سبحانه: { ... لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
وأقول: إن الملائكة يخافون الله خِيفة المَهابة، وخيفة الجلال.
ونحن نرى في حياتنا مَنْ يحب رئيسه أو قائده؛ فيكون خوفه مَهَابة؛ فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى الذي تُحبه ملائكته وتَهاب جلاله وكماله، صحيح أن الملائكة مقهورون، لكنهم يخافون ربَّهم من فوقهم.
وساعة تسمع الملائكةُ الرعدَ فهم لا يخافون على أنفسهم؛(12/7254)
ولكنهم يخافون على الناس؛ لأنهم حفظة عليهم؛ فالملائكة تعي مهمتها كحفظة على البشر؛ وتخشى أن يربكهم أيُّ أمر؛ وهم يستغفرون لِمَنْ في الأرض.
إذن: فقوله: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ ... } [الرعد: 13]
يُبيِّن لنا أن الملائكة تخاف على البشر من الرعد؛ فَهُمْ مُكلَّفون بحمايتهم، مع خوفهم من الله مهابة وإجلالاً.
ويقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديث الشريف: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: الله أعط منفقاً خلفاً. ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً» .
وقد يظُنُّ ظَانٌّ أن هذه دعوة ضد المُمْسِك؛ ولكني أقول: لماذا لا تأخذها على أنها دعوة خَيْر؟ فالمُنفِق قد أخذ ثواباً على ما أدَّى من حسنات؛ أما المُمْسِك فحين يبتليه الله بتلفِ بعضٍ من ماله؛ ويصبر على ذلك؛ فهو يأخذ جزاء الصبر.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: { ... وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال} [الرعد: 13](12/7255)
ولابُدَّ من وجود حَدَثٍ أليم في الكون لينتبه هؤلاء الناس من غفلتهم؛ وها هو ذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقد جاءه اثنان من المعاندين الكبار أربد بن ربيعة؛ أخو لبيد بن ربيعة، وعامر بن الطُّفَيْل؛ لِيُجادلاه بهدف التلكُّؤ والبحث عن هَفْوة فيما يقوله أو عَجْزٍ في معرفته، والمثل ما قاله مجادلون مثلهم، وأورده القرآن الكريم: { ... أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82]
وكذلك استعجال بعض من المجادلين للعذاب.
وجاء هذان الاثنان وقالا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هل ربنا مصنوع من الحديد أم من النحاس؟ وهما قد قالا ذلك لأنهما من عَبَدة الأصنام المصنوعة من الحجارة، والأقوى من الحجارة هو الحديد أو النحاس؛ فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فنزلت صاعقة؛ فأحرقتهما.
وإرسال الصواعق هنا آية قرآنية، ولابد وأن تأتي آية كونية تصدقها؛ وقد حدثت تلك الآية الكونية.
ويقول الحق سبحانه: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله ... } [الرعد: 13]
والجدال في الله أنواع متعددة؛ جدال في ذاته؛ وجدال في(12/7256)
صفاته، أو جدال في الحسنة والسيئة، وقد جادلوا أيضاً في إنزال آية مادية عليه؛ لأنهم لم يكتفوا بالقرآن كآية؛ على الرغم من أن القرآن آية معجزة ومن جنس ما برعوا فيه، وهو اللغة.
وقد جادلوا أيضاً في الرعد؛ وقالوا: إن الرعد ليس له عَقْل لِيُسبح؛ والملائكة لا تكليفَ لها؛ فكيف تُسبِّح؟
ولكن الحق سبحانه قال: إنه قادر على أن يُرسِل الصواعق ويصيب بها مَنْ يشاء؛ فيأتي بالخير لِمَنْ يشاء؛ ويصيب بالضر مَنْ يشاء.
فهل هُمْ يملكون كل الوقت لهذا الجدل؛ بعد أن خلق كل هذا الكون؟
هل لديكم الوقت لكل تلك المُمَاراة بقصد الجَدَل والعناد المذموم؟
فالجدل في حَدِّ ذاته قد يَحْسُن استخدامه وقد يُسَاء استخدامه؛ والحق سبحانه قال لنا: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ ... } [العنكبوت: 46]
وقال أيضاً: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله ... } [المجادلة: 1](12/7257)
وهذا جَدَلٌ المراد منه الوصول إلى الحق.
ويُذيِّل الله آية سورة الرعد بقوله: { ... وَهُوَ شَدِيدُ المحال} [الرعد: 13]
ويقال: «محل فلان بفلان» أي: كَادَ له كيداً خفياً ومكر به، والمحَال هو الكَيْد والتدبير الخفيّ، ومَنْ يلجأون إليه من البشر هُم الضِّعاف الذين يعجزون عن مواجهة الخَصْم علانية، فيبُيِّتون له بإخفاء وسائل الإيلام.
وهذا يحدث بين البشر وبعضهم البعض؛ لأن البشر لا يعلمون الغيب؛ لكن حين يكيد الله؛ فلا أحدَ بقادر على كَيْده، وهو القائل سبحانه: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 15 - 17]
لأن كيد الله لا غالب له؛ وهو كَيْد غير مفضوح لأحد، ولذلك قال تعالى: { ... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30]
هُمْ أرادوا أن يُبيِّتوا لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وأرادوا قَتْله؛ وجاءوا بشاب من كل قبيلة ليمسك سيفاً كي يتوزع دَمُه بين القبائل، وترصدوا له المرصاد؛ ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت تصاحبه العناية فخرج عليهم ملهماً قوله تعالى: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]
وبذلك أوضح لهم أنهم لن يستطيعوا دَفْع دعوة الإسلام؛(12/7258)
لا مُجَابهة ومُجَاهرة؛ ولا كَيْداً وتبييتاً؛ حتى ولو استعنتُم بالجنِّ؛ فالإنسان قد يمكر ويواجه، وحين يفشل قد يحاول الاستعانة بقوة من جنس آخر له سلطان كسلطان الجن، وحتى ذلك لم يفلح معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد حاولوا بالسحر؛ فكشف الله له بالرؤيا موقع وَضْع السحر.
وذهب بعض من صحابته ليستخرجوا السِّحر من الموقع الذي حدده رسول الله لهم.
وهكذا أوضح لهم الحق سبحانه أن كل ما يفعلونه لن يَحِيق برسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فسبحانه: {غَالِبٌ على أَمْرِهِ ... } [يوسف: 21]
وهكذا كان الحق سبحانه ومازال وسيظل إلى أنْ يرِث الأرضَ ومَنْ عليها، وهو شديد المحال.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ ... }(12/7259)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
وسبحانه قد دعانا إلى أنْ تؤمن بإله واحد وهي دعوة حق،(12/7259)
والذين من دونه يدعون لإله غير حق. والضمير هنا قد يعود إلى الله فكأن الله قد دعا خَلْقه إلى كلمة الحق وهي «لا إله إلا الله» ، وهو سبحانه قد شهد بأنه لا إله إلا هو؛ وشهدتْ الملائكة شهادةَ المشْهد، وشَهِد بها أولو العلم شهادة الاستدلال؛ تلك هي دعوة الحق.
أو «له» أي: للإنسان الذي يدعو إلى الحق، وحين يدعو الإنسان فهذا يدلُّ على أن أمراً قد خرج عن نطاق أسبابه؛ لذلك يدعو مَنْ يعينه على هذا الأمر.
والدعاء لَوْنٌ من الطلب، إلا أن الطلب يختلف باختلاف الطالب والمطلوب منه؛ فإنْ كان الطالبُ أدنى من المطلوب منه لا يُقال له فعل أمر؛ كقولك «اغفر لي يا رب» وهذا لا يقال له فعل أمر؛ بل يقال له دعاء.
وهكذا نرى أنه إن كان فعل الأمر من الأدنى للأعلى؛ لا نسميه فِعْل أمر بل نسميه دعاءً، والطالب الذكيّ هو مَنْ يلحظ أثناء الإعراب إنْ كان المطلوب هو من الأدْنى إلى الأعلى؛ فهو لا يقول «فِعْل أمر» بل يقول «فعل دعاء» مثل قول العبد لله: يا رب اغفر لي، وإن كان المطلوب من مُسَاوٍ؛ فهو يقول «التماس» . وإنْ كان المطلوب قد صدر من الأعلى للأدنى فهو «فعل أمر» .
وحين يدعو الإنسان ربه؛ فهذا يعني أن أسبابَ العبد قد نفِدتْ؛ وهو يلجأ إلى مَنْ يعلو الكون ويملك كل الأسباب، ولذلك فكُلٌّ مِنّا يدعو الله؛ لأنه سبحانه القادر على إنفاذ مطلوب العباد؛ ولا يُعْجِزه شيء.
ولكنْ إنْ دعوتَ مَنْ لا يستطيع؛ فهو دعوةٌ لا تنفع العبد، وهم(12/7260)
كانوا يدعُونَ الأصنام؛ والأصنام لا تضرُّ ولا تنفع؛ فالصنم مِنْ هؤلاء لا يقدر على نفسه أو لنفسه؛ فقد كان من الحجر.
وبطبيعة الحال فالدعاء لمثل تلك الأصنام لا تحقق شيئاً؛ لأنها لا تقدر على أي شيء.
وهكذا يتأكد لنا أن دعوة الحقِّ هي أن تدعوَ القادر؛ أما الذين يدعون المعبودات الباطلة فإنها تخيب من يدعوها في مقصده، ولذلك يقول الحق سبحانه هنا: {لَهُ دَعْوَةُ الحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ ... } [الرعد: 14]
لأنهم لا يملكون شيئاً فالصنم من هؤلاء لا يسمع فكيف يستجيب؟
ثم يضرب الحق سبحانه المَثَل بشيء مُحَسٍّ؛ نفعله كلنا؛ فيقول: {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ... } [الرعد: 14]
فالعطشان ما أنْ يرى ماءً حتى يَمُدَّ يده إليه ليغترف منه؛ لكن يده لا تصل إلى الماء؛ هذا هو الحال مَنْ يدعو غير الله؛ فقد سأل غير القادر على إنفاذ مطلبه، وهكذا يكون دعاء غير الله؛ وهو دعاء في ضلال وفي غير متاهة.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض ... }(12/7261)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
والسجود كما نعرفه حركة من حركات الصلاة، والصلاة هي وَقْفة العبد بين يدي ربه بعد ندائه له، والصلاة أقوال وأفعال مُبْتدأة بالتكبير ومُخْتتمة بالسلام؛ بفرائض وسنن ومستحبات مخصوصة.
والسجود هو الحركة التي تُبرِز كاملَ الخضوع لله؛ فالسجود وَضْع لأعلى ما في الإنسان في مُسْتوى الأدنى وهو قَدَم الإنسان؛ ونجد العامة وهُمْ يقولون: «لا ترفع رأسك عليَّ» أي: لا تتعالى عليّ، لأن رَفْع الرأس معناه التعالي، وتخفيضها بالركوع أو السجود هو إظهارٌ للخضوع، فإذا قال الله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض ... } [الرعد: 15]
عليك أن تفهم أن هذا ما يحدث فعلاً؛ وإنْ لم يتسع ذِهْنك إلى فَهْم السجود كما يحدث منك؛ فليتسع ظنُّك على أنه مُنْتهى الخضوع والذِّلة لله الآمر.
وأنت تعلم أن الكون كله مُسخَّر بأمر الله ولأمر الله، والكون خاضع له سبحانه؛ فإن استجاب الإنسان لأمر الله بالإيمان به فهذا خير. وإنْ لم يستجب الإنسان مثلما يفعل الكافر فعليه سُوء عمله.
ولو استقصيتَ المسألة بدقَّة الفَهْم؛ لوجدتَ أن الكافر إنما يتمرد بإرادته المُسَيطرة على جوارحه؛ لكن بقية أبعاضه مُسخرة؛ وكلها تؤدي عملها بتسخير الله لها، وكلها تُنفِّذ الأوامر الصادرة من الله لها؛ وهكذا يكون الكافر مُتمرداً ببعضه ومُسخَّراً ببعضه الآخر، فحين يُمرِضه الله؛ أيستطيع أنْ يعصي؟(12/7262)
طبعاً لا. وحين يشاء الله أن يُوقِف قلبه أيقدر أن يجعل قلبه يخالف مشيئة الله؟ طبعاً لا.
إذن: فالذي يتعوّد على التمرد على الله في العبادة؛ وله دُرْبة على هذا التمرد؛ عليه أن يُجرِّب التمرد على مرادات الله فيما لا اختيار له فيه؛ وسيقابل العجز عن ذلك.
وعليه أنْ يعرف أنه لم يتمرد بالكفر إلا بما أوسع الله له من اختيار؛ بدليل أن تسعة وتسعين بالمائة من قُدراته محكوم بالقهر؛ وواحد بالمائة من قدراته متروك للاختيار، وهكذا يتأكد التسخير.
وخضوع الكافر في أغلب الأحيان؛ وتمرّده في البعض الآخر؛ هو مُنْتهى العظمة لله؛ فهو لا يجرؤ على التمرد بما أراده الله مُسخَّراً منه.
ولقائل أن يقول: ولماذا قال الله هنا: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض ... } [الرعد: 15]
ولم يقُلْ: «ما في السماوات وما في الأرض» ؟
وأقول: مادام في الأمر هنا سجود؛ فهو دليل على قِمّة العقل؛ وسبحانه قد جعل السجود هنا دليلاً على أنّ كافة الكائنات تعقل حقيقة الألوهية؛ وتعبد الحق سبحانه.
وهو هنا يقول: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً ... } [الرعد: 15]
وهنا يُعلمنا الحق سبحانه أن كل الكائنات ترضخ لله سجوداً؛ سواء المُسَخَّر؛ أو حتى أبعاض الكافر التي يستخدمها بإرادته في الكفر بالله؛ هذه الأبعاض تسجد لله.
ويتابع الحق سبحانه: { ... وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15](12/7263)
ونحن في حياتنا اليومية نسمع مَنْ يقول: «فلان يَتْبع فلاناً كَظِله» ؛ أي: لا يتأبّى عليه أبداً مطلقاً، ويلازمه كأنه الظل؛ ونعلم أن ظِلَّ الإنسان تابعٌ لحركته.
وهكذا نعلم أن الظِّلال نفسها خاضعة لله؛ لأن أصحابها خاضعون لله؛ فالظل يتبع حركته؛ وإياك أنْ تظنَّ أنه خاضع لك؛ بل هو خاضع لله سبحانه.
وسبحانه هنا يُحدِّد تلك المسألة بالغُدوِّ والآصال؛ و «الغدو» جمع «غداة» وهو أول النهار، والآصال هو المسافة الزمنية بين العصر والمغرب.
وأنت حين تقيس ظِلَّك في الصباح ستجد الظِّل طويلاً، وكلما اقتربت من الشمس طال الظل، وكلما اقترب الزوال يقصرُ الظلُّ إلى أنْ يتلاشى؛ وأبزر ما يتمايل الظل بتمايل صاحبه هو في الصبح وبعد العصر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض ... }(12/7264)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
و «قل» هي أمر للرسول أنْ يقول للكافرين، وهناك في آيات أخرى يقول سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87](12/7264)
ولقائل أن يسأل: لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالإجابة؛ ولم يتركْها لتأتي منهم؟
ونقول: إن مجيء الإجابة من الحق هنا عن الذي خلق السماوات والأرض أقوى مِمّا لو جاءت الإجابة منهم.
والمثل من حياتنا؛ ولله المَثَل الأعلى؛ قد تقول لابنك الصغير المُتَشاحِن مع أخيه الكبير: مَنِ الذي جاء لك بالحُلَّة الجديدة؟ فيرتبك خجلاً؛ لأنه يعلم أن مَنْ جاء له بالحلة الجديدة هو أخوه الأكبر الذي تشاحن معه؛ فتقول أنت: جاء لك بها أخوك الأكبر الذي تشاحنتَ معه.
وهنا لحظة أن يقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم ما أمره الله أن يقول: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض ... } [الرعد: 16]
فسوف يرتكبون؛ فيؤكد لهم بعد ذلك ما أمره الله أن يقول: {قُلِ الله ... } [الرعد: 16]
ويتتابع أمر الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيقول له الحق سبحانه: {قُلْ أفاتخذتم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ... } [الرعد: 16]
وهكذا يكشف لهم الرسول ببلاغ الحق سبحانه مدى جهلهم؛ وهم مَنْ سبق لهم الاعتراف بأن الله هو خالق السماوات والأرض؛ ولم يجرؤ واحد منهم على أن ينسب خَلْق السماوات والأرض للأصنام.
وهنا يوضح لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أمر الحقُّ سبحانه بإيضاحه: لقد خلق الله السماوات والأرض أفبعد ذلك تتخذون من(12/7265)
دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً؛ ولا ضراً؟ بدليل أن الصنم من هؤلاء لا يقدر لهم على شيء.
ويتابع الحق سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ... } [الرعد: 16]
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يستوي الأعمى بالمبصر.
وساعة ترى «أَمْ» اعلم أنها ضَرْب انتقالي، وهكذا يستنكر الحق ما فعلوه بالاستفهام عنه؛ لأنه شيء مُنْكر فعلاً: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ ... } [الرعد: 16]
أي: لو كان هؤلاء الشركاء قد خلقوا شيئاً مثل خَلْق الله؛ لَكَان لهم أنْ يعقدوا مقارنة بين خَلْق الله وخَلْق هؤلاء الشركاء؛ ولكن هؤلاء الشركاء الذين جعلوا مشاركين لله في الألوهية لا يَقْدرون على خَلْق شيء؛ فكيف يختارونهم شركاء لله؟
ويأتي الأمر من الحق سبحانه: { ... قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} [الرعد: 16]
وفي آية أخرى يُقدِّم الحق سبحانه تفسيراً لتلك الآية: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ ... } [الحج: 73]
فهؤلاء الشركاء لم يخلقوا شيئاً، ولن يستطيع أحد الإدعاء بأن هؤلاء الشركاء عندهم نية الخَلْق، ولكن مجيء «لن» هنا يُؤكد أنهم حتى بتنبيههم لتلك المسألة؛ فَلَسوف يعجزون عنها؛(12/7266)
لأن نَفْي المستقبل يستدعي التحدِّي؛ رغم أنهم آلهة متعددة؛ ولو اجتمعوا فلن يخلقوا شيئاً.
يستمر التحدي في قوله سبحانه: { ... وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب} [الحج: 73]
أي: لو أخذ الذباب بساقه الرفيعة شيئاً مِمَّا يملكون لَمَا استطاعوا أن يستخلصوه منه.
وهكذا يتضح أن الحق سبحانه وحده هو الخالق لكُلِّ شيء؛ وتلزم عبادته وحده لا شريكَ له؛ وهو جَلَّ وعَلا المتفرِّد بالربوبية والألوهية؛ وهو القهار المتكبر؛ والغالب على أمره أبداً، فكيف يكون مَنْ دونه مساوياً له؟
لذلك لا شريك له أبداً.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً ... }(12/7267)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
وهو سبحانه يُنزِل الماء من جهة العُلو وهو السماء، ونعلم أن الماء يتبخَّر من البحار والأنهار والأرض التي تتفجّر فيها العيون ليتجمع كسحاب؛ ثم يتراكم السحاب بعضُه على بعض؛ ويمرُّ بمنطقة باردة فيتساقط المطر.
ويقول الحق سبحانه: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ... } [الرعد: 17]
والوادي هو المُنْخفض بين الجبلين؛ وساعةَ ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية؛ وكل وَادٍ يستوعب من المياه على اتساعه.
ولنا أن نلحظ أن حكمة الله شاءتْ ذلك كَيْلا يتحول الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لَغرقتْ نتيجة ذلك القرى، ولَخرِبت الزراعات، وتهدمتْ البيوت.
والمَثَل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسباً في الكمية لحجم المَجْرى؛ وكان مثل هذا القَدْر من الفيضان هو الذي يُسعد أهل مصر؛ أما إذا زاد فهو يُمثِّل خطراً يَدْهَم القرى ويخربها.
وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطراً على قدر اتساع الأودية؛ اللهم إلا إذا شاء غير ذلك.
والحق سبحانه هنا يريد أنْ يضرب مثلاً على ما ينفع الناس؛ لذلك جاء بجزئية نزول الماء على قَدْر اتساع الأودية.
ومَنْ رأى مشهد نزول المطر على هذا القَدْر يمكنه أنْ يلحظ أن نزول السَّيْل إنما يكنس كل القَشِّ والقاذورات؛ فتصنع تلك الزوائد(12/7268)
رَغْوةً على سطح الماء الذي يجري في النهر، ثم يندفع الماء إلى المَجْرى؛ لِيُزيح تلك الرَّغاوى جانباً؛ ليسير الماء من بعد ذلك صَافِياً رَقْراقاً. {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً ... } [الرعد: 17]
وهذا المَثَل يدركه أهل البادية؛ لأنها صحراء وجبال ووديان؛ فماذا عن مَثَلٍ يناسب أهل الحضر؟
ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم؛ فيقول: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ... } [الرعد: 17]
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة؛ تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن إلى سائل مَصْهور؛ ويطفو فوق هذا السائل الزَّبَد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل؛ ويبقى المعدن صافياً من بعد ذلك.
والصَّانع يضع الذهب في النار لِيُخلِّصه من الشوائب؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوِّي صلابته؛ أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه «عيار 24» ، والأقل درجة هو الذهب من «عيار 21» ، والأقل من ذلك هو الذهب من «عيار 18» .(12/7269)
والذهب الخالص النقاء يكون ليِّناً؛ لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحُلي.
وهذا هو المَثَلُ المناسب لأهل الحضر؛ حين يصنعون الحلي، وهم أيضاً يصنعون أدواتٍ أخرى يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلاً، وهي لابُدَّ أن تكون من الحديد الصُّلْب؛ ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصَّلابة؛ فإنْ أراد الحدَّاد أن يصنع سيفاً فلابد أنْ يختار له من الحديد نوعيةً تتناسب مع وظائف السيف.
والزَّبَد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح الجبال؛ فضلاً عن غسيل مَجْرى النهر الذي ينزل فيه؛ وعادة ما يتراكم هذا الزَّبَد على الحَوافّ؛ ليبقى الماء صافياً من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل مثلاً فأنت تجد الشوائب، وقد ترسبتْ على جانبي النهر وحَوافّه، وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب، وهو طافٍ فوق الأمواج؛ لِتُلقيه الأمواج على الشاطئ.
وهكذا ضرب الله المَثَل لأهل البدو ولأهل الحضر بما يفيدهم في حياتهم؛ سواء حلية يلبسونها، أو أداة يقاتلون بها، أو أداة أخرى يستخدمونها في أَوْجُه أعمالهم الحياتية؛ وهم في كل ذلك يلجئون إلى تصفية المعادن التي يصنعون منها تلك الحلي أو الأدوات الحياتية ليستخلصوا المعادن من الخَبَث أو الزَّبَد.
وكذلك يفعل الحق سبحانه:(12/7270)
{كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض ... } [الرعد: 17]
وحين يضرب الله الحقَّ والباطل؛ فهو يستخلص ما يفيد الناس؛ ويُذهب ما يضرُّهم، وقوله: {فَيَذْهَبُ جُفَآءً ... } [الرعد: 17]
أي: يبعده؛ ف «جُفَاء» يعني «مَطْروداً» ؛ من الجَفْوة؛ ويُقال: «فلان جَفَا فلاناً» أي: أبعده عنه.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17]
وشاء سبحانه أن يُبيِّن لنا بالأمور الحِسِّية؛ ما يساوي الأمور المعنوية؛ كي يعلمَ الإنسانُ أن الظُّلْمَ حين يستشري ويَعْلو ويَطْمِس الحق، فهو إلى زَوَال؛ مثله مثل الزَّبد.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ... }(12/7271)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
والذين يستجيبون للرب الذي خلق من عَدَم، وأوجد لهم مُقومِّات الحياة واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر؛ فإذا دعاهم لشيء فليعلموا أن ما يطلبه منهم مُتمِّم لصالحهم؛ الذي بدأه بإيجاد كل شيء لهم من البداية.
وهؤلاء الذين يستجيبون لهم الحُسْنى؛ فسبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأنت في الدنيا مَوْكُول لقدرتك على الأَخْذ بالأسباب؛ ولكنك في الآخرة مَوْكُول إلى المُسبِّب.
ففي الدنيا أنت تبذُر وتحرُث وتروي وتحصد، وقد تختلف حياتك شَظفاً وتَرفاً بقدرتك على الأسباب.
فإذا استجبْتَ لله واتبعتَ منهجه؛ فأنت تنتقل إلى حياة أخرى؛ تحيا فيها مع المسبب؛ لا الأسباب؛ فإذا خطر ببالك الشيء تَجِدْهُ أمامك؛ لأنك في الحياة الأخرى لا يكِلك الله إلى الأسباب، بل أنت مَوْكُول لذات الله، والموكول إلى الذَّاتِ بَاقٍ ببقاء الذات.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ ... } [النساء: 175]
وبعض المُفسِّرين يقولون «إنها الجنة» وأقول: هذا تفسير مقبول؛ لأن الجنة من رحمة الله؛ ولكن الجنة باقية بإبقاء الله لها؛ ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله.
وهنا يقول الحق سبحانه:(12/7272)
{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى ... } [الرعد: 18]
ويقول تعالى في آية أخرى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ ... } [يونس: 26]
والحسنى هي الأمر الأحسن؛ وسبحانه خلق لك في الدنيا الأسباب التي تكدح فيها؛ ولكنك في الآخرة تحيا بكل ما تتمنى دون كدح، وهذا هو الحسن.
وهَبْ أن الدنيا ارتقتْ؛ والذين يسافرون إلى الدول المُتقدمة؛ وينزلون في الفنادق الفاخرة؛ يُقال لهم اضغط على هذا الزر تنزل لك القهوة؛ والزِّر الآخر ينزل لك الشاي.
وكل شيء يمكن أن تحصل عليه فَوْر أن تطلبه من المطعم حيث يُعدُّه لك آخرون؛ ولكن مهما ارتقتْ الدنيا فلن تصل إلى أنْ يأتي لك ما يمرُّ على خاطرك فَوْر أنْ تتمناه؛ وهذا لن يحدث إلا في الآخرة.
وكلمة «الحسنى» مُؤنَّثة وأفعل تفضيل؛ ويُقَال «حسنة وحُسْنى» ؛ وفي المذكر يُقَال «حسن وأحسن» . والمقابل لمن لم يستجيبوا معروف.
والحق سبحانه يقول هنا: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ... } [الرعد: 18]
أي: يقول خذوا ما أملك كله واعتقوني، لكن لا يُستجاب له.
ويقول الحق سبحانه:(12/7273)
{ ... أولئك لَهُمْ سواء الحساب وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} [الرعد: 18]
لأن الحساب يترتب عليه مرة خَيْر؛ ويترتب عليه مرة أخرى شَرٌّ؛ وجاء الحق سبحانه بكلمة: {وَبِئْسَ المهاد} [الرعد: 18]
هنا؛ لأن الواحد من هؤلاء والعياذ بالله لن يستطيع أن يتصرف لحظة وَضْعه في النار، كما لا يستطيع الطفل الوليد أن يتصرف في مِهَاده؛ ومن المؤكد أن النار بِئْس المهاد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ... }(12/7274)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
والمؤمن هو مَنْ يعلم أن القرآن الحامل للمنهج هو الذي أنزله سبحانه على رسوله؛ ولا يمكن مقارنته بالكافر وهو الموصوف هنا من الحق سبحانه: {كَمَنْ هُوَ أعمى ... } [الرعد: 19]
وجاء هنا ب «علم» و «عمى» ؛ لأن الآيات الدالة على القدرة من المرئيات.
ويقول الحق سبحانه:(12/7274)
{ ... إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب} [الرعد: 19]
أي: أصحاب العقول القادرة على التدبُّر والتفكُّر والتمييز.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك عن أولي الألباب:
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ... }(12/7275)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
والواحد من أولي الألباب ساعة آمن بالله؛ فهو يعلم أنه قد تعاهد مع الله عهداً بألاَّ يعبد غيره؛ وألاَّ يخضع لغيره؛ وألاَّ يتقرَّب لغيره؛ وألاَّ ينظر أو ينتظر من غيره؛ وهذا هو العهد الأول الإيماني.
ويتفرّع من هذا العهد العقدي الأول كُلُّ عهد يُقطع سواء بالنسبة لله، أو بالنسبة لخَلْق الله؛ لأن الناشئ من عهد الله مثله مثل عهد الله؛ فإذا كنتَ قد آمنتَ بالله؛ فأنت تؤمن بالمنهج الذي أنزله على رسوله؛ وإذا أوفيتَ بالمنهج؛ تكون قد أوفيت بالعهد الأول.
ولذلك نجد كل التكليفات المهمة البارزة القوية في حياة المؤمنين نجد الحق سبحانه يأتي بها في صيغة البناء؛ فيما يسمى «البناء للمجهول» ؛ مثل قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام ... } [البقرة: 183]
وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى ... } [البقرة: 178]
وقوله:(12/7275)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ... } [البقرة: 216]
وكُلُّ التكليفات تأتي مَسْبوقة بكلمة «كُتِب» والذي كتب هو الله؛ وسبحانه لم يُكلِّف إلا من آمن به؛ فساعةَ إعلان إيمانك بالله؛ هي ساعة تعاقدك مع الله على أن تُنفِّذ ما يُكلِّفك به.
وأنت حُرٌّ في أنْ تؤمن أو لا تؤمن؛ لكنك لحظةَ إيمانك بالله تدخل إلى الالتزام بما يُكلِّفك به، وتكون قد دخلت في كتابة التعاقد الإيماني بينك وبين الله.
ولذلك قال الحق سبحانه «كُتِب» ولم يَقُلْ: «كتبْتُ» ؛ لأن العهد بينك وبين الله يقتضي أن تدخلَ أنت شريكاً فيه، وهو سبحانه لم يُكلِّف إلا مَنْ آمن به.
وسبحانه هنا يقول: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20]
أي: أن العهد الإيماني مُوثَّق بما أخذْتَه على نفسك من التزام.
ويواصل سبحانه وَصْفَ هؤلاء بقوله:
{والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله ... }(12/7276)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
وأوَّل ما أمر به الله أَنْ يُوصَل هو صِلَة الرَّحم؛ أي: أن تَصل ما يربطك بهم نَسَبٌ. والمؤمن الحقٌّ إذا سَلْسَل الأنساب؛ فسيدخل(12/7276)
كُلُّ المؤمنين في صِلَة الرَّحم؛ لأن كل المؤمنين رَحِم مُتداخِل؛ فإذا كان لك عَشْرة من المؤمنين تَصِلهم بحكم الرَّحِم؛ وكل مؤمن يَصل عشرة مثلك، انظر إلى تداخل الدوائر وانتظامها؛ ستجد أن كل المؤمنين يدخلون فيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الحديث القدسي: «أنا الرحمن؛ خلقت الرحم، واشتققت لها اسماً من اسمي؛ فمن وصلها وصلته؛ ومن قطعها قطعته» .
وقد رَويْتُ من قَبْل قصةً عن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه؛ فقد جاء حاجبه ليعلن له أن رجلاً بالباب يقول: إنه أخوك يا أمير المؤمنين.
ولابد أن حاجبَ معاوية كان يعلم أن معاوية بن أبي سفيان لا إخوةَ له، لكنه لم يَشَأْ أنْ يتدخَّل فيما يقوله الرجل؛ وقال معاوية لحاجبه: ألاَ تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب: هكذا يقول الرجل. فأذِنَ معاويةُ للرجل بالدخول؛ وسأله: أي إخوتي أنت؟ أجاب الرجل: أخوك في آدم. قال معاوية: رَحِم مقطوعة؛ والله لأكون أوَّلَ من يَصلها.
والتقى الفضيل بن عياض بجماعة لهم عنده حاجة؛ وقال لهم: من أين أنتم؟ قالوا: من خُراسان. قال: اتقوا الله، وكونوا من حيث شِئْتم.(12/7277)
وقد أمرنا سبحانه أن نَصِلَ الأهل أولاً؛ ثم الأقارب؛ ثم الدوائر الأبعد فالأبعد؛ ثم الجار، وكُلُّ ذلك لأنه سبحانه يريد الالتحام بين الخلق؛ ليستطرق النافع لغير النافع، والقادر لغير القادر، فهناك جارك وقريبك الفقير إنْ وصلْتَه وصلَك الله.
ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومِنْ خلاله يأمر كل مؤمن برسالته: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى ... } [الشورى: 23]
وقال بعض مَنْ سمعوا هذه الآية: قُرْباك أنت في قُرْباك.
وقال البعض الآخر: لا، القربى تكون في الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن القرآن قال في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ... } [الأحزاب: 6]
وهكذا تكون قرابة الرسول أولى لكل مؤمن من قرابته الخاصة.
يستمر قول الحق سبحانه في وصف أُولِي الألباب: { ... وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21]
والخشية تكون من الذي يمكن أن يُصيب بمكروه؛ ولذلك جعل الحق هنا الخشية منه سبحانه؛ أي: أنهم يخافون الله مالكهم وخالقهم ومُربِّيهم؛ خوف إجلال وتعظيم.(12/7278)
وجعل سبحانه المخاف من سوء العذاب؛ وأنت تقول: خِفْتُ زيداً، وتقول: خِفْتُ المرض، ففيه شيء تخافه؛ وشيء يُوَقِع عليك ما تخافه.
وأولو الألباب يخافون سُوء حساب الحق سبحانه لهم؛ فيدعهم هذا الخوف على أَنْ يَصِلوا ما أمر به سبحانه أنْ يُوصَل، وأنْ يبتعدوا عن أي شيء يغضبه.
ونحن نعلم أن سوء الحساب يكون بالمناقشة واستيفاء العبد لكل حقوقه؛ فسبحانه مُنزَّه عن ظلم أحد، ولكن مَنْ يُناقش الحسابَ فهو مَنْ يَلْقى العذاب؛ ونعوذ بالله من ذلك، فلا أحد بقادر على أن يتحمل عذابَ الحق له.
ويواصل الحق سبحانه وَصْف أُولي الألباب فيقول:
{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ... }(12/7279)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
ونجد هذه الآية معطوفة على ما سبقها من صفات أولي الألباب الذين يتذكَّرون ويعرفون مَواطن الحق بعقولهم اهتداءً بالدليل؛ الذين يُوفون بالعهد الإيماني بمجرد إيمانهم بالله في كُلِّيات العقيدة(12/7279)
الوحدانية، ومُقْتضيات التشريع الذي تأتي به تلك العقيدة.
ولذلك جعلها سبحانه صفقة أوضحها في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً ... } [التوبة: 111]
وهي صفقة إيجاب وقَبُول، والعهد إيجاب وقبول؛ وهو ميثاق مُؤكَّد بالأدلة الفِطْرية أولاً، والأدلة العقلية ثانياً.
وهُمْ في هذه الآية مَنْ صبروا ابتغاءَ وجه ربهم، والصبر هو تحمُّل متاعب تطرأ على النفس الإنسانية لتخريجها عن وقار استقامتها ونعيمها وسعادتها، وكل ما يُخرِج النفس الإنسانية عن صياغة الانسجام في النفس يحتاج صبراً.
والصبر يحتاج صابراً هو الإنسان المؤمن، ويحتاج مَصْبوراً عليه؛ والمَصْبور عليه في الأحداث قد يكون في ذات النفس؛ كأنْ يصبر الإنسان على مشقَّة التكليف الذي يقول «افعل» و «لا تفعل» .
فالتكليف يأمرك بترْكِ ما تحب، وأنْ تنفذ بعض ما يصعب عليك، وأن تمتثل بالابتعاد عما ينهاك عنه، وكُلُّ هذا يقتضي مُجَاهدة من النفس، والصبر الذاتي على مشَاقِّ التكليف.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصلاة مثلاً: { ... وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45](12/7280)
وهذا صَبْر الذَّات على الذات. ولكن هناك صَبْر آخر؛ صبر منك على شيء يقع من غيرك؛ ويُخرِجك هذا الشيء عن استقامة نفسك وسعادتها.
وهو ينقسم إلى قسمين: قسم تجد فيه غريماً لك؛ وقسم لا تجد فيه غريماً لك.
فالمرض الذي يُخرِج الإنسان عن حَيِّز الاستقامة الصِّحية ويُسبِّب لك الألم؛ ليس لك فيه غريم؛ لكنك تجد الغريم حين يعتدي عليك إنسانٌ بالضرب مثلاً؛ ويكون هذا الذي يعتدي عليك هو الغريم لك.
وكل صبر له طاقة إيمانية تحتمله؛ فالذي يَقْدر على شيء ليس فيه غريم؛ يكون صَبْره معقولاً بعض الشيء؛ لأنه لا يوجد له غريم يهيج مشاعره.
أما صبر الإنسان على أَلم أوقعه به مَنْ يراه أمامه؛ فهذا يحتاج إلى قوة ضَبْط كبيرة؛ كي لا يهيج الإنسان ويُفكِّر في الانتقام.
ولذلك تجد الحق يفصل بين الأمرين؛ يفصل بين شيء أصابك ولا تجد لك غريماً فيه، وشيء أصابك ولك من مثلك غريمٌ فيه.
ويقول سبحانه عن الصبر ليس لك غريم فيه: { ... واصبر على مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17]
ويقول عن الصبر الذي لك فيه غريم، ويحتاج إلى كَظْم الغيظ، وضبط الغضب:(12/7281)
{وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43]
وحينما يريد الحق سبحانه منك أن تصبر؛ فهو لا يطلب ذلك منك وحدك؛ ولكن يطلب من المقابلين لك جميعاً أنْ يصبروا على إيذائك لهم؛ فكأنه طلب منك أنْ تصبر على الإيذاء الواقع من الغير عليك؛ وأنت فرد واحد.
وطلب من الغير أيضاً أنْ يصبر على إيذائك، وهذا هو قمة التأمين الاجتماعي لحياة النفس الإنسانية، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تصبر على من آذاك؛ فقد طلب مَنْ الناس جميعاً أن يصبروا على آذاك لهم.
فإذا بدرتْ منك بادرة من الأغيار؛ وتخطئ في حق إنسان آخر وتؤلمه؛ فإن لك رصيداً من صبر الآخرين عليك؛ لأن الحق سبحانه طلب من المقابل لك أن يصبر عليك وأنْ يعفو.
وإذا كان لك غريم؛ فالصبر يحتاج منك إلى ثلاث مراحل: أن تصبر صبراً أولياً بأن تكظم في نفسك؛ ولكن الغيظ يبقى، وإن منعت الحركة النُّزوعية من التعبير عن هذا الغيظ؛ فلم تضرب ولم تَسُبّ؛ ويسمى ذلك: {الكاظمين الغيظ ... } [آل عمران: 134]
والكَظْم مأخوذ من عملية رَبْط القِرْبة التي نحمل فيها الماء؛ فإنْ لم نُحْكِم ربطها انسكب منها الماء؛ ويُقال «كظم القربة» أي: أحكم ربطها.
ثم يأتي الحق سبحانه بالمرحلة الثانية بعد كظم الغيظ فيقول:(12/7282)
{والعافين عَنِ الناس ... } [آل عمران: 134]
وهنا تظهر المسألة الأَرْقى، وهي إخراج الغيظ من الصدر؛ ثم التسامي في مرتبة الصِّديقين؛ فلا ينظر إلى مَنْ كظم غيظه عنه أولاً؛ بل يعفو عنه، ولا ينظر له بعداء، بل بنظرة إيمانية.
والنظرة الإيمانية هي أن مَنْ آذاك إنما يعتدي على حَقِّ الله فيك؛ وبذلك جعل الله في صَفِّك وجانبك؛ وهكذا تجد أن مَنْ ظلمك وأساء إليك قد جعلك في معية الله وحمايته؛ وعليك أن تُحسِن له.
والصبر له دوافع؛ فهناك من يصبر كي يُقال عنه: إنه يملك الجَلَد والصبر؛ وليبين أنه فوق الأحداث؛ وهذا صبر ليس ابتغاء لوجه الله؛ بل صبر كيلا يَشْمت فيه أعداؤه.
وصبر لأنه قد توصل بعقله أن جزعه لن ينفعه، ولو كان حصيفاً لَصبر لوجه الله، لأن الصبر لوجه الله يخفف من قَدَر الله.
ومَنْ يصبر لوجه الله إنما يعلم أن لله حكمة أعلى من الموضوع الذي صبر عليه؛ ولو خُيِّر بين ما كان يجب أن يقع وبين ما وقع؛ لاختار الذي وقع.
والذي يصبر لوجه الله إنما ينظر الحكمة في مَوْرد القضاء الذي وقع عليه، ويقول: أحمدُكَ ربي على كل قضائك وجميل قَدَرتك؛ حَمْدَ الرضى بحكمك لليقين بحكمتك.
فمَنْ يصبر على الفاقة؛ ويقول لنفسك: «اصبري إلى أن(12/7283)
يفرجها الله» ولا يسأل أحداً؛ سيجد الفرج قد أتى له من الله.
انظر إلى الشاعر وهو يقول:
إذَا رُمْتَ أنْ تستخرِجَ المالَ مُنْفقاً ... عَلى شَهَواتِ النفْسِ في زَمَنِ العُسْرِ
فَسَلْ نفسَكَ الإنفاقَ مِنْ كَنزِ صَبْرِها ... عليْكَ وإنذاراً إلى سَاعةِ اليُسْرِ
فَإنْ فعلْتَ كنتَ الغنيَّ وإنْ أبيْتَ ... فَكلُّ مُنوَّع بعدَها وَاسِعُ العُذْرِ
أي: إنْ راودتْك نفسك لتقترض مالاً لتنفقه على شهوات النفس، ورفضتَ تلك المُرَاودة، وطلبت من نفسك أنْ تعطيك من كَنْز الصبر الذي تملكه؛ وإنْ فعلتَ ذلك كنت الغنيَّ، لأنك قدرتَ على نفسك.
والذي يلفت إلى الحَدَث وحده يتعب؛ والذي يلتفت إلى الحدث مقروناً بواقعه من ربه؛ ويقول: «لابد أن هناك حكمة من الله وراء ذلك» فهو الذي يصبر ابتغاء وجهه الله. ويريد الله أنْ يخُصَّ مَنْ يصبر ابتغاء وجهه بمنزلة عالية؛ لأنه يعلم أن الله له حكمة فيما يُجريه من أقدار.
ويتابع سبحانه وَصْف أُولي الألباب: {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ... } [الرعد: 22]
وسبق أن قلنا في الصلاة أقوالاً كثيرة؛ وأن مَنْ يؤديها على(12/7284)
مطلوبها؛ فهو مَنْ يعلم أنها جَلْوة بين العبد وربه، ويكون العبد في ضيافة ربه.
وحين تُعْرَض الصَّنْعة على صانعها خمس مرات في اليوم فلابد أنْ تنال الصَّنْعة رعاية وعناية مَنْ صمَّمها وخلقها، وكما أن الله غَيْبٌ عنك؛ فكذلك أسباب شفائك من الكروب يكون غيباً عنك.
وقد علَّمنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك «فكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة» . ومن عظمة الإيمان أن الله هو الذي يدعوك إلى الصلاة؛ وهو سبحانه لا يمنع عنك القُرْب في أيِّ وقت تشاء؛ وأنت الذي تُحدِّد متى تقف بين يديه في أي وقت بعد أن تُلبِّي دعوته بالفروض؛ لتؤدي ما تحب من النوافل؛ ولا يُنهِي سبحانه المقابلة معك كما يفعل عظماء الدنيا؛ بل تُنهِي أنت اللقاء وقَتَ أنْ تريد.
ولقد تأدَّب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأدب ربه؛ وتخلَّق بالخلُق السامي؛ فكان إذا وضع أحد يده في يد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فهو لا ينزع يده من يد مَنْ يُسلِّم عليه؛ إلا أنْ يكون هو النازع.
وقول الحق سبحانه: {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ... } [الرعد: 22](12/7285)
يعني: أنك لا يجب أن تنظر إلى ما يؤخذ منك، ولكن انظر إلى أنك إنْ وصلتَ إلى أن تحتاج من الغير سيؤخذ لك، وهذا هو التأمين الفعال، ومَنْ يخاف أن يترك عيالاً دون قدرة، ولو كان هذا الإنسان يحيا في مجتمع إيماني، لوجد قول الحق مُطبَّقاً: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9]
وبذلك لا يشعر اليتيم باليُتْم؛ ولا يخاف أحد على عياله، ولا يسخط أحد على قَدَر الله فيه. وسبحانه يضع الميزان الاقتصادي حين يطلب منا الإنفاق، والإنفاق يكون من مال زائد؛ أو مال بلغ النصاب، ولذلك فعليك أنْ تتحرك حركة نافعة للحياة، ويستفيد منها الغير، كي يكون لك مال تُنفِق منه، وعلى حركتك أن تَسعَكَ وتسَعَ غيرك.
وهناك مَنْ ينفق مِمَّا رزقه الله بأن يأخذ لنفسه ما يكفيها، وينفق الباقي لوجه الله؛ لأنه يضمن أن له إلهاً قادراً على أن يرزقه، والمضمون عند الله أكثر مما في يده.
«وها هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل أبا بكر فيما ناله من غنائم ويقول له: ماذا صنعتَ بها يا أبا بكر؟ فيقول أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه(12/7286)
وأرضاه: تصدَّقْتُ بها كلها. فيقول الرسول: وماذا أبقيت؟ يقول أبو بكر: أبقيت الله ورسوله.
وسأل رسول الله عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: وماذا فعلتَ يا عمر؟ فيقول ابن الخطاب: تصدقْتُ بنصفها ولله عندي نصفها.
وكأنه يقول للرسول:» إن كان هناك مصرف تريدني أن أصرف فيه النصف الباقي لله عندي؛ فلسوف أفعل «.
وهكذا رأينا مَنْ يصرف مِمَّا رزقه الله؛ بكل ما رزقه سبحانه، وهو أبو بكر الصديق؛ ونجد مَنْ ينفق مِمَّا رزقه الله ومستعد لأن ينفق الباقي إن رأى رسول الله مصرفاً يتطلب الإنفاق.
ونجد من توجيهات الإسلام أن مَنْ يراعى يتيماً؛ فليستعفف فلا يأخذ شيئاً من مال اليتيم إنْ كان الوليُّ على اليتيم له مال؛ وإن كان الولي فقيراً فليأكل بالمعروف.
ولقائل أنْ يسأل: ولماذا نأتي بالفقير لتكون له ولاية على مال اليتيم؟
وأقول: كي لا يحرم المجتمع من خبرة قادرة على الرعاية؛ فيأتي الفقير صاحب الخبرة؛ وليأْكل بالمعروف.(12/7287)
ونلحظ أن الحق سبحانه قال: {وارزقوهم فِيهَا ... } [النساء: 5]
ولم يَقُلْ» ارزقوهم منها «أي: خُذوا الرزق من المَطْمور فيها يملكون بالحركة في هذا المال.
وهكذا نفهم كيف يُنفق الإنسان المؤمن مِمَّا رزقه الله؛ فهناك مَنْ ينفق كل ما عنده؛ لأنه واثق من رصيده عند ربه، وهناك مَنْ ينفق البعض مما رزقه الله؛ وقد تأخذه الأريحية والكرم فيعطي كل مَنْ يسأله، وقد ينفق كل ما عنده؛ مثل مَنْ يجلس في جُرْن القمح ويريد أن يُزكِّي يوم الحصاد؛ فيعطي كل مَنْ يسأله؛ إلى أن يفرغ ما عنده.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: { ... وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141]
وهنا نجد الحق سبحانه يصف هؤلاء المُنْفِقين في سبيله: {وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ... } [الرعد: 22]
والسر هو الصَّدقة المندوبة، أما الإنفاق في العلانية؛ فهي الصَّدقة الواضحة؛ لأن الناس قد تراك غنياً أو يُشَاع عنك ذلك، ولا يرونك وأنت تُخرِج الزكاة، فتنالك ألسنتهم بالسوء؛ وحين يَرَوْنكَ وأنت تنفق وتتصدَّق؛ فهم يعرفون أنك تؤدي حقَّ الله، وتشجعهم أنت بأن يُنفِقوا مما رزقهم الله.(12/7288)
وصدقة السِّر وصدقة العَلَن أمرها متروك لتقدير الإنسان؛ فهناك مَنْ يعطي الصدقة للدولة لتتصرف فيها هي؛ ويعطي من بعد ذلك للفقراء سراً؛ وهذا إنفاق في العَلَن وفي السر؛ وجاء الحق بالسر والعلانية؛ لأنه لا يريد أنْ يحجب الخير عن أيِّ أحد بأي سبب.
وقد يقول قائل: إن فلاناً يُخرِج الصدقة رياءً.
وأقول لِمَنْ يتفوَّه بمثل هذا القول: أَلَمْ يَسْتفِد الفقير من الصدقة؟ إنه يستفيد، ولا أحدَ يدخل في النوايا.
ويتابع سبحانه: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ... } [الرعد: 22]
والدّرْء: هو الدَّفْع بشدة؛ أي: يدفعون بالحسنة السيئة بشدة. وأول حسنة إيمانية هي أنْ تؤمن بالله؛ وبذلك تدفع سيئة الشرك، أو دفعتَ السيئة. أي: دفعتَ الذنب الذي ارتكبته وذلك بالتوبة عنه؛ لأن التوبة حسنة، وحين ترى مُنْكراً، وهو سيئة، فأنت تدفعه بحسنة النُّصْح.
أو: أن يكون معنى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ... } [الرعد: 22]
هو إنْ فعلتَ سيئة فأنت تتبعها بحسنة، والكمال المطلق لله وحده ولرسوله؛ لنفترض أن واحداً لديه سيئة مُلِحّة في ناحية من النواحي؛ فالحقُّ سبحانه يأمره أن يدفع السيئة بأن يفعل بجانبها حسنة.(12/7289)
يقول سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ... } [هود: 114]
وها هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول لمعاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «اتق الله أينما تكون، وأتبع السيئة حسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخلق حسن» .
ولذلك، فأنت تجد أغلب أعمال الخير في المجتمع لا تصدر من أيِّ رجل رقيق لا يرتكب السيئات؛ فلا سيئةَ تطارده كي يفعل الحسنة التي يرجو أنْ تمحو السيئة.
فالسيئة ساعةَ تُلهِب ضمير مَن ارتكبها؛ ولا يستطيع أن يدفعها؛ لأنه ارتكبها؛ فهو يقول لنفسه «فَلأبنِ مدرسة» أو «أبني مسجداً» أو «أقيم مستشفى» أو «أتصدق على الفقراء» .
وهكذا نجد أن أغلب حركات الإحسان قد تكون من أصحاب السيئات، فلا أحدَ بقادر على أنْ يأخذ شيئاً من وراء الله؛ فمَنْ يرتكب سيئة لابُدَّ أنْ تُلِحّ عليه بأحاسيس الذَّنْب؛ لتجده مدفوعاً من بعد ذلك إلى فعل الحسنات؛ لعلَّ الحسنات تُعوِّض السيئات.
ومن دَرْء الحسنة بالسيئة أيضاً؛ أنه إذا أساء إليك إنسان فأنت(12/7290)
تَكْظِم غيظك وتعفو؛ وبذلك فأنت تحسن إليه.
وتجد الحق سبحانه يقول: { ... ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]
وإذا أنت جرَّبْتَها في حياتك؛ وأخلصْتَ المودة لمن دخل في العداوة معك؛ ستجد أنه يستجيب لتلك المودة ويصبح صديقاً حميماً لك.
ولكن هناك مَنْ يقول: جرَّبْتُ ذلك ولم تنفع تلك المسألة.
وأقول لمن يقول ذلك: لقد ظننتَ أنك قد دفعتَ بالتي هي أحسن، لكنك في واقع الحال كنت تتربص بما يحدث منك تجاه مَنْ دخلتَ معه في عداوة، ولم تُخلص في الدفع بالتي هي أحسن، وأخذت تُجرِّب اختبار قول الله؛ فذهبتْ منك طاقة الإخلاص فيما تفعل؛ وظل الآخر العدو على عداوته.
لكنك لو دفعتَ بالتي هي احسن ستجد أن الآية القرآنية فيها كل الصِّدْق؛ لأن الله لا يقول قضية قرآنية ثم تأتي ظاهرة كونية تُكذِّب القرآن.
ولذلك يقول الشاعر:
يَا مَنْ تُضايِقه الفِعَالُ مِنَ التي ومِنَ الذي ... دفع فِدْيتك بالتي حتَّى نَرى فإذَا الذِي
أي: يا مَنْ تضايقه أفعال الذي بينك وبين عداوة؛ عليك أن(12/7291)
تُحسن الدَّفْع التي هي أحسن، حتى ترى أن العداوة التي كانت بينك وبين ما ذكره الحق سبحانه في قوله: { ... فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]
ويتابع الحق سبحانه: { ... أولئك لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22]
أي: أن المتقدمين أولي الألباب الذين اجتمعت لهم تلك الصفات التِسعة؛ بدايةً من أنهم يُوفُون بعهد الله؛ ولا ينقضون الميثاق؛ ويَصِلون ما أمر الله أنْ يُوصَل ويخشوْن ربهم؛ ويخافون سُوء الحساب؛ وصبروا ابتغاء وجه ربهم؛ وأقاموا الصلاة؛ وأنفقوا مما رزقهم الله سراً وعلانية؛ ويَدْرءون بالحسنة السيئةَ، هؤلاء هم الذين لهم عُقْبى الدار.
وعُقْبى مأخوذة من العقب؛ فالقدم له مقدم وله عَقِب، وعقب هو ما يعقب الشيء، ونقول في أفراحنا «والعافية عندكم في المسرات» أي: أننا نتمنى أن تتحقق لكم مَسرَّة مثل التي عندنا، وتكون عقب المَسرَّة التي فرحنا نحن بها.
وهكذا تكون العقبى هي الشيء الذي يعقب غيره، والذي يعقب الدار الدنيا هي الدار الآخرة. ولذلك يقول الحق سبحانه في الآية التالية مُوضِّحاً العاقبة لهؤلاء:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ... }(12/7292)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
إذن: فالدار الآخرة التي تعقب الدنيا بالنسبة لأولِي الألباب هي جنات عَدْن. و «العَدْن» هو الإقامة الدائمة؛ وجنات عدن هي جنات الإقامة الدائمة، لأن الدنيا ليست دار إقامة.
وكل نعيم في الدنيا إما أن تفوته بالموت أو يفوتك بأغيار الحياة. أما جنات عَدْن فهي دار إقامة دائمة؛ بما أن «عدن» تعني مرافقة دائمة للجنات.
والجنات معناها كما نفهم هي البساتين التي فيها أشجار وفيها ثمار؛ وكل ما تشتهي الأنفس، مع ملاحظة أن هذه الجنَّات ليست هي المساكن؛ بل في تلك الجنات مسكن بدليل قول الحق سبحانه: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ... } [التوبة: 72]
فالجنات هي الحدائق؛ وفيها مساكن، ونحن في حياتنا الدنيا نجد الفيلات في وسط الحدائق، فما بالنا بما يَعِد به الله من طيب المساكن وسط الجنات؟
لابد أن ينطبق عليه وصف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للجنة في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه:
«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
وهكذا بيَّن الله سبحانه عقبى الدار؛ فهي: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ(12/7293)
وَذُرِّيَّاتِهِمْ ... } [الرعد: 23]
وآباء جمع «أب» أي: يدخلها مع أولي الألباب مَنْ كان صالحاً من الآباء مُتبعاً لمنهج الله.
وإنْ سأل سائل: وأين الأمهات؟
أقول: نحن ساعة نثني المتماثلين نُغلِّب الذَّكر دائماً، ولذلك فآباؤهم تعني الأب والأم، ألَمْ يقُلِ الحق سبحانه في سورة يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش ... } [يوسف: 100]
وهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة من أُولِي الأَلْباب الذين استوفَوْا الشروط التسعة التي تحدَّثنا عنها؛ فهل استوفى الآباء والأزواج والأبناء الشروط التسعة؟
ونقول: إن الحقَّ سبحانه وتعالى يعامل خَلْقه في الدنيا بمقتضى العواطف الموجودة في الذُّرية؛ فالواحد مِنّا يُحِب أولاده وأزواجه وآباءه؛ ومادام يحبهم وقد صلحوا كُلٌّ حَسْب طاقته؛ فالحق سبحانه يُلحقهم به.
ولذلك تأتي آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} [الطور: 21](12/7294)
وهنا يمسك القرآن القضية العقلية في الإلحاق بمعنى أنْ تُلحِق ناقصاً بكامل، فلو كان مُساوياً له في العمل ما سُمِّي إلحاقاً، فكل إنسان يأخذ حَقَّه؛ وقد اشترط الحق سبحانه شرطاً واحداً في إلحاق الذرية بالآباء، أو إلحاق الآباء بالذرية في الجنة، وهو الإيمان فقط.
وأوضح لنا هنا أن الآباء قد تميَّزوا بعمل إيماني بدليل قوله تعالى: {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ... } [الطور: 21]
فلم يأخذ سبحانه عمل الأب الذي عمل؛ الابن الذي لم يعمل، ومزج الاثنين، ليأخذ المتوسط، لا، وذلك كي لا يظلم مَنْ عمل من الآباء أو الأبناء.
ثم إن ذلك لو حدث؛ لما اعتُبِِر تواجدُ الآباء مع الأبناء في الجنة إلحاقاً؛ لأن الإلحاق يقتضي أن يبقى حَقُّ كل مَنْ عمل؛ ثم يتكرم سبحانه من بعد ذلك بعملية الإلحاق؛ بشرط واحد هو أن يكون الشخص المُلْحق مؤمناً.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ ... } [الطور: 21]
أي: أن الذرية مؤمنة؛ والأزواج مؤمنون؛ والأهل مؤمنون؛ والأبوين مؤمنان، ولكن الذي يلحق به هو مَنْ يُكرِمه الله بهذا الإلحاق كي يُدخِل الفرح على قَلْب المؤمن حين يرى أولاده معه في الجنة ماداموا مؤمنين؛ وهذه قمة في العدالة، لماذا؟
والمَثل الذي أضربه على ذلك: هَبْ أن أباً قد حرص على أنْ يطعَم أهله من حلال؛ فقد يعيش أولاده في ضيق وشَظَف؛ بينما(12/7295)
نجد أبناء المنحرف يعيشون في بُحْبُوحَة من العيش؛ وهكذا يتنعَّم أبناء المنحرف الذي يأكل ويطعم أولاده من حرام؛ بينما يعاني أبناء الأمين الذي قد يعتبره البعض مُتزمتاً؛ لأنه يَرْعى حق الله، ويرفض أكل الحرام.
ومادام أولاده الذين يأكلون من حلال قد يُعانون معه من عدم التنعُّم؛ فالحق سبحانه يلحقهم في الجنة بنعيم يعيشه الأب؛ لا يفوتهم فيه شيء؛ ولا يفوته شيء.
وبذلك تسعد الذرية؛ لأنها جاءت من صُلْب رجل مؤمن قضى حياته على جَادة الصواب؛ رغم أن بعض الناس قد اتهمتْه في الدنيا بأنه مُتزمِّت.
ولقائل أنْ يقول: ألاَ يوجد تناقض بين هذا الإلحاق وبين قول الحق سبحانه: {لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً ... } [لقمان: 33]
وأقول: لا يوجد تناقض؛ لأننا نصلي على الميت صلاة شرَّعها المُشرِّع؛ وفائدتها أنْ تصل الرحمة للميت المؤمن؛ والإيمان من عمله.
ولذلك يضيف له الحقُّ سبحانه فوق رصيد الإيمان ما يشاؤه هو سبحانه من الرحمة بصلاة الجنازة التي أقامها المسلمون عليه:(12/7296)
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23]
وكلمة «زوج» تعني المرأة التي يتزوجها الرجل؛ وتعني الرجل الذي تتزوجه المرأة، ونحن نخطئ خطأ شائعاً حين نقول «زوجة» ؛ بل الصحيح أن نقول «زوج» عن المرأة المنسوبة لرجل بعلاقة الزواج.
وسبحانه يقول: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ... } [الأحزاب: 6]
وهكذا نعلم أن جنات عَدْنٍ هي مكان ينتظم كل شيء؛ ولهذا المكان أبواب متعددة؛ هي أبواب الطاعات التي أَدَّتْ إلى خير الجَزَاءات؛ فباب الصلاة يدخله أُناس؛ وباب الزكاة يدخله أُناس؛ وباب الصبر يدخله أُناس؛ وهكذا تتعدد الأبواب؛ وهي إمَّا أبواب الطاعات أو أبواب الجزاءات التي تدخل منها الطيبات: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ... } [البقرة: 25]
فالبابُ يكون مفتوحاً؛ تأتي منه الفاكهة والثَّمَرات والخيرات على اختلاف ألوانها؛ فمرَّةً تأتي ثمار المانجو من باب؛ وبعد ذلك تأتي ثمار التفاح.(12/7297)
وتلك الأبواب كما قلت هي إمّا للجزاءات؛ أو هي أبواب الطاعات التي أدَّت إلى الجزاءات، وتدخل عليهم الملائكة من كُلِّ باب؛ فماذا تقول الملائكة؟
يقول الملائكة لأهل الجنة:
{سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ... }(12/7298)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
والسلام يعني الاطمئنان والرضا الذي لا تأتي بعده الأغيار؛ لأن السلام في الدنيا قد تُعكِّر أَمْنه أغيارُ الحياة؛ فأنتم أيها المؤمنون الذين دخلتم الجنة بريئون من الأغيار.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن لحظات ما بعد الحساب: «الجنة أبداً، أو النار أبداً» .
ولذلك يقول سبحانه عن خيرات الجنة: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33]
والملائكة كما نعلم نوعان:
الملائكة المهيمون الذين يشغلهم ذكر الله تعالى عن أيِّ شيء ولا يدرون بِنَا؛ ولا يعلمون قصة الخَلْق؛ وليس لهم شَأنٌ بكُلِّ ما يجري؛ فليس في بالهم إلا الله وهم الملائكة العَالُون؛ الذين جاء ذكرهم في قصة السجود لآدم حين سأل الحق سبحانه الشيطان:(12/7298)
{أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75]
أي: أن العالين هنا هم مَنْ لم يشملهم أَمْرُ السجود، وليس لهم علاقة بالخلق، وكُلُّ مهمتهم ذكر الله فقط.
أما النوع الثاني فهم الملائكة المُدبِّرات أمراً، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد استدعى آدم إلى الوجود هو وذريته، وأعدَّ له كل شيء في الوجود قبل أن يجئ؛ الأرض مخلوقة والسماء مرفوعة؛ والجبال الرَّواسي بما فيها من قُوتٍ؛ والشمس والقمر والنجوم والمياه والسحاب.
والملائكة المُدبِّرات هم مَنْ لهم علاقة بالإنسان الخليفة، وهم مَنْ قال لهم الحق سبحانه: {اسجدوا لأَدَمَ ... } [البقرة: 34]
وهم الذين يتولَّوْن أمر الإنسان تنفيذاً لأوامر الحق سبحانه لهم، ومنهم الحفظة الذين قال فيهم الحق سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله ... } [الرعد: 11]
أي: أن الأمر صادر من الله سبحانه، وهم بَعْد أنْ يفرغوا من(12/7299)
مهمتهم كحفظة من رقيب وعتيد على كل إنسان، ولن يوجد ما يكتبونه من بعد الحساب وتقرير الجزاء؛ وهنا سيدخل هؤلاء الملائكة على أهل الجنة ليحملوا ألطاف الله والهدايا؛ فهم مَنُوط بهم الإنسان الخليفة.
وسبحانه حين يُورِد كلمة في القرآن بموقعها البياني الإعرابي؛ فهي تُؤدِّي المعنى الذي أراده سبحانه. والمَثَل هو كلمة «سلام» ؛ فضيف إبراهيم من الملائكة: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ ... } [هود: 69]
وكان القياس يقتضي أن يقول هو «سلاماً» ، ولكنها قضية إيمانية، لذلك قال: {سَلاَمٌ ... } [هود: 69]
فالسلام هنا يَأْتِ منصوباً؛ بل جاء مرفوعاً؛ لأن السلام للملائكة أمرٌ ثابت لهم؛ وبذلك حَيَّاهم إبراهيم بتحية هي احسن من التحية التي حَيَّوه بها.
فنحن نُسلِّم سلاماً؛ وهو يعني أن نتمنى حدوث الفعل، ولكن إبراهيم عليه السلام فَطِنَ إلى أن السلام أمرٌ ثابت لهم.
وهكذا الحال هنا حين تدخل الملائكة على العباد المكرمين بدخول الجنة، فَهُمْ يقولون: {سَلاَمٌ ... } [الرعد: 24] وهي مرفوعة إعرابياً؛ لأن السلام أمر ثابت مُستِقر في الجنة،(12/7300)
وهم قالوا ذلك؛ لأنهم يعلمون أن السلام أمر ثابت هناك؛ لا يتغير بتغيُّر الأغيار؛ كما في أمر الدنيا.
والسلام في الجنة لهؤلاء بسبب صبرهم، كما قال الحق سبحانه على ألسنة الملائكة: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ... ] [الرعد: 24]
وجاء الصبر في صيغة الماضي، وهي صيغة صادقة؛ فهم قد صبروا في الدنيا؛ وانتهى زمن الصبر بانتهاء التكليف.
وهم هنا في دار جزاء؛ ولذلك يأتي التعبير بالماضي في موقعه؛ لأنهم قد صبروا في دار التكليف على مشقَّات التكليف؛ صبروا على الإيذاء؛ وعلى الأقدار التي أجراها الحقُّ سبحانه عليهم.
وهكذا يكون قول الحق سبحانه: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ... ] [الرعد: 24]
في موقعه تماماً.
وكذلك قوله الحق عمَّنْ توفّرت فيهم التسع صفات، وهم في الدنيا: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ... } [الرعد: 22]
وجاء بالصبر هنا في الزمن الماضي؛ رغم أنهم مازالوا في دار التكليف؛ والذي جعل هذا المعنى مُتّسعاً هو مَجِىء كل ما أمر به الله بصيغة المضارع؛ مثل قوله تعالى:(12/7301)
{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله ... } [الرعد: 20]
وهذه مسألة تحتاج إلى تجديد دائم؛ وقوله: { ... وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20]
وقوله: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ... } [الرعد: 21]
و {وَيَخْشَوْنَ ... } [الرعد: 21] ، {وَيَخَافُونَ ... } [الرعد: 21]
هكذا نرى كل تلك الأفعال تأتي في صيغة المضارع، ثم تختلف الصيغة إلى الماضي في قوله: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ... } [الرعد: 22]
والمتأمل لكل ذلك يعلم أن كل تلك الأمور تقتضي الصبر؛ وكأن الصبر يسبق كل هذه الأشياء، وهو القاسم المشترك في كل عهد من العهود السابقة.
وقد عبر الحق سبحانه لأجل هذه اللفْتة بالماضي حين جاء حديث الملائكة لهم وهم في الجنة.
وهكذا تقع كلمة الصبر في موقعها؛ لأن الملائكة تخاطبهم بهذا القول وهم في دار البقاء؛ ولأن المتكلم هو الله؛ فهو يُوضِّح لنا جمال ما يعيش فيه هؤلاء المؤمنون في الدار الآخرة.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: { ... فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24](12/7302)
وعلمنا أن «عُقْبى» تعني الأمر الذي يجيء في العَقِب، وحين يعرض سبحانه القضية الإيمانية وصفات المؤمنين المعايشين للقيم الإيمانية؛ فذلك بهدف أن تستشرفَ النفس أن تكون منهم، ولابُدّ أن تنفِرَ النفس من الجانب المقابل لهم.
والمثل هو قول الحق سبحانه: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]
ويأتي بمقابلها بعدها: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14]
وساعة تقارن بأنهم لو لم يكونوا أبراراً؛ لَكَانوا في جحيم؛ هنا نعرف قَدْر نعمة توجيه الحق لهم، ليكونوا من أهل الإيمان.
وهكذا نجد أنفسنا أمام أمرين: سلب مَضرَّة؛ وجَلْب منفعة، ولذلك يقول الحق سبحانه أيضاً عن النار: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} [مريم: 71]
أي: كلنا سنرى النار.
ويقول سبحانه: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 7]
وذلك لكي يعرف كل مسلم ماذا صنعتْ به نعمة الإيمان؛ قبل أن(12/7303)
يدخل الجنة، وبذلك يعلم أن الله سلب منه مَضرَّة؛ وأنعم عليه بمنفعة، سلب منه ما يُشقِى؛ وأعطاه ما يُفيد.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ ... } [آل عمران: 185]
وإذا كان الحق سبحانه قد وصف أُولي الألباب بالأوصاف المذكورة من قبل؛ فهو يُبيِّن لنا أيضاً خيبة المقابلين لهم؛ فيقول سبحانه:
{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله ... }(12/7304)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
ولقائل أنْ يسأل: وهل آمن هؤلاء وكان بينهم وبين الله عهد ونقضوه؟
ونقول: يصح أنهم قد آمنوا ثم كفروا، أو: أن الكلام هنا ينصرف إلى عهد الله الأزلي.
يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنيءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى ... } [الأعراف: 172]
وهنا يوضح سبحانه أن مَنْ ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وتأكيده بالآيات الكونية التي تدل على وجود الخالق الواحد:(12/7304)
{وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ ... } [الرعد: 25]
والمقابل لهم هم أُولو الألباب الذين كانوا يَصِلون ما أمر سبحانه أن يُوصل وهؤلاء الكفرة نقضة العهد: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض ... } [الرعد: 25]
ولم يَأْتِ الحق سبحانه بالمقابل لكُلِّ عمل أدَّاه أولو الألباب؛ فلم يَقُل: «ولا يخشون ربهم» ؛ لأنهم لا يؤمنون بإله؛ ولم يَقُلْ: «لا يخافون سوء الحساب» لأنهم لا يؤمنون بالبعث.
وهكذا يتضح لنا أن كل شيء في القرآن جاء بِقَدرٍ، وفي تمام موقعه.
ونحن نعلم أن الإفساد في الأرض هو إخراجُ الصَّالح عن صلاحه، فأنت قد أقبلتَ على الكون، وهو مُعَدٌّ لاستقبالك بكل مُقوِّمات الحياة من مأكل ومَشْرب وتنفس؛ وغير ذلك من الرزق، واستبقاء النوع بأن أحلَّ لنا سبحانه أن نتزاوج ذكراً وأنثى.
والفساد في الكون أن تأتي إلى صالح في ذاته فتفسده؛ ونقول دائماً: إن كنت لا تعرف كيف تزيد الصالح صلاحاً؛ فاتركه على حاله؛ واسمع قول الحق سبحانه: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ... } [الإسراء: 36]
فلا تنظر في أيِّ أمر إلى الخير العاجل منه؛ بل انظر إلى ما يؤول إليه الأمر من بعد ذلك؛ أيضرُّ أم ينفع؟(12/7305)
لأن الضُّرَّ الآجل قد يتلصص ويتسلل ببطء وأنَاة؛ فلا تستطيع له دَفْعاً من بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه في آخر الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { ... أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الرعد: 25]
ونلحظ أن التعبير هنا جاء باللام مِمَّا يدل على أن اللعنة عشقتهم عِشْق المال للملوك: { ... وَلَهُمْ سواء الدار} [الرعد: 25]
أي: عذابها، وهي النار والعياذ بالله.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{الله يَبْسُطُ الرزق ... }(12/7306)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
والبَسْط هو مَدُّ الشيء.
وقد أقام العلماء معركة عند تحديد ما هو الرزق، فهل الرزق هو ما أحله الله فقط؟ أم أن الرزق هو كل ما ينتفع به الإنسان سواء أكان حلالاً أم حراماً؟(12/7306)
فمن العلماء مَنْ قال: إن الرزق هو الحلال فقط؛ ومنهم من قال: إن الرزق هو كل ما يُنتفع به سواء أكان حلالاً أم حراماً؛ لأنك إن قُلْتَ إن الرزق محصور في الحلال فقط؛ إذن: فَمنْ كفر بالله من أين يأكل؟
أم يخاطب الحق سبحانه المكابرين قائلاً: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض ... } [يونس: 31]
وقال سبحانه: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 58]
ويقول تعالى: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 22 - 23]
إذن: فالرزق هو من الله؛ ومن بعد ذلك يأمر «افعل كذا» و «لا تفعل كذا» .
وقول الحق سبحانه: {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ... } [الرعد: 26]
أي: أنه سبحانه يمُد الرزق لِمَن يشاء: {وَيَقَدِرُ ... } [الرعد: 26]
من القَدْر. أي: في حالة إقداره على المُقَدَّر عليه؛ وهو مَنْ يعطيه سبحانه على قَدْر احتياجه؛ لأن القَدْر هو قَطْع شيء على(12/7307)
مساحة شيء، كأنْ يعطي الفقير ويبسط له الرزق على قَدْر احتياجه.
والحق سبحانه أمرنا أنْ نُعطِي الزكاة للفقير؛ ويظل الفقير عائشاً على فقره؛ لأنه يعيش على الكفاف.
أو: يقدر بمعنى يُضيِّق؛ وساعة يحدث ذلك إياك أنْ تظن أنَّ التضييق على الفقير ليس لصالحه، فقد يكون رزقه بالمال الوفير دافعاً للمعصية؛ ومن العفة ألا يجد.
أو: يقدر بمعنى يُضيِّق على إطلاقها، يقول سبحانه: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]
ولأن الله قد آتاه فهذا يعني أنه بَسَط له بقدره.
ويتابع سبحانه: {وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا ... } [الرعد: 26]
وطبعاً سيفرح بها مَنْ كان رزقه واسعاً؛ والمؤمن هو مَنْ ينظر إلى الرزق ويقول: هو زينة الحياة الدنيا؛ ولكن ما عند الله خَيْر وأبقى.
أما أهل الكفر فقد قالوا: { ... لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31](12/7308)
ويردُّ الحق سبحانه عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ... } [الزخرف: 32]
وساعةَ تبحث في تحديد هذا البعض المبسوط له الرزق؛ والبعض المُقدَّر عليه في الرزق؛ لن تجد ثباتاً في هذا الأمر؛ لأن الأغيار قد تأخذ من الغنيّ فتجعله فقيراً؛ وقد تنتقل الثروة من الغنيّ إلى الفقير.
وسبحانه قد ضمن أسباباً عُلْيا في الرزق؛ لكل من المؤمن والكافر؛ والطائع والعاصي؛ وكلنا قد دخل الحياة ليأخذ بيده من عطاء الربوبية؛ فإنْ قصَّر واحد؛ فليس لهذا المَرْء من سبب سوى أنه لم يأخذ بأسباب الربوبية وينتفع بها.
وقد يأخذ بها الكافر وينتفع بها.
والحق سبحانه هو القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20]
إذن: فليس هناك تضييق إلا في الحدود التي يشاؤها الله، مثل أن يزرع الإنسان الأرضَ، ويتعب في الريِّ والحَرْث؛ ثم تأتي صاعقة أو برد مصحوب بصقيع فيأكل الزرع ويُميته.
وفي هذا لَفْتٌ للإنسان؛ بأنه سبحانه قد أخذ هذا الإنسان من(12/7309)
رزقه؛ وهو العطاء منه؛ كي لا يُفْتَنَ الإنسان بالأسباب، وقد يأتي رزقه من بعد ذلك من منطقة أخرى، وبسبب آخر. {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا ... } [الرعد: 26]
والفرح في حَدِّ ذاته ليس ممنوعاً ولا مُحرّماً، ولكن الممنوع هو فرح البطر كفرح قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ ... } [القصص: 76]
والحق سبحانه قد قال: { ... إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76]
وهذا هو فرح البطر الذي لا يحبه الله؛ لأنه سبحانه قال في موقع آخر: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58](12/7310)
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بفرحهم؛ وبسبب هذا الفرح وهو الحياة الدنيا؛ أي: أنه سبب تافه للفرح، لأنها قد تُؤخذ منهم وقد يُؤخَذون منها، ولكن الفرح بالآخرة مختلف، وهو الفرح الحق.
ولذلك يقول فيه الحق سبحانه: { ... فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]
ويقيس الحق سبحانه أمامنا فرح الحياة الدنيا بالآخرة، فيقول: { ... وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26]
ومتاع الرجل هو ما يعده إعداداً يُنفِقه في سفر قصير، كالحقيقة الصغيرة التي تضع فيها بعضاً من الملابس والأدوات التي تخصُّك لسفر قصير.
والعاقل هو مَنْ ينظر إلى أقصى ما يمكن أنْ يفعله الإنسان في الحياة؛ فقد يتعلم إلى أنْ يصل إلى أرْقى درجات العلم؛ ويسعى في الأرض ما وَسِعه السَّعْي؛ ثم أخيراً يموت.
والمؤمن هو مَن يَصل عمل دُنْياه بالآخرة؛ ليصلَ إلى النعيم الحقيقي، والمؤمن هو مَنْ يبذل الجهد لِيصِلَ نفسه برحمة الله؛ لأنها باقية ببقاء الله، ولأن المؤمن الحق يعلم أن كل غاية لها بَعْد؛ لا تعتبر غاية.
ولذلك فالدنيا في حَدِّ ذاتها لا تصلح غايةً للمؤمن، ولكن الغاية الحَقَّة هي: إمَّا الجنة أبداً، أو النار أبداً.(12/7311)
يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ ... }(12/7312)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
ونعلم أن «لولا» إذا دخلت على جملة اسمية فلها وَضْع يختلف عنه وَضْعها إذا دخلتْ على جملة فعلية، فحين نقول: «لولا زيد عندك لَزُرْتُكَ» يعني امتناع حدوث شيء لوجود شيء آخر. وحين نقول: لولا تُذاكِر دروسك. فهذا يعني حضاً على الفعل.
والحق سبحانه يقول: {لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} [النور: 13]
والجملة التي دخلت عليها «لولا» في هذه الآية هي جملة فعلية، وكأن الحق سبحانه يحضُّنا هنا على أن نلتفتَ إلى الآية الكبرى التي نزلت عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهي القرآن.
وقد تساءل الكافرون كَذِباً عن مجيء آية؛ وكان تساؤلهم بعد مجيء القرآن، وهذا كذب واقع؛ يناقضون به أنفسهم؛ فقد قالوا:(12/7312)
{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
وهم بذلك قد اعترفوا أن القرآن بلغ حَدَّ الإعجاز وتمنَّوْا لو أنه نزل على واحد من عظماء القريتين مكة أو الطائف.
وهم مَنْ قالوا أيضاً: {وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]
ثم يعودون هنا لينكروا الاعتراف بالقرآن كمعجزة، على الرغم من أنه قد جاء من جنس ما نبغوا فيه، فهم يتذوقون الأدب، ويتذوقون البيان، ويتذوقون الفصاحة؛ ويقيمون الأسواق ليعرضوا إنتاجهم في البلاغة والقصائد، فهم أمة تطرَبُ فيها الأذن لما ينطقه اللسان.
ولكنهم هنا يطلبون آية كونية كالتي نزلت على الرسل السابقين عليهم السلام، ونَسُوا أن الآية الكونية عمرها مَقْصور على وقت حدوثها؛ ومَنْ رآها هو مَنْ يصدقها، أو يصدقها مَنْ يُخبره بها مصدر موثوق به.
ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المبعوث لتنظيم حركة الحياة في دنيا الناس إلى أنْ تقوم الساعة؛ ولو أنه قد جاء بآية كونية؛ لأخذتْ زمانها فقط.
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يأتي بآية معجزة باقية إلى أنْ تقومَ الساعةُ، فضلاً عن أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاءتْ له معجزات حِسيِّة؛ كتفجُّر(12/7313)
الماء من بين أصابعه؛ وحفنة الطعام التي أشبعتْ جيشاً؛ وأظلَّتْه السحابة؛ وحَنَّ جِذْع الشجرة حنيناً إليه ليقف من فوقه خطيباً وجاءه الضَّبُّ مسلماً.
كل تلك آيات كونية هي حُجَّة على مَنْ رآها، وكذلك معجزات الرُّسل السابقين، ولولا أنَّ رواها لنا القرآن لَمَا آمنَّا بها، وكانت الآيات الكونية التي جاءت مع الرسل هي مجرد إثبات لِمَنْ عاشوا في أزمان الرسل السابقين على أن هؤلاء الرسل مُبلِّغون عن الله.
وقد شرح الحق سبحانه هذا الأمر بالنسبة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون ... } [الإسراء: 59](12/7314)
أي: أن الرسل السابقين الذين نزلوا في أقوامهم وصحبتْهم الآياتُ الكونية قابلوا أيضاً المُكذِّبين بتلك الآيات، وقوم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا أيضاً:
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 90 - 92]
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا ... } [الأنعام: 111]
وهكذا يُبيِّن لنا الحق سبحانه أنهم غارقون في العِنَاد ولن يؤمنوا، وأن أقوالهم تلك هي مجرد حُجَج يتلكأون بها.
وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقولون: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ... } [الرعد: 27]
وهكذا نجد أنهم يعترفون أن له رباً؛ على الرغم من أنهم قد اتهموه من قبل أنه ساحر، وأنه والعياذ بالله كاذب، وحين فَتَر(12/7315)
عنه الوحي قالوا: «إن ربَّ محمد قد قَلاَه» .
وأنزل الحق سبحانه الوحي: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 3 - 5]
أي: أن الوَحْي سوف يستمر، وهكذا فضح الله كَذِبهم على مَرِّ سنوات الرسالة المحمدية.
وهم هنا يتعنتون في طَلبِ الآية الحِسِّية الكونية؛ وكلمة آية كما عرفنا من قبل هي: إما آية كونية تُلفِت إلى وجود الخالق.
أو: آية من القرآن فيها تفصيلٌ للأحكام؛ وليستْ تلك هي الآية التي كانوا يطلبونها.
أو: آية معجزة تدلُّ على صِدقْ الرسالة.
وكأنَّ طلبَ الآيات إنما جاء لأنهم لم يقتنعوا بآية القرآن؛ وهذا دليل غبائهم في استقبال أدلَّة اليقين بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن القرآن جاء معجزةً، وجاء منهجاً.
والمعجزة كما أوضحنا إنما تأتي من جنس ما نبغ فيه القوم، ولا يأتي سبحانه بمعجزة لقوم لم يُحْسِنوا شيئاً مثلها ولم ينبغُوا فيه.(12/7316)
فالذين كانوا يمارسون السِّحْر جاءتْ المعجزة مع الرسول المرْسَل إليهم من نفس النوع، والذين كانوا يعرفون الطبَّ، جاء لهم رسول، ومعه معجزة مما نبغُوا فيه.
وقد جاءت معجزة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس ما نبغُوا فيه؛ فضلاً عن أن القرآن معجزة ومنهج في آنٍ واحد، بخلاف معجزة التوقيت والتقيد في زمن.
ومع ذلك، فإن كفار مكة تعنتُوا، ولم يكتفُوا بالقرآن معجزةً وآيات تدلُّهم إلى سواء السبيل؛ بل اقترحوا هم الآية حسب أهوائهم؛ ولذلك نجدهم قد ضَلُّوا.
ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك: { ... قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]
وهنا نقف وَقْفة؛ لأن البعض يحاول أن يُسقِط عن الإنسان مسئولية التكليف؛ ويدَّعي أن الله هو الذي يمنع هداية هؤلاء الكافرين.
ونقول: إننا إن استقرأنا آياتِ القرآن؛ سنجد قَوْل الحق سبحانه: { ... والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} [البقرة: 264](12/7317)
ونجد قول الحق سبحانه: { ... إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} [المائدة: 51]
ويقول سبحانه أيضاً: { ... والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} [المائدة: 108]
ومن كل ذلك نفهم أن العمل السابق منهم هو الذي يجعله سبحانه لا يهديهم، لأن الإنسان مادام قد جاء له حُكْم أعلى، ويؤمن بمصدر الحكم؛ فمن أنزل هذا الحكم يُعطِي للإنسان معونة، لكن مَنْ يكذب بمصدر الحُكْم الأعلى فسبحانه يتركه بلا معونة.
أما مَنْ يرجع إلى الله؛ فسبحانه يهديه ويدلُّه ويعينه بكل المَدَد.
ويواصل الحق ما يمنحه سبحانه من اطمئنان لمن يُنيب إليه، فيقول:
{الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ ... }(12/7318)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
ومعنى الاطمئنان سكونُ القلب واستقراره وأُنْسُه إلى عقيدة لا تطفو إلى العقل ليناقشها من جديد.
ونعلم أن الإنسانَ له حواسٌّ إدراكية يستقبل بها المُحسَّات؛ وله عقل يأخذ هذه الأشياء ويهضمها؛ بعد إدراكها؛ ويفحصها جيداً، ويتلمس مدى صِدْقها أو كَذِبها؛ ويستخرج من كل ذلك قضية(12/7318)
واضحة يُبقِيها في قلبه لتصبح عقيدة، لأنها وصلت إلى مرحلة الوجدان المحب لاختيار المحبوب.
وهكذا تمرُّ العقيدة بعدة مراحلَ؛ فهي أولاً إدراك حِسِّي؛ ثم مرحلة التفكّر العقلي؛ ثم مرحلة الاستجلاء للحقيقة؛ ثم الاستقرار في القلب لتصبح عقيدة.
ولذلك يقول سبحانه: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ ... } [الرعد: 28]
فاطمئنان القلب هو النتيجة للإيمان بالعقيدة؛ وقد يمرُّ على القلب بعضٌ من الأغيار التي تزلزل الإيمان، ونقول لمن تمرُّ به تلك الهواجس من الأغيار: أنت لم تُعْطِ الربوبية حقها؛ لأنك أنت الملوم في أي شيء يَنَالُكَ.
فلو أحسنتَ استقبال القدر فيما يمرُّ بك من أحداث، لَعلِمْتَ تقصيرك فيما لك فيه دَخْل بأيِّ حادث وقع عليك نتيجة لعملك، أما مَا وقع عليك ولا دَخْل لك فيه؛ فهذا من أمر القَدَر الذي أراده الحقُّ لك لحكمة قد لا تعلمها، وهي خير لك.
إذن: استقبال القدر إن كان من خارج النفس فهو لك، وإن كان من داخل النفس فهو عليك. ولو قُمْتَ بإحصاء ما ينفعك من وقوع القدر عليك لَوجدتَّه أكثرَ بكثير مما سَلَبه منك. والمَثَل هو الشاب الذي استذكر دروسه واستعدَّ للامتحان؛ لكن مرضاً داهمه قبل الامتحان ومنعه من أدائه.(12/7319)
هذا الشاب فعلَ ما عليه؛ وشاءَ الله أن ينزل عليه هذا القدر لحكمة ما؛ كأنْ يمنع عنه حسَد جيرانه؛ أو حسدَ مَنْ يكرهون أًمه أو أباه، أو يحميه من الغرور والفتنة في أنه مُعتمِد على الأسباب لا على المُسبِّب. أو تأخير مرادك أمام مطلوب الله يكون خيراً.
وهكذا فَعَلى الإنسان المؤمن أن يكون موصولاً بالمُسبِّب الأعلى، وأنْ يتوكل عليه سبحانه وحده، وأن يعلم أنْ التوكل على الله يعني أن تعمل الجوارح، وأنْ تتوكَّل القلوب؛ لأن التوكل عملٌ قلبي، وليس عملَ القوالب.
ولينتبه كُلٌّ مِنّا إلى أن الله قد يُغيب الأسباب كي لا نغتر بها، وبذلك يعتدل إيمانك به؛ ويعتدل إيمان غيرك.
وقد ترى شاباً ذكياً قادراً على الاستيعاب، ولكنه لا ينال المجموع المناسب للكلية التي كان يرغبها؛ فيسجد لله شكراً؛ مُتقبِّلاً قضاء الله وقَدَره؛ فَيُوفِّقه الله إلى كلية أخرى وينبغ فيها؛ ليكون أحدَ البارزين في المجال الجديد.
ولهذا يقول الحق سبحانه: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
وهكذا نجد أن مَنْ يقبل قَدر الله فيه، ويذكر أن له رباً فوق كل الأسباب؛ فالاطمئنان يغمرُ قلبه أمام أيِّ حدَثٍ مهْمَا كان.
وهكذا يطمئن القلب بذكر الله؛ وتهون كُلّ الأسباب؛ لأن الأسباب إنْ عجزتْ؛ فلن يعجز المُسبِّب.
وقد جاء الحق سبحانه بهذه الآية في مَعرِض حديثه عن التشكيك(12/7320)
الذي يُثيره الكافرون، وحين يسمع المسلمون هذا التشكيك؛ فقد توجد بعض الخواطر والتساؤلات: لماذا لم يَأْتِ لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمعجزة حِسِّية مثل الرُّسُل السابقين لتنفضّ هذه المشكلة، وينتهي هذا العناد؟
ولكن تلك الخواطر لا تنزع من المؤمنين إيمانهم؛ ولذلك يُنزِل الحق سبحانه قوله الذي يُطمئِن: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله ... } [الرعد: 28]
والذِّكْر في اللغة جاء لِمَعَانٍ شتّى؛ فمرّة يُطلق الذِّكر، ويُرَاد به الكتاب أي: القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
ويأتي الذكر مرّة، ويُرَاد به الصِّيت والشهرة والنباهة، يقول تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]
أي: أنه شَرَفٌ عظيم لك في التاريخ، وكذلك لقومك أنْ تأتي المعجزة القرآنية من جنس لغتهم التي يتكلمون بها.
وقد يطلق الذكر على الاعتبار؛ والحق سبحانه يقول: { ... ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} [الفرقان: 18](12/7321)
أي: نسوا العِبَر التي وقعتْ للأمم التي عاشتْ من قبلهم؛ فنصَر الله الدينَ رغم عناد هؤلاء.
وقد يطلق الذكر على كُلِّ ما يبعثه الحق سبحانه على لسان أيِّ رسول: { ... فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وقد يُطلق الذِّكْر على العطاء الخيّر من الله.
ويُطْلق الذِّكْر على تذكر الله دائماً؛ وهو سبحانه القائل: {فاذكروني أَذْكُرْكُمْ ... } [البقرة: 152]
أي: اذكروني بالطاعة أذكرْكُم بالخير والتجليّات، فإذا كان الذِّكْر بهذه المعاني؛ فنحن نجد الاطمئنان في أيٍّ منها، فالذكر بمعنى القرآن يُورثِ الاطمئنان.
ويقول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} [الأحزاب: 4143]
فكُلُّ آية تأتي من القرآن كانت تُطمئِنُ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه صادقُ البلاغِ عن الله؛ فقد كان المسلمون قلة مُضطهدة، ولا يقدرون على حماية أنفسهم، ولا على حماية ذَوِيهم.
ويقول الحق سبحانه في هذا الظرف: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45](12/7322)
ويتساءل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أيُّ جمع هذا، ونحن لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا؛ وقد هاجر بعضنا إلى الحبشة خوفاً من الاضطهاد؟
ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسير إلى بدر، ويُحدِّد أماكن مصارع كبار رموز الكفر من صناديد قريش؛ ويقول: «هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان» ؛ بل ويأتي بالكيفية التي يقع بها القتل على صناديد قريش؛ ويتلو قول الحق سبحانه: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16]
وبعد ذلك يأتون برأْس الرجل الذي قال عنه رسول الله ذلك؛ فيجدون الضربة قد جاءت على أنفه.
فمنْ ذَا الذي يتحكم في مواقع الموت؟(12/7323)
إن ذلك لا يتأتى إلاَّ من إله هو الله؛ وهو الذي أخبر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذا الخبر: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45]
وقد طمأنَ هذا القولُ القومَ الذين اتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي لا يعلم الغيب، ولا يعلم الكيفية التي يموت عليها أيُّ كافر وأيُّ جبار؛ وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبرهم بها وهُمْ في منتهى الضَّعْف.
وهذا الإخبار دليل على أن رصيده قويّ عند علاَّم الغيوب.
إذن: فقول الحق سبحانه: { ... أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]
يعني: أن القلوب تطمئن بالقرآن وما فيه من أخبار صادقة تمام الصدق، لتؤكد أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبلِّغ عن ربِّه؛ وأن القرآن ليس من عند محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل هو من عند الله.
وهكذا استقبل المؤمنون محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصَدَّقوا ما جاء به؛ فها هي خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأرضاها لم تكُنْ قد سمعت القرآن؛ وما أنْ أخبرها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمخاوفه من أنَّ ما يأتيه قد يكون جناً، فقالت: «إنك لتَصِلُ الرَّحِم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقْري الضَّيْف، وتُعينَ على نوائب الحق، واللهِ ما يخزَيك الله أبداً» .(12/7324)
وهاهو أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه يصدق أن محمداً رسول من الله، فَوْرَ أن يخبره بذلك.
وهكذا نجده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد امتلك سِمَاتاً؛ وقد صاغ الله لرسوله أخلاقاً، تجعل مَنْ حوله يُصدِّقون كُلَّ ما يقول فَوْر أنْ ينطق.
ونلحظ أن الذين آمنوا برسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لم يؤمنوا لأن القرآن أخذهم؛ ولكنهم آمنوا لأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يمكن أن يَكْذِبهم القول، وسيرته قبل البعثة معجزة في حَدِّ ذاتها، وهي التي أدَّتْ إلى تصديق الأوَّلين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أما الكفار فقد أخذهم القرآن؛ واستمال قلوبهم، وتمنَّوا لو نزل على واحد آخر غير محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وحين يرى المؤمنون أن القرآن يُخبرهم بالمواقف التي يعيشونها، ولا يعرفون لها تفسيراً؛ ويخبرهم أيضاً بالأحداث التي سوف تقع، ثم يجدون المستقبل وقد جاء بها وِفْقاً لما جاء بالقرآن، هنا يتأكد لهم أن القرآنَ ليس من عند محمد، بل هو من عند رَبِّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.(12/7325)
ولذلك فحين يُثير الكفار خزعبلاتهم للتشكيك في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي القرآن مُطَمْئِناً للمؤمنين؛ فلا تؤثر فيهم خزعبلات الكفار.
والمؤمن يذكر الله بالخيرات؛ ويعتبر من كل ما يمرُّ به، وبكل ما جاء بكتاب الله؛ وحين يقرأ القرآن فقلبه يطمئِنُّ بذكر الله؛ لأنه قد آمن إيمانَ صِدْقٍ.
وقد لمس المؤمنون أن أخبار النبي التي يقولها لهم قد تعدَّتْ محيطهم البيئيّ المحدود إلى العالم الواسع بجناحَيْه الشرقي في فارس، والغربي في الروم.
وقد أعلن لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل المثال خبر انتصار الروم على الفرس، حين أنزل الحق سبحانه قوله: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ. .} [الروم: 1 - 4]
فأروني أيّ عبقرية في العالم تستطيع أن تتحكم في نتيجة معركة بين قوتين تصطرعان وتقتتلان؛ وبعد ذلك يحدد مِنَ الذي سينتصر، ومنِ الذي سَيُهزم بعد فترة من الزمن تتراوح من خَمْس إلى تِسَع سنوات؟
وأيضاً تأتي الأحداث العالمية التي لا يعلم عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيئاً، وتوافق ما جاء بالقرآن.
وكُلُّ ذلك يجعل المؤمنين بالقرآن في حالة اطمئنان إلى أن هذا القرآن صادق، وأنه من عند الله، ويُصدّق هذا قول الحق سبحانه:(12/7326)
{الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]
ونعلم أن الكون قد استقبل الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام استقبالاً، وقد هُيِّئ له فيه كُلُّ شيء من مُقوِّمات الحياة؛ وصار الإنسانُ يعيش في أسباب الله، تلك الأسباب المَمْدودة من يَدِ الله؛ فنأخذ بها وتترقَّى حياتنا بِقَدْر ما نبذل من جَهْد.
وما أنْ نموتَ حتى نصِلَ إلى أرْقى حياة؛ إنْ كان عملُنا صالحاً وحَسُنَ إيماننا بالله؛ فبعد أنْ كُنّا نعيش في الدنيا بأسباب الله الممدودة؛ فنحن نعيش في الآخرة بالمُسبِّب في جنته التي أعدَّها للمتقين.
وقول الحق سبحانه: { ... أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]
يعني: أن الاطمئنان مُستْوعِب لكل القلوب؛ فكل إنسان له زاوية يضطرب فيها قلبه؛ وما أنْ يذكر الله حتى يجِدَ الاطمئنان ويتثبتَ قلبه.
وقد حاول المستشرقون أن يقيموا ضَجَّة حول قوله تعالى: { ... أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]
وتساءلوا: كيف يقول القرآن هنا أن الذِّكْر يُطمئِن القلب؛ ويقول في آية أخرى:(12/7327)
{إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } [الأنفال: 2]
فأيُّ المعنيَيْنِ هو المراد؟
ولو أن المستشرقين قد استقبلوا القرآن بالمَلَكة العربية الصحيحة لَعلِموا الفارق بين: { ... أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28]
وبين قول الحق سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... } [الأنفال: 2]
فكأنه إذا ذُكِر الله أمام الناس؛ وكان الإنسان في غَفْلة عن الله؛ هنا ينتبه الإنسان بِوجَلٍ.
أو: أن الحق سبحانه يخاطب الخَلْق جميعاً بما فيهم من غرائز وعواطف ومواجيد؛ فلا يوجد إنسان كامل؛ ولكُلِّ إنسان هفوة إلا مَنْ عصم الله.
وحين يتذكر الإنسانُ إسرافه من جهة سيئة؛ فهو يَوْجَل؛ وحين يتذكر عَفْو الله وتوبته ومغفرته يطمئن.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ... }(12/7328)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
وطُوبَى من الشيء الطيِّب؛ أي: سيُلاقُونَ شيئاً طيباً في كُلِّ مظاهره: شكلاً ولَوْناً وطَعْماً ومزاجاً وشهوة، فكُلُّ ما يشتهيه الواحد منهم سيجده طيباً؛ وكأن الأمر الطيب موجوداً لهم.
وقول الحق سبحانه: {وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]
أي: حُسْنُ مرجعهم إلى مَنْ خلقهم أولاً، وأعاشهم بالأسباب؛ ثم أخذهم ليعيشوا بالمُسبِّب الأعلى؛ وبإمكانية «كُنْ فيكون» .
ويريد الحق سبحانه من بعد ذلك أنْ يُوضِّح لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه رسول من الرُّسُل؛ وكان كل رسول إلى أيِّ أمة يصحب معه معجزة من صِنْف ما نبغ فيه قومه.
وقد أرسل الحق سبحانه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه المعجزة التي تناسب قومه؛ فَهُمْ قد نبغوا في البلاغة والبيان وصناعة الكلام، وقَوْل القصائد الطويلة وأشهرها المُعلَّقات السبع؛ ولهم أسواقٌ أدبية مثل: سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز.
ولذلك جاءت معجزته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جنس ما نبغُوا فيه؛ كي تأتيهم الحُجَّة والتعجيز.
ولو كانت المعجزة في مجال لم ينبغوا فيه؛ لقالوا: «لم نعالج أمراً مثل هذا من قبل؛ ولو كُنَّا قد عالجناه لَنبغْنَا فيه» .
وهكذا يتضح لنا أن إرسالَ الرسولِ بمعجزة في مجال نبغَ فيه(12/7329)
قومه هو نَوْعٌ من إثبات التحدِّي وإظهار تفوُّق المعجزة التي جاء بها الرسول.
وهكذا نرى أن إرسال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن وإنْ لم يُقنِع الكفار إنما كان مُطَابقاً لمنطق الوحي من السماء للرسالات كلها.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ ... }(12/7330)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
فكما أرسلك الله إلى أمتك؛ فقد سبق أنْ أرسل سبحانه رُسُلاً إلى الأمم التي سبقتْ؛ ولم يُرسِل مع أيٍّ منهم معجزة تناقض ما نبغَ فيه قومُه؛ كَيْ لا يقولَ واحدٌ أن المعجزة التي جاءتْ مع الرسول تتناولُ ضَرْباً لم يَأْلفوه؛ ولو كانوا قد أَلِفوه لَمَا تفوَّق عليهم الرسول.
وقول الحق: {كَذَلِكَ ... } [الرعد: 30] يعني: كهذا الإرسال السابق للرسل جاء بَعْثُكَ إلى أمتِك، كتلك الأمم السابقة.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالاسم الذي كان يجب أن يَقْدروه حَقَّ قَدْره وهو «الرحمن» فلم يَقُلْ: وهم يكفرون بالله بل قال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن ... } [الرعد: 30](12/7330)
فهم يعيشون رغم كُفْرهم في رزق من الله الرحمن، وكُل ما حولهم وما يُقيتهم وما يَسْتمتعون به من نِعَم عطاءاتٌ من الله.
وهم لا يقومون بأداء أيٍّ من تكاليف الله؛ فكان من اللياقة أن يذكروا فَضْل الله عليهم؛ وأنْ يؤمنوا به؛ لأن مطلوب الألوهية هو القيام بالعبادة.
وهو سبحانه هنا يأتي باسمه «الرحمن» ؛ والذي يفيد التطوع بالخير؛ وكان من الواجب أن يقدرُوا هذا الخيْر الذي قدَّمه لهم سبحانه، دون أن يكون لهم حَوْلٌ أو قوة.
وكان يجب أن يعتبروا ويعلنوا أنهم يتجهون إليه سبحانه بالعبادة؛ وأنْ يُنفّذوا التكليف العباديّ.
وفي صُلْح الحديبية دارتْ المفاوضات بين المسلمين وكفار قريش الذين منعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دخول مكة، ولكنهم قَبِلوا التعاهد معه، فكان ذلك اعترافاً منهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصَحْبه الذين صاروا قوة تُعاهِدُ؛ تأخذ وتعطي.
ولذلك نجد سيدنا أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يقول: «ما كان في الإسلام نصرٌ أعظم من نَصْر الحديبية» .
فقد بدأتْ قريش في الحديبية الاعترافَ برسول الله وأمة الإسلام؛ وأخذوا هُدْنة طويلة تمكَّن خلالها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصحابته من أنْ يغزُوا القبائل التي تعيش حول قريش؛ حيث كانت تذهب سَرِية ومعها مُبشِّر بدين الله؛ فتُسلِم القبائل قبيلة من بَعْد قبيلة.(12/7331)
وهكذا كانت الحديبية هي أعظم نصْر في الإسلام؛ فقد سكنتْ قريش؛ وتفرَّغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَنْ معه لدعوة القبائل المحيطة بها للإسلام.
ولكن الناس لم يتسع ظنُّهم لما بين محمد وربِّه. والعباد دائماً يَعْجلون، والله لا يَعْجل بعَجلةِ العباد حتَّى تبلغَ الأمورُ ما أراد.
«وحين جاءت لحظة التعاقد بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش في الحُديْبية، وبدأ عليُّ بن أبي طالب في كتابة صيغة المعاهدة، كتب» هذا ما صَالح عليه محمد رسول الله «فاعترض سهيل بن عمرو وقال: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب:» هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو «.
وأصر صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن تُكتب صفة محمد كرسول، لكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله «.
ولكن علياً كرَّم الله وجهه يُصِرُّ على أن يكتب صفة محمد كرسول من الله؛ فيُنطق الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليقول لعليّ:» ستسام مثلها فتقبل(12/7332)
«. ولما تولَّى عليٌّ كرم الله وجهه بعد أبي بكر وعمر وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين، وقامت المعركة بين علي ومعاوية؛ ثم اتفق الطرفان على عَقْد معاهدة؛ وكتب الكاتب» هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «فقال عمرو بن العاص مندوب معاوية:» اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس أميرنا «.
وهنا تذكَّر علي كرم الله وجهه ما قاله سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» سَتُسَام مثلها فتقبَّل «وقَبِلها فقال:» امْحُ أمير المؤمنين، واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب «» .
وتحققت مقولة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن الوقائع التي تُثبِّتُ الإيمانَ؛ نجد قصة عمار بن ياسر، وكان ضمن صُفوف علي كرَّم الله وجهه وأرضاه في المواجهة مع معاوية؛ وقتله جُنود معاوية؛ فصرخ المسلمون وقالوا: «ويح عمار، تقتله الفئة الباغية. وهكذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قال.
وبذلك فَهِم المسلمون أن الفئة الباغية هي فئة معاوية، وانتقل كثير من المسلمين الذين كانوا في صَفِّ معاوية إلى صَفِّ علي بن أبي طالب؛ فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال: تفشَّت في(12/7333)
الجيش فَاشِية، إن استمرتْ لن يبقى معنا أحد؛ فقد قتلنا عمار بن ياسر؛ وذكر صحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قوله:» وَيْحَ عمار، تقتله الفِئة البَاغِية «وقد فَهِم المقاتلون معنا أن الفئة الباغية هي فئتنا.
وكان معاوية من الدهاء بمنزلة؛ فقال: اسْعَ في الجيش وقُلْ:» إنما قتله مَنْ أخرجه «ويعني عليّاً. ولما وصل هذا القول لعليٍّ قال: ومَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب، وقد أخرجه للقتال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟!
وهنا في قول الحق سبحانه: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ ... } [الرعد: 30]
إنما يعني أن الحق قد أرسلك يا محمد بمعجزة تُناسب ما نبغَ فيه قومك، وطَلَبُ غير ذلك هو جَهْل بواقع الرسالات وتعَنُّتٌ يُقصَد منه مزيدٌ من ابتعادهم عن الإيمان.
وقول الحق سبحانه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن قُلْ هُوَ رَبِّي.
. .} [الرعد: 30]
أي: أنهم حين يُعلنون الكفر فأنت تصادمهم بإعلان الإيمان، وتقول: {هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ ... } [الرعد: 30]
وكلمة «ربي» تنسجم مع كلمة «الرحمن» الذي يُنعِم بالنعم كلها؛ وهو المُتولِّي تربيتي؛ ولو لم يفعل سِوَى خَلْقي وتربيتي ومَدّي بالحياة ومُقوِّماتها؛ لَكانَ يكفي ذلك لأعبده وحده ولا أشرك به أحداً.(12/7334)
ولو أن الإنسان قد أشرك بالله؛ لالتفتَ مرة لذلك الإله؛ ومرة أخرى للإله الآخر؛ ومرة ثالثة للإله الثالث وهكذا، وشاء الله سبحانه أن يريح الإنسان من هذا التشتت بعقيدة التوحيد.
ويأتي القرآن ليُطمئن القلوب أيضاً وليذكر: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29]
وهكذا يعرض لنا القرآن صورتين:
الصورة الأولى: لرجل يملكه أكثر من سيد، يعارضون بعضهم البعض.
والصورة الثانية: لرجل آخر، يملكه سيد واحد.
ولابُدَّ للعقل أن يعلمَ أن السيد الواحد افضل من الأسياد المتعددين؛ لأن تعدُّد الأسياد فساد وإفساد، يقول الحق سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22]
والعاقل هو مَنْ لا يُسلِّم نفسه إلا لسيّد واحد يثق أنه أمين عليه، ونحن في حياتنا نقول: ما يحكم به فلان أنا أرضى به؛(12/7335)
وقد وَكَلْته في كذا. ولا أحد مِنّا يُسلِّم نفسه إلا لمَنْ يرى أنه أمين على هذا الإسلام، ولابُدَّ أن يكون أمينا وقوياً، ويقدر على تنفيذ مطلوبه.
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المعركة العنيفة مع صناديد قريش قال: «إنِّي متوكل على الله» ، وهذه شهادة منه على أنه توكل على القوي الأمين الحكيم؛ والرسول لم يَقُلْ توكلت عليه؛ ولكنه قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ... } [الرعد: 30]
والفارق بين القَوْلَيْنِ كبير، فحين تقول «عليه توكلت» فأنت تَقْصر التوكُّل عليه وحده؛ ولكن إنْ قُلت: «توكلت عليه» . فأنت تستطيع أن تضيف وتعطف عدداً آخر مِمَّنْ يمكنك التوكل عليهم.
ولذلك نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... } [الفاتحة: 5]
ونحصر العبادة فيه وله وحده سبحانه؛ فلا تتعداه إلى غيره؛ ولو أنها أُخِرَّتْ لَجازَ أن يعطف عليه. ويُقَال في ذلك «اسم قصر» أي: أن العبادة مَقْصورة عليه؛ وكذلك التوكُّل. {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ... } [الرعد: 30]
أي: أنني لا آخذ أوامري من أحد غيره ومرجعي إليه.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:(12/7336)
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال ... }(12/7337)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
و (لو) حَرْف شَرْط يلزم لها جوابُ شَرْطٍ، وقد ترك الحق سبحانه جواب الشَّرْط هنا اعتماداً على يقظة المُسْتمع. وإنْ كان مثل هذا القول ناقصاً حين ننطق نحن به، فهو ليس كذلك حين يأتي من قَوْل الله سبحانه؛ فهو كامل فيمن تكلَّم، وقد تركها ليقظة المُسْتمِع للقرآن الذي يبتدر المعاني، ويتذكَّر مع هذه الآية قوله الحق: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7]
وكذلك قول الحق سبحانه: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ(12/7337)
شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]
إذن: من كل نظائر تلك الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نأخذ جواب الشرط المناسب لها من تلك الآيات؛ فيكون المعنى: لو أن قُرْآناً سُيِّرتْ به الجبال، أو قُطِّعَتْ به الأرض، أو كُلِّمَ به المُوْتى لَمَا آمنوا.
ويُرْوَى أن بعضاً من مُشْرِكي قريش مثل: أبي جهل وعبد الله ابن أبي أمية جَلَسَا خلف الكعبة وأرسلا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقال له عبد الله: إن سَرَّك أن نتبعك فَسَيِّر لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عَنَّا حتى تنفسح، فإنها أرض ضيّقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً، حتى نغرس ونزرع، فلستَ كما زعمْتَ بأهْونَ على ربِّك من داود حين سخَّر له الجبال تسير معه، وسَخِّر لنا الرِّيح فنركبها إلى الشام نقضي عليها مَيْرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا، فقد سخِّرَتْ الريحُ لسليمانَ بن داود، ولسْتَ بأهونَ على ربِّك من سليمان، وأحْيي لنا قَصَبَ جَدِّك، أو مَنْ شئتَ أنت من موتانا نسأله، أحقٌّ ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يُحيي المُوْتَى، ولستَ بأهونَ على الله منه، فأنزل الحق سبحانه هذه الآية وما قبلها للرد عليهم.(12/7338)
وكانت تلك كلها مسائل يتلكَّكُونَ بها ليبتعدوا عن الإيمان؛ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد جاء بمعجزة من جِنْس ما نَبِغُوا فيه؛ وجاء القرآن يَحْمِل منهج السماء إلى أنْ تقومَ الساعة.
وقد طلبوا أنْ تبتعد جبال مكة ليكونَ الوادي فسيحاً؛ ليزرعوا ويحصدوا؛ وطلبوا تقطيع الأرض، أي: فَصْل بقعة عن بقعة؛ وكان هذا يحدث بِحَفْر جداول من المياه، وقد قال الكافرون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90]
والمراد من تقطيع الأرض حسب مطلوبهم أن تقصُرَ المسافة بين مكان وآخر، بحيث يستطيع السائر أنْ يستريح كل فَتْرة؛ فالمسافر يترك في كل خطوة من خطواته أرضاً؛ ويصل إلى أرض أخرى، وكُلٌّ يقطع الأرض على حَسْب قدرته ووسيلة المواصلات التي يستخدمها.
فالمُتْرَف يريد أن يكون المسافة كبيرة بين قطعة الأرض والأخرى؛ لأنه يملك الجِيَاد التي يمكن أن يقطع بها المسافة بسهولة، أما مَنْ ليس لديه مطية؛ فهو يحب أن تكون المسافات قريبة ليستطيع أنْ يستريح.
ونلحظ أن ذلك في زماننا المعاصر، فحين زادَ الترف صارتْ السيارات تقطَع المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية دون توقُّف؛ عَكْس ما كان يحدث قديماً حين كانت السيارات تحتاج إلى راحة ومعها المسافرون بها، فيتوقفون في مُنتصَفِ الطريق.(12/7339)
ومثل ذلك قد حدث في مملكة سبأ، يقول الحق سبحانه: {فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ ... } [سبأ: 19]
أي: اجعل المسافة بين مكان وآخر بعيدة، كي يتمتع المُسافِر القادرُ بالمناظر الطيبة.
ولاحظنا أيضاً تمادي المشركين من قريش في طلب المعجزات الخارقة؛ بأنْ طلبوا إحياء المَوْتى في قول الحق سبحانه: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى ... } [الرعد: 31]
وبعضهم طلب إحياء قصي بن كلاب الجد الأكبر لرسول الله ولقريش؛ ليسألوه: أحَقٌّ ما جاء به محمد؟ ولكن القرآن لم يَأْتِ لِمثْل تلك الأمور؛ وحتى لو كان قد جاء بها لَمَا آمنوا.
ومهمة القرآن تتركز في أنه منهج خَاتَمٌ صالح لكل عصر؛ وتلك معجزته.
ويقول سبحانه: {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً ... } [الرعد: 31]
وكلمة «أمر» تدلُّ على أنه شيء واحد، وكلمة «جميعاً» تدل على مُتعدِّد، وهكذا نجد أن تعدُّد الرسالات والمُعْجِزات إنما يدلُّ على(12/7340)
أن كُلَّ من أمر تلك الرسالات إنما صدرَ عن الحق سبحانه؛ وهو الذي اختار كلَّ مُعْجزة لتناسب القومَ الذين ينزل فيهم الرسول.
ويتابع سبحانه: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً ... } [الرعد: 31]
وكلمة «ييأس» يُقَال إنها هنا بمعنى «يعلم» ؛ فهي لغة بلهجة قريش، أي: ألم يعلم الذين آمنوا أن هؤلاء الكفار لم يهتدوا؛ لأن الله لم يَشَأ هدايتهم.
وكان المؤمنون يودُّون أن يؤمنَ صناديدُ قريش كي يَخِفَّ الجهد عن الفئة المسلمة؛ فلا يضطهدونهم، ولا يضايقونهم في أرزاقهم ولا في عيالهم.
ويوضح الحق سبحانه هنا أن تلك المسألةَ ليست مُرتبطة برغبة المؤمن من هؤلاء؛ بل الإيمان مسألة تتطلب أنْ يُخرِج الإنسان ما في قلبه من عقيدة، وينظر إلى القضايا بتجرُّد، وما يقتنع به يُدخِله في قلبه.
وبذلك يمتلئ الوعَاء العقديّ بما يُفيد؛ كي لا تدخل في قلبك عقيدة، ولا تأتي عقيدة أخرى تطردُ العقيدة، أو تُزيغ قلبك عَمَّا تعتقد، يقول تعالى: {مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ... } [الأحزاب: 4]
فالوعاء القلبي كالوعاء الماديّ تماماً؛ لا يقبل أنْ يتداخل فيه(12/7341)
جِرْمَان أبداً، فإنْ دخل جِرْم على جِرْم؛ إنْ كان أقوى فهو يطرد من القلب الأَدْنى منه.
والمثَلُ على ذلك: لنفترض أن عندنا إناءً ممتلئاً عن آخره؛ ويحاول واحدٌ منا أنْ يضعَ فيه كُرةً صغيرة من الحديد؛ هنا سيجد أن الماءَ يفيضُ من حَوافِّ الإناء بما يُوازِي حجم كرة الحديد، وهذا ما يحدث في الإناء الماديّ، وكذلك الحال في الإناء العَقَديّ.
ولذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي:
«لا يجتمع حبي وحب الدنيا في قلب» .
وهكذا نرى أن هناك حَيِّزاً للمعاني أيضاً مثلما يوجد حَيِّز للمادة، فإذا كنتَ تريد حقيقةَ أن تُدخِل المعاني العَقَدية الصحيحة في قلبك؛ فلابُدَّ لك من أنْ تطردَ أولاً المعاني المناقضة من حَيِّز القلب، ثم ابحَثْ بالأدلة عن مدى صلاحية أيٍّ من المعنيين؛ وما تجده قويَّ الدليل؛ صحيحَ المنطق؛ موفورَ القوة والحُجَّة؛ فَأدخِلْه في قلبك.
ولم يفعل الكفار هكذا؛ بل تمادَوْا في الغَيِّ إصراراً على ما يعتقدون من عقيدة فاسدة؛ أما مَنْ أسلم منهم فقد أخرج من قلبه العقيدة القديمة؛ ولم يُصِر على المُعْتَنق القديم؛ بل درسَ وقارنَ؛ فأسرع إلى الإسلام.(12/7342)
أما مَنْ كان قلبه مشغولاً بالعقيدة السابقة؛ ويريد أنْ يُدخِل العقيدة الإسلامية في قلبه؛ فهو لم ينجح في ذلك؛ لأن قلبه مشغولٌ بالعقيدة القديمة.
وإذا كنت يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تريد من هؤلاء أن يؤمنوا؛ فلابد أن يعتمد ذلك على إرادتهم، وأنْ يُخرِجوا من قلوبهم العقيدة الفاسدة؛ وأنْ يبحثوا عن الأصحِّ والأفضل بين العقيدتين.
ولذلك يعلمنا الحق سبحانه كيف نصل إلى الحقائق بسهولة، فيقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ... } [سبأ: 46]
أي: قُلْ يا محمد لِمَنْ كفر بك: إنِّي أعظكم عِظَة، وأنت لا تَعِظ إلا مَنْ تحب أن يكون على الحق؛ وهذا يُفسر قول الحق سبحانه: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
ولهذا يريد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تكونوا مؤمنين؛ لذلك يدعوكم أن تقوموا لله؛ لا لِجَاهِ أحد غيره؛ لأن جاه أيِّ كائن سيزول مَهْمَا كان هذا الواحد، ولا تقولن لنفسك: إن العبيد سيتساوون معك.
بل قُمْ لله إما مثنى أي أن تكون قائماً ومعك آخر؛ أو يقوم غيرك(12/7343)
اثنين اثنين ليناقش كل منكم مع من يجلس معه؛ ولا يتحيز أحد منكم لِفكْر مُسْبق بل يُوجِّه فكره كله متجرداً لله.
وليتساءل كل واحد: محمد هذا، صفته كذا وكذا، وقد فعل كذا، والقرآن الذي جاء به يقول كذا، وسيجد الواحد منكم نفسه وقد اهتدى للحق بينه وبين نفسه، وبينه وبين مَنْ جلس معه ليناقشه فيستعرضان معه تاريخ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما جاء به.
وحين يتناقش اثنان لن يخاف أيٌّ منهما أن يهزمه الآخر، لكن لو انضمَّ إليهما ثالثٌ؛ فكل واحد يريد أن يعتز برأيه؛ ويرفض أن يقبل رَأْي إنسان غيره، ويخشى أن يُعتبر مهزوماً في المناقشة؛ ويرفض لنفسه احتمال أنْ يستصغره أحد.
ولذلك قال الحق سبحانه: {مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ... } [سبأ: 46]
و «الجِنَّة» هي اختلال العقل؛ أي: أن مَنْ به جِنَّة إنما يتصرف ويسلُك بأعمال لا يرتضيها العقل.
ويقرن الحق سبحانه بين العقل وبين الخُلُق، فيقول: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]
ويُقَال: فلان على خُلق. أي: يملك من الصفات ما يجعله على الجَادَّة من الفضائل؛ مثل الصِّدْق والأمانة؛ وهذه صفاتٌ يَنْظِمها في مواقفها الفِكْر العقليّ؛ وهو الذي يُميِّز لنا أيَّ المواقف تحتاج إلى شِدّة؛ أو لِينٍ؛ أو حكمة، وكلُّ هذه أمور يُرتِّبها العقل.(12/7344)
والخُلُق الرفيع لا يصدر عن مجنون؛ لأنه لا يعرف كيف يختار بين البدائل؛ لذلك لا نحاسبه نحن؛ ولا يحاسبه الله أيضاً.
وحين يأمرهم الحق سبحانه أن يبحثوا: هل محمد يعاني من جِنَّة؟ فالحق سبحانه يعلم مُقدَّماً أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشهادتهم يتمتَّع بكمال الخلق؛ بدليل أن أهمَّ ما كانوا يملكونه كانوا يستأمنون عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وبدليل أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حينما دخل عليهم وكانوا مختلفين في أمر بناء الكعبة؛ ارتضوه حَكَماً.
ولذلك يقول سبحانه: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1 - 2]
وهكذا رأينا أن هؤلاء الكفار ما كانوا ليؤمنوا؛ ولم يَكُنِ اللهُ لِيهدِيَهم؛ لأنهم كانوا لا يملكون أَدْنى استعداد للهداية؛ وكأنهم أدمنُوا الكفر والعياذ بالله؛ وقد طبع الله على قلوبهم فزادهم كفراً؛(12/7345)
فما في تلك القلوب من كفر لا يخرج منها؛ وما بخارجها لا يدخل فيها.
وقد ظَنَّ بعض من المسلمين أن كُفْر هؤلاء قد يُشقِي المؤمنين بزيادة العَنتِ من الكافرين ضدهم؛ لذلك يوضح الحق سبحانه لأهل الإيمان أن نَصْره قريب، فيقول سبحانه: { ... وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [الرعد: 31]
أي: اطمئنوا يا أهل الإيمان؛ فلن يظلَّ حال أهل الكفر على ما هو عليه؛ بل ستصيبهم الكوارث وهم في أماكنهم، وسيشاهدون بأعينهم كيف ينتشر الإيمان في المواقع التي يسودونها؛ وتتسع رقعةُ أرض الإيمان، وتضيق رقعة أهل الكفر؛ ثم يأتي نَصْر الله وقد جاء نَصْر الله ولم يَبْقَ في الجزيرة العربية إلا مَنْ يقول: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» .
وهكذا تنبأتْ الآية بمجيء الأمل بعد اليأس، كي لا يظلَّ اليأس مُسَيْطراً على حركة المسلمين وعلى نفوسهم، واستجاب الحق سبحانه لدعوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين دعاه قائلاً: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» .
وقُتِل صناديدُهم واحداً وراء الآخر؛ ولكن عنادهم استمر؛ وبلغ(12/7346)
العناد حَدَّ أن ابنتَيْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانتا مُتزوِّجتيْنِ من ابنيْ أبي لَهَبٍ؛ فلما أعلن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسالته؛ قال أبو لهب وزوجته: لابد أن يُطلِّق أبناؤنا بنات محمد؛ فلما طلَّق أوَّلهما بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً:
«أما إني أسأل الله أن يسلط عليه كلبه» .
وها هو أبو لهب الكافر يقول: «لا تزال دعوة محمد على ابني تشغل بَالي وتُقلِقني، وأخاف أن أبعث بولدي إلى رحلة الشام كي لا تستجيب السماءُ لدعوة محمد» .
وكان من المناسب ألاَّ يخاف، وجاء ميعاد السفر لقافلة الشام. وسافر أبو لَهَبٍ مع ولديه، وحين جاء ميعاد النوم أمر أبو لهب الرجال أن يقيموا سياجاً حول ولده وكأن الرجال حوله كخط بارليف الذي بنتْه إسرائيل على قناة السويس ليمنع عنها صَيْحة النصر التي حملت صرخة الله أكبر ثم أصبح الصبح فوجدوا أن وحشاً قد نهش ابن أبي لَهَب.
وقال الناس: كان أبو لَهَب يخشى دعوة محمد؛ ورغم ذلك فقد تحققت. فقال واحد: ولكن محمداً دعا أن ينهشَه كلب وقال له «أكلك كلب من كلاب الله» ولم يَقُلْ فلينهشْكَ سبع، فرد عليه مَنْ(12/7347)
سمعه: وهل إذا نُسب كلب الله أيكون كلباً؟ لابد أن يكون الكائن المنسوب لله كبيراً.
وهكذا دَقَّتْ القارعة بيت الرجل الذي أصرَّ على الكفر، وتحقق قول الله: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ... } [الرعد: 31]
نعم، فهم قد أسرفوا في الكُفْر والعِناد؛ فجاءتْهم القارعة؛ والقارعة هي الشيء الذي يطرق بعنف على هادئ ساكن، ومنها نأخذ قَرْع الباب، وهناك فَرْق بين «نَقْر البابِ» و «قَرْع الباب» .
وقَوْل الحق سبحانه: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ... } [الرعد: 31]
يُوضِّحه أمْر صُلْح الحديبية الذي جاء بشارةً للمسلمين؛ فقد صار كفار قريش يفاوضون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبعث بالسرايا إلى المناطق المحيطة بمكة؛ فتأتي القبائل أفواجاً وهي تعلن إسلامها؛ ويبلغ ذلك قريشاً بأن الإسلام يواصل زَحْفه؛ ثم تأتيهم القارعة بأن يدخل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكة؛ ويتحقق وعد الله بأن يدخلوا هم أيضاً إلى حظيرة الإسلام.
أو: أن يكون المقصود ب:(12/7348)
{حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله ... } [الرعد: 31]
هو مجيء يوم القيامة الذي يحمل وَعْد الله بأن يحُلَّ عليهم ما يستحقونه من عذاب.
وفي هذا القول تطمين لِمَنْ قال الحق سبحانه في أول هذه الآية: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ ... } [الرعد: 31]
ذلك أن الله لا يُخلِف وعده، وهو القائل في تذييل هذه الآية: { ... إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [الرعد: 31]
ونعلم أن كلمة «وَعْد» عادة تأتي في الخير، أما كلمة «وعيد» فيه فتأتي غالباً في الشر.
والشاعر يقول:
وَإنِّي إذَا أَوْعدْتُه أَوْ وْعدْتُه ... لَمُنجِزٌ مِيعَادِي ومُخلِفٌ مَوْعِدي
فالإيعاد دائماً يكون بِشَرٍّ؛ والوَعْد يعني الخير، إلا أن بعض العرب يستعمل الاثنين. أو نستطيع أن نقول: إن المسألة بتعبير المؤمنين؛ أن الله سينصر المؤمنين بالقارعة التي تصيب أهل الكفر؛ أو تأتي حَوْل ديارهم، وفي ذلك وَعْد يُصبِّر به سبحانه المؤمنين؛ وهو في نفس الوقت وعيدٌ بالنسبة للكافرين.
وقوله سبحانه:(12/7349)
{ ... إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [الرعد: 31]
هو قضية قرآنية ستتحقق حَتْماً؛ في كل عصر وأوان، إذا ما أخذ المسلمون بأسباب الإيمان؛ وهي كقضية تختلف عن وَعْد أو وَعِيد البشر؛ لأن الإنسان قد يَعِد أو يتوعَّد؛ لكن أغيار الحياة تُصِيبه؛ فتُعطل قدرته على إنفاذ الوَعْد أو الوعيد.
أما حين يَعِدُ الله فالأمر يختلف؛ لأن وَعْده هو وَعْد مُطْلق؛ وهذا هو معنى: { ... إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [الرعد: 31]
يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن ... }(12/7350)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
ويقال «هَزَأ بفلان» أي: سخر منه، أما «اسْتُهزِئ بفلان» أي: طُلِب من الغير أنْ يهزأ بشخص معين، وهذا عليه إثمه وإثم مَنْ أوعز له بالسخرية من هذا الشخص.(12/7350)
وقول الحق سبحانه: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ ... } [الرعد: 32]
أي: لستَ بِدعاً يا محمد في أن يقف بعض الكافرين منك هذا الموقف. والمثَلُ هو الحَكَم بين أبي العاص أبو مروان الذي كان يُقلِّد مشية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وكان رسول الله يمشي كأنما يتحدَّر من صبب؛ وكان بصره دائماً في الأرض.
«ولم يكن الناس مُعْتادين على تلك المِشْية الخاشعة؛ فقد كانوا يسيرون بغرور مستعرضين مناكبهم.
وحين قَلَّد الحَكَمُ رسول الله رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنور البصيرة، فقال له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» كُنْ على هذا «، فصارت مِشْيته عاهة، بينما كانت مِشْية رسول الله تطامناً إلى ربه، وتواضعاً منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ونفَى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحَكَم إلى الطائف؛ وراح يَرْعى الغنم(12/7351)
هناك، ولم يَعْفُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه؛ وكذلك أبو بكر في خلافته؛ ولا عمر بن الخطاب؛ ولكن الذي عفا عنه هو عثمان بن عفان، وكان قريباً له.
وشهد عثمان بن عفان وقال:» والله لقد استأذنتُ رسول الله فيه فقال لي: إن استطعت أن تعفوَ عنه فَاعْفُ، وحين وَلِيتُ أمرَ المسلمين عَفَوْتُ عنه «.
وحدث من بعد ذلك أن تولَّى عبد الملك بن مروان أمر المسلمين؛ وكان لابنه الوليد خَيْل تتنافس مع خيل أولاد يزيد بن معاوية؛ واحتال أولاد يزيد بالغش، ووضعوا ما يُعرقِل خَيْل الوليد.
وحدث خلاف بين الفريقين فشتم الوليدُ أبناء يزيد؛ فذهب أولاد يزيد إلى عبد الملك يشكُون له ولده؛ وكان الذي يشكو لا يتقن نُطْق العربية دون أخطأ؛ فقال له عبد الملك: مَا لَكَ لا تقيم لسانك من اللحْن؟ فردَّ الذي يشكو ساخراً:» والله لقد أعجبتْنِي فصاحةُ الوليد «. ويعني: أن حال لسان ابن عبد الملك لا يختلف عن حال(12/7352)
لسان مَنْ يشكو؛ فكلاهما لا ينطق بِسَلاسَة، ويكثر اللحْنَ في النُّطْق بالعربية.
فقال عبد الملك: أَتُعيِّرني بعبد الله ابني الذي لا يُتقِن العربية دون لَحْن؟ إن أخاه خالداً لا يلحن. وتبع ذلك بقوله: اسكُتْ يا هذا، فلستَ في العِير ولا في النَّفِير.
وهذا مَثَلٌ نقوله حالياً، وقد جاء إلينا عَبْر قريش؛ حيث كانت السلطةُ فيها ذات مَصْدرين؛ مصدر العِير؛ أي: التجارة التي تأتي من القوافل عَبْر الشام وقائدها أبو سفيان؛ والنَّفِير؛ وهم القَوْم الذين نَفَرُوا لِنجْدةِ أبي سفيان في موقعة بدر؛ وكان يقودهم عتبة.
فقال ابن يزيد: ومَنْ أَوْلَى بالعِير والنَّفِير منِّي؟ ويعني أنه حفيدُ أبي سفيان من ناحية الأب؛ وحفيدُ عُتْبة من ناحية الأم.
وأضاف: لكن لو قُلْت شُوَيْهات وغُنَيْمات وذكرت الطائف لكنتَ على حق؛ ورَحِم الله عثمان الذي عفَا عن جَدِّك، وأرجعه من المَنْفى.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قال لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} [الحجر: 95]
وكان أيّ إنسان يسخر من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَلْقَى عقاباً إلهياً.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32](12/7353)
فأنت يا رسول الله لستَ بِدْعاً في الرسالة، ولك أسوة في الرسالة، والحق سبحانه يَعِدُكَ هنا في مُحْكَم كتابه: {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ... } [الرعد: 32]
أي: أمهلتُ الذين كفروا، والإملاء بمعنى الإمهال ليس معناه تَرْك العقوبة على الذَّنْب، وإنما تأخير العقوبة لذنب قادم، والمَثَل هو أن تترك مخطئاً ارتكبَ هَفْوة؛ إلى أنْ يرتكب هَفْوة ثانية؛ ثم ثالثة، ثم تُنْزِل به العقاب من حيثُ لا يتوقع.
وإذا كان هذا ما يحدث في عالم البشر؛ فما بَالُنا بقوة الحق سبحانه اللامتناهية، وهو القائل: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]
ويقول تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178]
تماماً مِثْلما نجد مَنْ يصنع فَخّاً لعدوه.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32]
وكلمة: { ... فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32]
توضح أنه كان عقاباً صارماً؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في موقع آخر:(12/7354)
{إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المطففين: 2936]
إذن: فلسوْفَ يَلْقَى الذين استهزءوا بالرسل العقاب الشديد.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ ... }(12/7355)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
ولقائل أنْ يتساءل: أَلَمْ يكُنْ من الواجب ما دام قد قال: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ... } [الرعد: 33]
أن يأتي بالمقابل، ويقول: كمَنْ ليس قائماً على كل نفس بما كسبت؟
ولمثل هذا السائل نقول: إنها عظمة القرآن الذي يترك للعقل(12/7355)
ما يمكن أن يستنبطه؛ فيأتي بأشياء تتطلَّب التفكير والاستنباط، كي يتنبَّه الإنسان أنه يستقبل كلام رَبٍّ حكيم؛ وعليه أن يبحث فيه.
ولذلك يقول سيدنا عبد الله بن مسعود: «ثَوِّروا القرآن» أي: أثيروه، كي تكتشفوا ما فيه من كنوز.
ونحن نعلم أن كلمة «قائم على الأمر» تعني أنه هو الذي يُدِيره ويُدبِّره، ولا تَخْفَى عليه خافية. وجاء الحق سبحانه هنا بصيغة القيام؛ كي نعلم أن الحق سبحانه لا يدير الأمر من حالة قعود؛ بل يديره وهو قائم عليه، فكل أمر هو واضح عنده غير خَفيّ.
وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبتْ إن خيراً فخيْر؛ وإنْ شراً فشرّ، ولكنكم أيها الكافرون المشركون لا تملكون لأنفسكم ضراً ولا نَفْعاً؛ فهل يمكن لعاقل أنْ يساوي بين الذي يقوم على أمر كل نفس، بغيره مِمَّن ليس كذلك؟
ولكن هناك مَنْ قال فيهم الحق سبحانه في نفس الآية: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ... } [الرعد: 33]
أي: جعلوا للقائم على أمر كُلِّ نفس شركاء لا يقدر الواحد فيهم على أمر نَفْسه؛ وبالتالي لا يقدر على أمر غيره؛ بل قد يُصَابُ الصَّنم من هؤلاء بشَرْخ؛ فيأتي مَنْ يعبدونه ليقوموا على أمره صارخين بأن إلههم قدْ انشرخَ؛ ويحتاج إلى مسمارين لتثبيته،(12/7356)
فكيف يُسوُّونَ ذلك الصنم بالله الذي لا يحدُّه شيء ولا يحُدُّ قدرته شيء؟
وقَوْل الحق سبحانه: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ... } [الرعد: 33]
دليل على النص المحذوف: «كمن هو غير قائم على كل نفس» ، فسبحانه ليس كهذه الأصنام العاجزة؛ لأنه سبحانه قائم على كل نفس؛ نفسك ونفس غيرك ونفس كل إنسان عاش أو سيعيش.
ولذلك يقول سبحانه بعدها: {قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول ... } [الرعد: 33]
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يقول للكافرين بالله: قُولوا أسماء مَنْ تعبدونهم من غير الله؛ وهي أحجار، والأحجار لا أسماءَ لها؛ وهم قد سَمَّوْا الأصنام بأسماء كاللاّت والعُزَّى وهُبَل؛ وهي أسماء لم تُضِفْ لتلك الأصنام شيئاً، فهي لا تقدر على شيء؛ ولو سَمَّوْهَا لُنسِبت لعمرو بن لُحَيّ، الذي أوجدهم؛ وهُمْ سَمَّوْها ساعة أنْ نحتُوها.(12/7357)
والإله الحق لا يسميه أحد، بل يُسمِّي هو نفسه، ولكن بما أن المسألة كَذِب في كَذِب، لذلك يسألهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أسماء تلك الآلهة.
ويقول لهم: هل تنبئون أنتم الله خالق كل الكون بما لا يعلم في كونه الذي أوجده من عدم؟
سبحانه يعلم كل ما خلق؛ وأنتم لا تعبدون إلا أصناماً ينطبق عليها أنها من ظاهر القول؛ أي: قول لا معنى له؛ لأنهم أطلقوا أسماء على أشياء لا باطنَ لها ولا قدرة تستطيعها، وهم اكتفَوْا بالظاهر والمُسمَّى غير موجود.
ويقول الحق سبحانه: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السبيل ... } [الرعد: 33]
أي: أنهم ظنوا أنهم يمكرون على الله، ويقولون إن تلك الأصنام آلهة، وهي ليست كذلك.
ثم يقول سبحانه: { ... وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33]
أي: أن العذاب الذي يَلْقوْنَه في الحياة الدنيا هو لصيانة حركة المجتمع من الفساد، ولابد أنْ يقعَ لهم عذابٌ في الحياة الدنيا؛ ولأن مَنْ يؤجِّل عذابه للآخرة؛ لابد أن يرى في نفسه آية العذاب قبل أن يَلْقى عذابه في الآخرة.
إذن: فعذاب الدنيا هو لحماية حركة الحياة؛ ولذلك نجد القوانين وهي تُسَنُّ لِتُطبق على المنحرف؛ ومَنْ يرتكب الجُرْم يخاف أن تقع(12/7358)
عليه العين؛ وإن رآه أحد فهو يبلغ عنه ليلقى عقابه؛ وبذلك تستقيم حركة الحياة.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في سورة الكهف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} [الكهف: 83 - 87]
أي: أنه قد أخذ تفويضاً بأن يقيم الأمر في هؤلاء الناس، فأقامه على أساسٍ من الثواب والعقاب؛ فمَنْ أحسنَ فَلَهُ الجزاء الحسن؛ ومَنْ أساء يَلْقى العقاب، وهكذا نجد عذاب الدنيا ضرورياً لسلامة حركة الحياة من بَطْش مَنْ لا يؤمنون بالله.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك:
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا ... }(12/7359)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
ولهؤلاء المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة عذابٌ في الدنيا بالقتل والأَسْر والمصائب والكوارث التي لا يقدرون عليها، وفَوْق(12/7359)
ذلك لهم عذاب في الآخرة أكثر شدةً من عذابِ الدنيا؛ فليس لهم مَنْ يحميهم، أو يُقيم بينهم وبين عذاب الله وقاية أو عِصْمة.
وفي المقابل يقول سبحانه بعد ذلك:
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون ... }(12/7360)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
والمصدر الأساسي الذي وعد المتقين بالجنة هنا هو الله، وقد بلَّغ عنه الرسل عليهم السلام هذا الوعد، وتَلاهُمُ العلماء المُبلِّغون عن الرسل.
وأنت حين تنظر إلى فعل يشيع بين عدد من المصادر، تستطيع أن تبحث عن المصدر الأساسي، والمَثَل هو قول الحق سبحانه: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا ... } [الزمر: 42]
ويقول في موقع آخر من القرآن: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ... } [السجدة: 11]
وهكذا تكون التَّوْفية قد آلتْ إلى الله؛ وآلتْ إلى مَلَكِ الموت، وقد أخذ مَلَكَ الموْت مسئولية التَّوفية من إسناد الحق له تلك المهمة؛ ويكون نسبتها لِملَكِ الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يُوكِّل له الحق سبحانه تنفيذ المهمة.(12/7360)
ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الأصلي الذي يُصدِر الأمر لِملَكِ الموْت بمباشرة مهمته.
وهنا في الآية الكريمة نجد قول الحق سبحانه: {وُعِدَ المتقون ... } [الرعد: 35]
وهي مَبْنية لِمَا لم يُسَمّ فاعله؛ فالوعد منه سبحانه. «ونعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَعِد أيضاً، فها نحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة؛ حين أخذ البيعة من الأنصار، وقالوا له: خُذْ لنفسك، فأخذ لنفسه ما أراد، ثم قالوا له: وماذا نأخذ نحن إنْ أدَّيْنَا هذا؟ فقال لهم:» لكم الجنة «.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك؛ لأن العمل الذي فعلوه؛ لا يكفيه أجراً إلا الجنة، ومن المعقول أن أيَّ واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلو أنه وعدهم بِمَا في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد؛ فالذي يموت قبل هذا لابُدَّ أن يدرك شيئاً مِمّا وعد الرسول مَنْ عاهدوه؛ ولذلك أعطاهم ما لا ينفد، وهو الوَعْد بالجنة.
والحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول: {مَّثَلُ الجنة ... } [الرعد: 35](12/7361)
أي: أنه يضرب لنا المَثَل فقط؛ لأن الألفاظ التي نتخاطَبُ بها نحن قد وُضِعتْ لِمَعان نعرفها؛ وإذا كانت في الجنة أشياء لم تَرَها عَيْنٌ ولم تسمعها أُذنٌ، ولم تخطر على بال بشر؛ فمنَ المُمْكِن أن نقول إنه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، فيضرب الله الأمثال لنا بما نراه من الملذَّات؛ ولكن يأخذ منها المُكدِّرات والمُعكِّرات.
وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين» مثل الجنة «وبين» الجنة «، فالمَثَل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه؛ لأن معنى التمثيل أن تُلحِق مجهولاً بمعلوم لِتأخذَ منه الحكم.
مثلما تقول لصديق: أتعرف فلاناً؛ فيقول لك:» لا «. فتقول له:» إنه يشبه فلاناً الذي تعرفه «.
وأنت تفعل ذلك كي تشبه مجهولاً بمعلوم؛ لتأتي الصورة في ذِهْن سامعك.
ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرحاً لما أجمْله القرآن: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين ... } [الزخرف: 71]
ويضيف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فيها مَا لاَ عَيْن رأتْ، ولا أُذن سمعتْ، ولا خَطر على قَلْب بشرٍ» .(12/7362)
وحين تُدقَّق في هذا القول النبويّ الكريم تجد الترقِّي كاملاً؛ فقوله: «ما لا أُذن سمعتْ» جاء لأنه يعلم أن مُدْركَاتِ العيْنِ محدودة بالنسبة لِمَا تعلمُ الأذن؛ لأن الأذن تسمع ما لا تدركه العين؛ فهي تسمع ما يراه غيرُك بالإضافة إلى ما تراه أنت.
فالأذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه، بخلاف العين فهي محدودة المسافة حسب قوة الإبصار، ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق.
ثم يأتي الترقِّي الأكبر في قوله: «ولا خطر على قلب بشر» . والخواطر أوسَعُ من قدرة الأذن وقُدْرة العين؛ فالخواطر تتخيَّل أشياء قد تكون غيرَ موجودة.
وهكذا نرى عَجْز اللغة عن أنْ تُوجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة، ولا أحدَ فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة، وما دام أحد منا لم يَرَ الجنة؛ وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .
فلابُدَّ أنْ نعلم قَدْر عَجْز اللغة عن التعبير عَمَّا في الجنة، فإذا أراد الله أنْ يُعبِّر عَمَّا فيها؛ فهو يُوضِّح لنا بالمثَلِ؛ لا بالوصف، لأنه يعلم أن لغتنا تضع الألفاظ لِمَا هو موجود في حياتنا؛ ولا توجد ألفاظ في لغتنا تُؤدِّي معاني ما في الجنة.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ... } [محمد: 15](12/7363)
ومع أن الحق سبحانه يضرب مثلاً، إلا أنه خلَّص المَثَل من شوائبه التي نعرفها في الدنيا، فالمياه عندما تجري؛ تكون حُلْوة ورائقة وصَافية؛ وإنْ ركدتْ فهي تأسُنُ وتكون عَطِنة.
ولذلك يُوضِّح لنا الحق سبحانه أن المياه في الجنة غير آسنة؛ وأنها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يُكِّدرها.
وكذلك المثل بأنهار من لبن لم يتغير طَعْمه. واللبن كما نعرف هو غذاء البدو؛ فَهُمْ يحلبون الماشية، ويحتفظون بألبانها في قِرَبٍ لِمُدةٍ طويلة؛ فيتغير طَعْم اللبن؛ ولذلك يضرب لهم المثَل بوجود أنهار من لبن لم يتغير طَعْمه.
وأيضاً يضرب المثل بوجود أنهار من عَسَل مُصفَّى، والعسل كما نعرف كان في الأصل يأتي من النحْل الذي كان يسكن الجبال قبل استئناسه؛ ووَضْعه في مناحل في الحدائق.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ}
[النحل: 68]
وحين بحث علماء الحشرات عن تاريخ النحل، وجدوا أن أقدمَ عسل في العالم هو الذي كان موجوداً في الكهوف الجبليّة؛ ثم يليه في العمر العسل الذي جاء من خلايا النحل؛ تلك الخلايا التي أقامها(12/7364)
النحل بعد استئناسه؛ ومن بعد ذلك يأتي العسل الذي أقمْنَا نحن له المنَاحل.
وقد ميَّزوا العسل القديم عن المتوسط عن الجديد، بأن أحرقوا بعضاً من كل نوع من أنواع العسل، فنتج من الاحتراق عنصر الكربون؛ ومن هذا العنصر اكتشفوا عمر كل نوع من الثلاثة.
ويوضح الحق سبحانه أن بالجنة أنهاراً من عَسَل مُصفَّى، وبذلك يُقدِّم لنا خَيْر ما كنا نُحِبه من عسل الدنيا، ولكن بدون ما يُكدِّره.
ويوضِّح سبحانه أيضاً أن في الجنة أنهاراً من خمر، ولكنها خَمْر تختلف عن خمر الدنيا؛ فهي لا تؤثر على التكوين العضْوي للعقل، كما أن خمر الدنيا ليس فيها لذةٌ للشاربين؛ لأنها من كحول يَكْوي الفم ويَلْسعه؛ ولذلك تجد مَنْ يشربها وهو يسكْبها في فمه لِتمُرَّ بسرعة فلا يشعر بلسعها في فمه، فتذهب إلى معدته مباشرة فتلهبها.
ويختلف الحال لو كان المشروب هو شراب عصير المانجو أو البرتقال أو القصب؛ حيث تستطيب النفس مذاقَ تلك الفواكه؛ فنجد مَنْ يشربها يتمهَّل ليستبقى أثرها في فمه.
ويقول الحق سبحانه عن خمر أنهار الجنة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ ... } [الصافات: 47](12/7365)
أي: أنه سبحانه ينفي عن خَمْر أنهار الجنة كُلَّ المُكدِّرات التي توجد في خمر الدنيا.
إذن: فساعةَ تسمع مثلاً عن الجنة؛ فاعلم أنه مَثَلٌ تقريبيّ؛ لأنه لا يمكن أن تأتي الحقيقة، حيث لا يوجد لفظ يُعبِّر عنها؛ وهي لم توجد عندنا؛ وسبحانه لا يخاطبنا إلا بما نعلم من اللغة؛ لذلك يأتي لنا بالمثَلِ المضروب لنأخذ منه صورة تقريبية.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ... } [الرعد: 35]
ونعلم أن عَصَب حياة العرب أيام نزول القرآن كان هو الماء؛ ألم يطلبوا من الرسول أن يُفجِّر لهم الأنهار تفجيراً؟
نجد الحق سبحانه قد جاء بالتعبير القرآني عن أنهار الجنة بصورتين مختلفتين:
أولهما: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ... } [الرعد: 35]
مثلما قال في الآية التي نحن بصَددِ خواطرنا عنها.
ومرَّة يقول سبحانه: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار ... } [التوبة: 100]
والفارق بين العبارتين هو استيعاب الكمالية في النص، بمعنى أن:(12/7366)
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ... } [الرعد: 35]
تُوضِّح أن منابع تلك الأنهار تأتي من تحت تلك الجنة مباشرة؛ فلا يَقِلّ الماء في تلك الأنهار أبداً.
ويُقال: إن الفارق بين أنهار الدنيا وأنهار الجنة أن أنهار الدنيا عبارة عن شقوق في الأرض لها شواطئ تحتضنها؛ أما أنهار الآخرة فهي تسير على الأرض دون شواطئ تحجزها.
ونجد أنهار الخمر تسير أيضاً في الأرض، ولا تتداخل مع أنهار الماء، وكذلك أنهار اللبن، وكُلُّ ذلك من صَنْعة رَبٍّ حكيم قادر.
أما قوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار ... } [التوبة: 100]
أي: أن منابعها ليست من تحتها مباشرة؛ ولكنها تأتي دون نَقْصٍ من جهة أنت لا تعلمها؛ وهو سبحانه قادر على كل شيء.
ويتابع سبحانه، فيقول عن تلك الجنة: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
والأكل هو ما يُؤكَل، وسبحانه القائل: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ... } [إبراهيم: 25](12/7367)
وقوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
أي: لا ينقطع، ونعلم أن الإنسان حين يأكل؛ فهو يفعل ذلك بهدف إشباع جُوعه؛ وبعد أن يُشبِع جُوعَه؛ قد يطلب أن يُرفعَ الطعام من أمامه، إلى أنْ يجوع، فيطلب الطعام من جديد.
ومنْ يحبون الطعام في حياتنا الدنيا نرى الواحد منهم وهو يقول: «أشعر ببعض الضيق لأني شبعتُ» ، فهو في عراك بين نفس تشتهي وبين بطن لا تشبع، وكأنه كان يريد أنْ يستمر في تناول الطعام طوال الوقت.
وقول الحق سبحانه: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
شغل هذا القول الرومان الذين كانوا أصحاب إمبراطورية عُظْمى زَلْزلها الإسلام بحضارته الوليدة، وأرسل إمبراطورهم مَنْ يطلب من أحد الخلفاء إرسال رجل قادر على شرح قول الحق: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
فأرسل لهم أحدَ العلماء؛ وسألوه: يقول قرآنكم إن أُكُل الجنة دائم؛ ونحن وأنتم تعلمون أن كل شيء يُؤخذ منه لابُدَّ له أن ينقص؛ فكيف يكون أُكُل الجنةِ دائماً؟
قال العالم لهم: هاتوا مصباحاً. فأحضروا له المصباح وأشعله أمامهم. وقال لكل منهم: فَليأْتِ كل منكم بمصباحه. فأحضر كل منهم مصباحه. وقال لهم: فَلْيُشعِل كل منكم مِصبْاحه.(12/7368)
وهنا سألهم: ما الذي أنقصه إشعال مصابيحكم من هذا المصباح؟ قالوا: لا شيء. فقال لهم: هكذا ضرب الله لنا المثَل بأُكُل الجنة.
وبطبيعة الحال كان يجب أن يلتفتوا إلى أن المصباح يعتمد في اشتعاله على الزيت المخزون فيه، ويأتيه منه المدد، أما الجنة فمدَدُها من الله.
وهناك مَنْ قال: هل نتغوَّط في الجنة؟ فَردَّ عليه واحد من العارفين: لا. فتساءل: وأين تذهب بقايا ما نأكل من طعام الجنة؟
فقال العارف بالله: مثلما تذهب بقايا ما يتغذى عليه الطفل في بطن أمه؛ حيث يحترق هذا الفائض في مَشِيمة الطفل؛ والطفل في بطن أمه إنما ينمو بشكل مستمر، مُعتمِداً على غذاء يأتيه من أمه عَبْر الحَبْل السُّريّ.
وكل تلك الأمور تقريبية تجعلنا نعبر الفجوة بين ما نشهده في حياتنا اليومية، وبين ما أعدَّه الله للمتقين، وهو القيُّوم على كُلِّ أمْرٍ.
وقد قال الحق سبحانه: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ ... } [الرعد: 35]
يعني: أن الطعام موجود ولا ينتهي وكذلك الظل. والظل حَجْب المضيء من مكان؛ أو حَجْب مكان عن المضيء، ولا أحد يعلم أنه ستوجد هناك شمس أم لا؛ والعقل البشري قاصر عن تخيُّل ذلك؛(12/7369)
فهو من فعل الله، وهو سبحانه قادر على كل شيء.
وهو القائل سبحانه: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]
وهو القائل سبحانه: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30]
ويتابع سبحانه: { ... تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار} [الرعد: 35]
أي: يا متقي الله؛ وضعتَ بينك وبين صفات جلاله وقاية، ولم تقربْ محارمه واتبعتَ منهجه؛ ستجد أنه سبحانه يُجازِيك بصفات كَماله وجَماله؛ فينزِلك الجنة التي وعدكَ بها.
لذلك إن وجدت مشقَّة في التكليف فعليك أن تعلمَ أن جزاء تلك المشقَّة هو الجزاء الجميل؛ لأنك صدَّقْتَ رسولك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «حفت الجنة بالمكاره؛ وحفت النار بالشهوات» .
والعاقل ساعةَ يرى تكليفاً يحُدُّ من حريته؛ فهو يستحضر الجزاء على تلك المشقَّة، وهو أيضاً حين يرى أمراً يبدو في ظاهره شهوة(12/7370)
عاجلة؛ فهو يستحضر العقاب على تلك الشهوة العاجلة فيستبعدها.
وأي من الجزاء الطيب أو العقاب قد يأتي فجأة؛ لأن الموتَ لا ميعادَ له؛ ونحن نُصدِّق قول رسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته» .
وهكذا يُضخِّم الحق سبحانه من جزاء المؤمن المُتقي فيعشق العمل، ويتحمل مشاقّ التكليف ليكون مَوْصُولاً بالجزاء الطيب، فهذا الجزاء هو عُقْبى العمل الحسن في الدنيا، فالغاية الحقيقية من كل مراحل الوجود هي ألاَّ يوجد بَعْد للغاية؛ لأنها غاية الخلود لا تعرف البعدية.
ومادامت الجنة تضمن الخلود أبداً، فهي تستحق أن تكون غايةَ المؤمن وعاقبةَ عمله، والتزامِه بالتكاليف الإيمانية.
تماماً كما تكون النار هي عاقبة الكافرين المُكذِّبين؛ حيث يروْنَ الخير مصير المؤمنين؛ ويروْنَ الشرَّ مصيرهم؛ فيُجمع عليهم التنغيصُ؛ مرة بوجود الخير عند أهل الإيمان؛ ومرة بأن يَرَوْا ما أُعِدَّ لهم من شَرٍّ.
لذلك قال سبحانه: { ... وَّعُقْبَى الكافرين النار} [الرعد: 35](12/7371)
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب ... }(12/7372)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
ونعلم أن الإسلام قد سُبِق بدينين؛ دين النصارى قَوْم عيسى عليه السلام؛ ومن قبله دين اليهود قوم موسى عليه السلام؛ وكِلاَ الدينين له كتاب؛ الإنجيل كتاب المسيحية؛ والتوراة كتاب اليهودية؛ والقرآن هو كتاب الله المهيمن الخاتم؛ كتاب الإسلام، وهناك كتب سماوية أخرى مثل: صحف إبراهيم؛ وزبور داود، وغير ذلك.
وكان على مَنْ نزل عليهم التوراة والإنجيل أن يواصلوا الإيمان بمَدَدِ السماء، والخير القادم منها إلى الأرض، وقد سبق أن أخذ الله من أنبيائهم الميثاق على ذلك، وقال تعالى:(12/7372)
{وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} [آل عمران: 81]
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد شاء أن يستقبل كُلُّ دين سابق الدينَ الذي يليه بالإيمان به؛ وفي كل دين سابق لآخر كانت النصوص تؤكد ضرورة الإيمان بالرسول القادر، كي لا يحدث اقتراع بين الأديان الناسخة والأديان المنسوخة.
فمِنْ صميم مواد أيِّ دين سابق أن ينتظر الدين الذي يليه، وإذا ما جاء الدين الجديد فهو يستقبله فْرَعاً وتكملة، ولا يستقبله كدين يُضادِّ الدين السابق.
وإذا كان الإسلام هو الدين الذي تُختم به مواكب الرُّسُل؛ فلابُدَّ أن الأديان السابقة عليه قد بَشَّرَتْ به، وكل مؤمن بالأديان السابقة مُوصى بضرورة الإيمان به.
ويقول الحق سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ... } [الشورى: 13]
ويقول الحق سبحانه: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ... } [الرعد: 36](12/7373)
أي: أن أهل التوراة والإنجيل يفرحون بما جاء يا محمد من القرآن، والإنسان لا يفرح بشيء إلا إذا حقَّق له غايةً تُسْعِده، ولابُدَّ أن تكون هذه الغاية منشورة ومعروفة.
وهم قد فرحوا بما نزل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه حقق لهم ما جاء في كتبهم من نبوءة به.
ومعنى ذلك أن كتبهم قد صدقتْ، ومَنْ جاء بالرسالة الخاتم صادق، وكان عليهم أن يكونوا أول المُبَادرين إلى الإيمان به.
ذلك أن الفرحة هي العملية التعبيرية أو النُّزوعية من مواجيد الحب، والإنسان إنما يفرح بتحقيق أمر طيِّب كان ينتظره.
ولذلك كان يجب أن يُهروِلوا للإيمان بالدين الجديد، وأنْ يعلنوا الإيمان به مثلما فعل كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي الذي جاب أغلب البلاد باحثاً عن الدين الحق.
وهؤلاء هم مجرد أمثلة لِمَنْ أرادوا أنْ يُعبِّروا بالفرحة واستقبال مَدَدِ السماء عَبْر مجيء النبي الخاتم محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأعلنوا البيعة للرسول الجديد كما بشَّرَتْ به الكتب السماوية السابقة على بعثته، ثم وقفوا موقف العداء من الذين لم يفرحوا بِمقْدمِ الرسول، ثم غيَّروا ما جاء في كتبهم السماوية طمعاً في السلطة الزمنية.(12/7374)
وعرف مَنْ آمنوا برسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الذين أنكروا نبوة محمد بن عبد الله قد دَلَّسوا على أنفسهم وعلى غيرهم، وأتوْا بأشياء لم تكن موجودة في كتبهم المُنزَّلة على رسلهم كادعائهم أن لله أبناء، وسبحانه مُنزَّه عن ذلك.
ولذلك جاء قول الحق سبحانه: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد: 36]
تلك عدالة من القرآن؛ لأن القرآن لم ينكر الكتب السماوية السابقة بأصولها، لكنه أنكر التحريف في العقائد، وأنكر مواقف مَنْ حرَّفوا وادَّعوْا كذباً أن هناك بنوة لله.
هذا التحريف لم يَنَلْ من القرآن إنكاراً لكل ما جاء بالكتب السابقة على القرآن؛ ولكنه أنكر التحريف فقط.
وقد أثبتَ القرآن ما لله وما للرسول، وأنكر التحريف الذي أرادوا به السلطة الزمنية؛ وادعاء القداسة، والتجارة بصكوك الغفران وبيع الجنة، وتلقِّي الاعترافات، وغير ذلك مما لم ينزل به كتاب سماوي.
وحين جاء الإسلام لِيُحرِّم ذلك دافعوا عن سلطتهم التي يتاجرون بها في أمور الدين، وهي ليست من الدين.(12/7375)
وانظر إلى قول الحق سبحانه: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ ... } [الرعد: 36]
وهذا القول دليلٌ على أن هؤلاء المُغيّرين في الكتب السماوية أو الذين أنكروا وحدانية الله؛ هؤلاء جاء لهم بالقول الفَصْل: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ... } [الرعد: 36]
أي: أنه يُقِر بأن هناك ديناً قد اُختِير له من قِبَل مُرَبٍّ؛ ولم يَختَرْ محمد شيئاً أعجبه ليعبده، ولكنه كرسول من الله يَشْرُف بالانتماء لما جاءه الأمر به من السماء، وهو لا يشرك به أحد.
ونجد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعصَّب لِمَا يتعلق بربه؛ وقد يتهاون بما يتعلق بشخصه.
ولذلك وجدنا بعض الملاحدة وقد قالوا له: نحن نؤمن بالله وبالسماء والوحي وبكل شيء، لَكِنّا لا نؤمن بك أنت، ولم يغضب رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولو كان يُدخِل ذاته أو أنانيته في الأمر لَغضِب، ولكنه لم يغضب.
والدليل على هذا هو أن مواجيده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت مع الروم المؤمنين بكتاب سماوي ضد المشركين الذين لا يؤمنون بدين سماوي وهم الفُرْس؛ وحزن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين غُلبت الروم، فنزل إليه القول الحق بنبأ النصر القادم في بِضْع سنين؛ تسليةً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم}
[الروم: 1 - 5](12/7376)
وهؤلاء في قلب رسول الله كانوا أقربَ من غيرهم؛ لأنهم يتبعون ديناً سماوياً؛ وساعة يرى رائحة صاحب خير يرجحه على صاحب الشر؛ فهو يطلب لهم النصر ويُبشِّره الله بخير نصرهم في بِضْع سنين، وهم يحملون رائحة الخير، رغم أنهم لم يؤمنوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومعنى: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ ... } [الرعد: 36]
أي: أنني سأعبد الله وحده، ولن أعطف على عبادته شيئاً؛ ويدعو لعبادته وحده؛ لأنه يعلم أنه سيؤوب إليه، كما سيؤوب إليه كُلُّ إنسان؛ فلا أحدَ ينفلِتُ من ربه وخالقه، ولابُدَّ لكل إنسان أن يُعِد عُدَّته لهذا المآب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
{وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ... }(12/7377)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
والمقصود ب «كذلك» إشارة إلى إرسال الرسل المُتقدِّمين بمعجزات شاءها الحق سبحانه، ولم يقترحها أحد.
وقوله: {أَنزَلْنَاهُ ... } [الرعد: 37]
ساعةَ نسمعه نرى أن هناك مكانة عَلِِيّة يُنزِل منها شيئاً لمكانة(12/7377)
أدْنَى، ومثل ذلك أمر معروف في الحِسِّيات، وهو معروف أيضاً في المعنويات.
بل وقد يكون هذا الشيء لم يَصِل إلى السماء؛ ولكنه في الأرض، ومع ذلك يقول فيه الحق سبحانه: {وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ... } [الحديد: 25]
وهو إنزالٌ، لأنه أمر من تدبير السماء، حتى وإنْ كان في الأرض: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ... } [الرعد: 37]
والحكم هو المُعْنى، والمقصود بالإنزال هنا هو القرآن، وهو كتاب؛ والكتاب مَبْنى ومَعْنى، وشاء الحق سبحانه هنا أن يأتي بوصف المبالغة ليأتي الوصف وكأنه الذات، أي: أنه أنزل القرآن حُكْماً؛ وهذا يعني أن القرآن في حَدِّ ذاته حكم.
وأنت حين تصف قاضياً يحكم تمام العدل؛ لا تقول «قَاضٍ عادلٌ» بل تقول «قََاضٍ عَدْل» أي: كأن العدل قد تجسم في القاضي؛ وكأن كل تكوينه عدل. والحق سبحانه هنا يوضح أن القرآن هو الحكم العدل، ويصفه بأنه: {حُكْماً عَرَبِيّاً ... } [الرعد: 37]
لأن اللسان الذي يخاطب به الرسول القوم الذين يستقبلون بآذانهم ما يقوله لهم لابد أن يكون عربياً.(12/7378)
ولذلك يقول في آية أخرى. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44]
أي: أنه شرفٌ كبير لك ولقومك، أن نزل القرآن بلغة العرب.
وقد حفظ القرآن لنا اللغة العربية سليمة صافيةً؛ بينما نجد كل لغات العالم قد تشعَّبتْ إلى لهجات أولاً، ثم استقلتْ كل لهجة فصارتْ لغة، مثل اللغة اللاتينية التي خرجتْ منها أغلب لغات أوربا المعاصر من: إنجليزية وفرنسية وإيطالية، ووجدنا تلك اللغات تتفرَّق إلى لغات استقلالية، وصار لكل منها قواعد مختلفة.
بل إن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال صارت «إنجليزية إنجليزية» يتكلم بها أهل بريطانيا؛ و «إنجليزية أمريكية» يتكلم بها أهل الولايات المتحدة.
ولو تركنا نحن لغة التخاطب بيننا كمسلمين وعرب إلى لغة التخاطب الدارجة في مختلف بلادنا؛ فلن يفهم بعضنا البعض، ومرجع تفاهمنا مع بعضنا البعض حين نتكلم هو اللغة الفصحى.
ودليلنا ما رأينا في مغربنا العربي، فنجد إنساناً تربَّى على اللغة الفرنسية، أو تكون لغة جَمْعاً بين لهجات متعددة من البربرية والفرنسية وبقايا لغة عربية، فإذا حدثته باللغة العامية لا يفهم منك شيئاً، وإن تحدثت معه باللغة العربية استجاب وأجاب؛ لأن فطرته تستقبل الفصحى فهماً وإدراكاً.(12/7379)
وهكذا رأينا كيف صان القرآن الكريم اللغة العربية واللسان العربي.
ومن ضمن معاني قول الحق سبحانه: {حُكْماً عَرَبِيّاً.
. .} [الرعد: 37]
أي: أن الذي يصُون ويعصِم هذا اللسان العربي هو القرآن الكريم.
ويتابع سبحانه بقوله: { ... وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37]
وهذا خطاب مُوجَّه منه سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يكشف فيه الحق سبحانه أمام رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَضارّ وخطورة اتباع الهوى؛ وهو خطاب يدل على أن الدين الذي نزل على موسى ثم عيسى، وهما السابقان لرسول الله؛ لم يَعُدْ كما كان على عهد الرسولين السابقين؛ بل تدخَّل فيه الهوى؛ ولم يَعُدْ الدين متماسكاً كما نزل من السماء.
ولذلك يقول سبحانه في آية أخرى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض ... } [المؤمنون: 71]
ذلك أنه سبحانه لو اتبع أهواءهم لَضَاع نظام الكون؛ ألم يقولوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:(12/7380)
{أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً ... } [الإسراء: 92]
ولو استجاب الحق مثلاً لهذه الدعوة، ألم تكن السماء لتفسد؟
إذن: فبعد أن نزل القرآن من السماء حكماً وعلماً ومنهجاً يسهل عليهم فهمه، لأنه بلُغتِهم، وهم يحمل كامل المنهج إلى أن تقوم الساعة، وفيه دليل السعادة في الدنيا والآخرة.
لذلك فليس لأحد أن يتبع هواه؛ فالهوى كما نعلم يختلف من إنسان لآخر، والخطاب المُوجَّه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتضمن في طيّاته الخطاب لأمته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ومن يفعل ذلك فليس له من دون الله وليّ يؤازره أو ينصره، أو يقيه عذاب الحق: شقاءً في الدنيا، وإلقاءً في الجحيم في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ ... }(12/7381)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
وأنت يا محمد لست بِدْعاً من الرسل في مسألة الزواج والإنجاب. وهي تحمل الرد على مَنْ قالوا:(12/7381)
{مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق ... } [الفرقان: 7]
ومنهم مَنْ قال: ما لهذا الرسول يتزوج النساء؟ ألم يكن من اللائق أن يتفرغ لدعوته؟
وهؤلاء الذين قالوا ذلك لم يستقرئوا الموكب الرسالي، لأنهم لو فعلوا لوجدوا أن أغلب الرسل قد تزوَّجوا وأنجبوا.
وحين تكون حياة الرسول قريبةً كمثال واضح من حياة الناس الذين أُرسل إليهم؛ ليكون أُسْوة لهم؛ فالأُسْوَة تتأتِّى بالجنس القابل للمقارنة؛ وحين تكون حياة الرسول كحياة غيره من البشر في إطارها العام؛ كأبٍ وزوجٍ، فالأسوة تكون واضحة للناس.
ونعلم أن هناك مَنْ جاء إلى رسول الله؛ ليطلب الإذن بالتفرُّغ التامّ للعبادة من: صوم وصلاة وزُهْد عن النساء، فنهى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك وقال في حديث شريف: «إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .(12/7382)
ويتابع الحق سبحانه: { ... وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]
أي: ما كان لأحد أن يقترح على الله الآية التي تأتي مع أيّ رسول من الرسل، ولم يكُنْ لأيِّ رسول حق في اختيار الآية المصاحبة له.
وبهذا القول حسم الحق سبحانه قضية طلب المشركين لآيات الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن كل رسول جاء لزمنه ولقومه؛ وكل معجزة كانت من اختيار الله، وكل رسول يؤدي ما يُكلِّفه به الله؛ وليس للرسول أن يقترح على الله آيةً ما؛ لأن الخالق الأعلى هو الأعلم بما يصلح في هذه البيئة على لسان هذا الرسول.
ونأخذ من قوله الحق: { ... لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]
أن لكل رسالة رسولها، ولكل رسالة مكانها، ولكل رسالة معجزتها، فإذا كان الأمر كذلك فدعوا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما اختاره الله له؛ في المكان الذي شاءه سبحانه، وفي الزمان؛ وفي المعجزة المصاحبة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولكن، أهناك تغيير بعد أن يقول الحق سبحانه: { ... لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]
نعم هناك تغيير، وانظروا إلى قول الحق سبحانه من بعد ذلك:(12/7383)
{يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ ... }(12/7384)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
والمَحْو كما نعلم هو الإزالة، والتثبيت أي: أن يُبقِي الحق ما يراه ثابتاً.
وقد فهم بعض الناس خطأ أن كل حُكْم في القرآن قد جاء ليثبُتَ وسيظلّ هكذا أبدَ الدهر؛ ولكن عند التطبيق ظهر أن بعض الأحكام يقتضي تغييرها يغيرها الله لحكمة فيها خير البشرية.
ونقول: لا، لم يحدث ذلك، ولكن كانت هناك أحكام مَرْحلية؛ ولها مُدَّة مُحدَّدة؛ ولذلك جاء قول الحق سبحانه: { ... وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]
أي: عنده اللوح المحفوظ الذي تحدَّدتْ فيه الأحكام التي لها مُدَّة مُحدّدة؛ وما أن تنتهي إلا وينزل حُكْم آخر مكانها، وعلى هذا المعنى يمكن أن نقول: إنه لم يوجد نَسْخٌ للأحكام، لأن معنى النَّسْخ أن يُزحزِحَ حُكْماً عن زمانه؛ وهنا لم نجد حُكْماً يتزحزحُ عن زمانه؛ لأن كل حُكْم موقوتٌ بوقت محدود؛ وما أن ينتهي الوقت حتى يبدأ حُكْم جديد.
أقول ذلك كي أنبِّه العلماء إلى ضرورة أنْ يجلسوا معاً لدراسة ذلك، حتى لا يختلف العلماء: أهناك نَسْخ أم لا، وأقول: فَلْنُحدد النَّسْخ أولاً، لأن البعض يظن أن هناك حكماً كان يجب أن ينسحب على كل الأزمنة، ثم جاء حُكْم آخر ليحل محله لحكمة تقتضيها مصلحة البشرية والمراد لله منها.
ولا يوجد حُكْم أنهى حُكْماً وطرأ عليه ساعة الإنهاء؛ بل كل(12/7384)
الأحكام كانت مُقدَّرة أَزلاً؛ وعلى ذلك فلا يوجد نَسْخ لأيِّ حُكْم، ولكن هناك أحكام ينتهي وقتها الذي قدّره الله لها؛ ويأتي حُكْم سبق تقديره أزلاً ليواصل الناسُ الأخذ به؛ وما دام الأمر كذلك فلا يوجد نسخ.
ولنَنْظُر إلى قول الحق سبحانه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } [البقرة: 106]
ويتضح من منطوق الآية ومفهومها أن عند نسخ حكم يأتي الله بمثله أو خير منه. إذن: ليس هناك نسخ وإنما هناك أحكام تؤدي مهمتها في زمن ثم يأتي زمن يحتاج إلى حكم خير منه أو مثله في الحكم، ولكنه يوافق المصالح المرسلة مع مراد الله.
ولقائل أنْ يقول: مادام سيأتي بخير من الآية المنسوخة أو المُنْسَأة فذلك افضل، ولكن لماذا يأتي بالمِثْل؟
وأقول: لأنك إنْ جاءك ما هو خَيْر منها قد تَسْتسِيغه، ولكن حين ننتقل إلى مِثْل ما جاءْت به الآية؛ فهذا مَحَكُّ الإيمان.
والمثل هو التوجُّه في الصلاة إلى بيت المقدس في أول الدعوة؛ ثم مَجِيء الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة؛ فلا مشقَّة في ذلك.
ولكن هنا يتم اختبار الالتزام الإيماني بالتكليف، وهنا الانصياعُ للحكم الذي يُنزِله الله، وهو حُكم مقَّدر أزَلاً؛ وفي هذا اختبار لليقين(12/7385)
الإيمانيّ في إدارة توجيه المُدبِّر لهذا السير.
وكذلك في الحج يأتي الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِيُقبِّل الحجر الأسود؛ ثم يرجم الحجر الذي يرمز لإبليس، ونحن نفعل ذلك أُسْوة برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكلاهما حجر، ولكِنَّنا نمتثل لأمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فتقبيل الحجر الأسود ورجم الحجر الذي يشير إلى رمزية إبليس، كل هذا استجابة لأمر الآمر.
وحين يقول الحق سبحانه: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]
فهو يعني أنه سبحانه يُنهِي زمن الحكم السابق الذي ينتهي زمنه في أُمِّ الكتاب أي اللوح المحفوظ؛ ثم يأتي الحكم الجديد.
والمثال: هو حكم الخمر؛ وقد عالجها الحق سبحانه أولاً بما يتفق مع قدرة المجتمع؛ وكان المطلوب الأول هو تثبيت العقيدة؛ ثم تجيء الأحكام من بعد ذلك.
وهناك فرق بين العقيدة وهي الأصل وبين الأحكام، وهي تحمل أسلوب الالتزام العقديّ، وكان الحكم في أمر العقيدة ملزماً ومستمراً.
أما الأحكام مثل حكم الخمر فقد تدرج في تحريمها بما يتناسب مع إلْف الناس؛ واعتيادهم؛ فقلَّل الحق سبحانه زمن صُحْبة الخمر؛ ثم جاء التحريم والأمر بالاجتناب، وعدم القُرْب منها.
والمثل في حياتنا؛ حيث نجد مَنْ يريد أن يمتنع عن التدخين(12/7386)
وهو يُوسِّع من الفجوة الزمنية بين سيجارة وأخرى، إلى أن يقلع عنها بلطف، وينفيها من حياته تماماً.
ونجد القرآن يقول في الخمر: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ... } [النحل: 67]
وهنا يمتنُّ الله عليهم بما رزقهم به؛ ولكن أهل الذَّوْق يلتفتون إلى أنه لم يَصِف الخمر بأنها من الرزق الحسن؛ ووصف البلح والعنب بأنه رزق حسن؛ لأن الإنسان يتناوله دون أن يفسده.
وهكذا يلتفت أهل الذوق إلى أن الخمر قد يأتي لها حكم من بعد ذلك، ثم يُنزِل الحق سبحانه عظة تقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ... } [البقرة: 219]
وهكذا أوضح الحق سبحانه ميْل الخمر والميسر إلى الإثم أكثر من مَيْلهما إلى النفع، ثم جاء من بعد ذلك قوله بحكم مبدئي: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ... } [النساء: 43]
ومعنى ذلك أن تتباعد الفترات بين تناول الخمر، فلا يحتسي أحد الخمر طوال النهار وجزء من الليل، وفي ذلك تدريب على الابتعاد عن الخمر.(12/7387)
ثم يأتي التحريم الكامل للخمر في قوله تعالى: { ... إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]
وهكذا أخذ الحكم بتحريم الخمر تدرّجه المناسب لعادات الناس، وتمَّ تحريم الخمر بهوادة وعلى مراحل.
وهكذا نفهم النَّسْخ على أنه انتهاء الحكم السابق زمناً وبداية الحكم الجديد، وهذا يعني أن الحكم الأول لم يكن مُنْسحِباً على كل الزمن ثم أزلناه وجئنا بحكم آخر؛ ولكن توقيت الحكم الأول أزلاً قد انتهى؛ وبدأ الحكم الجديد.
وهكذا لا يوجد مجال للاختلاف على معنى النسخ، ذلك أن الحق سبحانه أرجع المَحْو والإثبات إلى أم الكتاب؛ ففيها يتحدد ميعاد كل حكم وتوقيته؛ وميعاد مجيء الحكم التالي له.
وما دام كل أمر مرسوم أزلاً؛ فعلى مَنْ يقولون أن البَدَاء محرم على الله أن ينتبهوا إلى أن هذا المحو والإثبات ليس بَداءً؛ لأن البداء يعني أن تفعل شيئاً، ثم يبدو لك فسادُه فتُغيِّره.
والحق سبحانه لم يظهر له فساد ما أنزل من أحكام أو آيات؛ بل هو قدَّر كل شيء أزلاً في أم الكتاب، وجعل لكل حكم ميقاتاً وميلاداً ونهاية.
ويصح أن يتسع معنى قول الحق سبحانه: {يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]
ليشمل نسخ رسالة برسالة أخرى؛ فيكون قد محا شيئاً وأثبت(12/7388)
شيئاً آخر، وكل شيء فيه تغيير إلى الخير ويصِحَ فيه المَحْو والإثبات، وهو من عند الرقيب العتيد: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]
أي: أنه القادر على أن يأمر الرقيب العتيد بأن يُثبتا الواجبات والمحرمات، وأنْ يتركا الأمور المباحة، وهو القادر على أنْ يمحوَ ما يشاء من الذنوب، ويُثبت ما يشاء من التوبة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ ... }(12/7389)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
هذه الآية تُحدِّد مهمة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يُبلِّغ منهج الله، فمن شاء فليؤمن ومَنْ شاء فليكفر، إلا أن قول الحق سبحانه في رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]
جعله هذا القول متعلقاً بهداية قومه جميعاً، وكان يرجو أن يكون الكل مهتدياً؛ ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله في موقع آخر:(12/7389)
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6]
أي: أنك لستَ مسئولاً عن إيمانهم، وعليك ألاَّ تحزن إنْ لم ينضمُّوا إلى الموكب الإيماني، وكُلُّ ما عليك أن تدعوهم وتُبلِّغهم ضرورة الإيمان؛ والحق سبحانه هو الذي سوف يحاسبهم إما في الدنيا بالمحو والإهاب، أو في الآخرة بأن يَلْقَوْا عذاب النار.
وحين يقول الحق سبحانه: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40]
فنحن نعلم أن كل دعوة من دعوات الخير تكبُر يوماً بعد يوم؛ ودعوات الشر تبهت يوماً بعد يوم. ومَنْ يدعو إلى الخير يُحِب ويتشوق أنْ يرى ثمار دعوته وقد أينعتْ، ولكن الأمر في بعض دعوات الخير قد يحتاج وَقْتاً يفوق عمر الداعي.
ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ... } [الرعد: 40]
أي: اغرس الدعوة، ودَعْ مَنْ يقطف الثمرة إلى ما بعد ذلك، وأنت حين تتفرَّغ للغَرْس فقط؛ ستجد الخير والثمار تأتي حين يشاء الله؛ سواء شاء ذلك إبَّان حياتك أو من بعد موتك.
وأنت إذا نظرتَ إلى الدعوات التي تستقبلها الحياة تجد أن لكل(12/7390)
دعوة أنصاراً أو مؤيدين، وأن القائمين على تلك الدعوات قد تعجَّلوا الثمرة؛ مع أنهم لو تمهَّلوا ليقطفها مَنْ يأتي بعدهم لنَجحتْ تلك الدعوات.
ونحن في الريف نرى الفلاح يغرس؛ ومن خلال غَرْسه نعرف مراداته، هل يعمل لنفسه، أو يعمل من أجل من يأتي بعده؟
فَمنْ يغرس قمحاً يحصد بسرعة تفوق سرعة مَنْ يغرس نخلة أو شجرة من المانجو، حيث لا تثمر النخلة أو شجرة المانجو إلا بعد سنين طويلة، تبلغ سبع سنوات في بعض الأحيان، وهذا يزرع ليؤدي لِمَنْ يجئ ما أداه له مَنْ ذهبَ.
ونحن نأكل من تَمْرٍ زَرَعه لنا غيرنا مِمَّنْ ذهبوا، ولكنهم فكّروا فيمَنْ سيأتي من بعدهم، ومَنْ يفعل ذلك لابُدَّ وأن يكون عنده سِعَة في الأرض التي يزرعها؛ لأن مَنْ لا يملك سِعَة من الأرض فهو يفكر فقط فيمَنْ يعول وفي نفسه فقط؛ لذلك يزرع على قَدْر ما يمكن أن تعطيه الأرض الآن.
أما مَنْ يملك سِعَة من الأرض وسِعَة في النفس؛ فهو مَنْ وضع في قلبه مسئولية الاهتمام بمَنْ سيأتون بعده.
وأنْ يردّ الجميل الذي أسداه له مَنْ سبقوه، بأن يزرع لغيره ممَّنْ سيأتون من بعده.
ودعوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ شِهدتْ له بأنه لم يبحثْ لنفسه عن ثمرة عاجلة؛ بل نجد الدعوة وهي تُقابل الصِّعاب تِلْو الصعاب، ويَلْقي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما تلقَّى من العنت والإرهاق والجهد؛ بعد أنْ جهر بالدعوة في عشيرته الأقربين.
ثم ظلَّتْ الدعوة تتسع في بعض العشائر والبطون إلى أن دالت(12/7391)
عاصمة الكفر؛ وصارت مكة بيت الله الحرام كما شاء الله، وأسلمتْ الجزيرة كلها لمنهج الله، وأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكتب إلى الملوك والقياصرة، وكلها تتضمن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أسلم تسلم» .
ودَلَّتْ هذه الكتب على أن الدعوة الإسلامية هي دعوة مُمتدَّة لكل الناس؛ تطبيقاً لِمَا قاله الحق لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه: «رسول للناس كافة» .
قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ... } [سبأ: 28]
وفَهِم الناس الفَارِق بين رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين كَافّة الرسالات السابقة، فإلى قوم عاد أرسل هوداً عليه السلام.
يقول الحق سبحانه: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ... } [الأعراف: 65]
وقال عن أهل مَدْين: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ... } [الأعراف: 85]
وقال عن بَعْثة موسى: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ ... } [آل عمران: 49]
وهكذا حدَّد الحق سبحانه زمان ومكان القوم في أيِّ رسالة سبقتْ رسالة محمد بن عبد الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
لكن الأمر يختلف حين أرسل سبحانه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً وجعله للناس كَافَّة، فقد علم سبحانه أزلاً أن هذا هو الدين الخاتم؛ لذلك أرسل رسول الله إلى حُكَّام العالم المعاصرين له دعوةً لدخول الدين الخاتم.(12/7392)
وقد ترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك المهمة لمَنْ يخلفونه، ودعا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزيرة العربية تحت لواء «لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله» بعد أن كانت قبائل متعددة.
كل قبيلة كانت لا تُلزِم نفسها بعبادة إله القبيلة الأخرى؛ وكل قبيلة لا تلزم نفسها بتقنين القبيلة الأخرى، ولم يجمعهم أبداً شَمْل، ولا استيطانَ لهم إلا في بعض القُرَى، ذلك أن أغلبهم من البَدْو الرُّحَّل؛ كل واحد منهم يحمل بيته الخيمة على ظهر بعيره، ويمشي بحثاً عن الكلأ والماء لأغنامه وماشيته.
فلم يكن عندهم انتماء وطني؛ فضلاً عن القبائل التي كانت تتقاتل فيما بينها في تارات عنيفة، وامتدت الحرب فيما بين بعض القبائل إلى أربعين عاماً في بعض الأحيان.
استطاع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُوظِّف ما كانوا عليه من تدريب وعَتَاد وعُدَّة لِنُصْرة دين الله؛ فحين إعداده للغزوات أو اختياره للسرايا كان يجد المقاتلين في كامل لياقتهم.
وحين استدعاهم إلى الحرب لم يُجْر لهم تدريبات؛ فقد كان الكل مُدرَّباً على القتال.
وهكذا صارتْ القبائل أمة واحدة بعد أن جمعهم محمد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وحدة التكامل العقدي تحت راية الإسلام، وهذه الأمة الأمية، قال فيها الحق سبحانه: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ ... } [الجمعة: 2](12/7393)
وكانت هذه الأمية شرفاً لهم كَيْلا يُقََال: إنهم أصحاب قَفْزة حضارية من أمة مُتمدينة. وكانت هذه الأمية مُلْفتة، لأن ما جاء في تلك الأمة من تشريعات وقفتْ أمامه الأمم الأُخرى إلى زماننا هذا باندهاش وتقدير.
وشاء الحق سبحانه لهذه الأمة أن تحمِلَ رسالة السماء لكل الأرض، وبعد أن نزل قول الحق سبحانه: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ... } [المائدة: 3]
فَهِم بعض الناس أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينعِي نفسه لأمته.
ومن بعد رحيله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الرفيق الأعلى انساح صحابته بالدين الخاتم في الدنيا كلها، وخلال نصف قرن من الزمان صار للإسلام جناحان؛ جناح في الشرق، وجناح في الغرب. وهزم اكبر إمبراطوريتين متعاصرتين له؛ هما إمبراطورية فارس بحضارتها وإمبراطورية الروم.
وكانت البلاد تتخطَّف الإسلامَ كمنهج حياة، حدث ذلك بعد أن حارب الإسلامُ الإمبراطوريتين في آنٍ واحد، وأقبل الناس على الإسلام لِيتحقَّقوا من معجزته التي لَمسُوها في خُلُق مَنْ سمِعوا القرآن وحَملوا رسالته؛ ثم في اكتشافهم لعدالة القرآن في إدارة حركة الحياة.(12/7394)
وهكذا اكتشفوا أن معجزة الإسلام عقلية؛ وأن رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الرسول الخاتم الذي لم يَأْتِ لهم بمعجزة حِسِّية، وإذا كان القرآن معجزة في اللغة للقوم الذين نزل فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فالقرآن لِمَنْ لم يعرفوا لغة القرآن كان معجزة في العدالة والقيم النابعة منه.
وكان الناس يندفعون إلى الإسلام بقوة دَفْع من المؤمنين به، وبقوة جَذْب من غير المؤمنين؛ حين يروْنَ ألاَّ فَرْق بين الأمير وأصغر فَرْد تحت رايته، وحين يلمسون عدالته ومساواته بين البشر.
ولم يكن الإسلام معجزة لقومه فقط؛ بل لكل الدنيا، ويتحقق دائماً قول الحق سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق ... } [فصلت: 53]
ونجد مُفكّراً كبيراً من الغرب المعاصر يعلن إسلامه، رغم أنه لم يقرأ القرآن؛ بل نظر فقط في المبادئ التي قَنَّنها الإسلام، وكيف تحمل حلولاً لِمَا عجزتْ عنه الحضارات المتعاقبة وأهل القوانين في كل بلاد الأرض.
ويعرف أن تلك القوانين قد جاءتْ لرسول ينتمي لأمة لم تبرعْ إلا في البلاغة والأدب، وتضع تلك القوانين حلولاً لمشاكل تعاني منها الدنيا كلها.
ورأينا كيف بحثَ رجل عن أعظم مائة في تاريخ البشرية، وكيف جعل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولهم، وهذا الباحث لم يقرأ القرآن؛ ولكنه درسَ(12/7395)
آثار تطبيق القرآن، وبعد أنْ يُعجبَ بالمنهج القرآني نجده يُعجب بالنص القرآني.
والمثل: هو دراسة الألمان لعملية إدراكات الحِسِّ؛ وكيف يشعر الإنسان بالألم؟ وكيف يلمس الإنسان بِبَشْرته بملْمسٍ ناعم فيُسَرّ منه، ثم يلمس شيئاً خشناً فيتأذى منه.
واستمر الألمان يدرسون ذلك لسنوات؛ كي يعرفوا مناطَ الإحساس وموقعه في الإنسان، هل هو في المُخِّ أم أين؛ إلى أن انتهوْا إلى منَاطَ الإحساس في كُلِّ إنسان هو في الجِلْد، وأنها خلايا مُنبسطة تحت الجِلْد مباشرة؛ بدليل أن الإبرة حين نغرزها في جسم الإنسان؛ فهو يتألم فقط في منطقة دخولها؛ وليس أكثر.
ولفتَ ذلك نظر أحد العلماء؛ فقال: لقد تحدث القرآن عن ذلك حين قال: { ... كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 56]
ومن الأمثلة المعاصرة في العلوم الجنائية قصة شاب مسلم من سوهاج سافر إلى ألمانيا ليُعد رسالة الدكتوراه في القانون، ووجدهم(12/7396)
يقفون عند قضية التعسُّف في استعمال الحق، ويعتبرونها من أهم الإنجازات القانونية في القرآن العشرين.
فأوضح لهم هذا الشاب أن الإسلام قد سبقهم في تقدير هذه المسألة ووضع الحكم المناسب فيها من أربعة عشر قرناً من الزمان.
«» وروى لهم أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قائلاً: إن لفلان عندي في ساحة بيتي نخلة، وهو يدخل بيتي كل ساعة بحجة رعاية تلك النخلة؛ مرة بدعوى تأبيرها؛ وأخرى جَنْي ثمارها. وثالثة بدعوى الاطمئنان عليها حتى جعل النخلة شُغله الشاغل.
وشكا الرجل للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه يتأذى هو وأهل بيته من اقتحام الرجل للحياة الخاصة له، فأرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صاحب النخلة وقال له: أنت بالخيار بين ثلاثة مواقف: إما أن تهبه النخلة وتلك منتهى الأريحية، وإما أنْ تبيعها له، وإما قطعناها «.
وهكذا وضع صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قواعد للتعامل فيما يسمى» التعسُّف في استعمال الحق «.
وفي إنجلترا وجدوا أن القانون التجاري مليء بالثغرات، ومثال هذا أن التعامل في السوق قد يتطلب بعضاً من المرونة بين التجار؛ فهذا يرسل لذلك طالباً من الآخر ألفاً من الجنيهات؛ وفلان يردُّ ما أخذه أو يقايضه.(12/7397)
واصطدم الواقع بأن بعض التجار لا يعترفون ببعض الديون التجارية التي عليهم، وقديماً كان إذا أراد تاجر أن يقترض من زميل له؛ فهو يكتب الدَّيْن في كمبيالة أو إيصال أمانة؛ وذلك لتوثيق الدَّيْن.
ولكن الأمر اليومي في السوق قد يختلف؛ فهذا يحتاج نقوداً لأمر عاجل، وزميله يثق في قدرته على الردِّ والتسديد؛ لأنه قد يحتاج هو الآخر لنقود عاجلة، ويثق أن مَنْ يقرضه الآن، سيقرضه فيما بعد؛ ولذلك أنشأوا ما يُسمَّى بالدَّيْن التجاري، فيفتحون» دفتراً «يُسجِّلون في الديون التجارية؛ لتحكم الدفاتر فيما يعجز عن تذكّره الأشخاص.
وذهب شاب مسلم لبعثة دراسية هناك؛ وأوضح لهم أن قضية الدّين أخذت اهتمام الإسلام؛ لدرجة أن أطول آية في القرآن هي الآية التي تحدد التعامل مع الديون؛ وأخذ يترجم لهم قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن(12/7398)
تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ واتقوا الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]
وظاهر الأمر أنه يحمي الدائن، ولكن الحقيقة أنه يحمي المدين أيضاً؛ لأن المدين إنْ علم أنَّ الدين مُوثَّق؛ فهو سيسعى جاهداً أن يؤديه في موعده، وأيضاً كي لا يأخذ النصَّابون فرصة للهرب من السداد، وبذلك حمى القرآنُ الدائن والمدين معاً كي لا تقف حركة التعامل بين الناس.
ومع هذا فإنه لم يمنع الأريحية الإيمانية والمروءة أن تسلك طريقها في عالم الود والإخاء المؤمن؛ فإنْ كان لك قريب أو إنسان لك به صِلَة، وأنت تأمنه على ما اقترض منك؛ يقول لك الحق سبحانه: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ ... } [البقرة: 283](12/7399)
وبهذا القول يشعر مَنْ يحمل أمانة من الغير بالخجل؛ فيعمل على رَدِّها. ثم يضيف الحق سبحانه: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ... } [البقرة: 282]
وهكذا جاء الإسلام بقوانين لا يمكن أن تخرج من أمة أُميِّة؛ لأنها قوانين تسبق العصور، وهي قوانين تنبع من دين سماوي خاتم. ولذلك عندما سألوني عن موقف الإسلام من التقدمية والرجعية، قلت لهم:
إن القياس خاطئ؛ لأنك لن تستطيع أن تقيس فِكْر بشر بما أنزله رَبُّ كل البشر، وإذا كان العالم بشَرقْه وغَرْبه يهتدي إلى أيِّ خير تنتظم به حياته؛ ويجد جذوراً لذلك الخير في الإسلام؛ فهذا دليل على أن العالم يتجه إلى الوسطية.
وكان المثل في الشيوعية التي قامت ثورتها الدموية في عام 1917؛ وقالوا: إنها مُقدّمة للشيوعية؛ وسقطتْ الشيوعية من بعد أن أصيب المجتمع الروسي بالتيبُّس والجمود، والخوف من أسلوب حُكْم الحزب الشيوعي.
ونجد الرأسمالية الشرسة، وهي تُهذِّب من شراستها؛ وتعطي العامل حقَّه وتُؤمِّن عليه، وهكذا يتجه العالم إلى الوسطية التي دعا لها الإسلام.
وقد نزل الإسلام من قِبَل عالمٍ عليمٍ بكل الأهواء وبكل المراحل.(12/7400)
ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يُطمئِنُ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنْ آذاه أحدٌ في المنهج الذي جاء به؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن لِيأبه بمَنْ يحاول أن يُؤذِيَه في شخصه، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يغضب لنفسه؛ ولكن إنْ تعرَّض أحد للمنهج فغضبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يظهر جلياً.
ومَنْ وقفوا ضد الدين قابلهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدعوة؛ فمَنْ آمن منهم نال حلاوة الإيمان؛ ومن لم يؤمن فقد توالتْ عليه المصائب من كل جانب، منهم مَنْ رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصارعه.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 41 - 42]
أي: أنه جَلَّ وعلاَ إما أن يُلحِق رسوله بالرفيق الأعلى، وينتقم من الذين وقفوا ضده؛ أو يُريه عذابهم رَأْى العين.
وكأن هذا القول هو الذي يشرح قوله سبحانه هنا: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40]
وعذاب الدنيا كما نؤمن مَهْما بلغ فلن يصلَ إلى مرتبة عذاب الآخرة.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:(12/7401)
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا ... }(12/7402)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
و {يَرَوْاْ} هنا بمعنى «يعلموا» ، ولم يَقُلْ ذلك؛ لأن العلم قد يكون عِلْماً بغيب، ولكن «يروا» تعني أنهم قد علموا ما جاء بالآية عِلْم مشهد ورؤية واضحة، وليس مع العين أَيْن.
وإذا جاء قول الحق سبحانه ليخبرنا بأمر حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل؛ ووجدنا فيه فعل الرؤية؛ فهذا يعني أننا يجب أن نؤمن به إيمان مَشْهدٍ، لأن قوله سبحانه أوثق من الرؤية، وعلمه أوثق من عينيك.
وسبق أن قال الحق سبحانه لرسوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1]
ونعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد وُلِد في عام الفيل، ولا يمكن أن يكون قد رأى ما حدث لأصحاب الفيل، ولكنه صَدَّق ما جاء به القول الحق وكأنه رؤيا مَشْهدية.
وقال الحق سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ... } [الفرقان: 45](12/7402)
وحين يُعبِّر القرآن عن أمر غيبي يأتي بفعل «يرى» مثل قوله الحق: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ ... } [السجدة: 12]
وحين يتكلم القرآن عن أمر معاصر يقول: {أَفَلاَ يَرَوْنَ ... } [الأنبياء: 44]
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... } [الرعد: 41]
وهذا قول للحاضر المعاصر لهم.
وتعريف الأرض هنا يجعلها مجهولة، لأننا حين نرغب في أن نُعرِّف الأرض؛ قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها؛ وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر.
وقد تُنسَبُ الأرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حَدَثٌ ما؛ مثل قول الحق سبحانه عن قارون: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض ... } [القصص: 81]
ويقول الحق سبحانه عن الأرض كلها: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض ... } [النور: 55](12/7403)
وبطبيعة الحال هم لن يأخذوا كل الأرض، ولكن ستكون لهم السيطرة عليها.
وسبحانه يقول أيضاً: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله ... } [الأعراف: 73]
وهكذا نفهم أن كلمة «الأرض» تطلق على بُقعة لها حَدث خاص، أما إذا أُطلقتْ؛ فهي تعني كل الأرض، مثل قول الحق سبحانه: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن: 10]
ومثل قوله تعالى لبني إسرائيل: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض ... } [الإسراء: 104]
مع أنه قد قال لهم في آية أخرى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ... } [المائدة: 21]
فبعد أنْ حَدَّد لهم الأرض بموقع معين عاد فأطلق الكلمة، ليدل على أنه قد شاء ألاَّ يكون لهم وَطَن، وأنْ يظلُّوا مُبعْثرين، ذلك انهم رفضوا دخول الموقع الذي سبق وأنْ حَدَّده لهم وقالوا: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا ... } [المائدة: 24](12/7404)
ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً ... } [الأعراف: 168]
أي: جعلنا كل قطعة بما تحويه من تماسك متفرقة عن القطعة الأخرى، وهذا هو حال اليهود في العالم؛ حيث يُوجَدُونَ في أحياء خاصة بكل بلد من بلاد العالم؛ فلم يذوبوا في مجتمع ما.
وقوله الحق هنا: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... } [الرعد: 41]
مُوجَّه إلى قريش، فقد كانت لهم السيادة ومركزها مكة، ثم من بعد ذلك وجدوا أن الموقف يتغيَّر في كُلِّ يوم عن اليوم الآخَرِ؛ ففي كل يوم تذهب قبيلة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المدينة لِتعلِنَ إسلامها وتبايعه.
وهكذا تنقص أمام عيونهم دائرة الكفر، إلى أن أعلنوا هم أنفسهم دخولهم في الإسلام.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن نقصتْ أرض الكفر، وازدادتْ أرض الإيمان، ورَأَوْا ذلك بأنفسهم ولم يأخذوا عِبْرة بما رَأَوْه أمام أعينهم(12/7405)
من أن الدعوة مُمْتدة، ولن تتراجع أبداً، حيث لا تزداد أرض إلا بمكين فيها.
والمكين حين ينقص بموقعه من معسكر الكفر فهو يُزيد رُقْعة الإيمان؛ إلى أنْ جاء ما قال فيه الحق سبحانه: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر: 1 - 3]
وهناك أناس مُخْلِصون لدين الله، ويحاولون إثبات أن دين الله فيه أشياء تدلُّ على المعاني التي لم تُكتشَفْ بعد، فقالوا على سبيل المثال فَوْر صعود الإنسان إلى القمر: لقد أوضح الحق ذلك حين قال: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33]
وقالوا: إنه سلطان العلم.
ولكن ماذا يقولون في قوله بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35]
فهل يعني ذلك أنه أباح الصعود بسلطان العلم كما تقولون؟
ولهؤلاء نقول: نحن نشكر لكم محاولة رَبْطكم للظواهر العلمية بما جاء بالقرآن، ولكن أين القمر بالنسبة لأقطار السماوات(12/7406)
والأرض؟ إنه يبدو كمكان صغير للغاية بالنسبة لهذا الكون المُتَّسع، فأين هو من النجم المسمَّى بالشِّعْري، أو بسلسلة الأجرام المُسمَّاة بالمرأة المُسلْسلَة؟ بل أين هو من المَجَرَّات التي تملأ الفضاء؟
وحين تنظر أنت إلى النجوم التي تعلوك تجد أن بينك وبينها مائة سنة ضوئية، ولو كنت تقصد أن تربط بين سلطان العلم وبين القرآن، فعليك أنْ تأخذ الاحتياط، لأنك لو كنت تنفذُ بسلطان العلم لما قال الحق سبحانه بعدها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ ... } [الرحمن: 35]
وإنْ سألتَ: وما فائدة الآية التي تحكي عن هذا السلطان؛ فهي قد جاءتْ لأن الرسول قد أخبر القوم أنه صعدَ إلى السماء وعُرِج به، أي: أنه صُعِد وعُرِج به بسلطان الله.
وهنا يقول الحق سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ... } [الرعد: 41]
وكلمة «أطراف» تدلنا على أن لكل شيء طُولاً وعَرْضاً تتحدد به مساحته؛ وكذلك له ارتفاع ليتحدد حجمه. ونحن نعرف أن أيَّ طول له طرفان، وإنْ كان الشيء على شكل مساحي تكون أطرافه بعدد الأضلاع.
ومادام الحق سبحانه يقول هنا:(12/7407)
{مِنْ أَطْرَافِهَا ... } [الرعد: 41]
أي: من كل نقطة من دائرة المحيط تعتبر طرفاً. ومعنى ذلك أنه سبحانه قد شاء أنْ تضيق أرض الكفار، وأنْ يُوسِّع أرض المؤمنين من كل جهة تحيط بمعسكر الكفر، وهذا القول يدل على أنه عملية مُحْدّثة، ولم تكن كذلك من قبل.
ويتابع سبحانه من بعد ذلك: {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ... } [الرعد: 41]
أي: أن الموضوع قد بُتَّ فيه وانتهى أمره. . ونحن في حياتنا اليومية نقول: «هذا الموضوع قد انتهى؛ لأن الرئيس الكبير قد عقَّب على الحكم فيه» .
ونحن في القضاء نجد الحكم يصدر من محكمة الدرجة الابتدائية، ثم يأتي الاستئناف ليؤيد الحكم أو يرفضه، ولا يقال: إن الاستئناف قد عقَّب على الحكم الابتدائي؛ بل يُقال: إنه حكم بكذا إما تأييداً أو رَفْضاً؛ فما بالنا بحكم مَنْ لا يغفل ولا تخفى عنه خافية، ولا يمكن أن يُعقِّب أحد عليه؟
والمَثلُ في ذلك ما يقوله الحق سبحانه عن سليمان وداود عليهما السلام: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم(12/7408)
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ... } [الأنبياء: 78 - 79]
وأَصلْ الحكاية أن خلافاً قد حدث بسبب أغنام يملكها إنسان؛ واقتحمتْ الأغنامُ زراعةَ إنسانٍ آخر؛ فتحاكموا إلى داود عليه السلام؛ فقال داود: إن على صاحب الأغنام أن يتنازل عنها لصاحب الأرض.
وكان سيدنا سليمان عليه السلام جالساً يسمع أطراف الحديث فقال: لا، بل على صاحب الأغنام أن يتنازل عن أغنامه لصاحب الأرض لفترة من الزمن يأخذ من لبنها ويستثمرها، وينتفع بها إلى أن يزرع له صاحب الغنم مثلَ ما أكلتْ الأغنام من أرضه.
وقال الحق سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ... } [الأنبياء: 79]
وهذا هو الاستئناف، ولا يعني الاستئناف طَعْنَ قاضٍ في القاضي الأول؛ لكنه بَحْثٌ عن جوهر العدل؛ ولعل القضية إنْ أُعيدَتْ لنفس القاضي الأول لَحكَم نفس الحكم الذي حكم به الاستئناف بعد أن يستكشف كل الظروف التي أحاطتْ بها.
وهنا يقول الحق سبحانه: {والله يَحْكُمُ ... } [الرعد: 41](12/7409)
ولحظة أن يُصدِر الله حُكْماً؛ فلن يأتي له استئناف، وهذا معنى قوله الحق: {لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ... } [الرعد: 41]
وكأن هذا القول الحكيم يحمل التنبؤ بما أشار به القضاء بإنشاء الاستئناف؛ ولا أحد يُعقِّب على حُكْم الله؛ لأن المُعقِّب يفترض فيه أن يكون أيقظَ من المُعقَّب عليه؛ وعنده قدرةُ التفاف إلى ما لم يلتفت إليه القاضي الأول، ولا يوجد قَيُّوم إلا الله، ولا أحدَ بقادر على أن يعلم كل شيء إلا هو سبحانه.
وآفة كل حُكْم هو تنفيذه؛ ففي واقعنا اليومي نجد مِنَ استصدر حُكْماً يُعاني من المتاعب كي يُنفِّذه؛ لأن الذي يُصدِر الحكم يختلف عَمَّنْ ينفذه، فهذا يتبع جهة، وذاك يتبع جهة أخرى.
ولكن الحُكْم الصادر من الله؛ إنما يُنفِّذ بقوته سبحانه، ولا يوجد قويٌّ على الإطلاق سِوَاه، ولذلك يأتي قول الحق: { ... وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41]
فكأن الله يُنبِّهنا بهذا القول إلى أن الحكم بالعدل يحتاج إلى سرعة تنفيذ.
ونحن نرى في حياتنا اليومية: كيف يُرْهق مَنْ له حكم بحقٍّ عادل؛ ولو أننا نُسرِع بتنفيذ الأحكام لَسادَتْ الطمأنينةُ قلوبَ أفراد المجتمع.
ونحن نجد استشراء العصبيات في الأخذ بالثأر إنما يحدث بسبب(12/7410)
الإبطاء في نظر القضايا؛ حيث يستغرق نظر القضية والحكم فيها سنواتٍ؛ مِمَّا يجعل الحقدَ يزداد. لكن لو تَمَّ تنفيذ الحكم فَوْرَ معرفة القاتل، وفي ظل الانفعال بشراسة الجريمة؛ لَمَا ازدادتْ عمليات الثأر ولَهدأَت النفوس.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار}(12/7411)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
وهنا يخبر الحق سبحانه رسوله، وأيُّ سامع لهذا البلاغ يستقرئ موكب الرسالات السابقة؛ وسيجد أن كُلَّ أمة أُرسِل لها رسول مكرتْ به وكادتْ له كي تبطل دعواه، ولم ينفع أيّ أمة أي مكر مَكرتْه أو أيّ كَيْدٍ كَادَتْهُ، فكُلُّ الرسالات قد انتصرتْ.
فسبحانه القائل: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي ... } [المجادلة: 21]
وهو القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173](12/7411)
والحق سبحانه حين يُورِد حُكْماً فبالقرآن؛ وهو الذي حفظ هذا القرآن؛ فلن تأتي أيُّ قضية كونية لتنسخ الحكم القرآني.
وأنت إذا استقرأتَ مواكب الرسل كلها تجد هذه القضية واضحة تماماً؛ كما أثبتها الحق سبحانه في القرآن المحفوظ؛ وما حفظه سبحانه إلا لوثوقه بأن الكونيات لا يمكن أن تتجاوزه.
وبالفعل فقد مكرتْ كُلُّ أمة برسولها؛ ولكن الحق سبحانه له المكر جميعاً؛ ومَكْر الله خَيْرٌ للبشرية من مَكْر كل تلك الأمم؛ ومَكْره سبحانه هو الغالب، وإذا كان ذلك قد حدث مع الرسل السابقين عليك يا رسول الله؛ فالأمر معك لابُدَّ أنْ يختلفَ لأنك مُرْسَلٌ إلى الناس جميعاً، ولا تعقيبَ يأتي من بعدك.
وكُلُّ تلك الأمور كانت تطمئنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فلابُدَّ من انتصاره وانتصار دعوته؛ فسبحانه محيط بأيِّ مَكْر يمكره أيُّ كائن؛ وهو جَلَّ وعلاَ قادر على أنْ يُحبِط كل ذلك.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: { ... يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} [الرعد: 42]
والحق سبحانه يعلم ما يخفي عن الأعين في أعماق الكائنات؛ خَيْر هو أو شَرٌّّ، ويحمي مَنْ شاءَ من عباده من مَكْر الماكرين، ويُنزِل العقاب على أصحاب المَكْر السيء بالرسل والمؤمنين.
ولَسوفَ يعلم الكافرين أن مصيرهم جهنم، وبئس الدار التي يدخلونها في اليوم الآخر؛ فَضْلاً عن نُصْرة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الدنيا وخِزْيهم فيها.(12/7412)
وهكذا يكونوا قد أخذوا الخِزْي كجزاءٍ لهم في الدنيا؛ ويزدادون عِلْماً بواقع العذاب الذي سَيلقََوْنَهٌ في الدار الآخرة.
ويُنهي الحق سبحانه سورة الرعد بهذه الآية:
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ ... }(12/7413)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
ونفهم من كلمة: {لَسْتَ مُرْسَلاً ... } [الرعد: 43]
أن الكافرين يتوقفون عند رَفْض الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وكأن كُلَّ أمانيهم أن يَنْفوا عنه أنه رسولٌ اصطفاه الحق سبحانه بالرسالة الخاتمة؛ بدليل أنهم قالوا: { ... لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]
ومن بعد ذلك قالوا: { ... اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
أي: أن فكرة الإرسال لرسول مقبولة عندهم، وغير المقبول عندهم هو شخص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:(12/7413)
{ ... قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
والشهيد كما نعلم هو الذي يرجح حُكْم الحق، فإذا ما ظهر أمر من الأمور في حياتنا الدنيا الذي نحتاج إلى حُكْم فيها؛ فنحن نرفع الأمر الذي فيه خلاف إلى القاضي، فيقول: «هاتوا الشهود» .
ويستجوب القاضي الشهود ليحكمَ على ضَوْء الشهادة؛ فَما بالُنَا والشاهد هنا هو الحقٌّ سبحانه؟
ولكن، هل الله سيشهد، ولِمَنْ سيقول شهادته؛ وهم غَيْرُ مُصدِّقين لكلام الله الذي نزل على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟
ونقول: لقد أرسله الحق سبحانه بالمعجزة الدَّالة على صِدْق رسالته في البلاغ عن الله، والمعجزة خَرْقٌ لنواميس الكون.
وقد جعلها الحق سبحانه رسالةً بين يدي رسوله وعلى لسانه؛ فهذا يعني أنه سبحانه قد شهد له بأنه صادق.
والمعجزة أَمْر خارق للعادة يُظهِرها الله على مَنْ بلغ أنه مُرْسَل منه سبحانه، وتقوم مقام القول «صدق عبدي فيما بلغ عنِّي» .
وإرادة المعجزة ليست في المعنى الجزئي؛ بل في المعنى الكُليّ لها. والمثل في المعجزات البارزة واضح؛ فهاهي النار التي أَلْقَوْا فيها إبراهيم عليه السلام، ولو كان القَصْد هو نجاته من النار؛ لكانت هناك ألفُ طريقة ووسيلة لذلك؛ كأنْ تُمطِر الدنيا؛ أو لا يستطيعون إلقاء القبض عليه.(12/7414)
ولكن الحق سبحانه يوضح لهم من بعد أن أمسكوا به، ومن بعد أن كبَّلوه بالقيود، ومن بعد أن ألقوْه في النار؛ ويأتي أمره بأن تكون النار برداً وسلاماً عليه فلا تحرقه: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]
وهكذا غيّر الحق سبحانه الناموس وخَرَقه؛ وذلك كي يتضح لهم صِدْق إبراهيم فيما يبلغ عن الله؛ فقد خرَق له الحق سبحانه النواميس دليلَ صحة بلاغه.
وإذا كان الحق سبحانه قد قال هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ... } [الرعد: 43]
وشهادة الحق سبحانه لرسوله بصدق البلاغ عنه؛ تتمثل في أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نشأ بينهم، وأمضى أربعين عاماً قبل أن ينطق حرفاً يحمل بلاغه أو خطبة أو قصيدة، ولا يمكن أن تتأخرَ عبقرياتُ النبوغ إلى الأربعين.
وشاء الحق سبحانه أن يجري القرآن على لسان رسوله في هذا العمر ليبلغ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناسَ جميعاً به، وهذا في حَدِّ ذاته شهادة من الله.(12/7415)
ويضيف سبحانه هنا: { ... وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
والمقصود بالكتاب هنا القرآن؛ ومَنْ يقرأ القرآن بإمعان يستطيع أن يرى الإعجاز فيه؛ ومَنْ يتدبر ما فيه من مَعَانٍ ويتفحَّص أسلوبه؛ يجده شهادة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
أو يكون المقصود بقوله الحق: { ... وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]
أي: هؤلاء الذين يعلمون خبر مَقْدِم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التوراة والإنجيل؛ لأن نعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصفته مذكورة في تلك الكتب السابقة على القرآن؛ لدرجة «أن عبد الله بن سلام، وقد كان من أحبار اليهود قال:» لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لِمُحمد أشد «.
ولذلك ذهب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال له: يا رسول الله إن نفسي مالتْ إلى الإسلام، ولكن اليهود قوم بُهَتٌ، فإذا أعلنتُ إسلامي؛ سيسبُّونني، ويلعنوني، ويلصقون بي أوصافاً ليست فيّ. وأريد أنْ(12/7416)
تسألهم عنِّي أولاً. فأرسل لهم رسول الله يدعو صناديدهم وكبار القوم فيهم؛ وتوهموا أن محمداً قد يلين ويعدل عن دعوته؛ فجاءوا وقال لهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما تقولون في ابن سلام؟ «فأخذوا يكيلون له المديح؛ وقالوا فيه أحسن الكلام.
وهنا قال ابن سلام:» الآن أمامكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله «، فأخذوا يسبُّون ابن سلام؛ فقال ابن سلام لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألم أَقُلْ إن يهود قوم بهت»
؟ ونعلم أن الذين كانوا يفرحون من أهل الكتاب بما ينزله الحق سبحانه على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وحي هم أربعون شخصاً من نصارى نجران؛ واثنان وثلاثون من الحبشة؛ وثمانية من اليمن.
ونعلم أن الذين أنكروا دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا ينهوْنَ بعضهم البعض عن سماع القرآن؛ وينقل القرآن عنهم ذلك حين قالوا: { ... لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]
وهذا يعني أنهم كانوا متأكدين من أن سماع القرآن يُؤثِّر في النفس بيقظة الفطرة التي تهفو إلى الإيمان به.
أما مَنْ عندهم عِلْم بالكتب السابقة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم يعلمون خبر بعثته وأوصافه من كتبهم.(12/7417)
يقول الحق سبحانه: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ... } [البقرة: 146]
ويقول أيضاً: { ... فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} [البقرة: 89](12/7418)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
هكذا يستهل الحق سبحانه هذه السورة بالحروف المقطعة «ألف» «لام» «راء» ، وسبق أن قلنا: إنها حروف توقيفية بلَّغها رسول الله لنا كما سمعها من جبريل عليه السلام.
إلا أن المُلاحَظ أن هذه الحروف التوقيفية المُقطَعة لم تَأْتِ وحدها في هذه السورة كآية منفصلة؛ مثل قوله في أول سورة ق:
{ق} [ق: 1] .
وهي آية بمفردها، وكما جاء في غير ذلك من السور بحروف مقطعة وأثبتها كآيات. وهنا تأتي الحروف التوقيفية المقطعة كجزء من الآية.
ويقول الحق سبحانه:(12/7421)
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ... } [إبراهيم: 1] .
كلمة «كتاب» إذا أطلقت انصرف معناها إلى القرآن؛ فهو يُسمَّى كتاباً؛ ويُسمَّى قرآناً، ويُسمَّى تنزيلا، وله أسماء كثيرة.
وكلمة «كتاب» تدل على أنه مكتوب، وكلمة «قرآن» تدل على أنه مقروء، وهذان الاسمان هما العُمْدة في أسماء القرآن؛ لأنه كتاب مكتوب ومقروء.
فكان الصحابي الذي يجمع القرآن لا يكتب آية إلا إذا وجدها مكتوبة، ووجدها مَقْروءة عن اثنين من الصحابة؛ فالقرآن كتاب يملك الدليل على كتابته من عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وهو مَقْروء كما تدلُّ كملة «قرآن» .
وقوله الحق:
{أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ... } [إبراهيم: 1] .
يدلُّ على أنه جاء من عُلُوٍّ.
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر عن القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] .
ويقول في موقع آخر:(12/7422)
{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ ... } [الإسراء: 105] .
ومرة يسند النزول إلى مَنْ جاء به؛ ومرة ينسب النزول إلى الكائن الذي أرسله الحق بالقرآن إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو جبريل عليه السلام.
فقوله: {أَنزَلْنَاهُ ... } [إبراهيم: 1] للتعدي من منطقة اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود، وعلِّيّة إنزال القرآن إليك يا محمد هي:
{لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور. .} [إبراهيم: 1] .
ونلحظ هنا أن القرآن نزل للناس كافَّة، ولم يَقُلِ الحقُّ سبحانه ما قاله للرسُل السابقين على رسول الله؛ حيث كانت رسالة أيٍّ منهم مُحدَّدة بقوم مُعيَّنين، مثل قوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً ... } [الأعراف: 65] .
وقوله الحق: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ... } [الأعراف: 85] .
وكذلك قوله سبحانه لموسى: {وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ ... } [آل عمران: 49] .
وهكذا كان كُلُّ رسول إنما يبعثه الله إلى بُقْعة خاصة، وإلى أُنَاسٍ بعينهم، وفي زمن خاصٍّ، إلا محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد بعثه الله إلى الناس كَافَّة.(12/7423)
والمثل أمامنا حين حكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحق بين مسلم ويهودي؛ وأنصف اليهودي: لأن الحق كان معه؛ والحق عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعزُّ عليه مِمَّنْ ينتسب إلى الإسلام.
وهكذا نرى أن قوله الحق:
{لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور.
. .} [إبراهيم: 1] .
دليل على عمومية الرسالة، ويُعزِّزها قوله:
{إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158] .
وبذلك تبطل حُجَّة مَنْ قالوا إنه مُرْسَلٌ للعرب فقط.
ونجد هنا اصطفاءين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
الاصْطفاء الأول: أن الحق سبحانه قد اختاره رسولاً؛ فمجرد الاختيار لتلك المهمة: فهذه منزلة عالية.
والاصْطفاء الثاني: أنه رسولٌ للناس كَافَّة؛ وهذه منزلة عالية(12/7424)
أخرى؛ لأنها تستوعب المكان والزمان، والألسنة والأقوام.
ثم يأتي الإعجاز في قوله:
{لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور ... } [إبراهيم: 1] .
ولم يَقُلْ من الظلمات إلى الأنوار، وشاء أنْ يأتي بالظلمات كجمْع؛ وأنْ يأتي بالنور كالمفرد، لأن النور واحد لا يتعدد؛ أما الظلمات فمتعددة بتعدُّد الأهواء؛ ظُلْمة هنا وظُلْمة هناك.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يُجلي المعاني بالمُحسَّات التي يدركها الجميع، فلا شك أن الظُّلْمة تستر الأشياء التي قد يصطدم بها الإنسان فيمتنع عن السير مطمئناً؛ لأنه إنِ اصطدم بشيء فقد يُحطِّم الشيء أو يُحطِّمه هذا الشيء؛ وهكذا تمنع الظُّلْمة الإنسان من أن يهتدي إلى ما يريد.
أما النور فهو يوضح الأشياء، ويستطيع الإنسان أن يُميِّز بين الطرق ويتجنب الضار ويتجه إلى النافع؛ ويكون على بصيرة من الهداية؛ ذلك هو الأمر الحِسيّ؛ وكُلٌّ من النور والظلمة أمرٌ حِسي.
وهكذا يُجلِّي الله لنا المعاني، والحياة لا تحتاج فقط إلى ما يُجلي المظاهر المادية بالنور؛ بل تحتاج أيضاً إلى نور يُجلي المظاهر المعنوية؛ من حقد وحسد، وخوف وأمن، واطمئنان، وأمانة ووفاء؛ وغير ذلك.(12/7425)
فالحياة كلها فيها الشيء وما يقابله؛ لذلك لا بُدَّ أن تُجْلَي المعاني أيضاً. والنور الذي جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُجلي الحِسّ والمعنى في آن واحد؛ لنتجنب الأشياء التي تطمسها الظُّلْمة؛ ولنسير على بينة من المعاني، فلا نصطدم بالعقبات.
ولذلك يُفسِّر لنا الحق سبحانه الأمر المعنوي، فيقول:
{إلى صِرَاطِ العزيز الحميد ... } [إبراهيم: 1] .
وهذا هو الصراط المستقيم الذي يُخرجنا إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الظلمات إلى نوره.
ويريد الحق سبحانه أنْ يُجلي لنا الطريق إلى هذا الصراط، لأنه قد يكون مُتعباً للبعض؛ فيريد سبحانه أن يجمع لنا بين أمرين؛ طريق متضح واضح يَصِل فيه الإنسان إلى الغاية بِيُسْر؛ وطريق آخر غير واضح لا تتجلى فيه الأشياء.
وجاء بالظلمات والنور ليوضح لنا هذا المعنى؛ حيث يكون الطريق المستقيم هو أقصر وسيلة للغاية المَرجُوّة من الحياة الدنيا والآخرة؛ ويكون طريق الظلمات هو الطريق غير الآمن.
وينسب الحق سبحانه الطريق الذي يُخرِجنا إليه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
{إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] .
والعزيز هو الذي يَغْلِب ولا يُغْلَب. والحميد هو مَنْ ثبتت له صفة الحمد من الغير، وإنْ لَم يصدر حَمْدٌ من الغير؛ فهو حميد في ذاته، ويجب أن يُحمد رغم أنك إن حمدتَه أو لم تحمده فهو حميد.(12/7426)
ولله المَثلُ الأعلى، وسبحانه مُنَزَّه عن كل مثيل أو شبيه؛ نجد في حياتنا الدنيا مَنْ يُقال عنه إنه حميد الخصال؛ وإنْ لم يوجد مَنْ يمدحه؛ لكنه في كُلِّ ما يصدر عنه يراعي أن يكون محموداً.
ولكن البشر يكون المحمود منهم حَدثاً؛ أما المحمود من الحق فهو مُطْلق، ولا تكون الذاتُ محمودة أو حميدة إلا إذا كان لها من الصفات ما يجعلها أهلاً للإنعام الذي يجب على الإنسان أن يحمده.
والفطرة السليمة في الإنسان تستقبل هذا الكون المُعَدّ من قَبْل أنْ يوجد لاستقباله، وتحب أن تحمد مَنْ صنع هذا الكون، رغم أن حَمْد الإنسان أو عدم حَمْده لا يضيف شيئاً لِمَنْ أعدَّ هذا الكون وخلقه؛ فهو محمود في ذاته.
وإن حمدته فهذا لمصلحتك؛ وفي هذا هداية إلى صراط العزيز الذي لا يُغْلب، والحميد الذي يستحق الحمد؛ وإنْ لم يوجد حامد له؛ لأن صفاته سبحانه أزلية.
فالله خالق قبل أن يخلق الخلق؛ وهو الرازق قبل أن يُخْلق المرزوق، وهو مُعِز قبل أن يوجد مَنْ يُعِزه؛ محمود قبل أنْ يوجد مَنْ يحمده؛ توَّاب قبل أن يوجد مَنْ يتوب عليه.
فهو سبحانه بالصفة يفعل؛ أما الإنسان فلا يفعل إلا إذا فعل الصفة، فأنت لا تعرف أن فلاناً كريم؛ إلا لأنك تراه يعطي عن جُودٍ وسَخاء، أما الله فهو الكريم من قبل أن يوجد مَنْ يُكرمه.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:(12/7427)
{الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات ... } .(12/7428)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
وأنت إنْ قرأتَ هذه الآية موصولةً بما قبلها؛ فستقرؤها:
{صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [إبراهيم: 1 - 2] .
وإن كنتَ ستقرؤها مَفْصُولة عمَّا قبلها؛ فستقول:
{الله الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2] .
وستنطق كلمة «الله» غير مُرقَّقة عكسَ إنْ قرأتَها موصولة، حيث يجب أن تنطقها مُرقَّقة.
وتقتضي الأصول في الكتاب أن يوجد الاسم العلَم على الذات أولاً، ثم تأتي الصفة من بعده، فتقول: «لقيت فلاناً الشاعر أو الكاتب أو العالم» ، لكن الأمر هنا جاء على غير هذا النَّسَق: {صِرَاطِ العزيز الحميد} [إبراهيم: 1] .
أي: قدَّم {العزيز الحميد} ثم جاء بلفظ الجلالة، وهو العلَم على واجب الوجود «الله» ، وقد حدث ذلك لأن العلَمَ يدل على مُسمَّاه بصرف النظر عن الصفات؛ ثم توجد الصفات له.
وهناك من العلماء مَنْ قال: إنه مُشْتق بمعنى أن «الله» تعني(12/7428)
المعبود بحقٍّ؛ وصفة العزيز الحميد حيثية لأنْ يُعبدَ سبحانه بحقٍّ.
ومن العلماء من قال: إن كلمة «الله» هي علَم، وليست اسماً مُشْتقاً؛ فَلَهُ الملكية المطلقة:
{الذي لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} [إبراهيم: 2] .
لا يقع في هذا المُلْك إلا ما شاء هو، فَمنْ آمن به أنصف نفسه وحياته وآخرته، أما مَنْ لم يؤمن به فَلَه المقابل، وهو قوله الحق:
{وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2] .
وهذا الوَيْل ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا أيضاً؛ لأن الإنسان يدفعها بها؛ هنا يستطيع المؤمن أن يذكر أن له رباً فوق الأسباب؛ ويرتاح إلى معونة الحق سبحانه له، وهكذا يشعر أن له رصيداً في الدنيا يعتمد عليه في مواجهة الأحداث الجِسَام.
أما غير المؤمن فليس أمامه سوى اليأس؛ ولذلك نجد انتشار الانتحار بين غير المؤمنين؛ لأن هناك أحداثاً فوق أسبابهم، ولا يستطيعون دفعها، وليس لهم إيمان بربٍّ يرجعون إليه.
ولذلك حين أقرأ للمفسرين مَنْ يشرح كلمة «الويل» بأنها عذابُ الآخرة؛ فأجد نفسي قائلاً: بل والوَيْل يكون في الدنيا أيضاً؛ لأن الكثير من أحداث الحياة يكون فوق أسباب الإنسان؛ فلو لم يؤمن الإنسان بالله لَفزِع من فَرْط اليأس.
ولذلك نجد بعضهم حين لا يجدون مَفَرّاً إلا أنْ يقولوا يا رب، وهم بذلك يعلنون صرخة الفطرة الأولى التي قاوموها بالإلحاد وعدم الإيمان؛ وهذا الويل له امتداد بلون أشد في الآخرة.(12/7429)
ويصف الحق سبحانه هؤلاء الذين لا يؤمنون، فيقول: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياوة الدنيا ... }(12/7430)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
وهنا نجد مادة الحاء والباء؛ حب؛ ومن عجائبها أن الفعل يكون رباعياً؛ فنقول «أحبَّ فلان» ونقول لِمَنْ يحبه «محبوب» وهذا يعني أن هناك تلاقياً بين الاثنين؛ أما في حالة عدم التلاقي فيقال «حَبَّ يُحِب فهو حَابٌّ مُحِبٌّ» .
والفرق بين أحبَّ واستحبَّ؛ ملحوظٌ في مَجيء السين والتاء، وهما علامة على الطلب. على هذا فاستحبَّ تعني أنَ مَنْ يحب لم يكتَفِ بالأمر الطبيعي، بل تكلَّف الحب وأوغلَ فيه.
والمثل على ذلك نجده في الحياة اليومية؛ فنرى مَنْ ينجرف إلى شيء من الانحراف؛ ولكنه لا يُحِب أن يكون مُحِباً لهذا الانحراف في نفس الوقت؛ ويفعل الانحراف وهو كَارِهٌ له، وقد يضرب نفسه ويلومها لأنها تنجرف إلى هذا الانحراف.
ونجد آخر ينحرف؛ لأنه يحب هذا الانحراف وينغمس فيه؛ وهو مُحِبٌّ لهذا الانغماس ويتحدث بهذا الانحراف؛ ويُحب في نفسه أنه(12/7430)
أحب تلك المعصية؛ لأنها تُحقّق له شهوة عاجلة؛ هذا هو مَنِ «استحبَّ» لأنه ازاد الحب عن حَدِّه الطبيعي.
وحين تُدقِّق في الآية الكريمة تجد أنها لا تمنعك من حُبِّ الدنيا؛ لكنها تتحدث أنْ تستحِبَّها على الآخرة، فهذا هو الأمر المذموم؛ أما إذا أحببت الدنيا لأنها تُعينك على تكاليف دينك وجعلْتَها مزرعة للآخرة؛ فهذا أمر مطلوب؛ لأنك تفعل فيها ما يجعلك تسعد في آخرتك؛ فهذا طَلَب للدنيا من أجل الآخرة.
ولذلك تجد قوله الحق في سورة «المؤمنون» . {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] .
فهو لا يؤدي الزكاة فقط؛ بل يعمل لِيأتيَ لنفسه ولعياله بالقُوتِ؛ ويبذل الجهد ليكون لديه فائضٌ يؤدي منه الزكاة؛ ولذلك فهو لا يعمل قَدْر حاجته فقط بل على قَدْر طاقته ليحقق ما يمكن أنْ يُعطِيه لِمَنْ لا يقدر على العمل.
ولذلك لم يَقُل الحق سبحانه:
«والذين هم للزكاة مؤدون» بل قال:
{والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] .
وهنا لا نجد هؤلاء الذين يستحبّون الحياة من أجل أنْ يجعلوها مزرعة للآخرة؛ بل هم يستحِبّون الحياة:
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله ... } [إبراهيم: 3] .(12/7431)
أي: أنهم لم يكتفوا بحُبِّ الدنيا على الآخرة فقط، ولم يكتفُوا بالسَّيْر في طريق الشهوات والملذَّات وتخريب ذواتهم، بل تمادَوْا في الغي وصَدُّوا غيرهم عن سبيل الله.
ونجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً ... } [آل عمران: 99] .
كأنهم ضَلُّوا في ذواتهم؛ ولم يكتفوا بذلك، بل يحاولون إضلال غيرهم ويصدونهم عن الهداية.
ثم تأتي مرحلة جديدة:
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً ... } [إبراهيم: 3] .
أي: يبغون شريعة الله مُعْوجة لتحقق لهم نزواتهم. وهكذا نجد ثلاث مراتب للضلال، استحباب الحياة الدنيا على الآخرة؛ والصَّد عن سبيل الله؛ وتشويه المنهج كي يُكِّرهوا الناس فيه.
ويصف الحق سبحانه هؤلاء:
{أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 3] .
أي: أن أصحاب المرتبة في الضلال هم مَن استحبَّوا الحياة الدنيا على الآخرة، والذين توغَّلوا في الضلال أكثرَ فهم الذين يصدون عن سبيل الله؛ أما الذين توغلَّوا أكثر فأكثر فَهُم الذين يُشوِّهون في منهج الله لتنفير الناس منه، أو ليحقق لهم نزواتهم، وهكذا ساروا إلى أبعد منطقة في الضلال.(12/7432)
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ ... } .(12/7433)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
ونعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُبلِّغ عن الله منهجه؛ ومُؤيَّد بمعجزة تثبت صدقة فيما بلغ لمَنْ أُرسِل إليهم. وقد حدَّث الحق سبحانه من قبل عمَّا حدث للأمم السابقةَ على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فقد كان كل رسول يتكلم بلغة قومه.
وهناك فرق بين قوم الدعوة وهم أمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقوم الاستقبال؛ وهم الأمم السابقة على أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
فالأمم السابقة لم تكن مُطَالبةَ بأن تُبلِّغ دعوة الرُّسل الذين نزلوا فيهم، أما أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمُطَالبة بذلك، لأن الحق سبحانه أرسل رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبلغنا في القرآن أن من آياته سبحانه أن جعل الناس على ألسنة مختلفة.
ولم يُكنْ من المعقول أن يرسل رسولاً يتكلم كل اللغات، فنزل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمة العرب؛ وحين استقبلوه وأُشرِبَتْ قلوبهم حُبّ الإيمان؛ صار عليهم أن ينساحوا بالدعوة؛ لينقلوا معنى القرآن حجة بعد أن استقبلوه معجزة.(12/7433)
والقرآن حُجَّة لأنه يسوسُ حركة الحياة؛ وحركاتُ الحياة لا تختلف في الناس أجمعين، كما أن كُلَّ حضارة تأخذ من الأخرى مُنجزاتِها العلمية، وتُترجمها إلى لسانها الذي تنطق به.
وترجمة المعاني من لسان إلى آخر مسألة معروفة في كُلِّ حضارات العالم؛ لأن المسألة في جوهرها مسألة معانٍ؛ والمعاني لا تختلف من أمة إلى أخرى.
والقرآن معانٍ ومنهج يصلح لكل البشر؛ ونزل العربية؛ لأن موهبة الأمة العربية هي النبوغ في اللغة والكلام؛ وهكذا صار على تلك الأمة مهمة الاستقبال لمنهج الله كمعجزة بلاغية؛ وإرساله إلى بقية المجتمعات.
ولذلك تستطيع أن تَعقِد مقارنة بين البلاد التي فُتحت بالسيف والقتال؛ والبلاد التي فُتِحتَ بالسِّلْم ورؤية القدوة المسلَمة الصالحة؛ ستجد أن الذين نشروا الإسلام في كثير من أصقاع الأرض قد اعتمدوا على القدوة الصالحة.
ستجد أنهم نُقلوا الدين بالخِصَال الحميدة، وبتطبيق منهج الدين في تعاملهم مع غيرهم، ولذلك أقبل الناس على دين الله.
وهكذا نجد أن منهج الإسلام قد حمل معجزة من المعاني، بجانب كونه معجزةً في اللغة التي نزل بها، وهي لغة العرب.
ونحن نجد أقواماً لا تستطيع أن تقرأ حرفاً عربياً إلا في المصحف، ذلك أنهم تعلَّموا القراءة في المصحف، واعتمدوا على(12/7434)
فَهْم المعاني الموجودة فيه عَبْر الترجمات التي قام بها مُسلِمون أحبُّوا القرآن، ونقلُوه إلى اللغات الأخرى.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 17] .
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد يسَّر أُمَّ القرآن بلسان العرب أولاً، ثم يسرَّه بأن جعل من تلك الأمة التي نزل عليها القرآن أمة نَشرْ البلاغ عنه سبحانه، ذلك أن الرسالات تُريد تبليغاً؛ والتبليغ وسيلتُه الأولى هي الكلام؛ ووسيلته الثانية الاستقبالية هي الأذن، فلا بُدَّ من الكلام أولاً، ثم لا بُدَّ من أُذن تعرف مدلولاتِ الألفاظ لتسمعَ هذا الكلام، ولِتُطبّقه سلوكاً.
كما أننا نعلم أن مَنْ يسمع المتكلم لا بُدَّ وأن يكون واعياً وعارفاً بمعاني الألفاظ؛ فما تسمعه الأُذن يحكيه اللسان.
وعرفْنَا أن اللغة بِنْت السماع، وكُلُّ فرد إنما يتكلم باللغة التي سمعها في بيئته؛ وإذا تتبعتَ سلسلة تعلُّم كل الكلام ستجد نفسك أمام الجِذْر الأصلي الذي تعلَّم منه البشر الكلام؛ وهو آدم عليه السلام.
وقد قال سبحانه: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ... } [البقرة: 31] .(12/7435)
ونعلم أن اللغة بدأت توقيفية حين علَّمها الله لآدم، ثم تكلَّمها آدم فسمعتْها بيئته؛ فصارتْ وضعية من بعد ذلك، واختلفت اللغة من مجتمع إلى آخر.
وهنا قال الحق سبحانه:
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ... } [إبراهيم: 4] .
وجاء بعد ذلك مباشرة بالتعليل:
{لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } [إبراهيم: 4] .
وهكذا أوضح جَلَّ وعلاَ السبب في إرسال كل رسول بلسان قومه، وهناك آية يقول فيها سبحانه: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 198 - 199] .
وقال أيضاً: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ... } [فصلت: 44] .
فهناك مَنْ يستقبل القرآن كدليل هداية ويُنقِّي نفسه من الكَدَر، وهناك مَنْ يستقبل القرآن فيكون عليه عمى وعلى سمعه غِشَاوة وخوف وعدم ارتياح، ذلك أنه كافر.(12/7436)
والسبب - كما نعلم - أن حدوث الحادث مِن آمرِ به يحتاج إلى فاعل وإلى قابل للفعل.
وسبق أن ضربتُ مثلاً بمَنْ يشرب الشاي؛ فينفخ فيه ليُبرده قليلاً؛ ونفس هذا الإنسان حين يخرج في صباح شتوى فهو ينفخ في يديه لِيُدفئهما، وهكذا ينفخ مرة ليبرد شيئاً؛ وينفخ أخرى مُستدعياً الدفء.
والمسألة ليستْ في أمر النفخ؛ ولكن في استقبال الشاي للهواء الخارج من فَمِك، الشاي أكثر حرارة من حرارة الجسم فيبرد بالنفخ، بينما اليد في الشتاء تكون أكثر برودة من الجسم؛ فتستقبل النفخ لها برفع درجة حرارتها لتتساوى مع حرارة الجسم.
وهكذا تجد أن القرآن واحدٌ؛ لكن المؤمن يسمعه فيفرح به، والكافر يسمعه فيتعب ويرهق منه.
وسبحانه يقول: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً ... } [محمد: 16] .
وهكذا نجد مَنْ يستقبل القرآن، ولا ينصاع إلى معانيه؛ ونجد مَن يستمع إلى القرآن فيخشع قلبه وينفعل بالاستجابة لِمَا يوُصي به الحق سبحانه.
إذن: عرفنا الآن أن اللغة بدأتْ توقيفية وانتهتْ اصطلاحية؛ فقد أخذنا من الله ما علَّمه لآدم من أسماء؛ وتغيَّرت الألسن من جماعة(12/7437)
إلى أخرى، وهكذا اختلفتْ ألسنة الرُّسُل حَسْب القوم المرسلين إليهم.
وكل رسول يُبيِّن للقوم منهجَ الله؛ فإذا بيَّن هذا المنهج، استقبله البعض بالإيمان بما جاء به والهداية، واستقبله البعضُ الآخر بالكُفْر والضَّلال.
فالذي هداه الله استشرف قلبُه إلى هذا المنهج؛ وأخرج من قلبه أيّ عقيدة أخرى، وبحثَ فيما جاء به الرسول، وملأ قلبه بالمنهج الذي ارتاح له فهماً وطمأنينة.
وهو عكس مَنْ تسكن قلبه قضية مخالفة، ويُصرُّ عليها، لا عن قناعة، ولكن عن عدم قدرة على التمحيص والدراسةَ والاستشراف. وكان عليه أنْ يُخرِج القضية المُضِلة من قلبه، وأن يبحث ويقارن ويستشف ويُحسِن التدبر؛ ثم يُدخل إلى قلبه القضية الأكثر قبولاً، ولكنه لا يفعل، عكس مَنْ هداه الله.
ولا يقولن أحد «ما دام قد أضلنا الله فلم يعذبنا؟» ولكن ليعلم كل إنسان أن المشيئة لقابلية الإيمان موجودة، ولكنه لم يَسْتدعها إلى قلبه.
والحق سبحانه يقول: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ... } [محمد: 17] .
ويقول: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] .(12/7438)
أي: أن الفسق قد صدر منهم، لأنهم ملأوا أفئدتهم بقضايا باطلة؛ فجاءت قضايا الحق فلم تجد مدخلاً.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه:
{فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم} [إبراهيم: 4] .
فمَنْ يُقبِل على الضلال يزيده الله ضلالاً؛ فلن يزيد إيمانُه مُْلْكَ الله شيئاً، ومَنْ يؤمن فهو يضمن لنفسه سلامة الحياة وما بعد الموت؛ وهو في الحياة عنصر خَيْرٍ؛ وهو من بعد الموت يجد الحياة مع نِعَم المُنعِم سبحانه العزيز الذي لا يُغَلب؛ والحكيم الذي قَدَّر لكلِّ أمر ما يشاء.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ ... } .(12/7439)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
والآيات التي أرسلها الله مع - موسى عليه السلام - والمعجزات التي حدثت معه وبيَّنها وأظهرها لقومه كثيرة، ورسولنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نزل ومعه معجزة واحدة وهي القرآن، أما بقية المعجزات الحسية التي حدثتْ مع رسول الله؛ فهي قد جاءت لتثبيت فؤاد المؤمنين برسالته،(12/7439)
ولم يَبْقَ لها أثر من بعد ذلك إلا الذكرى النافعة التي يأتنس بها الصالحون من عباد الله.
وكثرة المعجزات التي جاءت مع موسى - عليه السلام - تبين أن القوم الذين أُرسل لهم قوم لَجج وجدل، وحين عَدَّد العلماء المعجزات التي جاءت مع موسى وجدها بعضٌ من العلماء تسع آيات؛ ووجدها غيرهم ثلاث عشرة معجزة؛ ووجدها بعضٌ ثالث أربع عشرة.
وفي التحقيق لمعرفة تلك الآيات علينا أن نُفرِّق بين الآيات التي صدرت بالنسبة لفرعون؛ والآيات التي جاءتْ لبني إسرائيل. فالعصا التي انقلبت حيَّة تسعى، واليد التي تُضيء هي لفرعون، وعدَّد القرآن الآيات التي جاءت مع موسى لفرعون بتسع آيات، يقول الحق سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ... } [النمل: 12] .
ولم يكن موسى يطلب من فرعون أن يؤمن؛ فهو لم يُرْسَل لهدايته؛ ولكنه جاء ليُفحمه وليأخذ بني إسرائيل المُرْسَلُ إليهم، والآيات هي: العصا وَوَضْع اليد في الجيب لتخرج بيضاء، ونَقْص الأنفس والثمرات؛ والطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع والدم، هذه هي الآيات التسع الخاصة بفرعون.
أما بقية الآيات التي جاء بها موسى - عليه السلام - لبني إسرائيل فهي كثيرة مثل:(12/7440)
{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ... } [الأعراف: 171] .
وأيضاً: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام ... } [البقرة: 57] .
وكذلك قوله الحق: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى ... } [البقرة: 57] .
ولذلك أجمل الحق سبحانه الآيات التي جاءت مع موسى لقومه:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله ... } [إبراهيم: 5] .
أي: أَعِدْ إلى بُؤْرة شعورهم ما كان في الحاشية؛ وأنْ يستدعوا من الذاكرة أيام الله، والمراد ما حدث في تلك الأيام، مثلما نقول نحن «يوم بدر» أو «يوم ذي قار» أو «السادس من أكتوبر» أو «العاشر من رمضان» .(12/7441)
وهنا في القول الكريم إما أن يكون التذكير بتلك الأيام الخاصة بالوقائع التي حدثتْ للأقوام السابقين عليهم كقوم نوح وعاد وثمود، ذلك أن الحق سبحانه قد أعلمهم بقصص الأقوام السابقة عليهم؛ وما حدث من كل قوم تجاه الرسول المُرْسل إليه من الله.
أو أن يكون التذكير بالأيام التي أنعم الله فيها على بني إسرائيل بنعمه، أو ابتلاهم فيها بما يُؤلِمهم؛ ذلك أن الحق سبحانه قال:
{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5] .
والصبَّار هو مَنْ يُكثِر الصبر على الأحداث؛ وهي كلمة تُوحيِ بأن هناك أحداثاً مؤلمة وقَعتْ، وتحتاج إلى الصبر عليها، كما تُوحِي كلمة «شكور» بحوادث منعمة تستحق الشكر.
وهكذا نجد أن المؤمن يحتاج إلى أمرين؛ صَبْر على ما يُؤلِم، وشُكْر على ما يُرضي، وحين تجتمع هاتان الصفتان في مؤمن؛ يكون مُكتمِلَ الإيمان.
وقد قال الحق سبحانه: إن تلك الآيات هي أدلة تُوضِّح الطريق أمام المؤمن، وتُعطي له العِبْرة، لأنه حين يعلم تاريخ الأقوام السابقة؛ ويجد أنَ مَنْ آمنَ منهم قد عانى من بعض الأحداث المؤلمة؛ لكنه نال رضا الله ونعمه؛ ومَنْ كفر منهم قد تمتع قليلاً، ثم تلَّقى نقمة الله وغضبه.(12/7442)
هذا يُقبِل المؤمن على تحمُّل مَشَاقٍّ الإيمان؛ لأنه يثق في أن الحق سبحانه لا يُضِيع أجْر مؤمنٍ؛ ولا بُدَّ لموكب الإيمان أنْ ينتصر؛ ولذلك فالمؤمن يصبر على المحن، ويشكر على النِّعَم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا ... } .(12/7443)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
وهكذا نجد الحق سبحانه وقد جاء بنموذج من أيام معاناتهم من جبروت فرعون، وكيف خلَّصهم سبحانه من هذا الجبروت، وكان فرعون يُسلَّط عليهم أقسى ألوان العذاب، ف «سام» الشيء أي: طلبه؛ و «سام سوء العذاب» أي: طلب العذاب السيء.
قد ذَبَّح فرعون أبناءهم الذكور، ولم يُذبِّح الإناث لتصبح النساء بلا عائل ويستبيحهُنَّ، وفي هذا نِكَاية شديدة.(12/7443)
ووقف بعض المستشرقين عند هذه الآية، وقالوا: لقد تعرض القرآن من قبل لهذه الآية في سورة البقرة؛ حين قال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] .
فهل هذه الآية في سورة إبراهيم هي البليغة، أم الآية التي في سورة البقرة؛ خصوصاً وأن الفرق بينهما هو مجيء «الواو» كحرف عطف على ذبح الأبناء باستباحة النساء؟
وأضاف هذا المستشرق: ولسوف أتنازل عن النظر إلى ما جاء في سورة الأعراف حين قال القرآن: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 141] .
وبطبيعة الحال، فهذا المستشرق لم يأخذ فَهْم القرآن عن مَلَكةٍ عربية، ذلك أنه لو كان قد امتلك هذه القدرة على الفَهْم؛ لَعرفَ أن الكلام لم يصدر في الآيات عن مصدر واحد، بل صدر عن مصدرين.
ففي آية سورة البقرة كان المصدر المتكلم هو الله سبحانه ولذلك قال: {نَجَّيْنَاكُم ... } [البقرة: 49] .
ولكن المصدر المتكلم في سورة إبراهيم هو موسى عليه السلام؛ لم يَقًُلْ أنه هو الذي أنجاهم بل يُعدِّد النعم التي مَنَّ الله بها(12/7444)
عليهم؛ ويمتنّ بها عليهم. وعِلَّة ذلك أن العظيم حين يمتنُّ على غيره لا يمتنُّ إلا بالعظائم، أما دون العظيم فقد يمتنُّ بما دون ذلك.
وأسوق هذا المَثل لمزيد من الإيضاح لا للتشبيه؛ فسبحانه مُنزَّه عن التشبيه، وأقول: هَبْ أن إنساناً غنياً له أخ رقيق الحال، وقد يُمد الغنيُّ أخاه الفقير بأشياء كثيرة، وقد يعتني بأولاده؛ ويقوم برعايته ورعاية أولاده رعاية كاملة. ويأتي ابن الفقير ليقول لابن الغني: لماذا لا تسألون عنا؟ فيقول ابن الغني: ألم يَأْتِ أبي لك بهذا القلم وتلك البذلة، بالإضافة إلى الشقة التي تسكنون فيها؟
ولكن العَمَّ الغنيّ يكتفي بأنْ يقول: أنا أسأل عنكم، بدليل أنِّي أحضرت لكم الشقة التي تسكنون فيها. إذن: فالكبير حقاً هو الذي يذكر الأمور الكبيرة، أما الأقل فهو من يُعدِّد الأشياء.
وهنا يصف الحق سبحانه سوْم العذاب وذَبْح الأبناء بالبلاء العظيم في قوله تعالى:
{ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6] .
وهكذا نرى مظهرية الخير التي مَنَّ الله بها عليهم، وهي الإنجاء من ذبح الأبناء واستباحة النساء؛ وكان ذلك نوعاً من مظهرية الشر. وهذا ابتلاء صعب.(12/7445)
وسبق أنْ أوضحنا أنَّ البلاء يكون بالخير أو بالشر، فقد قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] .
فلا الخير دليلُ تكريم، ولا الشرَّ دليلُ إهانة؛ فهو القائل: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16] .
فالابتلاء في الأصل هو الامتحان؛ إما أنْ تنجحَ فيه أو ترسبَ؛ ولذلك فهو غَيْر مذموم إلا بالنتيجة التي يَؤُول إليها.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ ... } .(12/7446)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
ونلحظ أن الآية تبدأ بكلمة «تأذَّن» وكل المادة الألف والذال والنون مأخوذة من الأذن. والأذن آلة السماع، والأذان إعلام، وآذنهم أي أعلمهم.
وتأذن أي: اعلم بتوكيد. وهكذا يكون معنى الآية: أني أعلِمكم بتوكيد من ربكم أنكم إنْ شكرتم ليزيدنكم من نعمه وعطائه؛ لأن(12/7446)
الشكر دليلُ ارتباط بالواهب؛ وأنكم سلختم أنفسكم من الاعتزاز بما أوتيتم، وعلمتم أنه هو وحده الوهاب.
والحق سبحانه هو مَنْ قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 67] .
ولو كان الإنسان مربوطاً بالحق سبحانه؛ لما فصل الحقَّ عن نعمه؛ ولظل ذاكراً للحق الذي وهبه النِّعمَ.
ولذلك أقول دائماً: إياك أن تشغلك النعمة عن المُنِعم؛ لأن النعمة موهوبة لك؛ وليستْ ذاتية فيك.
وتأتي المقابلة من بعد ذلك مباشرة؛ فيقول:
{وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
وهنا يثور سؤال: هل الذي لا يشكر نعم الله يكون كافراً؟
وهنا علينا أن نعلم أن هناك فارقاً بين الكفر والكفران، ولكن لفظ الكفر جاء هنا ليغلظ من معنى عدم الشكر، ولم يأت بكلمة كُفْران وجاء بقوله:
{وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
والمثل في ذلك قول الحق سبحانه: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97] .
ومَنْ لم يحج فهو عَاصٍ؛ وكأن الله يريد أن يُصعِّب عدم القيام(12/7447)
بالحج. أو: أن الآية تريد حُكْمين: الحكم الأول: الإيمان بفرضية الحج؛ والثاني: القيام بالحج فعلاً.
ذلك أن الحق سبحانه قد قال: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ... } [آل عمران: 97] .
فَمنْ يؤمن بأن هذا حُكْم صحيح واجب يؤمن به ولكنه لا يُنفِّذه؛ قد يدخل في المعصية؛ لأنه يستطيع أن يحُجَّ ولم يفعل. أما مَنْ يكفر بالحج نفسه وينكر القضية كلها؛ فهو كافر والعياذ بالله.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] .
وهكذا جاء الكفر مقابل الشكر، ولا بُدَّ من عذاب للكفر؛ وعذابُ الله لا بُدَّ أن يكون شديداً؛ لأن العذاب يتناسب بقدرة المعذب، ولا أقدرَ من الله، ونعوذ به سبحانه من عذابه، فهو أمر لا يُطاَق ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ ... } .(12/7448)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
وقد قال موسى ذلك كي لا يظنّ ظَانٌّ من قومه أن الله في حاجة إلى شكرهم؛ وأنه سيعاقبهم بالعذاب إنْ كفروا بشكره؛ فأراد أنْ ينسخَ هذا الظنَّ من أذهان مَنْ يسمعونه.(12/7448)
وأوضح لهم أن الحق سبحانه لن يزيده إيمانكم شيئاً؛ ولن يضيف هذا الإيمانُ منهم ومعهم أهل الأرض كلهم لِمُلْكه شيئاً؛ لأن مُلْك الله إنما أبرزه سبحانه بصفات الكمال فيه، وهو ناشيء عن كمال موجود.
ولذلك يأتي قوله الحق: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ... } .(12/7449)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
وهذه الآية الكريمة أعطتْنا تفسيراً لقوله سبحانه: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] .
وكذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ... } [غافر: 78] .
ونعلم أن الحق سبحانه قد أوحى لموسى - عليه السلام - أن(12/7449)
يُبلغ قومه بقصص بعض من الأنبياء السابقين عليه. وهذا واضح في قوله الحق:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ... } [إبراهيم: 9] .
ويقول سبحانه عن القوم الذين جاءوا من بعد ذلك:
{والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات ... } [إبراهيم: 9] .
أي: أن الرسل قد حملوا منهج الله، وكذلك المعجزات الدالة على صدقهم لِمَنْ جاءوا من بعد ذلك. والبينات إما أن تكون المعجزات الدالة على صدقهم؛ أو: هي الآيات المُشْتملة على الأحكام الواضحة التي تُنظِّم حركة حياتهم لِتُسْعدهم.
ولكن هل قَبِلَتْ تلك الأقوامُ تلك البيناتِ؟
لا، لأن الحق سبحانه يقول عنهم:
{فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ... } [إبراهيم: 9] .
وهكذا نرى أن الكافرين هم مَنْ وضعوا أيديهم على أفواههم، وإما أنهم عَضُّوا على الأيدي بالنواجذ لأنهم لم يُطِيقوا تطبيق منهج الله؛ ولم يستطيعوا التحكُّم في أنفسهم.
أو: أنهم رَدُّوا أيديهم إلى أفواههم بمعنى أن قالوا للرسل: «هس» ، أصمتوا ولا تتكلموا بما جِئْتم به من بلاغ. أو: أن بعضهم قال للرسل «لا فائدة من كلامكم في هؤلاء» .(12/7450)
والثراء في القرآن يتحمّل كل هذه المعاني؛ والآية تتسِق فيها كل تلك المعاني؛ فالعبارة الواحدة في القرآن تكون شاملة لخيرات تناسب كمالات الله، وستظل كمالات القرآن موجودة يظهر بعضها لنا؛ وقد لا ندرك البعض الآخر إلى أن يُعلِمنا بها الله يوم القيامة.
ويأتي قولهم:
{إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ... } [إبراهيم: 9] .
ليكشف لنا غباءهم، فَهُمْ يعترفون بأن هؤلاء رسل من السماء، وفي نفس الوقت يُنكِرون المنهج، ويُعلنون هذا الإنكار، يكشف لنا ذلك قوله تعالى:
{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [إبراهيم: 9] .
أي: أنهم أعلنوا رأيهم في المنهج، وقالوا: إنهم مُحيَّرون ويشكُّون في هذا المنهج.
ويأتي القرآن بردِّ الرسل في قول الحق سبحانه: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ ... } .(12/7451)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
وقوله: {أَفِي الله شَكٌّ ... } [إبراهيم: 10] هو لوْن من الخطاب الذي لا يترك لمَنْ توجه إليه الكلام أنْ يُجيب إلا كما تريد أنت. وأنت لا تفعل ذلك إلا إذا كُنْتَ واثقاً من أن مَنْ تُوجَّه إليه الكلام سيجيب - إنِ استحضرَ الحق في ذهنه - كما تريد أنت.
ولذلك لم يَأْتِ الخطاب هنا بقوله «لا شك في الله» وبذلك يكون الكلام خبرياً، وقد يقول واحد: إن هذا الكلام كاذب، ولكن على الرغم من أن المستمعين من الكفار، إلا أنه يأتي بالقضية في شكل تساؤل يستأمنهم على أنهم سوف يُديرون الكلام في رؤوسهم، وسيعثرون على الإجابة التي لا يمكن أنْ ينكرونها؛ وهي «ليس في الله شك» .
وهكذا نجد أن القائل قد سكتَ عن إعلانهم الكفرَ أولاً؛ وجاء لهم بالتساؤل الذي سيجيبون عليه «ليس في الله شك» ، ويأتي لهم بالدليل الذي لا يحتمل أيَّ شكٍّ، وهو قوله الحق:
{فَاطِرِ السماوات والأرض ... } [إبراهيم: 10] .
والفاطر هو الذي خلق خَلْقاً على غير مثال سابق، مثلها مثل قوله الحق: {بَدِيعُ السماوات والأرض ... } [البقرة: 117] .
فلا أحدَ قادرٌ على أن يخلقَ مثل السماوات والأرض؛ وهي مخلوقة على غير مثال سابق. وسبحانه هو مَنْ شاء أن يكون(12/7452)
الإنسان سيداً لكل الكائنات المخلوقة، وأن تكون تلك الكائنات مُسخّرة لخدمته.
وقد يتخيل الإنسان أن خَلْقه أكبر من خَلْق السماوات والأرض؛ لذلك يُنبِّهه الحق سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ... } [غافر: 57] .
ولو نظرت إلى الشمس وسألتَ نفسك؛ كم من الأجيال قد استمتعوا بدفْئها واستفادوا منها؛ فمن المؤكَّد أنك لن تعرف عدد الأجيال؛ لأن الشمس مخلوقة من قَبْل خَلْق البشر، وكل إنسان يستمتع بالشمس ويستفيد منها عدد سنوات حياته، ثم يذهب إلى الموت.
ونجد المفسر الجليل الفخر الرازي يضرب المَثل الذي لا يمكن أن يُنكِره أحد، ويدلُّ على الفطرة في الإيمان، ويُوضِّح أن الحق سبحانه لم يُمهل الإنسان إلى أنْ ينضجَ عقله ليشعر بضرورة الإيمان، ويضرب المثل بطفل صغير تسلَّل، وضرب شقيقه؛ هنا لا بُدَّ أن يلتفتَ الشقيق ليكتشف مَنِ الذي ضربه؛ لأن الإنسان من البداية يعلم أنْ لا شيءَ يحدث إلا وله فاعل.
وهَبْ أن طفلاً جاء ليجد شقيقه جالساً على كرسي، وهو يريد(12/7453)
أن يجلس على نفس الكرسي؛ هنا سيقوم الطفل بشدِّ وجَذْب أخيه من على الكرسي ليجلس هو، وكأنه اكتشف بالفطرة أن اثنين لا يمكن أن يستوعبهما حَيِّز واحد.
وهكذا يتوصل الإنسان بالفطرة إلى معرفة أن هناك خالقاً أوحد. وهكذا نجد قوله الحق:
{فَاطِرِ السماوات والأرض ... } [إبراهيم: 10] .
هو الآية الكونية الواسعة.
ويأتي من بعد ذلك بالقول:
{يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ.
. .} [إبراهيم: 10] .
وهذا القول يدل على الرحمة والحكمة والقدرة والحنان؛ وهو هنا يقول:
{لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] .
ولم يَقُلْ: يغفر لكم ذنوبكم؛ ذلك أنه يخاطب الكفار؛ بينما يقول سبحانه حين يخاطب المؤمنين: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ... } [الصف: 10 - 12] .
وهكذا لا يساوي الحقُّ سبحانه في خطابه بين المؤمنين والكافرين.(12/7454)
أو: أن المقصود من قوله:
{لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ... } [إبراهيم: 10] .
هو غفران الكبائر: ذلك أن صغائر الذنوب إنما يغفرها أداء الفرائض والعبادات؛ فنحن نعلم أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر» .
ويتابع سبحانه:
{وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [إبراهيم: 10] .
وكلنا نعرف أن الأجل هو الزمن المضروب والمُقرر للحدثِ. وإن شاء الحق سبحانه الإبادة فنجد ما يدل عليه قوله الحق: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض} [القصص: 81] .
كما فعل مع قارون.
أو: أن قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ... } [إبراهيم: 10] مقصود به يوم القيامة.
ولكن الكفار أهل لَدَد وعناد، لذلك نجد قولهم:(12/7455)
{قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 10] .
وهكذا يعلن أهل الكفر لرسلهم أنهم يُفضِّلون أن يكونوا أهل تقليد للآباء، ولو أنهم فكَّروا لَعِلموا أن التقليد لو شاع في المجتمعات لَما ارتقى أحدٌ عن آبائه وأجداده، فالعالم يتطور من تمرُّد جيل على جيل سابق، فلماذا يُصِرّ هؤلاء الكافرون على أن يحتفظوا بتقليد الآباء والأجداد؟
وإذا كان الأبناء يتطورون في كل شيء، فلماذا يحتفظ هؤلاء الكفار بتقليد الآباء في العقائد؟
ولا يكتفي أهل الكُفْر بذلك، بل يطلبون أن يأتيَ لهم الرسل بسلطان مبين، والسلطان يُطلق مرَّة على القهر على الفعل، ويكون الفاعل المقهور كارهاً للفعل.
ومرّة يطلق على الحجة التي تُقنع بالفعل، ويكون الفاعل مُحِباً لما يَقْدُم عليه، والدين لا يمكن أن ينتشر قهراً؛ بل لا بُدَّ أن يُقبل الإنسان على الدين بقلبه، وذلك لا يأتي قهراً.
لذلك نجد القول الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي ... } [البقرة: 256] .
وما دام الرُّشدْ قد ظهر فالإكراه لا مجالَ له؛ لأن الذي يُكْره على شيء لا يمكن له أن يعتنق ما يُكره عليه.
وإذا ما دخل الإنسان الدين فعليه أن يلتزَم بما يُكلِّف به الدين؛(12/7456)
ولذلك فالإنسان لا يمكن أن يدخل إلى الدين مُكْرهاً، بل، لا بُدَّ أن يدخله على بصيرة.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بما قاله الرسل رداً على قَوْل أهل الكفر: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ ... } .(12/7457)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وهكذا أوضح الرسل لأقوامهم: نحن بشر مثلكم، والسلطان الذي نملكه هو المعجزة التي اختص بها الحق سبحانه كُلَّ رسول، والحق سبحانه هو الذي يتفضَّل على عباده؛ فيختار منهم الرسول المناسب لكل قوم؛ ويرسل معه المعجزة الدالة على تلك الرسالة؛ ويقوم الرسول بتبليغ كل ما يأمر به الله.
وكل رسول إنما يفعل ذلك ويُقبِل عليه بكل الثقة في أن الحق سبحانه لن يخذله وسينصره؛ فسبحانه هو القائل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 173] .
ويخبرنا سبحانه بطمأنة الرسول ومَنْ معه لحظةَ أن تزلزلهم(12/7457)
جِسَام الأحداث؛ وتبلغ قلوبهم الحناجر، ويتساءلون: {متى نَصْرُ الله ... } [البقرة: 214] .
فتأتي أخبار نَصرْ الحق سبحانه لرسله السابقين لطمأنه المؤمنين، ونجد الحق سبحانه هنا يقول:
{وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [إبراهيم: 11] .
هكذا أعلن كل رسول لِمَنْ آمن به من قومه، فعلَى الله وحده يتوكَّل المؤمنون، ويُفوَّضون كل أمورهم إليه وحده؛ صَبْراً على معاندة الكافرين، وثِقةً في أنه سبحانه ينصر مَنْ أبلغوا رسالته ومنهجه، وينصر معهم مَنْ آمنوا بالمنهج والرسالة.
وينقل لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الرسل لأقوامهم: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله ... } .(12/7458)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
ونلحظ أن الحق سبحانه قد وصف المُتوكِّلين في نهاية الآية السابقة بأنهم المؤمنون؛ وهنا يَصفُهم في نهاية هذه الآية بأنهم المتوكِّلون؛ لأن صفة الإيمان تدخل في صفة التوكل ضِمنْاً.
ونعلم أن هناك فارقاً بين التوكل والتواكل؛ فالتوكل يعني أن تستنفد أسباب الله المَمْدودة؛ لأن التوكل عمل القلوب؛ بعد أن تُؤدِّي الجوارحُ ما عليها من عمل وأخْذ بالأسباب؛ فالجوارح تعمل والقلوب هي التي تتوكل.(12/7458)
ويأتي لنا الحق سبحانه ببقية الحوار بين الذين كفروا من أهل الأقوام السابقة وبين رسلهم، فيقول: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ ... } .(12/7459)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
وهكذا نرى أن فاشية الخير حين فَشَتْ في الناس؛ يغضب منها المستفيدون من الفساد والذين يعيشون عليه؛ ويتجه تفكير المفسدين إلى ضرورة إخراج خمائر الخير من الأرض التي يعيش المفسدون على الاستفادة من أهلها.
وإنْ عَزَّتْ الأرض على خمائر الخير، فعليهم أن يعلنوا عودتهم إلى ديانة الكافرين. ولا يقال: عُدْت إلى الشيء إلا إذا كنتُ في الشيء ثم خرجتُ عنه وعُدْتُ إليه.
هل كان الرسل الذين يُهدِّدهم أهل الكفر بالإخراج من البلاد؛ يقبلون العودة إلى ديانة الكفر؟
طبعاً لا؛ ولذلك نفهم من قوله تعالى:
{أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ... } [إبراهيم: 13] .
بمعنى «أو لتصيرن في ملتنا» .
ولم يقبل الرسل تلك المُساوَمة؛ ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يُنزِل جنود التثبيت والطمأنينة والسكينة على قلوب رُسُله والمؤمنين؛(12/7459)
فلا يتأثر الرسل ومَنْ معهم بمثل هذا الكلام.
وهذا ما يُعبِّر عنه قَوْل الحق سبحانه في آخر الآية:
{فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} [إبراهيم: 13] .
وهكذا يأتي القانون السماوي بالعدل وهو إهلاك الظالمين، وتلك قضية إيمانية باقية ودائمة أبداً.
ويكمل الحق سبحانه وعده لرسله ومَنْ معهم من المؤمنين: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن ... .} .(12/7460)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
وهنا يؤكد الحق سبحانه أن مَنْ يثبت على الإيمان، ويخاف مَقَام الحق سبحانه، ويخشى يوم العَرْض على الحق ويوم الحساب؛ ولم ينكص عن منهج دعوة الحق؛ سيُورثه الحق سبحانه أرض مَنْ كفر بالله؛ فتلك سنة الله؛ لأنه سبحانه قال: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا. .} [الأحزاب: 27] .
ونعلم أن مَنْ يخاف الله ويخشاه ويؤمن أنه قائم على كُلِّ نفس؛ فسبحانه يجزي مَنْ يعيش حياته في ضَوْء الإيمان بأن يُورِثه أرضَ مَنْ كفر، وقد قال الحق سبحانه لرسوله:(12/7460)
{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا. .} [الأعراف: 137] .
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {واستفتحوا ... } .(12/7461)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
و «استفتح» تعني طلب الفتح، وهناك فتح، واستفتح. وكلمة «فتح» تدل على أن شيئاً مُغْلقاً ينفتح، ومرّة يكون المقصود بالكلمة أمراً حسياً؛ وأحياناً يكون الأمر معنوياً، ومرة ثالثة يكون الفتح بمعنى الفصْل والحُكْم.
والمثل على الأمر الحِسيّ قول الحق سبحانه: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ... } [يوسف: 65] .
ومرَّة يكون الفَتْح معنوياً؛ وبمعنى سابقة الخير والعلم، كقول الحق سبحانه: {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ ... } [البقرة: 76] .(12/7461)
وكذلك قول الحق سبحانه: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ... } [فاطر: 2] .
أما المَثل على الفَتْح بمعنى الفَصْل في الأمر، فالمثل هو قول الحق سبحانه:
{رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89]
وهكذا نجد للفتْح معاني متعددة، وكلها تدور حول المغاليق هي تٌفَضّ، ويُطلَق الفتح آخر الأمر على النصر، والمثل هو قول الحق سبحانه: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] .
وهنا يقول الحق سبحانه:
{واستفتحوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] .
وهم طلبوا الفتح بمعنى طلبوا النصر، وكانت تلك خيبةً من الكفار؛ فَهُمْ طلبوا الفتح أي النصر؛ وهم قد فعلوا ذلك مظنّة أن عندهم ما ينصرهم.
وكيف ينصرهم الله وهم كافرون؟
لذلك يُخيِّب الله ظنهم ويحكم عليهم بمصير كل مَنْ عاش جباراً في الأرض، متكبراً عن عبادة ربه.(12/7462)
ويقول سبحانه:
{وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] .
والجبار هو مَنْ يقهر الناس على ما يريده؛ والمقصود هنا هم المُتكبِّرون عن عبادة الحق سبحانه وتعالى، ويعاندون في مسألة الإيمان به سبحانه.
وماذا ينتظرهم من بعد ذلك؟
يقول الحق سبحانه: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ... } .(12/7463)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
أي: من خلف الجبار المُتعنِّت بالكفر جهنمُ، وما فيها من عذاب. وفي العامية نسمع مَنْ يتوعد آخر ويقول له «وراك ... وراك» ويعني بذلك أنه سيُوقع به أذىً لم يَأتِ أوانه بَعْد.
وكلمة «وراء» في اللغة لها استخدامات متعددة؛ فمرَّة تأتي بمعنى «بَعْد» والمثل في قوله تعالى عن امرأة إبراهيم عليه السلام:
{وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] .(12/7463)
أي: جاء يعقوب من بعد إسحق.
ومرّة تُطلق «وراء» بمعنى «غير» مثل قول الحق سبحانه: {والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون} [المؤمنون: 5 - 7] .
وهنا يقول الحق سبحانهك
{مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ ... } [إبراهيم: 16] .
ونعلم أن جهنم ستأتي مستقبلاً، أي: أنها أمامه، ولكنها تنتظره؛ وتلاحقه.
ويتابع الحق سبحانه:
{ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] .
والصديد هو الماء الرقيق الذي يخرج من الجُرْح، وهو القَيْح الذي يسيل من أجساد أهل النار حين تُشْوى جلودهم.
ولنا أن نتصورَ حجم الألم حين يحتاج أحدهم أن يشرب؛ فيُقدَّم له الصديد الناتج من حَرْق جلده وجُلُود أمثاله. والصديد أمر يُتأفَّفُ من رؤيته؛ فما باَلُنا وهو يشربه، والعياذ بالله.
ويقول الحق سبحانه متابعاً لِمَا ينتظر الواحد من هؤلاء حين يشرب الصديد:(12/7464)
{يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ... } .(12/7465)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
ويتجرعه أي: يأخذه جَرْعة جَرْعة، ومن فرط مرارته لا تكون له سيولة تُستسَاغ؛ فيكاد يقف في الحَلْق؛ والإنسان لا يأخذ الشيء جَرْعة جَرْعة إلا إذا كان لا يقدر على استمرار الجرعة؛ ولكن هذا المشروب من الصديد لا يكاد يستسيغه مَنْ يتجرعه. ويقال: استساغ الشيء. أي: ابتلعه بسهولة.
وقوله سبحانه:
{وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ... } [إبراهيم: 17] .
أي: لا يكاد يبلعه بسهولة فطعْمُه وشكله غير مقبولين.
ويتابع سبحانه:
{وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ... } [إبراهيم: 17] .
أي: ينظر حوله فيجد الموت يحيط به من كل اتجاه، لكنه لا يموت، ويُفاجأ بأن العذاب يحيط به من كل اتجاه مُصدِّقاً لقول الحق سبحانه:(12/7465)
{وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] .
هكذا يتعذب الجبار المتعنت في أمر الإيمان. وإذا قِسْنَا العذاب الغليظ بأهونِ عذاب يلقَاهُ إنسان من النار لوجدنا أنه عَذابٌ فوق الاحتمال؛ فها هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لَرجلٌ يُوضعَ في أخْمَص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه» .
فمَا بالُنَا بالعذاب الغليظ، وقانا الله وإياكم شرَّه؟
ويقول سبحانه من بعد ذلك قضية كونية: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ ... } .(12/7466)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
وقد يأتي في أذهان البعض ما يُشوِّه عقائد الإيمان، فيقول: كيف يدخل فلانُ النار وهو مَنْ أهدى البشريةَ تلك المخترعات الهائلة التي غيَّرت مسارات الحضارة، وأسعدتْ الناس؟ كيف يُعذِّب الله هؤلاء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون، أيعذبهم لمجرد أنهم كفار؟(12/7466)
وأقول: نعم، يعذبهم الله على الرغم من أنه سبحانه لا يضيع عنده أَجْرُ مَنْ أحسنَ عملاً؛ وهو قادر على أنْ يَجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك. وانطبق عليه قوله: «عملتَ لِيُقال وقد قِيل» وأخذوا أجورهم مما عَمِلوا لهم؛ ذلك أنهم عملوا ولم يكُنْ في بالهم الله.
وهكذا يصور القرآن مسألة الجزاء، فالواحد من هؤلاء الكفار إذا كان يَلْقى العذاب الغليظ على الكفر؛ فالحق لا يغمطه أجر ما فعل من خير؛ فينال ذلك في الدنيا ويستمتع بإطلاق اسمه على اختراعه أو اكتشافه.
ونعلم جميعاً قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» أما في الآخرة فالعذاب جزاؤه؛ لأنه عاش كافراً بالله.
وهذه الأعمال التي صنعوها في الدنيا، وظنُّوا أنها أعمالٌ إنسانية وأعمال بِرٍّ تأتي يوم القيامة وهي رماد تهبُّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذره بعيداً:
{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18] .(12/7467)
ولن تكون لديهم عندئذ فرصة لاستئناف الحياة ليستفيدوا من التجربة؛ بل أمامهم وحولهم العذاب؛ لسان حال كل منهم يقول: {رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً ... } [المؤمنون: 99100] .
لكنه لو رُدَّ إلى الحياة لَعَاد إلى ما نُهِي عنه، مِصْداقاً لقول الحق سبحانه: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36] .
وهذا الكفر هو الضلال البعيد الذي جعل كل أعمالهم التي ظنُّوا أنها صالحة؛ مجردَ أعمال مُحْبطة؛ فضلُّوا بالكفر عن الطريق المُوصِّل إلى خير الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله ... } .(12/7468)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والأرض بميزان الحقِّ؛ فلا تأتي السماء وتنطبق على الأرض، فسبحانه القائل: {وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } [الحج: 65] .
وأنت كلما سِرْتَ وجدتَ الشمس من فوقك، وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق.(12/7468)
وهكذا أراد الحق سبحانه أن يُؤكِّد قضية كونية مُحسَّة مشهودة؛ وبدأ بقوله:
{أَلَمْ تَرَ ... } [إبراهيم: 19] .
رغم أنه لا يوجد مع العَيْن أيْن؛ ذلك أن الشمس واضحة أمام كُلِّ البشر، وهكذا نجد أن معنى {أَلَمْ تَرَ} هنا تكون بمعنى «ألم تعلم» .
وجاء سبحانه ب {أَلَمْ تَرَ} هنا ليدلّنا على أن ما يُعلمنا الله به من حَقٍّ أصدق مما تُعلِمنا به العين؛ فإذَا قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ} فاعلم أنه علم موثوق به.
وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والأرض؛ فكان لا بُدَّ لنا أن نعلم أنها لم تَكُنْ لِتُوجَد إلا بخَلْق الله لها؛ وهو الذي أخبرنا أنها من خَلْقه؛ ولم يدّعَها أحدٌ لنفسه؛ وبذلك تثبت له قضية خَلْقها إلى أنْ يقولَ آخر أنه خلقها؛ ولم يَقُلْ لنا أحدٌ ذلك أبداً.
وسبق أن قال سبحانه: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ... } [غافر: 57] .
والبشر كما نعلم لا يعيش فرد منهم مِثْلما تعيش السماء؛ فالفرد يموت ويُولَد غيره؛ وكُلُّ البشر يأتون ويذهبون، والشمس باقية، وكذلك الأرض.(12/7469)
ومن عجيب الخَلْق الرحماني أن الله خلق كُلّ ذلك تسخيراً لأمر الإنسان؛ فلا يشذّ كائن من تلك المُسخرات عن أمر الإنسان. وما طُلِب منك أيُّها الإنسان تكليفاً مُخيَّر فيه إنْ شئتَ آمنت، وإنْ شئْتَ كَفرتَ؛ وإنْ شئتَ أطعتَ، وإن شئتَ عصيتَ.
ولكن المخلوق المُسخَّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة. وهو سبحانه الحق القائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] .
وقد أعلمنا هذا القولُ الكريم بأن الرحمانية سبقتْ لنا نحن البشر من قبل خَلْقنا، وأقدمتنا رحمانية الله على وجود مُهيَّأ لنا.
ومن العجيب أن الكونَ المخلوق لنا استبقاءً لحياتنا واستبقاءً لنوعنا يتركز في أشياء لا دَخْل لنا فيها، ولا تتغير أبداً؛ وهي الأشياء العليا كالشمس والقمر والأرض.
وهناك أشياء أخرى يكون التغيير فيها على نوعين: قسم يتغير ويأتي بدلاً منه شيء جديد، كالنبات الذي يذهب ويصير حصيداً، وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت.
وهناك خَلْق يتغير مع إبقاء عناصره، وإنْ تغيّرتْ مادته، كالجمادات التي نراها - الجبال والأرض وعناصرها - ونكتشف منها كُلَّ يوم جديداً.(12/7470)
إذن: فالمخلوقات التي استقبلتْ الوجود الإنساني نوعان: نوع لا دَخْل للأغيار فيها؛ ونوع آخر فيه دَخْل للأغيار مع بقاء مادتها وهي الجمادات؛ ونوع تتغير أنواعه وأجناسه.
كُلُّ هذه الأشياء تدلُّنا على أن الحقَّ سبحانه وتعالى له صِفَتان.
صفة القدرة والقهر؛ وهو سبحانه يقهر ما يشاء على ما يشاء؛ ولا يتغير.
وصفة الاختيار التي أوجدها في الإنسان.
وأثبتت صفة القدرة التي سخَّر بها سبحانه الأشياء لخدمة الإنسان مُطْلق سلطانه سبحانه على كُلِّ ما خلق؛ فلا شيءَ يخرج عن مراده أبداً.
وأراد سبحانه بصفة الاختيار التي وهبها للإنسان أنْ يأتيه عبده الإنسان محباً متبعاً لتكاليفه الإيمانية، فالذي يطيع الله وهو قادر على أنْ يعصيه إنما يدلُّ بذلك على أنه مُحِبٌّ لله؛ ويُثبِت له صفة المحبوبية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق ... } [إبراهيم: 19] .
ولنا أن نلحظ أن كلمة «بالحق» وردتْ في مواقع كثيرة من القرآن الكريم.
وعلى سبيل المثال، نجد في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق ... } [الحجر: 85] .(12/7471)
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] .
وهذا يدل على أن السماوات والأرض مخلوقة على هيئة ثابتة، وقد جعل ذلك مدارسَ الفلسفة تستقبل تلك القضية استقبالين؛ استقبالَ مَنْ يريد أنْ يؤمن؛ واستقبال مَنْ يريد أنْ يكفرَ. وانقسم مَنْ أرادوا الكفر إلى فريقين.
الفريق الأول: أخذ من ثبات قوانين الشمس والقمر والأرض دليلاً على أنه لايوجد خالق لهذا الكون، وقالوا: لو أن هناك خالقاً له لغيّر من هيئة السماوات والأرض، ولكن كُل من تلك الكواكب تدير نفسها بآلية ذاتية مُحْكمة.
والفريق الثاني مِمَّن أرادوا الكفر قال: إن الشذوذ في الكون ووجود خَلَل وعيوب خَلقية في بعض من المخلوقات والأنواع؛ دليلٌ على أنه لا يوجد إله. فكيف يخلق إلهٌ مخلوقاً أعمى؛ وآخر أعرجَ؛ وثالثاً بعين واحدة؟
وهكذا أخذ هذا الفريق من أهل الكفر وجود الشذوذ في الكون كدليل على عدم وجود إله.
ومن العجيب أن الفريق الذي أراد التغيير في هيئة السماوات والأرض؛ أراد ذلك كدليل على وجود خالق، والفريق الذي رأى أن هناك شذوذاً في بعض المخلوقات أخذ ثبات الخَلْق على هيئة واحدة كدليل على وجود إله.(12/7472)
كل ذلك يدُّلنا على أن الفريقين قد أخذاَ من قضيتين متعارضتين دليلاً على الكفر، ولم يتفق الفريقان على قضية واحدة، وهذا يوضح التناقض بينهما.
ولو أمعن كل من الفريقين النظر لَعلم كلٌّ منهما أن الإيمان ضرورة أساسية لِفهْم هذا الكون على ثباتَ ما فيه؛ وعلى وجود بعضٍ من الشذوذ فيَه.
فأنت يا مَنْ تنتظر ثباتاً في الأكوان خُذْ ثبات آلية الحركة في السماوات والأرض والشمس والقمر دليلاً على الإيمان بوجود خالق إله قادر.
وأنت يا مَنْ تأخذ التغيُّر في الخلق دليلاً على وجود خالق؛ فها أنت ترى اختلاف بعض المخلوقات ما يجعلك تعثر على عدم التماثل في المخلوقات دليلاً على وجود إله خالق له طلاقة القدرة.
وأوضح الحق سبحانه لنا أنه لم يخلق السماوات والأرض لعبة؛ بل خلقهما بالحق، وهناك فارق بين اللعبة والحق، فاللعبة قد يتوصل إليها مَنْ يعبث بشيء؛ فتخرج له صُدْفة يستخدمها هو أو غيره كَلُعبة.
يقول الحق: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] .
أما الخلق بالحق؛ فهذا يعني أن مَنْ يخلقها إنما يفعل ذلك بموازين دقيقة مُحْكمة؛ ويصنعها على نظام ثابت له قضية تحكمه من الحكمة والحق.
وما دام الكون الأعلى ثابتاً؛ فإن الحق سبحانه هو الذي خلق(12/7473)
السماوات والأرض، وما دُمْتَ تريد ثباتاً في حركتك الاختيارية؛ فخُذ المنهج الذي أنزله الله بالحق؛ فتثبت قضاياك كما ثبتت القضايا العليا؛ وأنت حين تخرج عن منهج الحق تجد فساداً.
وإذا أردتَ ألاَّ يوجد فساد في المجتمع من أيّ لَوْنٍ فابحث عن حكم الله الذي ضَيّعه الإنسان في مخالفة منهجه تجد أن ضياعه هو السبب في وجود الفساد؛ واقرأ قوله الحق في سورة الرحمن: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ والنجم والشجر يَسْجُدَانِ والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 1 - 9] .
وهكذا أنت ترى الشمس - على سبيل المثال - منضبطة في شروقها وغروبها وكُسُوفها؛ وكذلك القمر في سُطوعه أو مَحاقه أو خسوفه.
وكما رفع الحق سبحانه السماء ووضع الميزان؛ فعليكم أنْ تَزِنوا كُلَّ أمر بالميزان الصحيح لتنصلح أموركم، فإن اعتدال الموازين المادية والمعنوية والقيمية هي استقرار لحركة الحياة.
أما إنْ ظللتُم على العِوَج فاعلموا أنه سبحانه قادر على أن يُذهِبكم وأن يأتي بخَلْق جديد:(12/7474)