{ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَةً } [المجادلة : 12] أي قبل نجواكم وهي استعارة ممن له يدان كقول عمر رضي الله عنه : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم يريد قبل حاجته { ذَالِكَ } التقديم { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] في دينكم { وَأَطْهَرُ } لأن الصدقة طهرة { فَإِن لَّمْ تَجِدُوا } [المجادلة : 12] ما تتصدقون به { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 192] في ترخيص المناجاة من غير صدقة.
قيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار ثم نسخ.
وقال علي رضي الله عنه : هذه آية من كتاب الله ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشر مسائل فأجابني عنها.
قلت : يا رسول الله ما الوفاء؟ قال : التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قلت : وما الفساد؟ قال : الكفر والشرك بالله.
قلت : وما الحق؟ قال : الإسلام والقرآن والولاية إذا انتهت إليك.
قلت : وما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة.
قلت : وما عليّ؟ قال : طاعة الله وطاعة رسوله.
قلت : وكيف أدعو الله تعالى؟ قال : بالصدق واليقين.
قلت : وماذا أسأل الله؟ قال : العافية.
قلت : وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال : كل حلالاً وقل صدقاً ، قلت : وما السرور؟ قال : الجنة.
قلت : وما الراحة؟ قال : لقاء الله.
فلما فرغت منها نزل نسخها.
{ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاـاكُمْ صَدَقَـاتٍ فَإِذْ } [المجادلة : 13] أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } [المجادلة : 13] ما أمرتم به وشق عليكم { وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [المجادلة : 13] أي خفف عنكم وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـابًا مَّوْقُوتًًا } أي فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [آل عمران : 153] وهذا وعد ووعيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم } [المجادلة : 14] كان المنافقون يتولون اليهود
346
(4/185)
وهم الذين غضب الله عليهم في قوله { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة : 60] (المائدة : 06) وينقلون إليهم أسرار المؤمنين { مَّا هُم مِّنكُمْ } [المجادلة : 14] يا مسلمون { وَلا مِنْهُمْ } [المجادلة : 14] ولا من اليهود كقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَالِكَ لا إِلَى هؤلاء وَلا إِلَـاى هؤلاء } [النساء : 143] (النساء : 341) { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ } [المجادلة : 14] أي يقولون والله إنا لمسلمون لا منافقون { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] أنهم كاذبون منافقون { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } [المجادلة : 15] نوعاً من العذاب متفاقماً { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة : 9] أي إنهم كانوا في الزمان الماضي مصرين على سوء العمل أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
{ اتَّخَذْوا أَيْمَـانَهُمْ } [المجادلة : 16] الكاذبة { جُنَّةً } وقاية دون أموالهم ودمائهم { فَصَدُّوا } الناس في خلال أمنهم وسلامتهم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] عن طاعته والإيمان به { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [المجادلة : 16] وعدهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم كقوله { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } [النحل : 88](النحل : 88) { لَّن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 10] من عذاب الله { شيئا } قليلاً من الإغناء { أؤلئك أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ } أي لله في الآخرة أنهم كانوا مخلصين في الدنيا غير منافقين { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [المجادلة : 18] في الدنيا على ذلك { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ } [المجادلة : 18] في الدنيا { عَلَى شَىْءٍ } [المجادلة : 18] من النفع أو يحسبون أنهم على شيء من النفع ثم بأيمانهم الكاذبة كما انتفعوا ههنا { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَـاذِبُونَ } [المجادلة : 18] حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
{ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَـانُ } [المجادلة : 19] استولى عليهم { فَأَنسَـاـاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } [المجادلة : 19] قال شاه
347
الكرماني : علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس ، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها ، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان ، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها { أؤلئك حِزْبُ الشَّيْطَـانِ } [المجادلة : 19] جنده { أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـانِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [المجادلة : 19].
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُا أؤلئك فِى الاذَلِّينَ } [المجادلة : 20] في جملة من هو أذل خلق الله تعالى لا ترى أحداً أذل منهم { كَتَبَ اللَّهُ } [الانفال : 75] في اللوح { لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } [المجادلة : 21] بالحجة والسيف أو بأحدهما { إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ } [الانفال : 52] لا يمتنع عليه ما يريد { عَزِيزٌ } غالب غير مغلوب.
{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَآدُّونَ } [المجادلة : 22] هو مفعول ثان لـ { تَجِدُ } أو حال أو صفة لـ { قَوْمًا } وتجد بمعنى تصادف على هذا { مَنْ حَآدَّ اللَّهَ } [المجادلة : 22] خالفه وعاداه { وَرَسُولَهُ } أي من الممتنع أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والمراد أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في الزجر عن مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراز عن مخالطتهم ومعاشرتهم.
وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله { عَشِيرَتَهُمْ } وبقوله { أؤلئك كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الايمَـانَ } [المجادلة : 22] أي أثبته فيها وبمقابلة قوله { أؤلئك حِزْبُ الشَّيْطَـانِ } [المجادلة : 19] بقوله { أؤلئك حِزْبُ اللَّهِ } [المجادلة : 22] { وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } [المجادلة : 22] أي بكتاب أنزله فيه حياة لهم ، ويجوز أن يكون الضمير للإيمان أي بروح
348
(4/186)
من الإيمان على أنه في نفس روح لحياة القلوب به.
وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها.
وقال سهل : من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس بمبتدع ولا يجالسه ويظهر له من نفسه العداوة ، ومن داهن مبتدعاً سلبه الله حلاوة السنن ، ومن أجاب مبتدعاً لطلب عز الدنيا أو غناها أذله الله بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله نور الإيمان من قلبه ، ومن لم يصدق فليجرب.
{ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } بتوحيدهم الخالص وطاعتهم { وَرَضُوا عَنْهُ } [المجادلة : 22] بثوابه الجسيم في الآخرة أو بما قضى عليهم في الدنيا { أؤلئك حِزْبُ اللَّهِ } [المجادلة : 22] أنصار حقه ودعاة خلقه { أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 22] الباقون في النعيم المقيم الفائزون بكل محبوب الآمنون من كل مرهوب.
349
سورة الحشر
مدنية وهي أربع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر : 1] روي أن هذه السورة نزلت بأسرها في بني النضير ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالف أبا سفيان عند الكعبة فأمر صلى الله عليه وسلّم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة ، ثم خرج صلى الله عليه وسلّم مع الجيش إليهم فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخيلهم ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام إلى أريحاء وأذرعات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
{ هُوَ الَّذِى أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [الحشر : 2] يعني يهود بني النضير
350(4/187)
{ مِن دِيَـارِهِمْ } [الانفال : 47] بالمدينة.
واللام في { لاوَّلِ الْحَشْرِ } [الحشر : 2] تتعلق بـ { أَخْرَجَ } وهي اللام في قوله تعالى { يَقُولُ يَـالَيْتَنِ قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } (الفجر : 42) وقولك جئته لوقت كذا.
أي أخرج الذين كفروا عند أول الحشر.
ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشأم وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشأم ، أو هذا أول حشرهم ، وآخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، أو آخر حشرهم حشر يوم القيامة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من شك أن المحشر بالشأم فليقرأ هذه الآية ، فهم الحشر الأول وسائر الناس الحشر الثاني.
وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لما خرجوا " امضوا فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " .
قتادة : إذا كان آخر الزمان جاءت نار من قبل المشرق فحشرت الناس إلى أرض الشأم وبها تقوم عليهم القيامة.
وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا } [الحشر : 2] لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم { وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ } [الحشر : 2] أي ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله.
والفرق بين هذا التركيب وبين النظم الذي جاء عليه أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم اسماً " لأن " في إسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في مغازاتهم ، وليس ذلك في قولك " وظنوا أن حصونهم تمنعهم " .
{ فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 148] أي أمر الله وعقابه وفي الشواذ " فآتاهم الله " أي فآتاهم الهلاك { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } [الحشر : 2] من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه رضاعاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
{ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الأحزاب : 26] الخوف { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى الْمُؤْمِنِينَ } [الحشر : 2] { يُخْرِبُونَ } أبو عمرو.
والتخريب والإخراب الإفساد بالنقض والهدم ، والخربة الفساد وكانوا يخرّبون بواطنها والمسلمون ظواهرها لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا تبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديّار ، والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ، وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج.
وأما المؤمنون فداعيهم إلى
351
التخريب إزالة متحصنهم وأن يتسع لهم مجال الحرب.
ومعنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين أنهم لما عرضوهم بنكث العهد لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه { فَاعْتَبِرُوا يَـاأُوْلِى الابْصَـارِ } [الحشر : 2] أي فتأملوا فيما نزل بهؤلاء والسبب الذي استحقوا به ذلك فاحذروا أن تفعلوا مثل فعلهم فتعاقبوا بمثل عقوبتهم ، وهذا دليل على جواز القياس { وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ } [الحشر : 3] الخروج من الوطن مع الأهل والولد { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا } [الحشر : 3] بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة { وَلَهُمْ } سواء أجلوا أو قتلوا { فِى الاخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } [الحشر : 3] الذي لا أشد منه { ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ } [المنافقون : 3] أي إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم { شَآقُّوا اللَّهَ } [الحشر : 4] خالفوه { وَرَسُولَهُا وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ } [الحشر : 4] ورسوله { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 211].
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
(4/188)
{ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ } [الحشر : 5] هو بيان لـ { مَا قَطَعْتُم } [الحشر : 5] ومحل " ما " نصب بـ { قَطَعْتُم } كأنه قيل : أي شيء قطعتم وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } [الحشر : 5] لأنه في معنى اللينة ، واللينة : النخلة من الألوان وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها.
وقيل : اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين { قَآ ـاِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [الحشر : 5] فقطعها وتركها بإذن الله { وَلِيُخْزِىَ الْفَـاسِقِينَ } [الحشر : 5] وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها { وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [الحشر : 6] جعله فيئاً له خاصة { مِنْهُمْ } من بني النضير { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } [الحشر : 6] فلم يكن ذلك بإيجاف خيل أو ركاب منكم على ذلك والركاب الإبل ، والمعنى فما أوجفتم على تحصيله وتغنيمه خيلاً ولا ركاباً ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم لأنه على ميلين من المدينة ، وكان صلى الله عليه وسلّم على حمار فحسب { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } [الحشر : 6] يعني
352
أن ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة منهم لفقرهم و { أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران : 165-167] وإنما لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها غير أجنبية عنها ، بين لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة ، وزيف هذا القول بعض المفسرين وقال : الآية الأولى نزلت في أموال بني النضير وقد جعلها الله لرسوله خاصة ، وهذه الآية في غنائم كل قرية تؤخذ بقوة الغزاة ، وفي الآية بيان مصرف خمسها فهي مبتدأة
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
{ كَىْ لا يَكُونَ دُولَةَ } [الحشر : 7] { يَكُونَ دُولَةَ } يزيد على " كان " التامة والدولة والدولة ما يدول للإنسان أي يدور من الجد.
ومعنى قوله { لا يَكُونَ دُولَةَ } { بَيْنَ الاغْنِيَآءِ مِنكُمْ } [الحشر : 7] كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطي الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به { وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ } [الحشر : 7] أي أعطاكم من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ } فاقبلوه { وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ } [الحشر : 7] عن أخذه منها { فَانتَهُوا } عنه ولا تطلبوه { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه { إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] لمن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والأجود أن يكون عاماً في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه.
{ لِلْفُقَرَآءِ } بدل من قوله { وَلِذِى الْقُرْبَى } [الانفال : 41] والمعطوف عليه ، والذي منه الإبدال من { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [الانفال : 24] وإن كان المعنى لرسول الله إن الله عز وجل أخرج رسوله من
353
(4/189)
الفقراء في قوله { وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُا } [الحشر : 8] وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل { الْمُهَـاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [الحشر : 8] بمكة ، وفيه دليل على أن الكفار يملكون بالاستيلاء أموال المسلمين لأن الله تعالى سمى المهاجرين فقراء مع أنه كانت لهم ديار وأموال { يَبْتَغُونَ } حال { فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } [الفتح : 29] أي يطلبون الجنة ورضوان الله وينصرون الله ورسوله } أي ينصرون دين الله ويعينون رسوله { أؤلئك هُمُ الصَّـادِقُونَ } [الحجرات : 15] في إيمانهم وجهادهم { وَالَّذِينَ } معطوف على المهاجرين وهم الأنصار { تَبَوَّءُو الدَّارَ } [الحشر : 9] توطنوا المدينة { وَالايمَـانَ } وأخلصوا الإيمان كقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
علفتها تبناً وماء بارداً
أو وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم واستقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك ، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه.
{ مِن قَبْلِهِمْ } [الدخان : 37] من قبل المهاجرين لأنهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان.
وقيل : من قبل هجرتهم { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } [الحشر : 9] حتى شاطروهم أموالهم وأنزلوهم منازلهم ، ونزل من كانت له امرأتان عن إحدايهما حتى تزوج بها رجل من المهاجرين.
{ وَلا يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُوا } [الحشر : 9] ولا يعلمون في أنفسهم طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره والمحتاج إليه يسمي حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه.
وقيل : حاجة حسداً مما أعطي المهاجرون من الفيء حيث خصهم النبي صلى الله عليه وسلّم به.
وقيل : لا يجدون في صدورهم مس حاجة من فقد ما أوتوا فحذف المضافان { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر : 9] فقر وأصلها خصاص البيت وهي فروجه ، والجملة في موضع الحال أي مفروضة خصاصتهم.
روي أنه
354
نزل برجل منهم ضيف فنوّم الصبية وقرّب الطعام وأطفأ المصباح ليشبع ضيفه ولا يأكل هو.
وعن أنس : أهدى لبعضهم رأس مشوي وهو مجهود فوجهه إلى جاره فتداولته تسعة أنفس حتى عاد إلى الأول.
أبو زيد قال لي شاب من أهل بلخ : ما الزهد عندكم؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.
فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ بل إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر : 9] الظافرون بما أرادوا.
الشح اللؤم وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، وأما البخل فهو المنع نفسه.
وقيل : الشح أكل مال أخيك ظلماً ، والبخل منع مالك.
وعن كسرى : الشح أضر من الفقر لأن الفقير يتسع إذا وجد بخلاف الشحيح.
{ وَالَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } [الحشر : 10] عطف أيضاً على { الْمُهَـاجِرِينَ } وهم الذين هاجروا من بعده.
وقيل : التابعون بإحسان.
وقيل : من بعدهم إلى يوم القيامة.
قال عمر رضي الله عنه : دخل في هذا الفيء كل من هو مولود إلى يوم القيامة في الإسلام ، فجعل الواو للعطف فيهما.
وقرىء { لِّلَّذِينَ } فيهما { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالايمَـانِ } [الحشر : 10] قيل : هم المهاجرون والأنصار.
عن عائشة رضي الله عنها : أمروا بأن يستغفروا لهم فسبوهم { وَلا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلا } [الحشر : 10] حقداً { لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا } [العنكبوت : 12] يعني الصحابة { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الحشر : 10] وقيل لسعيد بن المسيب : ما تقول في عثمان وطلحة والزبير؟ قال : أقول ما قولنيه الله وتلى هذه الآية.
ثم عجب نبيه بقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 350
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
(4/190)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا } [الحشر : 11] أي ألم تر يا محمد إلى عبد الله بن أبيّ وأشياعه { يَقُولُونَ لاخْواَنِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [الحشر : 11] يعني بني النضير والمراد إخوة الكفر { لَـاـاِنْ أُخْرِجْتُمْ } [الحشر : 11] من دياركم { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } [الحشر : 11] روي أن ابن أبيّ وأصحابه دسوا إلى بني النضير حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلّم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ولئن أخرجتم لنخرجن معكم { وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ } [الحشر : 11] في قتالكم { أَحَدًا أَبَدًا } [الحشر : 11] من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه أو في خذلانكم وإخلاف ما
355
وعدناكم من النصرة { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [الحشر : 11] في مواعيدهم لليهود ، وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيب.
{ لَـاـاِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَـاـاِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الادْبَـارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ } [الحشر : 12] إنما قال { وَلَـاـاِن نَّصَرُوهُمْ } [الحشر : 12] بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم على الفرض والتقدير كقوله { لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر : 65] (الزمر : 56) وكما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون.
والمعنى ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك أي يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم ، أو لينهزمن اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين { لانتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } [الحشر : 13] أي أشد مرهوبية.
مصدر رهب المبني للمفعول.
وقوله { فِى صُدُورِهِمْ } [غافر : 56] دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم { مِّنَ اللَّهِ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } [الحشر : 13] لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
{ لا يُقَـاتِلُونَكُمْ } [الحشر : 14] لا يقدرون على مقاتلتكم { جَمِيعًا } مجتمعين يعني اليهود والمنافقين { إِلا } كائنين { فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } [الحشر : 14] بالخنادق والدروب { أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُر } [الحشر : 14] مكي وأبو عمرو { بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } [الحشر : 14] يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة لأن الشجاع يجبن عند محاربة الله ورسوله { تَحْسَبُهُمْ } أي اليهود والمنافقين { جَمِيعًا } مجتمعين ذوي ألفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } [الحشر : 14] متفرقة لا ألفة بينها يعني أن بينهم إحناً وعداوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ، وهذا تحسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم { ذَالِكَ } التفرق { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } [المائدة : 58] أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم.
356
{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الحشر : 15] أي مثلهم كمثل أهل بدر فحذف المبتدأ { قَرِيبًا } أي استقروا من قبلهم زمناً قريباً { ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [الحشر : 15] سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم من قولهم كلأ وبيل وخيم سيء العاقبة يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] أي ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب النار { كَمَثَلِ الشَّيْطَـانِ إِذْ قَالَ لِلانسَـانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ } [الحشر : 16] أي مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم كمثل الشيطان إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة.
وقيل : المراد استغواؤه قريشاً يوم بدر وقوله لهم { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
(4/191)
الانفال : 48] إلى قوله { إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنكُمْ } [الانفال : 48] (الأنفال : 84) { فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ } [الحشر : 17] عاقبة الإنسان الكافر والشيطان { أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَـالِدَيْنِ فِيهَا } [الحشر : 17] { عَـاقِبَتَهُمَآ } خبر " كان " مقدم و " أن " مع اسمها وخبرها أي في النار في موضع الرفع على الاسم و { خَـالِدَيْنِ } حال { وَذَالِكَ جَزَاؤُا الظَّـالِمِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } في أوامره فلا تخالفوها { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ } [الحشر : 18] نكر النفس تقليلاً للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة { مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر : 18] يعني يوم القيامة سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له أو عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد.
وتنكيره لتعظيم أمره أي لغد لا يعرف كنهه لعظمه.
وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة وجدنا ما عملنا ربحنا ما قدما خسرنا ما خلفنا.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو اتقوا الله في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد وهو { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8] وفيه تحريض على المراقبة لأن من علم وقت فعله أن الله مطلع على ما يرتكب من الذنوب يمتنع عنه
357
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ } [الحشر : 19] تركوا ذكر الله عز وجل وما أمرهم به { فَأَنسَـاـاهُمْ أَنفُسَهُمْ } [الحشر : 19] فتركهم من ذكره بالرحمة والتوفيق { أؤلئك هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [الحشر : 19] الخارجون عن طاعة الله.
{ لا يَسْتَوِى أَصْحَـابُ النَّارِ وَأَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآ ـاِزُونَ } [الحشر : 20] هذا تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار ، والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز العظيم مع أصحاب الجنة والعذاب الأليم مع أصحاب النار ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه كما تقول لمن يعق أباه " هو أبوك " تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف.
وقد استدلت الشافعية بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالاستيلاء ، وقد أجبنا عن مثل هذا في أصول الفقه والكافي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 355
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي من شأن القرآن وعظمته أنه لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع أي لخضع وتطأطأ وتصدع أي تشقق من خشية الله ، وجائز أن يكون هذا تمثيلاً كما في قوله { إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ } [الأحزاب : 72] (الأحزاب : 27) ويدل عليه قوله { وَتِلْكَ الامْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر : 21] وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل ، والمراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم رد على من أشرك وشبهه بخلقه فقال { لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر : 22] أي السر والعلانية أو الدنيا والآخرة أو المعدوم والموجود
358
(4/192)
{ هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ } الذي لا يزول ملكه { الْقُدُّوسُ } المنزه عن القبائح وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح { السَّلَـامُ } الذي سلم الخلق من ظلمه عن الزجاج { الْمُؤْمِنُ } واهب الأمن.
وعن الزجاج : الذي آمن الخلق من ظلمه أو المؤمن من عذابه من أطاعه { الْمُهَيْمِنُ } الرقيب على كل شيء الحافظ له مفيعل من الأمن إلا أن همزته قلبت هاء { الْعَزِيزُ } الغالب غير المغلوب { الْجَبَّارُ } العالي العظيم الذي يذل له من دونه أو العظيم الشأن في القدرة والسلطان أو القهار ذو الجبروت { الْمُتَكَبِّرُ } البليغ الكبرياء والعظمة { سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الطور : 43] نزه ذاته عما يصفه به المشركون { هُوَ اللَّهُ الْخَـالِقُ } [الحشر : 24] المقدر لما يوجده { الْبَارِئُ } الموجد { الْمُصَوِّرُ } في الأرحام { لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } [طه : 8] الدالة على الصفات العلا { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر : 24] ختم السورة بما بدأ به.
عن أبي هريرة رضي الله عنه سألت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الاسم الأعظم فقال : عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته.
فأعدت عليه فأعاد عليّ فأعدت عليه فأعاد عليّ.
359
سورة الممتحنة
مدنية وهي ثلاث عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا.
قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا.
قال : فما جاء بك؟ قالت : احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل أمكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم.
فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد ـ وكانوا فرساناً ـ وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم ، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلّم حاطباً وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ
360
فارقتهم ، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره.
فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلّم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 360(4/193)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [الممتحنة : 1] عدي " اتخذ " إلى مفعوليه وهما { عَدُوِّى } و { أَوْلِيَآءَ } والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر ، أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، وفيه دليل على أن الكبيرة لا تسلب اسم الإيمان { تُلْقُونَ } حال من الضمير في { لا تَتَّخِذُوا } [التوبة : 23] والتقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين { إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة : 1] أو مستأنف بعد وقف على التوبيخ.
والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم.
والباء في { بِالْمَوَدَّةِ } زائدة مؤكدة للتعدي كقوله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة : 195] (البقرة : 591) أو ثابتة على أن مفعول { تُلْقُونَ } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسبب المودة التي بينكم وبينهم { وَقَدْ كَفَرُوا } [الممتحنة : 1] حال من { لا تَتَّخِذُوا } [التوبة : 23] أو من { تُلْقُونَ } أي لا تتولوهم أو توادونهم وهذه حالهم { بِمَا جَآءَكُم مِّنَ الْحَقِّ } [الممتحنة : 1] دين الإسلام والقرآن { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [الممتحنة : 1] استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من { كَفَرُوا } { أَن تُؤْمِنُوا } [الممتحنة : 1] تعليل لـ { يُخْرِجُونَ } أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم { بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } [الممتحنة : 1] متعلق ب { لا تَتَّخِذُوا } [التوبة : 23] أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
وقول النحويين في مثله هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه { جِهَادًا فِى سَبِيلِى } [الممتحنة : 1] مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي { وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى } [الممتحنة : 1] ومبتغين مرضاتي { تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ } [الممتحنة : 1] أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون
361
إليهم أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسبب المودة وهو استئناف { وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } [الممتحنة : 1] والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } [الممتحنة : 1] أي هذا الإسرار { مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } [المائدة : 12] فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 360
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ } [الممتحنة : 2] إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَآءً } [الممتحنة : 2] خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّواءِ } [الممتحنة : 2] بالقتل والشتم { وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة : 2] وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم.
والماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل : ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذالون لها دونه ، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أهم شيء عند صاحبه.
{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } [الممتحنة : 3] قراباتكم { وَلا أَوْلَـادُكُمْ } [سبأ : 37] الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ثم قال { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } [الممتحنة : 3] وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } [عبس : 34] (عبس : 43) الآية.
فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً.
{ يَفْصِلُ } : عاصم.
{ يَفْصِلُ } حمزة وعلي والفاعل هو الله عز وجل { يَفْصِلُ } ابن ذكوان غيرهم { يَفْصِلُ } { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] فيجازيكم على أعمالكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 360
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ } [الممتحنة : 4] قدوة في التبري من الأهل { حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ } [الممتحنة : 4] أي في أقواله ولهذا استثنى منها إلا قول إبراهيم { وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الممتحنة : 4] من المؤمنين وقيل :
362
(4/194)
كانوا أنبياء { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ } [الممتحنة : 4] جمع بريء كظريف وظرفاء { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ } [الممتحنة : 4] بالأفعال { وَالْبَغْضَآءُ } بالقلوب { أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4] فحينئذ نترك عداوتكم { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [الممتحنة : 4] وذلك لموعدة وعدها إياه أي اقتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } [الممتحنة : 4] أي من هداية ومغفرة وتوفيق ، وهذه الجملة لا تليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شيئا } [الفتح : 11] (الفتح : 11) ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال : أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } [الممتحنة : 4] متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة.
وقيل : معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أمر من الله للمؤمنين بأن يقولوه { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } [الممتحنة : 4] أقبلنا { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285] المرجع { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [الممتحنة : 5] أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب { وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الممتحنة : 5] أي الغالب الحاكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 360
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ } ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل من قوله { لَكُمْ } قوله { لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ } أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله { وَمَن يَتَوَلَّ } [المائدة : 56] يعرض عن أمرنا ويوال الكفار { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ } [الحديد : 24] عن الخلق { الْحَمِيدُ } المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين أطمعهم في تحول الحال إلى خلافة فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم } [الممتحنة : 7] أي من أهل مكة من أقربائكم { مَّوَدَّةً } بأن يوفقهم للإيمان ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم
363
فأسلم قومهم وتم بينهم التحاب.
و " عسى " وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك أو أريد به إطماع المؤمنين { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } [الممتحنة : 7] على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] لمن أسلم من المشركين { لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ } [الممتحنة : 8] تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً.
ومحل { أَن تَبَرُّوهُمْ } [الممتحنة : 8] جر على البدل من { الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ } [الممتحنة : 8] وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الذين { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } [الممتحنة : 8] وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم ، وإذا نهي عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ وَظَـاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ } هو بدل من { الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ } [الممتحنة : 9] والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ } [الممتحنة : 9] منكم { فَأُوالَـائكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 229] حيث وضعوا التولي غير موضعه.
(4/195)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ } [الممتحنة : 10] سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة ، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان { مُهَـاجِرَاتٍ } نصب على الحال { فَامْتَحِنُوهُنَّ } فابتلوهن بالنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن.
وعن ابن عباس : امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِهِنَّ } [الممتحنة : 10] منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة
364
العلم به { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَـاتٍ } [الممتحنة : 10] العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الأمارات ، وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36] (الإسراء : 63) { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } [الممتحنة : 10] فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
{ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة : 10] أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة { وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُوا } [الممتحنة : 10] وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور.
نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم ، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأن ذلك في الرجال لا في النساء لأن المسلمة لا تحل للكافر.
وقيل : نسخت هذه الآية الحكم الأول { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [الممتحنة : 10] ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات { إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة : 5] أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على أن لا عدة على المهاجرة { وَلا تُمْسِكُوا } [الممتحنة : 10] { وَلا تُمْسِكُوا } [الممتحنة : 10] بصري { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [الممتحنة : 10] العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب.
والكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه { قُلْ مَآ أَنفَقْتُم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها { وَلْيَسْـاَلُوا مَآ أَنفَقُوا } [الممتحنة : 10] من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا { ذَالِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ } [الممتحنة : 10] أي جميع ما ذكر في هذه الآية { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [الممتحنة : 10] كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ } وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أحد.
{ فَعَاقَبْتُمْ } فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج { فَـاَاتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَآ أَنفَقُوا } [الممتحنة : 11] فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم ولحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة
365
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [المائدة : 88] وقيل : هذا الحكم منسوخ أيضاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
(4/196)
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَـاتُ يُبَايِعْنَكَ } [الممتحنة : 12] حال { عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَـادَهُنَّ } [الممتحنة : 12] يريد وأد البنات { وَلا يَأْتِينَ بِبُهُتَـانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة : 12] كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك ، كنى بالبهتان المفتري بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين { وَلا يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } [الممتحنة : 12] طاعة الله ورسوله { فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ } [الممتحنة : 12] عما مضى { إِنَّ اللَّهَ } بتمحيق ما سلف { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 143] بتوفيق ما ائتنف.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما فرغ من فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام : أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً.
فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام : ولا يسرقن فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرفها فقال لها : إنك لهند.
قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : ولا يزنين.
فقالت : أو تزني الحرة؟ فقال : ولا يقتلن أولادهن.
فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ولا يأتين ببهتان.
فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق.
فقال : ولا يعصينك في معروف فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر.
366
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الممتحنة : 13] ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون { قَدْ يَـاـاِسُوا مِنَ الاخِرَةِ } [الممتحنة : 13] من ثوابها لأنهم ينكرون البعث { كَمَا يَـاـاِسَ الْكُفَّارُ } [الممتحنة : 13] أي كما يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير { مِنْ أَصْحَـابِ الْقُبُورِ } [الممتحنة : 13] أن يرجعوا إليهم أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم.
وقيل : هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة ، كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.
367
جزء : 4 رقم الصفحة : 363
سوة الصف
مدنية وهي أربع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 4 رقم الصفحة : 367
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر : 1] روي أنهم قالوا قبل أن يؤمروا بالجهاد : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فنزلت آية الجهاد ، فتباطأ بعضهم فنزلت { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف : 2] " لم " هي لام الإضافة داخلة على " ما " الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك " بم وفيم ومم وعم وإلام وعلام " .
وإنما حذفت الألف لأن " ما " واللام أو غيرها كشيء واحد ، كثر الاستعمال في كلام المستفهم وقد جاء استعمال الأصل قليلاً قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
على ما قام يشتمني جرير
والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان ، ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف
368
{ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف : 3] قصد في كبر التعجب من غير لفظه كقوله
(4/197)
غلت ناب كليب بواؤها
ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره.
وأسند إلى أن تقولوا ونصب مقتاً على التمييز ، وفيه دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، والمعنى كبر قولكم ما لا تفعلون مقتاً عند الله.
واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض.
وعن بعض السلف أنه قيل له : أتأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله.
ثم أعلم الله عز وجل ما يحبه فقال { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًّا } [الصف : 4] أي صافين أنفسهم مصدر وقع موقع الحال { كَأَنَّهُم بُنْيَـانٌ مَّرْصُوصٌ } [الصف : 4] لاصق بعض ببعض.
وقيل : أريد به استواء نياتهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رص بعضه إلى بعض وهو حال أيضاً { وَإِذْ } منصوب بـ " اذكر " { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى } [الصف : 5] بجحود الآيات والقذف بما ليس فيّ { وَقَد تَّعْلَمُونَ } [الصف : 5] في موضع الحال أي لم تؤذونني عالمين علماً يقيناً { أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } [الأعراف : 158] وقضية علمكم بذلك توقيري وتعظيمي لا أن تؤذوني { فَلَمَّا زَاغُوا } [الصف : 5] مالوا عن الحق { أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5] من الهداية ، أو لما تركوا أوامره نزع نور الإيمان من قلوبهم ، أو فلما اختاروا الزيع أزاغ الله قلوبهم أي خذلهم وحرمهم توفيق اتباع الحق { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 108] أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق.
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الصف : 6] ولم يقل يا قوم كما قال موسى
369
لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه { إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُا أَحْمَدُ } [الصف : 6] أي أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة وفي حالٍ تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق : التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر { بَعْدِى } حجازي وأبو عمرو وأبو بكر وهو اختيار الخليل وسيبويه.
وانتصب { مُّصَدِّقًا } و { مُبَشِّرًا } بما في الرسول من معنى الإرسال { فَلَمَّا جَآءَهُم } [الزخرف : 47] عيسى أو محمد عليهما السلام { بِالْبَيِّنَـاتِ } بالمعجزات { قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [النمل : 13] { سِحْرٌ } حمزة وعلي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الاسْلَـامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [الصف : 7] وأيّ الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق هذا سحر والسحر كذب وتمويه { يُرِيدُونَ لِيُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } هذا تهكم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه ، والمفعول محذوف واللام للتعليل والتقدير يريدون الكذب ليطفئوا نور الله بأفواههم أي بكلامهم { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف : 8] مكي وحمزة وعلي وحفص { مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف : 8] غيرهم أي متم الحق ومبلغه غايته { وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ } [التوبة : 32].
{ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة : 33] أي الملة الحنيفية { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [الفتح : 28] على جميع الأديان المخالفة له ، ولعمري لقد فعل فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة : 33].
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف : 10] { تُنجِيكُم } شامي
370
(4/198)
{ تُؤْمِنُونَ } استئناف كأنهم قالوا : كيف نعمل؟ فقال : تؤمنون وهو بمعنى آمنوا عند سيبويه ولهذا أجيب بقوله { يَغْفِرْ لَكُمْ } [الصف : 12] ويدل عليه قراءة ابن مسعود { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ } وإنما جيء به على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَالِكُمْ } [الصف : 11] أي ما ذكر من الإيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من أموالكم وأنفسكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] أنه خير لكم كان خيراً حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتفلحون وتخلصون { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ } أي إقامة وخلود يقال : عدن بالمكان إذا أقام به كذا قيل { ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [المائدة : 119].
جزء : 4 رقم الصفحة : 368
{ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } [الصف : 13] ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم.
ثم فسرها بقوله { نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [الصف : 13] أي عاجل وهو فتح مكة والنصر على قريش ، أو فتح فارس والروم.
وفي { تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل.
وقال صاحب الكشف : معناه هل أدلكم على تجارة تنجيكم وعلى تجارة أخرى تحبونها ثم قال { نَصْرٌ } أي هي نصر { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] عطف على { تُؤْمِنُونَ } لأنه في معنى الأمر كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك.
وقيل : عطف على " قل " مراداً قبل { الْمُشْرِكُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكمْ } .
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ } أي أنصار دينه { أَنصَارَ اللَّهِ } حجازي
371
وأبو عمرو { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [الصف : 14] للحواريّن من أنصاري إلى الله ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى { مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ } [آل عمران : 52] ولكنه محمول على المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم { مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ } [آل عمران : 52] ومعناه من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ليطابق جواب الحواريين وهو قوله { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } [آل عمران : 52] أي نحن الذين ينصرون الله.
ومعنى { مَنْ أَنصَارِى } [آل عمران : 52] من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله.
والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلاً ، وحواري الرجل صفيه وخالصه من الحور وهو البياض الخالص.
وقيل : كانوا قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها { فَـاَامَنَت طَّآ ـاِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ } بعيسى { وَكَفَرَت طَّآ ـاِفَةٌ } [الصف : 14] به { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ } [الصف : 14] فقوينا مؤمنيهم على كفارهم { فَأَصْبَحُوا ظَـاهِرِينَ } [الصف : 14] فغلبوا عليهم والله ولي المؤمنين.
372
سورة الجمعة
مدنية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الجمعة : 1] التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله تعالى وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 373(4/199)
الإسراء : 44] (الإسراء : 44) أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفة له بذلك { هُوَ الَّذِى بَعَثَ } [الجمعة : 2] أرسل { فِى الامِّيِّـانَ رَسُولا مِّنْهُمْ } أي بعث رجلاً أمياً في قوم أميين.
وقيل { مِنْهُمْ } كقوله { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [الروم : 21] (التوبة : 821) يعلمون نسبه وأحواله.
والأمي منسوب إلى أمة العرب لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم.
وقيل : بدئت الكتابة بالطائف وهم أخذوها من أهل الحيرة وأهل الحيرة من أهل
373
الأنبار { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ } [آل عمران : 164] القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 164] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } السنة أو الفقه في الدين { وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ } [الروم : 49] من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم { لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [آل عمران : 164] كفر وجهالة ، و " إن " مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها أي كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه.
{ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ } [الجمعة : 3] مجرور معطوف على { الامِّيِّـانَ } يعني أنه بعثه في الأميين الذين على عهده وفي آخرين من الأميين { لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } [الجمعة : 3] أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم ، أو هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم الدين.
وقيل : هم العجم.
أو منصوب معطوف على المنصوب في { وَيُعَلِّمُهُمُ } أي يعلمهم ويعلم آخرين لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوله فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [إبراهيم : 4] في تمكينه رجلاً أمياً من ذلك الأمر العظيم وتأييده عليه واختياره إياه من بين كافة البشر { ذَالِكَ } الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ونبي أبناء العصور الغوابر هو { فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [المائدة : 54] إعطاءه وتقتضيه حكمته { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [آل عمران : 74 ، 75] أي كلفوا علمها والعمل بما فيها { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة : 5] ثم لم يعملوا بها فكأنهم لم يحملوها { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا } [الجمعة : 5] جمع سفر وهو الكتاب الكبير و { يَحْمِلُ } في محل النصب على الحال أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم في قوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 373
ولقد أمر على اللئيم يسبني
شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بآياتها ، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم والبشارة به فلم يؤمنوا به بالحمار حمل كتباً كباراً من
374
كتب العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ، وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [الجمعة : 5] أي بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، أو بئس مثل القوم المكذبين مثلهم وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] أي وقت اختيارهم الظلم أو لا يهدي من سبق في علمه أنه يكون ظالماً.
(4/200)
{ قُلْ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا } [الجمعة : 6] هاد يهود إذا تهود { إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه أي إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه ، ثم قال { وَلا يَتَمَنَّونَهُا أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الجمعة : 7] أي بسبب ما قدموا من الكفر.
ولا فرق بين " لا " و " لن " في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل إلا أن في " لن " تأكيداً وتشديداً ليس في " لا " فأتى مرة بلفظ التأكيد و { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ } ومرة بغير لفظه و { وَلا يَتَمَنَّونَهُ } { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] وعيد لهم { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ } [الجمعة : 8] ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم { فَإِنَّهُ مُلَـاقِيكُمْ } [الجمعة : 8] لا محالة والجملة خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمن الذي معنى الشرط { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة : 94] فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 373
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [الجمعة : 9] النداء الأذان و " من " بيان لـ " إذا " وتفسير له ، ويوم الجمعة سيد الأيام وفي الحديث : " من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر " (1) { فَاسْعَوْا } فامضوا وقرىء بها وقال
375
الفراء : السعي والمضي والذهاب واحد وليس المراد به السرعة في المشي { إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الزمر : 23] أي إلى الخطبة عند الجمهور وبه استدل أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الخطيب إذا اقتصر على الحمد لله جاز { وَذَرُوا الْبَيْعَ } [الجمعة : 9] أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا.
وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال فقيل له بادروا تجارة الآخرة واتركوا تجارة الدنيا واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح ، وذروا البيع الذي نفعه يسير { ذَالِكُمْ } أي السعي إلى ذكر الله { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من البيع والشراء { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ } أي أديت { فَانتَشِرُوا فِى الارْضِ } [الجمعة : 10] أمر إباحة { وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة : 10] الرزق أو طلب العلم أو عيادة المريض أو زيارة أخ في الله { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } [الانفال : 45] واشكروه على ما وفقكم لأداء فرضه { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَـارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا } تفرقوا عنك إليها وتقديره : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضواأليه فحذف احدهما لدلالة المذكور عليه خص التجارة لأنها كانت أهم عندهم.
روي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشأم والنبي صلى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة فقاموا إليه فما بقي معه إلا ثمانية أو اثنا عشر فقال صلى الله عليه وسلّم : والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم عليهم الوادي ناراً.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهو المراد باللهو { وَتَرَكُوكَ } على المنبر { قَآ ـاِمًا } تخطب ، وفيه دليل على أن الخطيب ينبغي أن يخطب قائماً { قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ } [الجمعة : 11] من الثواب { خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَـارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة : 11] أي لا يفوتهم رزق الله بترك البيع فهو خيرالرازقين.
376
سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدينة
بسم الله الرحمن الرحيم(4/201)
{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَـافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [المنافقون : 1] أرادوا شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } [المنافقون : 1] أي والله يعلم أن الأمر كما يدل عليه قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [المنافقون : 1] { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ } [المنافقون : 1] في ادعاء المواطأة أو إنهم لكاذبون فيه لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة فهم كاذبون في تسميته شهادة ، أو إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم { إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [المنافقون : 1] كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه { اتَّخَذُوا أَيْمَـانَهُمْ جُنَّةً } [المجادلة : 16] وقاية من السبي والقتل وفيه دليل على أن أشهد يمين { فَصَدُّوا } الناس
جزء : 4 رقم الصفحة : 377
{ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] عن الإسلام بالتنفير(1) وإلقاء الشبه { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة : 9] من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله.
وفي " ساء " معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين { ذَالِكَ } إشارة إلى قوله { سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة : 9] أي ذلك القول الشاهد
377
عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا } [النساء : 137] أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان أي ذلك كله بسبب أنهم آمنوا أي نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا ، ثم ظهر كفرهم بعد ذلك بقولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ونحو ذلك ، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا } [البقرة : 14] (البقرة : 41) الآية.
{ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [المنافقون : 3] فختم عليها حتى لا يدخلها الإيمان جزاء على نفاقهم { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [التوبة : 87] لا يتدبرون أو لا يعرفون صحة الإيمان.
والخطاب في { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ } [المنافقون : 4] لرسول الله أو لكل من يخاطب { وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [المنافقون : 4] كان ابن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً فصيحاً ، وقوم من المنافقين في مثل صفته ، فكانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم فيستندون فيه ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن ، فكان النبي صلى الله عليه وسلّم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم وموضع.
{ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } [المنافقون : 4] رفع على " هم كأنهم خشب " ، أو هو كلام مستأنف لا محل له { مُّسَنَّدَةٌ } إلى الحائط ، شبهوا في استنادهم ـ وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير ـ بالخشب المسندة إلى الحائط لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبهوا به في عدم الانتفاع ، أو لأنهم أشباح بلا أرواح وأجسام بلا أحلام ، { خُشُبٌ } أبو عمرو غير عباس وعلي جمع خشبة كبدنة وبدون خشب كثمرة وثمر يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم { كُلَّ صَيْحَةٍ } [المنافقون : 4] مفعول أول والمفعول الثاني { عَلَيْهِمْ } وتم الكلام أي يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم لخيفتهم ورعبهم يعني إذا نادى منادٍ في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعاً بهم.
ثم قال { هُمُ الْعَدُوُّ } [المنافقون : 4] أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي { فَاحْذَرْهُمْ } ولا تغترر بظاهرهم { قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ } [التوبة : 30] دعاء
378
عليهم أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المائدة : 75] كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 377
(4/202)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } عطفوها وأمالوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً { لَوَّوْا } بالتخفيف : نافع { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } [المنافقون : 5] يعرضون { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [النحل : 22] عن الاعتذار والاستغفار.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين لقي بني المصطلق على المريسيع ـ وهو ماء لهم ـ وهزمهم وقتلهم ، ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد ـ أجير لعمر ـ وسنان الجهني ـ حليف لابن أبي ـ واقتتلا ، فصرخ جهجاه : يا للمهاجرين ، وسنان : يا للأنصار ، فأعان جهجاهاً جعال ـ من فقراء المهاجرين ـ ولطم سناناً فقال عبد الله لجعال وأنت هناك وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك.
أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، عني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم قال لقومه : والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد.
فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل المبغض في قومك ، ومحمد على رأسه تاج المعراج في عز من الرحمن وقوة من المسلمين.
فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب.
فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عمر رضي الله عنه : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله.
فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب.
قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصارياً.
قال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك وإن زيداً لكاذب فهو قوله { اتَّخَذُوا أَيْمَـانَهُمْ جُنَّةً } [المجادلة : 16] فقال الحاضرون : يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه
379
كلام غلام عسى أن يكون قدوهم.
فلما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد : يا غلام إن الله قد صدقك وكذب المنافقين.
فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستغفر لك فلوى رأسه فقال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت وما بقي لي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزل { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ } [المنافقون : 5] ولم يلبث إلا أياماً حتى اشتكى ومات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 377
{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [المنافقون : 6] أي ما داموا على النفاق.
والمعنى سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم ، أو لأن الله لا يغفر لهم.
وقرىء { أَسْتَغْفَرْتَ } على حذف حرف الاستفهام لأن " أم " المعادلة تدل عليه { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } [المنافقون : 6] يتفرقوا { وَلِلَّهِ خَزَآ ـاِنُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [المنافقون : 7] أي وله الأرزاق والقسم فهو رازقهم منها وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم { وَلَـاكِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ } [المنافقون : 7] ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون لا يفقهون ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 377
{ يَقُولُونَ لَـاـاِن رَّجَعْنَآ } [المنافقون : 8] من غزوة بني المصطلق { إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاعَزُّ مِنْهَا الاذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ } [المنافقون : 8] الغلبة والقوة { وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون : 8] ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.
وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة : ألست على
380
(4/203)
الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه ، والغني الذي لا فقر معه وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً.
قال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية { تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أَمْوَالُكُمْ } والتصرف فيها والسعي في تدبير أمرها بالنماء وطلب النتاج { وَلا أَوْلَـادُكُمْ } [سبأ : 37] وسروركم بهم وشفقتكم عليهم والقيام بمؤنهم { عَن ذِكْرِ اللَّهِ } [النور : 37] أي عن الصلوات الخمس أو عن القرآن { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] يريد الشغل بالدنيا عن الدين.
وقيل : من يشتغل بتثمير أمواله عن تدبير أحواله وبمرضاة أولاده عن إصلاح معاده { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 121] في تجارتهم حيث باعوا الباقي بالفاني.
{ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـاكُم } [المنافقون : 10] " من " للتبعيض والمراد بالإنفاق الواجب { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } [المنافقون : 10] أي من قبل أن يرى دلائل الموت ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويتعذر عليه الإنفاق { فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى } [المنافقون : 10] هلا أخرت موتي { إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } [المنافقون : 10] إلى زمان قليل { فَأَصَّدَّقَ } فأتصدق وهو جواب " لولا " { وَأَكُن مِّنَ الصَّـالِحِينَ } [المنافقون : 10] من المؤمنين.
والآية في المؤمنين.
وقيل : في المنافقين.
و { أَكُونَ } أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ ، والجزم على موضع { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا } [المنافقون : 11] عن الموت { إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون : 11] المكتوب في اللوح المحفوظ { وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [آل عمران : 153] { يَعْمَلُونَ } حماد ويحيى ، والمعنى أنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه ، وأنه هاجم لا محالة ، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره ، لم يبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجب والاستعداد للقاء الله.
381
سورة التغابن
ثماني عشرة آية مختلف فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
التغابن : 1] قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأن الملك على الحقيقة له لأنه مبدىء كل شيء والقائم به ، وكذا الحمد لأن أصول النعم وفروعها منه ، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده { هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } [التغابن : 2] أي فمنكم آتٍ بالكفر وفاعل له ، ومنكم آتٍ بالإيمان وفاعله له ، ويدل عليه { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] أي عالم وبصير بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم.
والمعنى هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم ، وكان يجب أن تكونوا بأجمعكم شاكرين ، فما بالكم تفرقتم أمماً فمنكم كافر ومنكم مؤمن؟ وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم وهو رد لقول من يقول بالمنزلة بين المنزلتين.
وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به.
382(4/204)
{ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ } [إبراهيم : 19] بالحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [التغابن : 3] أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة ثمّ ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد الحسن ، وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما ، الجمال والبيان { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة : 18] فأحسنوا سرائركم كما أحسن صوركم { يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [التغابن : 4] نبه بعلمه ما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه بما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه بذات الصدور أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خافٍ عليه فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه.
وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد وكل ما ذكره بعده قوله { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ } [التغابن : 2] في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالف ولا تشكر نعمته.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } [الزمر : 71] الخطاب لكفار مكة { نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ } [التغابن : 5] يعني قوم نوح وهود وصالح ولوط { فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } [التغابن : 5] أي ذاقوا وبال كفرهم في الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] في العقبى.
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة { بِأَنَّهُ } بأن الشأن والحديث { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ } [التغابن : 6] بالمعجزات { فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [التغابن : 6] أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر { فَكَفَرُوا } بالرسل { وَتَوَلَّوا } عن الإيمان { وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ } [التغابن : 6] أطلق ليتناول كل شيء ومن جملته أيمانهم وطاعتهم { وَاللَّهُ غَنِىٌّ } [البقرة : 263] عن خلقه { حَمِيدٌ } على صنعه.
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [التغابن : 7] أي أهل مكة ، والزعم ادعاء العلم ويتعدى تعدي العلم
383
{ أَن لَّن يُبْعَثُوا } [التغابن : 7] " أن " مع ما في حيزه قائم مقام المفعولين وتقديره أنهم لن يبعثوا { قُلْ بَلَى } [سبأ : 3] هو إثبات لما بعد " لن " وهو البعث { وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ } [التغابن : 7] أكد الإخبار باليمين.
فإن قلت : ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلت : هو جائز لأن التهديد به أعظم موقعاً في القلب فكأنه قيل لهم : ما تنكرونه كائن لا محالة.
{ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَالِكَ } [التغابن : 7] البعث { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] هين { قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ } [الأعراف : 158] محمد صلى الله عليه وسلّم { وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا } [التغابن : 8] يعني القرآن لأنه يبين حقيقة كل شيء فيهتدي به كما بالنور
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
(4/205)
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] فراقبوا أموركم { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } [التغابن : 9] انتصب الظرف بقوله { لَتُنَبَّؤُنَّ } أو بإضمار " اذكر " { لِيَوْمِ الْجَمْعِ } [التغابن : 9] ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون { ذَالِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } [التغابن : 9] وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء ، كما ورد في الحديث ، ومعنى ذلك يوم التغابن.
وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـالِحًا } [التغابن : 9] صفة للمصدر أي عملاً صالحاً { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـاَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ } [التغابن : 9] وبالنون فيهما : مدني وشامي { جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التغابن : 9].
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَلِقَآى ِ الاخِرَةِ فَأُوالَـائكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } .
{ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } [التغابن : 11] شدة ومرض وموت أهل أو شيء يقتضي همًّا { إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [غافر : 78] بعلمه وتقديره ومشيئته كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه
384
{ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [التغابن : 11] للاسترجاع عند المصيبة حتى يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون.
أو يشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، أو يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وعن مجاهد : إن ابتلي صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [التغابن : 12] أي فعليه التبليغ وقد فعل { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التغابن : 13] بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على التوكيل عليه حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَـادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ } [التغابن : 14] أي إن من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقّونهم { فَاحْذَرُوهُمْ } الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعاً أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عدوّ فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وَإِن تَعْفُوا } [البقرة : 237] عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها { وَتَصْفَحُوا } تعرضوا عن التوبيخ { وَتَغْفِرُوا } تستروا ذنوبهم { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 192] يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم.
قيل : إن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا.
فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فزين لهم العفو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 382
{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن : 15] بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما { وَاللَّهُ عِندَهُا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن : 15] أي في الآخرة وذلك أعظم
385
(4/206)
من منفعتكم بأموالكم وأولادكم.
ولم يدخل فيه " من " كما في العداوة لأن الكل لا يخلو عن الفتنة وشغل القلب وقد يخلو بعضهم عن العداوة { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن : 16] جهدكم ووسعكم ، قيل : هو تفسير لقوله { حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران : 102] (آل عمران : 201) { وَاسْمَعُوا } ما توعظون به { وَأَطِيعُوا } فيما تؤمرون به وتنهون عنه { وَأَنفِقُوا } في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها { خَيْرًا لانفُسِكُمْ } [التغابن : 16] أي انفاقاً خيراً لأنفسكم.
وقال الكسائي : يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم والأصح أن تقديره ائتوا خيراً لأنفسكم وافعلوا ما هو خير لها ، وهو تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان ، لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [الحشر : 9] أي البخل بالزكاة والصدقة الواجبة { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } بنية وإخلاص ، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء { يُضَـاعِفْهُ لَكُمْ } [التغابن : 17] يكتب لكم بالواحدة عشراً أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ } [التغابن : 17] يقبل القليل ويعطي الجزيل { حَلِيمٌ } يقيل الجليل من ذنب البخيل أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها { عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] أي يعلم ما استتر من سرائر القلوب { وَالشَّهَـادَةِ } أي ما انتشر من ظواهر الخطوب { الْعَزِيزُ } المعز بإظهار العيوب { الْحَكِيمُ } في الإخبار عن الغيوب.
386
سورة الطلاق
مدنية وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَـاأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [الطلاق : 1] خص النبي صلى الله عليه وسلّم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كذا إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه وأنه قدوة قومه ، فكان هو وحده في حكم كلهم وسادّاً مسد جميعهم.
وقيل : التقدير يا أيها النبي والمؤمنون.
ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [الطلاق : 1] إذا أردتم تطليقهن وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه كقوله عليه السلام " من قتل قتيلاً فله سلبه " (1) ومنه : كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي.
{ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق : 1] فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم { مِن قَبْلُ } وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها ، والمراد أن تطلق المدخول بهن من المعتدات بالحيض في طهر لم يجامعهن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهذا أحسن الطلاق { لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } [الطلاق : 1] واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات
387
كوامل لا نقصان فيهن ، وخوطب الأزواج لغفلة النساء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 387(4/207)
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ } [الطلاق : 1] حتى تنقضي عدتهن { مِن بُيُوتِهِنَّ } [الطلاق : 1] من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة وهي بيوت الأزواج ، وأضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى ، وفيه دليل على أن السكنى واجبة ، وأن الحنث بدخول دار يسكنها فلان بغير ملك ثابت فيما إذا حلف لا يدخل داره.
ومعنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك إيذاناً بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر { وَلا يَخْرُجْنَ } [الطلاق : 1] بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَـاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [النساء : 19] قيل : هي الزنا أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن.
وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [المجادلة : 4] أي الأحكام المذكورة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُا لا تَدْرِى } أيها المخاطب { لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَالِكَ أَمْرًا } [الطلاق : 1] بأن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها ، والمعنى فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة ولا تخرجوهن من بيوتهن لعلكم تندمون فتراجعون.
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [الطلاق : 2] قاربن آخر العدة { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [الطلاق : 2] أي فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها { وَأَشْهِدُوا } يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً ، وهذا الإشهاد مندوب إليه لئلا يقع بينهما التجاحد { ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [الطلاق : 2] من المسلمين { وَأَقِيمُوا الشَّهَـادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق : 2] لوجهه خالصاً وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر { ذَلِكُمْ } الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [الطلاق : 2] أي إنما ينتفع به هؤلاء { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } [الطلاق : 2] هذه جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، والمعنى ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار
388
المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا } مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ويعطه الخلاص.
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [الطلاق : 3] من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه ، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } [الطلاق : 2].
أي ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قرأها فقال : مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة.
(4/208)
وقال صلى الله عليه وسلّم : " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله " .
فما زال يقرؤها ويعيدها ، وروي أن عوف بن مالك أسر المشركون ابناً له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان ذلك ، فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها فنزلت هذه الآية { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } يكل أمره إليه عن طمع غيره وتدبير نفسه { فَهُوَ حَسْبُهُا } [الطلاق : 3] كافيه في الدارين { إِنَّ اللَّهَ بَـالِغُ أَمْرِهِ } [الطلاق : 3] حفص أي منفذ أمره ، غيره { بَـالِغُ أَمْرِهِ } [الطلاق : 3] أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا } [الطلاق : 3] تقديراً وتوقيتاً ، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله وتفويض الأمر إليه ، لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
{ وَالَّـاـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآ ـاِكُمْ } روي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة
389
ذوات الإقراء فما عدة اللائي لم يحضن؟ فنزلت { إِنِ ارْتَبْتُمْ } [الطلاق : 4] أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ } أي فهذا حكمهن.
وقيل : إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس ، وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن ثلاثة أشهر ، وإذا كانت عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك { وَالَّـاـاِى لَمْ يَحِضْنَ } هن الصغائر وتقديره واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر فحذفت الجملة لدلالة المذكور عليها { وَأُوْلَـاتُ الاحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } [الطلاق : 4] عدتهن { أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق : 4] والنص يتناول المطلقات والمتوفي عنهم أزواجهن.
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم : عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق : 4] ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى { ذَالِكَ أَمْرُ اللَّهِ } [الطلاق : 5] أي ما علم من حكم هؤلاء المعتدات { أَنزَلَهُا إِلَيْكُمْ } [الطلاق : 5] من اللوح المحفوظ { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } [الطلاق : 2] في العمل بما أنزله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّـاَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُا أَجْرًا } [الطلاق : 5] ثم بين التقوى في قوله { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } [الطلاق : 2] كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل { أَسْكِنُوهُنَّ } وكذا وكذا { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } [الطلاق : 6] هي " من " التبعيضية مبعضها محذوف أي أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم { مِّن وُجْدِكُمْ } [الطلاق : 6] هو عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } [الطلاق : 6] وتفسير له كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه والوجد : الوسع والطاقة.
وقرىء بالحركات الثلاث والمشهور الضم.
والنفقة والسكنى واجبتان لكل مطلقة ، وعند مالك والشافعي لا نفقة للمبتوتة لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أبت طلاقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا سكنى لك ولا نفقة.
وعن عمر رضي الله عنه : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلّم يقول لها السكنى والنفقة
390
{ وَلا تُضَآرُّوهُنَّ } [الطلاق : 6] ولا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } [الطلاق : 6] في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن أو يشغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج.
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
(4/209)
{ وَإِن كُنَّ } [الطلاق : 6] أي المطلقات { أُوْلَـاتِ حَمْلٍ } [الطلاق : 6] ذوات أحمال { فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق : 6] وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفي ذلك الوهم { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } [الطلاق : 6] يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من ظئرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية { وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ } [النساء : 24] فحكمهن في ذلك حكم الأظآر ، ولا يجوز الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن خلافاً للشافعي رحمه الله { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم } [الطلاق : 6] أي تشاوروا على التراضي في الأجرة ، أو ليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات { بِمَعْرُوفٍ } بما يليق بالسنة ويحسن في المروءة فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } [الطلاق : 6] تضايقتم فلم ترض الأم بما ترضع به الأجنبية ولم يزد الأب على ذلك { فَسَتُرْضِعُ لَهُا أُخْرَى } [الطلاق : 6] فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه ، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة.
وقوله { لَهُ } أي للأب أي سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 387
{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ } [الطلاق : 7] أي لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، ومعنى { قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق : 7] ضيق أي رزقه الله على قدر قوته { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَآ ءَاتَـاـاهَا } أعطاها من الرزق { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [الطلاق : 7] بعد ضيق في المعيشة سعة وهذا وعد لذي العسر باليسر.
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [الحج : 48] من أهل قرية { عَتَتْ } أي عصت { عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } [الطلاق : 8] أعرضت عنه على وجه العتو والعناد { فَحَاسَبْنَـاهَا حِسَابًا شَدِيدًا } [الطلاق : 8] بالاستقصاء والمناقشة { وَعَذَّبْنَـاـاهَا عَذَابًا نُّكْرًا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 391
الطلاق : 8] { نُّكْرًا } مدني وأبو بكر منكراً عظيماً { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا } [الطلاق : 9] أي خساراً وهلاكاً ، والمراد حساب
391
الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر.
وجيء به على لفظ الماضي لأن المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة وما هو كائن فكأن قد { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } [المجادلة : 15] تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَـاأُوْلِى الالْبَـابِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [الطلاق : 10] فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه ، ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا وإثباتها في صحائف الحفظة وما أصيبوا به من العذاب في العاجل ، وأن يكون { عَتَتْ } وما عطف عليه صفة للقرية و { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة : 89] جواباً لـ { ءَامَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } [الطلاق : 10] أي القرآن.
انتصب.
{ رَّسُولا } بفعل مضمر تقديره أرسل رسولاً أو بدل من { ذِكْرًا } كأنه في نفسه ذكراً وعلى تقدير حذف المضاف أي قد أنزل الله إليكم ذا ذكر رسولاً ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف : 44] (الزخرف : 44) أي ذا شرف ومجد عند الله وبالرسول جبريل أو محمد عليهما السلام { يَتْلُوا } أي الرسول أو الله عز وجل { عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَـاتٍ لِّيُخْرِجَ } [الطلاق : 11] الله.
(4/210)
{ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 25] أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح ، أو ليخرج الذين علم أنهم يؤمنون { مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] من ظلمات الكفر أو الجهل إلى نور الإيمان أو العلم { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَـالِحًا يُدْخِلْهُ } [الطلاق : 11] وبالنون : مدني وشامي { جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } وحد وجمع حملاً على لفظ " من " ومعناه { قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا } [الطلاق : 11] فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب { اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ } [الطلاق : 12] مبتدأ وخبر { سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [نوح : 15] أجمع المفسرون على أن
392
السماوات سبع { وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق : 12] بالنصب عطفاً على { سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [البقرة : 29] قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية ، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السماوات.
وقيل : الأرض واحدة إلا أن الأقاليم سبعة { يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق : 12] أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه ينفذ فيهن { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الطلاق : 12] اللام يتعلق بـ { خَلَقَ } { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا } [الطلاق : 12] هو تمييز أو مصدر من غير لفظ الأول أي قد علم كل شيء علماً وهو علام الغيوب.
393
سورة التحريم
مدنية وهي اثنتا عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } [التحريم : 1] روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلا بمارية في يوم عائشة رضي الله عنها وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي ، فأخبرت به عائشة وكانتا مصادقتين.
وقيل خلابها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة.
روي أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة وقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان يكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم التفل فحرم العسل ، فمعناه لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل
394
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
{ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } تفسير لـ { تُحَرِّمُ } أو حال أو استئناف وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله { وَاللَّهُ غَفُورٌ } [البقرة : 225] قد غفر لك ما زللت فيه { رَّحِيمٌ } قد رحمك فلم يؤاخذك به { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـانِكُمْ } [التحريم : 2] قد قدر الله لكم ما تحللون به أيمانكم وهي الكفارة ، أو قد شرع لكم تحليلها بالكفارة ، أو شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول " إن شاء الله " عقيبها حتى لا يحنث ، وتحريم الحلال يمين عندنا.
وعن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعتق رقبة في تحريم مارية.
وعن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفوراً له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين { وَاللَّهُ مَوْلَـاـاكُمْ } [التحريم : 2] سيدكم ومتولي أموركم.
وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم أنفسكم { وَهُوَ الْعَلِيمُ } [التحريم : 2] بما يصلحكم فيشرعه لكم { الْحَكِيمُ } فيما أحل وحرم.(4/211)
{ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ } [التحريم : 3] يعني حفصة { حَدِيثًا } حديث مارية وإمامة الشيخين { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } [التحريم : 3] أفشته إلى عائشة رضي الله عنها { وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ } [التحريم : 3] وأطلع النبي صلى الله عليه وسلّم على إفشائها الحديث على لسان جبريل عليه السلام { عَرَّفَ بَعْضَهُ } [التحريم : 3] أعلم ببعض الحديث { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } [التحريم : 3] فلم يخبر به تكرماً.
قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام { عَرَّفَ } بالتخفيف : عليّ أي جازى عليه من قولك للمسيء لأعرفن لك ذلك.
وقيل : المعروف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية.
وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } [التحريم : 3] نبأ النبي حفصة بما أفشت من السر إلى عائشة { قَالَتْ } حفصة للنبي صلى الله عليه وسلّم { مَنْ أَنابَأَكَ هَـاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ } [التحريم : 3] بالسرائر { الْخَبِيرُ } بالضمائر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
{ إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ } [التحريم : 4] خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ
395
في معاتبتهما ، وجواب الشرط محذوف والتقدير : إن تتوبا إلى الله فهو الواجب ودل على المحذوف { فَقَدْ صَغَتْ } [التحريم : 4] مالت { قُلُوبُكُمَا } عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلّم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه { وَإِن تَظَـاهَرَا عَلَيْهِ } [التحريم : 4] بالتخفيف : كوفي وإن تعاونا عليه بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـاـاهُ } [التحريم : 4] وليه وناصره.
وزيادة { هُوَ } إيذان بأنه يتولى ذلك بذاته { وَجِبْرِيلُ } أيضاً وليه { وَصَـالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [التحريم : 4] ومن صلح من المؤمنين أي كل من آمن وعمل صالحاً.
وقيل : من بريء من النفاق.
وقيل : الصحابة.
وقيل : واحد أريد به الجمع كقولك لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد الجنس.
وقيل : أصله صالحو المؤمنين فحذفت الواو من الخط موافقة للفظ { وَالْمَلَـائكَةُ } على تكاثر عددهم { بَعْدَ ذَالِكَ } [الطلاق : 1] بعد نصرة الله وجبريل وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٌ } فوج مظاهر له فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه ، ولما كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله قال بعد ذلك تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
{ عَسَى رَبُّهُا إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ } [التحريم : 5] { يُبْدِلَهُ } مدني وأبو عمرو فالتشديد للكثرة { أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ } [التحريم : 5] فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن { مُسْلِمَـاتٍ مُّؤْمِنَـاتٍ } [التحريم : 5] مقرات مخلصات { قَـانِتَـاتٍ } مطيعات ، فالقنوت هو القيام بطاعة الله وطاعة الله في طاعة رسوله { تَـائبَـاتٍ } من الذنوب أو راجعات إلى الله وإلى أمر رسوله { عَـابِدَاتٍ } لله { سَـائحَـاتٍ } مهاجرات أو صائمات.
وقيل : للصائم سائح لأن السائح لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره { ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا } [التحريم : 5] إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار دون سائر الصفات لأنهما صفتان متنافيتان بخلاف سائر الصفات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ } [التحريم : 6] بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم : 6] نوعاً من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة كما يتقد غيرها من النيران بالحطب
396
(4/212)
{ عَلَيْهَا } يلي أمرها وتعذيب أهلها { مَلَـائكَةٌ } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاظٌ شِدَادٌ } [التحريم : 6] في أجرامهم غلظة وشدة أو غلاظ الأقوال شداد الأفعال { لا يَعْصُونَ اللَّهَ } [التحريم : 6] في موضع الرفع على النعت { مَآ أَمَرَهُمْ } [التحريم : 6] في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره كقوله { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [طه : 93] (طه : 39) أو لا يعصونه فيما أمرهم { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل : 50] وليست الجملتان في معنى واحد ، إذ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ، ومعنى الثانية أنهم يؤدون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [التحريم : 7] في الدنيا أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا لأنه لا عذر لكم ، أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار.
{ تَعْمَلُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا } صادقة عن الأخفش رحمه الله.
وقيل : خالصة.
يقال : عسل ناصح إذا خلص من الشمع.
وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك ، ويجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها ، وبضم النون : حماد ويحيى وهو مصدر أي ذات نصوح أو تنصح نصوحاً وجاء مرفوعاً " إن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع " وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي الاستغفار باللسان والندم بالجنان والإقلاع بالإركان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ } [التحريم : 8] هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة بـ " عسى " و " لعل " ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } [الصف : 12] ونصب { يَوْمَ } بيدخلكم
397
{ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ } فيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر { نُورُهُمْ } مبتدأ { يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِمْ } [التحريم : 8] في موضع الخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم : 8] يقولون ذلك إذا انطفأ نور المنافقين { الْكُفَّارَ } بالسيف { وَالْمُنَـافِقِينَ } بالقول الغليظ والوعد البليغ.
وقيل : بإقامة الحدود عليهم { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 73] على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة باللسان { وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [التوبة : 73].
جزء : 4 رقم الصفحة : 394
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شيئا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } [التحريم : 10] مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين بلا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من النسب والمصاهرة وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبياً بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين بإفشاء أسرارهما ، فلم يغن الرسولان عنهما أي عن المرأتين بحق ما بينهما وبينهما من الزواج اغناء ما من عذاب الله.
وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة : ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.
(4/213)
{ فِرْعَوْنَ } هي آسية بنت مزاحم آمنت بموسى فعذبها فرعون بالأوتاد الأربعة { إِذْ قَالَتْ } [آل عمران : 35] وهي تعذب { رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتًا فِى الْجَنَّةِ } [التحريم : 11] فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان فعبرت عنها بقولها عندك { وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } [التحريم : 11] أي من عمل فرعون أو من نفس فرعون الخبيثة وخصوصاً من عمله وهو الكفر والظلم والتعذيب بغير جرم { وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [التحريم : 11] من القبط كلهم ، وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين
398
{ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } من الرجال { فَنَفَخْنَا } فنفخ جبريل بأمرنا { فِيهِ } في الفرج { مِن رُّوحِنَا } [الأنبياء : 91] المخلوقة لنا { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـاتِ رَبِّهَا } [التحريم : 12] أي بصحفه التي أنزلها على إدريس وغيره { وَكُتُبِهِ } بصري وحفص ، يعني الكتب الأربعة { وَكَانَتْ مِنَ الْقَـانِتِينَ } [التحريم : 12] لما كان القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين غلب ذكوره على إناثه.
و " من " للتبعيض ، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين لأنها من أعقاب هارون أخ موسى عليهما السلام.
ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كونها زوجة أعدى أعداء الله ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة ، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفاراً.
وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه ، وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين وأن لا يتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
399
سورة الملك
مكية وهي ثلاثون آية نزلت بعد الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَـارَكَ } تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين { الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك : 1] أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
{ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [سبأ : 47] من المقدورات أو من الإنعام والانتقام { قَدِيرٌ } قادر على الكمال { الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ } [الملك : 2] خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله { وَالْحَيَواةَ } أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده ، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه ، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا
400
طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم { أَيُّكُمْ } مبتدأ وخبره { أَحْسَنُ عَمَلا } [الكهف : 7] أي أخلصه وأصوبه ، فالخالص أن يكون لوجه الله ، والصواب أن يكون على السنة.
والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل ، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لا بد منه.
وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم.
ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف ، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الْغَفُورُ } الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل.(4/214)
{ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا } [الملك : 3] مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر ، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقاً.
وقيل : جمع طبق كجمال وجمال.
والخطاب في { مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـانِ } [الملك : 3] للرسول أو لكل مخاطب { مِن تَفَـاوُتٍ } [الملك : 3] { تَفَـاوُتٍ } حمزة وعلي.
ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب.
وعن السدي : من عيب.
وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه ، وهذه الجملة صفة لـ { طِبَاقًا } وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت ، فوضع { خَلْقِ الرَّحْمَـانِ } [الملك : 3] موضع الضمير تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت ، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب { فَارْجِعِ الْبَصَرَ } [الملك : 3] رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه { هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } [الملك : 3] صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق { ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك : 4] كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى.
وقيل : سوى الأولى فتكون ثلاث مرات.
وقيل : لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خللاً أو عيباً.
وجواب الأمر { يَنقَلِبْ } يرجع { إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا } [الملك : 4] ذليلاً أو بعيداً مما تريد وهو حال من البصر
401
{ وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك : 4] كليل معي ولم ير فيها خللاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا } [الملك : 5] القربى أي السماء الدنيا منكم { بِمَصَـابِيحَ } بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإيقاد المصابيح.
فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة { وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } [الملك : 5] أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات ، قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به.
والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به.
ومعنى كونها رجوماً للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله ، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } [الملك : 5] للشياطين { عَذَابَ السَّعِيرِ } [الحج : 4] في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ } [الملك : 6] ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم { عَذَابُ جَهَنَّمَ } [الفرقان : 65] ليس الشياطين المرجومون مخصوصون بذلك { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 126] المرجع جهنم { إِذَآ أُلْقُوا فِيهَا } [الملك : 7] طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُوا لَهَا } [الفرقان : 12] لجهنم { شَهِيقًا } صوتاً منكراً كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق { وَهِىَ تَفُورُ } [الملك : 7] تغلي بهم غليان المرجل بما فيه { تَكَادُ تَمَيَّزُ } [الملك : 8] أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق { مِنَ الْغَيْظِ } [آل عمران : 119] على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
{ كُلَّمَآ أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ } [الملك : 8] جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } [الملك : 8] مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } [الملك : 8] رسول يخوفكم من هذا العذاب
402
(4/215)
{ قَالُوا بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } [الملك : 9] اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم يبعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه { فَكَذَّبْنَا } أي فكذبناهم { وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ } [الملك : 9] مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك { إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ كَبِيرٍ } [الملك : 9] أي قال الكفار للمنذرين : ما أنتم إلا في خطأ عظيم.
فالنذير بمعنى الإنذار.
ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً ، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك ، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان ، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } [الملك : 10] الإنذار سماع طالب الحق { أَوْ نَعْقِلُ } [الملك : 10] أي نعقله عقل متأمل { مَا كُنَّا فِى أَصْحَـابِ السَّعِيرِ } [الملك : 10] في جملة أهل النار ، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان { فَاعْتَرَفُوا بِذَنابِهِمْ } [الملك : 11] بكفرهم في تكذيبهم الرسل { فَسُحْقًا لِّأَصْحَـابِ السَّعِيرِ } [الملك : 11] وبضم الحاء : يزيد وعلي ، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته ـ اعترفوا أو جحدوا ـ فإن ذلك لا ينفعهم.
وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ } [الملك : 12] قبل معاينة العذاب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [المائدة : 9] للذنوب { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [هود : 11] أي الجنة { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } [الملك : 13] ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار ، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما.
روي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم : أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت.
ثم علله بقوله { إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به؟.
403
{ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [الملك : 14] " من " في موضع رفع بأنه فاعل { يَعْلَمُ } { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام : 103] أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء ، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد.
وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب : { مِنَ } مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
{ هُوَ } الله { الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ ذَلُولا } [الملك : 15] لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها { فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا } [الملك : 15] جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها { وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ } [الملك : 15] أي من رزق الله فيها { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك : 15] أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم { ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ } أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال : أأمنتم خالق السماء وملكه ، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء ، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارْضَ } [الملك : 16] كما خسف بقارون { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } [الملك : 16] تضطرب وتتحرك { أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } [الملك : 17] حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا { أَن يَخْسِفَ } [النحل : 45] { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك : 17] أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الملك : 18] من قبل قومك { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج : 44] أي
404
(4/216)
إنكاري عليهم إذ أهلكتهم.
ثم نبه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ } [الملك : 19] جمع طائر { فَوْقَهُمْ } في الهواء { صَـافَّـاتٍ } باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن { وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
و معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى أي يصففن ويقبضن ، أو صافات وقابضات.
واختيار هذا التركيب باعتبار أن أصل الطيران هو صف الأجنحة ، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والهواء للطائر كالماء للسابح.
والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارىء بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح { السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ } [النحل : 79] عن الوقوع عند القبض والبسط { إِلا الرَّحْمَـانُ } [الملك : 19] بقدرته وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو ، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك و { مَا يُمْسِكُهُنَّ } [النحل : 79] مستأنف وإن جعل حالاً من الضمير في يجوز { الرَّحْمَـانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْء بَصِيرٌ } [الملك : 19] يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 400
{ مِنَ } مبتدأ خبره { هَـاذَا } ويبدل من { هَـاذَا } { الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } [الملك : 20] ومحل { يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـانِ } [الملك : 20] رفع نعت لـ { جُندٌ } محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى { إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ } [الملك : 20] أي ما هم إلا في غرور { أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [الملك : 21] أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق.
فلما لم يتعظوا أضرب عنهم فقال { بَل لَّجُّوا } [الملك : 21] تمادوا { فِى عُتُوٍّ } [الملك : 21] استكبار عن الحق
جزء : 4 رقم الصفحة : 405
{ وَنُفُورٍ } وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه.
ثم ضرب مثلاً للكافر والمؤمنين فقال
405
{ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ } [الملك : 22] أي ساقطاً على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفاً وخبر من { أَهْدَى } أرشد.
فأكب مطاوع كبه يقال : كببته فأكب { أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا } [الملك : 22] مستوياً منتصباً سالماً من العثور والخرور { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام : 39] على طريق مستوٍ.
وخبر { مِنَ } محذوف لدلالة { أَهْدَى } عليه ، وعن الكلي : عني بالمكب أو جهل ، وبالسوي النبي عليه السلام { قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ } [الملك : 23] خلقكم ابتداء { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } [النحل : 78] خصها لأنها آلات العلم { قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف : 10] هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة ، والمعنى تشكرون شكراً قليلاً و " ما " زائدة.
وقيل : القلة عبارة عن العدم { قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ } [الملك : 24] خلقكم { فِى الارْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المؤمنون : 79] للحساب والجزاء { وَيَقُولُونَ } أي الكافرون للمؤمنين استهزاء { مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [يونس : 48] الذي تعدوننا به يعني العذاب { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في كونه فأعلمونا زمانه.
{ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ } [الملك : 26] أي علم وقت العذاب { عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ } [العنكبوت : 50] مخوّف { مُّبِينٌ } أبين لكم الشرائع { فَلَمَّا رَأَوْهُ } [الملك : 27] أي الوعد يعني العذاب الموعود { زُلْفَةً } قريباً منهم وانتصابها على الحال { سِيائَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الملك : 27] أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القترة والسواد { وَقِيلَ هَـاذَا الَّذِى } [الملك : 27] القائلون الزبانية { كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } [الملك : 27] تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا ، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب { تَدَّعُونَ } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 405
(4/217)
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ } أي أماتني الله كقوله { إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ } [النساء : 176] (النساء : 671)
406
{ وَمَن مَّعِىَ } [الملك : 28] من أصحابي { أَوْ رَحِمَنَا } [الملك : 28] أو أخر في آجالنا { فَمَن يُجِيرُ } [الملك : 28] ينجي { الْكَـافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الملك : 28] مؤلم.
كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم متربصون لإحدى الحسنيين ، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون من مجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار لا بد لكم منه { قُلْ هُوَ الرَّحْمَـانُ } [الملك : 29] أي الذي أدعوكم إليه الرحمن { ءَامَنَّا بِهِ } [القصص : 53] صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك : 29] فوضنا إليه أمورنا { فَسَتَعْلَمُونَ } إذا نزل بكم العذاب وبالياء : علي { مَنْ هُوَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [الملك : 29] نحن أم أنتم { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْرًا } [الملك : 30] غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل { فَمَن يَأْتِيكُم بِمَآءٍ مَّعِين } [الملك : 30] جارٍ يصل إليه من أراده.
وتليت عند ملحد فقال : يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي.
وقيل : إنه محمد بن زكريا المتطبب زادنا الله بصيرة.
407
سورة القلم
مكية وهي اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ } الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم.
وأما قول الحسن : إنه الدواة ، وقول ابن عباس : إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت ، فمشكل لأنه لا بد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم ، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم { وَالْقَلَمِ } أي ما كتب به اللوح ، أو قلم الملائكة ، أو الذي يكتب به الناس ، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف { وَمَا يَسْطُرُونَ } [القلم : 1] أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب.
و " ما " موصولة أو مصدرية ، وجواب القسم { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } [القلم : 2] أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها فـ { أَنتَ } اسم " ما " وخبرها { بِمَجْنُونٍ } و { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } [الطور : 29] اعتراض بين الاسم والخبر ، والباء في { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } [الطور : 29] تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها { بِمَجْنُونٍ } وتقديره : ما أنت بمجون منعماً عليك بذلك.
ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم { وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } (الحجر : 6) { وَإِنَّ لَكَ } [القلم : 3] على احتمال ذلك والصبر عليه { لاجْرًا } لثواباً { غَيْرَ مَمْنُونٍ } [فصلت : 8]
408
غير مقطوع أو غير ممنون عليك به { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم : 4] قيل : هو ما أمره الله تعالى به في قوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ } [الأعراف : 199] (الأعراف : 991).
وقالت عائشة رضي الله عنها : كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق.
وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 408(4/218)
{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } [القلم : 5] أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم { بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون ، والباء مزيدة ، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون.
وقال الزجاج : الباء بمعنى " في " تقول : كنت ببلد كذا أي في بلد كذا ، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون : فريق الإسلام أو فريق الكفر؟ { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } [النحل : 125] أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [الأنعام : 117] أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون { فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } [القلم : 8] تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ } [القلم : 9] لو تلين لهم { فَيُدْهِنُونَ } فيلينون لك.
ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر ، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
{ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ } [القلم : 10] كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف { مَّهِينٍ } حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة ، أو كذاب لأنه حقير عند الناس
409
{ هَمَّازٍ } عياب طعان مغتاب { مَّشَّآء بِنَمِيمٍ } [القلم : 11] نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم ، والنميم والنميمة : السعاية { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } [القلم : 12] بخيل ، والخير : المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام ، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة : من أسلم منكم منعته رفدي { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حده { أَثِيمٍ } كثير الآثام { عُتُلٍ } غليظ جاف { بَعْدَ ذَالِكَ } [الطلاق : 1] بعدما عد له من المثالب { زَنِيمٍ } دعي.
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده.
وقيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، والنطفة إذا خبث الناشىء منها.
روي أنه دخل على أمه وقال : إن محمداً وصفني بعشر صفات ، وجدت تسعاً فيّ ، فأما الزنيم فلا علم لي به ، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك.
فقالت : إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 408
{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ } [القلم : 14] متعلق بقوله { وَلا تُطِعْ } [الأحزاب : 1] أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا ، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال { وَبَنِينَ } كذب بآياتنا يدل عليه { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا } [القلم : 15] أي القرآن { قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [القلم : 15] ولا يعمل فيه { قَالَ } لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله.
{ أَاـاِن } حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ { أَاـاِن } شامي ويزيد ويعقوب وسهل.
قالوا : لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلّم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً ، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعشرة ، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً { سَنَسِمُهُ } سنكويه { عَلَى الْخُرْطُومِ } [القلم : 16] على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به ، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع.
وقيل : خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه.
410
(4/219)
{ إِنَّا بَلَوْنَـاهُمْ } [القلم : 17] امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلّم حيث قال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف " .
{ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ } [القلم : 17] هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية ـ يقال لها ضروان ـ وكانت على فرسخين من صنعاء ، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء.
فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم.
وقال الحسن : كانوا كفاراً.
والجمهور على الأول { إِذْ أَقْسَمُوا } [القلم : 17] حلفوا { لَيَصْرِمُنَّهَا } ليقطعن ثمرها { مُصْبِحِينَ } داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء ، حال من فاعل { لَيَصْرِمُنَّهَا } { وَلا يَسْتَثْنُونَ } [القلم : 18] ولا يقولون إن شاء الله.
وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك " لأخرجن إن شاء الله " و " لا أخرج إلا أن يشاء الله " واحد { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآ ـاِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [القلم : 19] نزل عليها بلاء.
قيل : أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها { وَهُمْ نَآ ـاِمُونَ } [الأعراف : 97] أي في حال نومهم { فَأَصْبَحَتْ } فصارت الجنة { كَالصَّرِيمِ } كالليل المظلم أي احترقت فاسودت ، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر.
وقيل : كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 408
{ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } [القلم : 21] نادى بعضهم بعضاً عند الصباح { أَنِ اغْدُوا } [القلم : 22] باكروا { عَلَى حَرْثِكُمْ } [القلم : 22] ولم يقل " إلى حرثكم " لأن الغدوّ إليه
411
ليصرموه كان غدوّاً عليه أو ضمن الغدوّ معنى الإقبال أي فأقبلوا على حرثكم باكرين { إِن كُنتُمْ صَـارِمِينَ } [القلم : 22] مريدين صرامه { فَانطَلَقُوا } ذهبوا { وَهُمْ يَتَخَـافَتُونَ } [القلم : 23] يتسارّون فيما بينهم لئلا يسمعوا المساكين { أَن لا يَدْخُلَنَّهَا } [القلم : 24] أي الجنة و " إن " مفسرة وقرىء بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها { الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ } [القلم : 24] والنهي عن دخول المساكين.
نهى عن التمكين أي لا تمكنوه من الدخول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 411
{ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } [القلم : 25] على جد في المنع { قَـادِرِينَ } عند أنفسكم على المنع كذا عن نفطويه ، أو الحرد القصد والسرعة أي وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وزي منفعتها عن منفعتها عن المساكين ، أو هو علم للجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم.
{ فَلَمَّا رَأَوْهَا } [القلم : 26] أي جنتهم محترقة { قَالُوا } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَآلُّونَ } [القلم : 26] أي ضللنا جنتنا وما هي بها لما رأوا من هلاكها ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [الواقعة : 67] حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [القلم : 28] أعدلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ } [القلم : 28] هلا تستثنون إذ الاستثناء التسبيح لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأن الاستثناء تفويض إليه والتسبيح تنزيه له ، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم.
أو لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم كان أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة فعصوه فعيرهم ولهذا { قَالُوا سُبْحَـانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ } [القلم : 29] فتكلموا بعد خراب البصرة بما كان يدعوهم إلى التكلم به أولاً ، وأقروا على أنفسهم بالظلم في منع المعروف وترك
412
الاستثناء ونزهوه عن أن يكون ظالماً { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَـاوَمُونَ } [القلم : 30] يلوم بعضهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين ، ويحيل كل واحد منهم اللائمة على الآخر.
(4/220)
ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله { قَالُوا يَـاوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَـاغِينَ } [القلم : 31] بمنع حق الفقراء وترك الاستثناء { عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا } [القلم : 32] وبالتشديد : مدني وأبو عمرو { خَيْرًا مِّنْهَآ } [القلم : 32] من هذه الجنة { إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [القلم : 32] طالبون منه الخير راجون لعفوه.
عن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا فأبدلهم بها جنة تسمى الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً { كَذَالِكَ الْعَذَابُ } [القلم : 33] أي مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه من عذاب الدنيا لمن سلك سبيلهم { وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَكْبَرُ } [الزمر : 26] أعظم منه { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب.
ثم ذكر ما عنده للمؤمنين فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 411
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ } [القلم : 34] عن الشرك { عِنْدَ رَبِّهِمْ } [فاطر : 39] أي في الآخرة { جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [المائدة : 65] جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص بخلاف جنات الدنيا { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } [القلم : 35] استفهام إنكار على قولهم لو كان ما يقول محمد حقاً فنحن نعطي في الآخرة خيراً مما يعطي هو ومن معه كما في الدنيا.
فقيل لهم : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم : 36] هذا الحكم الأعوج وهو التسوية بين المطيع والعاصي ، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كِتَـابٌ } [القلم : 37] من السماء { فِيهِ تَدْرُسُونَ } [القلم : 37] تقرؤون في ذلك الكتاب إنّ لكم فيه لما تخيّرون } أي إن ما تختارونه وتشتهونه لكم.
والأصل
413
تدرسون أن لكم ما تخيرون بفتح " أن " لأنه مدروس لوقوع الدرس عليه ، وإنما كسرت لمجيء اللام ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله : { نُوحٌ } (الصافات : 97).
وتخير الشيء واختاره أخذ خيره { أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا } [القلم : 39] عهود مؤكدة بالأيمان { بَـالِغَةٌ } نعت { أَيْمَـانٌ } ويتعلق { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [القلم : 39] ببالغة أي أنها تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم ، أو بالمقدر في الظرف أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } [القلم : 39] به لأنفسكم وهو جواب القسم لأن معنى { أَمْ لَكُمْ أَيْمَـانٌ عَلَيْنَا } [القلم : 39] أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 411
{ سَلْهُمْ } أي المشركين { أَيُّهُم بِذَالِكَ } [القلم : 40] الحكم { زَعِيمٌ } كفيل بأنه يكون ذلك { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } [الشورى : 21] أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأتُوا بِشُرَكَآ ـاِهِمْ إِن كَانُوا صَـادِقِينَ } [القلم : 41] في دعواهم يعني أن أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد به عند الله ، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله بهذا { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } [القلم : 42] ناصب الظرف { فَلْيَأتُوا } أو " اذكر " مضمراً.
والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } [القلم : 42] يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق ، ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق ، وهذا كما نقول : للأقطع الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمة ولا غل ، وإنما هو كناية عن البخل.
وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن تعرف
414
(4/221)
لأنها ساق معهودة عنده { وَيُدْعَوْنَ } أي الكفار ثمة { إِلَى السُّجُودِ } [القلم : 42] لا تكليفا ولكن توبيخاً على تركهم السجود في الدنيا { فَلا يَسْتَطِيعُونَ } [القلم : 42] ذلك لأن ظهورهم تصير كصياصي البقر لا تنثني عند الخفض والرفع { خَـاشِعَةً } ذليلة حال من الضمير في { يُدْعَوْنَ } { أَبْصَـارُهُمْ } أي يدعون في حال خشوع أبصارهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [المعارج : 44] تغشاهم صغار { وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ } [القلم : 43] على ألسن الرسل { إِلَى السُّجُودِ } [القلم : 42] في الدنيا { وَهُمْ سَـالِمُونَ } [القلم : 43] أي وهم أصحاء فلا يسجدون فلذلك منعوا عن السجود ثمّ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 411
{ فَذَرْنِى } .
يقال : ذرني وإياه أي كله إليّ فإني أكفيكه { وَمَن يُكَذِّبُ } [القلم : 44] معطوف على المفعول أو مفعول معه { بِهَـاذَا الْحَدِيثِ } [الكهف : 6] بالقرآن ، والمراد كل أمره إليّ خل بيني وبينه فإني عالم بما ينبغي أن يفعل به ، مطيق له ، ولا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتهديد للمكذبين { سَنَسْتَدْرِجُهُم } سندنيهم من العذاب درجة درجة.
يقال : استدرجه إلى كذا أي استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورطه فيه ، واستدراج الله تعالى العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة فيجعلون رزق الله ذريعة إلى ازياد المعاصي { مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 182] من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج.
قيل : كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها.
قال عليه السلام " إذا رأيت الله تعالى ينعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وتلا الآية " (1) { وَأُمْلِى لَهُمْ } [الأعراف : 183] وأمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } [الأعراف : 183] قوي شديد فسمى إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للهلاك.
والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن ، ولا يجوز أن يسمى الله كائداً وماكراً ومستدرجاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 415
{ أَمْ تَسْـاَلُهُمْ } [الطور : 40] على تبليغ الرسالة { أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ } [الطور : 40] غرامة { مُّثْقَلُونَ } فلا
415
يؤمنون استفهام بمعنى النفي أي لست تطلب أجراً على تبليغ الوحي فيثقل عليهم ذلك فيمتنعوا لذلك { أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ } [الطور : 41] أي اللوح المحفوظ عند الجمهور { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [الطور : 41] منه ما يحكمون به { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [الإنسان : 24] وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أمهلوا لم يهملوا { وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [القلم : 48] كيونس عليه السلام في العجلة والغضب على القوم حتى لا تبتلى ببلائه.
والوقف على الحوت لأن " إذ " ليس بظرف لما تقدمه ، إذ النداء طاعة فلا ينهى عنه بل مفعول محذوف أي اذكر { إِذْ نَادَى } [الأنبياء : 83] دعا ربه في بطن الحوت { لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ } [الأنبياء : 87] (الأنبياء : 78) { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم : 48] مملوء غيظاً من كظم السقاء إذا { لَّوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ } [القلم : 49] رحمة { مِّن رَّبِّهِ } [الرعد : 7] أي لولا أن الله أنعم عليه بإجابة دعائه وقبول عذره { لَنُبِذَ } من بطن الحوت بالفضاء { بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } [القلم : 49] معاتب بزلته لكنه رحم فنبذ غير مذموم { فَاجْتَبَـاهُ رَبُّهُ } [القلم : 50] اصطفاه لدعائه وعذره { فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ } [القلم : 50] من المستكملين لصفات الصلاح ولم يبق له زلة.
وقيل : من الأنبياء.
وقيل : من المرسلين.
والوجه هو الأول لأنه كان مرسلاً ونبياً قبله لقوله تعالى : { الْمَشْحُونِ } (الصافات : 041).
الآيات.
{ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـارِهِمْ } [القلم : 51] وبفتح الياء : مدني.
" إن " مخففة من الثقيلة واللام علمها.
زلقة وأزلقة أزاله عن مكانه أي قارب الكفار من شدة نظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك بأبصارهم عن مكانك ، أو يهلكوك لشدة حنقهم عليك.
وكانت العين في بني أسد فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا
416
(4/222)
يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا هلك.
فأريد بعض العيّانين على أن يقول في رسول الله مثل ذلك فقال : لم أر كاليوم مثله رجلاً فعصمه الله من ذلك.
وفي الحديث : " العين حق وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " (1).
وعن الحسن : رقية العين هذه الآية : { لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } [القلم : 51] القرآن { وَيَقُولُونَ } حسداً على ما أوتيت من النبوة { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } [القلم : 51] إن محمداً لمجنون حيرة في أمره وتنفيراً عنه { وَمَا هُوَ } [القلم : 52] أي القرآن { إِلا ذِكْرٌ } [يوسف : 104] وعظ { لِّلْعَـالَمِينَ } للجن والإنس يعني أنهم جننوه لأجل القرآن وما القرآن إلا موعظة للعالمين ، فكيف يجنن من جاء بمثله؟ وقيل : لما سمعوا الذكر ـ أي ذكره عليه السلام ـ وما هو ـ أي محمد عليه السلام ـ إلا ذكر شرف للعالمين فكيف ينسب إليه الجنون؟
417
سورة الحاقة
إحدى وخمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَآقَّةُ } الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها ، من حق يحق بالكسر أي وجب { مَا الْحَآقَّةُ } [الحاقة : 2] مبتدأ وخبر وهما خبر { الْحَآقَّةُ } والأصل الحاقة ما هي أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهو لها أي حقها أن يستفهم عنها لعظمها ، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التهويل { وَمَآ أَدْرَاـاكَ } [الحاقة : 3] وأي شيء أعلمك { مَا الْحَآقَّةُ } [الحاقة : 2] يعني أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين.
و " ما " رفع بالابتداء و { أَدْرَاـاكَ } الخبر ، والجملة بعده في موضع نصب لأنها مفعول ثانٍ لـ " أدرى " { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادُ بِالْقَارِعَةِ } [الحاقة : 4] أي بالحاقة فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة ، وسميت بها لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال.
ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر ذلك ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم.
418
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ } [الحاقة : 5] بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة.
واختلف فيها فقيل الرجفة ، وقيل الصيحة ، وقيل الطاغية مصدر كالعافية أي بطغيانهم ، ولكن هذا لا يطابق قوله { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ } [الحاقة : 6] أي بالدبور لقوله صلى الله عليه وسلّم : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
{ صَرْصَرٍ } شديدة الصوت من الصرة الصيحة ، أو باردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها { عَاتِيَةٍ } شديد العصف أو عتت على خزانها فلم يضبطوها بإذن الله غضباً على أعداء الله { سَخَّرَهَا } سلطها { عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـانِيَةَ أَيَّامٍ } [الحاقة : 7] وكان ابتداء العذاب يوم الأربعاء آخر الشهر إلى الأربعاء الأخرى { حُسُومًا } أي متتابعة لا تنقطع جمع حاسم كشهود تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء بعد أخرى حتى ينحسم ، وجاز أن يكون مصدراً أي تحسم حسوماً بمعنى تستأصل استئصالاً { فَتَرَى } أيها المخاطب { الْقَوْمَ فِيهَا } [الحاقة : 7] في مهابها أو في الليالي والأيام { صَرْعَى } حال جمع صريع { كَأَنَّهُمْ } حال أخرى { أَعْجَازُ } أصول { نَخْلٍ } جمع نخلة { خَاوِيَةٍ } ساقطة أو بالية { فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } [الحاقة : 8] من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
{ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } ومن تقدمه من الأمم { وَمَن قَبْلَهُ } [هود : 17] بصري وعلي أي ومن عنده من أتباعه { وَالْمُؤْتَفِكَـاتُ } قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي انقلبت بهم { بِالْخَاطِئَةِ } بالخطأ أو بالفعلة أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم { فَعَصَوْا } أي قوم لوط { رَسُولَ رَبِّهِمْ } [الحاقة : 10] لوطاً { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } [الحاقة : 10] شديدة زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح
419(4/223)
{ إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ } [الحاقة : 11] ارتفع وقت الطوفان على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعاً { حَمَلْنَـاكُمْ } أي آباءكم { فِى الْجَارِيَةِ } [الحاقة : 11] في سفينة نوح عليه السلام { لِنَجْعَلَهَا } أي الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين { لَكُمْ تَذْكِرَةً } [الحاقة : 12] عبرة وعظة { وَتَعِيَهَآ } وتحفظها { أُذُنٌ } بضم الذال : غير نافع { وَاعِيَةٌ } حافظة لما تسمع.
قال قتادة : وهي أذن عقلت عن الله وانتفعت بما سمعت.
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [الحاقة : 13] هي النفخة الأولى ويموت عندها الناس ، والثانية يبعثون عندها { وَحُمِلَتِ الارْضُ وَالْجِبَالُ } [الحاقة : 14] رفعتا عن موضعهما { فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة : 14] دقتا وكسرتا أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباء منبثاً { فَيَوْمَـاـاِذٍ } فحينئذ { وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [الواقعة : 1] نزلت النازلة وهي القيامة ، وجواب " إذا " { وَقَعَتِ } و { يَوْمَـاـاِذٍ } بدل من " إذا " { وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ } [الحاقة : 16] فتّحت أبواباً { فَهِىَ يَوْمَـاـاِذٍ وَاهِيَةٌ } [الحاقة : 16] مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة { وَالْمَلَكُ } للجنس بمعنى الجمع وهو أعم من الملائكة { عَلَى أَرْجَآ ـاِهَا } [الحاقة : 17] جوانبها واحدها رجا مقصور لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجؤن إلى أطرافها { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ } [الحاقة : 17] فوق الملك الذين على أرجائها { يَوْمَـاـاِذٍ ثَمَـانِيَةٌ } [الحاقة : 17] منهم ، واليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة.
وعن الضحاك : ثمانية صفوف.
وقيل : ثمانية أصناف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
{ يَوْمَـاـاِذٍ تُعْرَضُونَ } [الحاقة : 18] للحساب ، والسؤال شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله { لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة : 18] سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا.
وبالياء : كوفي غير عاصم.
وفي الحديث : " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما
420
عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعندها تطير الصحف فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله " { فَأَمَّا } تفصيل للعرض { مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ } [الحاقة : 19] سروراً به لما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته { هَآؤُمُ } اسم للفعل أي خذوا { اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ } تقديره هاؤم كتابي اقرؤا كتابيه فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، والعامل في { كِتَـابِيَهْ } عند البصريين لأنهم يعملون الأقرب.
والهاء في { اقْرَءُوا كِتَـابِيَهْ } [الحاقة : 19] و { حِسَابِيَهْ } و { مَالِيَهْ } و { سُلْطَـانِيَهْ } للسكت ، وحقها أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها لثبوتها في المصحف { إِنِّى ظَنَنتُ } [الحاقة : 20] علمت.
وإنما أجري الظن مجرى العلم ، لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ولأن ما يدرك بالاجتهاد فلما يخلو عن الوسواس والخواطر وهي تفضي إلى الظنون ، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلو عنه { أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 20] معاين حسابي { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة : 21] ذات رضا يرضى بها صاحبها كلابن { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الحاقة : 22] رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور وهو خبر بعد خبر { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [الحاقة : 23] ثمارها ريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكىء يقال لهم :
جزء : 4 رقم الصفحة : 418
{ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِياـاَا } [الحاقة : 24] أكلاً هنيئاً لا مكروه فيهما ولا أذى أو هنئتم هنيئاً على المصدر { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ } [الحاقة : 24] بما قدمتم من الأعمال الصالحة { فِى الايَّامِ الْخَالِيَةِ } [الحاقة : 24] الماضية من أيام الدنيا.
وعن ابن عباس : هي في الصائمين أي كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله.
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـابِيَهْ } [الحاقة : 25] لما يرى فيها من الفضائح
421
(4/224)
{ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 26] أي يا ليتني لم أعلم ما حسابي { يَـالَيْتَهَا } يا ليت الموتة التي متها
جزء : 4 رقم الصفحة : 421
{ كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } [الحاقة : 27] أي القاطعة لأمري فلم أبعث بعدها ولم ألق ما ألقي { مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ } أي لم ينفعني ما جمعته في الدنيا ، فـ " ما " نفي والمفعول محذوف أي شيئاً { هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـانِيَهْ } [الحاقة : 29] ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيراً ذليلاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ضلت عني حجتي أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا فيقول الله تعالى لخزنة جهنم { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } [الحاقة : 30] أي اجمعوا يديه إلى عنقه { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } [الحاقة : 31] أي أدخلوه يعني ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى ، أو نصب { الْجَحِيمَ } بفعل يفسره { صَلُّوهُ } { ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا } [الحاقة : 32] طولها { سَبْعُونَ ذِرَاعًا } [الحاقة : 32] بذراع الملك.
عن ابن جريج : وقيل لا يعرف قدرها إلا الله { فَا سْلُكُوهُ } فأدخلوه.
والمعنى في تقدم السلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التصلية.
{ إِنَّهُ } تعليل كأنه قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بأنه { كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } على بذل طعام المسكين ، وفيه إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم وإنما يطعمونهم لوجه الله ورجاء الثواب في الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم أي أنه مع كفره لا يحرّض غيره على إطعام المحتاجين ، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين لأنه عطفه على الكفر
422
وجعله دليلاً عليه وقرينة له ، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق.
وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا.
وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعاً ، والكافرين لا يرحمون لأنه قسّم الخلق نصفين فجعل صنفاً منهم أهل اليمين ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله { إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـاقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة : 20] وصنفاً منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله { إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } [الحاقة : 33] وجاز أن الذي يعاقب من المؤمنين إنما يعاقب قبل أن يؤتى كتابه بيمينه { فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـاهُنَا حَمِيمٌ } [الحاقة : 35] قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه { وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة : 36] غسالة أهل النار ، فعلين من الغسل ، والنون زائدة وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم { لا يَأْكُلُهُا إِلا الْخَـاطِـاُونَ } [الحاقة : 37] الكافرون أصحاب الخطايا وخطىء الرجل إذا تعمد الذنب.
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } [الحاقة : 38] من الأجسام والأرض والسماء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 421
{ وَمَا لا تُبْصِرُونَ } [الحاقة : 39] من الملائكة والأرواح فالحاصل أنه أقسم بجميع الأشياء { إِنَّهُ } أي إن القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [الحاقة : 40] أي محمد صلى الله عليه وسلّم أو جبريل عليه السلام أي بقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } [الحاقة : 41] كما تدعون { قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ } كما تقولون { قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 3] وبالياء فيهما : مكي وشامي ويعقوب وسهل.
وبتخفيف الذال : كوفي غير أبي بكر.
والقلة في معنى العدم يقال : هذه أرض قلما تنبت أي لا تنبت أصلاً ، والمعنى لا تؤمنون ولا تذكرون البتة { تَنزِيلٌ } هو تنزيل بياناً لأنه قول رسول نزل عليه مّن رّبّ العالمين ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل } ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله { لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة : 45] لقتلناه صبراً كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معالجة بالسخط والانتقام ، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول ، وهو أن يؤخذ بيده
423
(4/225)
وتضرب رقبته ، وخص اليمين لأن القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخد بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ـ وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف ـ أخذ بيمينه ، ومعنى لأخذنا منه باليمين لأخدنا بيمينه ، وكذا { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [الحاقة : 46] لقطعنا وتينه وهو نياط القلب إذا قطع مات صاحبه { فَمَا مِنكُم } [الحاقة : 47] الخطاب للناس أو للمسلمين { مِّنْ أَحَدٍ } [النور : 21] " من " زائدة { عَنْهُ } عن قتل محمد وجمع { حَـاجِزِينَ } وإن كان وصف { أَحَدٍ } لأنه في معنى الجماعة ومنه قوله تعالى { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة : 285] (البقرة : 582) { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَتَذْكِرَةٌ } لعظة { لِّلْمُتَّقِينَ } وإن القرآن { لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [الحاقة : 50] به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به { وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَحَقُّ الْيَقِينِ } [الحاقة : 51] لعين اليقين ومحض اليقين { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة : 74] فسبح الله بذكر اسمه العظيم وهو قوله سبحان الله.
424
سورة المعارج
مكية وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَأَلَ سَآئلُ } [المعارج : 1] هو النضر بن الحرث قال : { إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الانفال : 32] (الأنفال : 23) أو هو النبي صلى الله عليه وسلّم دعا بنزول العذاب عليهم.
ولما ضمن سأل معنى دعا عدى تعديته كأنه قيل : دعا داع { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج : 1] من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ } [الدخان : 55] (الدخان : 55).
و { سَأَلَ } بغير همز : مدني وشامي وهو من السؤال أيضاً إلا أنه خفف بالتليين و { سَآ ـاِلُ } مهموز إجماعاً { لِّلْكَـافِرِينَ } صفة >ـ { عَذَابَ } أي بعذاب واقع كائن للكافرين { لَيْسَ لَهُ } [المعارج : 2] لذلك العذاب { دَافِعٌ } راد { مِّنَ اللَّهِ } [الجن : 22] متصل بواقع أي واقع من عنده أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته { ذِي الْمَعَارِجِ } [المعارج : 3] أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج.
ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال
425
{ تَعْرُجُ } تصعد.
وبالياء : علي { الْمَلَـائكَةُ وَالرُّوحُ } [القدر : 4] أي جبريل عليه السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه ، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة علينا ، أو أرواح المؤمنين عند الموت { إِلَيْهِ } إلى عرشه ومهبط أمره { فِى يَوْمٍ } [البلد : 14] من صلة تعرج { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج : 4] من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك ، أو " من " صلة { وَاقِعٍ } أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة ، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار ، أو لأنه على الحقيقة كذلك فقد قيل فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425(4/226)
{ فَاصْبِرْ } متعلق بـ { سَأَلَ سَآ ـاِلُ } [المعارج : 1] لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلّم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فأمر بالصبر عليه { صَبْرًا جَمِيلا } [المعارج : 5] بلا جزع ولا شكوى { إِنَّهُمْ } إن الكفار { يَرَوْنَهُ } أي العذاب أو يوم القيامة { بَعِيدًا } مستحيلاً { وَنَرَاـاهُ قَرِيبًا } [المعارج : 7] كائناً لا محالة ، فالمراد بالبعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه.
نصب { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ } [المعارج : 8] بـ { قَرِيبًا } أي يمكن في ذلك اليوم أو هو بدل عن { فِى يَوْمٍ } [البلد : 14] فيمن علقه بـ { وَاقِعٍ } { كَالْمُهْلِ } كدردي الزيت أو كالفضة المذابة في تلونها { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } [المعارج : 9] كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح { وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا } [المعارج : 10] لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه.
وعن البزي والبرجمي : بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه.
426
{ يُبَصَّرُونَهُمْ } صفة أي حميماً مبصرين معرفين إياهم ، أو مستأنف كأنه لما قال { وَلا يَسْـاَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا } [المعارج : 10] قيل : لعله لا يبصره.
فقيل : يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
والواو ضمير الحميم الأول و " هم " ضمير الحميم الثاني أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم.
وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلاً يقع موقع الجمع { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ } [المعارج : 11] يتمنى المشرك وهو مستأنف ، أو حال من الضمير المرفوع ، أو المنصوب من { يُبَصَّرُونَهُمْ } { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِـاـاِذ } [المعارج : 11] وبالفتح : مدني وعلي على البناء للإضافة إلى غير متمكن { بِبَنِيهِ * وَصَـاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } وزوجته { وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ } وعشيرته الأدنين { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى } [المعارج : 13] تضمه انتماء إليها.
وبغير همز : يزيد.
{ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا } [المعارج : 14] من الناس { ثُمَّ يُنجِيهِ } [المعارج : 14] الافتداء عطف على يفتدي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
{ كَلا } ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب { إِنَّهَا } إن النار ، ودل ذكر العذاب عليها ، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة { لَظَى } علم للنار { نَزَّاعَةً } حفص والمفضل على الحال المؤكدة ، أو على الاختصاص للتهويل.
وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر لـ " إن " أو على " هي نزاعة " { لِّلشَّوَى } لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين ، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعاً فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت { تَدْعُوا } بأسمائهم يا كافر يا منافق إليّ إليّ ، أو تهلك من قولهم دعاك الله أي أهلكك ، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته { مَنْ أَدْبَرَ } [المعارج : 17] عن الحق { وَتَوَلَّى } عن الطاعة { وَجَمَعَ } المال { فَأَوْعَى } فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 425
{ إِنَّ الانسَـانَ } [المعارج : 19] أريد به الجنس ليصح استثناء المصلين منه { خُلِقَ هَلُوعًا } [المعارج : 19]
427
عن ابن عباس رضي الله عنهما : تفسيره ما بعده { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } والهلع : سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير.
وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلباً عن الهلع فقال : قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه.
والشر : الضر والفقر.
والخير : السعة والغنى أو المرض والصحة
جزء : 4 رقم الصفحة : 427
(4/227)
{ إِلا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ } أي صلواتهم الخمس { دَآ ـاِمُونَ } أي يحافظون عليها في مواقيتها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه { وَالَّذِينَ فِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } [المعارج : 24] يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة { لِّلسَّآ ـاِلِ } الذي يسأل { وَالْمَحْرُومِ } الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } [المعارج : 26] أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة { وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } [المعارج : 27] خائفون.
واعترض بقوله { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } [المعارج : 28] بالهمز : سوي أبي عمرو أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه وينبغي أن يكون مترجحاً بين الخوف والرجاء.
{ أَزْوَاجِهِمْ } نسائهم { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ } [المؤمنون : 6] أي إمائهم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون : 6] على ترك الحفظ
428
{ فَمَنِ ابْتَغَى } [المؤمنون : 7] طلب منكحاً { وَرَآءَ ذَالِكَ } [المؤمنون : 7] أي غير الزوجات والمملوكات { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون : 7] المتجاوزون عن الحلال والحرام.
وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف { وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ } [المؤمنون : 8] مكي ، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد { لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ } [المؤمنون : 8] أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان { رَاعُونَ } حافظون غير خائنين ولا ناقضين.
وقيل : الأمانات ما تدل عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول.
{ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَـادَاتِهِمْ } [المعارج : 33] حفص وسهل ويعقوب.
{ قَآ ـاِمُونَ } يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقوي على الضعيف إظهاراً للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [المعارج : 34] كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم ، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل.
وقيل : الدوام عليها الاستكثار منها والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها ، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها { فَأُوالَـائكَ } أصحاب هذه الصفات { فِى جَنَّـاتٍ مُّكْرَمُونَ } [المعارج : 35] هما خبران.
جزء : 4 رقم الصفحة : 427
{ فَمَالِ } كتب مفصولاً اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه { الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ } [المعارج : 36] نحوك معمول { مُهْطِعِينَ } مسرعين حال من { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ } [المعارج : 37] عن يمين النبي صلى الله عليه وسلّم وعن شماله { عِزِينَ } حال أي فرقاً شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون.
كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى الله عليه وسلّم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً يستمعون
429
ويستهزئون بكلامه ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت { أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ } [المعارج : 38] بضم الياء وفتح الخاء : سوى المفضل { جَنَّةَ نَعِيمٍ } [المعارج : 38] كالمؤمنين { كَلا } ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة { إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } [المعارج : 39] أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم؟ أو معناه : إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له { فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَـارِقِ } [المعارج : 40] مطالع الشمس { وَالْمَغَـارِبِ } ومغاربها { إِنَّا لَقَـادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ } على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [الواقعة : 60] بعاجزين.
(4/228)
{ فَذَرْهُمْ } فدع المكذبين { يَخُوضُوا } في باطلهم { وَيَلْعَبُوا } في دنياهم { حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } [الزخرف : 83] فيه العذاب { يَوْمَ } بدل من { يَوْمَهُمُ } { يَخْرُجُونَ } بفتح الياء وضم الراء : سوى الأعشى { مِنَ الاجْدَاثِ } [المعارج : 43] القبور { سِرَاعًا } جمع سريع حال أي إلى الداعي { كَأَنَّهُمْ } حال { إِلَى نُصُبٍ } [المعارج : 43] شامي وحفص وسهل { نُصُبٍ } المفضل.
{ نُصُبٍ } غيرهم وهو كل ما نصب وعبد من دون الله { يُوفِضُونَ } يسرعون { خَـاشِعَةً } حال من ضمير { يَخْرُجُونَ } أي ذليلة { أَبْصَـارُهُمْ } يعني لا يرفعونها لذلتهم { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [المعارج : 44] يغشاهم هوان { ذَالِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ } [المعارج : 44] في الدنيا وهم يكذبون به.
430
سورة نوح عليه السلام
مكية وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحًا } [نوح : 1] قيل : معناه بالسريانية الساكن { إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ } [نوح : 1] خوّف أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل.
ومحله عند الخليل جر ، وعند غيره نصب ، أو " أن " مفسرة بمعنى " أي " لأن في الإرسال معنى القول { قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [نوح : 1] عذاب الآخرة أو الطوفان { قَالَ يَـاقَوْمِ } [يس : 20] أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة { إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ } [هود : 25] مخوف { مُّبِينٌ } أبين لكم رسالة الله بلغة تعرفونها { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ } [المائدة : 117] وحدوه و " أن " هذه نحو { أَنْ أَنذِرْ } [نوح : 1] في الوجهين { وَاتَّقُوهُ } واحذروا عصيانه { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، وإنما اضافه إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله تعالى بخلاف العبادة { يَغْفِرْ لَكُم } [الصف : 12] جواب الأمر { مِّن ذُنُوبِكُمْ } [إبراهيم : 10] للبيان كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ } [الحج : 30] (الحج : 03).
أو للتبعيض لأن ما يكون بينه وبين الخلق يؤاخذ به بعد الإسلام
431
كالقصاص وغيره كذا في شرح التأويلات.
{ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] وهو وقت موتكم { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ } [نوح : 4] أي الموت { إِذَا جَآءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [نوح : 4] أي لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم.
قيل : إن الله تعالى قضى مثلاً أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة وإن لم يؤمنوا أهلكهم على رأس تسعمائة ، فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي تبلغوا ألف سنة ، ثم أخبر أن الأجل إذا جاء لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت.
وقيل : إنهم كانوا يخافون على أنفسهم الإهلاك من قومهم بإيمانهم وإجابتهم لنوح عليه السلام ، فكأنه عليه السلام أمّنهم من ذلك ووعدهم أنهم بإيمانهم يبقون إلى الأجل الذي ضرب لهم لو لم يؤمنوا أي أنكم إن أسلمتم بقيتم إلى أجل مسمى آمنين من عدوكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
{ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلا وَنَهَارًا } [نوح : 5] دائباً بلا فتور { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِى إِلا فِرَارًا } عن طاعتك ، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده وإن لم يكن الدعاء سبباً للفرار في الحقيقة وهو كقوله : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة : 125] (التوبة : 521).
والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس وكان الرجل يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام فيقول : احذر هذا فلا يغرنك فإن أبي قد وصاني به { وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } [نوح : 7] إلى الإيمان بك { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } [نوح : 7] أي ليؤمنوا فتغفر لهم فاكتفى بذكر المسبب { جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ } سدوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي { وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } [نوح : 7] وتغطوا بثيابهم لئلا يبصرون كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله { وَأَصَرُّوا } وأقاموا على كفرهم { وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا } [نوح : 7] وتعظموا عن إجابتي ، وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم.(4/229)
{ ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا } [نوح : 8] مصدر في موضع الحال أي مجاهراً ، أو مصدر دعوتهم كـ " قعد القرفصاء " لأن الجهار أحد نوعي الدعاء يعني أظهرت لهم الدعوة في المحافل
432
{ ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا } [نوح : 9] أي خلطت دعاءهم بالعلانية بدعاء السر ، فالحاصل أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر ، ثم دعاهم جهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن ، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف يبتدىء بالأهون ثم بالأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان.
و " ثم " تدل على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } [نوح : 10] من الشرك لأن الاستغفار طلب المغفرة ، فإن كان المستغفر كافراً فهو من الكفر ، وإن كان عاصياً مؤمناً فهو من الذنوب { إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } [نوح : 10] لم يزل غفاراً لذنوب من ينيب إليه { يُرْسِلِ السَّمَآءَ } [نوح : 11] المطر { عَلَيْكُم مِّدْرَارًا } [نوح : 11] كثيرة الدرور ومفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث { وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [نوح : 12] يزدكم أموالاً وبنين { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ } [نوح : 12] بساتين { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَـارًا } [نوح : 12] جارية لمزارعكم وبساتينكم ، وكانوا يحبون الأموال والأولاد فحرّكوا بهذا على الإيمان.
وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة أو سبعين ، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخصب ورفع عنهم ما كانوا فيه.
وعن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار فقيل له : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.
شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وقرأ الآيات.
وعن الحسن أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله.
وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار.
فقال له الربيع بين صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً فأمرتهم كلهم بالاستغفار فتلا الآيات.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
{ مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا } [نوح : 13] لا تخافون لله عظمة.
عن الأخفش قال :
433
(4/230)
والرجاء هنا الخوف لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف ومن اليأس والوقار العظمة ، أو لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً.
والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } [نوح : 14] في موضع الحال أي ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه ، وهي حال موجبة للإيمان به لأنه خلقكم أطواراً أي تارات وكرّاتٍ خلقكم أولاً نطفاً ثم خلقكم علقاً ثم خلقكم مضغاً ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، نبههم أولاً على النظر في أنفسكم لأنها أقرب ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الدالة على الصانع بقوله { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح : 15] بعضاً على بعض { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } [نوح : 16] أي في السماوات وهو في السماء الدنيا ، لأن بين السماوات ملابسة من حيث إنها طباق وجاز أن يقال فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها.
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماوات ، وظهورهما مما يلي الأرض ، فيكون نور القمر محيطاً بجميع السماوات لأنها لطيفة لا تحجب نوره { وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا } [نوح : 16] مصباحاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وضوء الشمس أقوى من نور القمر ، وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة { وَاللَّهُ أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ } [نوح : 17] أنشأكم استعير الإنبات للإنشاء { نَبَاتًا } فنبتم نباتاً { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } [نوح : 18] بعد الموت { وَيُخْرِجُكُمْ } يوم القيامة { إِخْرَاجًا } أكده بالمصدر أي أيّ إخراج { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ بِسَاطًا } [نوح : 19] مبسوطة { لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا } [نوح : 20] لتتقلبوا عليها كما يتقلب الرجل على بساطه { سُبُلا } طرقاً { فِجَاجًا } واسعة أو مختلفة.
434
{ قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى } [نوح : 21] فيما أمرتهم به من الإيمان والاستغفار { وَاتَّبَعُوا } أي السفلة والفقراء { مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } [نوح : 21] أي الرؤساء وأصحاب الأموال والأولاد { وَوَلَدُهُ } مكي وعراقي غير عاصم وهو جمع ولد كأسد وأسد { اإِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82] في الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
{ وَمَكَرُوا } معطوف على { لَّمْ يَزِدْهُ } [نوح : 21] وجمع الضمير وهو راجع إلى " من " لأنه في معنى الجمع.
والماكرون هم الرؤساء ، ومكرهم احتيالهم في الدنيا وكيدهم لنوح وتحريش الناس على أذاه وصدهم عن الميل إليه { مَكْرًا كُبَّارًا } [نوح : 22] عظيماً وهو أكبر من الكبار وقرىء به وهو أكبر من الكبير { وَقَالُوا } أي الرؤساء لسفلتهم { لا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ } [نوح : 23] على العموم أي عبادتها { وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا } [نوح : 23] بفتح الواو وضمها وهو قراءة نافع ، لغتان : صنم على صورة رجل { وَلا سُوَاعًا } [نوح : 23] هو على صورة امرأة { وَلا يَغُوثَ } [نوح : 23] هو على صورة أسد { وَيَعُوقَ } هو على صورة فرس وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين ، وللتعريف والعجمة إن كانا أعجميين { وَنَسْرًا } هو على صورة نسر أي هذه الأصنام الخمسة على الخصوص ، وكأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم فخصوها بعد العموم ، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب ؛ فكان ود لكلب ، وسواع لهمدان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير.
وقيل : هي أسماء رجال صالحين كان الناس يقتدون بهم بين آدم ونوح ، فلما ماتوا صوروهم ليكون ذلك أدعى لهم إلى العبادة ، فلما طال الزمان قال لهم إبليس : إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم
435
(4/231)
{ وَقَدْ أَضَلُّوا } [نوح : 24] أي الأصنام كقوله { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ } [إبراهيم : 36] (ابراهيم : 63) { كَثِيرًا } من الناس أو الرؤساء { وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ } [نوح : 28] عطف على { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى } [نوح : 21] على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد { قَالَ } وبعد الواو النائبة عنه ، ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولاً { قَالَ } { إِلا ضَلَـالا } [نوح : 24] هلاكاً كقوله { وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ إِلا تَبَارَا } [نوح : 28] { مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ } [نوح : 25] { خَطَـايَـاهُم } أبو عمرو أي ذنوبهم { أُغْرِقُوا } بالطوفان { فَأُدْخِلُوا نَارًا } [نوح : 25] عظيمة وتقديم { مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ } [نوح : 25] لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان وإدخالهم في النيران إلا من أجل خطيئاتهم.
وأكد هذا المعنى بزيادة " ما " وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهن والفاء في { فَأُدْخِلُوا } للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا } [نوح : 25] ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 431
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح : 26] أي أحداً يدور في الأرض وهو فيعال من الدور وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ } [نوح : 27] ولا تهلكهم { يُضِلُّوا عِبَادَكَ } [نوح : 27] يدعوهم إلى الضلال { وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح : 27] إلا من إذا بلغ فجر وكفر وإنما قال ذلك لأن الله تعالى أخبره بقوله : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ } [هود : 36] (هود : 63) { رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ } [نوح : 28] وكانا مسلمين واسم أبيه لمك ، واسم أمه شمخاء ، وقيل : هما آدم وحواء وقرىء يريد ساماً وحاماً { وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ } [نوح : 28] منزلي أو مسجدي أو سفينتي { مُؤْمِنًا } لأنه علم أن من دخل بيته مؤمناً لا يعود إلى الكفر { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } [محمد : 19] إلى يوم القيامة.
خص أولاً من يتصل به لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات { وَلا تَزِدِ الظَّـالِمِينَ } [نوح : 28] أي الكافرين { إِلا تَبَارَا } [نوح : 28] هلاكاً فأهلكوا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا نوح عليه السلام بدعوتين :
436
إحداهما للمؤمنين بالمغفرة ، وأخرى على الكافرين بالتبار ، وقد أجيبت دعوته في حق الكفار بالتبار فاستحال أن لا تستجاب دعوته في حق المؤمنين.
واختلف في صبيانهم حين أغرقوا فقيل : أعقم الله أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا.
وقيل : علم الله براءتهم فأهلكوا بغير عذاب.
437
سورة الجن
مكية وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ } يا محمد لأمتك { أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ } أن الأمر والشأن.
أجمعوا على فتح { أَنَّهُ } لأنه فاعل { أُوحِىَ } و { وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا } و { الْمَسْجِدَ } للعطف على { أَنَّهُ اسْتَمَعَ } [الجن : 1] فـ " أن " مخفقة من الثقيلة و { أَن قَدْ أَبْلَغُوا } [الجن : 28] لتعدي { يَعْلَمْ } إليها ، وعلى كسر ما بعد فاء الجزاء وبعد القول نحو { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [التوبة : 63] { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَـافِرُونَ } لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من { وَأَنَّهُ تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا } إلى { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ } [الجن : 14] ففتحها شامي وكوفي غير أبي بكر عطفاً على { أَنَّهُ اسْتَمَعَ } [الجن : 1] أو على محل الجار والمجرور في { بِهِ إِنَّهُ } [القصص : 53] تقديره : صدقناه وصدقنا { وَأَنَّهُ تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا } { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [الجن : 4] إلى آخرها ، وكسرها غيرهم عطفاً على
جزء : 4 رقم الصفحة : 438(4/232)
{ إِنَّا سَمِعْنَا } [الجن : 1] وهم يقفون على آخر الآيات { اسْتَمَعَ نَفَرٌ } [الجن : 1] جماعة من الثلاثة إلى العشرة { مِّنَ الْجِنِّ } [النمل : 39] جن نصيبين { فَقَالُوا } لقومهم حين رجعوا إليهم من استماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم في صلاة الفجر { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًَا عَجَبًا } [الجن : 1] عجيباً بديعاً مبايناً لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه.
والعجب ما يكون خارجاً عن العادة ، وهو مصدر وضع موضع العجيب { يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ } [الجن : 2] يدعوا إلى الصواب أو إلى التوحيد والإيمان { يَهْدِى إِلَى } [الجن : 2] بالقرآن.
ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبواحدنيته وبراءة من الشرك قالوا { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدًا } [الجن : 2] من خلقه ، وجاز أن يكون الضمير في { بِهِ } لله تعالى لأن قوله { بِرَبِّنَآ } يفسره.
438
{ وَأَنَّهُ تَعَـالَى جَدُّ رَبِّنَا } [الجن : 3] عظمته.
يقال : جد فلان في عيني أي عظم ، ومنه قول عمر أو أنس : كان الرجل إذ قرأ البقرة وآل عمران جد فينا أي عظم في عيوننا { مَا لَهُ فِى الاخِرَةِ } زوجة { وَلا وَلَدًا } [الجن : 3] كما يقول كفار الجن والإنس { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } [الجن : 4] جاهلنا أو إبليس إذ ليس فوقه سفيه { عَلَى اللَّهِ شَطَطًا } [الجن : 4] كفراً لبعده عن الصواب من شطت الدار أي بعدت ، أو قولاً يجوز فيه عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه ، والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الجن : 5] قولاً كذباً ، أو مكذوباً فيه ، أو نصب على المصدر إذ الكذب نوع من القول أي كان في ظننا أن أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد إليه فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم ؛ كان الرجل من العرب إذا نزل بمخوف من الأرض قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد كبير الجن فقال { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الانسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ } [الجن : 6] أي زاد الإنس الجن باستعاذتهم بهم { رَهَقًا } طغياناً وسفهاً وكبراً بأن قالوا : سدنا الجن الإنس أو فزاد الجن الإنس رهقاً إثماً لاستعاذتهم بهم ، وأصل الرهق غشيان المحظور { وَأَنَّهُمْ } وأن الجن { ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ } [الجن : 7] يا أهل مكة { أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا } [الجن : 7] بعد الموت أي أن الجن كانوا ينكرون البعث كإنكاركم ، ثم بسماع القرآن اهتدوا وأقروا بالبعث فهلا أقررتم كما أقروا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 438
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ } [الجن : 8] طلبنا بلوغ السماء واستماع أهلها ، واللمس.
439
المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف { فَوَجَدْنَـاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا } [الجن : 8] جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسون : جمع حارس ، ونصب على التمييز.
وقيل : الحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذا وصف بشديد ولو نظر إلى معناه لقيل شداداً { وَشُهُبًا } جمع شهاب أي كواكب مضيئة.
{ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا } [الجن : 9] من السماء قبل هذا { مَقَـاعِدَ لِلسَّمْعِ } [الجن : 9] لاستماع أخبار السماء يعني كنا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشهب قبل المبعث { فَمَن يَسْتَمِعِ } [الجن : 9] يرد الاستماع { الانَ } بعد المبعث { يَجِدْ لَهُ } [الجن : 9] لنفسه { شِهَابًا رَّصَدًا } [الجن : 9] صفة لـ { شِهَابًا } بمعنى الراصد أي يجد شهاباً راصداً له ولأجله ، أو هو اسم جمع للراصد على معنى ذوي شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ، والجمهور على أن ذلك لم يكن قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : كان الرجم في الجاهلية ولكن الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأوقات فمنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 438
{ وَأَنَّا لا نَدْرِى أَشَرٌّ } [الجن : 10] عذاب { أُرِيدَ بِمَن فِى الارْضِ } [الجن : 10] بعدم استراق السمع { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } [الجن : 10] خيراً ورحمة { وَأَنَّا مِنَّا الصَّـالِحُونَ } [الجن : 11] الأبرار المتقون
(4/233)
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
{ وَمِنَّا } قوم { دُونَ ذَالِكَ } [الفتح : 27] فحذف الموصوف وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا غير الصالحين { كُنَّا طَرَآ ـاِقَ قِدَدًا } [الجن : 11] بيان للقسمة المذكورة أي كنا ذوي مذاهب متفرقة أو أديان مختلفة.
والقدد جمع قدة وهي القطعة من قددت السير أي قطعته { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [الجن : 5] أيقنا { أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ } [الجن : 12] لن نفوته { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] حال أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا } [الجن : 12] مصدر في موضع الحال
440
أي ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء ، وهذه صفة الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى } [الجن : 13] القرآن { ءَامَنَّا بِهِ } [القصص : 53] بالقرآن أو بالله { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ } [الجن : 13] فهو لا يخاف مبتدأ وخبر { بَخْسًا } نقصاً من ثوابه { وَلا رَهَقًا } [الجن : 13] أي ولا ترهقه ذلة من قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [يونس : 27] (يونس : 72) وقوله : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ } [يونس : 26] (يونس : 62).
وفيه دليل على أن العمل ليس من الإيمان { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ } [الجن : 14] المؤمنون { وَمِنَّا الْقَـاسِطُونَ } [الجن : 14] الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، قسط : جار وأقسط عدل { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوالَـائكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } [الجن : 14] طلبوا هدى والتحري طلب الأحرى أي الأولى { وَأَمَّا الْقَـاسِطُونَ فَكَانُوا } [الجن : 15] في علم الله { لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن : 15] وقوداً ، وفيه دليل على أن الجني الكافر يعذب في النار ويتوقف في كيفية ثوابهم { وَأَنَّ } مخففة من الثقيلة يعني وأنه وهي من جملة الموحى أي أوحى إلى أن الشأن { وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا } أي القاسطون { عَلَى الطَّرِيقَةِ } [الجن : 16] طريقة الإسلام { لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا } [الجن : 16] كثيراً ، والمعنى لوسعنا عليهم الرزق ، وذكر الماء الغدق لأنه سبب سعة الرزق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
{ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه : 131] لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } [الجن : 17] القرآن أو التوحيد أو العبادة { يَسْلُكْهُ } بالياء : عراقي غير أبي بكر يدخله { عَذَابًا صَعَدًا } [الجن : 17] شاقاً مصدر صعد يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه ، ومنه قول عمر رضي الله عنه : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح.
أي ما شق عليّ.
441
{ وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ } [الجن : 18] من جملة الموحى أي أوحي إلى أن المساجد أي البيوت المبنية للصلاة فيها لله.
وقيل : معناه ولأن المساجد لله فلا تدعوا على أن اللام متعلقة بـ { لا تَدْعُوا } [الفرقان : 14] أي { فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18] في المساجد لأنها خالصة لله ولعبادته.
وقيل : المساجد أعضاء السجود وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ } [الجن : 19] محمد عليه السلام إلى الصلاة وتقديره وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله { يَدْعُوهُ } يعبده ويقرأ القرآن ولم يقل نبي الله أو رسول الله لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، ولأنه لما كان واقعاً في كلامه صلى الله عليه وسلّم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع ، أو لأن عبادة عبد الله لله ليست بمستبعد حتى يكونوا عليه لبداً { كَادُوا } كاد الجن { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [الجن : 19] جماعات جمع لبدة تعجباً مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به وإعجاباً بما تلاه من القرآن لأنهم رأوا ما لم يروا مثله { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُوا رَبِّى } وحده { قَالَ } غير عاصم وحمزة { وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا } [الجن : 20] في العبادة فلم تتعجبون وتزدحمون علي؟ { قُلْ إِنِّى لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا } [الجن : 21] مضرة { وَلا رَشَدًا } [الجن : 21] نفعاً ، أو أراد بالضر الغي بدليل قراءة أبي { ضَرًّا وَلا رَشَدًا } يعني لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم لأن الضار والنافع هو الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
(4/234)
{ قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ } [الجن : 22] لن يدفع عني عذابه أحد إن عصيته كقول صالح عليه السلام : { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } [هود : 63] (هود : 36) { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [الجن : 22] ملتجأ.
{ إِلا بَلَـاغًا مِّنَ اللَّهِ } [الجن : 23] استثناء من { لا أَمْلِكُ } [المائدة : 25] أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله و { قُلْ إِنِّى لَن } اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه.
وقيل : { إِلا بَلَـاغًا } [الجن : 23] بدل من { مُلْتَحَدًا } أي لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به يعني لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به فإن ذلك ينجيني.
وقال الفراء : هذا شرط وجزاء وليس باستثناء و " إن " منفصلة من " لا " وتقديره : أن لا أبلغ
442
بلاغاً أي إن لم أبلغ لم أجد من دونه ملتجأ ولا مجيراً لي كقولك إن لا قياماً فقعوداً ، والبلاغ في هذه الوجوه بمعنى التبليغ { وَرِسَـالَـاتِهِ } عطف على { بَلَـاغًا } كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات أي إلا أن أبلغ عن الله فأقول قال الله كذا ناسباً لقوله إليه ، وأن أبلغ رسالته التي أرسلني بها بلا زيادة ونقصان.
و " من " ليست بصلة للتبليغ لأنه يقال : بلّغ عنه ، إنما هي بمنزلة " من " في { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ } [التوبة : 1] (التوبة : 1) أي بلاغاً كائناً من الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 440
{ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الجن : 23] في ترك القبول ، لما أنزل على الرسول لأنه ذكر على أثر تبليغ الرسالة { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } [الجن : 23] وحد في قوله { لَهُ } وجمع في { خَـالِدِينَ } للفظ من ومعناه { حَتَّى } يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال كأنه قيل : لا يزالون على ما هم عليه حتى { إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ } [مريم : 75] من العذاب { فَسَيَعْلَمُونَ } عند حلول العذاب بهم { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا } [الجن : 24] أهم أم المؤمنون؟ أي الكافر لا ناصر له يومئذ والمؤمن ينصره الله وملائكته وأنبياؤه { قُلْ إِنْ أَدْرِى } [الجن : 25] ما أدري { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الجن : 25] من العذاب { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى } [الجن : 25] وبفتح الياء : حجازي وأبو عمرو { أَمَدًا } غاية بعيدة يعني أنكم تعذبون قطعاً ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجل { عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] هو خبر مبتدأ أي هو عالم الغيب { فَلا يُظْهِرُ } [الجن : 26] فلا يطلع { عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا } [الجن : 26] من خلقه { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [الجن : 27] إلا رسولاً قد ارتضاه لعلم بعض الغيب ليكون إخباره عن الغيب معجزة له فإن يطلعه على غيبة ما شاء.
و { مِن رَّسُولٍ } [إبراهيم : 4] بيان لـ { مَنِ ارْتَضَى } [الجن : 27] والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم عليه ، ولكنه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة على أن كل كرامة للولي فهي معجزة للرسول.
وذكر في التأويلات قال بعضهم في هذه الآية بدلالة تكذيب المنجمة وليس كذلك فإن فيهم من يصدق خبره ، وكذلك المتطببة يعرفون طبائع
443
النبات وذا لا يعرف بالتأمل فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره وبقي علمه في الخلق.
{ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } [الجن : 27] يدخل { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } [فصلت : 42] يدي رسول { وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [الجن : 27] حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم حتى يبلغ الوحي { لِّيَعْلَمَ } الله { أَن قَدْ أَبْلَغُوا } [الجن : 28] أي الرسل { رِسَـالَـاتِ رَبِّهِمْ } [الجن : 28] كاملة بلا زيادة ولا نقصان إلى المرسل إليهم أي ليعلم الله ذلك موجوداً حال وجوده كما كان يعلم ذلك قبل وجوده أنه يوجد ، وحد الضمير في { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } [فصلت : 42] للفظ " من " ، وجمع في { أَبْلَغُوا } لمعناه { وَأَحَاطَ } الله { بِمَا لَدَيْهِمْ } [المؤمنون : 53] بما عند الرسل من العلم { وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَدَا } [الجن : 28] من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و { عَدَدًا } حال أي وعلم كل شيء معدوداً محصوراً أو مصدر في معنى إحصاء.
444(4/235)
سورة المزمل
مكية وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَـا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } [المزمل : 1] أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي.
كان النبي صلى الله عليه وسلّم نائماً بالليل متزملاً في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله { قُمِ الَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِّصْفَهُ } بدل من { الَّيْلَ } و { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] استثناء من قوله { نِّصْفَهُ } تقديره : قم نصف الليل إلا قليلاً من نصف الليل { أَوِ انقُصْ مِنْهُ } [المزمل : 3] من النصف.
بضم الواو : غير عاصم وحمزة { قَلِيلا } إلى الثلث { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } [المزمل : 4] على النصف إلى الثلثين ، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه ، وإن جعلت { نِّصْفَهُ } بدلاً من { قَلِيلا } كان مخيراً بين ثلاثة أشياء : بين قيام نصف الليل تاماً ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه.
وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا : إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا
445
قليلاً أنه يلزمه أكثر من نصف الألف { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ } [المزمل : 4] بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان ، وكلام رتلٌ بالتحريك أي مرتل ، وثغر رتل أيضاً إذا كان مستوي البنيان.
أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات { تَرْتِيلا } هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لا بد منه للقارىء { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ } [المزمل : 5] سننزل عليك { قَوْلا ثَقِيلا } [المزمل : 5] أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، أو ثقيلاً على المنافقين ، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445
{ إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ } [المزمل : 6] بالهمزة : سوى ورش : قيام الليل.
عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية ، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث ، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة ، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل { هِىَ أَشَدُّ } { جَزَآءً وِفَاقًا } [النبأ : 26] شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه.
وعن الحسن : أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.
وغيرهما { وَطْـاًا } أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلّم : " اللهم اشدد وطأتك على مضر " { وَأَقْوَمُ قِيلا } [المزمل : 6] وأشد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات { إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا } [المزمل : 7] تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغاً طويلاً لنومك وراحتك { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } [الإنسان : 25] ودم على ذكره في الليل والنهار ، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ } [المزمل : 8] انقطع إلى عبادته عن كل شيء.
والتبتل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره.
وقيل : رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله { تَبْتِيلا } في اختلاف المصدر زيادة
446
تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلاً أو جيء به مراعاة لحق الفواصل.
{ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [المزمل : 9] بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] وبالجر : شامي وكوفي غير حفص بدل من { رَبِّكَ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو : الله لأفعلن ، وجوابه لا إله إلا هو كقولك : والله لا أحد في الدار إلا زيد { فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [المزمل : 9] ولياً وكفيلاً بما وعدك من النصر ، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافياً لأمورك.
وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445(4/236)
{ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [المزمل : 10] فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر { وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا } [المزمل : 10] جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة.
وقيل : هو منسوخ بآية القتال { وَذَرْنِى } أي كلهم إليّ فأنا كافيهم { وَالْمُكَذِّبِينَ } رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على { ذَرْنِى } أي دعني وإياهم { أُوالِى النَّعْمَةِ } [المزمل : 11] التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة { وَمَهِّلْهُمْ } إمهالاً { قَلِيلا } إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة { إِنَّ لَدَيْنَآ } [المزمل : 12] للكافرين في الآخرة { أَنكَالا } قيوداً ثقالاً جمع نكل { وَجَحِيمًا } ناراً محرقة { وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ } [المزمل : 13] أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم { وَعَذَابًا أَلِيمًا } [المزمل : 13] يخلص وجعه إلى القلب.
وروي أنه صلى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية فصعق.
وعن الحسن أنه أمسى صائماً فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال : ارفعه.
ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 445
{ يَوْمَ } منصوب بما في { لَدَيْنَآ } من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا
447
وكذا يوم { تَرْجُفُ الارْضُ وَالْجِبَالُ } [المزمل : 14] أي تتحرك حركة شديدة { وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا } [المزمل : 14] رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول { مَّهِيلا } سائلاً بعد اجتماعه { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ } [المزمل : 15] يا أهل مكة { رَسُولا } يعني محمداً عليه السلام { شَـاهِدًا عَلَيْكُمْ } [المزمل : 15] يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا } [المزمل : 15] يعني موسى عليه السلام { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [المزمل : 16] أي ذلك الرسول " إذ " النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول { فَأَخَذْنَـاهُ أَخْذًا وَبِيلا } [المزمل : 16] شديداً غليظاً.
وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا } [المزمل : 17] هو مفعول { تَتَّقُونَ } أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم؟ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أو منصوب بـ { كَفَرْتُمْ } على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه { يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ } [المزمل : 17] صفة لـ { يَوْمًا } والعائد محذوف أي فيه { شِيبًا } من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام : قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب.
وقيل : هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
{ السَّمَآءُ مُنفَطِرُ بِهِ } [المزمل : 18] وصف لليوم بالشدة أيضاً أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر ، وقوله { بِهِ } أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به { كَانَ وَعْدُهُ } [مريم : 61] المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم ، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل { مَفْعُولا } كائناً { إِنَّ هَـاذِهِ } [الأنبياء : 92] الآيات الناطقة بالوعيد { تَذْكِرَةٌ } موعظة { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } [المزمل : 19] أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية.
448
(4/237)
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى } [المزمل : 20] أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز ، وإذا بعدت كثر ذلك { مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ } [المزمل : 20] بضم اللام : سوى هشام { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } [المزمل : 20] منصوبان عطف على مكي وكوفي ، ومن جرهما عطف على { مِن ثُلُثَىِ } [المزمل : 20] { وَطَآ ـاِفَةٌ } عطف على الضمير في { تَقُومُ } وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل { مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } [المزمل : 20] أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك { وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَـارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ } أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده.
وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه هو الدال على أنه مختص بالتقدير ، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل { وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } [المزمل : 20] لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 54] فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل { فَاقْرَءُوا } في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب { مَا تَيَسَّرَ } [المزمل : 20] عليكم { مِنَ الْقُرْءَانِ } [المزمل : 20] روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين.
وقيل : أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول ، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس ، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم } [المزمل : 20] أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها { مَّرْضَى } فيشق عليهم قيام الليل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 447
{ وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الارْضِ } يسافرون { يَبْتَغُونَ } حال من ضمير { يَضْرِبُونَ } { مِن فَضْلِ اللَّهِ } [يوسف : 38] رزقه بالتجارة أو طلب العلم { وَءَاخَرُونَ يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء.
وقال
449
ابن عمر رضي الله عنهما : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [المزمل : 20] كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم { وَإِذْ أَخَذْنَا } [البقرة : 83] المفروضة { وَءَاتُوا الزكاة } الواجبة { وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ } [المزمل : 20] بالنوافل.
والقرض لغة : القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره ، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى ، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه { قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة : 245] من الحلال بالاخلاص { وَمَا تُقَدِّمُوا لانفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [البقرة : 110] أي ثوابه وهو جزاء الشرط { عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا } [المزمل : 20] مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني لـ { تَجِدُوهُ } خيرا و { هُوَ } فصل.
وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف { وَأَعْظَمَ أَجْرًا } [المزمل : 20] وأجزل ثواباً { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } [البقرة : 199] من السيئات والتقصير في الحسنات { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] يستر على أهل الذنب والتقصير { رَّحِيمُ } يخفف عن أهل الجهد والتوفيق.
450(4/238)
سورة المدثر
مكية وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : كنت على جبل حراء : فنوديت يا محمد إنك رسول الله.
فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً ، فنظرت إلى فوقي فإذا هو قاعد على عرش بين السماء والأرض ـ فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني.
فدثرته خديجة فجاء جبريل وقرأ { يَـا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } [المدثر : 1] أي المتلفف بثيابه من الدثار وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار.
والشعار : الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر فأدغم { قُمْ } من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم { فَأَنذِرْ } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد.
وقيل : سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم فقيل له : يا أيها الصارف أذى الكفار عن نفسك بالدثار ، قم فاشتغل بالأنذار وإن آذاك الفجار { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } [المدثر : 3] واختص ربك بالتكبير وهو التعظيم أي لا يكبر في عينك
451
غيره وقل عندما يعروك من غير الله : الله أكبر.
وروي أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " الله أكبر " فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي ، وقد يحمل على تكبير الصلاة.
ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر : 4] بالماء من النجاسة لأن الصلاة لا تصح إلا بها وهي الأولى في غير الصلاة ، أو فقصر مخالفة للعرب في تطويلهم الثياب وجرّهم الذيول إذ لا يؤمن معه إصابة النجاسة ، أو طهر نفسك مما يستقذر من الأفعال يقال : فلان طاهر الثياب إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، وفلان دنس الثياب للغادر ولأن من طهر باطنه يطهر ظاهره ظاهراً { وَالرُّجْزَ } بضم الراء : يعقوب وسهل وحفص ، وغيرهم بالكسر العذاب والمراد ما يؤدي إليه { فَاهْجُرْ } أي أثبت على هجره لأنه كان بريئاً منه { وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [المدثر : 6] بالرفع وهو منصوب المحل على الحال أي لا تعط مستكبراً رائياً لما تعطيه كثيراً أو طالباً أكثر مما أعطيت فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق وأشرف الآداب ، وهو من منّ عليه إذا أنعم عليه.
وقرأ الحسن { تَسْتَكْثِرُ } بالسكون جواباً للنهي { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر : 7] ولوجه الله فاستعمل الصبر على أوامره ونواهيه وكل مصبور عليه ومصبور عنه { فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ } [المدثر : 8] نفخ في الصور وهي النفخة الأولى وقيل الثانية { فَذَالِكَ } إشارة إلى وقت النقر وهو مبتدأ { يَوْمَـاـاِذٍ } مرفوع المحل بدل من { ذَالِكَ } { يَوْمٌ عَسِيرٌ } [المدثر : 9] خبر كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير.
والفاء في { فَإِذَا } للتسبيب وفي { فَذَالِكَ } للجزاء كأنه قيل : اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه.
والعامل في { فَإِذَا } ما دل عليه الجزاء أي فإذا نقر في الناقور عسر الأمر { عَلَى الْكَـافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر : 10] وأكد بقوله { غَيْرُ يَسِيرٍ } [المدثر : 10] ليؤذن بأنه يسير على المؤمنين أو عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.
452
{ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } [المدثر : 11] أي كله إليّ يعني الوليد بن المغيرة وكان يلقب في قومه بالوحيد و { وَمَنْ خَلَقْتُ }
جزء : 4 رقم الصفحة : 451(4/239)
معطوف أو مفعول معه { وَحِيدًا } حال من الياء في { ذَرْنِى } أي ذرني وحدي معه فإني أكفيك أمره ، أو من التاء في { خَلَقْتُ } أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد ، أو من الهاء المحذوفة ، أو من أي خلقته منفرداً بلا أهل ولا مال ثم أنعمت عليه { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَّمْدُودًا } [المدثر : 12] مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بالنماء وكان له الزرع والضرع والتجارة.
وعن مجاهد : كان له مائة ألف دينار.
وعنه أن له أرضاً بالطائف لا ينقطع ثمرها { وَبَنِينَ شُهُودًا } [المدثر : 13] حضوراً معه بمكة لغناهم عن السفر وكانوا عشرة أسلم منهم خالد وهشام وعمارة { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا } [المدثر : 14] وبسطت له الجاه والرياسة فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } [المدثر : 15] استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه فيرجو أن أزيد في ماله وولده من غير شكر.
وقال الحسن : أن أزيد أن أدخله الجنة فأوتيه مالاً وولداً كما قال لأوتين مالاً وولداً { كَلا } ردع له وقطع لرجائه أي لا يجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النعم ، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه حتى هلك { إِنَّهُ كَانَ لايَـاتِنَا } [المدثر : 16] للقرآن { عَنِيدًا } معانداً جاحداً وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلاً قال : لم لا يزاد؟ فقيل : إنه جحد آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد { سَأُرْهِقُهُ } سأغشيه { صَعُودًا } عقبة شاقة المصعد وفي الحديث " الصعود جبل من نار يصعد فيه
453
سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبد " { إِنَّهُ فَكَّرَ } [المدثر : 18] تعليل للوعيد كأن الله تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده ، ويعاقبه في الآخرة بأشد العذاب لبلوغه بالعناد غايته ، وتسميته القرآن سحراً يعني أنه فكر ماذا يقول في القرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ما يقوله وهيأه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
{ فَقُتِلَ } لعن { كَيْفَ قَدَّرَ } [المدثر : 19] تعجيب من تقديره { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } [المدثر : 20] كرر للتأكيد و " ثم " يشعر بأن الدعاء الثاني أبلغ من الأول { ثُمَّ نَظَرَ } [المدثر : 21] في وجوه الناس أو فيما قدر { ثُمَّ عَبَسَ } [المدثر : 22] قطب وجهه { وَبَسَرَ } زاد في التقبض والكلوح { ثُمَّ أَدْبَرَ } [المدثر : 23] عن الحق { وَاسْتَكْبَرَ } عنه أو عن مقامه وفي مقاله.
و { ثُمَّ نَظَرَ } [المدثر : 21] عطف على { فَكَّرَ وَقَدَّرَ } [المدثر : 18] والدعاء اعتراض بينهما ، وإيراد " ثم " في المعطوفات لبيان أن بين الأفعال المعطوفة تراحياً { فَقَالَ إِنْ هَـاذَآ } [المدثر : 24] ما هذا { إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر : 24] يروى عن السحرة.
روي أن الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى.
فقالت قريش : صبأ والله الوليد.
فقال أبو جهل وهو ابن أخيه : أنا أكفيكموه ، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام الوليد ، فأتاهم فقال : تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك : اللهم لا.
ثم قالوا : فما هو؟ ففكر فقال : ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثر عن مسيلمة وأهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرقوا متعجبين منه.
وذكر الفاء دليل على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله نطق بها من غير تلبث { إِنْ هَـاذَآ إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر : 25] ولم يذكر العاطف بين هاتين الجملتين لأن الثانية جرت مجرى التوكيد للأولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 451
{ سَأُصْلِيهِ } سأدخله بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } [المدثر : 17] { سَقَرَ } علم لجهنم
454
(4/240)
ولم ينصرف للتعريف والتأنيث { وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا سَقَرُ } [المدثر : 27] تهويل لشأنها { لا تُبْقِى } [المدثر : 28] أي هي لا تبقى لحماً { وَلا تَذَرُ } [المدثر : 28] عظماً أو لا تبقى شيئاً يبقى فيها إلا أهلكته ولا تذره هالكاً بل يعود كما كان { لَوَّاحَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة { لِّلْبَشَرِ } جمع بشرة وهي ظاهرة الجلد أي مسوّدة للجلود ومحرقة لها { عَلَيْهَا } على سقر { تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر : 30] أي يلي أمرها تسعة عشر ملكاً عند الجمهور.
وقيل : صنفاً من الملائكة.
وقيل : صفاً.
وقيل : نقيباً { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ } [المدثر : 31] أي خزنتها { إِلا مَلَـائكَةً } [المدثر : 31] لأنهم خلاف جنس المعذبين فلا تأخذهم الرأفة والرقة لأنهم أشد الخلق بأساً فللواحد منهم قوة الثقلين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 454
{ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } [المدثر : 31] تسعة عشر { إِلا فِتْنَةً } [المدثر : 31] أي ابتلاء واختبار { لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [التحريم : 10] حتى قال أبو جهل : لما نزلت { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر : 30] أما يستطيع كل عشر منكم أن يأخذوا واحداً منهم وأنتم الدهم ، فقال أبو الأشد وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فنزلت { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَـابَ النَّارِ إِلا مَلَـائكَةً } [المدثر : 31] أي وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون.
وقالوا : في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنه لا يطلب في الأعداد العلل أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع الحديد ، والآخر خازن جهنم وهو مالك وهو الأكبر.
وقيل : في سقر تسعة عشر دركاً وقد سلط على كل درك ملك.
وقيل : يعذب فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب وعلى كل لون ملك موكل.
وقيل : إن جهنم تحفظ بما تحفظ به الأرض من الجبال وهي تسعة عشر وإن كان أصلها مائة وتسعين إلا أن غيرها يشعب عنها { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [المدثر : 31] لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [المدثر : 31] بمحمد وهو عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } { إِيمَـانًا } لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ، أو يزدادوا يقيناً لموافقة كتابهم كتاب أولئك { وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } [المدثر : 31] هذا عطف أيضاً ، وفيه توكيد للاستيقان وزيادة الإيمان إذ الاستيقان وازدياد الإيمان دالان على انتفاء الارتياب.
ثم عطف على { لِيَسْتَيْقِنَ } أيضاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 454
{ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [المدثر : 31] نفاق { وَالْكَـافِرُونَ } المشركون فإن قلت : النفاق ظهر في المدينة والسورة
455
(4/241)
مكية.
قلت : معناه وليقول المنافقون الذين يظهرون في المستقبل بالمدينة بعد الهجرة والكافرون بمكة { مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } [البقرة : 26] وهذا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب وذا لا يخالف كون السورة مكية.
وقيل : المراد بالمرض الشك والارتياب لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين.
و { مَثَلا } تمييز لهذا أو حال منه كقوله : { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } [الأعراف : 73] (هود : 46) ولما كان ذكر العدد في غاية الغرابة وأن مثله حقيق بأن تسير به الركبان سيرها بالأمثال سمي مثلاً ، والمعنى أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأي معنى أراد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين ، وغرضهم إنكاره أصلاً وأنه ليس من عند الله وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص { كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ } [المدثر : 31] الكاف نصب و " ذلك " إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يعني إضلال المنافقين والمشركين حتى قالوا ما قالوا ، وهدي المؤمنين بتصديقه ، ورؤية الحكمة في ذلك يضل الله من يشاء من عباده وهو الذي علم منه اختيار الضلال { وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] وهو الذي علم منه اختيار الاهتداء ، وفيه دليل خلق الأفعال ووصف الله بالهداية والإضلال.
لما قال أبو جهل لعنه الله : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر نزل { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } [المدثر : 31] لفرط كثرتها { إِلا هُوَ } [هود : 56] فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها { وَمَا هِىَ } [المدثر : 31] متصل بوصف سقر وهي ضميرها أي وما سقر وصفتها { إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } [المدثر : 31] أي تذكرة للبشر أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها.
{ كَلا } إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون { وَالْقَمَرِ } أقسم به لعظم منافعه { وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } [المدثر : 33] نافع وحفص وحمزة ويعقوب وخلف.
وغيرهم { قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } ودبر بمعنى أدبر ومعناهما ولى وذهب.
وقيل : أدبر ولى ومضى ، ودبر جاء بعد النهار { وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [المدثر : 34] أضاء وجواب القسم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 454
{ إِنَّهَا } إن سقر { لاحْدَى الْكُبَرِ } [المدثر : 35] هي جمع الكبرى أي لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر ، ومعنى كونها إحداهن أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها كما تقول : هو أحد الرجال
456
وهي إحدى النساء { نَذِيرًا } تمييز من { إِحْدَى } أي إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك : هي إحدى النساء عفافاً.
وأبدل من { لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ } بإعادة الجار { أَن يَتَقَدَّمَ } [المدثر : 37] إلى الخير { أَوْ يَتَأَخَّرَ } [المدثر : 37] عنه.
وعن الزجاج : إلى ما أمر وعما نهي.
{ كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [المدثر : 38] هي ليست بتأنيث " رهين " في قوله { كُلُّ امْرِى بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } (الطور : 12) لتأنيث النفس ، لأنه لو قصدت الصفة لقيل رهين ، لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك { إِلا أَصْحَـابَ الْيَمِينِ } [المدثر : 39] أي أطفال المسلمين لأنهم لا أعمال لهم يرهنون بها ، أو إلا المسلمين فإنهم فكوا رقابهم بالطاعة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق { فِى جَنَّـاتٍ } [الصف : 12] أي هم في جنات لا يكتنه وصفها { يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ } يسأل بعضهم بعضاً عنهم أو يتساءلون غيرهم عنهم { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } [المدثر : 42] أدخلكم فيها.
ولا يقال لا يطابق قوله { مَا سَلَكَكُمْ } [المدثر : 42] وهو سؤال للمجرمين قوله { يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ } وهو سؤال عنهم ، وإنما يطابق ذلك لو قيل يتساءلون المجرمين ما سلككم ، لأن { مَا سَلَكَكُمْ } [المدثر : 42] ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ، إلا أنه اختصر كما هو نهج القرآن.
وقيل : " عن " زائدة.
(4/242)
جزء : 4 رقم الصفحة : 454
{ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } [المدثر : 43] أي لم نعتقد فرضيتها { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [المدثر : 44] كما يطعم المسلمون { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآ ـاِضِينَ } [المدثر : 45] الخوض : الشروع في الباطل.
أي نقول الباطل والزور في آيات الله { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } [المدثر : 46] الحساب والجزاء { حَتَّى أَتَـاـانَا الْيَقِينُ } [المدثر : 47] الموت
457
{ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ } [المدثر : 48] من الملائكة والنبيين والصالحين لأنها للمؤمنين دون الكافرين.
وفيه دليل ثبوت الشفاعة للمؤمنين في الحديث : " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر " { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ } [المدثر : 49] عن التذكير وهو العظة أي القرآن { مُعْرِضِينَ } مولين حال من الضمير نحو : مالك قائماً { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ } [المدثر : 50] أي حمر الوحش حال من الضمير في { مُعْرِضِينَ } { مُّسْتَنفِرَةٌ } شديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها.
وبفتح الفاء : مدني وشامي أي استنفرها غيرها { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَة } [المدثر : 51] حال و " قد " معها مقدرة.
والقسورة : الرماة أو الأسد فعولة من القسر وهو القهر والغلبة ، شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر بحمر جدت في نفارها.
{ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً } [المدثر : 52] قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها : من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك.
ونحوه قوله : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَـابًا نَّقْرَؤُهُ } (الإسراء : 39) وقيل : قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار { كَلا } ردع لهم عن تلك الإرادة وزجر عن اقتراح الآيات.
ثم قال : { بَل لا يَخَافُونَ الاخِرَةَ } [المدثر : 53] فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } [المدثر : 54] ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال : إن القرآن تذكرة بليغة كافية { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [المدثر : 55] أي فمن شاء أن يذكره ولا ينساه فعل.
فإن نفع ذلك عائد إليه { وَمَا يَذْكُرُونَ } [المدثر : 56] وبالتاء : نافع ويعقوب { إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ } إلا وقت مشيئة الله وإلا بمشيئة الله { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [المدثر : 56] في الحديث : " هو أهل أن يتقي وأهل أن يغفر لمن اتقاه " .
458
سورة القيامة
مكية وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 1] أي أقسم.
عن ابن عباس : و " لا " كقوله { لِّئَلا يَعْلَمَ } [الحديد : 29] (الحديد : 92) وقوله :
في بئر لا حور سرى وما شعر وكقوله :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
وكاد ضمير القلب لا يتقطع
وعليه الجمهور وعن الفراء : " لا " رد لإنكار المشركين البعث كأنه قيل : ليس الأمر كما تزعمون ثم قيل : أقسم بيوم القيامة.
وقيل : أصله لأقسم كقراءة ابن كثير على أن اللام للابتداء و { أُقْسِمُ } خبر مبتدأ محذوف أي لأنا أقسم ويقويه أنه في " الإمام " بغير الألف ثم أشبع فظهر من الإشباع ألف ، وهذا اللام يصحبه نون التأكيد في الأغلب وقد يفارقه { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } [القيامة : 2] الجمهور على أنه قسم آخر.
وعن الحسن : أقسم
459
بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة فهي صفة ذم وعلى القسم صفة مدح أي النفس المتقية التي تلوم على التقصير في التقوى وقيل : هي نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها التي خرجت به من الجنة ، وجواب القسم محذوف أي لتبعثن دليله { أَيَحْسَبُ الانسَـانُ } [القيامة : 36] أي الكافر المنكر للبعث { أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [القيامة : 3] بعد تفرقها ورجوعها رفاتاً مختلطاً بالتراب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 459(4/243)
{ بَلَى } أوجبت ما بعد النفي أي بلى نجمعها { قَـادِرِينَ } حال من الضمير في { نَّجْمَعَ } أي نجمعها قادرين على جمعها وإعادتها كما كانت { عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ } [القيامة : 4] أصابعه كما كانت في الدنيا بلا نقصان وتفاوت مع صغرها فكيف بكبار العظام.
{ بَلْ يُرِيدُ الانسَـانُ } [القيامة : 5] عطف على { أَيَحْسَبُ } فيجوز أن يكون مثله استفهاماً { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } [القيامة : 5] ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان { يَسْـاَلُ أَيَّانَ } [القيامة : 6] متى { يَوْمُ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } [القيامة : 7] تحير فزعاً وبفتح الراء : مدني شخص { وَخَسَفَ الْقَمَرُ } [القيامة : 8] وذهب ضوؤه أو غاب من قوله { فَخَسَفْنَا بِهِ } [القصص : 81] (القصص : 18) وقرأ أبو حيوة بضم الخاء { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [القيامة : 9] أي جمع بينهما في الطلوع من المغرب أو جمعاً في ذهاب الضوء ويجمعان فيقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى { يَقُولُ الانسَـانُ } [القيامة : 10] الكافر { يَوْمَـاـاِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ } [القيامة : 10] هو مصدر أي الفرار من النار أو المؤمن أيضاً من الهول.
وقرأ الحسن بكسر الفاء وهو يحتمل المكان والمصدر { كَلا } ردع عن طلب المفر { لا وَزَرَ } [القيامة : 11] لا ملجأ { إِلَى رَبِّكَ } [الحج : 67] خاصة { يَوْمَـاـاِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [القيامة : 12] مستقر العباد أو موضع قرارهم من جنة أو نار مفوّض ذلك لمشيئته ، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 459
{ يَقُولُ الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذٍ } يخبر
460
{ بِمَا قَدَّمَ } [القيامة : 13] من عمل عمله { وَأَخَّرَ } ما لم يعمله.
{ بَلِ الانسَـانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } [القيامة : 14] شاهد.
والهاء للمبالغة كعلامة أو أنثه لأنه أراد به جوارحه إذ جوارحه تشهد عليه ، أو هو حجة على نفسه والبصيرة الحجة قال الله تعالى : { قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } [الأنعام : 104] (الأنعام : 401) وتقول لغيرك أنت حجة على نفسك.
و { بَصِيرَةٌ } رفع بالابتداء وخبره { عَلَى نَفْسِهِ } [القيامة : 14] تقدم عليه والجملة خبر الإنسان كقولك : زيد على رأسه عمامة.
والبصيرة على هذا يجوز أن يكون الملك الموكل عليه { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [القيامة : 15] أرخى ستوره والمعذار الستر.
وقيل : ولو جاء بكل معذرة ما قبلت منه فعليه من يكذب عذره.
والمعاذير ليس بجمع معذرة لأن جمعها معاذر بل هي اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر { لا تُحَرِّكْ بِهِ } [القيامة : 16] بالقرآن { لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [القيامة : 16] بالقرآن.
وكان صلى الله عليه وسلّم يأخذ في القرآن قبل فراغ جبريل كراهة أن يتفلت منه فقيل له : لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل يقرأ لتأخذه على عجلة ، ولئلا يتفلت منك.
ثم علل النهي عن العجلة بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } [القيامة : 17] في صدرك { وَقُرْءَانَهُ } وإثبات قراءته في لسانك ، والقرآن القراءة ونحوه { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه : 114] (طه : 411) { فَإِذَا قَرَأْنَـاهُ } [القيامة : 18] أي قرأه عليك جبريل فجعل قراءة جبريل قراءنه { فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ } [القيامة : 18] أي قراءته عليك { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة : 19] إذا أشكل عليك شيء من معانيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 459
{ كَلا } ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن العجلة وإنكار لها عليه ، وأكده بقوله { بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } [القيامة : 20] كأنه قيل : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة الدنيا وشهواتها { وَتَذَرُونَ الاخِرَةَ } [القيامة : 21] الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها والقراءة بالتاء : مدني وكوفي
461
(4/244)
{ وُجُوهٌ } هي وجوه المؤمنين { يَوْمَـاـاِذٍ نَّاضِرَةٌ } [القيامة : 22] حسنة ناعمة { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة : 23] بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة.
وحمل النظر على الانتظار لأمر ربها أو لثوابه لا يصح لأنه يقال : نظرت فيه أي تفكرت ، ونظرته انتظرته ، ولا يعدى بـ " إلى " إلا بمعنى الرؤية مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار { وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذ بَاسِرَةٌ } [القيامة : 24] كالحة شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار { تَظُنُّ } تتوقع { أَن يُفْعَلَ بِهَا } [القيامة : 25] فعل هو في شدته { فَاقِرَةٌ } داهية تقصم فقار الظهر { كَلا } ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين { إِذَا بَلَغَتِ } [القيامة : 26] أي الروح وجاز وإن لم يجر لها ذكر لأن الآية تدل عليها { التَّرَاقِىَ } العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [القيامة : 27] يقف حفص على { مَنْ } وقيفة أي قال حاضر والمحتضر بعضهم لبعض أيكم يرقيه مما به من الرقية من حد ضرب ، أو هو من كلام الملائكة : أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي من حد علم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 461
{ وَظَنَّ } أيقن المحتضر { أَنَّهُ الْفِرَاقُ } [القيامة : 28] أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } [القيامة : 29] التوت ساقاه عند موته.
وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أ كفانه.
وقيل : شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هما همّان : همّ الأهل والولد وهمّ القدوم على الواحد الصمد { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَـاـاِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة : 30] هو مصدر ساقه أي مساق العباد إلى حيث أمر الله إما إلى الجنة أو إلى النار { فَلا صَدَّقَ } [القيامة : 31] بالرسول والقرآن { وَلا صَلَّى } [القيامة : 31] الإنسان في قوله :
462
{ أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ } (القيامة : 3) { وَلَـاكِن كَذَّبَ } [القيامة : 32] بالقرآن { وَتَوَلَّى } عن الإيمان أو فلا صدق ماله يعني فلا زكاه { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } [القيامة : 33] يتبختر وأصله يتمطط أي يتمدد لأن المتبختر يمد خطاه فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة.
{ أَوْلَى لَكَ } [القيامة : 34] بمعنى ويل لك وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } كرر للتأكيد كأنه قال : ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك.
وقيل : ويل لك يوم الموت ، وويل لك في القبر ، وويل لك حين البعث ، وويل لك في النار.
{ أَيَحْسَبُ الانسَـانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة : 36] أيحسب الكافر أن يترك مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يبعث ولا يجازى؟ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى } [القيامة : 37] بالياء : ابن عامر وحفص أي يراق المني في الرحم ، وبالتاء يعود إلى النطفة { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } [القيامة : 38] أي صار المني قطعة دم جامد بعد أربعين يوماً { فَخَلَقَ فَسَوَّى } [القيامة : 38] فخلق الله منه بشراً سوياً { فَجَعَلَ مِنْهُ } [القيامة : 39] من الإنسان { الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } [النجم : 45] أي من المني الصنفين { أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى } [القيامة : 40] أليس الفعّال لهذه الأشياء بقادر على الإعادة؟ وكان صلى الله عليه وسلّم إذا قرأها يقول : سبحانك بلى.
463
سورة الإنسان
مكية وهي إحدى وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(4/245)
{ هَلْ أَتَى } [الإنسان : 1] قد مضى { عَلَى الانسَـانِ } [الإسراء : 83] آدم عليه السلام { حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } [الإنسان : 1] أربعون سنة مصوراً قبل نفخ الروح فيه { لَمْ يَكُن شيئا مَّذْكُورًا } [الإنسان : 1] لم يذكر اسمه ولم يدر ما يراد به لأنه كان طيناً يمر به الزمان ولو غير موجود لم يوصف بأنه قد أتى عليه حين من الدهر.
ومحل { لَمْ يَكُن شيئا مَّذْكُورًا } [الإنسان : 1] النصب على الحال من الإنسان أي أتى عليه حين من الدهر غير مذكور { إِنَّا خَلَقْنَا الانسَـانَ } [الإنسان : 2] أي ولد آدم ، وقيل الأول ولد آدم أيضاً و { حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } [الإنسان : 1] على هذا مدة لبثه في بطن أمه إلى أن صار شيئاً مذكوراً بين الناس { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان : 2] نعت أو بدل منها أي من نطفة قد امتزج فيها الماآن.
ومشجه ومزجه بمعنى و { نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان : 2] كبرمة أعشار فهو لفظ مفرد غير جمع ولذا وقع صفة للمفرد { نَّبْتَلِيهِ } حال أي خلقناه مبتلين أي مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي له { فَجَعَلْنَـاهُ سَمِيعَا بَصِيرًا } [الإنسان : 2] ذا سمع وبصر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
{ إِنَّا هَدَيْنَـاهُ السَّبِيلَ } [الإنسان : 3] بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع
464
{ إِمَّا شَاكِرًا } [الإنسان : 3] مؤمناً { وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان : 3] كافراً حالان من الهاء في { هَدَيْنَـاهُ } أي إن شكر وكفر فقد هديناه السبيل في الحالين أو من السبيل أي عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وأما سبيلاً كفوراً.
ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
ولما ذكر الفريقين أتبعهما ما أعد لهما فقال { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ } جمع سلسلة بغير تنوين : حفص ومكي وأبو عمرو وحمزة ، وبه ليناسب { وَأَغْلَـالا وَسَعِيرًا } إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب : غيرهم { وَأَغْلَـالا } جمع غلّ { وَسَعِيرًا } ناراً موقدة.
وقال { إِنَّ الابْرَارَ } [الانفطار : 13] جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد وهم الصادقون في الإيمان أو الذين لا يؤذون الذرّ ولا يضمرون الشر { يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ } [الإنسان : 5] خمر فنفس الخمر تسمى كأساً.
وقيل : الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر { كَانَ مِزَاجُهَا } [الإنسان : 17] ما تمزج به { كَفُورًا } ماء كافور وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده { عَيْنًا } بدل منه { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [الإنسان : 6] أي منها أو الباء زائدة أو هو محمول على المعنى أي يلتذ بها أو يروي بها.
وإنما قال أولاً بحرف " من " وثانياً بحرف الباء لأن الكأس مبتدأ شربهم وأول غايته ، وأما العين فيها يمزجون شرابهم فكأنه قيل : يشرب عباد الله بها الخمر { يُفَجِّرُونَهَا } يجرونها حيث شاءوا من منازلهم { تَفْجِيرًا } سهلاً لا يمتنع عليهم.
{ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } [الإنسان : 7] بما أوجبوا على أنفسهم ، وهو جواب " من " عسى أن يقول : ما لهم يرزقون ذلك؟ والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات لأن من وفّى بما أوجبه على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى { وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ } [الإنسان : 7] شدائده { مُسْتَطِيرًا } منتشراً من استطار الفجر { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } [الإنسان : 8] أي حب الطعام من الاشتهار والحاجة إليه
465
أو على حب الله { مِسْكِينًا } فقيراً عاجزاً عن الاكتساب { وَيَتِيمًا } صغيراً لا أب له { وَأَسِيرًا } مأسوراً مملوكاً أو غيره.
ثم عللوا إطعامهم فقالوا :
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
(4/246)
{ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [الإنسان : 9] أي لطلب ثوابه أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم ، لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً { لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً } [الإنسان : 9] هدية على ذلك { وَلا شُكُورًا } [الإنسان : 9] ثناء وهو مصدر كالشكر { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } [الإنسان : 10] أي إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة ، أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف { يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا } [الإنسان : 10] وصف اليوم بصفة أهله من الأشقياء نحو : نهارك صائم.
والقمطرير الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه.
{ فَوَقَـاـاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَالِكَ الْيَوْمِ } [الإنسان : 11] صانهم من شدائده { وَلَقَّـاـاهُمْ } أعطاهم بدل عبوس الفجار { نَضْرَةَ } حسناً في الوجوه { وَسُرُورًا } فرحاً في القلوب { وَجَزَاـاهُم بِمَا صَبَرُوا } [الإنسان : 12] بصبرهم على الإيثار.
نزلت في علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، لما مرض الحسن والحسين رضي الله عنهما نذروا صوم ثلاثة أيام فاستقرض علي رضي الله عنه من يهودي ثلاثة أصوع من الشعير ، فطحنت فاطمة رضي الله عنها كل يوم صاعاً وخبزت فآثروا بذلك ثلاثة عشايا على أنفسهم مسكيناً ويتيماً وأسيراً ولم يذوقوا إلا الماء في وقت الإفطار.
{ جَنَّةُ } بستاناً فيه مأكل هنيء { وَحَرِيرًا } ملبساً بهياً { مُتَّكِـاِينَ } حال من " هم " في { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ } [النور : 1] في الجنة { عَلَى الارَآ ـاِكِ } [الإنسان : 13] الأسرة جمع الأريكة { لا يَرَوْنَ } [الإنسان : 13] حال من الضمير المرفوع في { مُتَّكِـاِينَ } غير رائين { فِيهَآ } في الجنة { شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا } [الإنسان : 13] لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير فظلها دائم
466
وهواؤها معتدل ، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي.
وفي الحديث : " هواء الجنة سجسج لا حر ولا قرّ " .
فالزمهرير البرد الشديد.
وقيل : القمر أي الجنة مضيئة لا يحتاج فيها إلى شمس وقمر { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَـالُهَا } [الإنسان : 14] قريبة منهم ظلال أشجارها عطفت على جنة أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها كأنهم وعدوا بجنتين لأنهم وصفوا بالخوف بقوله : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا } [الإنسان : 10] { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن : 46] (الرحمن : 64) { وَذُلِّلَتْ } سخرت للقائم والقاعد والمتكىء وهو حال من { دَانِيَةٌ } أي تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها عليهم ، أو معطوفة عليها أي ودانية عليهم ظلالها ومذللة { قُطُوفُهَا } ثمارها جمع قطف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
{ تَذْلِيلا * وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـاَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } أي يدير عليهم خدمهم كئوس الشراب.
والآنية جمع إناء وهو وعاء الماء { وَأَكْوَابٍ } أي من فضة جمع كوب وهو إبريق لا عروة له { كَانَتْ قَوَارِيرَا } [الإنسان : 15] " كان " تامة أي كونت فكانت قوارير بتكوين الله نصب على الحال { قَوَارِيرَا مِن فِضَّةٍ } [الإنسان : 16] أي مخلوقة من فضة فهي جامعة لبياض الفضة وحسنها وصفاء القوارير وشفيفها حيث يرى ما فيها من الشراب من خارجها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قوارير كل أرض من تربتها وأرض الجنة فضة.
قرأ نافع والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بالتنوين فيهما.
وحمزة وابن عامر وأبو عمرو وحفص بغير تنوين فيهما.
وابن كثير بتنوين الأول والتنوين في الأول لتناسب الآي المتقدمة والمتأخرة ، وفي الثاني لإتباعه الأول.
والوقف على الأول قد قيل ولا يوثق به لأن الثاني بدل من الأول { قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } [الإنسان : 16] صفة لـ { قَوَارِيَرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } أي أهل الجنة قدروها على أشكال مخصوصة فجاءت كما قدروها تكرمة لهم ، أو السقاة جعلوها على قدر ريّ شاربها فهي ألذ لهم وأخف عليهم.
وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض.
467
(4/247)
{ وَيُسْقَوْنَ } أي الأبرار { فِيهَآ } في الجنة { كَأْسًا } خمراً { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلا * عَيْنًا } بدل من { زَنجَبِيلا } { فِيهَآ } في الجنة { تُسَمَّى } تلك العين { سَلْسَبِيلا } سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه وتستطيبه.
وسلسبيلاً لسلاسة انحدارها وسهولة مساغها.
قال أبو عبيدة : ماء سلسبيل أي عذب طيب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 464
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ } [الإنسان : 19] غلمان ينشئهم الله لخدمة المؤمنين ، أو ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة { مُّخَلَّدُونَ } لا يموتون { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ } [الإنسان : 19] لحسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم { لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا } [الإنسان : 19] وتخصيص المنثور لأنه أزين في النظر من المنظوم { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } [الإنسان : 20] ظرف أي في الجنة وليس لـ { رَأَيْتُ } مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي تقديره وإذا اكتسبت الرؤية في الجنة { رَأَيْتَ نَعِيمًا } [الإنسان : 20] كثيراً { وَمُلْكًا كَبِيرًا } [الإنسان : 20] واسعاً.
يروى أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.
وقيل : ملك لا يعقبه هلك ، أو لهم فيها ما يشاؤون أو تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون في الدخول عليهم { عَلَيْهِمْ } بالنصب على أنه حال من الضمير في { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } [الواقعة : 17] أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب.
وبالسكون : مدني وحمزة على أنه مبتدأ خبره { ثِيَابُ سُندُسٍ } [الإنسان : 21] أي ما يعلوهم من ملابسهم ثياب سندس رقيق الديباج.
جزء : 4 رقم الصفحة : 468
{ خُضْرٍ } جمع أخضر { وَإِسْتَبْرَقٍ } غليظ يرفعهما حملاً على الثياب : نافع وحفص ، وبجرهما : حمزة وعلي حملاً على { سُندُسٍ } وبرفع الأول وجر الثاني أو عكسه : غيرهم { وَحُلُّوا } عطف على { وَيَطُوفُ } { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [الإنسان : 21] وفي سورة " الملائكة " : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } [الحج : 23] (الحج : 32).
قال ابن المسيب : لا أحد من أهل الجنة إلا وفي يده ثلاثة أسورة : واحدة من فضة وأخرى من ذهب وأخرى من لؤلؤ.
{ وَسَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ } [الإنسان : 21] أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص.
وقيل : إن الملائكة يعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منهم ويقولون : لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكاسات تلاقي أفواههم
468
بغير أكف من غيب إلى عبد { شَرَابًا طَهُورًا } [الإنسان : 21] ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثم ، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة يقال لأهل الجنة { إِنَّ هَـاذَآ } [ص : 23] النعيم { كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } [الإنسان : 22] لأعمالكم { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا } [الإنسان : 22] محموداً مقبولاً مرضياً عندنا حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً.
(4/248)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلا } [الإنسان : 23] تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلّم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله مفرقاً إلا حكمة وصواباً ومن الحكمة الأمر بالمصابرة { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [الإنسان : 24] عليك بتبليغ الرسالة واحتمال الأذية وتأخير نصرتك على أعدائك من أهل مكة { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ } [الإنسان : 24] من الكفرة للضجر من تأخير الظفر { ءَاثِمًا } راكباً لما هوى إثم داعياً لك إليه { أَوْ كَفُورًا } [الإنسان : 24] فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه ، لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل ما هو إثم أو كفر أو غير إثم ولا كفر ، فنهى أن يساعدهم على الأولين دون الثالث.
وقيل : الآثم عتبة لأنه كان ركاباً للمآثم والفسوق.
والكفور : الوليد لأنه كان غالياً في الكفر والجحود.
والظاهر أن المراد كل آثم وكافر أي لا تطع أحدهما ، وإذا نهي عن طاعة أحدهما لا بعينه فقد نهى عن طاعتهما معاً ومتفرقاً.
ولو كان بالواو لجاز أن يطيع أحدهما لأن الواو للجمع فيكون منهياً عن طاعتهما معاً لا عن طاعة أحدهما ، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه كان عن طاعتهما جميعاً أنهى.
وقيل : " أو " بمعنى " ولا " أي ولا تطع آثماً ولا كفوراً { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ } [الإنسان : 25] صلّ له { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلا } صلاة
469
الظهر والعصر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 468
{ وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ } [الإنسان : 26] وبعض الليل فصّل صلاة العشاءين { وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا } [الإنسان : 26] أي تهجد له هزيعاً طويلاً من الليل ثلثيه أو نصفه أو ثلثه.
{ إِنَّ هؤلاء } [الحجر : 68] الكفرة { يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } [الإنسان : 27] يؤثرونها على الآخرة { وَيَذَرُونَ } قدامهم أو خلف ظهورهم { وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا } [الإنسان : 27] شديداً لا يعبئون به وهو القيامة لأن شدائده تثقل على الكفار { نَّحْنُ خَلَقْنَـاهُمْ وَشَدَدْنَآ } [الإنسان : 28] أحكمنا { أَسْرَهُمْ } خلقهم عن ابن عباس رضي الله عنهما والفرا { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَـالَهُمْ تَبْدِيلا } [الإنسان : 28] أي إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع { إِنَّ هَـاذِهِ } [الأنبياء : 92] السورة { تَذْكِرَةٌ } عظة { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } [المزمل : 19] بالتقرب إليه بالطاعة له واتباع رسوله { وَمَآ } اتخاذ السبيل إلى الله.
وبالياء : مكي وشامي وأبو عمرو.
ومحل { تَشَآءُونَ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30] النصب على الظرف أي إلا وقت مشيئة الله ، وإنما يشاء الله ذلك ممن علم منه اختياره ذلك.
وقيل : هو لعموم المشيئة في الطاعة والعصيان والكفر والإيمان فيكون حجة لنا على المعتزلة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } [النساء : 11] بما يكون منهم من الأحوال { حَكِيمًا } مصيباً في الأقوال والأفعال { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ } [الشورى : 8] وهم المؤمنون { فِى رَحْمَتِهِ } [التوبة : 99] جنته لأنها برحمته تنال وهو حجة على المعتزلة لأنهم يقولون قد شاء أن يدخل كلاً في رحمته لأنه شاء إيمان الكل ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته وهو الذي علم منه أنه يختار الهدى { وَالظَّـالِمِينَ } الكافرين لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها ونصب بفعل مضمر يفسره { أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمَا } [الإنسان : 31] نحو : أوعد وكافأ.
470(4/249)
سورة المرسلات
مكية وهي خمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْمُرْسَلَـاتِ عُرْفًا * فَالْعَـاصِفَـاتِ عَصْفًا * وَالنَّـاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَـارِقَـاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَـاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا } أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكراً إلى الأنبياء عليهم السلام عذراً للمحقين أو نذراً للمبطلين.
أو أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله { عَلَيْنَا كِسَفًا } (الروم : 84) فألقين ذكراً إما عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، واما نذراً للذين لا يشكرون وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر باعتبار السببية.
{ عُرْفًا } حال أي متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً ، أو مفعول له أي أرسلن للإحسان والمعروف.
و { عَصْفًا } و { نَشْرًا } مصدران.
{ أَوْ نُذْرًا } [المرسلات : 6] أبو عمرو وكوفي غير أبي بكر وحماد.
والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوف على فعل كالكفر والشكر.
وانتصابهما على البدل من { ذِكْرًا }
جزء : 4 رقم الصفحة : 471
أو على المفعول له.
471
{ إِنَّمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات : 5] إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة { لَوَاقِعٌ } لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ولا وقف إلى هنا لوصل الجواب بالقسم { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } [المرسلات : 8] محيت أو ذهب بنورها وجواب { فَإِذَا } محذوف والعامل فيها جوابها وهو وقوع الفصل ونحوه ، و { النُّجُومُ } فاعل فعل يفسره { طُمِسَتْ } { وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ } [المرسلات : 9] فتحت فكانت أبواباً { وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } [المرسلات : 10] قلعت من أماكنها { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } [المرسلات : 11] أي وقتت كقراءة أبي عمرو أبدلت الهمزة من الواو ، ومعنى توقيت الرسل تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم { لايِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } [المرسلات : 12] أخرت وأمهلت ، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله والتأجيل من الأجل كالتوقيت من الوقت { لِيَوْمِ الْفَصْلِ } [المرسلات : 13] بيان ليوم التأجيل وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق { وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ } [المرسلات : 14] تعجيب آخر وتعظيم لأمره { وَيْلٌ } مبتدأ وإن كان نكرة لأنه في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ونحوه { سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ } [النحل : 32] (الرعد : 42) { يَوْمَـاـاِذٍ } ظرفه { لِّلْمُكَذِّبِينَ } بذلك اليوم خبره.
{ أَلَمْ نُهْلِكِ الاوَّلِينَ } [المرسلات : 16] الأمم الخالية المكذبة { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخِرِينَ } [المرسلات : 17] مستأنف بعد وقف ، وهو وعيد لأهل مكة أي ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم.
{ كَذَالِكَ } مثل ذلك الفعل الشنيع { نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } [الصافات : 34] بكل من أجرم { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بما أوعدنا { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [المرسلات : 20] حقير وهو النطفة { فَجَعَلْنَـاهُ } أي الماء { فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون : 13] مقر يتمكن فيه وهو الرحم ومحل { إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [المرسلات : 22] الحال أي
472
مؤخر إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به وهو تسعة أشهر أو ما فوقها أو ما دونها { فَقَدَرْنَا } فقدرنا ذلك تقديراً { فَنِعْمَ الْقَـادِرُونَ } [المرسلات : 23] فنعم المقدرون له نحن أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن ، والأول أحق لقراءة نافع وعلي بالتشديد ، ولقوله { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس : 19] (عبس : 91) { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بنعمة الفطرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 471(4/250)
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ كِفَاتًا } [المرسلات : 25] هو كفت الشيء إذا ضمه وجمعه وهو اسم ما يكفت كقولهم الضمام لما يضم وبه انتصب { أَحْيَآءً وَأَمْوَاتًا } [المرسلات : 26] كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً ، أو بفعل مضمر يدل عليه { كِفَاتًا } وهو تكفت أي تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها ، والتنكير فيهما للتفخيم أي تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ } [المرسلات : 27] جبالاً ثوابت { شَـامِخَـاتٍ } عاليات { وَأَسْقَيْنَـاكُم مَّآءً فُرَاتًا } [المرسلات : 27] عذاباً { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بهذه النعمة { انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [المرسلات : 29] أي يقال لكافرين يوم القيامة سيروا إلى النار التي كنتم بها تكذبون { انطَلِقُوا }
جزء : 4 رقم الصفحة : 473
تكرير للتوكيد { إِلَى ظِلٍّ } [المرسلات : 30] دخان جهنم { ذِى ثَلَـاثِ شُعَبٍ } [المرسلات : 30] يتشعب لعظمه ثلاث شعب وهكذا الدخان العظيم يتفرق ثلاث فرق { لا ظَلِيلٍ } [المرسلات : 31] نعت ظل أي لا مظل من حر ذلك اليوم وحر النار { وَلا يُغْنِى } [مريم : 42] في محل الجر أي وغير مغنٍ لهم { مِنَ اللَّهَبِ } [المرسلات : 31] من حر اللهب شيئاً { إِنَّهَا } أي النار { تَرْمِى بِشَرَرٍ } [المرسلات : 32] هو ما تطاير من النار { كَالْقَصْرِ } في العظم.
وقيل : هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة { كَأَنَّهُ جِمَـالَتٌ } [المرسلات : 33] كوفي غير أبي بكر جمع جمل جمالات غيرهم جمع الجمع { صُفْرٌ } جمع أصفر أي سود تضرب إلى الصفرة ، وشبه الشرر بالقصر لعظمه وارتفاعه ، وبالجمال للعظم والطول واللون { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بأن هذه صفتها.
473
{ هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ } [المرسلات : 35] وقرىء بنصب اليوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية وعن قوله { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر : 31] (الزمر : 13) فقال : في ذلك اليوم مواقف في بعضها يختصمون وفي بعضها لا ينطقون.
أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق.
{ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ } [المرسلات : 36] في الاعتذار { فَيَعْتَذِرُونَ } عطف على { يُؤْذَنُ } منخرط في سلك النفي أي لا يكون لهم إذن واعتذار { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بهذا اليوم { هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } [الصافات : 21] بين المحق والمبطل والمحسن والمسيء بالجزاء { جَمَعْنَـاكُمْ } يا مكذبي محمد { وَالاوَّلِينَ } والمكذبين قبلكم { فَإِن كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ } [المرسلات : 39] حيلة في دفع العذاب { فَكِيدُونِ } فاحتالوا عليّ بتخليص أنفسكم من العذاب.
والكيد متعدٍ تقول : كدت فلاناً إذا احتلت عليه { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بالبعث.
جزء : 4 رقم الصفحة : 473
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ } [الحجر : 45] من عذاب الله { فِى ظِلَـالٍ } [يس : 56] جمع ظل { وَعُيُونٍ } جارية في الجنة { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } [المرسلات : 42] أي لذيذة مشتهاة { كُلُوا وَاشْرَبُوا } [البقرة : 60] في موضع الحال من ضمير { الْمُتَّقِينَ } في الظرف الذي هو { فِى ظِلَـالٍ } [يس : 56] أي هم مستقرون في ظلال مقولاً لهم ذلك { هَنِياـاَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 19] في الدنيا { إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الصافات : 80] فأحسنوا تجزوا بهذا { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بالجنة { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا } [المرسلات : 46] كلام مستأنف خطاب للمكذبين في الدنيا على وجه التهديد كقوله : { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت : 40] (فصلت : 04) { قَلِيلا } لأن متاع الدنيا قليل { إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ } [المرسلات : 46] كافرون أي إن كل مجرى يأكل ويتمتع أياماً قلائل ثم يبقى في الهلاك الدائم { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بالنعم
474
(4/251)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا } [المرسلات : 48] اخشعوا لله وتواضعوا إليه بقبول وحيه واتباع دينه ودعوا هذا الاستكبار { لا يَرْكَعُونَ } [المرسلات : 48] لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على استكبارهم ، أو إذا قيل لهم صلوا لا يصلون { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] بالأمر والنهي { فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَهُ } [الأعراف : 185] بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } أي إن لم يؤمنوا بالقرآن مع أنه آية مبصرة ومعجزة باهرة من بين الكتب السماوية فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ والله أعلم.
475
سورة النبأ
مكية وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَمَّ } أصله " عن ما " وقرىء بها ، ثم أدغمت النون في الميم فصار " عما " وقرىء بها ، ثم حذفت الألف تخفيفاً لكثرة الاستعمال في الاستفهام وعليه الاستعمال الكثير ، وهذا استفهام تفخيم للمستفهم عنه لأنه تعالى لا تخفى عليه خافية { يَتَسَآءَلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً أو يسألون غيرهم من المؤمنين ، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ويسألون المؤمنين عنه على طريق الاستهزاء { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } [النبأ : 2] أي البعث وهو بيان للشأن المفخم وتقديره : عم يتساءلون يتساءلون عن النبإ العظيم { الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } [النبأ : 3] فمنهم من يقطع بإنكاره ومنهم من يشك.
وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين وكانوا جيعاً يتساءلون عنه ، فالمسلم يسأل ليزداد خشية ، والكافر يسأل استهزاء { كَلا } ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤاً { سَيَعْلَمُونَ } وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عياناً أن ما يستاءلون عنه حق { ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ } [النبأ : 5] كرر الردع للتشديد و " ثم " يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 476
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الارْضَ } [المرسلات : 25] لما أنكروا البعث.
قيل لهم : ألم يخلق من أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة فلم تنكرون قدرته على البعث وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم : لم فعل هذه الأشياء والحكيم لا يفعل عبثاً وإنكار
476
البعث يؤدي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ { مِهَـادًا } فراشاً فرشناها لكم حتى سكنتموها { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } [النبأ : 7] للأرض لئلا تيمد بكم { وَخَلَقْنَـاكُمْ أَزْوَاجًا } [النبأ : 8] ذكر أو أنثى { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } [النبأ : 9] قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم والسبت القطع { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا } [النبأ : 10] ستراً يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } وقت معاش تتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا } [النبأ : 12] سبع سموات { شِدَادًا } جمع شديدة أي محكمة قوية لا يؤثّر فيها مرور الزمان أو غلاظاً غلظ كل واحدة مسيرة خمسمائة عام { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } [النبأ : 13] مضيئاً وقّاداً أي جامعاً للنور والحرارة والمراد الشمس { وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } [النبأ : 14] أي السحائب إذا أعصرت أي شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض ، أو الرياح لأنها تنشىء السحاب وتدر أحلافه فيصح أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء أن الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب { مَآءً ثَجَّاجًا } [النبأ : 14] منصباً بكثرة { لِّنُخْرِجَ بِهِ } [النبأ : 15] بالماء { حَبًّا } كالبر والشعير { وَنَبَاتًا } وكلأ { وَجَنَّـاتٍ } بساتين { أَلْفَافًا } ملتفة الأشجار واحدها لف كجذع وأجذاع ، أو لفيف كشريف وأشراف ، أو لا واحد له كأوزاع ، أو هي جمع الجمع فهي جمع لف واللف جمع لفاء وهي شجرة مجتمعة.
ولا وقف من { أَلَمْ نَجْعَلِ } [المرسلات : 25] إلى { أَلْفَافًا } الوقف الضروري على { أَوْتَادًا } و { مَعَاشًا } .
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } [النبأ : 17] بين المحسن والمسيء والمحق والمبطل { كَانَ مِيقَـاتًا } [النبأ : 17] وقتاً محدوداً ومنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو ميعاداً للثواب والعقاب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 476(4/252)
{ يَوْمَ يُنفَخُ } [الأنعام : 73] بدل من { يَوْمُ الْفَصْلِ } [المرسلات : 14] أو عطف بيان { فِى الصُّورِ } [ق : 20] في القرن { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا } [النبأ : 18] حال أي جماعات مختلفة أو أمماً كل أمة مع رسولها { وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ } [النبأ : 19] خفيف : كوفي أي شقت لنزول الملائكة { فَكَانَتْ أَبْوَابًا } [النبأ : 19] فصارت ذات أبواب وطرق وفروج
477
ومالها اليوم من فروج { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [النبأ : 20] عن وجه الأرض { فَكَانَتْ سَرَابًا } [النبأ : 20] أي هباء تخيّل الشمس أنه ماء { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا } [النبأ : 21] طريقاً عليه ممر الخلق فالمؤمن يمر عليها والكافر يدخلها.
وقيل : المرصاد الحد الذي يكون فيه الرصد أي هي حد الطاغين الذين يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم ، أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها { لِّلطَّـاغِينَ مَـاَابًا } [النبأ : 22] للكافرين مرجعاً { لَّـابِثِينَ } ماكثين حال مقدرة من الضمير في { لِلطَّـاغِينَ } حمزة { لَّـابِثِينَ } واللبث أقوى إذ اللابث من وجد منه اللبث وإن قل ، واللبث من شأنه اللبث والمقام في المكان { فِيهَآ } في جهنم { أَحْقَابًا } ظرف جمع حقب وهو الدهر ولم يرد به عدد محصور بل الأبد كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحقب والحقبة إلا إذا أريد تتابع الأزمنة وتواليها.
وقيل : الحقب ثمانون سنة.
وسئل بعض العلماء عن هذه الآية فأجاب بعد عشرين سنة { لَّـابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَابًا } [النبأ : 23].
جزء : 4 رقم الصفحة : 476
{ لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } [النبأ : 24] أي غير ذائقين حال من ضمير { لَّـابِثِينَ } فإذا انقضت هذه الأحقاب التي عذبوا فيها بمنع البرد والشراب بدلوا بأحقاب أخر فيها عذاب آخر وهي أحقاب بعد أحقاب لا انقطاع لها.
وقيل : هو من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حقب وجمعه حقاب فينتصب حالاً عنهم أي لابثين فيها حقبين جهدين و { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } [النبأ : 24] تفسير له.
وقوله { إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } [النبأ : 25] استثناء منقطع أي { لا يَذُوقُونَ } [النبأ : 24] في جهنم أو في الأحقاب { بَرْدًا } روحاً ينفس عنهم حر النار أو نوماً ومنه منع البرد البرد ، { وَلا شَرَابًا } [النبأ : 24] يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميماً ماء حاراً يحرق ما يأتي عليه { وَغَسَّاقًا } ماء يسيل من صديدهم.
وبالتشديد : كوفي غير أبي بكر { جَزَآءُ } جوزوا جزاء { وِفَاقًا } موافقاً لأعمالهم مصدر بمعنى الصفة أو ذا وفاق.
ثم استأنف معللاً فقال { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } [النبأ : 27] لا يخافون
478
محاسبة الله إياهم أو لم يؤمنوا بالبعث فيرجوا حساباً { وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كِذَّابًا } [النبأ : 28] تكذيباً وفعّال في باب فعّل كله فاش { وَكُلَّ شَىْءٍ } [يس : 12] نصب بمضمر يفسره { أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا } [النبأ : 29] مكتوباً في اللوح حال أو مصدر في موضع إحصاء ، أو أحصيناً في معنى كتبنا لأن الاحصاء يكون بالكتابة غالباً.
وهذه الآية اعتراض لأن قوله { فَذُوقُوا } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات أي فذوقوا جزاءكم والالتفات شاهد على شدة الغضب { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [النبأ : 30] في الحديث " هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار " .
جزء : 4 رقم الصفحة : 476
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } [النبأ : 31] مفعل من الفوز يصلح مصدراً أي نجاة من كل مكروه وظفراً بكل محبوب ويصلح للمكان وهو الجنة.
ثم أبدل منه بدل البعض من الكل فقال { حَدَآ ـاِقَ } بساتين فيها أنواع الشجر المثمر جمع حديقة { وَأَعْنَـابًا } كروماً عطف على { حَدَآ ـاِقَ } { وَكَوَاعِبَ } نواهد { أَتْرَابًا } لدات مستويات في السن { وَكَأْسًا دِهَاقًا } [النبأ : 34] مملوءة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 479
(4/253)
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } [مريم : 62] في الجنة حال من ضمير خبر " إن " { لَغْوًا } باطلاً { وَلا كِذاَّبًا } [النبأ : 35] الكسائي : خفيف بمعنى مكاذبة أي لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكاذبه { جَزَآءُ } مصدر أي جزاهم جزاء { مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً } [النبأ : 36] مصدر أو بدل من { جَزَآءُ } { حِسَابًا } صفة يعني كافياً أو على حسب أعمالهم { رَّبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـانِ } [النبأ : 37] بجرهما : ابن عامر وعاصم بدلاً من { رَبَّكَ } ومن رفعهما فـ { رَبِّ } خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره { الرَّحْمَـانُ } أو { الرَّحْمَـانُ } صفته و { لا يَمْلِكُونَ } [مريم : 87] خبر ، أو هما خبران والضمير في { لا يَمْلِكُونَ } [مريم : 87] لأهل السماوات والأرض ، وفي { مِنْهُ خِطَابًا } [النبأ : 37] لله تعالى أي لا يملكون الشفاعة من عذابه تعالى إلا بإذنه أو لا يقدر أحد أن يخاطبه تعالى خوفاً { يَوْمَ يَقُومُ } [إبراهيم : 41] إن جعلته
479
ظرفاً لـ { لا يَمْلِكُونَ } [مريم : 87] لا تقف على { خِطَابًا } وإن جعلته ظرفاً لـ { لا يَتَكَلَّمُونَ } [النبأ : 38] تقف { الرُّوحُ } جبريل عند الجمهور وقيل هو ملك عظيم ما خلق الله تعالى بعد العرش خلقاً أعظم منه { وَالْمَلَـائكَةُ صَفًّا } [النبأ : 38] حال أي مصطفين { لا يَتَكَلَّمُونَ } [النبأ : 38] أي الخلائق ثم خوفاً من { إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ } [طه : 109] في الكلام أو في الشفاعة { وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38] حقاً بأن قال المشفوع له لا إله إلا الله في الدنيا أو لا يؤذن إلا لمن يتكلم بالصواب في أمر الشفاعة.
{ ذَالِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } [النبأ : 39] الثابت وقوعه { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَـاَابًا } [النبأ : 39] مرجعاً بالعمل الصالح { إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ } [النبأ : 40] أيها الكفار { عَذَابًا قَرِيبًا } [النبأ : 40] في الآخرة لأن ما هو آتٍ قريب { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ } [النبأ : 40] الكافر لقوله : { إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } [النبأ : 40] { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [الكهف : 57] من الشر لقوله : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } (آل عمران : 281).
وتخصيص الأيدي لأن أكثر الأعمال تقع بها وإن احتمل أن لا يكون للأيدي مدخل فيما ارتكب من الآثام { وَيَقُولُ الْكَافِرُ } [النبأ : 40] وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الذم ، أو المرء عام وخص منه الكافر وما قدمت يداه ما عمل من خير وشر ، أو هو المؤمن لذكر الكافر بعده وما قدم من خير.
و " ما " استفهامية منصوبة بـ { قَدَّمْتُ } أي ينظر أي شيء قدمت يداه ، أو موصولة منصوبة بـ { يَنظُرُ } يقال : نظرته يعني نظرت إليه والراجع من الصلة محذوف أي ما قدمته { الْكَافِرُ يَـالَيْتَنِى كُنتُ تُرَابَا } في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف أوليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث.
وقيل : يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ثم يرده تراباً ، فيود الكافر حاله.
وقيل : الكافر إبليس يتمنى أن يكون كآدم مخلوقاً من التراب ليثاب ثواب أولاده المؤمنين
480(4/254)
سورة النازعات
ست وأربعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّـازِعَـاتِ غَرْقًا * وَالنَّـاشِطَـاتِ نَشْطًا * وَالسَّـابِحَـاتِ سَبْحًا * فَالسَّـابِقَـاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } لا وقف إلى هنا.
ولزم هنا لأنه لو وصل لصار { يَوْمَ } ظرف وقد انقضى تدبير الملائكة في ذلك اليوم.
أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد غرقاً أي إغراقاً في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها ومواضع أظفارها ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم.
أو بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب ، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه.
أو بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، وإغراقها في النزع أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب.
وجواب القسم محذوف وهو " لتبعثن " لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 481
{ أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ } [المزمل : 14] تتحرك حركة شديدة والرجف شدة الحركة { الرَّاجِفَةُ } النفخة الأولى وصفت بما يحدث بحدوثها لأنها تضطرب بها الأرض حتى يموت كل من عليها { تَتْبَعُهَا } حال عن الراجفة { الرَّادِفَةُ } النفخة الثانية لأنها تردف الأولى
481
وبينهما أربعون سنة ، والأولى تميت الخلق والثانية تحييهم { قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ } [النازعات : 8] قلوب منكري البعث { وَاجِفَةٌ } مضطربة من الوجيب وهو الوجيف.
وانتصاب { يَوْمَ تَرْجُفُ } [المزمل : 14] بما دل عليه { قُلُوبٌ يَوْمَـاـاِذٍ وَاجِفَةٌ } [النازعات : 8] أي يوم ترجف وجفت القلوب ، وارتفاع { قُلُوبٌ } بالابتداء و { وَاجِفَةٌ } صفتها { أَبْصَـارُهَا } أي أبصار أصحابها { خَـاشِعَةٌ } ذليلة لهول ما ترى حبرها { يَقُولُونَ } أي منكرو البعث في الدنيا استهزاء وإنكاراً للبعث { أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ } استفهام بمعنى الإنكار أي أنرد بعد موتنا إلى أول الأمر فنعود أحياء كما كنا؟ والحافرة الحالة الأولى يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته أي إلى حالته الأولى.
ويقال : النقد عند الحافرة أي عند الحالة الأولى ، وهي الصفقة أنكروا البعث.
ثم زادوا استبعاداً فقالوا { أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا نَّخِرَةً } [النازعات : 11] بالية : كوفي غير حفص.
وفعل أبلغ من فاعل يقال : نخر العظم فهو نخر وناخر.
والمعنى أنرد إلى الحياة بعد أن صرنا عظاماً بالية؟ و " إذا " منصوب بمحذوف وهو " نبعث " { شُرَكَآءِى قَالُوا } [فصلت : 47] أي منكرو البعث { تِلْكَ } رجعتنا { إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [النازعات : 12] رجعة ذات خسران أو خاسر أصحابها ، والمعنى أنها إن صحت وبعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها وهذا استهزاء منهم { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } [النازعات : 13] متعلق بمحذوف أي لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل فإنها سهلة هينة في قدرته فما هي إلا صيحة واحدة يريد النفخة الثانية من قولهم : زجر البعير إذا صاح عليه { فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 14] فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعدما كانوا أمواتاً في جوفها.
وقيل : الساهرة أرض بعينها بالشأم إلى جنب بيت المقدس أو أرض مكة أو جهنم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 481
{ هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } [النازعات : 15] استفهام يتضمن التنبيه على أن هذا مما
482
يجب أن يشيع والتشريف للمخاطب به { إِذْ نَادَاـاهُ رَبُّهُ } [النازعات : 16] حين ناداه { بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } [طه : 12] المبارك المطهر { طُوًى } اسمه { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } [طه : 24] على إرادة القول { إِنَّهُ طَغَى } [طه : 24] تجاوز الحد في الكفر والفساد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 482(4/255)
{ فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } [النازعات : 18] هل لك ميل إلى أن تتطهر من الشرك والعصيان بالطاعة والإيمان.
وبتشديد الزاي : حجازي { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } [النازعات : 19] وأرشدك إلى معرفة الله بذكر صفاته فتعرفه { فَتَخْشَى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [فاطر : 28] (فاطر : 82) أي العلماء به.
وعن بعض الحكماء : اعرف الله فمن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفة عين.
فالخشية ملاك الأمور من خشي الله أتى منه كل خير ، ومن آمن اجترأ على كل شر.
ومنه الحديث " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل " بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة عن عتوه كما أمر بذلك في قوله تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا } [طه : 44] (طه : 44) { فَأَرَاـاهُ الايَةَ الْكُبْرَى } [النازعات : 20] أي فذهب فأرى موسى فرعون العصا أو العصا واليد البيضاء لأنهما في حكم آية واحدة { فَكَذَّبَ } فرعون بموسى والآية الكبرى وسماهما ساحراً وسحراً { وَعَصَى } الله تعالى { ثُمَّ أَدْبَرَ } [المدثر : 23] تولى عن موسى { يَسْعَى } يجتهد في مكايدته ، أو لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً يسرع في مشيته وكان طيّاشاً خفيفاً { فَحَشَرَ } فجمع السحرة وجنده { فَنَادَى } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } [النازعات : 24] لا رب فوقي وكانت لهم أصنام يعبدونها { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاخِرَةِ } [النازعات : 25] عاقبة الله عقوبة الآخرة والنكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم.
ونصبه على المصدر لأن أخذ بمعنى نكل كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة أي الإحراق { وَالاولَى } أي الإغراق ، أو نكال كلمتيه الآخرة وهي { أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى } [النازعات : 24] والأولى وهي { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى } [القصص : 38] (القصص : 83) وبينهما أربعون سنة أو ثلاثون أو عشرون { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] المذكور { لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } [النازعات : 26] الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 482
{ ءَأَنتُمْ } يا منكري
483
البعث { أَشَدُّ خَلْقًا } [النازعات : 27] أصعب خلقاً وإنشاء { أَمِ السَّمَآءُ } [النازعات : 27] مبتدأ محذوف الخبر أي أم السماء أشد خلقاً.
ثم بين كيف خلقها فقال { بَنَـاـاهَا } أي الله.
ثم بين البناء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا } [النازعات : 28] أعلى سقفها.
وقيل : جعل مقدار ذهابها في سمت العلو رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فَسَوَّاـاهَا } فعدلها مستوية بلا شقوق ولا فطور { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } [النازعات : 29] أظلمه { وَأَخْرَجَ ضُحَـاـاهَا } [النازعات : 29] أبرز ضوء شمسها ، وأضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلمتها والشمس سراجها { وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ } [النازعات : 30] بسطها وكانت مخلوقة غير مدحوة فدحيت من مكة بعد خلق السماء بألفي عام.
ثم فسر البسط فقال { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا } [النازعات : 31] بتفجير العيون { وَمَرْعَـاـاهَا } كلأها ولذا لم يدخل العاطف على { أَخْرَجَ } أو { أَخْرَجَ } حال بإضمار " قد " { وَالْجِبَالَ أَرْسَـاـاهَا } [النازعات : 32] أثبتها وانتصاب الأرض والجبال بإضمار دحاً وأرسى على شريطة التفسير { مَتَـاعًا لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ } [النازعات : 33] فعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعماكم { فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [النازعات : 34] الداهية العظمى التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وهي النفخة الثانية ، أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار.
{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ } [النازعات : 35] بدل من { إِذَا جَآءَتْ } [الأنعام : 109] أي إذا رأى أعماله مدونة في كتابه يتذكرها وكان قد نسيها { مَا سَعَى } [النجم : 39] مصدرية أي سعيه أو موصولة { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ } [الشعراء : 91] وأظهرت { لِمَن يَرَى } [النازعات : 36] لكل راء لظهورها ظهوراً بيناً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 482
(4/256)
{ فَأَمَّا } جواب { فَإِذَا } أي إذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك { مَن طَغَى } [النازعات : 37] جاوز الحد فكفر { وَءَاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا } على الآخرة باتباع الشهوات { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى } [النازعات : 39] المرجع أي مأواه ، والألف واللام بدل من الإضافة وهذا عند الكوفيين ، وعند سيبويه وعند البصريين هي المأوى له { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [النازعات : 40] أي علم أن له مقاماً يوم القيامة لحساب ربه { وَنَهَى النَّفْسَ } [النازعات : 40] الأمارة بالسوء { عَنِ الْهَوَى } [النجم : 3] المؤذي أي زجرها عن اتباع الشهوات.
وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب فيتركها ، والهوى ميل النفس إلى شهواتها { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى } [النازعات : 41] أي المرجع
484
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا } [الأعراف : 187] متى إرساؤها أي إقامتها يعني متى يقيمها الله تعالى ويثبتها { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاـاهَآ } [النازعات : 43] في شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به أي ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء كقولك : ليس فلان من العلم في شيء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها أي أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها.
{ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَـاـاهَآ } [النازعات : 44] منتهى علمها متى تكون لا يعلمها غيره ، أو فيم إنكار لسؤالهم عنها أي فيم هذا السؤال.
ثم قال { أَنتَ مِن ذِكْرَاـاهَآ } [النازعات : 43] أي إرسالك وأنت آخر الأنبياء علامة من علاماتها فلا معنى لسؤالهم عنها ، ولا يبعد أن يوقف على هذا على { فِيمَ } وقيل { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاـاهَآ } [النازعات : 43] متصل بالسؤال أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها ويقولون أين أنت من ذكراها.
ثم استأنف فقال { إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَـاـاهَآ } [النازعات : 44] { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا } [النازعات : 45] أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف شدائدها.
{ مُنذِرُ } منون : يزيد وعباس { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } [النازعات : 46] أي الساعة { لَمْ يَلْبَثُوا } [يونس : 45] في الدنيا { إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـاـاهَا } [النازعات : 46] أي ضحى العشية استقلوا مدة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول كقوله : { لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار } [الأحقاف : 35](يونس : 54) وقوله : { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف : 19] (المؤمنون : 311) وإنما صحت إضافة الضحى إلى العشية للملابسة بينهما لاجتماعهما في نهار واحد ، والمراد أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً ولكن أحد طرفي النهار عشيته أو ضحاه والله أعلم.
485
سورة عبس
مكية وهي اثنتان وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَبَسَ } كلح أي النبي صلى الله عليه وسلّم { وَتَوَلَّى } أعرض { أَن جَآءَهُ } [عبس : 2] لأن جاءه ومحله نصب لأنه مفعول له ، والعامل فيه { عَبَسَ } أو تولى على اختلاف المذهبين { الاعْمَى } عبد الله بن أم مكتوم ، وأم مكتوم أم أبيه ، وأبوه شريح بن مالك ، أتى النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يدعو أشراف قريش إلى الإسلام فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكرمه بعدها ويقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي واستخلفه على المدينة مرتين { وَمَا يُدْرِيكَ } [الأحزاب : 63] وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى { لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } [عبس : 3] لعل الأعمى يتطهر بما يسمع منك من دنس الجهل.
وأصله يتزكى فأدغمت التاء في الزاي ، وكذا { أَوْ يَذَّكَّرُ } [عبس : 4] يتعظ { فَتَنفَعَهُ } نصبه عاصم غير الأعشى جواباً لـ " لعل " وغيره رفعه عطفاً على { يَذَّكَّرُ } { الذِّكْرَى } ذكراك أي موعظتك
486
أي أنك لا تدري ما هو مترقب منه من ترك ، أو تذكر ولو دريت لما فرط ذلك منك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 486(4/257)
{ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } [عبس : 5] أي من كان غنياً بالمال { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى } [عبس : 6] تتعرض بالإقبال عليه حرصاً على إيمانه { تَصَدَّى } بإدغام التاء في الصاد : حجازي { وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى } [عبس : 7] وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام إن عليك إلا البلاغ { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى } [عبس : 8] يسرع في طلب الخير { وَهُوَ يَخْشَى } [عبس : 9] الله أو الكفار أي أذاهم في إتيانك أو الكبوة كعادة العميان { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } [عبس : 10] تتشاغل وأصله تتلهى.
وروي أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ولا تصدى لغني.
وروي أن الفقراء في مجلس الشورى كانوا أمراء.
{ كَلا } ردع أي لا تعد إلى مثله { إِنَّهَا } إن السورة أو الآيات { تَذْكِرَةٌ } موعظة يجب الاتعاظ بها والعمل بموجبها { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [المدثر : 55] فمن شاء أن يذكره ذكره.
أو ذكر الضمير لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ ، والمعنى فمن شاء الذكر ألهمه الله تعالى إياه { فِى صُحُفٍ } [عبس : 13] صفة لـ { تَذْكِرَةٌ } أي أنها مثيتة في صحف منتسخة من اللوح ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هي في صحف { مُّكَرَّمَةٍ } عند الله { مَّرْفُوعَةٍ } في السماء أو مرفوعة القدر والمنزلة { مُّطَهَّرَة } عن مس غير الملائكة أو عما ليس من كلام الله تعالى { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } [عبس : 15] كتبة جمع سافر أي الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح { كِرَام } على الله أو عن المعاصي { بَرَرَةٍ } أتقياء جمع بار.
{ قُتِلَ الانسَـانُ } [عبس : 17] لعل الكافر أو هو أمية أو عتبة
{ مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس : 17]
487
استفهام توبيخ أي أي شيء حمله على الكفر ، أو هو تعجب أي ما أشد كفره { مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ } [عبس : 18] من أي حقير خلقه وهو استفهام ومعناه التقرير.
ثم بين ذلك الشيء فقال { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس : 19] على ما يشاء من خلقه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 486
{ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } [عبس : 20] نصب السبيل بإضمار يسر أي ثم سهل له سبيل الخروج من بطن أمه أو بين له سبيل الخير والشر { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [عبس : 21] جعله ذا قبر يواري فيه لا كالبهائم كرامة له قبر الميت دفنه وأقبره الميت أمره بأن يقبره ومكنه منه { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس : 22] أحياه بعد موته { كَلا } ردع للإنسان عن الكفر { لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } [عبس : 23] لم يفعل هذا الكافر ما أمره الله به من الإيمان.
ولما عدد النعم في نفسه من ابتداء حدوثه إلى آن انتهائه أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه فقال { فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ إِلَى طَعَامِهِ } [عبس : 24] الذي يأكله ويحيا به كيف دبرنا أمره { أَنَّا } بالفتح : كوفي على أنه بدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر على الاستئناف : غيرهم { صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا } [عبس : 25] يعني المطر من السحاب { ثُمَّ شَقَقْنَا الارْضَ شَقًّا } [عبس : 26] بالنبات { فَأَنابَتْنَا فِيهَا حَبًّا } [عبس : 27] كالبر والشعير وغيرهما مما يتغذى به { وَعِنَبًا } ثمرة الكرم أي الطعام والفاكهة { وَقَضْبًا } رطبة سمي بمصدر قضبه أي قطعه لأنه يقضب مرة بعد مرة { وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَآ ـاِقَ } بساتين { غُلْبًا } غلاظ الأشجار جمع غلباء { وَفَـاكِهَةً } لكم { وَأَبًّا } مرعى لدوابكم { مَّتَـاعًا } مصدر أي منفعة { لَّكُمْ وَلانْعَـامِكُمْ * فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ } صيحة القيامة لأنها تصخ الآذان أي تصمها وجوابه محذوف لظهوره { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } لتبعات بينه وبينهم أو لاشتغاله بنفسه { وَصَـاحِبَتِهِ } وزوجته { وَبَنِيهِ } بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحب.
قيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح { لِكُلِّ امْرِى ٍ مِّنْهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ شَأْنٌ } [عبس : 37] في نفسه { يُغْنِيهِ } يكفيه في الاهتمام به ويشغله عن غيره.
488
(4/258)
{ وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ مُّسْفِرَةٌ } [عبس : 38] مضيئة من قيام الليل أو من آثار الوضوء { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [عبس : 39] أي أصحاب هذه الوجوه وهم المؤمنون ضاحكون مسرورون { وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [عبس : 40] غبار { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [عبس : 41] يعلو الغبرة سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه أهل هذه الحالة { هُمُ الْكَفَرَةُ } [عبس : 42] في حقوق الله { الْفَجَرَةُ } في حقوق العباد ، ولما جمعوا الفجور إلى الكفر جمع إلى سواد وجوههم الغبرة والله أعلم.
489
سورة التكوير
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [التكوير : 1] ذهب بضوئها من كورت العمامة إذا لفقتها أي يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق.
وارتفاع { الشَّمْسُ } بالفاعلية ورافعها فعل مضمر يفسره { كُوِّرَتْ } لأن " إذا " يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط { وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } [التكوير : 2] تساقطت { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } [التكوير : 3] عن وجه الأرض وأبعدت أو سيرت في الجو تسيير السحاب { وَإِذَا الْعِشَارُ } [التكوير : 4] جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة { عُطِّلَتْ } أهملت عطلها أهلها لاشتغالهم بأنفسهم وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذه الحالة لعزتها عندهم ويعطلون ما دونها.
{ عُطِّلَتْ } بالتخفيف عن اليزيدي { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير : 5] جمعت من كل ناحية.
قال قتادة : يحشر كل شيء
490
حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت أتراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم كالطاوس ونحوه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها.
يقال : إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتم السنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 490
{ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [التكوير : 6] { سُجِّرَتْ } مكي وبصري من سجر التنور إذا ملأه بالحطب أي ملئت ، وفجر بعضاً إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً.
وقيل : ملئت نيراناً لتعذيب أهل النار { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير : 7] قرنت كل نفس بشكلها الصالح مع الصالح في الجنة والطالح مع الطالح في النار ، أو قرنت الأرواح بالأجساد ، أو بكتبها وأعمالها ، أو نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين { وَإِذَا الْمَوْءُادَةُ } [التكوير : 8] المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات خشية الإملاق وخوف الاسترقاق { سُـاـاِلَتْ } سؤال تلطف لتقول بلا ذنب قتلت ، أو لتدل على قاتلها ، أو هو توبيخ لقاتلها بصرف الخطاب عنه كقوله : { قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى } [المائدة : 116] (المائدة : 611) الآية { بِأَىِّ ذَنابٍ قُتِلَتْ } وبالتشديد : يزيد.
وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يكون بلا ذنب { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير : 10] { فُتِحَتْ } وبالتخفيف : مدني وشامي وعاصم وسهل ويعقوب.
والمراد صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ثم تنشر إذا حوسب ، ويجوز أن يراد نشرت بين أصحابها أي فرقت بينهم { وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ } [التكوير : 11] قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } [التكوير : 12] أوقدت إيقاداً شديداً.
بالتشديد : شامي ومدني وعاصم غير حماد ويحيى للمبالغة { وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } [التكوير : 13] أدنيت من المتقين كقوله :
491
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ق : 31] (ق : 13).
فهذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا والباقية في الآخرة.
ولا وقف مطلقاً من أول السورة إلى { مَّآ أَحْضَرَتْ } [التكوير : 14] لأن عامل النصب في { إِذَا الشَّمْسُ } [التكوير : 1] وفيما عطف عليه جوابها وهو { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير : 14]أي كل نفس ولضرورة انقطاع النفس على كل آية جوز الوقف { مَّآ أَحْضَرَتْ } [التكوير : 14] من خير وشر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 490(4/259)
{ فَلا أُقْسِمُ } [التكوير : 15] " لا " زائدة { بِالْخُنَّسِ } بالرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذكرّ راجعاً إلى أوله { الْجَوَارِ } السيارة { الْكُنَّسِ } الغيب من كنس الوحش إذا دخل كناسه.
قيل : هي الدراري الخمسة : بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس ، فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس.
وقيل : هي جميع الكواكب { وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } [التكوير : 17] أقبل بظلامه أو أدبر فهو من الأضداد.
{ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير : 18] امتد ضوءه.
ولما كان إقبال الصبح يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً وجواب القسم { إِنَّهُ } أي القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ } [الحاقة : 40] أي جبريل عليه السلام.
وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به { كَرِيمٍ } عند ربه { ذِى قُوَّةٍ } [التكوير : 20] قدرة على ما يكلف لا يعجز عنه ولا يضعف { عِندَ ذِى الْعَرْشِ } [التكوير : 20] عند الله { مَكِينٍ } ذي جاه ومنزلة.
ولما كانت على حال المكانة على حسب حال المكين قال { عِندَ ذِى الْعَرْشِ } [التكوير : 20] ليدل على عظم منزلته ومكانته { مُّطَاعٍ ثَمَّ } [التكوير : 21] أي في السماوات يطيعه من فيها أو عند ذي العرش أي عند الله يطيعه ملائكته المقربون يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه { أَمِينٍ } على الوحي { وَمَا صَاحِبُكُم } [التكوير : 22] يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم { بِمَجْنُونٍ } كما تزعم الكفرة وهو عطف على جواب القسم.
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ } [التكوير : 23] رأى محمد جبريل عليهما السلام على صورته { بِالافُقِ الْمُبِينِ } [التكوير : 23] بمطلع الشمس { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ } [التكوير : 24] وما محمد على الوحي { بِضَنِينٍ } ببخيل من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحلوان بل يعلمه كما علم ولا يكتم شيئاً مما علم.
مكي وأبو عمرو وعلي أي بمتهم
492
فينقص شيئاً مما أوحي إليه أو يزيد فيه من الظنة وهي التهمة { لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ } [القلم : 52] وما القرآن { بِقَوْلِ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ } [التكوير : 25] طريد وهو كقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَـاطِينُ } [الشعراء : 210] (الشعراء : 012).
أي ليس هو بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } [التكوير : 26] استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق أي تذهب؟.
مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدو لهم عنه إلى الباطل.
وقال الزجاج : معناه فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم؟ وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا وإن من شيء إلا عندنا { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ } [يوسف : 104] ما القرآن إلا عظة للخلق { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ } [المدثر : 37] بدل من { الْعَـالَمِينَ } { أَن يَسْتَقِيمَ } [التكوير : 28] أي القرآن ذكر لمن شاء الاستقامة يعني أن الذين شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعوظين جميعاً { وَمَا تَشَآءُونَ } [الإنسان : 30] الاستقامة { إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ } [التكوير : 29] مالك الخلق أجمعين.
493
سورة الانفطار
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم(4/260)
{ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ } [الانفطار : 1] انشقت { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ } [الانفطار : 2] تساقطت { وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } [الانفطار : 3] فتح بعضها إلى بعض وصارت البحار بحراً واحداً { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } [الانفطار : 4] بحثت وأخرج موتاها وجواب " إذا " { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير : 14] أي كل نفس برة وفاجرة { مَّا قَدَّمَتْ } [الحشر : 18] ما عملت من طاعة { وَأَخَّرَتْ } وتركت فلم تعمل أو ما قدمت من الصدقات وما أخرت من الميراث { يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ } [الانشقاق : 6] قيل : الخطاب لمنكري البعث { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاـاكَ } [الانفطار : 6 ، 7] أي شيء خدعك حتى ضيعت ما وجب عليك مع كرم ربك حيث أنعم عليك بالخلق والتسوية والتعديل؟ وعنه عليه السلام حين تلاها غره جهله.
وعن عمر رضي الله عنه : غره حمقه.
وعن الحسن : غره شيطانه.
وعن الفضيل : لو خوطبت أقول غرتني ستورك المرخاة.
وعن يحيى بن معاذ أقول : غرني برك بي سالفاً وآنفاً { فَسَوَّاـاكَ } فجعلك مستوي الخلق سالم الأعضاء { فَعَدَلَكَ } فصيّرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ،
494
ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم.
وبالتخفيف : كوفي وهو بمعنى المشدد أي عدّل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت فكنت معتدل الخلقة متناسباً { فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } " ما " مزيد للتوكيد أي ركبك في أي صورة اقتضتها مشيئته من الصور المختلفة في الحسن والقبح والطول والقصر ، ولم تعطف هذه الجملة كما عطف ما قبلها لأنها بيان لـ والجار يتعلق بـ { شَآءَ رَكَّبَكَ } [الانفطار : 8] على معنى وضعك في بعض الصور ومكنك فيها ، أو بمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 494
{ كَلا } ردع عن الغفلة عن الله تعالى { بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } [الانفطار : 9] أصلاً وهو الجزاء أو دين الإسلام فلا تصدقون ثواباً ولا عقاباً { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ } [الانفطار : 10] أعمالكم وأقوالكم من الملائكة { كِرَامًا كَـاتِبِينَ } [الانفطار : 11] يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الانفطار : 12] لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم.
وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء وأنه عند الله من جلائل الأمور ، وفيه إنذار وتهويل للمجرمين ولطف للمتقين.
وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدها من آية على الغافلين { إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ } [الانفطار : 13] إن المؤمنين لفي نعيم الجنة { وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ } [الانفطار : 14] وإن الكفار لفي النار { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ } [الانفطار : 15] يدخلونها يوم الجزاء.
{ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآ ـاِبِينَ } [الانفطار : 16] أي لا يخرجون منها كقوله تعالى : { وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } [المائدة : 37] (البقرة : 761).
ثم عظم شأن يوم القيامة فقال { وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاـاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } فكرر للتأكيد والتهويل وبينه بقوله { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شيئا } [الانفطار : 19] أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه وإنما تملك الشفاعة بالإذن.
{ يَوْمَ } بالرفع : مكي وبصري أي هو يوم ، أو بدل من { يَوْمَ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] ومن نصب فبإضمار " اذكر " أو بإضمار يدانون لأن الدين يدل عليه { وَالامْرُ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلَّهِ } [الانفطار : 19] أي لا أمر إلا لله تعالى وحده فهو القاضي فيه دون غيره.
495(4/261)
سورة المطففين
مختلف فيها وهي ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ } مبتدأ خبره { لِّلْمُطَفِّفِينَ } للذين يبخسون حقوق الناس في الكيل والوزن { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } [المطففين : 2] أي إذا أخذوا بالكيل من الناس يأخذون حقوقهم وافية تامة.
ولما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ، ويجوز أن يتعلق " على " بـ { يَسْتَوْفُونَ } ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص أي يستوفون على الناس خاصة.
وقال الفراء : " من " و " على " يعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه ، فإذا قال : اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكأنه قال : استوفيت منك.
والضمير المنصوب في { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ } [المطففين : 3] راجع إلى الناس أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل.
وإنما لم يقل أو اتزنوا كما قيل { أَو وَّزَنُوهُمْ } [المطففين : 3] اكتفاء ، ويحتمل أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين { يُخْسِرُونَ } ينقصون
496
يقال خسر الميزان وأخسره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 496
{ أَلا يَظُنُّ أؤلئك أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة.
أدخل همزة الاستفهام على " لا " النافية توبيخاً وليست " ألا " هذه للتنبيه ، وفيه إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة ، ولو ظنوا أنهم يبعثون ما نقصوا في الكيل والوزن.
وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابياً قال له : لقد سمعت ما قال الله في المطففين ، أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ونصب؟ { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ } [المطففين : 6] بمبعوثون { لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 131] لأمره وجزائه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ هنا بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده { كَلا } ردع وتنبيه أي ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه.
ثم اتبعه وعيد الفجار على العموم فقال { إِنَّ كِتَـابَ الْفُجَّارِ } [المطففين : 7] صحائف أعمالهم { لَفِى } { سِجِّينٍ } فإن قلت : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سجين وفسر سجيناً بكتاب مرقوم فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت : سجين كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن الله فيه أعمال الشياطين والكفرة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه من رقم الثياب علامتها.
والمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان.
وسمي سجيناً فعّيلاً من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم وهو مسكن إبليس وذريته ، وهو اسم علم منقول من وصف كحاتم منصرف لوجود سبب واحد وهو العلمية فحسب { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ } [المرسلات : 15] يوم يخرج المكتوب { لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } الجزاء والحساب { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ } [المطففين : 12] بذلك اليوم { إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ } [المطففين : 12] مجاوز للحد
497
{ أَثِيمٍ } مكتسب للإثم { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا } [القلم : 15] أي القرآن { قَالَ أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [القلم : 15] أي أحاديث المتقدمين.
وقال الزجاج : أساطير أباطيل واحدها أسطورة مثل أحدوثة وأحاديث.
جزء : 4 رقم الصفحة : 496(4/262)
{ كَلا } ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول { بَلْ } نفي لما قالوا ويقف حفص على { بَلْ } وقيفة { رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين : 14] عطاها كسبهم أي غلب على قلوبهم حتى غمرها ما كانوا يكسبون من المعاصي.
وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب.
وعن الضحاك : الرين موت القلب.
وعن أبي سليمان : الرين والقسوة زماماً الغفلة ودواؤهما إدمان الصوم فإن وجد بعد ذلك قسوة فليترك الإدام.
{ كَلا } عن الكسب الرائن على القلب { إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ } [المطففين : 15] عن رؤية ربهم { يَوْمَـاـاِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [المطففين : 15] لممنوعون والحجب : المنع قال الزجاج : في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم وإلا لا يكون التخصيص مفيداً.
وقال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في العقبى عن رؤيته.
وقال مالك بن أنس رحمه الله : لما حجب أعداءه فلم يروه تجلى لأوليائه حتى رأوه.
وقيل : عن كرامة ربهم لأنهم في الدنيا لم يشكروا نعمه فيئسوا في الآخرة عن كرامته مجازاة.
والأول أصح لأن الرؤية أقوى الكرامات فالحجب عنها دليل الحجب عن غيرها { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } [المطففين : 16] ثم بعد كونهم محجوبين عن ربهم لداخلون النار { ثُمَّ يُقَالُ هَـاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [المطففين : 17] أي هذا العذاب هو الذي كنتم تكذبون به في الدنيا وتنكرون وقوعه { كَلا } ردع عن التكذيب { إِنَّ كِتَـابَ الابْرَارِ } [المطففين : 18] ما كتب من أعمالهم والأبرار المطيعون الذين لا يطففون ويؤمنون بالبعث لأنه ذكر في مقابلة الفجار ، وبيّن الفجار بأنهم المكذبون بيوم الدين.
وعن الحسن : البر الذي لا يؤذي
498
الذر { لَفِى عِلِّيِّينَ } [المطففين : 18] هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع " عليّ " فعيل من العلو سمي به لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، أو لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريماً له { وَمَآ أَدْرَاـاكَ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 496
الحاقة : 3] ما الذي أعلمك يا محمد { مَا عِلِّيُّونَ } [المطففين : 19] أي شيء هو { كِتَـابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } تحضره الملائكة.
قيل : يشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء إذا رفع { إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ } [الانفطار : 13] تنعم في الجنان { عَلَى الارَآ ـاِكِ } [الإنسان : 13] الأسرة في الحجال { يَنظُرُونَ } إلى كرامة الله ونعمه وإلى أعدائهم كيف يعذبون { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } [المطففين : 24] بهجة التنعم وطراوته { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } [المطففين : 25] شراب خالص لا غش فيه { مَّخْتُومٍ * خِتَـامُهُ مِسْكٌ } تختم أوانيه بمسك بدل الطين الذي يختم به الشراب في الدنيا.
أمر الله تعالى بالختم عليه إكراماً لأصحابه أو ختامه مسك مقطعه رائحة مسك أي توجد رائحة المسك عند خاتمة شربه.
عليّ { مِسْكٌ وَفِى ذَالِكَ } [المطففين : 26] الرحيق أو النعيم { فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَـافِسُونَ } [المطففين : 26] فليرغب الراغبون وذا إنما يكون بالمسارعة إلى الخيرات والانتهاء عن السيئات { وَمِزَاجُهُ } ومزاج الرحيق { مِن تَسْنِيمٍ } [المطففين : 27] هو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنّمه إذا رفعه لأنها أرفع شراب في الجنة ، أو لأنها تأتيهم من فوق وتنصب في أوانيهم { عَيْنًا } حال أو نصب على المدح { يَشْرَبُ بِهَا } [الإنسان : 6] أي منها { الْمُقَرَّبُونَ } عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم : يشربها المقربون صرفاً وتمزج لأصحاب اليمين.
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } [المطففين : 29] كفروا { كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ } [المطففين : 29] في الدنيا استهزاء بهم.
{ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين : 30] يشير بعضهم إلى بعض بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم.
قيل : جاء علي رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا وقالوا : أترون هذا الأصلع فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول
499
(4/263)
الله صلى الله عليه وسلّم { وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ } [المطففين : 31] أي إذا رجع إلى الكفار منازلهم { انقَلَبُوا فَكِهِينَ } [المطففين : 31] متلذذين بذكرهم والسخرية منهم.
وقرأ غير حفص { فَكِهِينَ } أي فرحين { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } [المطففين : 32] وإذا رأى الكافرون المؤمنين { قَالُوا إِنَّ هؤلاء لَضَآلُّونَ } أي خدع محمد هؤلاء فضلوا وتركوا اللذات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات ، فقد تركوا الحقيقة بالخيال وهذا هو عين الضلال { وَمَآ أُرْسِلُوا } [المطففين : 33] وما أرسل الكفار { عَلَيْهِمْ } على المؤمنين { حَـافِظِينَ } يحفظون عليهم أحوالهم ويرقبون أعمالهم بل أمروا بإصلاح أنفسهم واشتغالهم بذلك أولى بهم من تتبع غيرهم وتسفيه أحلامهم { فَالْيَوْمَ } من يوم القيامة { الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [المطففين : 34] ثم كما ضحكوا منهم هنا مجازاة { عَلَى الارَآ ـاِكِ يَنظُرُونَ } [المطففين : 23] حال أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والاستكبار وهم على الأرائك آمنون.
وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : هلموا إلى الجنة ، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم فيضحك المؤمنون منهم { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المطففين : 36] هل جوزوا بسخريتهم بالمؤمنين في الدنيا إذا فعل بهم ما ذكر؟ والله أعلم.
500
سورة الانشقاق
مكية وهي خمس وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ } [الانشقاق : 1] تصدعت وتشققت { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } [الانشقاق : 2] سمعت وأطاعت وأجابت ربها إلى الانشقاق ولم تأب ولم تمتنع { وَحُقَّتْ } وحق لها أن تسمع وتطيع لأمر الله إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى { وَإِذَا الارْضُ مُدَّتْ } [الانشقاق : 3] بسطت وسويت باندكاك جبالها وكل أمت فيها { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } [الانشقاق : 4] ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى { وَتَخَلَّتْ } وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو.
يقال : تكرم الكريم إذا بلغ جهده في الكرم وتكلف فوق ما في طبعه { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } [الانشقاق : 2] في إلقاء ما في بطنها وتخليها { وَحُقَّتْ } وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع ، وحذف جواب " إذا " ليذهب المقدر كل مذهب ، أو اكتفاء بما على بمثلها من سورتي التكوير والانفطار ، أو جوابه ما دل عليه { فَمُلَـاقِيهِ } أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 500
{ يَـا أَيُّهَا الانسَـانُ } [الانشقاق : 6] خطاب للجنس { إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } [الانشقاق : 6] جاهد
501
إلى لقاء ربك وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء { فَمُلَـاقِيهِ } الضمير للكدح وهو جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها ، والمراد جزاء الكدح إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقيل : لقاء الكدح لقاء كتاب فيه ذلك الكدح يدل عليه قوله { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ } [الحاقة : 19] أي كتاب عمله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق : 8] سهلاً هيناً وهو أن يجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات.
وفي الحديث " من يحاسب يعذب " فقيل : فأين قوله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق : 8]؟ قال : " ذلكم العرض من نوقش في الحساب عذب " { وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ } [الانشقاق : 9] إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو إلى فريق المؤمنين ، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين { مَسْرُورًا } فرحاً { وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } [الانشقاق : 10] قيل : تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره { فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُورًا } يقول : يا ثبوراه والثبور الهلاك { وَيَصْلَى } عراقي غير علي { سَعِيرًا } أي ويدخل جهنم { إِنَّهُ كَانَ } [الإسراء : 30] في الدنيا { فِى أَهْلِهِ } [الانشقاق : 13] معهم { مَسْرُورًا } بالكفر يضحك ممن آمن بالبعث.
قيل : كان لنفسه متابعاً وفي مراتع هواه راتعاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 501(4/264)
{ إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [الانشقاق : 14] لن يرجع إلى ربه تكذيباً بالبعث.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها : حوري أي ارجعي { بَلَى } إيجاب لما بعد النفي في { لَّن يَحُورَ } [الانشقاق : 14] أي بلى ليحورن { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ } [الانشقاق : 15] وبأعماله { بَصِيرًا } لا يخفى عليه فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها.
{ فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } [الانشقاق : 16] فأقسم بالبياض بعد الحمرة أو الحمرة { وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } [الانشقاق : 17] جمع وضم والمراد ما جمعه من الظلمة والنجم ، أو من عمل فيه من التهجد وغيره { وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } [الانشقاق : 18] اجتمع وتم بدراً افتعل من الوسق { لَتَرْكَبُنَّ } أيها الإنسان على إرادة الجنس { طَبَقًا عَن طَبَقٍ } [الانشقاق : 19] حالاً بعد حال ، كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول.
والطبق ما طابق غيره يقال : ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه ، ومنه قيل للغطاء الطبق ، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم : هو على طبقات ، أي لتركبن أحوالاً بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض
502
وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها.
ومحل { عَن طَبَقٍ } [الانشقاق : 19] نصب على أنه صفة لـ { طَبَقًا } أي طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حال من الضمير في { لَتَرْكَبُنَّ } أي لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق.
وقال مكحول : في كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه.
وبفتح الباء : مكي وعلي وحمزة.
والخطاب له عليه السلام أي طبقاً من طباق السماء بعد طبق أي في المعراج.
{ فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [الانشقاق : 20] فما لهم في أن لا يؤمنوا { وَإِذَا قُرِى َ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لا يَسْجُدُونَ } [الانشقاق : 21] لا يخضعون { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ } [الانشقاق : 22] بالبعث والقرآن { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } [الانشقاق : 23] بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر وتكذيب النبي صلى الله عليه وسلّم ، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران : 21] أخبرهم خبراً يظهر أثره على بشرتهم { إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [ص : 24] استثناء منقطع { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } [فصلت : 8] غير مقطوع أو غير منقوص والله أعلم.
503
سورة البروج
مكية وهي اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } [البروج : 1] هي البروج الاثنا عشر.
وقيل : النجوم أو عظام الكواكب { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } [البروج : 2] يوم القيامة { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [البروج : 3] أي وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه ، والمراد بالشاهد من يشهد فيه من الخلائق كلهم ، وبالمشهود فيه ما في ذلك اليوم من عجائبه.
وطريق تنكيرهما إما ما ذكرته في قوله { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } [التكوير : 14] (التكوير : 41) كأنه قيل : ما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وإما للإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما.
وقد كثرت أقاويل المفسرين فيهما فقيل : محمد صلى الله عليه وسلّم ويوم القيامة أو عيسى وأمته لقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة : 117] (المائدة : 711).
أو أمة محمد وسائر الأمم ، أو الحجر الأسود والحجيج ، أو الأيام والليالي وبنو آدم للحديث : " ما من يوم إلا وينادي أنا يوم جديد وعلى ما يفعل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة " .
أو الحفظة وبنو آدم ، أو الله تعالى والخلق لقوله تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء : 79] (النساء : 97) أو الأنبياء ومحمد عليهم السلام.
وجواب القسم محذوف يدل عليه
504
{ قُتِلَ أَصْحَـابُ الاخْدُودِ } [البروج : 4] أي لعن كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء إنهم ملعونون يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، وهو خد أي شق عظيم في الأرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 504(4/265)
روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضموا إليه غلاماً ليعلمه السحر.
وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس فأخذ حجراً فقال : " اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها " فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرىء الأكمه والأبرص.
وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي.
فغضب فعذبه فدل على الغلام ، فعذبه فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه فقدّ بالمنشار ، وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور فلجّجوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : باسم الله رب الغلام ثم ترميني به ، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه فمات فقال الناس : آمنا برب الغلام.
فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر.
فخدّ أخدوداً وملأها ناراً فمن لم يرجع عن دينه طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها فقال الصبي : يا أماه اصبري فإنك على الحق فألقي الصبي وأمه فيها { النَّارِ } بدل اشتمال من الأخدود { ذَاتِ الْوَقُودِ } [البروج : 5] وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس { إِذْ } ظرف لقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها { هُمْ عَلَيْهَا } [البروج : 6] أي الكفار على ما يدنو منها من حافات الأخدود { قُعُودٌ } جلوس على الكراسي { وَهُمْ } أي الكفار { عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ } [البروج : 7] من الإحراق { شُهُودٌ } يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب ، وفيه حث للمؤمنين على الصبر وتحمل أذى أهل مكة { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَن يُؤْمِنُوا } [البروج : 8] وما عابوا
505
منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
وقوله :
ما نقموا من بني أمية إلـ
ـلاّ أنهم يحلمون إن غضبوا
وقرىء { نَقَمُوا } بالكسر والفصيح هو الفتح { بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8] ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به وهو كونه عزيزاً غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه { الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأعراف : 158] فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل ، وأن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب عظيم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة : 6] وعيد لهم يعني أنه علم ما فعلوا وهو مجازيهم عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 504
{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } [البروج : 10] يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود ، ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } [البروج : 10] لم يرجعوا عن كفرهم { فَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابُ جَهَنَّمَ } [الفرقان : 65] بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [البروج : 10] في الدنيا لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ، ويجوز أن يريد الذين فتنوا المؤمنين أي بلوهم بالأذى على العموم والمؤمنين المفتونين ، وأن للفاتنين عذابين في الآخرة لكفرهم ولفتنتهم.
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [هود : 23] أي الذين صبروا على تعذيب الأخدود أو هو عام { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [البروج : 12] البطش : الأخذ بالعنف فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم ، والمراد أخذه الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام
506
(4/266)
{ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [البروج : 13] أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد أن صيرهم تراباً ، دل باقتداره على الابداء والإعادة على شدة بطشه ، أو أوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الابداء وكذبوا بالإعادة { وَهُوَ الْغَفُورُ } [يونس : 107] الساتر للعيوب العافي عن الذنوب { الْوَدُودُ } المحب لأوليائه.
وقيل : الفاعل لأهل الطاعة ما يفعله الودود من إعطائهم ما أرادوا { ذُو الْعَرْشِ } [البروج : 15] خالقه ومالكه { الْمَجِيدُ } وبالجر : حمزة وعلي على أنه صفة للعرش ومجد الله عظمته ومجد العرش علوه وعظمه { فَعَّالٌ } خبر مبتدأ محذوف { لِّمَا يُرِيدُ } [هود : 107] تكوينه فيكون فيه دلالة خلق أفعال العباد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 506
{ هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ } [البروج : 17] أي قد أتاك خبر الجموع الطاغية في الأمم الخالية { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [البروج : 18] بدل من { الْجُنُودِ } وأراد بفرعون إياه وآله والمعنى قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل وما نزل بهم لتكذيبهم { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البروج : 19] من قومك { فِى تَكْذِيبٍ } [البروج : 19] واستيجاب للعذاب ولا يعتبرون بالجنود لا لخفاء حال الجنود عليهم لكن يكذبونك عناداً { وَاللَّهُ مِن وَرَآ ـاِهِم مُّحِيطُ } [البروج : 20] أي عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ، والإحاطة بهم من ورائهم مثل لأنهم لا يفوتونه كما لا يفوت الشيء المحيط به { بَلْ هُوَ } [العنكبوت : 49] بل هذا الذي كذبوا به { قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ } [البروج : 21] شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه ليس كما يزعمون أنه مفترى وأنه أساطير الأولين { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظ } [البروج : 22] من وصول الشياطين إليه { مَّحْفُوظ } : نافع صفة للقرآن أي من التغيير والتبديل.
واللوح عند الحسن شيء يلوح للملائكة فيقرؤونه ، وعند ابن عباس رضي الله عنهما وهو من درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، قلمه نور وكل شيء فيه مسطور.
مقاتل : هو على يمين العرش.
وقيل : أعلاه معقود بالعرش وأسفله في حجر ملك كريم
507
سورة الطارق
مكية وهي سبع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ } عظم قدر السماء في أعين الخلق لكونها معدن رزقهم ومسكن ملائكته ، وفيها خلق الجنة فأقسم بها وبالطارق والمراد جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها لعظم منفعتها ، ثم فسره بالنجم الثاقب أي المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل كما يقال للآتي ليلاً طارق ، أو لأنه يطرق الجني أي يصكه.
وجواب القسم { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [الطارق : 4] لأن { لَّمَّا } إن كانت مشددة بمعنى " إلا " كقراءة عاصم وحمزة وابن عامر فتكون " إن " نافية أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وإن كانت مخففة كقراءة غيرهم فتكون " إن " مخففة من الثقيلة أي إن كل نفس لعليها حافظ يحفظها من الآفات ، أو يحفظ عملها ورزقها وأجلها ، فإذا استوفى ذلك مات.
وقيل : هو كاتب الأعمال فـ " ما " زائدة واللام فارقة بين الثقيلة والخفيفة ، و { حَافِظٌ } مبتدأ و { عَلَيْهَا } الخبر ، والجملة خبر { كُلُّ } وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 508
{ فَلْيَنظُرِ الانسَـانُ مِمَّ خُلِقَ } [الطارق : 5] لما ذكر أن على كل نفس حافظاً أمره بالنظر في
508(4/267)
أول أمره ليعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل ليوم الجزاء ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته.
و { مِمَّ خُلِقَ } [الطارق : 5] استفهام أي من أي شيء خلق جوابه { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [الطارق : 6] والدفق : صب فيه دفع.
والدفق في الحقيقة لصاحبه والإسناد إلى الماء مجاز.
وعن بعض أهل اللغة : دفقت الماء دفقاً : صببته ودفق الماء بنفسه أي انصب.
ولم يقل من ماءين لامتزاجهما في الرحم واتحادهما حين ابتدىء في خلقه { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآ ـاِبِ } [الطارق : 7] من صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة.
وقيل : العظم والعصب من الرجل واللحم والدم من المرأة { إِنَّهُ } إن الخالق لدلالة خلق عليه ومعناه إن الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة { عَلَى رَجْعِهِ } [الطارق : 8] على إعادته خصوصاً { لَقَادِرٌ } لبيّن القدرة لا يعجز عنه كقوله : إنني لفقير أي لبيّن الفقر.
ونصب { يَوْمَ تُبْلَى } [الطارق : 9] أي تكشف برجعه أو بمضمر دل عليه قوله { رَجْعِهِ } أي يبعثه يوم تبلى { السَّرَآ ـاِرُ } ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وما أخفى من الأعمال { فَمَا لَهُ } [الشورى : 46] فما للإنسان { مِن قُوَّةٍ } [الطارق : 10] في نفسه على دفع ما حل به { وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 10] يعينه ويدفع عنه.
{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } [الطارق : 11] أي المطر وسمي به لعوده كل حين { وَالارْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } [الطارق : 12] هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات { إِنَّهُ } إن القرآن { لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [الطارق : 13] فاصل بين الحق والباطل كما قيل له فرقان { وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } [الطارق : 14] باللعب والباطل يعني أنه جد كله ومن حقه ، وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور معظماً في القلوب ، يرتفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح { إِنَّهُمْ } يعني مشركي مكة { يَكِيدُونَ كَيْدًا } [الطارق : 15] يعملون المكايد في إبطال أمر الله وأطفاء نور الحق { وَأَكِيدُ كَيْدًا } [الطارق : 16] وأجازيهم جزاء كيدهم باستدراجي لهم من حيث لا يعلمون فسمي جزاء الكيد كيداً كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداء وسيئة وإن لم يكن اعتداء وسيئة ، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلا على وجه الجزاء كقوله : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة : 67] (التوبة : 76) ـ { يُخَـادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ } [النساء : 142] (النساء : 241) ـ
509
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } [البقرة : 15] (البقرة : 51) { فَمَهِّلِ الْكَـافِرِينَ } [الطارق : 17] أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به { أَمْهِلْهُمْ } أنظرهم فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين والتصبير { رُوَيْدًا } مهلاً يسيراً ولا يتكلم بها إلا مصغّرة وهي من رادت الريح ترود روداً تحركت حركة ضعيفة.
510
سورة الأعلى
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى } [الأعلى : 1] نزه ذاته عما لا يليق به ، والاسم صلة وذلك بأن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار لا بمعنى العلو في المكان.
وقيل : قل سبحان ربي الأعلى.
وفي الحديث لما نزلت قال عليه السلام : اجعلوها في سجودكم { الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى } [الأعلى : 2] أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم ولكن على إحكام واتساق ، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم ، أو سوّاه على ما فيه منفعة ومصلحة { وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى } [الأعلى : 3] أي قدر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به ، أو فهدى وأضل ولكن حذف وأضل اكتفاء كقوله : { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [النحل : 93] (فاطر : 8).
{ قُدِرَ } عليّ { وَالَّذِى أَخْرَجَ الْمَرْعَى } [الأعلى : 4] أنبت ما ترعاه الدواب { فَجَعَلَهُ غُثَآءً } [الأعلى : 5] يابساً هشيماً { أَحْوَى } أسود ف { أَحْوَى } صفة الغثاء { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } [الأعلى : 6] سنعلمك القرآن حتى تنساه { إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } [الأنعام : 128]
511(4/268)
أن ينسخه وهذا بشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي حتى لا ينفلت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته.
وسأل ابن كيسان النحوي جنيداً عنه فقال : فلا ننسى العمل به فقال : مثلك يصدر.
وقيل : قوله { فَلا تَنسَى } [الأعلى : 6] على النهي والألف مزيدة للفاصلة كقوله : { السَّبِيلا } (الأحزاب : 76) أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } [الأعلى : 7] أي إنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلت والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، أو ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم وما ظهر وما بطن من أحوالكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 511
{ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } [الأعلى : 8] معطوف على { سَنُقْرِئُكَ } وقوله { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } [الأعلى : 7] اعتراض ومعناه ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل يعني حفظ الوحي.
وقيل : للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع أو نوفقك لعمل الجنة { فَذَكِّرْ } عظ بالقرآن { إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } [الأعلى : 9] جواب " إن " مدلول قوله { فَذَكِّرْ } قيل : ظاهره شرط ومعناه استبعاد لتأثير الذكرى فيهم.
وقيل : هو أمر بالتذكير على الإطلاق كقوله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية : 21] (الغاشية : 12).
غير مشروط بالنفع { سَيَذَّكَّرُ } سيتعظ ويقبل التذكرة { مَن يَخْشَى } [الأعلى : 10] الله وسوء العاقبة { وَيَتَجَنَّبُهَا } ويتباعد عن الذكرى فلا يقبلها { الاشْقَى } الكافر أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة { الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } يدخل نار جهنم والصغرى نار الدنيا { ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا } [الأعلى : 13] فيستريح من العذاب { وَلا يَحْيَى } [الأعلى : 13] حياة يتلذذ بها.
وقيل : " ثم " لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي فهو متراخٍ عنه في مراتب الشدة.
{ قَدْ أَفْلَحَ } [المؤمنون : 1] نال الفوز { مَن تَزَكَّى } [طه : 76] تطهر من الشرك أو تطهر
512
للصلاة أو أدى الزكاة تفعل من الزكاة كتصدق من الصدقة { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } [الأعلى : 15] وكبر للافتتاح { فَصَلَّى } الخمس وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة ، لأن الصلاة عطفت عليها وهو يقتضي المغايرة ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه وصلى له.
وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا } [الأعلى : 16] على الآخرة فلا تفعلون ما به تفلحون.
والمخاطب به الكافرون دليله قراءة أبي عمرو بالياء { الدُّنْيَا * وَالاخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى : 17] أفضل من نفسها وأدوم { إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى } [الأعلى : 18] هذا إشارة إلى قوله { قَدْ أَفْلَحَ } [المؤمنون : 1] إلى { أَبْقَى } أي أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف أو إلى ما في السورة كلها ، وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [الأعلى : 19] بدل من { الصُّحُفِ الاولَى } [طه : 133] وفي الأثر وفي صحف إبراهيم : ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه.
513
سورة الغاشية
مكية وهي ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(4/269)
{ هَلْ } بمعنى " قد " { أَتَـاـاكَ حَدِيثُ الْغَـاشِيَةِ } [الغاشية : 1] الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها يعني القيامة.
وقيل : النار من قوله : { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم : 50] (إبراهيم : 05) { وُجُوهٌ } أي وجوه الكفار ، وإنما خص الوجه لأن الحزن والسرور إذا استحكما في المرء أثراً في وجهه { يَوْمَـاـاِذٍ } يوم إذ غشيت { خَـاشِعَةٌ } ذليلة لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [الغاشية : 3] تعمل في النار عملاً تتعب فيه وهو جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار وهبوطها في حدور منها.
وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت فهي في نصب منها في الآخرة.
وقيل : هم أصحاب الصوامع ومعناه أنها خشعت الله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب والتهجد الواصب { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } [الغاشية : 4] تدخل ناراً قد أحميت مدداً طويلة فلا حر يعدل حرها { تَصْلَى } أبو عمرو وأبو بكر { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ } [الغاشية : 5] من عين ماء قد انتهى حرها ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجعة إلى الوجوه والمراد أصحابها
514
بدليل قوله { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِن ضَرِيعٍ } [الغاشية : 6] وهو نبت يقال له الشّبرق فإذا يبس فهو ضريع وهو سم قاتل ، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات ، فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع ، فلا تناقض بين هذه الآية وبين قوله { وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ } [الحاقة : 36] (الحاقة : 63) { لا يُسْمِنُ } [الغاشية : 7] مجرور المحل لأنه وصف { ضَرِيعٍ } { وَلا يُغْنِى مِن جُوعٍ } [الغاشية : 7] أي منفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة السمن في البدن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 514
{ وُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ } [الغاشية : 2] ثم وصف وجوه المؤمنين ولم يقل ووجوه لأن الكلام الأول قد طال وانقطع { نَّاعِمَةٌ } متنعمة في لين العيش { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } [الغاشية : 9] رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [الحاقة : 22] من علو المكان أو المقدار { لا تَسْمَعُ } [الغاشية : 11] يا مخاطب أو الوجوه { فِيهَا لَـاغِيَةً } [الغاشية : 11] أي لغواً أو كلمة ذات لغو أو نفساً تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.
{ لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً } : مكي وأبو عمرو : { لا تَسْمَعُ فِيهَا لَـاغِيَةً } [الغاشية : 11] نافع { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } [الغاشية : 12] أي عيون كثيرة كقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير : 14] (الانفطار : 5) { فِيهَا سُرُرٌ } [الغاشية : 13] جمع سرير { مَّرْفُوعَةٌ } من رفعة المقدار أو السمك ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم.
{ وَأَكْوَابٌ } جمع كوب وهو القدح.
وقيل : آنية لا عروة لها { مَّوْضُوعَةٌ } بين أيديهم ليتلذذوا بها بالنظر إليها أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب { وَنَمَارِقُ } وسائد { مَصْفُوفَةٌ } بعضها إلى جنب بعص مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على مسودة واستند إلى الأخرى { وَزَرَابِيُّ } وبسط عراض فاخرة جمع زربية { مَبْثُوثَةٌ } مبسوطة أو مفرقة في المجالس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 514
ولما أنزل الله تعالى هذه الآيات في صفة الجنة ، وفسر النبي عليه السلام بأن ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ ، والأكواب الموضوعة لا تدخل في حساب الخلق لكثرتها ، وطول النمارق كذا وعرض الزرابي كذا ، أنكر الكفار وقالوا : كيف يصعد على هذا
515
(4/270)
السرير ، وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة ، وتطول النمارق هذا الطول ، وبسط الزرابي هذا الانبساط ولم نشاهد ذلك في الدنيا؟ فقال الله تعالى { أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الابِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [الغاشية : 17] طويلة ثم تبرك حتى تركب أو يحمل عليها ثم تقوم فكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما يطأطىء الإبل { وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ } [الغاشية : 18] رفعاً بعيد المدى بلا إمساك وعمد ، ثم نجومها تكثر هذه الكثرة فلا تدخل في حساب الخلق فكذا الأكواب { وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } [الغاشية : 19] نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل مع طولها فكذا النمارق { وَإِلَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية : 20] سطحاً بتمهيد وتوطئة فهي كلها بساط واحد تنبسط من الأفق إلى الأفق فكذا الزرابي ؛ ويجوز أن يكون المعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه ، وتخصيص هذه الأربعة باعتبار أن هذا خطاب للعرب وحث لهم على الاستدلال ، والمرء إنما يستدل بما تكثر مشاهدته له ، والعرب تكون في البوادي ونظرهم فيها إلى السماء والأرض والجبال والإبل فهي أعز أموالهم وهم لها أكثر استعمالاً منهم لسائر الحيوانات ، ولأنها تجمع جميع المآرب المطلوبة من الحيوان وهي النسل والدر والحمل والركوب والأكل بخلاف غيرها ، ولأن خلقها أعجب من غيرها فإنه سخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار ، وجعلها بحيث تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت وتجرها إلى البلاد الشاحطة ، وصبرها على احتمال العطش حتى إن ظمأها لترتفع إلى العشر فصاعداً ، وجعلها ترعى كل نابت في البراري مما لا يرعاه سائر البهائم.
{ فَذَكِّرْ } فذكرهم بالأدلة ليتفكروا فيها { إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } [الغاشية : 21] ليس
516
عليك إلا التبليغ { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية : 22] بمتسلط كقوله { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ق : 45] (ق : 54) ، { بِمُصَيْطِرٍ } : مدني وبصري وعلي وعاصم { إِلا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاكْبَرَ } الاستثناء منقطع أي لست بمسؤول عليهم ولكن من تولى منهم وكفر بالله فإن لله الولاية عليه والقهر فهو يعذبه العذاب الأكبر وهو عذاب جهنم.
وقيل : هو استثناء من قوله { لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ } [الأعلى : 9] أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [الغاشية : 25] رجوعهم ، وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وإن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم } [الغاشية : 26] فنحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها جزاء أمثالهم و " على " لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء.
517
سورة الفجر
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْفَجْرِ } أقسم بالفجر وهو الصبح كقوله { وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } [المدثر : 34] (المدثر : 43) ، أو بصلاة الفجر { وَلَيالٍ عَشْرٍ } [الفجر : 2] عشر ذي الحجة أو العشر الأول من المحرم ، أو الآخر من رمضان.
وإنما نكرت لزيادة فضيلتها { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } [الفجر : 3] شفع كل الأشياء ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها ، أو شفع الصلاة ووترها ، أو يوم النحر لأنه اليوم العاشر ويوم عرفة لأنه اليوم التاسع ، أو الخلق والخالق.
{ وَالْوَتْرِ } حمزة وعلي ، وبفتح الواو غيرهما ، وهما لغتان : فالفتح حجازي والكسر تميمي.
وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم فقال { وَالَّيْلِ } وقيل : أريد به ليلة القدر { إِذَا يَسْرِ } [الفجر : 4] إذا يمضي وياء { يَسْرِ } تحذف في الدرج اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة.
وسأل واحد الأخفش عن سقوط الياء فقال : لا ، حتى تخدمني سنة فسأله بعد سنة فقال : الليل لا يسري وإنما يسرى فيه ، فلما عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقة.
وقيل : معنى يسري : يسرى فيه كما يقال : ليل نائم أي ينام فيه.(4/271)
جزء : 4 رقم الصفحة : 518
{ هَلْ فِى ذَالِكَ } [الفجر : 5] أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء { قَسَمٌ } أي مقسم به { لِّذِى حِجْرٍ } عقل سمي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلاً ونهية
518
لأنه يعقل وينهى ، يريد هل تحقق عنده أن تعظم هذه الأشياء بالإقسام بها ، أو هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر أي هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه؟ أو هل في القسم بهذه الأشياء قسم مقنع لذي عقل ولب؟ والمقسم عليه محذوف وهو قوله " ليعذبن " يدل عليه قوله { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] إلى قوله : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } .
ثم ذكر تعذيب الأمم التي كذبت الرسل فقال { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } أي ألم تعلم يا محمد علماً يوازي العيان في الإيقان؟ وهو استفهام تقرير قيل : لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عاد ما يقال لبني هاشم هاشم ، ثم قيل للأولين منهم : عاد الأولى ، والإرم تسمية لهم باسم جدهم ومن بعدهم عاد الأخيرة ، فـ { إِرَمَ } عطف بيان لـ { عَادٍ } وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة.
وقيل : إرم بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير { بِعَادٍ * إِرَمَ } على الإضافة وتقديره بعاد أهل إرم كقوله { وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف : 82] (يوسف : 28) ولم تنصرف ـ قبيلة كانت أو أرضاً ـ للتعريف والتأنيث وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة ، فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وإن كانت صفة للبلدة أنها ذات أساطين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 518
وروي أنه كان لعاد ابنان : شداد وشديد فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال : أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار.
ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل
519
{ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَـادِ } [الفجر : 8] أي مثل عاد في قوتهم وطول قامتهم ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ } [الفجر : 9] قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً.
قيل : أول من نحت الجبال والصخور ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة { بِالْوَادِ } بوادي القرى { وَفِرْعَوْنَ ذِى الاوْتَادِ } أي ذي الجنود الكثيرة وكانت لهم مضارب كثيرة يضربونها إذا نزلوا.
وقيل : كان له أوتاد يعذب الناس بها كما فعل بآسية { الَّذِينَ } في محل النصب على الذم ، أو الرفع على " هم الذين " ، أو الجر على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون { طَغَوْا فِى الْبِلَـادِ } [الفجر : 11] تجاوزوا الحد { فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } [الفجر : 12] بالكفر والقتل والظلم { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [الفجر : 13] مجاز عن إيقاع العذاب بهم على أبلغ الوجوه إذا الصب يشعر بالدوام والسوط بزيادة الإيلام أي عذبوا عذاباً مؤلماً دائماً { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر : 14] وهو المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده ، وهذا مثل لإرصاده العباد وأنهم لا يفوتونه ، وأنه عالم بما يصدر منهم وحافظه فيجازيهم عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 518
(4/272)
{ رِزْقَهُ } أي ضيق عليه وجعله بمقدار بلغته ، { فَقَدَرَ } شامي ويزيد { فَيَقُولُ رَبِّى أَهَـانَنِ } [الفجر : 16] أي الواجب لمن ربه بالمرصاد أن يسعى للعاقبة ولا تهمه العاجلة ، وهو قد عكس فإنه إذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر ، قال : ربي أكرمني أي فضلني بما أعطاني فيرى الإكرام في كثرة الحظ من الدنيا ، وإذا امتحنه بالفقر فقدر عليه رزقه ليصبر ، قال : ربي أهانني فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا تهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها ، فرد عليه زعمه بقوله
520
{ كَلا } أي ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلته بل الإكرام في توفيق الطاعة والإهانة في الخذلان ، وقوله تعالى : { فَيَقُولُ } خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في " أما " من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، وكذا { فَيَقُولُ } الثاني خبر لمبتدأ تقديره : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه.
وسمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء لأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع ، ونحوه قوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] (الأنبياء : 53).
وإنما أنكر قوله { رَبِّى أَكْرَمَنِ } [الفجر : 15] مع أنه أثبته بقوله { فَأَكْرَمَهُ } لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته وهو قصده إن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له لاستحقاقه كقوله { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [القصص : 78] (القصص : 87) وإنما أعطاه الله تعالى ابتلاء من غير اسحقاق منه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 520
{ الْمِسْكِينِ } أي بل هناك شر من هذا القول وهو أن الله يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة وحض أهله على طعام المسكين { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ } [الفجر : 19] أي الميراث { أَكْلا لَّمًّا } [الفجر : 19] ذا لم وهو الجمع بين الحلال والحرام ، وكانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ويأكلون تراثهم مع تراثهم { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ } [الفجر : 20] يقال حبه وأحبه بمعنى { حُبًّا جَمًّا } [الفجر : 20] كثيراً شديداً مع الحرص ومنع الحقوق ، { رَبِّى } حجازي وأبو عمرو { وَلا } { يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ } [محمد : 12] { وَّيُحِبُّونَ } بصري { كَلا } ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم.
ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه حين لا تنفع الحسرة فقال { إِذَا دُكَّتِ الارْضُ } [الفجر : 21] إذا زلزلت { دَكًّا دَكًّا } [الفجر : 21] دكاً بعد دك أي كرر عليها الدك حتى عادت هباء منبثاً.
521
{ وَجَآءَ رَبُّكَ } [الفجر : 22] تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قهره وسلطانه ، فإن واحداً من الملوك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة ما لا يظهر بحضور عساكره وخواصه ، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه { وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر : 22] أي ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس { وَجِا ى ءَ يَوْمَـاـاِذٍ بِجَهَنَّمَ } [الفجر : 23] قيل : إنها برزت لأهلها كقوله : { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [الشعراء : 91] (الشعراء : 19).
وقيل : هو مجرى على حقيقته ففي الحديث " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " { يَوْمَـاـاِذٍ يَتَذَكَّرُ الانسَـانُ } [الفجر : 23] أي يتعظ { وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر : 23] ومن أين له منفعة الذكرى؟ { يَقُولُ يَـالَيْتَنِ قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } هذه وهي حياة الآخرة أي يا ليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 520
(4/273)
{ فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُا أَحَدٌ } [الفجر : 25] أي لا يتولى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم { وَلا يُوثِقُ } [الفجر : 26] بالسلاسل والأغلال { وَثَاقَهُا أَحَدٌ } [الفجر : 26] قال صاحب الكشاف : لا يعذب أحد أحداً كعذاب الله ولا يوثق أحد أحداً كوثاق الله.
{ لا يُعَذِّبُ } [الفجر : 25] { وَلا يُوثِقُ } [الفجر : 26] علي وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف وهو الكافر.
وقيل : هو أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده ثم يقول الله تعالى للمؤمن { يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ } [الفجر : 27] إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو يكون على لسان ملك { الْمُطْمَـاـاِنَّةُ } الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن وهي النفس المؤمنة ، أو المطمئنة إلى الحق التي سكّنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك.
ويشهد للتفسير الأول قراءة أبي { يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ } وإنما يقال لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة { يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَـاـاِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى } [الفجر : 28] موعد { رَبُّكَ } أو ثواب ربك { رَاضِيَةً } من الله بما أوتيت { مَّرْضِيَّةً } عند الله بما عملت { فَادْخُلِى فِى عِبَـادِى } [الفجر : 29] في جملة عبادي الصالحين فانتظمي في سلكهم { وَادْخُلِى جَنَّتِى } [الفجر : 30] معهم.
وقال أبو عبيدة : أي مع عبادي أو بين
522
عبادي أي خواصي كما قال : { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ } [النمل : 19] (النمل : 91).
وقيل : النفس الروح ومعناه فادخلي في أجساد عبادي كقراءة عبد الله بن مسعود { فِى } ولما مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم ير على خلقته فدخل في نعشه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر ولم يدر من تلاها.
قيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب.
وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال : اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك ، فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله.
وقيل : هي عامة في المؤمنين إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
523
سورة البلد
مكية وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَادْخُلِى جَنَّتِى * لا أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ } [البلد : 1] أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما بعده على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق.
واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله { وَأَنتَ حِلُّ بِهَـاذَا الْبَلَدِ } [البلد : 2] أي ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد يعني مكة كما يستحل الصيد في غير الحرم.
عن شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب من حالهم في عداوته.
أو سلى رسول الله بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد ، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه فقال : { وَأَنتَ حِلُّ بِهَـاذَا الْبَلَدِ } [البلد : 2].
أي وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له ، فأحل ما شاء وحرم ما شاء ، قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرم دار أبي
524
سفيان ونظير قوله { وَأَنتَ حِلُّ } [البلد : 2] في الاستقبال قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر : 30] (الزمر : 03).
وكفاك دليلاً على أنه للاستقبال أن السورة مكية بالاتفاق ، وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟
جزء : 4 رقم الصفحة : 524(4/274)
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [البلد : 3] هما آدم وولده ، أو كل والد وولده ، أو إبراهيم وولده ، و " ما " بمعنى " من " أو بمعنى " الذي " { لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ } [التين : 4] جواب القسم { فِى كَبَدٍ } [البلد : 4] مشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.
وعن ذي النون : لم يزل مربوطاً بحبل القضاء مدعواً إلى الائتمار والانتهاء.
والضمير في { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } [البلد : 5] لبعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكابد منهم ما يكابد ، ثم قيل هو أبو الأشد.
وقيل : الوليد بن المغيرة.
والمعنى أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتصعب للمؤمنين أن لن تقوم قيامه ولن يقدر على الانتقام منه ، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم وأنه { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا } [البلد : 6] أي كثيراً جمع لبدة وهو ما تلبد أي كثر واجتمع ، يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُا أَحَدٌ } [البلد : 7] حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً يعني أن الله تعالى كان يراه وكان عليه رقيباً.
ثم ذكر نعمه عليه فقال { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } [البلد : 8] يبصر بهما المرئيات { وَلِسَانًا } يعبر عما في ضميره { وَشَفَتَيْنِ } يستر بهما ثغره ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ { وَهَدَيْنَـاهُ النَّجْدَينِ } [البلد : 10] طريقي الخير والشر المفضيين إلى الجنة والنار وقيل الثديين.
{ فَلا اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ } [البلد : 11].
{ ءَامَنُوا } يعني فلم يشكر تلك الآيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب أو إطعام اليتامى
525
والمساكين ، ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير ، بل غمط النعم وكفر بالمنعم.
والمعنى أن الإنفاق على هذا الوجه مرضي نافع عند الله لا أن يهلك ماله لبداً في الرياء والفخار.
وقلما تستعمل " لا " مع الماضي إلا مكررة ، وإنما لم تكرر في الكلام الأفصح لأنه لما فسر اقتحام القبة بثلاثة أشياء صار كأنه أعاد " لا " ثلاث مرات وتقديره : فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولا آمن.
والاقتحام الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة ، والقحمة الشدة فجعل الصالحة عقبة وعملها اقتحاماً لها في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس.
وعن الحسن : عقبة والله شديدة مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان.
والمراد بقوله { مَا الْعَقَبَةُ } [البلد : 12] ما اقتحامها ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله.
وفك الرقبة تخليصها من الرق والإعانة في مال الكتابة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 524
{ فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ } مكي وأبو عمرو وعلي على الإبدال من اقتحم العقبة ، وقوله { الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْعَقَبَةُ } [البلد : 12] اعتراض.
غيرهم { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَـامٌ } على : اقتحامها فك رقبة أو إطعام.
والمسغبة المجاعة ، والمقربة القرابة ، والمتربة الفقر ، مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب.
يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي.
وترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب فيكون مأواه المزابل ووصف اليوم بذي مسغبة كقولهم همٌّ ناصب أي ذو نصب.
ومعنى { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البلد : 17] أي داوم على الإيمان.
وقيل : " ثم " بمعنى الواو.
وقيل : إنما جاء بـ " ثم " لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت ، إذ الإيمان هو السابق على غيره ولا يثبت عمل صالح إلا به { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر : 3] عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن { وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [البلد : 17] بالتراحم فيما بينهم { أؤلئك أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ } [البلد : 18] أي المصوفون بهذه الصفات من أصحاب الميمنة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِنَا } [البلد : 19] بالقرآن أو بدلائلنا { هُمْ أَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ } [البلد : 19] أصحاب الشمال والميمنة والمشأمة اليمين والشمال ، أو اليمن والشؤم أي الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهن { عَلَيْهِمْ نَارٌ } وبالهمز : أبو عمرو وحمزة وحفص أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته إذا أطبقته وأغلقته
526(4/275)
سورة الشمس
مكية وهي خمس عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ مُّؤْصَدَةُ * وَالشَّمْسِ وَضُحَـاـاهَا } [الشمس : 1] وضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَـاـاهَا } [الشمس : 2] تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر يخلف القمر الشمس في النور { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّـاـاهَا } [الشمس : 3] جلى الشمس وأظهرها للرائين وذلك عند انتفاخ النهار وانبساطه ، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء.
وقيل : الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر كقوله : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر : 45] (فاطر : 54) { وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَـاـاهَا } [الشمس : 4] يستر الشمس فتظلم الآفاق.
والواو الأولى في نحو هذا للقسم بالاتفاق ، وكذا الثانية عند البعض.
وعند الخليل : الثانية للعطف لأن إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز ، ألا ترى أنك لو جعلت موضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله؟ وهما حرفاً عطف فكذا الواو.
ومن قال : إنها للقسم احتج بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين ، لأن قوله { وَالَّيْلِ } مثلاً مجرور بواو القسم و { إِذَا يَغْشَى } [الليل : 1] منصوب بالفعل المقدر الذي هو أقسم فلو جعلت الواو في { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 2] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جراً ، و { إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 2] معطوفاً على { إِذَا يَغْشَى } [الليل : 1] نصباً فصار كقولك : إن في الدار زيداً أو في
527
الحجرة عمراً.
وأجيب بأن واو القسم تنزل منزلة الباء والفعل حتى لم يجز إبراز الفعل معها فصارت كأنها العاملة نصباً وجراً ، وصارت كعامل واحد له عملان ، وكل عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحد بالاتفاق نحو : ضرب زيد عمراً وبكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما ، فكذا هنا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 527
و " ما " مصدرية في { وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَـاـاهَا * وَالارْضِ وَمَا طَحَـاـاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاـاهَا } أي وبنائها وطحوها أي بسطها وتسوية خلقها في أحسن صورة عند البعض وليس بالوجه لقوله { فَأَلْهَمَهَا } لما فيه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة وإنما أوثرت على " من " لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء ، والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها.
وإنما نكرت النفس لأنه أراد نفساً خاصة من بين النفوس وهي نفس آدم كأنه قال : وواحدة من النفوس ، أو أراد كل نفس ، والتنكير للتكثير كما في { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [التكوير : 14] (الانفطار : 5) { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا } [الشمس : 8] فأعلمها طاعتها ومعصيتها أفهمها أن أحدهما حسن والآخر قبيح { قَدْ أَفْلَحَ } [المؤمنون : 1] جواب القسم والتقدير : لقد أفلح ، قال الزجاج : صار طول الكلام عوضاً عن اللام.
وقيل : الجواب محذوف وهو الأظهر تقديره ليدمدمن الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحاً ، وأما { قَدْ أَفْلَحَ } [المؤمنون : 1] فكلام تابع لقوله { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاـاهَا } [الشمس : 8] على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء { مَن زَكَّـاـاهَا } [الشمس : 9] طهرها الله وأصلحها وجعلها زاكية { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـاـاهَا } [الشمس : 10] أغواها الله ، قال عكرمة : أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس أغواها الله.
ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد ، والتدسية : النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسّى دسس ، والياء بدل من السين المكررة.
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاـاهَآ } [الشمس : 11] بطغيانها إذ الحامل لهم على التكذيب طغيانهم { إِذِ انابَعَثَ } [الشمس : 12] حين قام بعقر الناقة { أَشْقَـاـاهَا } أشقى ثمود قدار بن سالف
528(4/276)
وكان أشقر أزرق قصيراً.
و " إذ " منصوب بـ { كَذَّبَتْ } أو بالطغوى { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ } [الشمس : 13] صالح عليه السلام { نَاقَةَ اللَّهِ } [الأعراف : 73] نصب على التحذير أي احذروا عقرها { وَسُقْيَـاهَا } كقولك : الأسد الأسد { فَكَذَّبُوهُ } فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا { فَعَقَرُوهَا } أي الناقة أسند الفعل إليهم وإن كان العاقر واحداً لقوله : { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } [القمر : 29] (القمر : 92).
لرضاهم به { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم } [الشمس : 14] أهلكهم هلاك استئصال { بِذَنابِهِمْ } بسبب ذنبهم وهو تكذيبهم الرسول وعقرهم الناقة { فَسَوَّاـاهَا } فسوى الدمدمة عليهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم { وَلا يَخَافُ عُقْبَـاهَا } [الشمس : 15] ولا يخاف الله عاقبة هذه الفعلة أي فعل ذلك غير خائف أن تلحقه تبعة من أحد كما يخاف من يعاقب من الملوك ، لأنه فعل في ملكه وملكه { لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ } (الأنبياء : 32) ، { فَلا يَخَافُ } [الجن : 13] مدني وشامي.
529
سورة الليل
إحدى وعشرون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [الليل : 1] المغشي ، أما الشمس من قوله { وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَـاـاهَا } [الشمس : 4] (الشمس : 3) أو النهار من قوله { يَغْشَى } (الأعراف : 45) أو كل شيء يواريه بظلامه من قوله { إِذَا وَقَبَ } [الفلق : 3] (الفلق : 3) { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 2] ظهر بزوال ظلمة الليل { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى } [الليل : 3] والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خق الذكر والأنثى من ماء واحد ، وجواب القسم { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } [الليل : 4] إن عملكم لمختلف وبيان الاختلاف فيما فصل على أثره { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى } [الليل : 5] حقوق ماله { وَاتَّقَى } ربه فاجتنب محارمه { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } [الليل : 6] بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، أو بالكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } [الليل : 7] فسنهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه ربه { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } [الليل : 8] بماله { وَاسْتَغْنَى } عن ربه فلم يتقه أو استغنى
530
بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } [الليل : 9] بالإسلام أو الجنة { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [الليل : 10] للخلة المؤدية إلى النار فتكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد ، أو سمى طريقة الخير باليسرى لأن عاقبتها اليسر ، وطريقة الشر بالعسرى لأن عاقبتها العسر ، أو أراد بهما طريقي الجنة والنار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 530
{ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُا إِذَا تَرَدَّى } [الليل : 11] ولم ينفعه ماله إذا هلك ، وتردى تفعّل من الردى وهو الهلاك ، أو تردى في القبر أو في قعر جهنم أي سقط { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } [الليل : 12] إن علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل وبيان الشرائع { وَإِنَّ لَنَا لَلاخِرَةَ وَالاولَى } [الليل : 13] فلا يضرنا ضلال من ضل ولا ينفعنا اهتداء من اهتدى ، أو أنهما لنا فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق { فَأَنذَرْتُكُمْ } خوفتكم { نَارًا تَلَظَّى } [الليل : 14] تتلهب { لا يَصْلَـاـاهَآ } [الليل : 15] لا يدخلها للخلود فيها { لا يَصْلَـاـاهَآ إِلا الاشْقَى * الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى } إلا الكافر الذي كذب الرسل وأعرض عن الإيمان { وَسَيُجَنَّبُهَا } وسيبعد منها { الاتْقَى } المؤمن { الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ } للفقراء { يَتَزَكَّى } من الزكاء أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً لا يريد به رياء ولا سمعة ، أو يتفعل من الزكاة و { يَتَزَكَّى } إن جعلته بدلاً من { يُؤْتِى } فلا محل له لأنه داخل في حكم الصلة ، والصلاة لا محل لها ، وإن جعلته حالاً من الضمير في { يُؤْتِى } فمحله النصب.(4/277)
قال أبو عبيدة : الأشقى بمعنى الشقي وهو الكافر ، والأتقى بمعنى التقي وهو المؤمن لأنه لا يختصر بالصلى أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد ناراً مخصوصة بالأشقى فما تصنع بقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الاتْقَى } [الليل : 17] ، لأن التقي يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة ، وقيل : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيها ، فقيل { الاشْقَى } وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل الأتقى وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : هما أبو جهل وأبو بكر.
وفيه بطلان زعم المرجئة لأنهم يقولون لا يدخل النار إلا كافر { رَبِّهِ } أي وما لأحد عند الله
531
نعمة يجازيه بها إلا أن يفعل فعلا يبتغي به وجه ربه فيجازيه عليه { الاعْلَى } هو الرفيع بسلطانه المنيع في شأنه وبرهانه ، ولم يرد به العلو من حيث المكان فذا آية الحدثان { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل : 21] موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه وهو كقوله تعالى لنبيه عليه السلام : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى : 5] (الضحى : 5).
532
سورة والضحى
مكية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالضُّحَى } المراد وقت الضحى وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس.
وإنما خص وقت الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجداً ، أو النهار كله لمقابلته بالليل في قوله { وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى : 2] سكن ، والمراد سكون الناس والأصوات فيه ، وجواب القسم { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [الضحى : 3] ما تركك منذ اختارك وما أبغضك منذ أحبك والتوديع مبالغة في الودع ، لأن من ودعك مفارقاً فقد بالغ في تركك ، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أياماً فقال المشركون : إن محمداً ودعه ربه وقلاه ، فنزلت.
وحذف الضمير من { قَلَى } كحذفه من الذاكرات في قوله : { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ } [الأحزاب : 35] (الأحزاب : 53) ، يريد والذاكراته ونحوه : { فَـاَاوَى } ، { فَهَدَى } ، { فَأَغْنَى } وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف { وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى } [الضحى : 4] أي ما أعد الله لك في الآخرة من المقام المحمود والحوض المورود والخير الموعود خير مما أعجبك في الدنيا ، وقيل : وجه اتصاله بما قبله أنه لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك بالوحي إليك وأنك حبيب الله ، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك ، أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك
533
لتقدمه على الأنبياء وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك.
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [الضحى : 5] في الآخرة من الثواب ومقام الشفاعة وغير ذلك { فَتَرْضَى } ولما نزلت قال صلى الله عليه وسلّم " إذا لا أرضى قط وواحد من أمتي في النار " واللام الداخلة على " سوف " لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره : ولأنت سوف يعطيك ، ونحوه لأقسم فيمن قرأ كذلك لأن المعنى لأنا أقسم ، وهذا لأنها إن كانت لام قسم فلامه لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون لام الابتداء ، ولامه لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر كما ذكرنا ، كذا ذكره صاحب الكشاف.
وذكر صاحب الكشف هي لام القسم ، واستغنى عن نون التوكيد لأن النون إنما تدخل ليؤذن أن اللام لام القسم لا لام الابتداء ، وقد علم أنه ليس للابتداء لدخولها على " سوف " لأن لام الابتداء لا تدخل على " سوف " ، وذكر أن الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير يؤذن بأن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 533(4/278)
ثم عدد عليه نعمه من أول حاله ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير ، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره فقال { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا } [الضحى : 6] وهو من الوجود الذي بمعنى العلم والمنصوبان مفعولاه ، والمعنى ألم تكن يتيماً حين مات أبواك { فَـاَاوَى } أي فآواك إلى عمك أبي طالب وضمك إليه حتى كفلك ورباك { وَوَجَدَكَ ضَآلا } [الضحى : 7] أي غير عالم ولا واقف على معالم النبوة وأحكام الشريعة وما طريقة السمع { فَهَدَى } فعرفك الشرائع والقرآن.
وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب فرده إلى القافلة.
ولا يجوز أن يفهم به عدول عن حق ووقوع في غي فقد كان عليه الصلاة السلام من أول حاله إلى نزول الوحي عليه معصوماً من عبادة الأوثان وقاذورات أهل الفسق والعصيان { وَوَجَدَكَ عَآ ـاِلا } [الضحى : 8] فقيراً { فَأَغْنَى } فأغناك بمال خديجة أو بمال أفاء عليك من الغنائم { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ } [الضحى : 9] فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه
534
{ وَأَمَّا السَّآ ـاِلَ فَلا تَنْهَرْ } [الضحى : 10] فلا تزجره فابذل قليلاً أو رد جميلاً.
وعن السدي : المراد طالب العلم إذا جاءك فلا تنهره { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [الضحى : 11] أي حدث بالنبوة التي آتاك الله وهي أجل النعم ، والصحيح أنها تعم جميع نعم الله عليه ويدخل تحته تعليم القرآن والشرائع.
535
سورة الشرح
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار فأفاد إثبات الشرح فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، ولذا عطف عليه اعتباراً للمعنى أي فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين ، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل ، وعن الحسن : مليء حكمة وعلماً { صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } [الشرح : 2] وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، وقيل : هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل ، والأنبياء يعاتبون بمثلها ووضعه عنه أن غفر له ، والوزر : الحمل الثقيل { الَّذِى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } [الشرح : 3] أثقله حتى سمع نقيضه وهو صوت الانتقاض { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح : 4] ورفع ذكره أن قرن ذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والخطب والتشهد وفي غير موضع من القرآن : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النور : 54] (التغابن : 21).
{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب : 71] (النساء : 31).
{ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة : 62] (التوبة : 26).
536
وفي تسميته رسول الله ونبي الله ومنه ذكره في كتب الأولين.
وفائدة لك ما عرف في طريقة الإبهام والإيضاح لأنه يفهم بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [الشرح : 1] أن ثم مشروحاً ، ثم أوضح بقوله { صَدْرَكَ } ما علم مبهماً وكذلك { لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح : 4] ، و { عَنكَ وِزْرَكَ } [الشرح : 2].(4/279)
{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } أي إن مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يسراً بإظهاري إياك عليهم حتى تغلبهم.
وقيل : كان المشركون يعيرون رسول الله والمؤمنين بالفقر حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله ، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم.
ثم قال { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 6] كأنه قال : خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً ، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقاربة اليسر العسر زيادة في التسلية ولتقوية القلوب ، وإنما قال عليه السلام عند نزولها " لن يغلب عسر يسرين " لأن العسر أعيد معرفاً فكان واحداً لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى ، واليسر أعيد نكرة والنكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى ، فصار المعنى إن مع العسر يسرين.
قال أبو معاذ : يقال إن مع الأمير غلاماً إن مع الأمير غلاماً ، فالأمير واحد ومعه غلامان.
وإذا قال : إن مع أمير غلاماً وإن مع الأمير الغلام ، فالأمير واحد والغلام واحد.
وإذا قيل : إن مع أمير غلاماً وإن مع أمير غلاماً فهما أميران وغلامان كذا في " شرح التأويلات " .
جزء : 4 رقم الصفحة : 536
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } [الشرح : 7] أي فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الرب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء ، واختلف أنه قبل السلام أو بعده ، ووجه الاتصال بما قبله أنه لما عدد عليه نعمه السالفة ومواعيده الآتية بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها ، وأن يواصل بين بعضها وبعض ولا يخلي وقتاً من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب } [الشرح : 8] واجعل رغبتك إليه خصوصاً ولا تسأل إلا فضله متوكلاً عليه
537
{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 122] (إبراهيم : 11).
سورة والتين
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } [التين : 1] أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأشجار المثمرة ، روي أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : " كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم ، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس " وقال : " نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة " وقال : " هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو تينكم هذا وزيتونكم هذا ، وقيل : هما جبلان بالشام منبتاهما { وَطُورِ سِينِينَ } [التين : 2] أضيف الطور ـ وهو الجبل ـ إلى سينين ـ وهي البقعة ـ ونحو سينون بيرون في جواز الإعراب بالواو والياء والإقرار على الياء وتحريك النون بحركات الإعراب { وَهَـاذَا الْبَلَدِ } [التين : 3] يعني مكة { الامِينُ } من أمن الرجل أمانة فهو أمين ، وأمانته أنه يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه.
ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والأولياء ،
538
فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه ، والطور : المكان الذي نودي منه موسى ، ومكة مكان البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد نبينا ومبعثه صلوات الله عليهم أجمعين.
أو الأولان قسم بمهبط الوحي على عيسى ، والثالث على موسى ، والرابع على محمد عليهم السلام.(4/280)
وجواب القسم { لَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ } [التين : 4] وهو جنس { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين : 4] في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية أعضائه { ثُمَّ رَدَدْنَـاهُ أَسْفَلَ سَـافِلِينَ } [التين : 5] أي ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً يعني أقبح من قبح صورة وهم أصحاب النار ، أو أسفل من أهل الدركات ، أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله ، وابيض شعره بعد سواده ، وتشننّ جلده وكلّ سمعه وبصره ، وتغير كل شيء منه ، فمشيه دليف ، وصوته خفات ، وقوته ضعف ، وشهامته خرف { إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } [التين : 6] ودخل الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين اللغتين ، والاستثناء على الأول متصل ، وعلى الثاني منقطع أي ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمي والزمني فلهم ثواب غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على الابتلاء بالشيخوخة والهرم ، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة.
والخطاب في { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } [التين : 7] للإنسان على طريقة الالتفات أي فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع والبرهان الساطع بالجزاء؟ والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشراً سوياً وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوى ، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق ، وأن من قدر على خلق الإنسان وعلى هذا كله لم يعجز عن إعادته ، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ أو لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي فمن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل؟ فـ " ما " بمعنى " من " { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَـاكِمِينَ } [التين : 8] وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله وهو من الحكم والقضاء والله أعلم.
539
سورة العلق
مكية وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
عن ابن عباس ومجاهد : هي أول سورة نزلت.
والجمهور على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ } [العلق : 1] محل { بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] النصب على الحال أي اقرأ مفتتحاً باسم ربك كأنه قيل : قل باسم الله ثم اقرأ الذي خلق.
ولم يذكر الخلق مفعولاً لأن المعنى الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه ، أو تقديره خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض.
وقوله { خَلَقَ الانسَـانَ } [الرحمن : 3] تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لشرفه ولأن التنزيل إليه ، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان إلا أنه ذكر مبهماً ثم مفسراً تفخيماً لخلقه ودلالة على عجيب فطرته { مِنْ عَلَقٍ } [العلق : 2] وإنما جمع ولم يقل من علقة لأن الإنسان في معنى الجمع { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ } [العلق : 3] الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم ينعم على عباده النعم ويحلم عنهم ، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال { الَّذِى عَلَّمَكُمُ } [طه : 71] الكتابة { الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فدل على كمال كرمه بأنه علم
540
عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 540(4/281)
{ كَلا } ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه { إِنَّ الانسَـانَ لَيَطْغَى } [العلق : 6] نزلت في أبي جهل إلى آخر السورة { أَن رَّءَاهُ } [العلق : 7] أن رأى نفسه.
يقال في أفعال القلوب : رأيتني وعلمتني ، ومعنى الرؤية العلم ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين { اسْتَغْنَى } هو المفعول الثاني { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } [العلق : 8] تهديد للإنسان من عاقبة الطغيان على طريق الالتفات.
والرجعى مصدر بمعنى الرجوع أي إن رجوعك إلى ربك فيجازيك على طغيانك { أَرَءَيْتَ الَّذِى يَنْهَى } .
{ عَبْدًا إِذَا صَلَّى } [العلق : 10] أي أرأيت أبا جهل ينهى محمداً عن الصلاة { أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى } [العلق : 11] أي إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } [العلق : 12] أو كان آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد { أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [العلق : 13] أرأيت إن كان ذلك الناهي مكذباً بالحق متولياً عنه كما نقول نحن { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } [العلق : 14] ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب حاله ، وهذا وعيد وقوله { الَّذِى يَنْهَى } [العلق : 9] مع الجملة الشرطية مفعولا { أَرَءَيْتَ } وجواب الشرط محذوف تقديره : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى؟ وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني وهذا كقولك : إن أكرمتك أتكرمني؟ و { أَرَءَيْتَ } الثانية مكررة زائدة للتوكيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 540
{ كَلا } ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة
541
الأصنام.
ثم قال { لَـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ } [العلق : 15] عما هو فيه { لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ } [العلق : 15] لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة ، وكتبها في المصحف بالألف على حكم الوقف ، واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور { نَاصِيَةٍ } بدل من لأنها وصفت بالكذب والخطأ بقوله { كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } [العلق : 16] عن الإسناد المجازي وهما لصاحبها حقيقة وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك " ناصية كذاب خاطىء " { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } النادي المجلس الذي يجتمع فيه القوم ، والمراد أهل النادي.
روي أن أبا جهل مر بالنبي عليه السلام وهو يصلي فقال : ألم أنهك فأغلظ له رسول الله عليه السلام فقال : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً فنزل.
والزبانية لغة الشرط الواحد زبنية من الزبن وهو الدفع ، والمراد ملائكة العذاب وعنه عليه السلام " لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عياناً " { كَلا } ردع لأبي جهل { لا تُطِعْهُ } [العلق : 19] أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله { فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } [القلم : 8] (القلم : 7) { وَاسْجُدْ } ودم على سجودك يريد الصلاة { وَاقْتَرِب } وتقرب إلى ربك بالسجود فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد كذا الحديث والله أعلم.
542(4/282)
سورة القدر
مكية وقيل مدنية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر : 1] عظم القرآن حيث أسند إنزاله إليه دون غيره.
وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للاستغناء عن التنبيه عليه ورفع مقدار الوقت الذي أنزله فيه.
روي أنه أنزل جملة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم كان ينزله جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ثلاث وعشرين سنة.
ومعنى ليلة القدر ليلة تقدير الأمور وقضائها.
والقدر بمعنى التقدير ، أو سميت بذلك لشرفها على سائر الليالي وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان ، كذا روى أبو حنيفة رحمه الله عن عاصم عن زرّ أن أبيّ بن كعب كان يحلف على ليلة القدر أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان وعليه الجمهور.
ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة طلباً لموافقتها ، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى ، واسمه الأعظم ، وساعة الإجابة في الجمعة ، ورضاه في الطاعات ، وغضبه في المعاصي.
وفي الحديث : " من أدركها يقول اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني " (1)
543
{ وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } [القدر : 2] أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها.
ثم بين له ذلك بقوله { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } [القدر : 3] ليس فيها ليلة القدر.
وسبب ارتفاع فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من تنزل الملائكة والروح وفصل كل أمر حكيم.
وذكر في تخصيص هذه المدة أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي { تَنَزَّلُ الْمَلَـائكَةُ } [القدر : 4] إلى السماء الدنيا أو إلى الأرض { وَالرُّوحُ } جبريل أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة أو الرحمة { فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [القدر : 4] أي تنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل وعليه وقف { سَلَـامٌ هِىَ } [القدر : 5] ما هي إلا سلامة خبر ومبتدأ أي لا يقدّر الله فيها إلا السلامة والخير ويقضي في غيرها بلاء وسلامة ، أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين.
قيل : لا يلقون مؤمناً ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر : 5] أي إلى وقت طلوع الفجر.
بكسر اللام : علي وخلف ، وقد حرم من السلام الذين كفروا والله أعلم.
544
سورة البينة
مختلف فيها وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البينة : 1] بمحمد صلى الله عليه وسلّم { مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 72] أي اليهود والنصارى وأهل الرجل أخص الناس به وأهل الإسلام من يدين به { وَالْمُشْرِكِينَ } عبدة الأصنام { مُنفَكِّينَ } منفصلين عن الكفر وحذف لأن صلة " الذين " تدل عليه { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [البينة : 1] الحجة الواضحة والمراد محمد صلى الله عليه وسلّم يقول : لم يتركوا كفرهم حتى يبعث محمد صلى الله عليه وسلّم ، فلما بعث أسلم بعض وثبت على الكفر بعض { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ } [البينة : 2] أي محمد عليه السلام وهو بدل من { الْبَيِّنَةُ } { يَتْلُوا } يقرأ عليهم { صُحُفًا } قراطيس { مُّطَهَّرَةً } من الباطل { فِيهَآ } في الصحف { كُتُبٌ } مكتوبات { قَيِّمَةٌ } مستقيمة ناطقة بالحق والعدل { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [البينة : 4] فمنهم من أنكر نبوته بغياً وحسداً ، ومنهم من آمن.
وإنما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع أولاً بينهم وبين المشركين ، لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
جزء : 4 رقم الصفحة : 545
{ وَمَآ أُمِرُوا } [البينة : 5] يعني في التوراة والإنجيل
545(4/283)
{ إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [البينة : 5] من غير شرك ولا نفاق { حُنَفَآءَ } مؤمنين بجميع الرسل مائلين عن الأديان الباطلة { وَيُقِيمُوا الصَّلَواةَ وَيُؤْتُوا الزكاة وَذَالِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة : 5] أي دين الملة القيمة { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَوالَـائكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أؤلئك هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } ونافع يهمزهما والقراء على التخفيف ، والنبي والبرية مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ } [البينة : 8] إقامة { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [المائدة : 119] بقبول أعمالهم { وَرَضُوا عَنْهُ } [المجادلة : 22] بثوابها { ذَالِكَ } أي الرضا { لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ } [البينة : 8] وقوله { خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [البينة : 7] يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة ، لأن البرية الخلق ، واشتقاقها من برأ الله الخلق.
وقيل : اشتقاقها من البرى وهو التراب ، ولو كان كذلك لما قرءوا بالهمز كذا قاله الزجاج
546
سورة الزلزلة
مختلف فيها وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ رَبَّهُ * إِذَا زُلْزِلَتِ الارْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة : 1] أي إذا حركت زلزالها الشديد الذي ليس بعده زلزال.
وقرىء بفتح الزاء فالمكسور مصدر والمفتوح اسم { وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا } [الزلزلة : 2] أي كنوزها وموتاها جمع ثقل وهو متاع البيت ، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها { وَقَالَ الانسَـانُ } زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها ، وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ موتاها أحياء فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون { يَـاوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } [يس : 52] (يس : 25) وقيل : هذا قول الكافر لأنه كان لا يؤمن بالبعث ، فأما المؤمن فيقول { هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [يس : 52] (يس : 25) { يَوْمَـاـاِذٍ } بدل من " إذا " وناصبها { تُحَدِّثُ } أي تحدث الخلق { أَخْبَارَهَا } فحذف أول المفعولين لأن المقصود ذكر تحديثها الإخبار لا ذكر الخلق.
قيل : ينطقها الله وتخبر بما عمل عليها من خير وشر.
وفي الحديث : " تشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها " { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [الزلزلة : 5] أي تحدث أخبارها بسبب
547
إيحاء ربك لها أي إليها وأمره إياها بالتحديث { يَوْمَـاـاِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ } [الزلزلة : 6] يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف { أَشْتَاتًا } بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين ، أو يصدرون عن الموقف أشتاتاً يتفرق بهم طريقا الجنة والنار { لِّيُرَوْا أَعْمَـالَهُمْ } [الزلزلة : 6] أي جزاء أعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [الزلزلة : 7] نملة صغيرة { خَيْرًا } تمييز { يَرَهُ } أي ير جزاءه { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 8] قيل : هذا في الكفار والأول في المؤمنين.
ويروى أن أعرابياً أخر خيراً يره فقيل له : قدمت وأخرت فقال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 547
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه
كلا جانبي هرشي لهن طريق
وروي أن جد الفرزدق أتاه عليه السلام ليستقرئه فقرأ عليه هذه الآية فقال : حسبي حسبي ، وهي أحكم آية وسميت الجامعة والله أعلم.
548(4/284)
سورة العاديات
مختلف فيها وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْعَـادِيَـاتِ ضَبْحًا } [العاديات : 1] أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عدون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حكاه فقال : أح أح.
وانتصاب { ضَبْحًا } على يضبحن ضبحاً { فَالمُورِيَـاتِ } تورى نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها { قَدْحًا } قادحات صاكات بحوافرها الحجارة ، والقدح : الصك ، والإيراء : إخراج النار ، تقول : قدح فأورى وقدح فأصلد.
وانتصب { قَدْحًا } بمانتصب به { ضَبْحًا } { فَالْمُغِيرَاتِ } تغير على العدو { صُبْحًا } في وقت الصبح { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا } [العاديات : 4] فهيجن بذلك الوقت غباراً { فَوَسَطْنَ بِهِ } [العاديات : 5] بذلك الوقت { جَمْعًا } من جموع الأعداء ووسطه بمعنى توسطه.
وقيل : الضمير لمكان الغارة أو للعدو الذي دل عليه.
{ وَالْعَـادِيَـاتِ } وعطف { فَأَثَرْنَ } على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه لأن المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.
وجواب القسم { إِنَّ الانسَـانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } [العاديات : 6] لكفور أي إنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران { وَإِنَّهُ } وإن الإنسان { عَلَى ذَالِكَ } [النساء : 133] على كنوده { لَشَهِيدٌ } يشهد على نفسه ، أو وإن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات : 8] وإنه
549
لأجل حب المال لبخيل ممسك ، أو إنه لحب المال لقوي وهو لحب عبادة الله ضعيف { أَفَلا يَعْلَمُ } [العاديات : 9] الإنسان { إِذَا بُعْثِرَ } [العاديات : 9] بعث { مَا فِى الْقُبُورِ } [العاديات : 9] من الموتى و " ما " بمعنى " من " { وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ } [العاديات : 10] ميز ما فيها من الخير والشر { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ لَّخَبِيرُ } [العاديات : 11] لعالم فيجازيهم على أعمالهم من الخير والشر ، وخص { يَوْمَـاـاِذٍ } بالذكر وهو عالم بهم في جميع الأزمان لأن الجزاء يقع يومئذ والله أعلم.
550
سورة القارعة
مكية وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْقَارِعَةُ } مبتدأ { مَا } مبتدأ ثانٍ { الْقَارِعَةُ } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول ، وكان حقه ما هي وإنما كرر تفخيماً لشأنها { وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْقَارِعَةُ } [القارعة : 3] أي أيّ شيء أعلمك ما هي ومن أين علمت ذلك؟ { يَوْمَ } نصب بمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم { يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } [القارعة : 4] شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما يتطاير الفراش إلى النار ، وسمي فراشاً لتفرشه وانتشاره { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } [القارعة : 5] وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوناً لأنها ألوان { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } [فاطر : 27](فاطر : 72) وبالمنفوش منه لتفرق أجزائها { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [القارعة : 6] باتباعهم الحق وهي جمع موزون
551
وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله ، أو جمع ميزان وثقلها رجحانها { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة : 21] ذات رضا أو مرضية { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [القارعة : 8] باتباعهم الباطل { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [القارعة : 9] فمسكنه ومأواه النار.
وقيل : للمأوى أمٌّ على التشبيه لأن الأم مأوى الولد ومفزعه { وَمَآ أَدْرَاـاكَ } الضمير يعود إلى { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } [القارعة : 9] والهاء للسكت ثم فسرها فقال { نَارٌ حَامِيَةُ } [القارعة : 11] بلغت النهاية في الحرارة والله أعلم.
552(4/285)
سورة التكاثر
مكية وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلْهَـاـاكُمُ التَّكَاثُرُ } [التكاثر : 1] شغلكم التباري في الكثرة والتباهي بها في الأموال والأولاد عن طاعة الله { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } [التكاثر : 2] حتى أدرككم الموت على تلك الحال ، أو حتى زرتم المقابر وعددتم من في المقابر من موتاكم { كَلا } ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر : 3] عند النزع سوء عاقبة ما كنتم عليه { ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر : 4] في القبور { كَلا } تكرير الردع للإنذار والتخويف { لَوْ تَعْلَمُونَ } [الواقعة : 76] جواب " لو " محذوف أي لو تعلمون ما بين أيديكم { عِلْمَ الْيَقِينِ } [التكاثر : 5] علم الأمر يقين أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر ، أو لفعلتم ما لا يوصف ولكنكم ضلال جهلة { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } [التكاثر : 6] هو جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد { لَتَرَوُنَّ } ، بضم التاء : شامي وعلي { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا } [التكاثر : 7] كرره معطوف بـ " ثم " تغليظاً في التهديد وزيادة في
553
التهويل ، أو الأول بالقلب والثاني بالعين { عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر : 7] أي الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته { ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر : 8] عن الأمن والصحة فيم أفنيتموهما؟ عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وقيل : عن التنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه.
وعن الحسن ما سوى كنّ يؤويه وثوب يواريه وكسرة تقويه وقد روي مرفوعاً والله أعلم.
554
سورة والعصر
مختلف فيها وهي ثلاث آثات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْعَصْرِ } أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله تعالى : { حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } في مصحف حفصة ، ولأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ، أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيها من دلائل القدرة ، أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب ، وجواب القسم { إِنَّ الانسَـانَ لَفِى خُسْرٍ } أي جنس الإنسان لفي خسران من تجاراتهم { إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [ص : 24] فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا { وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ } [العصر : 3] بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره وهو الخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله { وَتَوَاصَوْا } عن المعاصي وعلى الطاعات وعلى ما يبلو به الله عباده ، { الصَّـالِحَـاتِ وَتَوَاصَوْا } [العصر : 3] في الموضعين فعل ماضٍ معطوف على ماض قبله والله أعلم.
555
سورة الهمزة
مكية وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ } مبتدأ خبره { لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [الهمزة : 1] أي الذي يعيب الناس من خلفهم { لُّمَزَةٍ } أي من يعيبهم مواجهة.
وبناء " فعلة " يدل على أن ذلك عادة منه.
قيل : نزلت في الأخنس بن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة.
وقيل : في أمية بن خلف.
وقيل : في الوليد.
ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً ليتناول كل من باشر ذلك القبيح { الَّذِى } بدل من كل أو نصب على الذم { جَمَعَ مَالا } [الهمزة : 2] { جَمَعَ } شامي وحمزة وعلي مبالغة جمع وهو مطابق لقوله { وَعَدَّدَهُ } أي جعله عدة لحوادث الدهر { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُا أَخْلَدَهُ } [الهمزة : 3] أي تركه خالداً في الدنيا لا يموت أو هو تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ، فأما المال فما أخلد أحداً فيه { كَلا } ردع له عن حسبانه { لَيُنابَذَنَّ } أي الذي جمع { فِى الْحُطَمَةِ } [الهمزة : 4] في النار التي شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها { وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْحُطَمَةُ } [الهمزة : 5] تعجيب وتعظيم { نَارُ اللَّهِ } [الهمزة : 6] خبر مبتدأ محذوف أي هي نار الله { الْمُوقَدَةُ }
556(4/286)
نعتها { الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الافْـاِدَةِ } [الهمزة : 7] يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألماً منه بأدنى أذى يمسه ، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه؟ وقيل : خص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة ، ومعنى اطلاع النار عليها أنها تشتمل عليها { إِنَّهَا عَلَيْهِم } [الهمزة : 8] أي النار أو الحطمة { مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة { فِى عَمَدٍ } [الهمزة : 9] كوفي حفص ، الباقون { مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ } [الهمزة : 9] وهما لغتان في جمع عماد كإهاب وأهب وحمار وحمر { مُّمَدَّدَة } أي تؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقاً في استيثاق.
في الحديث : " المؤمن كيس فطن وقاف متثبت لا يعجل عالم ورع ، والمنافق همزة لمزة حطمة كحاطب الليل لا يبالي من أين اكتسب وفيم أنفق " والله أعلم.
557
سورة الفيل
مكية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } [الفجر : 6] { كَيْفَ } في موضع نصب بـ { فَعَلَ } لا بـ { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] لما في { كَيْفَ } من معنى الاستفهام ، والجملة سدت مسد مفعولي { تَرَ } وفي { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] تعجيب أي عجّب الله نبيه من كفر العرب وقد شاهدت هذه العظمة من آيات الله ، والمعنى إنك رأيت آثار صنع الله بالحبشة وسمعت الأخبار به متواتراً فقامت لك مقام المشاهدة { بِأَصْحَـابِ الْفِيلِ } [الفيل : 1] روي أن أبرهة ابن الصباح ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي ، بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً فأغضبه ذلك.
وقيل : أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبه ، فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً واثنا عشر فيلاً غيره ، فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى ، وعبى جيشه وقدم الفيل ، وكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن هرول ، وأرسل الله طيراً مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه
557
ففروا وهلكوا ، وما مات أبرهة حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه.
وروي أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه فيها فعظم في عينه وكان رجلاً جسيماً وسيماً.
وقيل : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وشرفكم في قديم الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذلك فقال : أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعه { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ } [الفيل : 2] في تضييع وإبطال.
يقال : ضلل كيده إذا جعله ضالاً ضائعاً.
وقيل لامرىء القيس : الملك الضليل لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه يعني أنهم كادوا البيت أوّلاً ببناء القليس ليصرفوا وجوه الحاج إليه فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه ، وكادوه ثانياً بإرادة هدمه فضلل كيدهم بإرسال الطير عليهم { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } [الفيل : 3] حزائق الواحدة إبالة.
قال الزجاج : جماعات من ههنا وجماعات من ههنا { تَرْمِيهِم } وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر وإنما يؤنث على المعنى { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } [الفيل : 4] هو معرب من سنككل وعليه الجمهور أي الآجر { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول } [الفيل : 5] زرع أكله الدود.
559(4/287)
سورة قريش
مكية وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لايلَـافِ قُرَيْشٍ } [قريش : 1] متعلق بقوله { فَلْيَعْبُدُوا } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين.
ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط أي إن نعم الله عليهم لا تحصى ، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ، أو بما قبله أي { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُول } يعني أن ذلك الإتلاف لهذا الإيلاف وهذا كالتضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقاً لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل.
ويروى عن الكسائي ترك التسمية بينهما ، والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك فيحترموهم فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم فلا يجترىء أحد عليهم.
وقيل : المعنى اعجبوا لإيلاف قريش { لايلَـافِ قُرَيْشٍ } شامي أي لمؤالفة قريش.
وقيل : يقال ألفته ألفاً وإلافاً.
وقريش ولد النضر بن كنانة سموه بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار ، والتصغير للتعظيم فسموه بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها.
وقيل : من القرش وهو الجمع والكسب لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد { إِالَـافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ } [قريش : 2] أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف وتذكيراً لعظيم النعمة فيه.
ونصب الرحلة بـ { إِالَـافِهِمْ } مفعولاً به وأراد رحلتي الشتاء والصيف فأفرد لأمن الإلباس.
وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى
560
الشام ، فيمتارون ويتجرون ، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله فلا يتعرض لهم وغيرهم يغار عليهم { خوْف } والتنكير في { جُوعٍ } و { خوْف } لشدتهما يعني أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما ، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل ، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم.
وقيل : كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ، وآمنهم من خوف الجذام لا يصيبهم ببلدهم.
وقيل : ذلك كله بدعاء إبراهيم عليه السلام.
561
سورة الماعون
مختلف فيها وهي سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } أي هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو إن لم تعرفه { فَذَالِكَ الَّذِى } [الماعون : 2] يكذب بالجزاء هو الذي { يَدُعُّ الْيَتِيمَ } [الماعون : 2] أي يدفعه دفعاً عنيفاً بجفوة وأذى ويرده رداً قبيحاً بزجر وخشونة { وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } [الحاقة : 34] ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين ، جعل علم التكذيب الجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف أي لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لخشي الله وعقابه ولم يقدم على ذلك ، فحين أقدم عليه دل أنه مكذب بالجزاء.
ثم وصل به قوله { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } يعني بهذا المنافقين لا يصلونها سراً لأنهم لا يعتقدون وجوبها ويصلونها علانية رياء.
وقيل : فويل للمنافقين الذين يدخلون أنفسهم في جملة المصلين صورة وهم غافلون عن صلاتهم ، وأنهم لا يريدون بها قربة إلى ربهم ولا تأدية للفرض فهم ينخفضون ويرتفعون ولا يدرون ماذا يفعلون ، ويظهرون للناس أنهم يؤدون الفرائض ويمنعون الزكاة وما فيه منفعة.
وعن أنس والحسن قالا : الحمد لله الذي قال { عَن صَلاتِهِمْ } [الماعون : 5] ولم يقل " في صلاتهم " لأن معنى " عن " أنهم ساهون عنها سهو
562
ترك لها وقلة التفات إليها ذلك فعل المنافقين ، ومعنى " في " أن السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس وذلك لا يخلو عنه مسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقع له السهو في صلاته فضلاً عن غيره.
والمراءاة مفاعلة من الإراءة لأن المرائي يرائي الناس عمله وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به ، ولا يكون الرجل مرائياً بإظهار الفرائض فمن حقها الإعلان بها لقوله صلى الله عليه وسلّم : " ولا غمة في فراض الله " والإخفاء في التطوع أولى فإن أظهره قاصداً للاقتداء به كان جميلاً ، والماعون : الزكاة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما يتعاور في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها ، وعن عائشة رضي الله عنها : الماء والنار والملح والله أعلم.
563(4/288)
سورة الكوثر
مكية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 4 رقم الصفحة : 563
{ إِنَّآ أَعْطَيْنَـاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر : 1] هو فوعل من الكثرة وهو المفرط الكثرة ، وقيل : هو نهر في الجنة أحلى من العسل ، وأشد بياضاً من اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الخير الكثير فقيل له : إن ناساً يقولون هو نهر في الجنة فقال : هو من الخير الكثير { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } [الكوثر : 2] فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغماً لقومك الذين يعبدون غير الله { وَانْحَرْ } لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفاً لعبدة الأوثان في النحر لها { إِنَّ شَانِئَكَ } [الكوثر : 3] أي من أبغضك من قومك بمخالفتك لهم { هُوَ الابْتَرُ } [الكوثر : 3] المنقطع عن كل خير لا أنت ، لأن كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذكرك مرفوع على المنابر وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف ، فمثلك لا يقال له أبتر إنما الأبتر هو شانئك المنسي في الدنيا والآخرة.
قيل : نزلت في العاص بن وائل سماه الأبتر ، والأبتر الذي لا عقب له وهو خبر " إن " و " هو " فصل.
564
سورة الكافرون
ست آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ } [الكافرون : 1] المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله أنهم لا يؤمنون.
روي أن رهطاً من قريش قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فقال : معاذ الله أن أشرك بالله غيره ، قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت ، فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فآيسوا { لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [الكافرون : 2] أي لست في حالي هذه عابداً ما تعبدون { وَلا أَنتُمْ عَـابِدُونَ } [الكافرون : 3] الساعة { مَآ أَعْبُدُ } [الكافرون : 3] يعني الله { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } [الكافرون : 4] ولا أعبد فيما أستقبل من الزمان ما عبدتم { وَلا أَنتُمْ } [الأعراف : 49] فيما تستقبلون { عَـابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [الكافرون : 3] وذكر بلفظ ما لأن المراد به الصفة أي لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق ، أو ذكر بلفظ " ما " ليتقابل اللفظان ولم يصح في الأول " من " وصح في الثاني " ما " بمعنى " الذي " { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [الكافرون : 6] لكم شرككم ولي توحيدي ، وبفتح الياء : نافع وحفص ، وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلّم جالس فقال له : نابذ يا ابن مسعود فقرأ { قُلْ يَـا أَيُّهَا الْكَـافِرُونَ } ثم قال له في الركعة الثانية : أخلص.
فقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] فلما سلم ، قال يا ابن مسعود سل تجب والله أعلم.
565(4/289)
سورة النصر
مدنية وهي ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا} منصوب بـ {سَبِّحِ} وهو لما يستقبل، والإعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوة. وروي أنها نزلت في أيام التشريق بمنىٍ في حجة الوداع {جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] النصر الإغاثة والإظهار على العدو، والفتح فتح البلاد، والمعنى نصر الله صلى الله عليه وسلّم على العرب أو على قريش وفتح مكة، أو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ} [النصر:2] هو حال من {النَّاسَ} على أن {رَأَيْتُ} بمعنى أبصرت أو عرفت، أو مفعول ثانٍ على أنه بمعنى علمت {فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:2] هو حال من فاعل يدخلون، وجواب «إذا» {فَسَبِّحْ} أي إذا جاء نصر الله إياك على من ناواك وفتح البلاد، ورأيت أهل اليمن يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيرة بعدما كانوا يدخلون فيه واحداً واحداً واثنين اثنين {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] فقل: سبحان الله حامداً له أو فصل له {وَاسْتَغْفِرْهُا} تواضعاً وهضماً للنفس أو دم على الاستغفار {إِنَّهُ كَانَ} [الإسراء:30] ولم يزل {تَوَّابَا} التواب الكثير القبول للتوبة وفي صفة العباد الكثير الفعل للتوبة. ويروى أن عمر رضي الله عنه لما سمعها بكى وقال: الكمال دليل الزوال، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها سنتين. والله أعلم.
566(/)
سورة المسد
مكية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ} [المسد:1] التباب: الهلاك ومنه قولهم أشابّة أم تابّة أي هالكة من الهرم؟ والمعنى هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجراً ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلّم {وَتَبَّ} وهلك كله أو جعلت يداه هالكتين والمراد هلاك جملته كقوله {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] (الحج: 01) ومعنى {وَتَبَّ} وكان ذلك وحصل، كقوله:
جزاني جزاه الله شر جزائه
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وقد دلت عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {وَقَد تَّبَيَّنَ} [العنكبوت:38]، روي أنه لما نزل وأنذر عشيرتك الأقربين رقى الصفا وقال: يا صباحاه فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال عليه الصلاة والسلام: يا بني عبد المطلب يا بني فهر إن أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. قال. فإني نذير لكم بين يدي الساعة. فقال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا فنزلت. وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بهادون الاسم، أو لكراهة اسمه فاسمه عبد العزى، أو لأن مآله إلى
567
نار ذات لهب فوافقت حاله كنيته، {أَبِى لَهَبٍ} [المسد:1] مكي {مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُا} [المسد:2] «ما» للنفي {وَمَا كَسَبَ} [المسد:2] مرفوع و«ما» موصولة أو مصدرية أي ومكسوبه أو وكسبه أي لم ينفعه ماله الذي ورثه من أبيه، أو الذي كسبه بنفسه، أو ماله التالد والطارف، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما كسب ولده. وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي {سَيَصْلَى نَارًا} [المسد:3] سيدخل {سَيَصْلَىا} البرجمي عن أبي بكر، والسين للوعيد أي هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته {ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] توقد {وَامْرَأَتُهُا} هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4]
كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : كانت تمشي بالنميمة فتشعل نار العداوة بين الناس.
ونصب عاصم { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [المسد : 4] على الشتم وأنا أحب هذه القراءة ، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجميل من أحب شتم أم جميل.
وعلى هذا يسوغ الوقف على { امْرَأَتُهُ } لأنها عطفت على الضمير في { سَيَصْلَى } أي سيصلى هو وامرأته والتقدير : أعني حمالة الحطب ، وغيره رفع { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [المسد : 4] على أنها خبر وامرأته أو هي حمالة { فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَد } [المسد : 5] حال أو خبر آخر.
والمسد الذي فتل من الحبال فتلاً شديداً من ليف كان أو جلد أو غيرهما ، والمعنى في جيدها حبل مما مسد من الحبال وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون تحقيراً لها وتصويراً لها بصورة بعض الحطابات لتجزع من ذلك ويجزع بعلها ، وهما في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة والله أعلم.
568(/)
سورة الإخلاص
أربع آيات مكية عند الجمهور وقيل : مدنية عند أهل البصرة
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] هو ضمير الشأن و { اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] هو الشأن كقولك : هو زيد منطلق كأنه قيل : الشأن هذا وهو أن الله واحد لا ثاني له ، ومحل { هُوَ } الرفع على الابتداء والخبر هو الجملة ، ولا يحتاج إلى الراجح لأنه في حكم المفرد في قولك : زيد غلامك في أنه هو المبتدأ في المعنى ، وذلك أن قوله { اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] هو الشأن الذي عبارة عنه وليس : كذلك زيد أبوه منطلق ، فإن زيداً أو الجملة يدلان على معنيين مختلفين فلا بد مما يصل بينهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قالت قريش : يا محمد صف لنا ربك الذي تدعونا إليه فنزلت.
يعني الذي سألتموني وصفه هو الله تعالى.
وعلى هذا { أَحَدٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد وهو بمعنى واحد ، وأصله وحد فقلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً.
والدليل على أنه واحد من جهة العقل أن الواحد إما أن يكون في تدبير العالم
569(4/291)
وتخليقه كافياً أولاً ، فإن كان كافياً كان الآخر ضائعاً غير محتاج إليه وذلك نقص والناقص لا يكون إلهاً ، وإن لم يكن كافياً فهو ناقص.
ولأن العقل يقتضي احتياج المفعول إلى فاعل والفاعل الواحد كافٍ وما وراء الواحد فليس عدد أولى من عدد فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها وذا محال.
فالقول بوجود إلهين محال ، ولأن أحدهما إما أن يقدر على أن يستر شيئاً من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر لزم كون المستور عنه جاهلاً ، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزاً.
ولأنا لو فرضنا معدوماً ممكن الوجود فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً ، وإن قدر أحدهما دون الآخر فالآخر لا يكون إلهاً ، وإن قدراً جميعاً فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجاً إلى إعانة الآخر فيكون كل واحد منهما عاجزاً ، وإن قدر كل واحد منهما على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادراً عليه وهو محال ، لأن إيجاد الموجود محال ، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول مزيلاً قدرة الثاني فيكون عاجزاً ومقهوراً تحت تصرفه فلا يكون إلهاً.
فإن قلت : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد زالت قدرته فيلزمكم أن يكون هذا الواحد قد جعل نفسه عاجزاً.
قلنا : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد نفذت قدرته ، ومن نفذت قدرته لا يكون عاجزاً ، وأما الشريك فما نفذت قدرته بل زالت قدرته بسبب قدرة الآخر فكان ذلك تعجيزاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 569
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } [الإخلاص : 2] هو فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج.
والمعنى هو الله الذي تعرفونه وتقرون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم ، وهو واحد لا شريك له ، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه وهو الغني عنهم { لَمْ يَلِدْ } [الإخلاص : 3] لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا ، وقد دل على هذا المعنى بقوله : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَـاحِبَةٌ } [الأنعام : 101] (الأنعام : 101) { وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص : 3] لأن كل مولود محدث وجسم وهو قديم لا أول لوجوده إذ لو لم يكن
570
قديماً لكان حادثاً لعدم الواسطة بينهما ، ولو كان حادثاً لافتقر إلى محدث ، وكذا الثاني والثالث فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل.
وليس بجسم لأنه اسم للمتركب ولا يخلو حينئذ من أن يتصف كل جزء منه بصفات الكمال فيكون كل جزء إلهاً فيفسد القول به كما فسد بإلهين ، أو غير متصف بها بل بأضدادها من سمات الحدوث وهو محال { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ } [الإخلاص : 4] ولم يكافئه أحد أي لم يماثله.
سألوه أن يصفه لهم فأوحى إليه ما يحتوي على صفاته تعالى ، فقوله : { هُوَ اللَّهُ } [الإخلاص : 1] إشارة إلى أنه خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طي ذلك وصفه بأنه قادر عالم لأن الخلق يستدعي القدرة والعلم لكونه واقعاً على غاية إحكام واتساق وانتظام ، وفي ذلك وصفه بأنه حي لأن المتصف بالقدرة والعلم لا بد وأن يكون حياً ، وفي ذلك وصفه بأنه سميع بصير مريد متكلم إلى غير ذلك من صفات الكمال ، إذ لو لم يكن موصوفاً بها لكان موصوفاً بأضدادها وهي نقائص وذا من أمارات الحدوث فيستحيل اتصاف القديم بها ، وقوله : { أَحَدٌ } وصف بالوحدانية ونفي الشريك ، وبأنه المتفرد بإيجاد المعدومات والمتوحد بعلم الخفيات ، وقوله : { الصَّمَدُ } وصف بأنه ليس إلا محتاجاً إليه وإذا لم يكن إلا محتاجاً إليه فهو غني لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد ، وقوله { لَمْ يَلِدْ } [الإخلاص : 3] نفي للشبه والمجانسة ، وقوله { وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص : 3] نفي للحدوث ووصف بالقدم والأولية.
جزء : 4 رقم الصفحة : 569
(4/292)
وقوله { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدُ } [الإخلاص : 4] نفى أن يماثله شيء.
ومن زعم أن نفي الكفء وهو المثل في الماضي لا يدل على نفيه للحال والكفار يدعونه في الحال فقد تاه في غيه ، لأنه إذا لم يكن فيما مضى لم يكن في الحال ضرورة إذ الحادث لا يكون كفؤاً للقديم ، وحاصل كلام الكفرة يئول إلى الإشراك والتشبيه والتعطيل ، والسورة تدفع الكل كما قررنا ، واستحسن سيبويه تقديم الظرف إذا كان مستقراً أي خبراً لأنه لما كان محتاجاً إليه قدم ليعلم من أول الأمر أنه خبر لا فضلة ، وتأخيره إذا كان لغواً أي فضلة لأن
571
التأخير مستحق للفضلات.
وإنما قدم في الكلام الأفصح لأن الكلام سيق لنفي المكافأة عن ذات الباريء سبحانه ، وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان الأهم تقديمه.
وكان أبو عمرو يستحب الوقف على { أَحَدٌ } ولا يستحب الوصل ، قال عبد الوارث : على هذا أدركنا القراء ، وإذا وصل نوّن وكسر أو حذف التنوين كقراءة { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] (التوبة : 03) ، بسكون الفاء والهمزة : حمزة وخلف.
{ لَّهُ كُفُوًا } [الإخلاص : 4] مثقلة غير مهموزة : حفص.
الباقون مثقلة مهموزة.
وفي الحديث : " من قرأ سورة الإخلاص فقد قرأ ثلث القرآن " لأن القرآن يشتمل على توحيد الله وذكر صفاته وعلى الأوامر والنواهي وعلى القصص والمواعظ ، وهذه السورة قد تجردت للتوحيد والصفات فقد تضمنت ثلث القرآن ، وفيه دليل شرف علم التوحيد وكيف لا يكون كذلك والعلم يشرف بشرف الملعوم ويتضع بضعته ، ومعلوم هذا العلم هو الله وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك ، الراجين لثوابك ، الخائفين من عقابك ، المكرمين بلقائك ، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلاً يقرأ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] فقال : وجبت.
فقيل : يا رسول الله ما وجبت؟ قال : وجبت له الجنة.
572
سورة الفلق
مختلفة فيها وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } [الفلق : 1] أي الصبح أو الخلق أو هو واد في جهنم أوجبٌّ فيها { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } [الفلق : 2] أي النار أو الشيطان.
و " ما " موصولة والعائد محذوف ، أو مصدرية ويكون الخلق بمعنى المخلوق.
وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه { مِن شَرِّ } [الفلق : 2] بالتنوين و " ما " على هذا مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الجر بدل من { شَرِّ } أي شر خلقه أي من خلق شر ، أو زائدة { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } [الفلق : 3] الغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه ، ووقوبه دخول ظلامه في كل شيء ، وعن عائشة رضي الله عنها : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيدي فأشار إلى القمر فقال : تعوذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب ، ووقوبه دخوله في الكسوف واسوداده { وَمِن شَرِّ النَّفَّـاثَـاتِ فِى الْعُقَدِ } [الفلق : 4] النفاثات : النساء أو النفوس أو
573
الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط وينفثن عليها ويرقين ، والنفث : النفخ مع ريق وهو دليل على بطلان قول المعتزلة في إنكار تحقق السحر وظهور أثره { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } [الفلق : 5] أي إذا ظهر حسده وعمل بمقتضاه لأنه إذا لم يظهر فلا ضرر يعود منه على من حسده بل هو الضار لنفسه لاغتمامه بسرور غيره ، وهو الأسف على الخير عند الغير.
والاستعاذة من شر هذه الأشياء بعد الاستعاذة من شر ما خلق إشعار بأن شر هؤلاء أشد ، وختم بالحسد ليعلم أنه شرها وهو أول ذنب عصي الله به في السماء من إبليس ، وفي الأرض من قابيل.
وإنما عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه ، لأن كل نفاثة شريرة فلذا عرفت { النَّفَّـاثَـاتِ } ونكر { غَاسِقٍ } لأن كل غاسق لا يكون فيه الشر إنما يكون في بعض دون بعض ، وكذلك كل حاسد لا يضر ، ورب حسد يكون محموداً كالحسد في الخيرات والله أعلم.
574
سورة الناس
مختلف فيها وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم(4/293)
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } [الناس : 1] أي مربيهم ومصلحهم { مَلِكِ النَّاسِ } [الناس : 2] مالكهم ومدبر أمورهم { إِلَـاهِ النَّاسِ } [الناس : 3] معبودهم.
ولم يكتف بإظهار المضاف إليه مرة واحدة لأن قوله : { مَلِكِ النَّاسِ * إِلَـاهِ النَّاسِ } عطف بيان لـ { بِرَبِّ النَّاسِ } لأنه يقال لغيره رب الناس وملك الناس ، وأما إله الناس فخاص لا شركة فيه.
وعطف البيان للبيان فكأنه مظنة للإظهار دون الإضمار.
وإنما أضيف الرب إلى الناس خاصة وإن كان رب كل مخلوق تشريفاً لهم ، ولأن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم.
وقيل : أراد بالأول الأطفال.
ومعنى الربوبية يدل عليه ، وبالثاني الشبان ولفظ الملك المنبىء عن السياسة يدل عليه ، وبالثالث الشيوخ ولفظ الإله المنبىء عن العبادة يدل عليه ، وبالرابع الصالحين إذ الشيطان مولع بإغوائهم ، وبالخامس المفسدين لعطفه على المعوذ منه { مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ } [الناس : 4] هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة ،
575
وأما المصدر فوسواس بالكسر كالزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه لأنها شغله الذي هو عاكف عليه ، أو أريد ذو الوسواس والوسوسة الصوت الخفي { الْخَنَّاسِ } الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات لما روي عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى ، وإذا غفل رجع ووسوس إليه { الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ } في محل الجر على الصفة ، أو الرفع ، أو النصب على الشتم ، وعلى هذين الوجهين يحسن الوقف على الخناس { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } [الناس : 6] بيان للذي يوسوس على أن الشيطان ضربان : جني وإنسي كما قال { شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام : 112] (الأنعام : 211) وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال لرجل : هل تعوذت بالله من شيطان الإنس؟ روي أنه عليه السلام سحر فمرض فجاءه ملكان وهو نائم فقال أحدهما لصاحبه : ما باله.
فقال : طبّ.
قال : ومن طبه؟ قال : لبيد بن أعصم اليهودي.
قال : وبم طبه؟ قال : بمشط ومشاطة في جف طلعة تحت راعوفة في بئر ذي أروان.
فانتبه صلى الله عليه وسلّم فبعث زبيراً وعلياً وعماراً رضي الله عنهم فنزحوا ماء البئر وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر ، فنزلت هاتان السورتان ، فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة حتى قام صلى الله عليه وسلّم عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال وجعل جبريل يقول : باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك.
ولهذا جوز الاسترقاء بما كان من كتاب الله وكلام رسوله عليه السلام لا بما كان بالسريانية والعبرانية والهندية ، فإنه لا يحل اعتقاده والاعتماد عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأقوالنا ومن شر ماعملنا وما لم نعمل ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ونبيه
576
وصفيه ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الأنام وأصحابه مفاتيح دار السلام صلاة دائمة ما دامت الليالي والأيام.
577
جزء : 4 رقم الصفحة : 575(4/294)