{ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا } [الفرقان : 42] " أن " مخففة من الثقيلة واللام فارقة وهو دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في دعوتهم وعرض المعجزات عليهم حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } [الفرقان : 42] هو وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال { مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [الفرقان : 42] هو كالجواب عن قولهم إن كاد ليضلنا لأنه نسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الضلال إذ لا يضل غيره إلا من هو ضال في نفسه.
{ أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاـاهُ } [الفرقان : 43] أي من أطاع هواه فيما يأتي ويذر فهو عابد هواه وجاعله إلهه فيقول الله تعالى لرسوله : هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى.
يروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر فإذا مر بحجر أحسن منه ترك الأوّل وعبد الثاني.
وعن الحسن : هو في كل متبعٍ هواه { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } [الفرقان : 43] أي حفيظاً تحفظه من متابعة هواه وعبادة ما يهواه ، أفأنت تكون عليه موكلاً فتصرفه عن الهوى إلى الهدى ، عرفه أن إليه التبليغ فقط
246
جزء : 3 رقم الصفحة : 246
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا } [الفرقان : 44] " أم " منقطعة معناه بل أتحسب كأن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونها مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً ولا إلى تدبره عقلاً ، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة فقد ركبهم الشيطان بالاستذلال لتركهم الاستدلال ، ثم هم أرجح ضلالة منها لأن الأنعام تسبح ربها وتسجد له وتطيع من يعلفها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي ، وقالوا : للملائكة.
روح وعقل ، وللبهائم نفس وهوى ، والآدمي مجمع الكل ابتلاء.
فإن غلبته النفس والهوى فضلته الأنعام ، وإن غلبته الروح والعقل فضل الملائكة الكرام.
وإنما ذكر الأكثر لأن فيهم من لم يصده عن الإسلام إلا حب الرياسة وكفى به داء عضالاً ولأن فيهم من آمن.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ } [الفرقان : 45] ألم تنظر إلى صنع ربك وقدرته { كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } [الفرقان : 45] أي بسطه فعم الأرض وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس في قول الجمهور لأنه ظل ممدود لا شمس معه ولا ظلمة ، وهو كما قال في ظل الجنة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة : 30] (الواقعة : 03) إذ لا شمس معه ولا ظلمة { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا } [الفرقان : 45] أي دائماً لا يزول ولا تذهبه الشمس { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ } [الفرقان : 45] على الظل { دَلِيلا } لأنه بالشمس يعرف الظل ولولا الشمس لما عرف الظل فالأشياء تعرف بأضدادها { ثُمَّ قَبَضْنَـاهُ } [الفرقان : 46] أي أخذنا ذلك الظل الممدود { إِلَيْنَا } إلى حيث أردنا { قَبْضًا يَسِيرًا } [الفرقان : 46] سهلاً غير عسير أو قليلاً قليلاً أي جزءًا فجزءا بالشمس التي تأتي عليه.
وجاء بـ " ثم " لتفاضل ما بين الأمور فكأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم
247
من الثاني ، شبه تباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت
جزء : 3 رقم الصفحة : 247
(3/139)
{ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاسًا } [الفرقان : 47] جعل الظلام الساتر كاللباس { وَالنَّوْمَ سُبَاتًا } [الفرقان : 47] راحة لأبدانكم وقطعاً لأعمالكم ، والسبت القطع والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته.
وقيل : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة وهو كقوله تعالى { وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ } [الأنعام : 60] (الأنعام : 06) ويعضده ذكر النشور في مقابلته { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } [الفرقان : 47] إذ النشور انبعاث من النوم كنشور الميت أن ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي النوم واليقظة المشبهين بالموت والحياة عبرة لمن اعتبر.
وقال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنتشر.
{ وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ } [الفرقان : 48] الريح مكي والمراد به الجنس { بَشَرًا } تخفيف بشر جمع بشور { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } [النمل : 63] أي قدام المطر لأنه ريح ثم سحاب ثم مطر وهذه استعارة مليحة { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [المؤمنون : 18] مطراً { طَهُورًا } بليغاً في طهارته.
والطهور صفة كقولك " ماء طهور " أي طاهر ، واسم كقولك لما يتطهر به طهور كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار ، ومصدر بمعنى التطهر كقولك تطهرت طهوراً حسناً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " لا صلاة إلا بطهور " أي بطهارة.
وما حكي عن ثعلب هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى إن كان هذا بيان زيادة الطهارة فحسن ويعضده قوله تعالى { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } [الانفال : 11] وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء ، وقياسه على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير سديد
248
لأن بناء الفعول للمبالغة ، فإن كان الفعل متعدياً فالفعول متعد وإن كان لازماً فلازم
جزء : 3 رقم الصفحة : 248
{ لِّنُحْـاِىَ بِهِ } [الفرقان : 49] بالمطر { بَلْدَةً مَّيْتًا } [ق : 11] ذكّر ميتاً على إرادة البلد أو المكان { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَـامًا وَأَنَاسِىَّ كَثِيرًا } [الفرقان : 49] أي ونسقي الماء البهائم والناس.
ومما خلقنا حال من أنعاماً وأناسي أي أنعاماً وأناسي.
مما خلقنا.
وسقى أو أسقى لغتان.
وقرأ المفضل والبرجمي ونسقيه والأناسي جمع إنسي على القياس ككرسي وكراسي ، أو إنسان وأصله أناسين كسرحان وسراحين فأبدلت النون ياء وأدغمت.
وقدم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما ، وتخصيص الأنعام من الحيوان الشارب لأن عامة منافع الأناسي متعلقة بها فكأن الإنعام عليها بسقي الإنعام كالأنعام بسقيهم ، وتنكير الأنعام والأناسي ووصفها بالكثرة لأن أكثر الناس منيخون بالقرب من الأودية والأنهار فيهم غنية عن سقي السماء وأعقابهم وبقاياهم كثير يعيشون بما ينزل الله من رحمته ، وتنكير البلدة لأنه يريد بعض بلاد هؤلاء المتبعدين عن مظان الماء.
ولما سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراماً لهم ، وبيان أن من حقهم أن يؤثروا الطهارة في بواطنهم وظواهرهم لأن الطهورية شرط الإحياء.
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَـاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا } [الفرقان : 50] ليذكروا حمزة وعلي يريد ولقد صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب المنزلة على الرسل ، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه فيشكروا { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } [الإسراء : 89] فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الاكتراث لها.
أو صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ، فأبوا إلا الكفور وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا صنع الله تعالى ورحمته.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما من عام أقل مطراً من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء وقرأ الآية.
وروي أن الملائكة
249
(3/140)
يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف ولكن يختلف فيه البلاد ، وينتزع من هنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي.
ومن نسب الأمطار إلى الأنواء وجحد أن تكون هي والأنواء من خلق الله تعالى كفر ، وإن رأى أن الله تعالى خالقها وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها لم يكفر
جزء : 3 رقم الصفحة : 249
{ الْكَـافِرِينَ } أي لو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ، ولبعثنا في كل قرية نبياً ينذرها ، ولكن شئنا أن تجمع لك فضائل جميع المرسلين بالرسالة إلى كافة العالمين فقصرنا الأمر عليك وعظمناك به فتكون وحدك ككلهم ، ولذا خوطب بالجمع يا أيها الرسل فقابل ذلك بالشكر والصبر والتشدد ، فلا تطع الكافرين فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم ، وكما اثرتك على جميع الأنبياء فاثر رضائي على جميع الأهواء ، وأريد بهذا تهييجه وتهييج المؤمنين وتحريكهم { وَجَـاهِدْهُم بِهِ } [الفرقان : 52] أي بالله يعني بعونه وتوفيقه أو بالقرآن أي جادلهم به وقرعهم بالعجز عنه { جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان : 52] عظيماً موقعه عند الله لما يحتمل فيه من المشاق ، ويجوز أن يرجع الضمير في به إلى ما دل عليه ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً من كونه نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات فكبر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له : وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهاداً كبيراً جامعاً لكل مجاهدة.
{ وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } [الفرقان : 53] خلاّهما متجاورين متلاصقين.
تقول : مرجت الدابة إذا خليتها ترعي ، وسمى الماءين الكثيرين الواسعين بحرين { هَـاذَآ } أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } [فاطر : 12] صفة لـ عذب أي شديد العذوبة حتى يقرب إلى الحلاوة { وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [الفرقان : 53] صفة لـ ملح أي شديد الملوحة { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا } [الفرقان : 53] حائلاً من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج فهما في الظاهر مختلطان وفي الحقيقة منفصلان
250
{ وَحِجْرًا مَّحْجُورًا } [الفرقان : 53] وستراً ممنوعاً عن الأعين كقوله حجاباً مستورا
جزء : 3 رقم الصفحة : 250
{ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ } [الفرقان : 54] أي النطفة { بَشَرًا } إنساناً { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } [الفرقان : 54] أراد تقسيم البشر قسمين : ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر أي إناثاً يصاهر بهن كقوله تعالى { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } [القيامة : 39] { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } [الفرقان : 54] حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين ذكراً وأنثى.
وقيل : فجعله نسباً أي قرابة وصهراً مصاهرة يعني الوصلة بالنكاح من باب الأنساب لأن التواصل يقع بها وبالمصاهرة لأن التوالد يكون بهما { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ } [الفرقان : 55] إن عبدوه { وَلا يَضُرُّهُمْ } [الفرقان : 55] إن تركوه { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ } [الفرقان : 55] على معصية ربه { ظَهِيرًا } معيناً ومظاهراً.
وفعيل بمعنى مفاعل غير عزيز والظهير والمظاهر كالعوين والمعاون والمظاهرة المعاونة ، والمعنى أن الكافر بعبادة الصنم يتابع الشيطان ويعاونه على معصية الرحمن.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا } [الإسراء : 105] للمؤمنين { وَنَذِيرًا } منذراً للكافرين.
(3/141)
{ قُلْ مَآ أَسْـاَلكُمْ عَلَيْهِ } [الفرقان : 57] على التبليغ { مِنْ أَجْرٍ } [الفرقان : 57] جعل { إِلا مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا } [الفرقان : 57] والمراد إلا فعل من شاء واستثناؤه من الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صورة بصورة الثواب كأنه يقول : إن حفظت مالك اعتدّ حفظك بمنزلة الثواب لي ورضائي به كرضا المثاب بالثواب ، ولعمري إنه عليه الصلاة والسلام مع أمته بهذا الصدد.
ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً تقربهم إليه بالإيمان والطاعة أو بالصدقة والنفقة.
وقيل : المراد لكن من شاء أن يتخذ بالإنفاق إلى رضاء ربه سبيلاً فليفعل.
وقيل : تقديره لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا اتخاذ المدعو سبيلاً إلى ربه
251
بطاعته فذلك أجري لأن الله يأجرني عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 251
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ } [الفرقان : 58] اتخذ من لا يموت وكيلاً لا يكلك إلى من يموت ذليلاً يعني ثق به وأسند أمرك إليه في استكفاء شرورهم ولا تتكل على حي يموت.
وقرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق والتوكل الاعتماد عليه في كل أمر { وَسَبِّحْ } من لا يكل إلى غيره من توكل عليه { بِحَمْدِهِ } بتوفيقه الذي يوجب الحمد أو قل سبحان الله وبحمده أو نزهه عن كل العيوب بالثناء عليه { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } [الفرقان : 58] أي كفى الله خبيراً بذنوب عباده يعني أنه خبير بأحوالهم كافً في جزاء أعمالهم { الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الفرقان : 59] أي في مدة مقدار هذه المدة لأنه لم يكن حينئذ ليل ونهار.
روي عن مجاهد : أو لها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـانُ } [الفرقان : 59] أي هو الرحمن فـ الرحمن خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الضمير في استوى أو الذي خلق مبتدأ والرحمن خبره ف { سُـاـاِلَ } بلا همزة مكي وعلي { بِهِ } صلة " سل " كقوله { سَأَلَ سَآ ـاِلُ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج : 1] كما تكون " عن " صلته في قوله تعالى { ثُمَّ لَتُسْـاَلُنَّ يَوْمَـاـاِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر : 8] فسأل به كقولك اهتم به واشتغل به وسأل عنه كقولك بحث عنه وفتش عنه أو صلة { خَبِيرًا } ويكون خبيراً مفعول سل أي فاسأل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته ، أو فاسأل رجلاً خبيراً به وبرحمته ، أو الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل : فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتب حتى تعرف من ينكره ، ومن ثم كانوا يقولون ما نعرف الرحمن إلا
252
الذي باليمامة يعنون مسيلمة وكان يقال له رحمان اليمامة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 252
(3/142)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } [البقرة : 91] أي إذا قال محمد عليه الصلاة والسلام للمشركين { اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـانِ } [الفرقان : 60] صلوا لله واخضعوا له { قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـانُ } [الفرقان : 60] أي لا نعرف الرحمن فنسجد له ، فهذا سؤال عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم والسؤال عن المجهول بـ " ما " أو " عن " معناه لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما استعمل الرحيم والراحم والرحوم { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } [الفرقان : 60] للذي تأمرنا بالسجود له أو لأمرك بالسجود يا محمد من غير علم منا به.
يأمرنا علي وحمزة كأن بعضهم قال لبعض : أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو؟ فقد عاندوا لأن معناه عند أهل اللغة ذو الرحمة التي لا غاية بعدها في الرحمة لأن فعلان من أبنية المبالغة تقول : رجل عطشان إذا كان في نهاية العطش { وَزَادَهُمْ } قوله اسجدوا للرحمن { نُفُورًا } تباعداً عن الإيمان { تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجًا } [الفرقان : 61] هي منازل الكواكب السيارة لكل كوكب بيتان يقوي حاله فيهما.
وللشمس بيت وللقمر بيت.
فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل.
وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيصيب كل واحد منها ثلاثة بروج : فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية.
سميت المنازل بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البروج من التبرج لظهوره.
وقال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج هي النجوم الكبار لظهورها { وَجَعَلَ فِيهَا } [فصلت : 10] في السماء { سِرَاجًا } يعني الشمس لتوقدها.
سرجا حمزة وعلى أي نجوماً { وَقَمَرًا مُّنِيرًا } [الفرقان : 61] مضيئاً بالليل.
{ وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان : 62] فعلة من خلف كالركبة من ركب
253
وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر ، والمعنى جعلهما ذوي خلفة يخلف أحدهما الآخر عند مضيه أو يخلفه في قضاء ما فاته من الورد { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } [الفرقان : 62] يتدبر في تسخيرهما واختلافهما فيعرف مدبرهما.
يذكر حمزة وخلف أي يذكر الله أو المنسي فيقضي { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [الفرقان : 62] أي يشكر نعمة ربه عليه فيهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 253
{ وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ } [الفرقان : 63] مبتدأ خبره { الَّذِينَ يَمْشُونَ } [الفرقان : 63] أو أولئك يجزون و { الَّذِينَ يَمْشُونَ } [الفرقان : 63] وما بعدهما صفة والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتفضيل.
وصف أولياءه بعدما وصف أعداءه { عَلَى الارْضِ هَوْنًا } [الفرقان : 63] حال أو صفة للمشي أي هينين أو مشياً هيناً.
والهون الرفق واللين أي يمشون بسكينة ووقار وتواضع دون مرح واختيال وتكبر فلا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ولقوله : ويمشون في الأسواق { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ } [الفرقان : 63] أي السفهاء بما يكرهون { قَالُوا سَلَـامًا } [الفرقان : 63] سداداً من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإفك أو تسلماً منكم نتارككم ولا نجاهلكم فأقيم السلام مقام التسلم.
وقيل : نسختها آية القتال.
ولا حاجة إلى ذلك فالإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة.
هذا وصف نهارهم ثم وصف ليلهم بقوله { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا } [الفرقان : 64] جمع ساجد { وَقِيَـامًا } جمع قائم والبيتوتة خلاف الظلول وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم.
وقالوا : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً.
وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء.
والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا } [الفرقان : 65]
254
(3/143)
هلاكاً لازماً ومنه الغريم لملازمته.
وصفهم بإحياء الليل ساجدين قائمين ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون متضرعون إلى الله في صرف العذاب عنهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 254
{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان : 66] أي إن جهنم.
و " ساءت " في حكم " بئست " وفيها ضمير مبهم يفسره مستقراً والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي ، وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم " إن " وجعلها خبراً لها ، أو بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم " إن " ومستقرا حال أو تمييز ، ويصح أن يكون التعليلان متداخلين ومترادفن وأن يكونا من كلام الله تعالى وحكاية لقولهم.
{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا } [الفرقان : 67] لم يجاوزوا الحد في النفقة أو لم يأكلوا للتنعم ولم يلبسوا للتصلف.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم ينفقوا في المعاصي فالإسراف مجاوزة القدر.
وسمع رجل رجلاً يقول : لا خير في الإسراف.
فقال : لا إسراف في الخير ، وقال عليه الصلاة والسلام " من منع حقاً فقد قتر ومن أعطى في غير حق فقد أسرف " { وَلَمْ يَقْتُرُوا } [الفرقان : 67] بضم التاء كوفي ، وبضم الياء وكسر التاء مدني وشامي ، وبفتح الياء وكسر التاء مكي وبصري.
والقتر والإقتار والتقتير والتضييق الذي هو نقيض الإسراف { وَكَانَ } إنفاقهم { بَيْنَ ذَالِكَ } [النساء : 150] أي الإسراف والإقتار { قَوَامًا } أي عدلاً بينهما فالقوام العدل بين الشيئين والمنصوبان أي { بَيْنَ ذَالِكَ قَوَامًا } [الفرقان : 67] خبران وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير ، وبمثله أمر عليه الصلاة والسلام { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [الإسراء : 29] الآية.
وسأل عبد الملك بن مروان عمر بن عبد العزيز عن نفقته حين زوجه ابنته فقال : الحسنة بين السيئتين.
فعرف عبد الملك أنه أراد ما في هذه الآية.
وقيل : أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثيابهم للجمال
255
والزينة ولكن لسد الجوعة وستر العورة ودفع الحر والقر.
وقال عمر رضي الله عنه : كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا أكله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 255
{ وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [الفرقان : 68] أي لا يشركون { وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ } [الفرقان : 68] أي حرمها يعني حرم قتلها { إِلا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] بقود أو رجم أو ردة أو شرك أو سعي في الأرض بالفساد ، وهو متعلق بالقتل المحذوف أو بـ لا يقتلون { وَلا يَزْنُونَ } [الفرقان : 68] ونفى هذه الكبائر عن عباده الصالحين تعريض لما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم كأنه قيل : والذي طهرهم الله مما أنتم عليه { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] أي المذكور { يَلْقَ أَثَامًا } [الفرقان : 68] جزاء الإثم { يُضَـاعَفْ } بدل من يلق لأنهما في معنى واحد إذ مضاعفة العذاب هي لقاء الآثام كقوله :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا
فجزم " تلمم " لأنه بمعنى " تأتنا " إذ الإتيان هو الإلمام.
يضعّف مكي ويزيد ويعقوب.
يضعّف شامي يضاعف أبو بكر على الاستئناف أو على الحال ومعنى يضاعف { لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الفرقان : 69] أي يعذب على مرور الأيام في الآخرة عذاباً على عذاب.
وقيل : إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه { وَيَخْلُدْ } جزمه جازم { يُضَـاعَفْ } ورفعه رافعه لأنه معطوف عليه { فِيهِ } في العذاب فهي مكي وحفص بالإشباع.
وإنما خص حفص الإشباع بهذه الكلمة مبالغة في الوعيد.
والعرب تمد للمبالغة مع أن الأصل في هاء الكناية الإشباع { مُهَانًا } حال أي ذليلاً { إِلا مَن تَابَ } [مريم : 60] عن الشرك وهو استثناء من الجنس في موضع النصب
256
(3/144)
{ وَءَامَنَ } بمحمد عليه الصلاة والسلام { وَعَمِلَ عَمَلا صَـالِحًا } [الفرقان : 70] بعد توبته { فَأُوالَـائكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِهِمْ حَسَنَـاتٍ } [الفرقان : 70] أي يوفقهم للمحاسن بعد القبائح أو يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات الإيمان والطاعة ، ولم يرد به أن السيئة بعينها حسنة ولكن المراد ما ذكرنا.
يبدل مخففاً البرجمي { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } [النساء : 96] يكفر السيئات { رَّحِيمًا } يبدلها بالحسنات.
جزء : 3 رقم الصفحة : 256
{ وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } [الفرقان : 71] أي ومن تاب وحقق التوبة بالعمل الصالح فإنه يتوب بذلك إلى الله تعالى متاباً مرضياً عنده مكفراً للخطايا محصلاً للثواب { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } [الفرقان : 72] أي الكذب يعني ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين فلا يقربونها تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله إذ مشاهدة الباطل شركة فيه ، وكذلك النظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الآثام لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا.
وسبب وجود الزيادة فيه وفي مواعظ عيسى عليه السلام : إياكم ومجالسة الخاطئين.
أو لا يشهدون شهادة الزور على حذف المضاف.
وعن قتادة : المراد مجالس الباطل.
وعن ابن الحنفية : لا يشهدون اللهو والغناء.
{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } [الفرقان : 72] بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويطرح ، والمعنى وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به { مَرُّوا كِرَامًا } [الفرقان : 72] معرضين أنفسهم عن التلوث به كقوله.
{ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ } وعن الباقر رضي الله عنه : إذا ذكروا الفروج كنوا عنها { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ } [الفرقان : 73] أي قرىء عليهم القرآن أو وعظوا
257
بالقرآن { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } [الفرقان : 73] هذا ليس بنفي الخرور بل هو إثباب له ونفي الصمم والعمى ونحوه " لا يلقاني زيد مسلماً " هو نفي للسلام لا للقاء يعني أنهم إذا ذكروا بها خروا سجداً وبكياً سامعين باذان واعية مبصرين بعيون واعية لما أمروا ونهوا عنه لا كالمنافقين وأشباههم دليله قوله تعالى : { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ } [مريم : 58].
جزء : 3 رقم الصفحة : 257
{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا } [الفرقان : 74] " من " للبيان كأنه قيل : هب لنا قرة أعين.
ثم بينت القرة وفسرت بقوله من أزواجنا { وَذُرِّيَّـاتِنَا } ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين وهو من قولهم " رأيت منك أسداً " أي أنت أسد ، أو للابتداء على معنى هب لنا من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح وذريتنا أبو عمر وكوفي غير حفص لإرادة الجنس وغيرهم ذرياتنا { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [السجدة : 17] وإنما نكر لأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال : هب لنا منهم سروراً وفرحاً.
وإنما قيل { أَعْيُنٍ } على القلة دون " عيون " لأن المراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قال الله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } [سبأ : 13].
ويجوز أن يقال في تنكير أعين إنها أعين خاصة وهي أعين المتقين ، والمعنى أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً عمالاً لله تعالى يسرون بمكانهم وتقر بهم عيونهم.
وقيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله تعالى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } [الفرقان : 74] أي أئمة يقتدون بنا في الدين فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس ، أو واجعل كل واحد منا إماماً.
قيل : في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها.
{ أؤلئك يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ } [الفرقان : 75] أي الغرفات وهي العلالي في الجنة فوحد اقتصاراً على الواحد الدال على الجنس دليله قوله : { وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ ءَامِنُونَ } [سبأ : 37] .
{ بِمَا صَبَرُوا } [المؤمنون : 111] أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات وعلى أذى
258
(3/145)
الكفار ومجاهدتهم وعلى الفقر وغير ذلك { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } [الفرقان : 75] ويلقون كوفي غير حفص { تَحِيَّةً } دعاء بالتعمير { وَسَلَـامًا } ودعاء بالسلامة يعني أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم أو يحيي بعضهم بعضاً ويسلم عليه
جزء : 3 رقم الصفحة : 258
{ خَـالِدِينَ فِيهَا } [الجن : 23] حال { حَسُنَتْ } أي الغرفة { مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان : 66] موضع قرار وإقامة وهي في مقابلة ساءت مستقرا ومقاما { قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَآؤُكُمْ } " ما " متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب ومعناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الاسلام أو لولا عبادتكم له أي أنه خلقكم لعبادته كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56].
أي الاعتبار عند ربكم لعبادتكم.
أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ، وهو كقوله تعالى : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [النساء : 147] { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } [الفرقان : 77] رسولي يا أهل مكة { فَسَوْفَ يَكُونُ } [الفرقان : 77] العذاب { لِزَامَا } أي ذا لزام أو ملازماً وضع مصدر لازم موضع اسم الفاعل ، وقال الضحاك : ما يعبأ ما يبالي بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه إلهاً آخر.
259
سورة الشعراء
وهي مائتان وعشرون وسبع آيات
{ طسام } طس ويس وحم ممالة كوفي غير الأعشى والبرجمي وحفص ، ويظهر النون عند الميم يزيد وحمزة.
وغيرهما يدغمها { تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ } [يوسف : 1] الظاهر إعجازه ، وصحة أنه من عند الله والمراد به السورة أو القرآن ، والمعنى آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين { لَعَلَّكَ بَـاخِعٌ } [الشعراء : 3] قاتل و " لعل " للإشفاق { نَّفْسَكَ } من الحزن يعني أشفق على نفسك إن تقتلها حسرة وحزناً على ما فاتك من إسلام قومك { أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 3] لئلا يؤمنوا أو لامتناع إيمانهم أو خيفة أن لا يؤمنوا { إِن نَّشَأْ } [سبأ : 9] إيمانهم { نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً } [الشعراء : 4] دلالة واضحة { فَظَلَّتْ } أي فتظل لأن الجزاء يقع فيه لفظ الماضي في معنى المستقبل تقول : إن زرتني أكرمتك أي أكرمك كذا قاله الزجاج { أَعْنَـاقُهُمْ } رؤساؤهم ومقدموهم أو جماعاتهم يقال : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم { لَهَا خَـاضِعِينَ } [الشعراء : 4] منقادين.
وعن ابن عباس رضي الله
260
عنهما : نزلت فينا وفي بني أمية فتكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزتهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 260
{ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَـانِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [الشعراء : 5] أي وما يجدد لهم الله بوحيه موعظة وتذكيراً إلا جددوا إعراضاً عنه وكفراً به { فَقَدْ كَذَّبُوا } [الأنعام : 5] محمداً صلى الله عليه وسلّم فيما أتاهم به { فَسَيَأْتِيهِمْ } فسيعلمون أخبار { مَّا كَانُوا بِهِ } وهذا وعيد لهم وإنذار بأنهم سيعلمون إذا مسهم عذاب الله يوم بدر ويوم القيامة ما الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو القرآن وسيأتيهم أنباؤه وأحواله التي كانت خافية عليهم.(3/146)
{ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَـاؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ } كم نصب بـ أنبتنا { فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } [ق : 7] صنف من النبات { كَرِيمٍ } محمود كثير المنفعة يأكل منه الناس والأنعام كالرجل الكريم الذي نفعه عام.
وفائدة الجمع بين كلمتي الكثرة والإحاطة أن كلمة كل تدل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل وكم تدل على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة ، وبه نبه على كمال قدرته { إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [الشعراء : 8] أي إن في إنبات تلك الأصناف لآية على أن مبنتها قادر على إحياء الموتى ، وقد علم الله أن أكثرهم مطبوع على قلوبهم غير مرجي إيمانهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } [الشعراء : 9] في انتقامه من الكفرة { الرَّحِيمُ } لمن آمن منهم ووحد آية مع الإخبار بكثرتها لأن ذلك مشار به إلى مصدر أنبتنا ، أو المراد إن في كل واحد من تلك الأزواج لآية أي آية.
{ وَإِذْ } مفعول به أي اذكر إذ { نَادَى } دعا { رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ } [الشعراء : 10] إن
261
بمعنى أي { الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] أنفسهم بالكفر وبني إسرائيل بالاستعباد وذبح الأولاد سجل عليهم بالظلم ، ثم عطف
جزء : 3 رقم الصفحة : 261
{ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } [الأعراف : 127] عليهم عطف البيان كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون وكأنهما عبارتان تعتقبان على مؤدى واحد { أَلا يَتَّقُونَ } [الشعراء : 11] أي ائتهم زاجراً فقد آن لهم أن يتقوا ، وهي كلمة حث وإغراء.
ويحتمل أنه حال من الضمير في الظالمين أي يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال.
{ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ } [الشعراء : 12] الخوف غم يلحق الإنسان لأمر سيقع { أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِى } بتكذيبهم إياي مستأنف أو عطف على أخاف { وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِى } [الشعراء : 13] بأن تغلبني الحمية على ما أرى من المحال وأسمع من الجدال وبنصبهما يعقوب عطفاً على يكذبون فالخوف متعلق بهذه الثلاثة على هذا التقدير وبالتكذيب وحده بتقدير الرفع { فَأَرْسِلْ إِلَى هَـارُونَ } [الشعراء : 13] أي أرسل إليه جبريل واجعله نبياً يعينني على الرسالة ، وكان هارون بمصر حين بعث موسى نبياً بالشام.
ولم يكن هذا الالتماس من موسى عليه السلام توقفاً في الامتثال بل التماس عون في تبليغ الرسالة ، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل { وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنابٌ } [الشعراء : 14] أي تبعة ذنب بقتل القبطي فحذف المضاف ، أو سمي تبعة الذنب ذنباً كما سمي جزاء السيئة سيئة { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [الشعراء : 14] أي يقتلوني به قصاصاً ، وليس هذا تعللاً أيضاً بل استدفاع للبلية المتوقعة ، وفرق من أن يقتل قبل أداء الرسالة ولذا وعده بالكلاءة والدفع بكلمة الردع.
وجمع له الاستجابتين معاً في قوله { قَالَ كَلا فَاذْهَبَا } [الشعراء : 15] لأنه استدفعه بلاءهم فوعده الله الدفع بردعه عن الخوف والتمس منه رسالة أخيه فأجابه بقوله اذهبا أي جعلته رسولاً معك فاذهبا.
وعطف فاذهبا على الفعل الذي يدل عليه كلا كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون { بِـاَايَـاتِنَآ } مع آياتنا وهي اليد والعصا وغير ذلك
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
{ إِنَّا مَعَكُم } [البقرة : 14]
262
أي معكما بالعون والنصرة ومع من أرسلتما إليه بالعلم والقدرة { مُّسْتَمِعُونَ } خبر لـ " إن " و معكم لغو ، أو هما خبران أي سامعون ، والاستماع في غير هذا الإصغاء للسماع يقال : استمع فلان إلى حديثه أي أصغى إليه ولا يجوز حمله ههنا على ذلك فحمل على السماع
جزء : 3 رقم الصفحة : 262
(3/147)
{ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الشعراء : 16] لم يثن الرسول كما ثنى في قوله إنا رسولا ربك لأن الرسول يكون بمعنى المرسل وبمعنى الرسالة فجعل ثمة بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته ، وجعل هنا بمعنى الرسالة فيستوي في الوصف به الواحد والتثنية والجمع ، أو لأنهما لاتحادهما واتفاقهما على شريعة واحدة كأنهما رسول واحد ، أو أريد إن كل واحد منا { أَنْ أَرْسِلْ } [الشعراء : 17] بمعنى أي أرسل لتضمن الرسول معنى الإرسال وفيه معنى القول { مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الشعراء : 17] يريد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما فأتيا بابه فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه.
فأديا إليه الرسالة فعرف فرعون موسى فعند ذلك.
{ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } [الشعراء : 18] وإنما حذف فأتيا فرعون فقال اختصاراً.
والوليد الصبي لقرب عهده من الولادة أي ألم تكن صغيراً فربيناك { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء : 18] قيل : ثلاثين سنة { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ } [الشعراء : 19] يعني قتل القبطي فعرض إذ كان ملكاً { وَأَنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ } [الشعراء : 19] بنعمتي حيث قتلت خبازي أو كنت على ديننا الذي تسميه كفراً ، وهذا افتراء منه عليه لأنه معصوم من الكفر وكان يعايشهم بالتقية { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذًا } [الشعراء : 20] أي إذ ذاك { وَأَنَا مِنَ الضَّآلِّينَ } [الشعراء : 20] الجاهلين بأنها تبلغ القتل والضال عن الشيء هو الذاهب عن معرفته ، أو الناسين من قوله
263
{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى } [البقرة : 282] فدفع وصف الكفر عن نفسه ووضع الضالين موضع الكافرين و إذا جواب وجزاء معاً ، وهذا الكلام وقع جواباً لفرعون وجزاء له لأن قول فرعون وفعلت فعلتك معناه أنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى : نعم فعلتها مجازياً تسليماً لقوله لأن نعمته كانت جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء
جزء : 3 رقم الصفحة : 263
{ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ } [الشعراء : 21] إلى مدين { لَمَّا خِفْتُكُمْ } [الشعراء : 21] أن تقتلوني وذلك حين قال له مؤمن من آل فرعون { إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ } الآية.
{ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْمًا } [الشعراء : 21] نبوة وعلماً فزال عني الجهل والضلالة { وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 21] من جملة رسله { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الشعراء : 22] كر على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله وأبى أن تسمى نعمة لأنها نقمة حيث بين أن حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل لأن تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته ، ولو تركهم لرباه أبواه فكأن فرعون امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه إذا حققت وتعبيدهم تذليلهم واتخاذهم عبيداً.
ووحد الضمير في تمنها وعبدت وجمع في منكم وخفتكم لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله بدليل قوله { إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [القصص : 20].
وأما الامتنان فمنه وحده وكذا التعبيد.
وتلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بتفسيرها ، ومحل أن عبدت الرفع عطف بيان لتلك أي تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَـالَمِينَ } [الشعراء : 23] أي إنك تدعي أنك رسول رب العالمين فما صفته لأنك إذا أردت السؤال عن صفة زيد تقول : ما زيد؟ تعني أطويل أم قصير أفقيه أم طبيب نص عليه صاحب الكشاف وغيره { قَالَ } موسى مجيباً له على وفق سؤاله { رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ }
264
أي وما بين الجنسين { إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } [الشعراء : 24] أي إن كنتم تعرفون الأشياء بالدليل فكفى خلق هذه الأشياء دليلاً ، أو إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع.
والإيقان العلم الذي يستفاد بالاستدلال ولذا لا يقال الله موقن
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
(3/148)
{ قَالَ } أي فرعون { لِمَنْ حَوْلَهُ } [الشعراء : 25] من أشراف قومه وهم خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة { أَلا تَسْتَمِعُونَ } [الشعراء : 25] معجباً قومه من جوابه لأنهم يزعمون قدمهما وينكرون حدوثهما وأن لهما رباً فاحتاج موسى إلى أن يستدل بما شاهدوا حدوثه وفناءه فاستدل حيث { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآ ـاِكُمُ الاوَّلِينَ } [الشعراء : 26] أي هو خالقكم وخالق آبائكم فإن لم تستدلوا بغيركم فبأنفسكم.
وإنما قال { وَرَبُّ ءَابَآ ـاِكُمُ } لأن فرعون كان يدعي الربوبية على أهل عصره دون من تقدمهم.
{ قَالَ } أي فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء : 27] حيث يزعم أن في الوجود إلهاً غيري وكان فرعون ينكر إلهية غيره { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [الشعراء : 28] فتستدلون بما أقول فتعرفون ربكم ، وهذا غاية الإرشاد حيث عمم أولاً بخلق السماوات والأرض وما بينهما ، ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من أحواله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته ، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستوٍ من أظهر ما استدل به ، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الرحمن عن الاحتجاج بالأحياء والإماتة على نمروذ بن كنعان.
وقيل : سأله فرعون عن الماهية جاهلاً عن حقيقة سؤاله ، فلما أجاب موسى بحقيقة الجواب وقع عنده أن موسى حاد عن الجواب حيث سأله عن الماهية وهو يجيب عن ربوبيته وآثار صنعه فقال معجباً لهم من جواب موسى : ألا تستمعون؟ فعاد
265
موسى إلى مثل قوله الأول فجننه فرعون زاعماً أنه حائد عن الجواب ، فعاد ثالثاً إلى مثل كلامه الأول مبيناً أن الفرد الحقيقي إنما يعرف بالصفات وأن السؤال عن الماهية محال وإليه الإشارة في قوله تعالى { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [آل عمران : 118] أي إن كان لكم عقل علمكم أنه لا تمكن معرفته إلا بهذا الطريق ، فلما تحير فرعون ولم يتهيأ له أن يدفع ظهور آثار صنعه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 264
{ قَالَ لَـاـاِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـاهًَا غَيْرِى } [الشعراء : 29] أي غيري إلهاً { لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [الشعراء : 29] أي لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني ، وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل.
ولو قيل لأسجننك لم يؤد هذا المعنى وإن كان أخصر { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ } [الشعراء : 30] الواو للحال دخلت عليها همزة الاستفهام أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك { بِشَىْءٍ مُّبِينٍ } [الشعراء : 30] أي جائياً بالمعجزة { قَالَ فَأْتِ بِهِ } [الشعراء : 31] بالذي يبين صدقك { إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] أن لك بينة وجواب الشرط مقدر أي فأحضره { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [الأعراف : 107] ظاهر الثعبانية لا شيء يشبه الثعبان كما تكون الأشياء المزورة بالشعوذة والسحر.
روي أن العصا ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول : يا موسى مرني بما شئت.
ويقول فرعون : أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها ، فأخذها فعادت عصا.
{ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ } [الأعراف : 108] فيه دليل على أن بياضها كان شيئاً يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة وكان بياضها نورياً.
روي أن فرعون لما أبصر الآية الأولى قال : فهل غيرها فأخرج يده فقال لفرعون ما هذه؟ قال فرعون : يدك ، فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق { قَالَ } أي فرعون { لِلْمَلا حَوْلَهُ } [الشعراء : 34] هو منصوب نصبين نصب في اللفظ والعامل فيه ما يقدر في الظرف ، ونصب في المحل وهو النصب على الحال من
266
الملأ أي كائنين حوله والعامل فيه قال { إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ } [الأعراف : 109] بالسحر.
ثم أغوى قومه على موسى بقوله
د>
جزء : 3 رقم الصفحة : 266
(3/149)
{ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [الأعراف : 110] منصوب لأنه مفعول به من قولك أمرتك الخير { تَأْمُرُونَ } تشيرون في أمره من حبس أو قتل من المؤامرة وهي المشاورة ، أو من الأمر الذي هو ضد النهي.
لما تحير فرعون برؤية الآيتين وزال عنه ذكر دعوى الالهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه خوفاً طفق يؤامر قومه الذي هم بزعمه عبيده وهو إلههم ، أو جعلهم آمرين ونفسه مأموراً { قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } [الشعراء : 36] أخر أمرهما ولا تباغت قتلهما خوفاً من الفتنة { وَابْعَثْ فِى الْمَدَآ ـاِنِ حَـاشِرِينَ } [الشعراء : 36] شرطاً يحشرون السحرة وعارضوا قول فرعون إن هذا لساحر عليم بقولهم.
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } [الشعراء : 37] فجاء بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليسكنوا بعض قلقه { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء : 38] أي يوم الزينة وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله تعالى : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [طه : 59].
والميقات ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ } [الشعراء : 39] أي اجتمعوا وهو استبطاء لهم في الاجتماع والمراد منه استعجالهم { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ } [الشعراء : 40] في دينهم { إِن كَانُوا هُمُ الْغَـالِبِينَ } [الشعراء : 40] أي غلبوا موسى في دينه وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى.
267
جزء : 3 رقم الصفحة : 267
{ نَعَمْ } وبكسر العين : علي ، وهما لغتان { وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [الشعراء : 42] أي قال فرعون نعم لكم أجر عندي وتكونون مع ذلك من المقربين عندي في المرتبة والجاه فتكونون أول من يدخل علي وآخر من يخرج.
ولما كان قولهم : أئن لنا لأجراً في معنى جزاء الشرط لدلالته عليه وكان قوله : وإنكم إذا لمن المقربين معطوفاً عليه دخلت إذا قارة في مكانها الذي تقضيه من الجواب والجزاء { قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ } [يونس : 80] من السحر فسوف ترون عاقبته { فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ } [الشعراء : 44] سبعين ألف حبل { وَعِصِيَّهُمْ } سبعين ألف عصا.
وقيل : كانت الحبال اثنين وسبعين ألفاً وكذا العصي { وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَـالِبُونَ } [الشعراء : 44] أقسموا بعزته وقوته وهو من أيمان الجاهلية { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } [الشعراء : 45] تبتلع { مَا يَأْفِكُونَ } [الأعراف : 117] ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم ويزوّرونه ويخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حياة تسعى { فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ } [الشعراء : 46] عبر عن الخرور بالإلقاء بطريق المشاكلة لأنه ذكر مع الإلقاءات ولأنهم لسرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقوا { قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 121] عن عكرمة رضي الله عنه : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 268
{ رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ } [الأعراف : 122] عطف بيان لـ رب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا أن يعزلوه.
وقيل ؛ إن فرعون لما سمع منهم آمنا برب العالمين قال : إياي عنيتم؟ قالوا : رب موسى وهارون.
{ قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [طه : 71] بذلك
268
{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه : 71] وقد تواطأتم على أمر ومكر { فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الشعراء : 49] وبال ما فعلتم.
ثم صرح فقال { لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ } [الأعراف : 124] من أجل خلاف ظهر منكم { وَلاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [الشعراء : 49] كأنه أراد به ترهيب العامة لئلا يتبعوهم في الإيمان
جزء : 3 رقم الصفحة : 268
(3/150)
{ قَالُوا لا ضَيْرَ } [الشعراء : 50] لا ضرر وخبر " لا " محذوف أي في ذلك أو علينا { إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَـايَـانَآ أَن كُنَّآ } لأن كنا { أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 143] من أهل المشهد أو من رعية فرعون.
أراد وإلا ضرر علينا في ذلك بل لنا أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله من تكفير الخطايا ، أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به إنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت ، والقتل أهون أسبابه وأرجاها ، أو لا ضير علينا في قتلك إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا إنقلاب من يطمع في مغفرته ويرجو رحمته لما رزقنا من السبق إلى الإيمان { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ } [الشعراء : 52] وبوصل الهمزة : حجازي { بِعِبَادِى } بني إسرائيل سماهم عباده لإيمانهم بنبيه أي سر بهم ليلاً وهذا بعد سنين من إيمان السحرة { إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } [الشعراء : 52] يتبعكم فرعون وقومه علل الأمر بالإسراء باتباع فرعون وجنوده آثارهم يعني إني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم من طريق البحر فأهلكهم.
وروي أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه.
وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم اذبح الجداء واضربوا بدمائها على أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم وسآمرهم بقتل أبكار القبط ، واخبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري.
{ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآ ـاِنِ حَـاشِرِينَ } [الشعراء : 53] أي جامعين للناس بعنف ، فلما اجتمعوا قال :
269
جزء : 3 رقم الصفحة : 269
{ إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [الشعراء : 54] والشرذمة الطائفة القليلة ذكرهم بالاسم الدال على القلة ، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ، ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً.
واختار جمع السلامة الذي هو للقلة أو أراد بالقلة الذلة لا قلة العدد أي أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا تتوقع غلبتهم.
وإنما استقل قوم موسى وكانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً لكثرة من معه.
فعن الضحاك : كانوا سبعة الاف ألف { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآ ـاِظُونَ } [الشعراء : 55] أي أنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا وهي خروجهم من مصرنا وحملهم حلينا وقتلهم أبكارنا { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـاذِرُونَ } [الشعراء : 56] شامي وكوفي وغيرهم حذرون فالحذر المتيقظ والحاذر الذي يجدد حذره.
وقيل : المؤدي في السلاح وإنما يفعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه يعني ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور ، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده ، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به العجز والفتور.
{ فَأَخْرَجْنَـاهُم مِّن جَنَّـاتٍ } [الشعراء : 57] بساتين { وَعُيُونٍ } وأنهار جارية { وَكُنُوزٍ } وأموال ظاهرة من الذهب والفضة وسماها كنوزاً لأنهم لا ينفقون منها في طاعة الله تعالى { وَمَقَامٍ } ومنزل { كَرِيمٍ } بهي بهيج.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المنابر { كَذَالِكَ } يحتمل النصب على أخرجناهم مثل ذلك الآخراج الذي وصفنا ، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك { وَأَوْرَثْنَـاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الشعراء : 59] عن الحسن : لما عبروا النهر رجعوا وأخذوا ديارهم وأموالهم { فَأَتْبَعُوهُم } فلحقوهم فاتبعوهم يزيد { مُّشْرِقِينَ } حال أي داخلين في وقت شروق الشمس وهو طلوعها أدرك قوم فرعون موسى وقومه وقت طلوع الشمس.
270
جزء : 3 رقم الصفحة : 270
(3/151)
{ فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ } [الشعراء : 61] أي تقابلا بحيث يرى كل فريق صاحبه والمراد بنو إسرائيل والقبط { قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء : 61] أي قرب أي يلحقنا عدونا وأمامنا البحر { قَالَ } موسى عليه السلام ثقة بوعد الله إياه { كَلا } ارتدعوا عن سوء الظن بالله فلن يدركوكم { إِنَّ مَعِىَ } [الشعراء : 62] { مَعِىَ } حفص { رَبِّى سَيَهْدِينِ } [الشعراء : 62] أي سيهديني طريق النجاة من إدراكهم وإدرارهم بالياء : يعقوب { سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ } [الشعراء : 63] أي القلزم أو النيل { فَانفَلَقَ } أي فضرب فانفلق وانشق فصار اثني عشر فرقاً على عدد الأسباط { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ } [الشعراء : 63] أي جزء تفرق منه { كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [الشعراء : 63] كالجبل المنطاد في السماء { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ } [الشعراء : 64] حيث انفلق البحر { الاخَرِينَ } قوم فرعون أي قربناهم من بني إسرائيل أو من البحر { وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُا أَجْمَعِينَ } [الشعراء : 65] من الغرق { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ } [الشعراء : 66] فرعون وقومه ، وفيه إبطال القول بتأثير الكواكب في الآجال وغيرها من الحوادث فإنهم اجتمعوا في الهلاك مع اختلاف طوالعهم.
روي أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فكان يقول لبني إسرائيل : ليلحق آخركم بأولكم.
ويستقبل القبط فيقول : رويدكم يلحق آخركم بأولكم.
فلما انتهى موسى إلى البحر قال يوشع لموسى : أين أمرت فهذا البحر أمامك وغشيك آل فرعون؟ قال موسى : ههنا.
فخاض يوشع الماء وضرب موسى بعصاه البحر فدخلوا.
وروي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال عند ذلك : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء
271
جزء : 3 رقم الصفحة : 271
{ إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] أي فيما فعلنا بموسى وفرعون { لايَةً } لعبرة عجيبة لا توصف { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم } [الشعراء : 8] أي المغرقين { مُؤْمِنِينَ } قالوا : لم يؤمن منهم إلا آسية وحزقيل مؤمن آل فرعون ومريم التي دلت موسى على قبر يوسف { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } [الشعراء : 9] بالانتقام من أعدائه { الرَّحِيمُ } بالإنعام على أوليائه.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } [الشعراء : 69] على مشركي قريش { نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [الشعراء : 69] خبره { إِذْ قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِهِ } [الأنبياء : 52] قوم إبراهيم أو قوم الأب { مَا تَعْبُدُونَ } [الشعراء : 70] أي أي شيء تعبدون؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة الأصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس بمستحق للعبادة { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا } وجواب { مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَـاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ } [سبأ : 23] لأنه سؤال عن المعبود لا عن العبادة.
وإنما زادوا نعبد في الجواب افتخاراً ومباهاة بعبادتها ولذا عطفوا على نعبد { فَنَظَلُّ لَهَا عَـاكِفِينَ } [الشعراء : 71] فنقيم على عبادتها طول النهار.
وإنما قالوا فنظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل أو معناه الدوام { قَالَ } أي إبراهيم { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ } [الشعراء : 72] هل يسمعون دعاءكم على حذف المضاف لدلالة { إِذْ تَدْعُونَ } [الشعراء : 72] عليه { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ } [الشعراء : 73] إن عبدتموها { أَوْ يَضُرُّونَ } [الشعراء : 73] إن تركتم عبادتها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 272
{ قَالُوا بَلْ } [ص : 60] إضراب أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر ولا نعبدها لشيء من ذلك ولكن { وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَالِكَ يَفْعَلُونَ } [الشعراء : 74] فقلدناهم { قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاقْدَمُونَ } الأولون
272
جزء : 3 رقم الصفحة : 272
(3/152)
{ فَإِنَّهُمْ } أي الأصنام { عَدُوٌّ لِّى } [الشعراء : 77] العدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والجماعة يعني لو عبدتهم لكانوا أعداء لي في يوم القيامة كقوله { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 82] وقال الفراء : هو من المقلوب أي فإني عدوهم.
وفي قوله عدو لي دون " لكم " زيادة نصح ليكون أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال " فإنهم عدو لكم " لم يكن بتلك المثابة { إِلا رَبَّ الْعَـالَمِينَ } [الشعراء : 77] استثناء منقطع لأنه لم يدخل تحت الأعداء كأنه قال : لكن رب العالمين.
{ الَّذِى خَلَقَنِى } [الشعراء : 78] بالتكوين في القرار المكين { فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء : 78] لمناهج الدنيا ولمصالح الدين والاستقبال في يهديني مع سبق العناية لأنه يحتمل يهديني للأهم الأفضل والأتم الأكمل ، أو الذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهديني إلى آداب خلته { وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى } [الشعراء : 79] أضاف الإطعام إلى ولي الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأنعام { وَيَسْقِينِ } قال ابن عطاء : هو الذي يحييني بطعامه ويرويني بشرابه { وَإِذَا مَرِضْتُ } [الشعراء : 80] وإنما لم يقل أمرضني لأنه قصد الذكر بلسان الشكر فلم يضف إليه ما يقتضي الضر.
قال ابن عطاء : وإذا مرضت برؤية الخلق { فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء : 80] بمشاهدة الحق.
قال الصادق : إذا مرضت برؤية الأفعال فهو يشفين بكشف منة الإفضال { وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ } [الشعراء : 81] ولم يقل إذا مت لأنه الخروج من حبس البلاء ودار الفناء إلى روض البقاء لوعد اللقاء.
وأدخل " ثم " في الإحياء لتراخيه عن الإفناء ، وأدخل الفاء في الهداية والشفاء لأنهما يعقبان الخلق والمرض لامعاً معاً.
{ وَالَّذِى أَطْمَعُ } [الشعراء : 82] طمع العبيد في الموالي بالإفضال لا على الاستحقاق
273
بالسؤال { أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيائَتِى } [الشعراء : 82] قيل : هو قوله { إِنِّى سَقِيمٌ } [الصافات : 89] { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [الأنبياء : 63] { هَـاذَا رَبِّى } [الأنعام : 76] (الأنعام : 67) للبازغ هي أختي لسارة ، وما هي إلا معاريض جائزة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار ، واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم وتعليم للأمم في طلب المغفرة ، { يَوْمَ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] يوم الجزاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 273
{ رَبِّ هَبْ لِى حُكْمًا } [الشعراء : 83] حكمة أو حكماً بين الناس بالحق أو نبوة لأن النبي عليه السلام ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله { وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ } [يوسف : 101] أي الأنبياء ولقد أجابه حيث قال { وَإِنَّهُ فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [البقرة : 130] { وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخِرِينَ } [الشعراء : 84] أي ثناء حسناً وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي فأعطي ذلك فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضع اللسان موضع القول لأن القول يكون به.
{ وَاجْعَلْنِى مِن } [الشعراء : 85] يتعلق بمحذوف أي وارثاً من { وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } [الشعراء : 85] أي من الباقين فيها { وَاغْفِرْ لابِى } [الشعراء : 86] اجعله أهل المغفرة بإعطاء الإسلام وكان وعده الإسلام يوم فارقه { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ } [الشعراء : 86] الكافرين { وَلا تُخْزِنِى } [الشعراء : 87] الاخزاء من الخزي وهو الهوان أو من الخزاية وهو الحياء وهذا نحو الاستغفار كما بينا { يَوْمَ يُبْعَثُونَ } [الأعراف : 14] الضمير فيه للعباد لأنه معلوم ، أو للضالين وأن يجعل من جملة الاستغفار لأبيه أي ولا تخزني في يوم يبعث الضالون وأبي فيهم { يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ } [الشعراء : 88] هو بدل من يوم الأول { وَلا بَنُونَ } [الشعراء : 88] أحداً { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء : 89] عن الكفر والنفاق وقلب الكافر والمنافق
274
(3/153)
مريض لقوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [محمد : 29] أي إن المال إذا صرف في وجوه البر وبنوه صالحون فإنه ينتفع به وبهم سليم القلب ، أو جعل المال والبنون في معنى الغني كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه.
وقد جعل من مفعولاً لـ ينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله ، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع.
ويجوز على هذا إلا من أتى الله بقلب سليم من فتنة المال والبنين.
وقد صوب الخليل إكراماً له ثم جعله صفة له في قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 274
{ سَلِيمٍ } وما أحسن ما رتب عليه السلام كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مستفهم ، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تسمع وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين فأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة ، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلّص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه وعدد نعمته من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجّى في الآخرة من رحمته ، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوابين ، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 274
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الشعراء : 90] أي قربت عطف جملة على جملة أي تزلف من موقف السعداء فينظرون إليها.
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ } [الشعراء : 91] أي أظهرت حتى يكاد يأخذهم لهبها { لِلْغَاوِينَ } للكافرين { وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } يوبخون على إشراكهم فيقال لهم أين الهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ، أو هل
275
ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار
جزء : 3 رقم الصفحة : 275
{ فَكُبْكِبُوا } أنكسوا أو طرح بعضهم على بعض { فِيهَا } في الجحيم { هُمُ } أي الآلهة { وَالْغَاوُانَ } وعبدتهم الذين برزت لهم.
والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة إثر مرة حتى يستقر في قعرها نعوذ بالله منها { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } [الشعراء : 95] شياطينه أو متبعوه من عصاة الإنس والجن { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } [الشعراء : 96] يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم ، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم } نعدلكم أيها الأصنام { بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 121]في العبادة { وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلا الْمُجْرِمُونَ } [الشعراء : 99] أي رؤساؤهم الذين أضلوهم أو إبليس وجنوده ومن سن الشرك.
{ فَمَا لَنَا مِن شَـافِعِينَ } [الشعراء : 100] كما للمؤمنين من الأنبياء والأولياء والملائكة { وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [الشعراء : 101] كما نرى لهم أصدقاء إذ لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون وأما أهل النار فبينهم التعادي : { الاخِلاءُ يَوْمَـاـاِذ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف : 67] أو { حَمِيمٍ } من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس.
والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام الذي يهمه ما يهمك ، أو من الحامّة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخاص.
وجمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة ، وأما الصديق وهو الصادق في ودادك الذي يهمه ما أهمك فقليل.
وسئل حكيم عن الصديق فقال : اسم لا معنى له.
وجاز أن يراد بالصديق الجمع
276
جزء : 3 رقم الصفحة : 276
(3/154)
{ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } [الشعراء : 102] رجعة إلى الدنيا { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 102] وجواب " لو " محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت ، أو لو في مثل هذا بمعنى التمني كأنه قيل : فليت لنا كرة.
لما بين معنى " لو " و " ليت " من التلاقي { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] فيما ذكر من الأنباء { لايَةً } أي لعبرة لمن اعتبر { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } [الشعراء : 8] فيه أن فريقاً منهم آمنوا { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } [الشعراء : 9] المنتقم ممن كذب إبراهيم بنار الجحيم { الرَّحِيمُ } المسلم كل ذي قلب سليم إلى جنة النعيم.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 105] القوم يذكر ويؤنث.
قيل : ولد نوح في زمن آدم عليه السلام ونظير قوله المرسلين والمراد نوح عليه السلام قولك " فلان يركب الدواب ويلبس البرود " وماله إلا دابة أو برد ، أو كانوا ينكرون بعث الرسل أصلاً فلذا جمع ، أو لأن من كذب واحداً منهم فقد كذب الكل لأن كل رسول يدعو الناس إلى الإيمان بجميع الرسل وكذا جميع ما في هذه السورة { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ } [الشعراء : 142] نسباً لا ديناً { نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ } [الشعراء : 106] خالق الأنام فتتركوا عبادة الأصنام { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [الشعراء : 107] كان مشهوراً بالأمانة فيهم كمحمد عليه الصلاة والسلام في قريش.
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما آمركم به وأدعوكم إليه من الحق { وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ } [الشعراء : 109] على هذا الأمر { مِنْ أَجْرٍ } [الفرقان : 57] جزاء { إِنْ أَجْرِىَ } [يونس : 72] بالفتح مدني وشامي وأبو عمرو وحفص { إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الشعراء : 109] لذلك أريده { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [آل عمران : 50] كرره ليقرره في نفوسهم مع تعليق كل واحد
277
منهما بعلة ، فعلة الأول كونه أميناً فيهما بينهم ، وعلة الثاني حسم طمعه منهم كأنه قال : إذا عرفتم رسالتي وأمانتي فاتقوا الله ، ثم إذا عرفتم احترازي من الأجر فاتقوا الله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 277
{ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ } [الشعراء : 111] الواو للحال و " قد " مضمرة بعدها دليله قراءة يعقوب جمع تابع كشاهد وأشهاد أو تبع كبطل وأبطال { وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ } [الشعراء : 111] السّفلة والرذالة الخسة والدناءة.
وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا.
وقيل : كانوا من أهل الصناعات الدنيئة والصناعة لا تزري بالديانة فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى ، ولا يجوز أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم نسباً وما زالت أتباع الأنبياء كذلك { قَالَ وَمَا عِلْمِى } [الشعراء : 112] وأي شيء أعلم { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 108] من الصناعات إنما أطلب منهم الايمان.
وقيل : إنهم طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم وقالوا : إن الذين آمنوا بك ليس في قلوبهم ما يظهرونه فقال : ما علي إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن السرائر { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ } [الشعراء : 113] أن الله يحاسبهم على ما في قلوبهم { وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 114] أي ليس من شأني أن أتبع شهواتكم بطرد المؤمنين طمعاً في إيمانكم { إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [الشعراء : 115] ما علي إلا أن أنذركم إنذاراً بيناً بالبرهان الصحيح الذي يتميز به الحق من الباطل ثم أنتم أعلم بشأنكم { قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ تَنْتَهِ يَـانُوحُ } عما تقول { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } [الشعراء : 116] من المقتولين بالحجارة { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ } [الشعراء : 117] ليس هذا إخباراً بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد أنهم كذبوني في وحيك ورسالتك
278
جزء : 3 رقم الصفحة : 278
(3/155)
{ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا } [الشعراء : 118] أي أي فاحكم بيني وبينهم حكماً ، والفتاحة الحكومة والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق كما سمي فيصلاً لأنه يفصل بين الخصومات { وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِىَ } [الشعراء : 118] معي حفص { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 27] من عذاب عملهم.
{ فَأَنجَيْنَـاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ } [الشعراء : 119] الفلك السفينة وجمعه فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد { الْمَشْحُونِ } المملوء ومنه شحنة البلد أي الذي يملؤه كفاية { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ } [الشعراء : 120] أي بعد إنجاء نوح ومن آمن { الْبَاقِينَ } من قومه { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } المنتقم بإهانة من جحد وأصر { الرَّحِيمُ } المنعم بإعانة من وحد وأقر.
{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } [الشعراء : 123] هي قبيلة وفي الأصل اسم رجل هو أبو القبيلة { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ } في تكذيب الرسول الأمين { وَأَطِيعُونِ } مكان مرتفع { ءَايَةً } برج حمام أو بناء يكون لارتفاعه كالعلامة يسخرون بمن مر بهم { تَعْبَثُونَ } تلعبون { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } [الشعراء : 129] مآخذ الماء أو قصوراً مشيدة أو حصوناً { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } [الشعراء : 129] ترجون الخلود في الدنيا { وَإِذَا بَطَشْتُم } [الشعراء : 130] أخذتم أحداً بعقوبة { بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } [الشعراء : 130] قتلاً بالسيف
279
وضرباً بالسوط والجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب
جزء : 3 رقم الصفحة : 279
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ } [آل عمران : 123] في البطش { وَأَطِيعُونِ } فيما أدعوكم إليه { وَاتَّقُوا الَّذِى أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ } [الشعراء : 132] من النعم.
ثم عددها عليهم فقال { أَمَدَّكُم بِأَنْعَـامٍ وَبَنِينَ } [الشعراء : 133] قرن البنين بالأنعام لأنهم يعينونهم على حفظها والقيام عليها { وَجَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } إن عصيتموني { قَالُوا سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ } [الشعراء : 136] أي لا نقبل كلامك ودعوتك وعظت أم سكت.
ولم يقل أم لم تعظ لرؤوس الآي { إِنْ هَـاذَآ إِلا خُلُقُ الاوَّلِينَ } [الشعراء : 137] ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت واتخاذ الابتناء إلا عادة الأولين ، أو ما نحن عليه دين الأولين.
إلا خلق الأولين مكي وبصري ويزيد وعلي أي ما جئت به اختلاق الأولين وكذب المتنبئين قبلك كقولك أساطير الأولين ، أو خلقنا كخلق الأولين نموت ونحيا كما حيوا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [الشعراء : 138] في الدنيا ولا بعث ولا حساب.
{ فَكَذَّبُوهُ } أي هوداً { فَأَهْلَكْنَـاهُمْ } بريح صرصر عاتية.
{ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَـالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ * أَتُتْرَكُونَ } إنكار لأن يتركوا خالدين في نعيمهم لا يزالون عنه { فِى مَا هَـاهُنَآ } [الشعراء : 146] في الذي استقر في هذا المكان من النعيم { ءَامِنِينَ } من العذاب والزوال والموت.
ثم فسره بقوله
280
جزء : 3 رقم الصفحة : 280
(3/156)
{ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر : 45] وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل { وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ } [الشعراء : 148] وعطف نخل على جنات مع أن الجنة تتناول النخل أول شيء تفضيلاً للنخل على سائر الشجر { طَلْعُهَا } هو ما يخرج من النخل كنصل السيف { هَضِيمٌ } لين نضيج كأنه قال : ونخل قد أرطب ثمره { وَتَنْحِتُونَ } تنقبون { مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَـارِهِينَ } [الشعراء : 149] شامي وكوفي حاذقين حال وغيرهم فرهين أشرين ، والفراهة الكيس والنشاط { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ } الكافرين أو التسعة الذين عقروا الناقة جعل الأمر مطاعاً على المجاز الحكمي والمراد الامر وهو كل جمة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضوعه في العقل لضرب من التأول كقولهم " أنبت الربيع البقل " { الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } [الشعراء : 152] بالظلم والكفر { وَلا يُصْلِحُونَ } [الشعراء : 152] بالإيمان والعدل والمعنى أن فسادهم مصمت ليس معه شيء من الصلاح كما تكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح.
{ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء : 153] المسحر الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله.
وقيل : هو من السرح الرئة وأنه بشر { مَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِـاَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الشعراء : 154] في دعوى الرسالة.
{ قَالَ هَـاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ } [الشعراء : 155] نصيب من الماء فلا تزاحموها فيه
281
{ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الشعراء : 155] لا تزاحمكم هي فيه ، روي أنهم قالوا : نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً ، فجعل صالح يتفكر فقال له جبريل : صل ركعتين واسأل ربك الناقة ، ففعل فخرجت الناقة ونتجت سقباً مثلها في العظم وصدرها ستون ذراعاً ، وإذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، وإذا كان يوم شربهم لا تشرب فيه الماء ، وهذا دليل على جواز المهايأة لأن قولهم : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم من المهايأة
جزء : 3 رقم الصفحة : 281
{ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ } [الأعراف : 73] بضرب أو عقر أو غير ذلك { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء : 156] عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب ، لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد { فَعَقَرُوهَا } عقرها قدار ولكنهم راضون به فأضيف إليهم ، روي أن عاقرها قال : لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : أترضين؟ فتقول : نعم ، وكذلك صبيانهم { فَأَصْبَحُوا نَـادِمِينَ } [الشعراء : 157] على عقرها خوفاً من نزول العذاب بهم لا ندم توبة أو ندموا حين لا ينفع الندم وذلك عند معاينة العذاب أو على ترك الولد { فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } [الشعراء : 158] المقدم ذكره.
{ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } .
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَـالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَـالَمِينَ } أراد بالعالمين الناس ، أتطئون الذكور من الناس مع كثرة الإناث ، أو أتطئون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران أي أنتم مختصون بهذه الفاحشة والعالمين على هذا كل ما ينكح من الحيوان
282
جزء : 3 رقم الصفحة : 282
{ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم } [الشعراء : 166] " من " تبيين لما خلق ، أو تبعيض والمراد بما خلق العضو المباح منهن وكانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم ، وفيه دليل على تحريم أدبار الزوجات والمملوكات ومن أجازه فقد أخطأ خطأ عظيماً { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [الشعراء : 166] العادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد أي بل أنتم قوم أحق بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه العظيمة.
(3/157)
{ قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ يَـالُوطُ } عن إنكارك علينا وتقبيح أمرنا { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } [الشعراء : 167] من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا وطردناه من بلدنا ، ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوأ حال { قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ } [الشعراء : 168] هو أبلغ من أن يقول قال ، فقول " فلان من العلماء " أبلغ من قولك " فلان عالم " لأنك تشهد بأنه مساهم لهم في العلم.
والقلي البغض يقلي الفؤاد والكبد ، وفيه دليل على عظم المعصية لأن قلاه من حيث الدين { رَبِّ نَجِّنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ } [الشعراء : 169] من عقوبة عملهم { فَنَجِّيْنَـاهُ وَأَهْلَهُا أَجْمَعِينَ } [الشعراء : 170] يعني بناته ومن آمن معه { إِلا عَجُوزًا } [الشعراء : 171] هي امرأة لوط وكانت راضية بذلك والراضي بالمعصية في حكم العاصي ، واستثناء الكافرة من الأهل وهم مؤمنون للاشتراك في هذا الاسم وإن لم تشاركهم في الإيمان { فِى الْغَـابِرِينَ } [الشعراء : 171] صفة لها في الباقين في العذاب فلم تنج منه ، والغابر في اللغة الباقي كأنه قيل : إلا عجوزاً غابرة أي مقدراً
283
غبورها إذ الغبور لم يكن صفتها وقت تنجيتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 283
{ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخَرِينَ } [الشعراء : 172] والمراد بتدميرهم الائتفاك بهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا } [الأعراف : 84] عن قتادة : أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم الله.
وقيل : لم يرض بالائتفاك حتى أتبعه مطراً من حجارة { فَسَآءَ } فاعله { مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } [الشعراء : 173] والمخصوص بالذم وهو مطرهم محذوف ولم يرد بالمنذرين قوماً بأعيانهم بل المراد جنس الكافرين { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * كَذَّبَ أَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِ } بالهمزة والجر هي غيضة تنبت ناعم الشجر عن الخليل { لْـاَيْكَةِ } حجازي وشامي وكذا في " ص " علم لبلد.
قيل : أصحاب الأيكة هم أهل مدين التجئوا إلى غيضة إذ ألح عليهم الوهج.
والأصح أنهم غيرهم نزلوا غيضة بعينها بالبادية وأكثر شجرهم المقل بدليل أنه لم يقل هنا " أخوهم شعيب " لأنه لم يكن من نسبهم بل كان من نسب أهل مدين ففي الحديث أن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة { الْمُرْسَلِينَ } أتموه { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ } [الشعراء : 181] ولا تنقصوا الناس حقوقهم فالكيل وافٍ وهو مأمور به ، وطفيف وهو منهي عنه ، وزائد وهو مسكوت عنه ، فتركه دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعل فلا شيء عليه
284
جزء : 3 رقم الصفحة : 284
{ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } [الشعراء : 182] وبكسر القاف كوفي غير أبي بكر وهو الميزان أو القبان ، فإن كان من القسط وهو العدل وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس وإلا فهو رباعي.
(3/158)
{ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ } [الأعراف : 85] يقال بخسته حقه إذا نقصته إياه { أَشْيَآءَهُمْ } دراهمهم ودنانيرهم بقطع أطرافهما { وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة : 60] ولا تبالغوا فيها في الإفساد نحو : قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع.
وكانوا يفعلون ذلك فنهوا عنه.
يقال : عثا في الأرض إذا أفسد وعثي في الأرض لغة في عثا.
{ وَاتَّقُوا الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ } [الشعراء : 184] الجبلة عطف على " كم " أي اتقوا الذي خلقكم وخلق الجبلة { الاوَّلِينَ } الماضين { قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَآ أَنتَ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا } إدخال الواو هنا ليفيد معنيين كلاهما مناف الرسالة عندهم : التسحير والبشرية.
وتركها في قصة ثمود ليفيد معنى واحداً وهو كونه مسحراً ، ثم كرر بكونه بشراً مثلهم { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ } [الشعراء : 186] " إن " مخففة من الثقيلة واللام دخلت للفرق بينهما وبين النافية.
وإنما تفرقنا على فعل الظن وثاني مفعوليه لأن أصلهما أن يتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك " إن زيداً لمنطلق " فملا كان بابا " كان " و " ظننت " من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين فقيل : إن كان زيد لمنطلقاً وإن ظننته لمنطلقاً { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا } [الشعراء : 187] كسفا حفص وهما جمعاً كسفة وهي القطعة وكسفه قطعه { مِّنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] أي السحاب أو الظلة { إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] أي إن كنت صادقاً أنك نبي فادع الله أن يسقط علينا كسفاً من السماء أي قطعاً من السماء عقوبة
285
جزء : 3 رقم الصفحة : 285
{ قَالَ رَبِّى } [الشعراء : 188] بفتح الياء : حجازي وأبو عمرو ، وبسكونها : غيرهم { أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحج : 68] أي إن الله أعلم بأعمالكم وبما تستحقون عليها من العذاب ، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل ، وإن أراد عقاباً آخر فإليه الحكم والمشيئة { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ } [الشعراء : 189] هي سحابة أظلتهم بعدما حبست عنهم الريح وعذبوا بالحر سبعة أيام فاجتمعوا تحتها مستجيرين بها مما نالهم من الحر فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } وقد كرر في هذه السورة في أول كل قصة وآخرها ما كرر تقريراً لمعانيها في الصدور ليكون أبلغ في الوعظ والزجر ، ولأن كل قصة منها كتنزيل برأسه ، وفيها من الاعتبار مثل ما في غيرها فكانت جديرة بأن تفتتح بما افتتحت به صاحبتها وأن تختتم بما اختتمت به.
{ وَإِنَّهُ } أي القرآن { لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الشعراء : 192] منزل منه { نَزَلَ بِهِ } [الشعراء : 193] مخفف والفاعل { الرُّوحُ الامِينُ } [الشعراء : 193] أي جبريل لأنه أمين على الوحي الذي فيه الحياة.
حجازي وأبو عمرو وزيد وحفص ، وغيرهم بالتشديد.
ونصب الروح والفاعل هو الله تعالى أي جعل الله الروح نازلاً به ، والباء على القراءتين للتعدية { عَلَى قَلْبِكَ } [البقرة : 97] أي حفظك وفهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله : { سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى } [الأعلى : 6] { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ } بلغه قريش وجرهم { مُّبِينٍ } فصيح ومصحح عما صحفته العامة.
والباء إما أن يتعلق بـ المنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم هود وصالح وشعيب وإسماعيل عليهم السلام ، أو بـ نزل أي نزله بلسان عربي لتنذر به لأنه لو نزله بلسان أعجمي لتجافوا عنه أصلاً ولقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر
286
الإنذار به.
وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه وتفهّمه قومك ، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفاً بعدة لغات فإذا كلم بلغته التي نشأ عليها لم يكن قلبه ناظراً إلا إلى معاني الكلام ، وإن كلم بغيرها كان نظره أولاً في ألفاظها ثم في معانيها ، وإن كان ماهراً بمعرفتها فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين.
(3/159)
جزء : 3 رقم الصفحة : 286
{ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَفِى زُبُرِ الاوَّلِينَ } [الشعراء : 196] يعني ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية.
وقيل : إن معانيه فيها ، وفيه دليل على أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية فيكون دليلاً على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة.
{ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً } ولم تكن لهم آيةٌ شامي ، جعلت آية اسم " كان " وخبره { أَن يَعْلَمَهُ } [الشعراء : 197] أي القرآن لوجود ذكره في التوراة.
وقيل : في يكن ضمير القصة وآية خبر مقدم والمبتدأ أن يعلمه والجملة خبر " كان " .
وقيل : " كان " تامة والفاعل آية وأن يعلمه بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي أولم تحصل لهم آية.
وغيره يكن بالتذكير وآية بالنصب على أنها خبره وأن يعلمه هو الاسم وتقديره : أولم يكن لهم علم علماء بني إسرائيل { مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } كعبد الله بن سلام وغيره قال الله تعالى : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [القصص : 53] وخط في المصحف علماؤا بواو قبل الألف { وَلَوْ نَزَّلْنَـاهُ عَلَى بَعْضِ الاعْجَمِينَ } [الشعراء : 198] جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وكذلك الأعجمي إلا أن فيه لزيادة يا ء النسبة زيادة تأكيد ، ولما كان من يتكلم بلسان غير لسانهم لا يفقهون كلامه قالوا له أعجم وأعجمي شبهوه بمن لا يفصح ولا
287
يبين ، والعجمي الذي من جنس العجم أفصح أولم يفصح.
وقرأ الحسن الأعجميين وقيل : الأعجمين تخفيف الأعجميين كما قالوا الأشعرون أي الأشعريون بحذف يا ء النسبة ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع السلامة لأن مؤنثه عجماء
جزء : 3 رقم الصفحة : 287
{ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 199] والمعنى أنا أنزلنا القرآن على رجل عربي مبين ففهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجز ، وانضم إلى ذلك اتفاق علماء أهل الكتاب قبله على أن البشارة بإنزاله وصفته في كتبهم وقد تضمنت معانيه وقصصه وصح بذلك أنها من عند الله وليست بأساطير كما زعموا ، فلم يؤمنوا به وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى وقالوا هذا من افتراء محمد عليه الصلاة والسلام ، ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلاً أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا معجزاً لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذراً ولسموه سحراً.
ثم قال { كَذَالِكَ سَلَكْنَـاهُ } [الشعراء : 200] أي أدخلنا التكذيب أو الكفر وهو مدلول قوله ما كانوا به مؤمنين { فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } [الحجر : 12] الكافرين الذين علمنا منهم اختيار الكفر والإصرار عليه يعني مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها فكيفما فعل بهم وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الكفر به والتكذيب له كما قال : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الأنعام : 7].
وهو حجتنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد خيرها وشرها.
وموقع قوله { لا يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الشعراء : 201] بالقرآن من قوله سلكناه في قلوب المجرمين موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثبات كونه مكذباً مجحوداً في قلوبهم ، فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالاً أي سلكناه فيها غير مؤمن به { حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ } [يونس : 88] المراد به
288
معاينة العذاب عند الموت ويكون ذلك إيمان يأس فلا ينفعهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 288
{ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } [الشعراء : 202] فجأة { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] بإتيانه { فَيَقُولُوا } وفيأتيهم معطوفان على يروا { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } [الشعراء : 203] يسألون النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجابون إليها { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [الشعراء : 204] توبيخ لهم وإنكار عليهم قولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الانفال : 32] .
ونحو ذلك.
(3/160)
{ أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـاهُمْ سِنِينَ } [الشعراء : 205] قيل : هي سنو مدة الدنيا { ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ } [الشعراء : 206] من العذاب { مَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ } [الشعراء : 207] به في تلك السنين.
والمعنى أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن فقال الله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون أشراً وبطراً واستهزاء واتكالاً على الأمل الطويل ، ثم قال : هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم؟.
قال يحيى بن معاذ : أشد الناس غفلة من اغتر بحياته والتذ بمراداته وسكن إلى مألوفاته والله تعالى يقول : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ، وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال : عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية.
فقال ميمون : قد وعظت فأبلغت.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقرؤها عند جلوسه للحكم { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ } [الشعراء : 208] رسل ينذرونهم.
ولم تدخل الواو
289
على الجملة بعد إلا كما في : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر : 4] لأن الأصل عدم الواو إذ الجملة صفة لـ قرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف
جزء : 3 رقم الصفحة : 289
{ ذِكْرَى } منصوبة بمعنى تذكرة لأن أنذر وأذكر متقاربان فكأنه قيل : مذكرون تذكرة.
أو حال من الضمير في { مُنذِرُونَ } أي بنذرونهم ذوي تذكرة أو مفعول له أي ينذرون لأجل التذكرة والموعظة ، أو مرفوعة على أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية ، أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى ، أو تكون ذكرى متعلقة بـ أهلكنا مفعولاً له ، والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية ظالمين إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم { وَمَا كُنَّا ظَـالِمِينَ } [الشعراء : 209] فنهلك قوماً غير ظالمين.
ولما قال المشركون : إن الشياطين تلقى القرآن على محمد أنزل { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ } [الشعراء : 210] أي القرآن { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَـاطِينُ * وَمَا يَنابَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } وما يتسهل لهم ولا يقدرون عليه.
{ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء : 212] لممنوعون بالشهب { فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء : 213] مورد النهي لغيره على التعريض والتحريك له زيادة الإخلاص { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقْرَبِينَ } [الشعراء : 214] خصهم لنفي التهمة إذ الإنسان يساهل قرابته ، أو ليعلموا أنه لا يغني عنهم من الله شيئاً وأن النجاة في اتباعه دون قربة.
ولما نزلت صعد الصفا ونادى الأقرب فالأقرب وقال : " يا بني عبد المطلب يا بني
290
هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله إني لا أملك لكم من الله شيئاً "
جزء : 3 رقم الصفحة : 290
{ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ } [الحجر : 88] وألن جانبك وتواضع ، وأصله أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه ، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب { لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 215] من عشيرتك وغيرهم { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [الشعراء : 216] يعني أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك فاخفض جناحك لهم ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره { وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [الشعراء : 217] على الذي قهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم ، والتوكل : تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره ، وقالوا : المتوكل أن تقبل بالكلية على ربك وتعرض بالكلية عما دونه فإن حاجتك إليه في الدارين.
فتوكل مدني وشامي عطف على فقل أو فلا تدع.
(3/161)
{ الَّذِى يَرَاـاكَ حِينَ تَقُومُ } [الشعراء : 218] متهجداً { وَتَقَلُّبَكَ } أي ويرى تقلبك { فِى السَّـاجِدِينَ } [الشعراء : 219] في المصلين.
أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو من أسباب الرحمة وهو ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، وليعلم أنهم كيف يعبدون الله ويعملون لآخرتهم.
وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة.
وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم.
وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة : هل تجد الصلاة بالجماعة في القرآن؟ فقال : لا يحضرني فتلا له هذه الآية.
291
جزء : 3 رقم الصفحة : 291
{ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لما تقوله { الْعَلِيمُ } بما تنويه وتعلمه ، هوّن عليه معاناة مشاق العبادات حيث أخبر برؤيته له إذ لا مشقة على من يعلم أنه يعمل بمرأى مولاه وهو كقولك.
:
بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي
نزل جواباً لقول المشركين إن الشياطين تلقى السمع على محمد صلى الله عليه وسلّم { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } [المائدة : 60] أي هل أخبركم أيها المشركون { عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـاطِينُ } [الشعراء : 221] ثم نبأ فقال { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الشعراء : 222] مرتكب للاثام وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح وطليحة ومسيلمة ، ومحمد صلى الله عليه وسلّم يشتم الأفاكين ويذمهم فكيف تنزل الشياطين عليه { يُلْقُونَ السَّمْعَ } [الشعراء : 223] هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يستمعون إلى الملأ الأعلى فيحفظون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون به إلى أوليائهم.
ويلقون حال ، أي تنزل ملقين السمع ، أو صفة لـ كل أفاك لأنه في معنى الجمع فيكون في محل الجزاء ، أو استئناف فلا يكون له محل كأنه قيل : لم تنزل على الأفاكين؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت { وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ } [الشعراء : 223] فيما يوحون به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا.
وقيل : يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة.
وقيل : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين ويتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس وأكثر الأفاعين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم ، والأفاك الذي يكثر الإفك ، ولا يدل ذلك على أنهم لا ينطقون إلا بالإفك فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني وأكثرهم
292
مفتر عليه ، وعن الحسن : وكلهم.
وإنما فرق بين وإنه لتنزيل رب العالمين ، وما تنزلت به الشياطين ، وهل أنبئكم على من تنزل الشياطين ، وهن أخوات ، لأنه إذا فرق بينهن بآيات ليست منهن ثم رجع إليهن مرة بعد مرة دل ذلك على شدة العناية بهن كما إذا حدثت حديثاً وفي صدرك اهتمام بشيء فتعيد ذكره ولا تنفك عن الرجوع إليه.
ونزل فيمن كان يقول الشعر ويقول نحن نقول كما يقول محمد صلى الله عليه وسلّم واتبعهم غواة من قومهم يستمعون أشعارهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 292
{ وَالشُّعَرَآءُ } مبتدأ خبره { يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُانَ } [الشعراء : 224] أي لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب ومدح من لا يستحق المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون أي السفهاء أو الراوون أو الشياطين أو المشركون.
قال الزجاج : إذا مدح أو هجا شاعر بما لا يكون وأحب ذلك قوم وتابعوه فهم الغاوون يتبعهم نافع { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ } [الشعراء : 225] من الكلام { يَهِيمُونَ } خبر " أن " أي في كل فن من الكذب يتحدثون أو في كل لغو وباطل يخوضون ، والهائم الذاهب على وجهه لا مقصد له وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأبخلهم على حاتم.
عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :
فبتن بجانبيّ مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال : وجب عليك الحد.
فقال : قد درأ الله عني الحد بقوله
293
جزء : 3 رقم الصفحة : 293
{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } [الشعراء : 226-71] حيث وصفهم بالكذب والخلف في الوعد.
(3/162)
ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين بقوله { إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [ص : 24] كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير وكعب بن مالك رضي الله عنهم { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } [الشعراء : 227] أي كان ذكر الله وتلاوة القرآن أغلب عليهم من الشعر وإذ قالوا شعراً قالوه في توحيد الله تعالى والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والأدب ومدح رسول الله والصحابة وصلحاء الأمة ونحو ذلك مما ليس فيه ذنب.
وقال أبو يزيد : الذكر الكثير ليس بالعدد والغفلة لأنه بالحضور { وَانتَصَرُوا } وهجوا { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } [غافر : 8-165] هجوا أي ردوا هجاء من هجا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين ، وأحق الخلق بالهجاء من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهجاه.
وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له " اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل " .
وكان يقول لحسان " قل وروح القدس معك " .
ختم السورة بما يقطع أكباد المتدبرين وهو قوله { وَسَيَعْلَمُ } وما فيه من الوعيد البليغ وقوله { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] وإطلاقه ، وقوله { أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء : 227] وإبهامه ، وقد تلاها أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنه حين عهد إليه وكان السلف يتواعظون بها.
قال ابن عطاء : وسيعلم المعرض عنا ما الذي فاته منا.
وأيّ منصوب بـ ينقلبون على المصدر لا بـ يعلم لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها أي ينقلبون أيّ انقلاب والله اعلم.
294
سورة النمل
(مكية وهي ثلاث وتسعون آية)
{ طسا تِلْكَ ءَايَـاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } [النمل : 1] أي وآيات كتاب مبين وتلك إشارة إلى آيات السورة ، والكتاب المبين : اللوح ، وآياته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبين للناظرين فيه آياته ، أو القرآن وآياته إنه يبين ما أودع فيه من العلوم والحكم وعلى هذا عطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى نحو هذا فعل السخي والجود.
ونكر الكتاب ليكون أفخم له.
وقيل : إنما نكر الكتاب هنا وعرفه في " الحجر " وعرف القرآن هنا ونكره ثمّ ، لأن القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد عليه الصلاة والسلام ووصفان له لأنه يقرأ ويكتب ، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم ، وحيث جاء بلفظ التنكير فهو الوصف { هُدًى وَبُشْرَى } [النمل : 2] في محل النصب على الحال من آيات أي هداية وبشارة فالعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، أو الجر على أنه بدل من كتاب أو صفة له أو الرفع على هي هدى وبشرى ، أو على البدل من آيات أو على أن يكون خبراً بعد
295
خبر لتلك أي تلك آيات وهادية من الضلالة ومبشرة بالجنة.
وقيل : هدى لجميع الخلق وبشرى { لِلْمُؤْمِنِينَ } خاصة
جزء : 3 رقم الصفحة : 295
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ } [الانفال : 3] يديمون على فرائضها وسننها { وَيُؤْتُونَ الزكاة } [الأعراف : 156] يؤدون زكاة أموالهم { وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [النمل : 3] من جملة صلة الموصول.
ويحتمل أن تتم الصلة عنده وهو استئناف كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، ويدل عليه أنه عقد جملة اسمية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ } [النمل : 4] بخلق الشهوة حتى رأوا ذلك حسناً كما قال : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا } [فاطر : 8].(3/163)
{ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [النمل : 4] يترددون في ضلالتهم كما يكون حال الضال عن الطريق { أؤلئك الَّذِينَ لَهُمْ سُواءُ الْعَذَابِ } [النمل : 5] القتل والأسر يوم بدر بما كان منهم من سوء الأعمال { وَهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ } [النمل : 5] أشد الناس خسراناً لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ } [النمل : 6] لتؤتاه وتلقنه { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [النمل : 6] من عند أيّ حكيم وأيّ عليم وهذا معنى تنكيرهما ، وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 296
إذ منصوب بـ " اذكر " كأنه قال : على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى عليه السلام { قَالَ مُوسَى لاهْلِهِ } [النمل : 7] لزوجته ومن معه عند مسيره من مدين إلى
296
مصر { إِنِّى ءَانَسْتُ } [النمل : 7] أبصرت { نَارًا سَـاَاتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ } [النمل : 7] عن حال الطريق لأنه كان قد ضله { أَوْ ءَاتِيكُم بِشِهَابٍ } [النمل : 7] بالتنوين : كوفي أي شعلة مضيئة { قَبَسٍ } نار مقبوسة بدل أو صفة.
وغيرهم بشهاب قبس على الإضافة لأنه يكون قبساً وغير قبس.
ولا تدافع بين قوله سآتيكم هنا ولعلي آتيكم في القصص مع أن أحدهما ترجٍ والآخر تيقن ، لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة ، ومجيئه بسين التسويف عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة وبأو لأنه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منها إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ولم يدر أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين وهما عز الدنيا والآخرة ، واختلاف الألفاظ في هاتين السورتين والقصة واحدة دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى ، وجواز النكاح بغير لفظ التزوج.
{ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [النمل : 7] تستدفئون بالنار من البرد الذي أصابكم ، والطاء بدل من تاء افتعل لأجل الصاد
جزء : 3 رقم الصفحة : 296
{ فَلَمَّا جَآءَهَا } [النمل : 8] أي النار التي أبصرها { نُودِىَ } موسى { أَن بُورِكَ } [النمل : 8] مخففة من الثقيلة وتقديره ونودي بأنه بورك والضمير ضمير الشأن ، وجاز ذلك من غير عوض وإن منعه الزمخشري لأن قوله بورك دعاء والدعاء يخالف غيره في أحكام كثيرة ، أو مفسرة لأن في النداء معنى القول أي قيل له بورك أي قدس أو جعل فيه البركة والخير { مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل : 8] أي بورك من في مكان النار وهم الملائكة ومن حول مكانها أي موسى لحدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه { وَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [النمل : 8] هو من جملة ما نودي فقد نزه ذاته عما لا يليق به من التشبيه وغيره.
{ يَـامُوسَى إِنَّهُا أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [النمل : 9] الضمير في إنه للشأن والشأن أنا الله مبتدأ وخبره والعزيز الحكيم صفتان للخبر ، أو يرجع إلى ما دل عليه ما قبله أي إن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان للمبين ، وهو تمهيد لما أراد أن يظهر على يده من المعجزات.
297
جزء : 3 رقم الصفحة : 297
(3/164)
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ } [النمل : 10] لتعلم معجزتك فتأنس بها وهو عطف على بورك لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لـ نودي والمعنى قيل له بورك من في النار وقيل له ألق عصاك ، ويدل عليه ما ذكر في سورة القصص وأن ألق عصاك بعد قوله { أَن يَـاإِبْرَاهِيمُ } على تكرير حرف التفسير { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ } [النمل : 10] تتحرك حال من الهاء في { رَءَاهَا } { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [النمل : 10] حية صغيرة حال من الضمير في تهتز { وَلَّى } موسى { مُدْبِرًا } أدبر عنها وجعلها تلي ظهره خوفاً من وثوب الحية عليه { وَلَمْ يُعَقِّبْ } [القصص : 31] ولم يلتفت أولم يرجع.
يقال قد عقب فلان إذا رجع يقاتل بعد أن ولى فنودي { يَـامُوسَى لا تَخَفْ إِنِّى لا يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ } [النمل : 10] أي لا يخاف عندي المرسلون حال خطابي إياهم أولاً يخاف لدي المرسلون من غيري { إِلا مَن ظَلَمَ } [النمل : 11] أي لكن من ظلم من غيرهم لأن الأنبياء لا يظلمون ، أو لكن من ظلم منهم من ذل من المرسلين فجاء غير ما أذنت له مما يجوز على الأنبياء كما فرط من آدم ويونس وداود وسليمان عليهم السلام { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنَا } [النمل : 11] أي أتبع توبة { بَعْدَ سُواءٍ } [النمل : 11] زلة { فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النمل : 11] أقبل توبته وأغفر زلته وأرحمه فأحقق أمنيته وكأنه تعريض بما قال موسى حين قتل القبطي : { رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُا } [القصص : 16].
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
{ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } [النمل : 12] جيب قميصك وأخرجها { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [طه : 22] نيرة تغلب نور الشمس { مِنْ غَيْرِ سُواءٍ } [طه : 22] برص وبيضاء ومن غير سوء حالان { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى } [النمل : 12] كلام مستأنف و " في " يتعلق بمحذوف أي اذهب في تسع آيات أو وألق عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات { إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ } [النمل : 12] " إلى " يتعلق بمحذوف أي مرسلاً إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ } [النمل : 12] خارجين عن أمر الله كافرين
298
جزء : 3 رقم الصفحة : 298
{ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَـاتُنَا } [النمل : 13] أي معجزاتنا { مُبْصِرَةً } حال أي ظاهرة بينة جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لملابستهم إياها بالنظر والتفكر فيها ، أو جعلت كأنها تبصر فتهدي لأن الأعمى لا يقدر على الاهتداء فضلاً أن يهدي غيره ومنه قولهم " كلمة عيناء وعوراء " لأن الكلمة الحسنة ترشد والسيئة تغوي { قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [النمل : 13] ظاهر لمن تأمله وقد قوبل بين المبصرة والمبين { وَجَحَدُوا بِهَا } [النمل : 14] قيل : الجحود لا يكون إلا من علم من الجاحد وهذا ليس بصحيح ، لأن الجحود هو الإنكار وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وقد يكون بعد المعرفة تعنتاً كذا ذكره في شرح التأويلات.
وذكر في الديوان يقال جحد حقه وبحقه بمعنى.
والواو في { وَاسْتَيْقَنَتْهَآ } للحال و " قد " بعدها مضمرة والاستيقان أبلغ من الإيقان { أَنفُسُهُمْ } أي جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم { ظُلْمًا } حال من الضمير في وجحدوا وأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات من عند الله ثم سماها سحراً بيناً { وَعُلُوًّا } ترفعاً عن الإيمان بما جاء به موسى { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف : 103] وهو الإغراق هنا والإحراق ثمة.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا } [الأنبياء : 51] أعطينا { دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ عِلْمًا } [النمل : 15] طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً والمراد علم الدين والحكم { وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } [النمل : 15] والآيات حجة لنا على المعتزلة في ترك الأصلح وهنا محذوف ليصح عطف الواو عليه ولولا تقدير المحذوف لكان الوجه الفاء كقولك " أعطيته فشكر " ، وتقديره : آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه وقالا الحمد لله الذي فضلنا ، والكثير المفضل عليه من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما ، وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير.
وفي الآية دليل على شرف العلم وتقدم
299
(3/165)
حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجلّ النعم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباده ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة لأنهم القوام بما بعثوا من أجله ، وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة أن يحمدوا الله على ما أوتوه ، وإن يعتقد العالم أنه إن فضل على كثير فقد فضل عليهم مثلهم ، وما أحسن قول عمر رضي الله عنه : كل الناس أفقه من عمر رضي الله عنه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 299
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَـانُ دَاوُادَ } ورث منه النبوة والملك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر قالوا : أوتي النبوة مثل أبيه فكأنه ورثه وإلا فالنبوة لا تورث { وَقَالَ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ } تشهيراً لنعمة الله تعالى واعترافاً بمكانها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير.
والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وكان سليمان عليه السلام يفهم منها كما يفهم بعضها من بعض.
روي أنه صاحب فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا ، وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان ، وصاح هدهد فقال : يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، وصاح خطاف فقال : يقول : قدموا خيراً تجدوه.
وصاحت رحمة فقال : تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه.
وصاح قمري فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى وقال : الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله والقطاة تقول من سكت سلم والديك يقول اذكروا الله ياغافلون والنسر يقول يابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب يقول في البعد من الناس أنس.
والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ } [النمل : 16] المراد به كثرة ما أوتي كما تقول فلان يعلم كل شيء ومثله وأوتيت من كل
300
شيء { إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } [النمل : 16] قوله وارد على سبيل الشكر كقوله عليه السلام : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أي أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً ، والنون في علمنا وأوتينا نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً فكلم أهل طاعته على الحال التي كان عليها وليس التكبر من لوازم ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 300
{ وَحُشِرَ } وجمع { لِسُلَيْمَـانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالانسِ وَالطَّيْرِ } [النمل : 17] روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وابريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب وفضة فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه حر الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر.
ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك أن لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحراث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً فألقته الريح في أذنه فنزل ومشي إلى الحراث وقال : إني جئت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي ال داود { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل : 17] يحبس أولهم على آخرهم أي يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم التوالي ليكونوا مجتمعين وذلك للكثرة العظيمة.
والوزع : المنع ، ومنه قول عثمان رضي الله عنه : " ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن " .
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
{ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ } [النمل : 18] أي ساروا حتى إذا بلغوا وادي النمل وهو
301
(3/166)
واد بالشام كثير النمل.
وعدي بـ " على " لأن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء { قَالَتْ نَمْلَةٌ } [النمل : 18] عرجاء تسمى طاخية أو منذرة.
وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم فسأله أبو حنيفة رضي الله عنه وهو شاب عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : كانت أنثى.
فقيل له : بماذا عرفت؟ فقال : بقوله قالت نملة ولو كانت ذكراً لقال قال نملة ، وذلك أن النملة مثل الحمامة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي { يَـا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَـاكِنَكُمْ } [النمل : 18] ولم يقل " ادخلن " لأنه لما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل أجرى خطابهن مجرى خطابهم { لا يَحْطِمَنَّكُمْ } [النمل : 18] لا يكسرنكم ، والحطم الكسر وهو نهي مستأنف وهو في الظاهر نهي لسليمان عن الحطم وفي الحقيقة نهي لهن عن البروز والوقوف على طريقة " لا أرينك هاهنا " أي لا تحضر هذا الموضع.
وقيل : هو جواب الأمر وهو ضعيف يدفعه نون التوكيد لأنه من ضرورات الشعر { سُلَيْمَـانُ وَجُنُودُهُ } [النمل : 18] قيل : أراد لا يحطمنكم جنود سليمان فجاء بما هو أبلغ { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] لا يعلمون بمكانكم أي لو شعروا لم يفعلوا ، قالت ذلك على وجه العذر واصفة سليمان وجنوده بالعدل فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال
جزء : 3 رقم الصفحة : 301
{ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا } [النمل : 19] متعجباً من حذرها واهتدائها لمصالحها ونصيحتها للنمل ، أو فرحاً لظهور عدله.
وضاحكاً حال مؤكدة لأن تبسم بمعنى ضحك وأكثر ضحك الأنبياء التبسم كذا قاله الزجاج { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى } [النمل : 19] ألهمني وحقيقته كفني عن الأشياء إلا عن شكر نعمتك { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } [النمل : 19] من النبوة والملك والعلم { وَعَلَى وَالِدَىَّ } [النمل : 19] لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد { وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ } [النمل : 19] في بقية عمري { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ } [النمل : 19] وأدخلني الجنة برحمتك لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة أحد إلا برحتمه كما جاء في الحديث { فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ } [النمل : 19] أي في زمرة أنبيائك المرسلين أو مع عبادك الصالحين.
روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت
302
لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 302
(3/167)
{ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ } [النمل : 20] مكي وعلي وعاصم ، وغيرهم بسكون الياء.
والتفقد صلب ما غاب عنك { لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآ ـاِبِينَ } [النمل : 20] " أم " بمعنى بل والمعنى أنه تعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد فقال : مالي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : بل هو غائب.
وذكر أن سليمان عليه السلام لما حج خرج إلى اليمن فوافى صنعاء وقت الزوال فنزل ليصلي فلم يجد الماء وكان الهدهد قنّاقنه وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتستخرج الشياطين الماء فتفقده لذلك.
وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال ، فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : عليّ به ، فارتفع فنظر فإذا هو مقبل فقصده فناشده الله فتركه ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض وقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه { لاعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } [النمل : 21] بنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو بالتفريق بينه وبين إلفه ، أو بإلزامه خدمة أقرآنه ، أو بالحبس مع أضداده.
وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد.
أو بإبداعه القفص أو بطرحه بين يدي النمل ليأكله.
وحل له تعذيب الهدهد لما رأى فيه من المصلحة كما حل ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع ، وإذا سخر له الطير لم يتم التسخير إلا بالتأديب والسياسة { أَوْ لا ذْبَحَنَّهُا أَوْ لَيَأْتِيَنِّى } [النمل : 21] بالنون الثقيلة ليشاكل قوله لأعذبنه وحذف نون العماد للتخفيف.
{ لَيَأْتِيَنِّى } بنونين : مكي الأول للتأكيد والثاني للعماد { بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [إبراهيم : 10] بحجة له فيها عذر ظاهر على غيبته.
والإشكال أنه حلف على أحد ثلاثة أشياء : اثنان منها فعله ولا مقال فيه ، والثالث فعل الهدهد وهو مشكل لأنه من أين درى أنه يأتي بسلطان حتى قال : والله ليأتيني بسلطان؟ وجوابه أن معنى كلامه ليكونن أحد الأمور يعني إن كان
303
الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا ادعاء دراية
جزء : 3 رقم الصفحة : 303
{ فَمَكَثَ } الهدهد بعد تفقد سليمان إياه ، وبضم الكاف غيره عاصم وسهل ويعقوب ، وهما لغتان.
{ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ق : 31] أي مكثاً غير طويل أو غير زمان بعيد كقوله " عن قريب " ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان.
فلما رجع سأله عما لقي في غيبته { فَقَالَ أَحَطتُ } [النمل : 22] علماً شيئاً من جميع جهاته { بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [النمل : 22] ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة ابتلاء له في علمه ، وفيه دليل بطلان قول الرافضة أن الإمام لا يخفي عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإ } [النمل : 22] غير منصرف.
أبو عمرو جعله اسماً للقبيلة أو المدينة وغيره بالتنوين جعله اسماً للحي أو الأب الأكبر { بِنَبَإٍ يَقِينٍ } [النمل : 22] النبأ الخبر الذي له شأن ، وقوله من سبأ بنبإٍ من محاسن الكلام ويسمى البديع وقد حسن وبدع لفظاً ومعنى هاهنا ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر لكان المعنى صحيحاً وهو كما جاء أصح لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
{ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً } [النمل : 23] هي بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس.
والضمير في { تَمْلِكُهُمْ } راجع إلى سبأ على تأويل القوم أو أهل المدينة { وَأُوتِيَتْ } حال ، و " قد " مقدرة { مِن كُلِّ شَىْءٍ } [النمل : 16] من أسباب الدنيا ما يليق بحالها { وَلَهَا عَرْشٌ } [النمل : 23] سرير عظيم { عَظِيمٌ } كبير.
قيل : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانون ذراعاً ، وكان من ذهب وفضة وكان مرصعاً بأنواع الجواهر وقوائمه من يا قوت أحمر وأخضر ودر وزمرد ، وعليه سبعة أبواب على كل بيت باب مغلق.
واستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم عرشها كتلك ، وقد أخفى الله تعالى على سليمان ذلك لمصلحة رآها كما أخفى مكان يوسف على يعقوب عليهما السلام
304
(3/168)
جزء : 3 رقم الصفحة : 304
{ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } [النمل : 24] أي سبيل التوحيد { فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ } [النمل : 24] إلى الحق ولا يبعد من الهدهد التهدي إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وحرمة السجود للشمس إلهاماً من الله كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها.
{ أَلا يَسْجُدُوا } [النمل : 25] بالتشديد أي فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع " أن " وأدغمت النون في اللام ، ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا.
وبالتخفيف : يزيد وعلي ، وتقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا فـ " ألا " للتنبيه و " يا " حرف نداء ومناداه محذوف ، فمن شدد لم يقف إلا على العرش العظيم ، ومن خفف وقف على فهم لا يهتدون ثم ابتدأ ألا يسجدوا أو وقف على ألايا ثم ابتدأ اسجدوا وسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً بخلاف ما يقوله الزجاج إنه لا يجب السجود مع التشديد ، لأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح للاتي بها أو ذم لتاركها ، وإحدى القراءتين أمر والآخرى ذم للتارك { لِلَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ } [النمل : 25] سمى المخبوء بالمصدر { فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [مريم : 93] قتادة خبء السماء المطر وخبء الأرض النبات { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النمل : 25] وبالتاء فيهما : علي وحفص { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [طه : 8] وصف الهدهد عرش الله بالعظيم تعظيم به بالنسبة إلى سائر ما خلق من السماوات والأرض ، ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك إلى ههنا كلام الهدهد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 305
فلما فرغ من كلامه { قَالَ } سليمان للهدهد { سَنَنظُرُ } من النظر الذي هو التأمل { أَصَدَقْتَ } فيما أخبرت { أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ } [النمل : 27] وهذا أبلغ من " أم كذبت " لأنه إذا كان معروفاً
305
بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة ، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به ، ثم كتب سليمان كتاباً صورته : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من ابتع الهدى ، أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه وقال للهدهد :
جزء : 3 رقم الصفحة : 305
{ اذْهَب بِّكِتَـابِى هَـاذَا فَأَلْقِهْ } [النمل : 28] بسكون الهاء تخفيفاً : أبو عمرو وعاصم وحمزة ، ويختلسها كسراً لتدل الكسرة على الياء المحذوفة : يزيد وقالون ويعقوب ، بإثبات الياء : غيرهم { أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ } [يس : 14] إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله وجدتها وقومها يسجدون للشمس وبني الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } [النمل : 28] تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تراهم ولا يرونك ليكون ما يقولونه بمسمع منك { فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [النمل : 28] ما الذي يردونه من الجواب.
فأخذ الهدهد الكتاب بمنقاره ودخل عليها من كوة فطرح الكتاب على نحرها وهي راقدة وتوارى في الكوة فانتبهت فزعة ، أو أتاها والجنود حواليها فرفرف ساعة وألقى الكتاب في حجرها وكانت قارئة ، فلما رأت الخاتم.
{ قَالَتْ } لقومها خاضعة خائفة { اللَّهِ إِنِّى } وبفتح الياء : مدني { أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَـابٌ كَرِيمٌ } [النمل : 29] حسن مضمونه وما فيه أو مختوم.
قال عليه الصلاة والسلام : " كرم الكتاب ختمه " وقيل : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به ، أو مصدر ببسم الله الرحمن الرحيم أو لأنه من عند ملك كريم.
{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَـانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ } [النمل : 30] هو تبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إلى كتاب كريم قيل لها : ممن هو وما هو؟ فقالت : إنه من سليمان وإنه كيت وكيت.
و " أن " فيه { أَلا تَعْلُوا } [النمل : 31] لا تترفعوا { عَلَى } ولا تتكبروا كما يفعل الملوك
306
(3/169)
مفسرة كقوله { وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } [ص : 6] يعني أي امشوا { وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } [النمل : 31] مؤمنين أو منقادين وكتب الأنبياء مبنية على الإيجاز والاختصار
جزء : 3 رقم الصفحة : 306
{ قَالَتْ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى } أشيروا علي في الأمر الذي نزل بي.
والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتاء في السن ، والمراد هنا بالفتوى الإشارة عليها بما عندهم من الرأي ، وقصدها بالرجوع إلى استشارتهم تطييب أنفسهم ليمالئوها ويقوموا معها { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا } [النمل : 32] فاصلة أو ممضية حكماً { حَتَّى تَشْهَدُونِ } [النمل : 32] بكسر النون ، والفتح لحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب ، وأصله تشهدونني فحذفت النون الأولى للنصب والياء لدلالة الكسرة عليها.
وبالياء في الوصل والوقف : يعقوب أي تحضروني وتشيروني وتشهدوا أنه صواب أي لا أبت الأمر إلا بمحضركم.
وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل واحد على عشرة الاف.
{ قَالُوا } مجيبين لها { نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ } أرادوا بالقوة قوة الأجساد والالات وبالبأس النجدة والبلاء في الحرب { وَالامْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ } [النمل : 33] أي موكول إليك ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال ، أو أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وأنت ذات الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نتبع رأيك.
فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة مالت إلى المصالحة ورتبت الجواب فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه حيث { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً } [النمل : 34] عنوة وقهراً { أَفْسَدُوهَا } خربوها { وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } [النمل : 34] أذلوا أعزتها وأهانوا أشرافها وقتلوا وأسروا فذكرت لهم سوء عاقبة الحرب ثم قالت { وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ } [النمل : 34] أرادت وهذه عادتهم المستمرة التي
307
لا تتغير لأنها كانت في بيت الملك القديم فسمعت نحو ذلك ورأت.
ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد.
وقيل : هو تصديق من الله لقولها ، واحتج الساعي في الأرض بالفساد بهذه الآية.
ومن استباح حراماً فقد كفر ، وإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين
جزء : 3 رقم الصفحة : 307
{ وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ } [النمل : 35] أي مرسلة رسلاً بهدية.
(3/170)
{ فَنَاظِرَةُ } فمنتظرة { بِمَ } أي بـ " ما " لأن الألف تحذف مع حرف الجر في الاستفهام { يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } [النمل : 35] بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك وحسن مواقع الهدايا عندهم ، فإن كان ملكاً قبلها وانصرف ، وإن كان نبياً ردها ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه.
فبعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب ، وبعثت رسلاً وأمرت عليهم المنذر بن عمرو بدليل قوله تعالى ؛ بم يرجع المرسلون.
وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدايا وقالت فيه : إن كنت نبياً فميز بين الوصفاء والوصائف وأخبر بما في الحق واثقب الدرة ثقباً واسلك في الخرزة خيطاً.
ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته بشاشاً لطيفاً فهو نبي.
فأقبل الهدهد وأخبر سليمان الخبر كله فأمر سليمان الجن فضربوا لبنات الذهب والفضة وفرشوها في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبنات ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك ، فلما دنا القوم ورأوا الدواب تروث على اللبن رموا بما معهم من الهدايا ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم سليمان بوجه طلق فأعطوه كتاب الملكة فنظر فيه وقال : أين الحق؟ فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأخذت دودة بيضاء
308
الخيط بفيها ونفذت فيها ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية وقال للمنذر : ارجع إليهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 308
{ فَلَمَّا جَآءَ } [الحجر : 61] رسولها المنذر بن عمرو { سُلَيْمَـانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [النمل : 36] بنونين وإثبات الياء في الوصل والوقف : مكي وسهل ، وافقهما مدني وأبو عمرو في الوصل.
حمزة ويعقوب في الحالين ، وغيرهم بنونين بلا يا ء فيهما ، والخطاب للرسل { بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَـاـانِاَ اللَّهُ } [النمل : 36] من النبوة والملك والنعمة.
وبفتح الباء : مدني وأبو عمرو وحفص { خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَـاـاكُم } [النمل : 36] من زخارف الدنيا { بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } [النمل : 36] الهدية اسم المهدي كما أن العطية اسم المعطي فتضاف إلى المهدي والمهدى له تقول " هذه هدية فلان " تريد هي التي أهداها أو أهديت إليه ، والمعنى أن ما عندي خير مما عندكم وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع ، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه فكيف يرضى مثلي بأن يمد بمال بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فلذلك تفرحون بما تزادون ويهدى إليكم لأن ذلك مبلغ همتكم ، وحالي خلاف حالكم وما أرضي منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية.
والفرق بين قولك " أتمدونني بمال وأنا أغنى منكم " وبين أن تقوله بالفاء أني إذا قلته بالواو جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي في الغنى وهو مع ذلك يمدني بمال ، وإذا قلته بالفاء فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت فإني غني عنه ، وعليه ورد فما آتاني الله ووجه الإضراب أنه لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح إلا أن يهدى إليهم حظ من الدنيا التي يعلمون غيرها.
{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } [النمل : 37] خطاب للرسول أو الهدهد محملاً كتاباً آخر إليهم ائت بلقيس وقومها { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا } [النمل : 37] لا طاقة لهم بها وحقيقة القبل المقاومة
309
(3/171)
والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ } [النمل : 37] من سبأ { أَذِلَّةً وَهُمْ صَـاغِرُونَ } [النمل : 37] الذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد.
فلما رجع إليها رسولها بالهدايا وقص عليها القصة قالت : هو نبي وما لنا به طاقة ثم جعلت عرشها في آخر سبعة أبيات وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً يحفظونه ، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه ، وشخصت إليه في إثني عشر ألف.
قيل : تحت كل قيل ألوف فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 309
{ قَالَ يَـا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ } أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده مع إطلاعها على عظم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان ، أو أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها وهذا بعيد عند أهل التحقيق ، أو أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختباراً لعقلها { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ } [النمل : 39] وهو الخبيث المارد واسمه ذكوان { أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } [النمل : 39] مجلس حكمك وقضائك { وَإِنِّى عَلَيْهِ } [النمل : 39] على حمله { لَقَوِىٌّ أَمِينٌ } [النمل : 39] آتي به كما هو لا آخذ منه شيئاً ولا أبدله.
فقال سليمان عليه السلام : أريد أعجل من هذا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 310
{ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَـابِ } [النمل : 40] أي ملك بيده كتاب المقادير أرسله الله تعالى عند قول العفريت ، أو جبريل عليه السلام ، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ ، أو الخضر أو اصف بن برخيا كاتب سليمان وهو الأصح وعليه الجمهور ، وكان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وهو : يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أو يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً " واحداً " لا إله إلا أنت.
وقيل : كان له علم بمجاري الغيوب
310
إلهاماً { أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ } [النمل : 39] بالعرش و اتيك في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً أو اسم فاعل.
ومعنى قوله { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [النمل : 40] أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك.
ويروى أن اصف قال لسليمان عليه السلام : مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد عينيه فنظر نحو اليمن فدعا اصف فغار العرش في مكانه ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه { فَلَمَّا رَءَاهُ } [النمل : 40] أي العرش { مُسْتَقِرًّا عِندَهُ } [النمل : 40] ثابتاً لديه غير مضطرب { قَالَ هَـاذَا } [الأنعام : 76] أي حصول مرادي وهو حضور العرش في مدة ارتداد الطرف { مِن فَضْلِ رَبِّى } [النمل : 40] عليّ وإحسانه إلي بلا استحقاق مني بل هو فضل خال من العوض صافٍ عن الغرض { قَالَ الَّذِى } [النمل : 40] ليمتحنني أأشكر إنعامه { أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [النمل : 40] لأنه يحط به عنها عبء الواجب ويصونها عن سمة الكفران ويستجلب به المزيد وترتبط به النعمة ، فالشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة.
وفي كلام بعضهم : إن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار.
واعلم أن سبوغ ستر الله تعالى متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً أي لم تشكر لله نعمة { وَمَن كَفَرَ } [النور : 55] بترك الشكر على النعمة { فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ } [النمل : 40] عن الشكر { كَرِيمٌ } بالإنعام على من يكفر نعمته ، قال الواسطي : ما كان منا من الشكر فهو لنا ، وما كان منه من النعمة فهو إلينا وله المنة والفضل علينا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 310
(3/172)
{ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } [النمل : 41] غيروا أي اجعلوا مقدمة مؤخره وأعلاه أسفله { نَنظُرْ } بالجزم على الجواب { أَتَهْتَدِى } إلى معرفة عرشها أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه { أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْ } بلقيس { قِيلَ أَهَـاكَذَا عَرْشُكِ } [النمل : 42] " ها " للتنبيه والكاف للتشبيه و " ذا " اسم إشارة ولم يقل " أهذا عرشك " ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } [النمل : 42] فأجابت أحسن جواب فلم تقل " هو هو " و " لا ليس به " وذلك من رجاحة عقلها حيث لم تقطع في المحتمل للامرين ، أو لما شبهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها { كَأَنَّهُ هُوَ } [النمل : 42] مع أنها علمت أنه عرشها
311
{ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا } [النمل : 42] من كلام بلقيس أي وأوتينا العلم بقدرة الله تعالى وبصحة نبوتك بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبل هذه المعجزة أي إحضار العرش أو من قبل هذه الحالة { وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } [النمل : 42] منقادين لك مطيعين لأمرك ، أو من كلام سليمان وملئه عطفوا على كلامها قولهم : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ، أو أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين موحدين خاضعين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 311
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ } [النمل : 43] متصل بكلام سليمان أي وصدها عن العلم بما علمناه أو عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين أظهر الكفرة.
ثم بين نشأها بين الكفرة بقوله { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَـافِرِينَ } [النمل : 43] أو كلام مبتدأ أي قال الله تعالى وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل ، أو صدها الله ، أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل.
{ قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ } [النمل : 44] أي القصر أو صحن الدار { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً } [النمل : 44] ماء عظيماً { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } [النمل : 44] سأقيها بالهمزة : مكي.
روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس.
وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحقيقاً لنبوته.
وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية.
وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد يجمع فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار ، فاختبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليعرف ساقها ورجلها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء فصرف بصره { قَالَ } لها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ } [النمل : 44] مملس مستو ومنه الأمرد { مِّن قَوَارِيَرَ } [النمل : 44] من الزجاج.
وأراد سليمان تزوجها فكره شعرها فعملت لها الشياطين النورة فأزالته فنكحها سليمان وأحبها وأقرها على
312
ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له { قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } [النمل : 44] بعبادة الشمس { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [النمل : 44] قال المحققون : لا يحتمل أن يحتال سليمان لينظر إلى ساقيها وهي أجنبية فلا يصح القول بمثله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 312
(3/173)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ } [النمل : 45] في النسب { صَـالِحًا } بدل { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ } [المائدة : 117] بكسر النون في الوصل : عاصم وحمزة وبصري ، وبضم النون : غيرهم اتباعاً للباء ، والمعنى بأن اعبدوا الله وحدوه { فَإِذَا } للمفاجأة { هُمُ } مبتدأ { فَرِيقَانِ } خبر { يَخْتَصِمُونَ } صفة وهي العامل في { إِذَآ } والمعنى فإذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون فيقول كل فريق الحق معي وهو مبين في قوله : { قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَـافِرُونَ } .
وقال الفريق الكافر : { وَقَالُوا يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } { قَالَ يَـاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ } بالعذاب الذي توعدون { قَبْلَ الْحَسَنَةِ } [النمل : 46] قبل التوبة { لَوْلا } هلا { تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ } [النمل : 46] تطلبون المغفرة من كفركم بالتوبة والإيمان قبل نزول العذاب بكم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران : 132] بالإجابة { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ } [النمل : 47] تشاءمنا بك لأنهم قحطوا عند مبعثه لتكذيبهم فنسبوه إلى مجيئه.
والأصل { تَطَيَّرْنَا } وقريء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت الألف لسكون الطاء { وَبِمَن مَّعَكَ } [النمل : 47] من المؤمنين { قَالَ طَـائرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } [النمل : 47] أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله وهو قدره وقسمته ، أو عملكم مكتوب عند الله فإنما نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وفتنة ومنه { وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـائرَهُ فِى عُنُقِهِ } [الإسراء : 13] وأصله أن المسافر إذا مر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن ، وإذا مر بارحاً تشأم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله
313
وقسمته ، أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [النمل : 47] تختبرون أو تعذبون بذنبكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 313
{ وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ } [النمل : 48] مدينة ثمود وهي الحجر { تِسْعَةُ رَهْطٍ } [النمل : 48] هو جمع لا واحد له ولذا جاز تمييز التسعة به فكأنه قيل تسعة أنفس ، وهو من الثلاثة إلى العشرة.
وعن أبي دؤاد : رأسهم قدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا أبناء أشرافهم { يُفْسِدُونَ فِى الارْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [الشعراء : 152] يعني أن شأنهم الإفساد البحت لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح.
وعن الحسن يظلمون الناس ولا يمنعون الظالمين من الظلم.
وعن ابن عطاء : يتبعون معايب الناس ولا يسترون عوراتهم { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ } [النمل : 49] تحالفوا خبر في محل الحال بإضمار " قد " أي قالوا متقاسمين أو أمر أي أمر بعضهم بعضاً بالقسم { لَنُبَيِّتَنَّهُ } لنقتلنه بياتاً أي ليلاً { وَأَهْلَهُ } ولده وتبعه { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ } [النمل : 49] لولي دمه لتبيتنه بالتاء وبضم التاء الثانية ثم لتقولن بالتاء وضم اللام : حمزة وعلي ما حضرنا { شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } [النمل : 49] حفص مهلك أبو بكر وحماد والمفضل من هلك ، فالأول موضع الهلاك ، والثاني المصدر مهلك غيرهم ، من أهلك وهو الإهلاك أو مكان الإهلاك أي لم نتعرض لأهله فكيف تعرضنا له؟ أو ما حضرنا موضع هلاكه فكيف توليناه؟ { وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ } [الأنعام : 146] فيما ذكرنا.
{ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [النمل : 50] مكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله.
ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.
روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثالث ، فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم
314
(3/174)
يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ونجى صالحاً عليه السلام ومن معه
جزء : 3 رقم الصفحة : 314
{ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَـاهُمْ } [النمل : 51] بفتح الألف : كوفي وسهل ، وبكسرها : غيرهم على الاستئناف ، ومن فتحه رفعه على أنه بدل من العاقبة ، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : هي تدميرهم ، أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر " كان " أي فكان عاقبة مكرهم الدمار { وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [النمل : 51] بالصيحة { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ } [النمل : 52] ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط ، أو خالية من الخواء ، وهي حال عمل فيها ما دل عليه تلك { بِمَا ظَلَمُوا } [النمل : 52] بظلمهم { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] فيما فعل بثمود { لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [النمل : 52] قدرتنا فيتعظون { وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النمل : 53] بصالح { وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس : 63] ترك أوامره وكانوا أربعة الاف نجواً مع صالح من العذاب.
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ } [الأعراف : 80] واذكر لوطاً ، وإذ بدل من لوطاً أي واذكر وقت قول لوط { لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ } [الأعراف : 80] أي إتيان الذكور { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [الأنبياء : 3] تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها من بصر القلب ، أو يرى ذلك بعضهم من بعض لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض مجانة وانهماكاً في المعصية ، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم.
ثم صرح فقال { أَاـاِنَّكُمْ } بهمزتين : كوفي وشامي { لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً } [الأعراف : 81] للشهوة { مِّن دُونِ النِّسَآءِ } [الأعراف : 81] أي إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ولا الأنثى للأنثى فهي مضادة لله في حكمته { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [النمل : 55] تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو أريد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.
وقد اجتمع الخطاب والغيبة في قوله بل أنتم قوم تجهلون و بل أنتم قوم تفتنون فغلب الخطاب على الغيبة لأنه أقوى إذ الأصل أن يكون الكلام بين الحاضرين.
315
جزء : 3 رقم الصفحة : 315
{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ } [النمل : 56] أي لوطاً ومتبعيه فخبر " كان " جواب واسمه أن قالوا { مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [الأعراف : 82] يتنزهون عن القاذورات ينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم.
وقيل : هو استهزاء كقوله { إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود : 87] { فَأَنجَيْنَـاهُ } فخلصناه من العذاب الواقع بالقوم { وَأَهْلَهُا إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَـاهَا } [النمل : 57] بالتشديد سوى حماد وأبي بكر أي قدرنا كونها { مِنَ الْغَـابِرِينَ } [الأعراف : 83] من الباقين في العذاب { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا } [الأعراف : 84] حجارة مكتوباً عليها اسم صاحبها { فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } [الشعراء : 173] الذين لم يقبلوا الإنذار.
(3/175)
{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل : 59] أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلّم بتحميده ثم بالصلاة على المصطفين من عبادة توطئه لما يتلوه من الدلالة على وحدانيته وقدرته على كل شيء وهو تعليم لكل متكلم في كل أمر ذي بال بأن يتبرك بهما ويستظهر بمكانهما ، أو هو خطاب للوط عليه السلام بأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } بالياء : بصري وعاصم.
ولا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل شيء ، وإنما هو إلزام لهم وتهكم بحالهم وذلك أنهم اثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم مع العلم بأنه لا خير فيما اثروه وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط ، وليعلموا أن الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال : " بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم " .
316
ثم عدد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 316
{ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [النمل : 60] والفرق بين " أم " و " أم " في أما يشركون و أمن خلق السماوات أن تلك متصلة إذ المعنى أيهما خير ، وهذه منقطعة بمعنى " بل " والهمزة ، ولما قال الله خير أم الآلهة قال بل أمن خلق السماوات والأرض خير ، تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً } [النمل : 60] مطراً { فَأَنابَتْنَا } صرف الكلام عن الغيبة إلى التكلم تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل بذاته وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والأشكال مع حسنها بماء واحد لا يقدر عليه إلا هو وحده { بِهِ } بالماء { حَدَآ ـاِقَ } بساتين ، والحديقة : البستان وعليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة { ذَاتَ } ولم يقل " ذوات " لأن المعنى جماعة حدائق كما تقول النساء ذهبت { بَهْجَةٍ } حسن لأن الناظر يبتهج به.
ثم رشح معنى الاختصاص بقوله { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنابِتُوا شَجَرَهَآ } [النمل : 60] ومعنى الكينونة الانبغاء أراد أنّ تأتّى ذلك محال من غيره { أَءِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ } [النمل : 61] أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [النمل : 60] به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد و بل هم بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
{ أَمَّن جَعَلَ الارْضَ } [النمل : 61] وما بعده بدل من خلق فكان حكمها حكمه { قَرَارًا } دحاها وسواها للاستقرار عليها { وَجَعَلَ خِلَـالَهَآ } [النمل : 61] ظرف أي وسطها وهو المفعول الثاني والأول { أَنْهَـارًا } وبين البحرين مثله { وَجَعَلَ لَهَا } [النمل : 61] للأرض { رَوَاسِىَ } جبالاً تمنعها عن الحركة { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ } [النمل : 61] العذب والمالح { حَاجِزًا } مانعاً أن يختلطا { أَءِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النمل : 61] التوحيد فلا يؤمنون { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل : 62] الاضطرار افتعال من الضرورة وهي الحالة
317
المحوجة إلى اللجأ.
يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر ، والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرع إلى الله ، أو المذنب إذا استغفر ، أو المظلوم إذا دعا ، أو من رفع يديه ولم ير لنفسه حسنة غير التوحيد وهو منه على خطر { وَيَكْشِفُ السُّواءَ } [النمل : 62] الضر أو الجور { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الارْضِ } [النمل : 62] أي فيها وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن ، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط { أَءِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل : 62] وبالياء : أبو عمرو ، وبالتخفيف : حمزة وعلي وحفص.
و " ما " مزيدة أي تذكرون تذكراً قليلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 317
(3/176)
{ أَمَّن يَهْدِيكُمْ } [النمل : 63] يرشدكم بالنجوم { فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام : 97] ليلاً وبعلامات في الأرض نهاراً { وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ } [النمل : 63] الريح مكي وحمزة وعلى { بُشْرَا } من البشارة وقد مرّ في " الأعراف " { بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } [النمل : 63] قدام المطر { أَءِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ } ينشيء الخلق { ثُمَّ يُعِيدُهُ } [العنكبوت : 19] وإنما قيل لهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } [العنكبوت : 19] وهم منكرون للإعادة لأنه أزيحت علتهم بالتمكن من المعرفة والإقرار فلم يبق لهم عذر في الإنكار { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ } [النمل : 64] أي المطر { وَالارْضِ } أي ومن الأرض النبات { مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ إِن } [النمل : 64] حجتكم على إشراككم { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في دعواكم أن مع الله إلهاً آخر.
{ قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [النمل : 65] من فاعل يعلم والغيب هو ما لم يقم عليه دليل ولا أطلع عليه مخلوق مفعوله والله بدل من من والمعنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله.
نعم إن الله تعالى يتعالى عن أن يكون ممن في السماوات والأرض ولكنه جاء على لغة بني تميم حيث يجرون الاستثناء المنقطع مجرى المتصل ويجيزون النصب والبدل في المنقطع كما في المتصل ويقولون ما في الدار
318
أحد إلا حمار.
وقالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول : { قُل لا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [النمل : 65].
وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وقت الساعة { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] وما يعلمون { أَيَّانَ } متى { يُبْعَثُونَ } ينشرون
جزء : 3 رقم الصفحة : 318
{ بَلِ ادَّارَكَ } [النمل : 66] أدرك مكي وبصري ويزيد والمفضل أي انتهى وتكامل من أدركت الفاكهة تكاملت نضجاً { بَلِ ادَّارَكَ } [النمل : 66] عن الأعشى افتعل.
{ بَلِ ادَّارَكَ } [النمل : 66] غيرهم استحكم وأصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وزيد ألف الوصل ليمكن التكلم بها { عِلْمُهُمْ فِى الاخِرَةِ } [النمل : 66] أي في شأن الآخرة ومعناها ، والمعنى أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته وهم شاكون جاهلون وذلك قوله { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } [النمل : 66] والإضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم وتكرير لجهلهم ، وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى.
وقد جعل الآخرة مبتدأ عماهم ومنشأة فلذا عداه بـ " من " دون " عن " لأن الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي منعهم عن التدبر والتفكر.
ووجه ملاءمة مضمون هذه الآية وهو وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة بما قبله وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب وأن العباد لا علم لهم بشيء منه ، أنه لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم ، وصل به أن عندهم عجزاً أبلغ منه وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بد من كونه وهو وقت جزاء أعمالهم لا يكون مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به.
وجاز أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس " ما أعلمك " على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا عموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته ، ويجوز أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولك " أدركت الثمرة " لأن تلك غايتها التي عندها تعدم ، وقد فسرها الحسن بإضمحل علمهم في الآخرة.
319
وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 319
(3/177)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا وَءَابَآؤُنَآ أَاـانَّا لَمُخْرَجُونَ } [النمل : 67] من قبورنا أحياء وتكرير حرف الاستفهام في أءذا وأءنا في قراءة عاصم وحمزة وخلف ، إنكار بعد إنكار وجحود عقيب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه.
والعامل في إذا ما دل عليه لمخرجون وهو نخرج لأن اسم الفاعل والمفعول بعد همزة الاستفهام ، أو إن " أو لام الابتداء لا يعمل فيما قبله فكيف إذا اجتمعن " ؟ والضمير في " إنا " لهم ولآبائهم لأن كونهم تراباً قد تناولهم وآباءهم لكنه غلبت الحكاية على الغائب ، وآباؤنا عطف على الضمير في كنا لأن المفعول جرى مجرى التوكيد { لَقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا } [النمل : 68] أي البعث { نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ } [النمل : 68] من قبل محمد صلى الله عليه وسلّم.
قدم هنا هذا على نحن وآباؤنا وفي المؤمنون نحن وآباؤنا على هذا ليدل على أن المقصود بالذكر هو البعث هنا وثمة المبعوثون { إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الأنعام : 25] ما هذا إلا أحاديثهم وأكاذيبهم.
{ قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [النمل : 69] أي آخر أمر الكافرين.
وفي ذكر الإجرام لطف بالمسلمين في ترك الجرائم كقوله تعالى : { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنابِهِمْ } [الشمس : 14].
وقوله { مِّمَّا خَطِياـاَـاتِهِمْ أُغْرِقُوا } [نوح : 25] { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر : 88] لأجل أنهم لم يتبعوك ولم يسلموا فيسلموا { وَلا تَكُن فِى ضَيْقٍ } [النمل : 70] في حرج صدر { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل : 127] من مكرهم وكيدهم لك فإن الله يعصمك من الناس.
يقال ضاق الشيء ضيقاً بالفتح وهو قراءة غير ابن كثير وبالكسر وهو قراءته { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [يونس : 48] أي وعد العذاب { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أن العذاب نازل بالمكذب.
320
جزء : 3 رقم الصفحة : 320
{ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ } [النمل : 72] استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم عسى أن يكون ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة : 195] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم ، وعسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم يدل على صدق الأمر وجده فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ } [النمل : 73] أي إفضال { عَلَى النَّاسِ } [الأعراف : 144] بترك المعاجلة بالعذاب { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } [يونس : 60] أي أكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه فيستعجلون العذاب بجهلهم { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } [النمل : 74] تخفي { صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [النمل : 74] يظهرون من القول فليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم ولكن له وقت مقدر ، أو أنه يعلم ما يخففون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك بما يستحقونه.
وقرى تكنّ يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته { وَمَا مِنْ غَآ ـاِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [النمل : 75] سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية ، والتاء فيهما كالتاء في العاقبة والعافية ونظائرهما الرمية والذبيحة والنطيحة في أنها أسماء غير صفات ، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ.
والمبين الظاهر البيّن لمن ينظر فيه من الملائكة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
{ إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ } أي يبين لهم { أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النمل : 76] فإنهم اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزاباً ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضاً ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا
321
وأخذوا له وأسلموا يريد اليهود والنصارى
جزء : 3 رقم الصفحة : 321
(3/178)
{ وَإِنَّهُ } وإن القرآن { لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [النمل : 77] لمن أنصف منهم وآمن أي من بني إسرائيل أو منهم ومن غيرهم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم } [النمل : 78] بين من آمن بالقرآن ومن كفر به { بِحُكْمِهِ } بعدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً ، أو بحكمته ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] فلا يرد قضاؤه { الْعَلِيمُ } بمن يقضي له وبمن يقضي عليه أو العزيز في انتقامه من المبطلين العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.
{ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران : 159] أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } [النمل : 79] وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج وهو الدين الواضح الذي لا يتعلق به شك ، وفيه بيان أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بالله وبنصرته { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ } لما كانوا لا يعون ما يسمعون ولا به ينتفعون ، شبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، وبالصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون ، وبالعمي حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلا الله تعالى.
ثم أكد حال الصم بقوله إذا ولوا مدبرين لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته ، ولا يسمع الصّمّ مكي وكذا " في الروم " { وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ } وكذا في " الروم " : حمزة { وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ } [النمل : 81] أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها { فَهُم مُّسْلِمُونَ } [النمل : 81] مخلصون من قوله { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] يعني جعله سالماً لله خالصاً له.
322
جزء : 3 رقم الصفحة : 322
{ وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ } [النمل : 82] سمى معنى القول ومؤداه بالقول وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الارْضِ تُكَلِّمُهُمْ } [النمل : 82] هي الجساسة ، في الحديث : طولها ستون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان.
وقيل : لها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيّل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير ، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية فتقول { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ } [النمل : 82] أي لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين.
أو تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام ، أو بأن هذا مؤمن وهذا كافر.
وفتح أن كوفي وسهل على حذف الجار أي تكلمهم بأن ، وغيرهم كسروا لأن الكلام بمعنى القول ، أو بإضمار القول أي تقول الدابة ذلك ويكون المعنى بآيات ربنا أو حكاية لقول الله تعالى عند ذلك.
ثم ذكر قيام الساعة فقال { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا } [النمل : 83] " من " للتبعيض أي واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم زمرة { مِّمَّن يُكَذِّبُ } [النمل : 83] " من " للتبيين { بِـاَايَـاتِنَا } المنزلة على أنبيائنا { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل : 17] يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى موضع الحساب وهذه عبارة عن كثرة العدد ، وكذا الفوج عبارة عن الجماعة الكثيرة { حَتَّى إِذَآ } حضروا موقف الحساب والسؤال { وَلَتَنصُرُنَّهُا قَالَ } [آل عمران : 81] لهم تعالى تهديداً { حَتَّى إِذَآ } [النمل : 84] المنزلة على رسلي { وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا } [النمل : 84] الواو للحال كأنه قال : أكذبتم بآياتي بادىء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } حيث لم تتفكروا فيها فإنكم لم تخلقوا عبثا
323
جزء : 3 رقم الصفحة : 323
(3/179)
{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ } [النمل : 85] أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله : { هَـاذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ } [المرسلات : 35].
{ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } [النمل : 86] حال ، جعل الإبصار للنهار وهو لأهله والتقابل مراعى من حيث المعنى لأن معنى مبصراً ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 79] يصدقون فيعتبرون ، وفيه دليل على صحة البعث لأن معناه ألم يعلموا أنا جعلنا الليل والنهار قواماً لمعاشهم في الدنيا ليعلموا أن ذلك لم يجعل عبثاً بل محنة وابتلاء ولا بد عند ذلك من ثواب وعقاب فإذا لكم يكونا في هذه الدار فلا بد من دار أخرى للثواب والعقاب { وَيَوْمَ } واذكر يوم { يُنفَخُ فِى الصُّورِ } [الأنعام : 73] وهو قرن أو جمع صورة والنافخ إسرافيل عليه السلام { فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ } [النمل : 87] اختير " فزع " على " يفزع " للإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ } [الزمر : 68] إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام وقيل : الشهداء وقيل الحور النار النار وحملة العرش وعن جابر رضي الله عنه منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرة ، ومثله : { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ } [الزمر : 68] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ } [النمل : 87] حمزة وحفص وخلف ، اتوه غيرهم وأصله " اتيوه " { دَاخِرِينَ } حال أي صاغرين ومعنى الإتيان حضورهم الموقف ورجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 324
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا } [النمل : 88] بفتح السين : شامي وحمزة ويزيد وعاصم ، وبكسرها : غيرهم حال من المخاطب { جَامِدَةً } واقفة ممسكة عن الحركة من جمد في مكانه إذا لم يبرح { وَهِىَ تَمُرُّ } [النمل : 88] حال من الضمير المنصوب في تحسبها { مَرَّ السَّحَابِ } [النمل : 88] أي
324
مثل مر السحاب والمعنى أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لعظمها وهي تسير سيراً سريعاً كالسحاب إذا ضربته الريح ، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها كما قال النابغة في صفة جيش :
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم
وقوف لحاج والركاب تهملج
{ صُنْعَ اللَّهِ } [النمل : 88] مصدر عمل فيه ما دل عليه تمر لأن مرورها كمر السحاب من صنع الله فكأنه قيل : صنع الله ذلك صنعاً وذكر اسم الله لأنه لم يذكر قبل { الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } [النمل : 88] أي أحكم خلقه { إِنَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَفْعَلُونَ } [النمل : 88] يفعلون مكي وبصري غير سهل وأبو بكر غير يحي ، وغيرهم بالتاء أي أنه عالم بما يفعل العباد فيكافئهم على حسب ذلك.
ثم لخص ذلك بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 324
{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ } [النمل : 89] أي بقول لا إله إلا الله عند الجمهور { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [القصص : 84] أي فله خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وعلى هذا لا يكون خير بمعنى أفضل ويكون منها في موضع رفع صفة لـ خير أي بسببها { وَهُم مِّن فَزَعٍ } [النمل : 89] كوفي أي من فزع شديد مفرط الشدة وهو خوف النار أو من فزع ما وإن قل ، وبغير تنوين غيرهم { يَوْمَـاـاِذٍ } كوفي ومدني ، وبكسر الميم غيرهم والمراد يوم القيامة { ءَامِنُونَ } " أمن " يعدى بالجار وبنفسه كقوله { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } [الأعراف : 99] { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ } [النمل : 90] بالشرك { فَكُبَّتْ } ألقيت { ضِعْفًا فِى النَّارِ } [ص : 61] يقال كببت الرجل ألقيته على وجهه أي ألقوا على رؤوسهم في النار ، أو عبر عن الجملة بالوجه كما يعبر بالرأس والرقبة عنها أي ألقوا في النار ويقال لهم تبكيتاً عند الكب { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل : 90] في الدنيا من الشرك والمعاصي
325
جزء : 3 رقم الصفحة : 325
(3/180)
{ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَـاذِهِ الْبَلْدَةِ } [النمل : 91] مكة { الَّذِى حَرَّمَهَا } [النمل : 91] جعلها حرماً آمناً يأمن فيها اللاجيء إليها ولا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها { وَلَهُ كُلُّ شَىْءٍ } [النمل : 91] مع هذه البلدة فهو مالك الدنيا والآخرة { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 72] المنقادين له.
{ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ } من التلاوة أو من التلو كقوله : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] ، أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا اتخذ له شريكاً كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام ، وأن أتلو القرآن لأعرف الحلال والحرام وما يقتضيه الإسلام.
وخص مكة من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأعظمها عنده وأشار إليها بقوله هذه إشارة تعظيم لها وتقريب دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه ، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما { فَمَنِ اهْتَدَى } [يونس : 108] باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية واتباع ما أنزل عليّ من الوحي { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } [يونس : 108] فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ { وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ } أي ومن ضل ولم يتبعني فلا عليّ وما أنا إلا رسول منذر { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [النور : 54] { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } [النمل : 93] ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها.
وقيل : هو انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا { وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود : 123] بالتاء مدني وشامي وحفص ويعقوب خطاب لأهل مكة ، وبالياء غيرهم أي كل عمل يعملونه فإن الله عالم به غير غافل عنه فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه.
326
سورة القصص
( مكية ثمانون وثمان آيات)
{ طسام * تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ } يقال بان الشيء وأبان بمعنى واحد ، ويقال أبنته فأبان لازم ومتعدٍ أي مبين خيره وبركته أو مبين للحلال والحرام والوعد والوعيد والإخلاص والتوحيد { نَتْلُوا عَلَيْكَ } [القصص : 3] نقرأ عليك أي يقرؤه جبريل بأمرنا ومفعول نتلو { مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ } [القصص : 3] أي نتلو عليك بعض خبرهما { بِالْحَقِّ } حال أي محقين { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] لمن سبق في علمنا أنه مؤمن لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم { إِنَّ فِرْعَوْنَ } [القصص : 4] جملة مستأنفة كالتفسير للجمل كأن قائلاً قال : وكيف كان نبؤهما؟ فقال : إن فرعون { عَلا } طغى وجاوز الحد في الظلم واستكبر وافتخر بنفسه ونسي العبودية { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أي أرض مملكته يعني مصر { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } [القصص : 4] فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه.
لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه أو فرقاً مختلفة يكرم طائفة ويهين أخرى فأكرم القبطي وأهان الإسرائيلي { يَسْتَضْعِفُ طَآ ـاِفَةً مِّنْهُمْ } [القصص : 4] هم بنو إسرائيل { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ } [القصص : 4] أي يترك البنات أحياء للخدمة ، وسبب ذبح الأبناء أن كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده.
وفيه دليل على حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم ينفعه القتل ،
327
وإن كذب فما معنى القتل.
ويستضعف حال من الضمير في وجعل أو صفة لـ شيعاً أو كلام مستأنف ويذبح بدل من يستضعف { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [القصص : 4] أي إن القتل ظلماً إنما هو فعل المفسدين إذ لا طائل تحته صدق الكاهن أو كذب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 327(3/181)
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } [القصص : 5] نتفضل وهو دليل لنا في مسألة الأصلح ، وهذه الجملة معطوفة على إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون واقتصاصاً له ، أو حال من يستضعف أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وإرادة الله تعالى كائنة فجعلت كالمقارنة لاستضعافهم { عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الارْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَاـاِمَّةً } [القصص : 5] قادة يفتدى بهم في الخير أو قادة إلى الخير أو ولاة وملوكاً { وَنَجْعَلَهُمْ } أي يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم { الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ } [القصص : 6] مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه أو يرقد ، ومعنى التمكين { لَهُمْ فِى الارْضِ } [التوبة : 74] أي أرض مصر والشام أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ويسلطهم وينفذ أمرهم { وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا } [القصص : 6] بضم النون ونصب فرعون وما بعده ، وبالياء ورفع فرعون وما بعده : علي وحمزة أي يرون منهم ما حذروه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم ، ويرى نصب عطف على المنصوب قبله كقراءة النون أو رفع على الاستئناف { مِنْهُم } من بني إسرائيل ويتعلق بـ نري دون يحذرون لأن الصلة لا تتقدم على الموصول { مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 6] الحذر : التوقي من الضرر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 328
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى } [القصص : 7] بالإلهام أو بالرؤيا أو بإخبار ملك كما كان لمريم ، وليس هذا وحي رسالة ولا تكون هي رسولاً { أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص : 7] " أن " بمعنى أي أو مصدرية { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } [القصص : 7] من القتل بأن يسمع الجيران صوته فينمو عليه { فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ } [القصص : 7] البحر ، قيل : هو نيل مصر { وَلا تَخَافِى } [القصص : 7] من الغرق والضياع { وَلا تَحْزَنِى } [القصص : 7] بفراقه { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [القصص : 7] بوجه لطيف لتربيته { وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [القصص : 7] وفي هذه الآية
328
أمران ونهيان وخبران وبشارتان.
والفرق بين الخوف والحزن أن الخوف غم يلحق الإنسان كمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به فنهيت عنهما وبشرت برده إليها وجعله من المرسلين.
وروي أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.
وروي أنها حين ضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالي بني إسرائيل مصافية لها فعالجتها فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ودخل حبه قلبها فقالت : ما جئتك إلا لأقتل مولودك وأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت القابلة جاءت عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها فطلبوا فلم يلقوا شيئاً فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار برداً وسلاماً ، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحي إليها بإلقائه في اليم فألقته في اليم بعد أن أرضعته ثلاثة أشهر
جزء : 3 رقم الصفحة : 328
{ فَالْتَقَطَهُا ءَالُ فِرْعَوْنَ } [القصص : 8] أخذه ، قال الزجاج : كان فرعون من أهل فارس من اصطخر { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا } [القصص : 8] أي ليصير الأمر إلى ذلك لا أنهم أخذوه لهذا كقولهم للموت ما تلده الوالدة وهي لم تلد لأن يموت ولدها ولكن المصير إلى ذلك كذا قاله الزجاج.
وعن هذا قال المفسرون : إن هذه لام العاقبة والصيرورة.
وقال صاحب الكشاف : هي لأم كي التي معناها التعليل كقولك " جئتك لتكرمني " ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز لأن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء { وَحَزَنًا } وحزناً علي وحمزة وهما لغتان كالعدم والعدم { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَـاطِاِينَ } [القصص : 8] خاطين تخفيف خاطئين : أبو جعفر أي كانوا مذنبين فعاقبهم الله بأن ربى عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم ، أو كانوا خاطئين في كل شيء فليس خطؤهم في تربية عدوهم ببدع منهم.
{ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ } [القصص : 9] روي أنهم حين التقطوا التابوت
329
(3/182)
عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه فعالجوا كسره فأعياهم فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً فعالجته ففتحه فإذا بصبي نوره بين عينيه فأحبوه وكانت لفرعون بنت برصاء فنظرت إلى وجهه فبرئت ، فقالت الغواة من قومه : هو الذي نحذر منه فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك فقالت آسية : قرة عين لي ولك.
فقال فرعون : لك ، لا لي.
وفي الحديث " لو قال كما قالت لهداه الله تعالى كما هداها " وهذا على سبيل الفرض أي لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها وكان أسلم كما أسلمت.
وقرة خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة و لي ولك صفتان لقرة { لا تَقْتُلُوهُ } [القصص : 9] خاطبته خطاب الملوك أو خاطبت الغواة { عَسَى أَن يَنفَعَنَآ } [يوسف : 21] فإن فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما عاينت من النور وبرء البرصاء { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } [يوسف : 21] أو نتبناه فإنه أهل لأن يكون ولداً للملوك { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] حال ، وذو حالها آل فرعون وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه.
وقوله إن فرعون الآية جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم ، وما أحسن نظم هذا الكلام عند أصحاب المعاني والبيان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 329
{ وَأَصْبَحَ } وصار { فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا } [القصص : 10] صفراً من العقل لما دهمها من فرط الجزع لما سمعت بوقوعه في يد فرعون { إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ } [القصص : 10] لتظهر به والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته وأنه ولدها.
قيل : لما رأت الأمواج تلعب بالتابوت كادت تصيح وتقول : وا ابناه.
وقيل : لما سمعت أن فرعون أخذ التابوت لم تشك أنه يقتله فكادت تقول : وا ابناه شفقة عليه.
و " إن " مخففة من الثقيلة أي إنها كادت { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [القصص : 10] لولا ربطنا على قلبها والربط على القلب تقويته بإلهام الصبر { لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص : 10] من المصدقين بوعدنا وهو إنا رادوه إليك وجواب " لولا " محذوف أي لأبدته أو فارغاً من الهم حين سمعت أن فرعون تبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت لولا أنا
330
طمأنا قلبها وسكنا قلقه الذي حدث به من شدة الفرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لابتبني فرعون.
قال يوسف بن الحسين : أمرت أم موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حياطتها فربط على قلبها
جزء : 3 رقم الصفحة : 330
{ وَقَالَتْ لاخْتِهِ } [القصص : 11] مريم { قُصِّيهِ } اتبعي أثره لتعلمي خبره { فَبَصُرَتْ بِهِ } [القصص : 11] أي أبصرته { عَن جُنُبٍ } [القصص : 11] عن بعد حال من الضمير في به أو من الضمير في بصرت { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] أنها أخته { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص : 12] تحريم منع لا تحريم شرع أي منعناه أن يرضع ثدياً غير ثدي أمه وكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمهم ذلك.
والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع وهو الثدي أو الرضاع { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل قصها أثره أو من قبل أن نرده على أمه { فَقَالَتْ } أخته وقد دخلت بين المراضع ورأته لا يقبل ثدياً { هَلْ أَدُلُّكُمْ } [القصص : 12] أرشدكم { عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ } [القصص : 12] أي موسى { لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَـاصِحُونَ } [القصص : 12] النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد.
روي أنها لما قالت وهم له ناصحون قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله فخذوها حتى تخبر بقصة هذا الغلام ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون.
فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها وذهبت به إلى بيتها وأنجز الله وعده في الرد فعندها ثبت واستقر في علمها أنه سيكون نبياً وذلك قوله :
331
جزء : 3 رقم الصفحة : 331
(3/183)
{ فَرَدَدْنَـاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } [القصص : 13] بالمقام معه { وَلا تَحْزَنَ } [العنكبوت : 33] بفراقه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } [القصص : 13] أي وليثبت علمها مشاهدة كما علمت خبراً.
وقوله ولا تحزن معطوف على تقر وإنما حل لها ما تأخذه من الدينار كل يوم كما قال السدي لأنه مال حربي لا أنه أجرة على إرضاع ولدها { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] هو داخل تحت علمها أي لتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون انه حق فيرتابون ، ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت.
جزء : 3 رقم الصفحة : 332
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [يوسف : 22] بلغ موسى نهاية القوة وتمام العقل وهو جمع شدة كنعمة وأنعم عند سيبويه { وَاسْتَوَى } واعتدل وتم استحكامه وهو أربعون سنة.
ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة { حُكْمًا وَعِلْمًا } [يوسف : 22] نبوة { وَعِلْمًا } فقهاً أو علماً بمصالح الدارين { وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الأنعام : 84] أي كما فعلنا بموسى وأمه نفعل بالمؤمنين.
قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة التي هي جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102].
فجعلهم جهالاً إذ لم يعملوا بالعلم { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ } [القصص : 15] أي مصر { عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } [القصص : 15] حال من الفاعل أي مختفياً وهو ما بين العشاءين أو وقت القائلة يعني انتصاف النهار.
وقيل : لما شب وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم فأخافوه فلا يدخل المدينة إلا على تغفل { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ } [القصص : 15] ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل.
قيل : هو السامري ، وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره { وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّهِ } [القصص : 15] من مخالفيه من القبط وهو قانون ، وقيل : فيهما هذا وهذا وإن كانا غائبين على جهة الحكاية أي إذا نظر إليهما الناظر قال :
332
هذا من شيعته وهذا من عدوه { فَاسْتَغَـاثَهُ } فاستنصره { الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى } [القصص : 15] ضربه بجمع كفه أو بأطراف أصابعه { فَقَضَى عَلَيْهِ } [القصص : 15] فقتله { قَالَ هَـاذَا } [الأنعام : 76] إشارة إلى القتل الحاصل بغير قصد { مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } [القصص : 15] وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه لأنه كان مستأمناً فيهم ولا يحل قتل الكافر الحربي المستأمن ، أو لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [القصص : 15] ظاهر العداوة
جزء : 3 رقم الصفحة : 332
{ قَالَ رَبِّ } [آل عمران : 41] يا رب { إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } [القصص : 16] بفعل صار قتلاً { فَاغْفِرْ لِى } [القصص : 16] زلتي { فَغَفَرَ لَهُا } [القصص : 16] زلته { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ } [يوسف : 98] بإقالة الزلل { الرَّحِيمُ } بإزالة الخجل { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا } [القصص : 17] معيناً { لِّلْمُجْرِمِينَ } للكافرين وبما أنعمت على قسم جوابه محذوف تقديره أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، أو استعطاف كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد.
(3/184)
{ فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَآ ـاِفًا } [القصص : 18] على نفسه من قتله القبطي أن يؤخذ به { يَتَرَقَّبُ } حال أي يتوقع المكروه وهو الاستقادة منه أو الأخبار أو ما يقال فيه ، وقال ابن عطاء : خائفاً على نفسه يترقب نصرة ربه.
وفيه دليل على أنه لا بأس بالخوف من دون الله بخلاف ما يقوله بعض الناس أنه لا يسوغ الخوف من دون الله { فَإِذَا الَّذِى } [القصص : 18] إذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ { اسْتَنْصَرَهُ } أي موسى { بِالامْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } [القصص : 18] يستغيثه والمعنى أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر { قَالَ لَهُ مُوسَى } [القصص : 18] أي للإسرائيلي { إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } [القصص : 18] أي ضال عن الرشد ظاهر الغي فقد قاتلت بالأمس رجلاً فقتلته بسببك ، والرشد في التدبير أن لا يفعل فعلاً يفضي إلى البلاء على نفسه وعلى من يريد نصرته.
333
جزء : 3 رقم الصفحة : 333
{ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ } [القصص : 19] موسى { أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى } [القصص : 19] بالقبطي الذي { هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } [القصص : 19] لموسى والإسرائيلي لأنه ليس على دينهما ، أو لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل { قَالَ } الإسرائيلي لموسى عليه السلام وقد توهم أنه أراد أخذه لا أخد القبطي إذ قال له إنك لغوي مبين { يَـامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْسَا } [القصص : 19] يعني القبطي { بِالامْسِ إِن تُرِيدُ } [القصص : 19] ما تريد { إِلا أَن تَكُونَ جَبَّارًا } [القصص : 19] أي قتالاً بالغضب { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أرض مصر { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } [القصص : 19] في كظم الغيظ ، وكان قتل القبطي بالأمس قد شاع ولكن خفي قاتله ، فلما أفشى على موسى عليه السلام علم القبطي أن قاتله موسى فأخبر فرعون فهموا بقتله.
{ فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَآ ـاِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالامْسِ يَسْتَصْرِخُهُا قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ } هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون { يَسْعَى } صفة لرجل أو حال من رجل لأنه وصف بقوله من أقصى المدينة { قَالَ يَـامُوسَى إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } أي يأمر بعضهم بعضاً بقتلك أو يتشاورون بسببك ، والائتمار : التشاور.
يقال الرجلان يتامران ويأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر { فَاخْرُجْ } من المدينة { إِنِّى لَكَ مِنَ النَّـاصِحِينَ } [القصص : 20] لك بيان وليس بصلة الناصحين لأن الصلة لا تتقدم على الموصول كأنه قال : إني من الناصحين ، ثم أراد أن يبين فقال : لك كما يقال سقياً لك ومرحباً لك { فَخَرَجَ } موسى { مِّنْهَا } من المدينة { خَآ ـاِفًا يَتَرَقَّبُ } [القصص : 18] التعرض له في الطريق أو أن يلحقه من يقتله { قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [القصص : 21] أي قوم فرعون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } [القصص : 22] نحوها ، والتوجه الإقبال على الشيء ، ومدين قرية شعيب عليه السلام سميت بمدين بن إبراهيم ولم تكن في سلطان فرعون ، وبينما وبين مصر مسيرة ثمانية أيام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خرج ولم يكن له علم
334
بالطريق إلا حسن الظن بربه { قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ } [القصص : 22] أي وسطه ومعظم نهجه فجاءه ملك فانطلق به إلى مدين
جزء : 3 رقم الصفحة : 334
(3/185)
{ وَلَمَّا وَرَدَ } [القصص : 23] وصل { مَآءَ مَدْيَنَ } [القصص : 23] ماءهم الذي يسقون منه وكان بئراً { وَجَدَ عَلَيْهِ } [القصص : 23] على جانب البئر { أُمَّةٍ } جماعة كثيرة { مِّنَ النَّاسِ } [المائدة : 67] من أناس مختلفين { يَسْقُونَ } مواشيهم { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ } [القصص : 23] في مكان أسفل من مكانهم { امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } [القصص : 23] تطردان غنمهما عن الماء لأن على الماء من هو أقوى منهما فلا تتمكنان من السقي أو لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، والذود الطرد والدفع { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } [القصص : 23] ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي ما مطلوبكما من الذياد فسمي المخطوب خطباً { قَالَتَا لا نَسْقِى } [القصص : 23] غنمنا { حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ } [القصص : 23] مواشيهم يصدر شامي ويزيد وأبو عمرو أي يرجع والرعاء جمع راعٍ كقائم وقيام { وَأَبُونَا شَيْخٌ } [القصص : 23] لا يمكنه سقي الأغنام { كَبِيرٌ } في حاله أو في السن لا يقدر على رعي الغنم ، أبدتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما.
{ فَسَقَى لَهُمَا } [القصص : 24] فسقى غنمهما لأجلهما رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف.
روي أنه نحى القوم عن رأس البئر وسألهم دلواً فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها وكانت لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة.
وترك المفعول في يسقون و تذودان و لا نسقى و فسقى لأن الغرض هو الفعل لا المعفول ، ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ، ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً ، وكذا في لا نسقى و فسقى فالمقصود هو السقي لا المسقى.
ووجه مطابقة جوابها سؤاله أنه سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أنا امرأتان مستورتان ضعيفتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحي من الاختلاط بهم فلا بدلنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا.
وإنما رضي شعيب عليه السلام لابنتيه بسقي الماشية لأن هذا الأمر في نفسه ليس بمحظور والدين لا
335
يأباه ، وأما المروءة فعادات الناس في ذلك متباينة وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصاً إذا كانت الحالة حالة ضرورة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 335
{ ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } [القصص : 24] أي ظل سمرة ، وفيه دليل جواز الاستراحة في الدنيا بخلاف ما يقوله بعض المتقشفة ولما طال البلاء عليه أنس بالشكوى إذ لا نقص في الشكوى إلى المولى { فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ } [القصص : 24] لأي شيء { أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ } [القصص : 24] قليل أو كثير غثٍ أو سمين { فَقِيرٌ } محتاج ، وعدي فقير باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب.
قيل : كان لم يذق طعاماً سبعة أيام وقد لصق بظهره بطنه.
ويحتمل أن يريد أني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدارين وهو النجاة من الظالمين لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة ، قال ذلك رضاً بالبدل السني وفرحاً به وشكراً له.
وقال ابن عطاء : نظر من العبودية إلى الربوبية وتكلم بلسان الافتقار لما ورد على سره من الأنوار
جزء : 3 رقم الصفحة : 335
{ لَنَآ } على استحياء في موضع الحال أي مستحية ، وهذا دليل كمال إيمانها وشرف عنصرها لأنها كانت تدعوه إلى ضيافتها ولم تعلم أيجيبها أم لا ، فأتته مستحية قد استترت بكم درعها ، و " ما " في ما سقيت مصدرية أي جزاء سقيك.
روي أنهما ما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفّل قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا.
فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي فتبعها موسى عليه السلام فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ } [القصص : 25] أي قصته وأحواله مع فرعون ، والقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص { قَالَ } له { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [القصص : 25] إذ لا سلطان لفرعون بأرضنا ، وفيه دليل جواز العمل بخبر الواحد ولو عبداً أو أنثى والمشي مع الأجنبية مع ذلك الاحتياط والتورع.
وأما أخذ الأجر على البر والمعروف
336
(3/186)
فقيل : إنه لا بأس به عند الحاجة كما كان لموسى عليه السلام ، على أنه روي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك وإنما أجابها لئلا يخيب قصدها لأن للقاصد حرمة.
ولما وضع شعيب الطعام بين يديه امتنع فقال شعيب : ألست جائعاً؟ قال : بلى ولكن أخاف أن يكون عوضاً مما سقيت لهما وإنا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا ولا نأخذ على المعروف ثمناً.
فقال شعيب عليه السلام : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا فأكل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 336
{ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَـا أَبَتِ اسْتَـاْجِرْهُ } [القصص : 26] اتخذه أجيراً لرعي الغنم.
روي أن كبراهما كانت تسمى صفراء والصغرى صفيراء ، وصفراء هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره وهي التي تزوجها { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَـاْجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ } [القصص : 26] فقال : وما علمك بقوته وأمانته؟ فذكرت نزع الدلو وأمرها بالمشي خلفه.
وورد الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أن أمانته وقوته أمران متحققان.
وقولها إن خير من استأجرت القوى الأمين كلام جامع لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك ، وقيل : القوي في دينه الأمين في جوارحه.
وقد استغنت بهذا لكلام الجاري مجرى المثل عن أن تقول استأجره لقوته وأمانته.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاث : بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله { عَسَى أَن يَنفَعَنَآ } [يوسف : 21].
وأبو بكر في عمر.
{ قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ } [القصص : 27] أزوجك { إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَـاتَيْنِ } [القصص : 27] قوله هاتين يدل على أنه كان له غيرها وهذه مواعدة منه ولم يكن ذلك عقد نكاح إذ لو كان عقداً لقال قد أنكحتك { عَلَى أَن تَأْجُرَنِى } [القصص : 27] تكون أجيراً لي من أجرته إذا كنت له أجيراً { ثَمَـانِىَ حِجَجٍ } [القصص : 27] ظرف والحجة السنة وجمعها حجج والتزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه من باب القيام بأمر الزوجية فلا مناقضة بخلاف التزوج على الخدمة { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا } [القصص : 27] أي عمل عشر حجج { فَمِنْ عِندِكَ } [القصص : 27] فذلك تفضل منك ليس بواجبة عليك ، أو فإتمامه من عندك ولا أحتمه عليك ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } [القصص : 27] بإلزام أتم الأجلين ، وحقيقة قولهم : شققت
337
عليه وشق عليه الأمر أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وطوراً لا أطيقه { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ } [القصص : 27] في حسن المعاملة والوفاء بالعهد ، ويجوز أن يراد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة.
والمراد باشتراطه مشيئة الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته لأنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ذلك
جزء : 3 رقم الصفحة : 337
{ قَالَ } موسى { ذَالِكَ } مبتدأ وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب والخبر { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } [القصص : 28] يعني ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه ، لا أنا فيما شرطت علي ولا أنت فيما شرطت على نفسك.
ثم قال { أَيَّمَا الاجَلَيْنِ قَضَيْتُ } [القصص : 28] أي أي أجل قضيت من الأجلين يعني العشرة أو الثمانية.
و أي نصب بـ قضيت و " ما " زائدة ومؤكدة لإبهام أي وهي شرطية وجوابها { فَلا عُدْوَانَ عَلَىَّ } [القصص : 28] أي لا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه ، قال المبرد : قد علم أنه لا عدوان عليه في أيهما ولكن جمعهما ليجعل الأقل كالأتم في الوفاء ، وكما أن طلب الزيادة على الأتم عدوان فكذا طلب الزيادة على الأقل { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [القصص : 28] هو من وكل إليه الأمر ، وعدي بـ " على " لأنه استعمل في موضع الشاهد والرقيب.
(3/187)
روي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل : أدخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال : خذ غيرهما فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً.
ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا التنين
338
قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً ارتاح لذلك.
ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحي إليه في المنام أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فوضعت كلهن أدرع ودرعاء فوفى له بشرطه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 338
{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ } [القصص : 29] قال عليه السلام " قضى أوفاهما وتزوج صغراهما " وهذا بخلاف الرواية التي مرت { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } [القصص : 29] بامرأته نحو مصر.
قال ابن عطاء : لما تم أجل المحنة ودنا أيام الزلفة وظهرت أنوار النبوة سار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى } [القصص : 29] عن الطريق لأنه قد ضل الطريق { فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا نُودِىَ مِن شَـاطِى ِ الْوَادِ الايْمَنِ } بالنسبة إلى موسى { فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَـارَكَةِ } [القصص : 30] بتكليم الله تعالى فيها { مِنَ الشَّجَرَةِ } [القصص : 30] العناب أو العوسج { بِـاَالِهَتِنَا يَـاإِبْرَاهِيمُ } [الصافات : 104-9] " أن " مفسرة أو مخففة من الثقيلة { إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ } [القصص : 30] قال جعفر : أبصر ناراً دلته على الأنوار لأنه رأى النور في هيئة النار ، فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس فخوطب بألطف خطاب واستدعى منه أحسن جواب فصار بذلك مكلماً شريفاً أعطى ما سأل وأمن مما خاف ، والجذوة باللغات الثلاث وقريء بهن ، فعاصم بفتح الجيم ، وحمزة وخلف بضمها ، وغيرهم بكسرها.
العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن ، و " من " الأولى والثانية لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطيء الوادي من قبل الشجرة.
و من الشجرة بدل من
339
شاطىء الواد بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء أي الجانب
جزء : 3 رقم الصفحة : 339
{ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } [القصص : 31] ونودي أن ألق عصاك فألقاها فقلبها الله ثعباناً { فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ } [النمل : 10] تتحرك { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [النمل : 10] حية في سعيها وهي ثعبان في جثتها { وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } [النمل : 10] يرجع فقيل له { يَـامُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامِنِينَ } [القصص : 31] أي أمنت من أن ينالك مكروه من الحية { اسْلُكْ } أدخل { يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } [النمل : 12] جيب قميصك { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [طه : 22] لها شعاع كشعاع الشمس { مِنْ غَيْرِ سُواءٍ } [طه : 22] برص.
(3/188)
{ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } [القصص : 32] حجازي بفتحتين وبصري.
الرّهب حفص الرّهب غيرهم ومعنى الكل الخوف والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك يذهب ما بك من فرق لأجل الحية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : كل خائف إذا وضع يده على صدره زال خوفه.
وقيل : معنى ضم الجناح أن الله تعالى لما قلب العصا حية فزع موسى واتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى.
والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر ، وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه ، أو أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران.
ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه.
ومعنى واضمم إليك جناحك واسلك يدك في جيبك على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين لاختلاف الغرضين إذ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني إخفاء الرهب.
ومعنى
340
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } [طه : 22] في " طه " أدخل يمناك تحت يسراك { فَذَانِكَ } مخففاً مثنى " ذاك " ومشدداً : مكي وأبو عمرو مثنى ذلك فإحدى النونين عوض من اللام المحذوفة والمراد اليد والعصا حجتان نيرتان بينتان وسميت الحجة برهاناً لإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة { مِنْ غَيْرِ سُواءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ } [القصص : 32] أي أرسلناك إلى فرعون وملئه بهاتين الايتين { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ } [النمل : 12] كافرين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 340
{ قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [القصص : 33] به بغير يا ء وبالياء : يعقوب { وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِىَ } [القصص : 34] حفص { رِدْءًا } حال أي عونا يقال ردأته أعنته ، وبلا همز : مدني { يُصَدِّقُنِى } عاصم وحمزة صفة أي ردأ مصدقاً لي ، وغيرهما بالجزم جواب لـ أرسله ومعنى تصديقه موسى إعانته إياه بزيادة البيان في مظان الجدال إن احتاج إليه ليثبت دعواه لا أن يقول له صدقت ، ألا ترى إلى قوله هو أفصح مني لساناً فأرسله وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لتقرير البرهان لا لقوله صدقت فسحبان وباقل فيه يستويان { إِنِّى أَخَافُ أَن } .
يكذبوني في الحالين : يعقوب { يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [القصص : 35] سنقويك به إذ اليد تشد بشدة العضد لأنه قوام اليد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـانًا } [القصص : 35] غلبة وتسلطاً وهيبة في قلوب الأعداء { فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِـاَايَـاتِنَآ } [القصص : 35] الباء تعلق بـ يصلون أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وتم الكلام ، أو بـ نجعل لكما سلطاناً أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف أي إذهبا بآياتنا ، أو هو بيان لـ الغالبون لا صلة ، أو قسم جوابه لا يصلون مقدماً عليه { أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَـالِبُونَ } [القصص : 35]
341
جزء : 3 رقم الصفحة : 341
(3/189)
فلمّا جاءهم مّوسى بآياتنا بيّناتٍ } واضحات { قَالُوا مَا هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّفْتَرًى } [القصص : 36] أي سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى ءَابَآ ـاِنَا الاوَّلِينَ } [القصص : 36] حال منصوبة عن هذا أي كائناً في زمانهم يعني ما حدثنا بكونه فيهم { وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَـاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ } [القصص : 37] أي ربي أعلم منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون ساحراً مفترياً لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبيء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون.
وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى : { أؤلئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّـاتُ عَدْنٍ } .
والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى والغفران.
قال موسى بغير واو : مكي وهو حسن لأن الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم موسى عند تسميتهم مثل تلك الآيات العظام سحراً مفترى ، ووجه الأخرى أنهم قالوا ذلك وقال موسى هذا ليوازن الناظر بين القول والمقول ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر.
ربي أعلم حجازي وأبو عمرو ومن يكون حمزة وعلي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَـا أَيُّهَا الْمَلا مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى } [القصص : 38] قصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده أي ما لكم من إله غيري أو هو على ظاهره وأن إلهاً غيره غير معلوم عنده { فَأَوْقِدْ لِى يَـاهَـامَـانُ عَلَى الطِّينِ } أي اطبخ لي الاجر واتخذه.
وإنما لم يقل مكان الطين هذا لأنه أول من عمل الاجر فهو يعلمه الصنعة بهذه العبارة ، ولأنه
342
أفصح وأشبه بكلام الجبابرة إذ أمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين منادى باسمه بـ " يا " في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر { فَاجْعَل لِّى صَرْحًا } [القصص : 38] قصراً عالياً { لَّعَلِّى أَطَّلِعُ } [القصص : 38] أي أصعد والاطلاع الصعود { إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى } [القصص : 38] حسب أنه تعالى في مكان كما كان هو في مكان { وَإِنِّى لاظُنُّهُ } [غافر : 37] أي موسى { مِنَ الْكَـاذِبِينَ } [الأعراف : 66] في دعواه أن له إلهاً وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وقد تناقض المخذول فإنه قال { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِى } [القصص : 38] ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلهاً وأخبر أنه غير متيقن بكذبه وكأنه تحصن من عصا موسى عليه السلام فلبّس وقال لعلى أطلع إلى إله موسى روي أن هامان جمع خمسين ألف بناء وبنى صرحاً لم يبلغه بناء أحد من الخلق ، فضرب الصرح جبريل عليه السلام بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، وقطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك
جزء : 3 رقم الصفحة : 342
{ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ } [القصص : 39] تعظم { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أرض مصر { بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الشورى : 42] أي بالباطل ، فالاستكبار بالحق لله تعالى وهو المتكبر على الحقيقة أي المتبالغ في كبرياء الشأن كما حكى رسولنا عن ربه : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار " .
وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ } [القصص : 39] يرجعون نافع وحمزة وعلي وخلف ويعقوب { فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ } [القصص : 40] من الكلام المفخم الذي دل به على عظمة شأنه شبههم استقلالاً لعددهم وإن كانوا الجم الغفير بحصيات أخذهن اخذ بكفه فطرحهن في البحر { فَانظُرْ } يا محمد { كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 39] وحذر قومك فإنك منصور عليهم.
{ وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً } [القصص : 41] قادة { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [البقرة : 221] أي عمل أهل النار.
قال ابن عطاء : نزع عن أسرارهم التوفيق وأنوار التحقيق فهم في ظلمات نفوسهم لا
343
(3/190)
يدلون على سبيل الرشاد.
وفيه دلالة خلق أفعال العباد { وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ لا يُنصَرُونَ } [القصص : 41] من العذاب
جزء : 3 رقم الصفحة : 343
{ وَأَتْبَعْنَـاهُمْ فِى هَـاذِهِ } ألزمناهم طرداً وإبعاداً عن الرحمة.
وقيل : هو ما يلحقهم من لعن الناس إياهم بعدهم { لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } [القصص : 42] المطرودين المبعدين أو المهلكين المشوهين بسواد الوجوه وزرقة العيون ويوم ظرف لـ المقبوحين { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة { مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاولَى } [القصص : 43] قوم نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام { بَصَآ ـاِرَ لِلنَّاسِ } [القصص : 43] حال من { الْكِتَـابُ } والبصيرة نور القلب الذي يبصر به الرشد والسعادة كما أن البصر نور العين الذي يبصر به الأجساد.
يريد اتيناه التوراة أنواراً للقلوب لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقاً من باطل { وَهُدًى } وإرشاداً لأنهم كانوا يخبطون في ضلال { وَرَحْمَةً } لمن اتبعها لأنهم إذا عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة : 221] يتعظون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 344
{ وَمَا كُنتَ } [القصص : 46] يا محمد { بِجَانِبِ } الجبل { الْغَرْبِىِّ } وهو المكان الواقع في شق الغرب وهو الذي وقع فيه ميقات موسى { إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الامْرَ } [القصص : 44] أي كلمناه وقربناه نجياً { وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّـاهِدِينَ } [القصص : 44] من جملة الشاهدين للوحي إليه حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى في ميقاته { وَلَـاكِنَّآ أَنشَأْنَا } [القصص : 45] بعد موسى { قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } [القصص : 45] أي طالت أعمارهم وفترت النبوة وكادت الأخبار تخفى واندرست العلوم ووقع التحريف في كثير منها ، فأرسلناك مجدداً لتلك الأخبار مبيناً ما وقع فيه التحريف ، وأعطيناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى
344
عليه ولكنا أوحيناه إليك ، فذكر سبب الوحي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب اختصاراً فإذا هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده { وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا } [القصص : 45] مقيماً { فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } [القصص : 45] وهم شعيب والمؤمنون به { تَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا } تقرؤها عليهم تعلماً منهم يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه.
و { تَتْلُوا } في موضع نصب خبر ثانٍ أو حال من الضمير في ثاويا { وَلَـاكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [القصص : 45] ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها
جزء : 3 رقم الصفحة : 344
(3/191)
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } [القصص : 46] موسى أن خذ الكتاب بقوة { وَلَـاكِنَّ } أعلمناك وأرسلناك { رَحْمَةً } للرحمة { مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [القصص : 46] في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة : 221] { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةُ } [آل عمران : 110-47] عقوبة { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] من الكفر والظلم.
ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي نسبت الأعمال إلى الأيدي وإن كانت من أعمال القلوب تغليباً للأكثر على الأقل عند العذاب { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءَايَـاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص : 47] " لولا " الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، والفاء الأولى للعطف والثانية جواب " لولا " لكونها في حكم الأمر إذ الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من وادٍ واحد ، والفاء تدخل في جواب الأمر والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني أن إرسال الرسول إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها كقوله : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء : 165].
فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول " لولا " الامتناعية عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً للإرسال ولكن العقوبة لما كانت سبباً للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال فأدخلت عليها " لولا " وجيء بالقول
345
معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 345
{ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } [يونس : 76] أي القرآن أو الرسول المصدق بالكتاب المعجز { قَالُوا } أي كفار مكة { لَوْلا أُوتِىَ } [القصص : 48] هلا أعطي { مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى } [القصص : 48] من الكتاب المنزل جملة واحدة { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا } يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام { بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ } [القصص : 48] من قبل القرآن { قَالُوا } في موسى وهارون { وَإِن تَظَـاهَرَا } (ساحران تظاهرا) تعاونا { سِحْرَانِ } كوفي أي ذوا سحر أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ } [القصص : 48] بكل واحد منهما { كَـافِرُونَ } وقيل : إن أهل مكة كما كفروا بمحمد عليه السلام وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة وقالوا في موسى ومحمد.
ساحران تظاهرا ، أو في التوراة والقرآن سحران تظاهرا ، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد فأخبروهم أنه في كتابهم فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا.
{ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَـابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ } [القصص : 49] مما أنزل على موسى ومما أنزل على { أَتَّبِعْهُ } جواب فأتوا { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في أنهما سحران { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } [القصص : 50] فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاـاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } [القصص : 50] أي لا أحد أضل ممن اتبع في الدين هواه وبغير هدى حال أي مخذولاً يخلى بينه وبين هواه { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [المائدة : 51]
346
جزء : 3 رقم الصفحة : 346
(3/192)
ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون } التوصيل وتكريره يعني أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً وعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا { الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِهِ } [القصص : 52] من قبل القرآن وخبر الذين { هُم بِهِ } [النحل : 100] بالقرآن { يُؤْمِنُونَ } نزلت في مؤمني أهل الكتاب { وَإِذَا يُتْلَى } [القصص : 53] القرآن { عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ } [القصص : 53] من قبل نزول القرآن { مُسْلِمِينَ } كائنين على دين الإسلام ، مؤمنين بمحمد عليه السلام ، وقوله إنه تعليل للإيمان به لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به ، وقوله إنا بيان لقوله آمنا لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا بأن إيمانهم به متقادم { أؤلئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } [القصص : 54] بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله ، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } يدفعون بالطاعة المعصية أو بالحلم الأذى { وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة : 3] يزكون { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ } [القصص : 55] الباطل أو الشتم من المشركين { أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا } [القصص : 55] للاغين { لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ } [القصص : 55] أمان منا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله { لا نَبْتَغِى الْجَـاهِلِينَ } [القصص : 55] لا نريد مخالطتهم وصحبتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
{ إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص : 56] لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [البقرة : 272] يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [الأنعام : 117] بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات.
قال الزجاج : أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم صدقوا محمداً تفلحوا.
فقال عليه السلام : يا عم تأمرهم
347
بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك.
قال : فما تريد ابن أخي؟ قال : أريد منك أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله ، قال : يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت.
وإن كانت الصيغة عامة ، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون الهدى هو البيان وقد هدى الناس أجمع ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدل أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة
جزء : 3 رقم الصفحة : 347
{ مَنْ } قالت قريش : نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر بأنه مكن لهم في الحرم الذي أمنه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته ، والثمرات تجبى إليه من كل أوب وهم كفرة ، فأنّى يستقيم أن يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟ وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز { يُجْبَى إِلَيْهِ } [القصص : 57] وبالتاء : مدني ويعقوب وسهل أي يجلب ويجمع { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ } [القصص : 57] معنى الكلية الكثرة كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ } [النمل : 23] { رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا } [القصص : 57] هو مصدر لأن معنى يجبي إليه يرزق أو مفعول له أو حال من الثمرات إن كان بمعنى مرزوق لتخصصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المتخصصة بالصفة { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] متعلق بـ من لدنا أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطف إذا آمنوا.
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص : 58] هذا تخويف لأهل مكة من
348
(3/193)
سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة وقابلوها بالبطر فأهلكوا.
و كم نصب بـ أهلكنا ومعيشتها بحذف الجار وإيصال الفعل أي في معيشتها ، والبطر سوء احتمال الغني وهو أن لا يحفظ حق الله فيه { فَتِلْكَ مَسَـاكِنُهُمْ } [القصص : 58] منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود وقوم شعيب وغيرهم { لَمْ تُسْكَن } [القصص : 58] حال والعامل فيها الإشارة { مِّن بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا } [القصص : 58] من السكنى أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص : 58] لتلك المساكن من ساكنيها أي لا يملك التصرف فيها غيرنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 348
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى } [القصص : 59] في كل وقت { حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا } [القصص : 59] وبكسر الهمزة : حمزة وعلي أي في القرية التي هي أمها أي أصلها ومعظمها { رَسُولا } لإلزام الحجة وقطع المعذرة أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها رسولاً ، يعني محمداً عليه السلام { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ } أي القرآن { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَـالِمُونَ } [القصص : 59] أي وما أهلكناهم للانتقام إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم وهو إصرارهم على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم بعد الاعذار إليهم { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } [القصص : 60] وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل وهي مدة الحياة الفانية { وَمَا عِندَ اللَّهِ } [النحل : 96] وهو ثوابه { خَيْرٍ } في نفسه من ذلك { وَأَبْقَى } لأنه دائم { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أن الباقي خير من الفاني.
وخيّر أبو عمرو بين الياء والتاء والباقون بالتاء لا غير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما.
إن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن والمنافق والكافر.
فالمؤمن يتزود ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع.
ثم قرر هذه الآية بقوله :
{ أَفَمَن وَعَدْنَـاهُ وَعْدًا حَسَنًا } [القصص : 61] أي الجنة فلا شيء أحسن منها لأنها دائمة ولذا سميت الجنة بالحسنى { فَهُوَ لَـاقِيهِ } [القصص : 61] أي رائيه ومدركه ومصيبه
349
{ كَمَن مَّتَّعْنَـاهُ مَتَـاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص : 61] من الذين أحضروا النار ونحوه فكذبوه فإنهم لمحضرون.
نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي جهل لعنه الله ، أو في علي وحمزة وأبي جهل ، أو في المؤمن والكافر ، ومعنى الفاء الأولى أنه لما ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقبه بقوله أفمن وعدناه أي أبعد هذا التفاوت الجلي يسوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ، والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد.
و " ثم " لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع ثم هو عليّ كما قيل عضدّ في عضد شبه المنفصل بالمتصل
جزء : 3 رقم الصفحة : 349
(3/194)
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } [فصلت : 47] ينادي الله الكفار نداء توبيخ وهو عطف على { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] أو منصوب بـ " ذكر " { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ } [القصص : 62] بناء على زعمهم { الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام : 22] ومفعولا تزعمون محذوفان تقديره : كنتم تزعمونهم شركائي ، ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يجوز الاقتصار على أحدهما { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } [القصص : 63] أي الشياطين أو أئمة الكفر.
ومعنى حق عليهم القول وجب عليه مقتضاه وثبت وهو قوله : { لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود : 119] { رَبَّنَا هؤلاء } [الأعراف : 38] مبتدأ { الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } [القصص : 63] أي دعوناهم إلى الشرك وسولنا لهم الغي صفة والراجع إلى الموصول محذوف والخبر { أَغْوَيْنَـاهُمْ } والكاف في { كَمَا غَوَيْنَا } [القصص : 63] صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم ، وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب وهو كقوله { وَقَالَ الشَّيْطَـانُ لَمَّا قُضِىَ الامْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } [إبراهيم : 22] إلى قوله { وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } [إبراهيم : 22] { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ } [القصص : 63] منهم ومما اختاروه من الكفر { مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [القصص : 63] بل يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ، وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.
350
جزء : 3 رقم الصفحة : 350
{ وَقِيلَ } للمشركين { ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ } [الأعراف : 195] أي الأصنام لتخلصكم من العذاب { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } [الكهف : 52] فلم يجيبوهم { وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } [القصص : 64] وجواب " لو " محذوف أي لما رأوا العذاب { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص : 65] الذين أرسلوا إليكم.
حكى أولاً ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر عند توبيخهم ، لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم ، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكون به من الاحتجاح عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانابَآءُ يَوْمَـاـاِذٍ } [القصص : 66] خفيت عليهم الحجج أو الأخبار.
وقيل : خفي عليهم الجواب فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب { فَهُمْ لا يَتَسَآءَلُونَ } [القصص : 66] لا يسأل بعضهم بعضاً عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب { فَأَمَّا مَن تَابَ } [القصص : 67] من الشرك وءامن بربه وبما جاء من عنده { وَعَمِلَ صَـالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } [القصص : 67] أي فعسى أن يفلح عند الله.
و " عسى " من الكرام تحقيق ، وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام وترغيب للكافرين على الإيمان.
ونزل جواباً لقول الوليد بن المغيرة : { لَوْلا نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31].
يعني نفسه أو أبا مسعود.
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ } وفيه دلالة خلق الأفعال ، ويوقف على { يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } [القصص : 68] أي وربك يخلق ما يشاء وربك يختار ما يشاء { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } [القصص : 68]
351
(3/195)
أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئاً ما وله الخيرة عليهم.
ولم يدخل العاطف في ما كان لهم الخيرة لأنه بيان لقوله ويختار إذ المعنى أن الخيرة لله وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
ومن وصل على معنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد بل " ما " لنفي اختيار الخلق تقريراً لاختيار الحق ، ومن قال : ومعناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال.
والخيرة من التخير يستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وبمعنى المتخير كقولهم " محمد خيرة الله من خلقه " { سُبْحَـانَ اللَّهِ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص : 68] أي الله بريء من إشراكهم وهو منزه عن أن يكون لأحد عليه اختيار
جزء : 3 رقم الصفحة : 351
{ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ } [القصص : 69] تضمر { صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحسده { وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير عليه غيره في النبوة { وَهُوَ اللَّهُ } [الأنعام : 3] وهو المستأثر بالإلهية المختص بها { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] تقرير لذلك كقولك " القبلة الكعبة لا قبلة إلا هي " .
{ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاولَى } [القصص : 70] الدنيا { وَالاخِرَةِ } هو قولهم { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [فاطر : 34] { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر : 74] { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الزمر : 75].
والتحميد ثمة على وجه اللذة لا الكلفة { وَلَهُ الْحُكْمُ } [القصص : 70] القضاء بين عباده { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] بالبعث والنشور.
وبفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب.
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } [يونس : 50] أريتم محذوف الهمزة : علي { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ } [القصص : 71] هو مفعول ثان لـ جعل أي دائماً من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم " ثلاثة سرد وواحد فرد " والميم مزيدة ووزنه فعمل { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ } [القصص : 71] والمعنى أخبروني من يقدر على هذا
352
جزء : 3 رقم الصفحة : 352
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ } [القصص : 72] ولم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قال { بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } [القصص : 72] بل ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثم قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ } [القصص : 73] أي لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضل الله في النهار فيكون من باب اللف والنشر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] الله على نعمه.
وقال الزجاج : يجوز أن يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضل الله فيهما ، ويكون المعنى جعل لكم الزمان ليلاً ونهاراً لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله فيه.
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [القصص : 62] كرر التوبيخ لاتخاذ الشركاء ليؤذن أن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده { وَنَزَعْنَا } وأخرجنا { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } [النحل : 84] يعني نبيهم لأن الأنبياء للأمم شهداء عليهم يشهدون بما كانوا عليه { فَقُلْنَا } للأمم { هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ } [البقرة : 111] فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسل { فَعَلِمُوا } حينئذ { أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } [القصص : 75] التوحيد { وَضَلَّ عَنْهُم } [فصلت : 48] وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [آل عمران : 24] من ألوهية غير الله والشفاعة لهم.
353
جزء : 3 رقم الصفحة : 353
(3/196)
{ إِنَّ قَـارُونَ } [القصص : 76] لا ينصرف للعجمة والتعريف ولو كان فاعولاً من قرنت الشيء لانصرف { كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى } [القصص : 76] كان إسرائيلياً ابن عم لموسى فهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ولكنه نافق كما نافق السامري { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } [القصص : 76] من البغي وهو الظلم.
قيل : ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم ، أو من البغي الكبر تكبر عليهم بكثرة ماله وولده ، أو زاد عليهم في الثياب شبراً { وَءَاتَيْنَـاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ } [القصص : 76] " ما " بمعنى الذي في موضع نصب بـ اتينا و " إن " واسمها وخبرها صلة الذي ولهذا كسرت " إن " .
والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به أو مفتح بالفتح وهو الخزانة والأصوب أنها المقاليد { إِنَّ قَـارُونَ } [القصص : 76] لتثقل العصبة فالباء للتعدية يقال : ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة الجماعة الكثيرة وكانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً لكل خزانة مفتاح ولا يزيد المفتاح على أصبع وكانت من جلود { أُوْلِى الْقُوَّةِ } [القصص : 76] الشدة { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ } [القصص : 76] أي المؤمنون وقيل : القائل موسى عليه السلام ومحل إذ نصب بـ تنوء { لا تَفْرَحْ } [القصص : 76] لا تبطر بكثرة المال كقوله { وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } [الحديد : 23] ولا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن ، وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يتركها عن قريب فلا يفرح بها { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } [القصص : 76] البطرين بالمال { وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَـاـاكَ اللَّهُ } [القصص : 77] من الغنى والثروة { الدَّارُ الاخِرَةُ } [البقرة : 94] بأن تتصدق على الفقراء وتصل الرحم وتصرف إلى أبواب الخير { وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص : 77] وهو أن تأخذ ما يكفيك ويصلحك.
وقيل : معناه واطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حظ المؤمن منها { وَأَحْسِن } إلى عباد الله { كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص : 77] أو أحسن بشكرك وطاعتك لخالق الأنام كما أحسن إليك بالإنعام { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الارْضِ } [القصص : 77] بالظلم والبغي { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص : 77].
354
جزء : 3 رقم الصفحة : 354
{ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } [القصص : 78] أي المال { عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [القصص : 78] أي على استحقاق لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس وهو علم التوراة أو علم الكيمياء ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً ، أو العلم بوجوه المكاسب من التجارة والزراعة.
و عندي صفة لـ علم قال سهل : ما نظر أحد إلى نفسه فأفلح ، والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة الله تعالى عليه في جميع الأفعال والأقوال ، والشقي من زين في عينه أفعاله وأقواله وأحواله ولم يفتح له سبيل رؤية منة الله فافتخر بها وادعاها لنفسه ، فشؤمه يهلكه يوماً كما خسف بقارون لما ادّعى لنفسه فضلاً { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } [الشعراء : 197-5] قارون { أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } [القصص : 78] هو إثبات لعلمه بأن الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى لأنه قد قرأه في التوراة كأنه قيل : أو لم يعلم في جملة ما عنده من العلم هذا حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوته ، أو نفي لعلمه بذلك لأنه لما قال أوتيته على علم عندي قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعى.
ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين { وَأَكْثَرُ جَمْعًا } [القصص : 78] للمال أو أكثر جماعة وعدداً { وَلا يُسْـاَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص : 78] لعلمه تعالى بهم بل يدخلون النار بغير حساب ، أو يعترفون بها بغير سؤال ، أو يعرفون بسيماهم فلا يسألون ، أو لا يسألون لتعلم من جهتهم بل يسألون سؤال توبيخ ، أو لا يسأل عن ذنوب الماضين المجرمون من هذه الأمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 355
(3/197)
{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ } [القصص : 79] في الحمرة والصفرة.
وقيل : خرج يوم السبت على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة الاف على زيه.
وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والديباج.
و { فِى زِينَتِهِ } [القصص : 79] حال من فاعل خرج أي متزيناً { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا } [القصص : 79] قيل : كانوا مسلمين وإنما تمنوا على سبيل الرغبة
355
في اليسار كعادة البشر.
وقيل : كانوا كفاراً { يَـالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَـارُونُ } [القصص : 79] قالوه غبطة والغابط هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه كهذه الآية ، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه وهو كقوله تعالى ؛ { وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء : 32].
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : هل تضر الغبطة؟ قال : لا إلا كما يضر العضاه الخبط { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص : 79] الحظ الجد وهو البخت والدولة
جزء : 3 رقم الصفحة : 355
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [الروم : 56] بالثواب والعقاب وفناء الدنيا وبقاء العقبى لغابطي قارون { وَيْلَكُمْ } أصل ويلك الدعاء بالهلاك ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرضى ، وفي " التبيان في إعراب القرآن " هو مفعول فعل محذوف أي ألزمكم الله ويلكم { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا وَلا يُلَقَّـاـاهَآ } [القصص : 80] أي لا يلقن هذه الكلمة وهي ثواب الله خير { إِلا الصَّـابِرُونَ } [القصص : 80] على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير.
{ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارْضَ } [القصص : 81] كان قارون يؤذي موسى عليه السلام كل وقت وهو يداريه للقرابة التي بينهما حتى نزلت الزكاة ، فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاسكثره فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فمر بما شئت قال : نبرطل فلانة البغي حتى ترميه بنفسها فترفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار أوطستاً من ذهب أو حكمها ، فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى وهو غير محصن جلدناه وإن أحصن رجمناه.
فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا.
قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت فناشدها بالذي فلق البحر وأنزل
356
التوراة أن تصدق فقالت : جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي ، فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك.
فقال : يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل.
فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم فقال الله تعالى : استغاث بك مراراً فلم ترحمه فوعزتي لو استرحمني مرة لرحمته ، فقال بعض بني إسرائيل : إنما أهلكه ليرث ماله فدعا الله حتى خسف بداره وكنوزه { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ } [القصص : 81] جماعة { يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ } [الكهف : 43] يمنعونه من عذاب الله { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } [القصص : 81] من المنتقمين من موسى أو من الممتنعين من عذاب الله.
يقال : نصره من عدوه فانتصره أي منعه منه فامتنع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 356
(3/198)
{ وَأَصْبَحَ } وصار { الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ } [القصص : 82] منزلته من الدنيا { بِالامْسِ } ظرف لـ تمنوا ولم يرد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت القريب استعارة { يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } [القصص : 82] و ي " منفصلة عن " كأن " عند البصريين.
قال سيبويه : " وي " كلمة تنبه على الخطأ وتندم يستعملها النادم بإظهار ندامته يعني أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم ، وقولهم يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون وتندموا { لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النساء : 39-90] بصرف ما كنا نتمناه بالأمس { لَخَسَفَ بِنَا } [القصص : 82] لخسف وبفتحتين : حفص ويعقوب وسهل ، وفيه ضمير الله تعالى { وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَـافِرُونَ } [القصص : 82] أي تندموا ثم قالوا : كأنه لا يفلح الكافرون { تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ } [القصص : 83] تلك تعظيم لها وتفخيم لشأنها يعني تلك التي
357
سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وقوله { نَجْعَلُهَا } خبر تلك والدار نعتها { لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الارْضِ } [القصص : 83] بغياً : ابن جبير ، وظلماً : الضحاك أو كبراً { وَلا فَسَادًا } [القصص : 83] عملاً بالمعاصي أو قتل النفس أو دعاء إلى عبادة غير الله.
ولم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [هود : 113] فعلق الوعيد بالركون.
وعن علي رضي الله عنه : إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.
وعن الفضيل : إنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا.
وعن عمر بن عبد العزيز : إنه كان يرددها حتى قبض.
وقال بعضهم : حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثاً بقوله { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ } [القصص : 4] { وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الارْضِ } [القصص : 77] { وَالْعَـاقِبَةُ } المحمودة { لِلْمُتَّقِينَ } .
جزء : 3 رقم الصفحة : 357
{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [النمل : 89] مر في " النمل " { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ } [القصص : 84] معناه فلا يجزون فوضع الذين عملوا السيئات موضع الضمير لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً ، فضل تهجين لحالهم وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين { إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 147] إلا مثل ما كانوا يعملون ومن فضله العظيم أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة { إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ } [القصص : 85] أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه { لَرَآدُّكَ } بعد الموت { إِلَى مَعَادٍ } [القصص : 85] أيّ معاد وإلى معاد ليس لغيرك من البشر فلذا نكره ، أو المراد به مكة.
والمراد رده إليها يوم الفتح لأنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن ومرجعاً له اعتداد لغلبة رسول الله وقهره لأهلها ولظهور عن الإسلام وأهله وذلك الشرك وحزبه.
والسورة مكية ولكن هذه الآية نزلت بالجحفة لا بمكة ولا بالمدينة حين اشتاق إلى مولده ومولد ابائه.
ولما وعد رسوله الرد إلى معاده قال
358
{ قُلْ } للمشركين { رَّبِّى أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى } [القصص : 85] يعني نفسه وما له من الثواب في معاده { وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [القصص : 85] يعني المشركين وما يستحقونه من العذاب في معادهم من في محل نصب بفعل مضمر أي يعلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 358
(3/199)
{ وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَن يُلْقَى } [القصص : 86] يوحي { إِلَيْكَ الْكِتَـابُ } [القصص : 86] القرآن { إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الإسراء : 87] هو محمول على المعنى أي وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ، أو " إلا " بمعنى " لكن " للاستدراك أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك الكتاب { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـافِرِينَ } [القصص : 86] معيناً لهم على دينهم { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [القصص : 87] هو على الجمع أي ألا يمنعنك هؤلاء عن العمل بآيات الله أي القرآن { بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [القصص : 87] الآيات أي بعد وقت إنزاله وإذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك " حينئذ " و " يومئذ " { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [الحج : 67] إلى توحيده وعبادته { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّـالِمِينَ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الخطاب في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد أهل دينه ، ولأن العصمة لا تمنع النهي ، والوقف على آخر لازم لأنه لو وصل لصار { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] صفة لـ الهاً آخر وفيه من الفساد ما فيه { كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص : 88] أي إلا إياه فالوجه يعبر به عن الذات.
وقال مجاهد : يعني علم العلماء إذا أريد به وجه الله { لَهُ الْحُكْمُ } [القصص : 88] القضاء في خلقه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب.
359
سورة العنكبوت
مكية وهي تسع وستون آية
{ الاـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ } [البقرة : 1 ، 2] الحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما ، والعلم فهو القطع على أحدهما ، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل.
فلو قلت " حسبت زيداً وظننت الفرس " لم يكن شيئاً حتى تقول " حسبت زيداً عالماً وظننت الفرس جواداً " لأن قولك " زيد عالم والفرس جواد " كلام دال على مضمون ، فإذا أردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين أدخلت على شطري الجملة فعل الحسبان حتى يتم لك غرضك والكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا أن يقولوا امنا وهم لا يفتنون وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا؟ فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو الخبر ، وأما غير مفتونين فتتمة الترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقول عنترة.
فتركته جزر السباع ينشنه
ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول " تركهم غير مفتونين " لقولهم " امناً " على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام وهو استفهام توبيخ.
والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء وسائر الطاعات الشاقة وهجر الشهوات وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم.
وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد جزعوا من أذى المشركين ، أو في عمار بن يا سر وكان يعذب في الله.
360
جزء : 3 رقم الصفحة : 360(3/200)
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا } [العنكبوت : 3] اختبرنا وهو موصول بـ أحسب أو بـ لا يفتنون { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [فاطر : 25] بأنواع الفتن فمنهم من يوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من يمشط بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 3] بالامتحان { الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة : 177] في الإيمان { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـاذِبِينَ } [العنكبوت : 3] فيه.
ومعنى علمه تعالى وهو عالم بذلك فيما لم يزل أن يعلمه موجوداً عند وجوده كما علمه قبل وجوده أنه يوجد ، والمعنى وليتميزن الصادق منهم من الكاذب.
قال ابن عطاء : يتبين صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر في أيام الرخاء وصبر في أيام البلاء فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الرخاء وجزع في أيام البلاء فهو من الكاذبين { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } [العنكبوت : 4] أي الشرك والمعاصي { أَن يَسْبِقُونَا } [العنكبوت : 4] أي يفوتونا يعني أن الجزاء يلحقهم لا محالة ، واشتماله صلة " أن " على مسند ومسند إليه سد مسد مفعولين كقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } [البقرة : 214] ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر و " أم " منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه.
وقالوا : الأول في المؤمنين وهذا في الكافرين { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام : 136] " ما " في موضع رفع على معنى ساء الحكم حكمهم ، أو نصب على معنى ساء حكماً يحكمون ، والمخصوص بالذم محذوف أي بئس حكماً يحكمونه حكمهم { مَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ اللَّهِ } أي يأمل ثوابه أو يخاف حسابه فالرجاء يحتملها { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ } [العنكبوت : 5] المضروب للثواب والعقاب { لاتٍ } لا محالة فليبادر العمل
361
الصالح الذي يصدق رجاءه ويحقق أمله { وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لما يقوله عباده { الْعَلِيمُ } بما يفعلونه فلا يفوته شيء ما.
وقال الزجاج : و " من " للشرط ويرتفع بالابتداء وجواب الشرط فإن أجل الله لات كقولك " إن كان زيد في الدار فقد صدق الوعد "
جزء : 3 رقم الصفحة : 361
{ وَمَن جَـاهَدَ } [العنكبوت : 6] نفسه بالصبر على طاعة الله أو الشيطان بدفع وساوسه أو الكفار { فَإِنَّمَا يُجَـاهِدُ لِنَفْسِهِ } [العنكبوت : 6] لأن منفعة ذلك ترجع إليها { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَـالَمِينَ } [العنكبوت : 6] وعن طاعتهم ومجاهدتهم ، وإنما أمر ونهى رحمة لعباده { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ } [العنكبوت : 7] أي الشرك والمعاصي بالإيمان والتوبة { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ } [العنكبوت : 7] أي أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام.
{ وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [العنكبوت : 8] وصى حكمه حكم أمر في معناه وتصرفه.
يقال : وصيت زيداً بأن يفعل خيراً كما تقول : أمرته بأن يفعل.
ومنه قوله { وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِ مُ بَنِيهِ } [البقرة : 132] أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها ، وقولك : وصيت زيداً بعمرو معناه وصيتة بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك.
وكذلك معنى قوله ووصينا الإنسان بوالديه حسناً ووصيناه بإيتاء والديه حسناً أو بإيلاء والديه حسناً أي فعلاً ذا حسن ، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه كقوله { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة : 83] ويجوز أن يجعل حسناً من باب قولك " زيداً " بإضمار " اضرب " إذا رأيته متهيئاً للضرب فتنصبه بإضمار أولهما ، أو افعل بهما لأن التوصية بهما دالة عليه وما بعده مطابق له كأنه قال : قلنا أولهما معروفاً ولا تطعهما في الشرك إذا حملاك عليه ، وعلى هذا التفسير إن وقف على بوالديه وابتدىء حسناً حسن الوقف ، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول معناه وقلنا { وَإِن جَـاهَدَاكَ } [لقمان : 15] أيها الإنسان { لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [العنكبوت : 8] أي لا علم لك بإلهيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : لتشرك
362
(3/201)
بي شيئاً لا يصح أن يكون إلهاً { فَلا تُطِعْهُمَآ } [لقمان : 15] في ذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق { إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ } [آل عمران : 55] مرجع من آمن منكم ومن أشرك { فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت : 8] فأجازيكم حق جزائكم ، وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك وحث على الثبات والاستقامة في الدين.
روي أن سعد بن أبي وقاص لما أسلم نذرت أمه أن لا تأكل ولا تشرب حتى يرتد فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية ، والتي في " لقمان " والتي في " الأحقاف "
جزء : 3 رقم الصفحة : 362
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 82] هو مبتدأ والخبر { لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّـالِحِينَ } [العنكبوت : 9] في جملتهم.
والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين وهو متمني الأنبياء عليهم السلام قال سليمان عليه السلام { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّـالِحِينَ } [النمل : 19] وقال يوسف عليه السلام { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ } [يوسف : 101] أو في مدخل الصالحين وهو الجنة.
ونزلت في المنافقين { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ } [العنكبوت : 10] أي إذا مسه أذى من الكفار { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [العنكبوت : 10] أي جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله تعالى { وَلَـاـاِن جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } [العنكبوت : 10] أي وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : إنا كنا معكم أي متابعين لكم في دينكم ثابتين عليه بثباتكم فأعطونا نصيبنا من الغنم { أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَـالَمِينَ } [العنكبوت : 10] أي هو أعلم بما في صدور العالمين من العالمين بما في صدورهم ومن ذلك ما في صدور هؤلاء من النفاق وما في صدور المؤمنين من الإخلاص ، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين بقوله
363
جزء : 3 رقم الصفحة : 363
{ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَـافِقِينَ } [العنكبوت : 11] أي حالهما ظاهرة عند من يملك الجزاء عليهما { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ } [العنكبوت : 12] أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم.
والمعنى تعليق الحمل بالاتباع أي إن تتبعوا سبيلنا حملنا خطاياكم ، وهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم { وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [العنكبوت : 12] لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف.
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
(3/202)
{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } [العنكبوت : 13] أي أثقال أنفسهم يعني أوزارهم بسبب كفرهم { وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت : 13] أي أثقالاً أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم وهو كما قال { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْـاَلُنَّ } [العنكبوت : 13] يختلقون من الأكاذيب والأباطيل.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا } [العنكبوت : 14] كان عمره ألفاً وخمسين سنة ؛ بعث على رأس أربعين ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين.
وعن وهب أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة فقال له ملك الموت : يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال : كدار لها بابان دخلت وخرجت.
ولم يقل تسعمائة وخمسين سنة لأنه لو قيل كذلك لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل هنا فكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، ولأن القصة سيقت
364
لذكر لما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لنبينا عليه السلام فكان ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض.
وجيء بالمميز أولاً بالسنة ثم بالعام ، لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة { فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ } [العنكبوت : 14] هو ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما { وَهُمْ ظَـالِمُونَ } [النحل : 113] أنفسهم بالكفر
جزء : 3 رقم الصفحة : 364
{ فَأَنجَيْنَـاهُ } أي نوحاً { وَأَصْحَـابَ السَّفِينَةِ } [العنكبوت : 15] وكانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم { وَجَعَلْنَـاهَآ } أي السفينة أو الحادثة أو القصة { ءَايَةَ } عبرة وعظة { لِّلْعَـالَمِينَ } يتعظون بها.
{ وَإِبْرَاهِيمَ } نصب بإضمار اذكر وأبدل عنه { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها ، أو معطوف على نوح أي وأرسلنا إبراهيم ، أو ظرف لـ أرسلنا يعني أرسلناه حين بلغ من السن ، أو العلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه ويأمرهم بالعبادة والتقوى.
وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما : وإبراهيم بالرفع على معنى " ومن المرسلين إبراهيم " { لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [العنكبوت : 16] من الكفر { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] إن كان لكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا } [العنكبوت : 17] أصناماً { وَتَخْلُقُونَ } وتكذبون أو تصنعون.
وقرأ أبو حنيفة والسلمي رضي الله عنهما وتخلّقون من خلق بمعنى التكثير
365
في خلق { إِفْكًا } وقرىء أفكا وهو مصدر نحو كذب ولعب.
والإفك مخفف منه كالكذب واللعب من أصلهما واختلافهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا } [العنكبوت : 17] لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق { فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ } [العنكبوت : 17] كله فإنه هو الرازق وحده لا يرزق غيره { وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [العنكبوت : 17] فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وبفتح التاء وكسر الجيم : يعقوب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 365
(3/203)
{ وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [العنكبوت : 18] أي وإن تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم وما ضروهم وإنما ضروا أنفسهم حيث حل بهم العذاب بسبب تكذيبهم ، وأما الرسول فقد تم أمره حيث بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشك وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته ، أو وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة حيث كذبوا وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب.
وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله فما كان جواب قومه محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم عليه السلام لقومه ، والمراد بالأمم قبله قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم.
وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها.
فإن قلت : فالجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه فلا تقول " مكة وزيد قائم خير بلاد الله " .
قلت : نعم وبيانه أن إيراد قصة إبراهيم عليه السلام ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأن تكون مسلاة له بأن أباه إبراهيم عليه السلام كان مبتلى بنحو ما ابتلى به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله وإن تكذبوا على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها لأن قوله فقد كذب أمم من قبلكم لا بد من تناوله لأمة إبراهيم وهو كما ترى اعتراض متصل ، ثم سائر الآيات بعدها من توابعها لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله وهدم الشرك وتوهين قواعده وصفة قدرة الله تعالى وسلطانه ووضوح حجته وبرهانه.
366
جزء : 3 رقم الصفحة : 366
{ أَوَلَمْ يَرَوْا } وبالتاء : كوفي غير حفص { كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ } [العنكبوت : 19] أي قد رأوا ذلك وعلموه.
وقوله { ثُمَّ يُعِيدُهُا } [العنكبوت : 19] ليس بمعطوف على يبدىء وليست الرؤية واقعة عليه وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت كما وقع النظر في قوله { كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ } على البدء دون الإنشاء بل هو معطوف على جملة قوله أو لم يروا كيف يبدىء الله الخلق { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] أي الإعادة { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] سهل { قُلِ } يا محمد وإن كان من كلام إبراهيم فتقديره وأوحينا إليه أن قل { سِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } [العنكبوت : 20] على كثرتهم واختلاف أحوالهم لتعرفوا عجائب فطرة الله بالمشاهدة ، وبدأ وأبدأ بمعنى { ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الاخِرَةَ } [العنكبوت : 20] أي البعث.
وبالمد حيث كان : مكي وأبو عمرو.
وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحدة منهما إنشاء أي ابتداء واختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله والأولى ليست كذلك ، والقياس أن يقال " كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة " لأن الكلام معهم وقع في الإعادة ، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا لم يعجزه الإبداء وجب أن لا يعجزه الإعادة فكأنه قال : ثم ذلك الذي أنشأ النشأة الأولى ينشيء النشأة الآخرة ، فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] قادر { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [العنكبوت : 21] بالخذلان { وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } [العنكبوت : 21] بالهداية أو بالحرص والقناعة ، أو بسوء الخلق وحسنه ، أو بالإعراض عن الله وبالإقبال عليه ، أو بمتابعة البدع وبملازمة السنة { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } [العنكبوت : 21] تردون وترجعون { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [الأنعام : 134] ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] الفسيحة { وَلا فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها
367
{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ } [البقرة : 107] يتولى أموركم { وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ولا ناصر يمنعكم من عذابي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 367
(3/204)
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [الزمر : 63] بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته { وَلِقَآ ـاِهِ أؤلئك يَـاـاِسُوا مِن رَّحْمَتِى } [العنكبوت : 23] جنتي { وَأُوالَـائكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } قوم إبراهيم حين دعاهم إلى الإيمان { إِلا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } [العنكبوت : 24] قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين فكانوا جميعاً في حكم القائلين فاتفقوا على تحريقه { فَأَنجَـاـاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } [العنكبوت : 24] حين قذفوه فيها { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] فيما فعلوا به وفعلنا { لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] روي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار يعني يوم ألقي إبراهيم في النار وذلك لذهاب حرها.
{ وَقَالَ } إبراهيم لقومه { إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَـانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } حمزة وحفص ، مودةً بينكم مدني وشامي وحماد ويحي وخلف مودة بينكم مكي وبصري وعلي ، مودةٌ بينكم الشمني والبرجمي ، النصب على وجهين على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وأن يكون مفعولاً ثانياً كقوله { اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاـاهُ } [الفرقان : 43] و " ما " كافة أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف ، أو اتخذتموها مودة بينكم أي مودة بينكم كقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] وفي الرفع وجهان : أن
368
كون خبراً لـ إن و " ما " موصولة ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة بينكم ، والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة.
ومن أضاف المودة جعل بينكم اسماً لا ظرفاً كقوله { شَهَـادَةُ بَيْنِكُمْ } [المائدة : 106] ومن نوّن مودة ونصب بينكم فعلى الظرف { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ } [العنكبوت : 25] تتبرأ الأصنام من عابديها { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا } [العنكبوت : 25] أي يوم القيامة يقوم بينكم التلاعن فيلعن الأتباع القادة.
{ وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ } [العنكبوت : 25] أي مأوى العابد والمعبود والتابع والمتبوع { وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ } [العنكبوت : 25] ثمة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 368
{ فَـاَامَنَ لَهُ } [العنكبوت : 26] لإبراهيم عليه السلام { لُوطٌ } هو ابن أخي إبراهيم وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه { وَقَالَ } إبراهيم { إِنِّى مُهَاجِرٌ } [العنكبوت : 26] من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين وهي من برية الشام ، ومن ثم قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان.
وكان معه في هجرته لوط وسارة وقد تزوجها إبراهيم { إِلَى رَبِّى } [فصلت : 50] إلى حيث أمرني ربي بالهجرة إليه { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } [العنكبوت : 26] الذي يمنعني من أعدائي { الْحَكِيمُ } الذي لا يأمرني إلا بما هو خير { وَوَهَبْنَا لَهُا إِسْحَـاقَ } [الأنعام : 84] ولداً { وَيَعْقُوبَ } ولد ولد ولم يذكر إسماعيل لشهرته { وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ } [العنكبوت : 27] أي في ذرية إبراهيم فإنه شجرة الأنبياء { وَالْكِتَـابَ } والمراد به الجنس يعني التوراة والإنجيل والزبور والفرقان { وَءَاتَيْنَـاهُ } أي إبراهيم { أَجْرَهُ } الثناء الحسن والصلاة عليه إلى آخر الدهر ومحبة أهل الملل له ، أو هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لغيره { فِى الدُّنْيَا } [يونس : 70] فيه دليل على أنه تعالى قد يعطي الأجر في الدنيا { وَإِنَّهُ فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [البقرة : 130] أي من أهل الجنة : عن الحسن { وَلُوطًا } أي واذكر لوطاً { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ } [العنكبوت : 28] الفعلة البالغة في القبح وهي اللواط { مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 80]
369
جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم ينزل ذكر على ذكر قبل قوم لوط
جزء : 3 رقم الصفحة : 369
(3/205)
{ أَاـاِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } [العنكبوت : 29] بالقتل وأخذ المال كما هو عمل قطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ } [العنكبوت : 29] مجلسكم ولا يقال للمجلس نادٍ إلا ما دام فيه أهله { الْمُنكَرَ } أي المضارطة والمجامعة والسباب والفحش في المزاح والحذف بالحصى ومضغ العلك والفرقعة والسواك بين الناس { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [العنكبوت : 29] فيما تعدنا من نزول العذاب.
إنكم أئنكم شامي وحفص وهو الموجود في الإمام ، وكل واحدة بهمزتين كوفي غير حفص آينكم آينكم بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : أبو عمرو أينكم أينكم بهمزة مقصورة بعدها ياء مكسورة : مكي ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { قَالَ رَبِّ انصُرْنِى } [المؤمنون : 26] بإنزال العذاب { عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } [العنكبوت : 30] كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش.
{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } [العنكبوت : 31] بالبشارة لإبراهيم بالولد والنافلة يعني إسحق ويعقوب { قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } إضافة مهلكوا لم تفد تعريفاً لأنها بمعنى الاستقبال.
والقرية سدوم التي قبل فيها أجور من قاضي سدوم وهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام.
قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام.
{ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَـالِمِينَ } [العنكبوت : 31] أي الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة وهم عليه مصرون وظلمهم كفرهم وأنواع معاصيهم
370
جزء : 3 رقم الصفحة : 370
{ قَالَ } إبراهيم { إِنَّ فِيهَا لُوطًا } [العنكبوت : 32] أي أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم وهو لوط { قَالُوا } أي الملائكة { نَحْنُ أَعْلَمُ } [الإسراء : 47] منك { بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ } [العنكبوت : 32] لننجينه يعقوب وكوفي غير عاصم { وَأَهْلَهُا إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ } [الأعراف : 83] الباقين في العذاب.
ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم بقوله { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ } [العنكبوت : 33] ساءه مجيئهم و " أن " صلة أكدت وجود الفعلين مرتباً أحدهما على الآخر كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل : كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث خيفة عليهم من قومهم أن يتناولوهم بالفجور { سِى ءَ بِهِمْ } [هود : 77] مدني وشامي وعلي { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } [هود : 77] وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته ، وقد جعلوا ضيق الذرع والذراع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا " رحب الذراع " إذا كان مطيقاً ، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة وهو نصب على التمييز { وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ } [العنكبوت : 33] وبالتخفيف : مكي وكوفي غير حفص { وَأَهْلَكَ } الكاف في محل الجر ونصب أهلك بفعل محذوف أي وننجي أهلك { إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ } منزلّون شامي { عَلَى أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا } [العنكبوت : 34] عذاباً { مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [البقرة : 59] بفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ } [العنكبوت : 35] من القرية { بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ } [العنكبوت : 35] هي آثار منازلهم الخربة.
وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض { لِّقَوْمٍ } يتعلق بتركنا أو ببينة { يَعْقِلُونَ } .
371
جزء : 3 رقم الصفحة : 371
{ وَإِلَى مَدْيَنَ } [العنكبوت : 36] وأرسلنا إلى مدين { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الاخِرَ } وافعلوا ما ترجون به الثواب في العاقبة أو خافوه { وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة : 60] قاصدين الفساد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
(3/206)
{ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } [العنكبوت : 37] الزلزلة الشديدة أو صيحة جبريل عليه السلام لأن القلوب رجفت بها { فَأَصْبَحُوا فِى دَارِهِمْ } [الأعراف : 78] في بلدهم وأرضهم { جَـاثِمِينَ } باركين على الركب ميتين { وَعَادًا } منصوب بإضمار " أهلكنا " لأن قوله فأخذتهم الرجفة يدل عليه لأنه في معنى الإهلاك { وَثَمُودَا } حمزة وحفص وسهل ويعقوب { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } [العنكبوت : 38] ذلك يعني ما وصفه من إهلاكهم { مِّن مَّسَـاكِنِهِمْ } [العنكبوت : 38] من جهة مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها ، وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ } [النمل : 24] من الكفر والمعاصي { فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } [النمل : 24] السبيل الذي أمروا بسلوكه هو الإيمان بالله ورسله { وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ } [العنكبوت : 38] عقلاء متمكنين من النظر وتمييز الحق من الباطل ولكنهم لم يفعلوا { وَقَـارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ } [العنكبوت : 39] أي وأهلكناهم { وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ وَمَا كَانُوا سَـابِقِينَ } [العنكبوت : 39] فائتين أدركهم أمر الله فلم يفوتوه { فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنابِهِ } [العنكبوت : 40] فيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب { فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا } [العنكبوت : 40] هي ريح عاصف فيها حصباء وهي لقوم لوط { وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } [العنكبوت : 40] هي لمدين وثمود { وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارْضَ } [العنكبوت : 40] يعني قارون
372
{ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا } [العنكبوت : 40] يعني قوم نوح وفرعون { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } [العنكبوت : 40] ليعاقبهم بغير ذنب { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] بالكفر والطغيان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 372
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } [العنكبوت : 41] أي آلهة يعني مثل من أشرك بالله الأوثان في الضعف وسوء الاختيار { كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا } [العنكبوت : 41] أي كمثل العنكبوت فيما تتخذه لنفسها من بيت فإن ذلك بيت لا يدفع عنها الحر والبرد ولا يقي ما تقي البيوت ، فكذلك الأوثان لا تنفعهم في الدنيا والآخرة ، جعل حاتم اتخذت حالاً { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } [العنكبوت : 41] لا بيت أوهن من بيتها.
عن عليّ رضي الله عنه : طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه يورث الفقر { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن.
وقيل : معنى الآية مثل الشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبنى بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون.
وقال الزجاج : في جماعة تقدير الآية : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء لو كانوا يعلمون كمثل العنكبوت { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ } [العنكبوت : 42] بالياء : بصري وعاصم ، وبالتاء : غيرهما غير الأعشى والبرجمي.
و " ما " بمعنى " الذي " وهو مفعول يعلم ومفعول يدعون مضمر أي يدعونه يعني يعبدونه { مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ } [النحل : 35] " من " في من شيء للتبيين { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] الغالب الذي لا شريك له { الْحَكِيمُ } في ترك المعاجلة بالعقوبة ، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً لا علم له ولا قدرة وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء الحكيم
373
الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير
جزء : 3 رقم الصفحة : 373
(3/207)
{ وَتِلْكَ الامْثَـالُ } [الحشر : 21] الأمثال نعت والخبر { نَضْرِبُهَا } نبينها { لِلنَّاسِ } كان سفهاء قريش وجهلتهم يقولون : إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك فلذلك قال { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ } [العنكبوت : 43] به وبأسمائه وصفاته أي لا يعقل صحتها وحسنها ولا يفهم فائدتها إلا هم ، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه تلا هذه الآية فقال " العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه " ودلت الآية على فضل العلم على العقل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 374
{ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ } [العنكبوت : 44] أي محقاً يعني لم يخلقهما باطلاً بل لحكمة وهي أن تكونا مساكن عباده وعبرة للمعتبرين منهم ودلائل على عظم قدرته ، ألا ترى إلى قوله { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر : 77] وخصهم بالذكر لانتفاعهم بها { اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ } [العنكبوت : 45] تقرباً إلى الله تعالى بقراءة كلامه ولتقف على ما أمر به ونهى عنه { اتْلُ مَآ } [العنكبوت : 45] أي دم على إقامة الصلاة { اتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ } [العنكبوت : 45] الفعلة القبيحة كالزنا مثلاً { وَالْمُنْكَرِ } هو ما ينكره الشرع والعقل.
قيل : من كان مراعياً للصلاة جره ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما فقد روي أنه قيل يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل.
فقال : " إن صلاته لتردعه " .
روي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه فوصف له فقال " إن صلاته ستنهاه " فلم يلبث أن
374
تاب.
وقال ابن عوف : إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها فأنت في معروف وطاعة وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر.
وعن الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فليست صلاته بصلاة وهي وبال عليه { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت : 45] أي والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وإنما قال (ولذكر الله) ليستقل بالتعليل كأنه قال : والصلاة أكبر لأنها ذكر الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.
وقال ابن عطاء : ذكر الله لكم أكبر من ذكركم له الآن ، لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني ، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى.
وقال سلمان : ذكر الله أكبر من كل شيء وأفضل فقد قال عليه السلام " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " قالوا وما ذاك يا رسول الله قال " ذكر الله " " (1) وسئل أي الأعمال أفضل قال " أن تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله " .
أو ذكر الله أكبر من أن تحويه أفهامكم وعقولكم ، أو ذكر الله أكبر من تلقى معه معصية ، أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من غيره : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت : 45] من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 374
(3/208)
{ وَلا تُجَـادِلُوا أَهْلَ الْكِتَـابِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [العنكبوت : 46] بالخصلة التي هي أحسن للثواب وهي مقابلة الخشونة باللين والغضب بالكظم كما قال : { ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [المؤمنون : 96] { إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [البقرة : 150] فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة.
وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا يد الله مغلولة ، أو معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فمجادلتهم بالسيف.
والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين ، وعلى جواز تعلم علم الكلام الذي به تتحقق المجادلة ، وقوله { وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [العنكبوت : 46] من جنس المجادلة بالأحسن.
375
وقال عليه السلام " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوهم "
جزء : 3 رقم الصفحة : 375
{ وَكَذَالِكَ } ومثل ذلك الإنزال { أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ } [الزمر : 2] أي أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية ، أو كما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب { فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [العنكبوت : 47] هم عبد الله بن سلام ومن معه { وَمِنْ هؤلاء } [العنكبوت : 47] أي من أهل مكة { مَن يُؤْمِنُ } [النمل : 81] أو أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب ومن هؤلاء الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ } [العنكبوت : 49] مع ظهورها وزوال الشبهة عنها { إِلا الْكَـافِرُونَ } [العنكبوت : 47] إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه ككعب بن الأشرف وأضرابه { وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ } من قبل القرآن { مِن كِتَـابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [العنكبوت : 48] خص اليمين لأن الكتابة غالباً تكون باليمين أي ما كنت قرأت كتاباً من الكتب ولا كنت كاتباً { إِذًا } أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة ومن الخط { ارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت : 48] من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجد نعته في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به ، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده.
وسماهم مبطلين لإنكارهم نبوته.
وعن مجاهد والشعبي : ما مات النبي صلى الله عليه وسلّم حتى كتب وقرأ { بَلْ هُوَ } [العنكبوت : 49] أي القرآن { بَيِّنَـاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا } [العنكبوت : 49] أي في صدور العلماء به وحفاظه وهما من خصائص القرآن كون آياته بينات الإعجاز وكونه محفوظاً في الصدور بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات ولا كانت تقرأ إلا
376
من المصاحف { وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ } [العنكبوت : 49] الواضحة { إِلا الظَّـالِمُونَ } [العنكبوت : 49] أي المتوغلون في الظلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 376
(3/209)
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَـاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } آية بغير ألف : مكي وكوفي غير حفص.
أرادوا هلا أنزل عليه آيات مثل الناقة والعصا ومائدة عيسى عليهم السلام ونحو ذلك { قُلْ إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ } [الأنعام : 109] ينزل أيتها شاء ولست أملك شيئاً منها { وَإِنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [العنكبوت : 50] كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات وليس لي أن أقول أنزل على آية كذا دون آية كذا مع علمي أن المراد من الآيات ثبوت الدلالة والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [العنكبوت : 51] أي أولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان ، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها ، أو تكون في مكان دون مكان { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] أي في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر { لَرَحْمَةً } لنعمة عظيمة { وَذِكْرَى } وتذكرة { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] دون المتعنتين { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا } [العنكبوت : 52] أي شاهداً بصدق ما أدعيه من الرسالة وأنزل القرآن علي وبتكذيبكم { يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [العنكبوت : 52] فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بحقي وباطلكم { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبَـاطِلِ } [العنكبوت : 52] باليهودية أو بالشرك إو بإبليس { وَكَفَرُوا بِاللَّهِ } [العنكبوت : 52] وآياته { أؤلئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 27] المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف كقوله { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [سبأ : 24] وروي أن كعب ابن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت
377
جزء : 3 رقم الصفحة : 377
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } [الحج : 47] بقولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ } الآية.
{ وَلَوْلا أَجَلٌ مُّسَمًّى } [العنكبوت : 53] وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو وقت فنائهم باجالهم ، والمعنى ولولا أجل قد سماه الله وبينه في اللوح لعذبهم والحكمة تقتضي تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى { لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ } [العنكبوت : 53] عاجلاً { وَلَيَأْتِيَنَّهُم } العذاب عاجلاً أو ليأتينهم العذاب في الأجل المسمى { بَغْتَةً } فجأة { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] بوقت مجيئه.
{ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَـافِرِينَ } [العنكبوت : 54] أي ستحيط بهم { يَوْمَ يَغْشَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [العنكبوت : 55] لقوله تعالى : { مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر : 16].
ولا وقف على بالكافرين لأن يوم ظرف إحاطة النار بهم { وَيَقُولُ } بالياء : كوفي ونافع ، وقوله { ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت : 55] أي جزاء أعمالكم.
{ يَـاعِبَادِىَ } وبسكون الياء : بصري وكوفي غير عاصم { الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ } وبفتح الياء : شامي يعني أن المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه فليهاجر عنه إلى بلد يقدر أنه فيه أسلم قلباً وأصبح ديناً وأكثر عبادة ، والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كثيراً.
وقالوا : لم نجد أعون على قهر النفس وأجمع للقلب وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني من مكة حرسها الله تعالى.
وعن سهل : إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم " من فر بدينه من أرض إلى
378
(3/210)
أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة " { فَإِيَّـاىَ فَاعْبُدُونِ } [العنكبوت : 56] وبالياء : يعقوب.
وتقديره فإياي اعبدوا فاعبدوني.
وجيء بالفاء في فاعبدون لأنه جواب شرط محذوف لأن المعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص ، ثم شجع المهاجر بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 378
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآ ـاِقَةُ الْمَوْتِ } [العنكبوت : 57] أي واجدة مرارته وكربه كما يجد ، الذائق طعم المذوق لأنها إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارق وطنها { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [العنكبوت : 57] بعد الموت للثواب والعقاب يرجعون يحيى ترجعون يعقوب.
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا } [العنكبوت : 58] لننزلنهم من الجنة علالي.
لنثوينهم كوفي غير عاصم من الثواء وهو النزول للإقامة ، وثوى غير متعد فإذا تعدى بزيادة الهمزة لم يجاوز مفعولاً واحداً.
والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف ، أما إجراؤه مجرى لننزلنهم أو لنؤينهم ، أو حذف الجار وإيصال الفعل ، أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ } [العنكبوت : 58] ويوقف على العاملين على أن { الَّذِينَ صَبَرُوا } [النحل : 96] خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا على مفارقة الأوطان وعلى أذى المشركين وعلى المحن والمصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي ، والوصل أجود ليكون { الَّذِينَ } نعتا لـ العاملين { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الانفال : 2] ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أسلم من مكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فنزلت { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ } [العنكبوت : 60] أي وكم من دابة وكائن بالمد والهمز : مكي والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أم لم تعقل { لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا } [العنكبوت : 60] لا تطيق أن
379
تحمله لضعفها عن حمله { اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } [العنكبوت : 60] أي لا يرزق تلك الدّواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو ، وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها لأنه لو لم يقدركم ولم يقدر لكم أسباب الكسب لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل.
وعن الحسن : لا تحمل رزقها لا تدخره إنما تصبح فيرزقها الله.
وقيل : لا يدخر شيء من الحيوان قوتاً إلا ابن آدم والفأرة والنملة { وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لقولكم نخشى الفقر والعيلة { الْعَلِيمُ } بما في ضمائركم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 379
{ وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [العنكبوت : 61] أي ولئن سألت هؤلاء المشركين من خلق السماوات والأرض على كبرهما وسعتهما ، ومن الذي سخر الشمس والقمر { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [العنكبوت : 61] فكيف يصرفون عن توحيد الله مع إقرارهم بهذا كله.
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُا } [العنكبوت : 62] أي لمن يشاء فوضع الضمير موضع من يشاء لأن من يشاء مبهم غير معين فكان الضمير مبهماً مثله.
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 231] يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
في الحديث " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك " { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 63] أي هم مقرون بذلك { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [العنكبوت : 63] على إنزاله الماء لإحياء الأرض أو على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفى الشركاء عنه ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [العنكبوت : 63] لا يتدبرون بما
380
فيهم من العقول فيما نريهم من الآيات ونقيم عليهم من الدلالات ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله
(3/211)
جزء : 3 رقم الصفحة : 380
{ وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } [العنكبوت : 64] أي وما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون ، وفيه ازدراء بالدنيا وتصغير لأمرها وكيف لا يصغرها وهي لاتزن عنده جناح بعوضة واللهو ما يتلذذ به الإنسان فيلهيه ساعة ثم ينقضي { وَإِنَّ الدَّارَ الاخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ } [العنكبوت : 64] أي الحياة أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة لا موت فيها فكأنها في ذاتها حياة.
والحيوان مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً ولم يقل " لهي الحياة " لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، والحياة حركة والموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ، ويوقف على الحيوان لأن التقدير { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] حقيقة الدارين لما اختاروا اللهو الفاني على الحيوان الباقي ، ولو وصل لصار وصف الحيوان معلقاً بشرط علمهم ذلك وليس كذلك.
{ فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ } [العنكبوت : 65] هو متصل بمحذوف دل عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم معناه : هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [يونس : 22] كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلاهاً آخر { فَلَمَّا نَجَّـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ } [العنكبوت : 65] وأمنوا { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت : 65] عادوا إلى حال الشرك { لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ } [النحل : 55] من النعمة.
قيل : هي لام كي وكذا في { وَلِيَتَمَتَّعُوا } فيمن قرأها بالكسر أي لكي يكفروا وكي يتمتعوا ، والمعنى يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود إلى شركهم كافرين بنعمة النجاة قاصدين التمتيع بها والتلذذ لا غير على خلاف عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة فإنهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ، ويجعلون نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة لا إلى التلذذ والتمتع ، وعلى هذا لا وقف على يشركون.
ومن جعله لام الأمر متثبتاً بقراءة ابن كثير وحمزة وعلي
381
وليتمتعوا بسكون اللام على وجه التهديد كقوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف : 29] وتحقيقه في أصول الفقه يقف عليه { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3] سوء تدبيرهم عند تدميرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 381
{ أَوَلَمْ يَرَوْا } [الإسراء : 99] أي أهل مكة { أَنَّا جَعَلْنَا } [العنكبوت : 67] بلدهم { حَرَمًا } ممنوعاً مصوناً { مِنْ } يأمن داخله { وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت : 67] يستلبون قتلاً وسبياً { أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 72] أي أبالشيطان والأصنام { وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت : 67] أي بمحمد عليه السلام والإسلام { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام : 21] بأن جعل له شريكاً { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ } [العنكبوت : 68] بنبوة محمد عليه السلام والكتاب { لَمَّا جَآءَهُا } [العنكبوت : 68] أي لم يتلعثموا في تكذيبه حين سمعوه { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ } [العنكبوت : 68] هذا تقرير لثوائهم في جهنم لأن همزة الإنكار إذا أدخلت على النفي صار إيجاباً يعني ألا يثوون فيها وقد افتروا مثل هذا التكذيب على الله وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب؟ أو ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حين اجترؤوا مثل هذه الجراءة؟ وذكر المثوى في مقابلة لنبوئنهم يؤيد قراءة الثاني { وَالَّذِينَ جَـاهَدُوا } [العنكبوت : 69] أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس والشيطان وأعداء الدين { فِينَا } في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت : 69] سبلنا أبو عمرو أي لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً.
وعن الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا فقد قيل : من عمل بما علم وفق لما لا يعلم.
وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لا
382
(3/212)
نعلم إنما هو لتقصيرنا فيما نعلم.
وعن فضيل : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به.
وعن سهل : والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة.
وعن ابن عطاء : جاهدوا في رضانا لنهدينهم الوصول إلى محل الرضوان.
وعن ابن عباس : جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا.
وعن الجنيد : جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص ، أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا والأنس بنا ، أو جاهدوا في طلبنا تحرياً لرضانا لنهدينهم سبل الوصول إلينا.
{ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت : 69] بالنصرة والمعونة في الدنيا وبالثواب والمغفرة في العقبى.
383
سورة الروم
(مكية وهي ستون أو تسع وخمسون آية والاختلاف في بضع سنين)
{ الاـم * غُلِبَتِ الرُّومُ } أي غلبت فارس الروم { فِى أَدْنَى الارْضِ } [الروم : 3] أي في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، والمعنى غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام ، أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم { وَهُمْ } أي الروم { مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } [الروم : 3] أي غلبة فارس إياهم.
وقرىء بسكون اللام فالغلب والغلب مصدران وقد أضيف المصدر إلى المفعول { سَيَغْلِبُونَ } فارس ، ولا وقف عليه لتعلق { فِى بِضْعِ سِنِينَ } [الروم : 4] به ، وهو ما بين الثلاث إلى العشرة.
قيل : احتربت فارس والروم بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم والملك بفارس يومئذ كسرى ابرويز فبلغ الخبر مكة فشق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين لأن فارس
384
مجوس لا كتاب لهم والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا : أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن فارس أميون وقد ظهر إخواننا على أخوانكم ولنظهرن نحن عليكم فنزلت.
فقال لهم أبو بكر : والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أبيّ بن خلف : كذبت فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال عليه السلام " زد في الخطر وأبعد في الأجل " فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين.
ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية أو يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ فقال عليه السلام : " تصدق به " .
وهذه آية بينة على صحة نبوته وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب وكان ذلك قبل تحريم القمار.
عن قتادة ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره جائزة في دار الحرب بين المسلمين وقد احتجا على صحة ذلك بهذه القصة.
{ لِلَّهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم : 4] أي من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء أو حين غلبوا وحين يغلبون كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين يعني أن كونهم مغلوبين أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه { وَتِلْكَ الايَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران : 140] { وَيَوْمَـاـاِذٍ } ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعد الله من غلبتهم { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } [الروم : 4]
جزء : 3 رقم الصفحة : 384
بنصر الله } وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة.
وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم ، والباء يتصل بـ يفرح فيوقف على الله على " المؤمنين " { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ } [الروم : 5] الغالب على أعدائه { الرَّحِيمُ } العاطف على أوليائه { وَعْدَ اللَّهِ } [النور : 55] مصدر مؤكد لأن قوله وهم من بعد غلبهم سيغلبون وعد من الله
385
للمؤمنين ، فقوله وعد الله بمنزلة وعد الله المؤمنين وعداً { لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } [الروم : 6] بنصر الروم على فارس { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] ذلك
جزء : 3 رقم الصفحة : 385(3/213)
{ يَعْلَمُونَ } بدل من لا يعلمون وفيه بيان أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز عن تحصيل الدنيا.
وقوله { ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الروم : 7] يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، وباطنها أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة وبالأعمال الصالحة.
وتنكير الظاهر يفيد أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها { وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ } [الروم : 7] هم الثانية مبتدأ وغافلون خبره والجملة خبر هم الأولى ، وفيه بيان أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرها.
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم } [الروم : 8] يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل : أولم يثبتوا التفكير في أنفسهم أي في قلوبهم الفارغة من الفكر والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقوله " اعتقده في قلبك " ، وأن يكون صلة للتفكر نحو تفكير في الأمر وأجال نفيه فكره ، ومعناه على هذا : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات وهم أعلم بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فيتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكمة الدالة على التدبير دون الإهمال ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى وقت تجازى فيه على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جارٍ على الحكمة في التدبير ، وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت؟ { مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الروم : 8] متعلق بالقول المحذوف معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول؟ وقيل : معناه فيعلموا لأن في الكلام دليلاً عليه { إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } [الأحقاف : 3] أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير حكمة بالغة ولا لتبقى خالدة ، إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجلٍ مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة ووقت
386
الحساب والثواب والعقاب ، ألا ترى إلى قوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون : 115] كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِى أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ } [الروم : 8] بالبعث والجزاء { لَكَـافِرُونَ } لجاحدون.
وقال الزجاج : أي لكافرون بلقاء ربهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 386
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الروم : 9] هو تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى اثار المدمرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية.
ثم وصف حالهم فقال { كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الارْضَ } [الروم : 9] وحرثوها { وَعَمَرُوهَآ } أي المدمرون { أَكْثَرَ } صفة مصدر محذوف.
و " ما " مصدرية في { مِمَّا عَمَرُوهَا } [الروم : 9] أي من عمارة أهل مكة { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ } [الروم : 9] وتقف عليها لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأهلكوا { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } [التوبة : 70] فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم { ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ } [الروم : 10] بالنصب : شامي وكوفي { الَّذِينَ } تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، ومحلها رفع على أنها اسم " كان " عند من نصب { ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ } [الروم : 10] على الخبر ونصب عند من رفعها ، والمعنى أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كانت عاقبتهم السوأ ، إلا أنه وضع المظهر وهو الذين أساؤوا موضع المضمر أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي النار التي أعدت للكافرين { أَن كَذَّبُوا } [الروم : 10] لأن كذبوا أو بأن وهو يدل على أن معنى أساؤوا كفروا { ثُمَّ كَانَ عَـاقِبَةَ الَّذِينَ } [الروم : 10] يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم
387
جزء : 3 رقم الصفحة : 387
(3/214)
{ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ } [يونس : 34] ينشئهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } [العنكبوت : 19] يحييهم بعد الموت { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 28] وبالياء : أبو عمرو وسهل.
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ } [الروم : 12] ييأس ويتحير.
يقال : ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج { الْمُجْرِمُونَ } المشركون { وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَآ ـاِهِمْ } [الروم : 13] من الذين عبدوهم من دون الله.
وكتب { شُفَعَـاؤا } في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل وكذلك كتبت السوأى بالألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها { وَكَانُوا بِشُرَكَآ ـاِهِمْ كَـافِرِينَ } [الروم : 13] أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم.
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم : 14] الضمير في يتفرقون للمسلمين والكافرين لدلالة ما بعده عليه حيث قال { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ } [الروم : 15] أي بستان وهي الجنة ، والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه { يُحْبَرُونَ } يسرون.
يقال : حبره إذا سره سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، ثم اختلف فيه لاحتمال وجوه المسار فقيل يكرمون ، وقيل يحلون ، وقيل هو السماء في الجنة { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَلِقَآى ِ الاخِرَةِ } [الروم : 16] أي البعث { فَأُوالَـائكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } [الروم : 16] مقيمون لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم كقوله : { وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } [المائدة : 37].
لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد فقال { فَسُبْحَـانَ اللَّهِ } [الروم : 17] والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء
388
والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعمة الله الظاهرة أو الصلاة ، فقيل لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال : نعم وتلا هذه الآية.
وهو نصب على المصدر والمعنى نزهوه عما لا يليق به أوصلوا لله { حِينَ تُمْسُونَ } [الروم : 17] صلاة المغرب والعشاء { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم : 17] صلاة الفجر
جزء : 3 رقم الصفحة : 388
{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الروم : 18] اعتراض ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه ، وفي السماوات حال من الحمد { وَعَشِيًّا } صلاة العصر وهو معطوف على حين تمسون ، وقوله عشياً متصل بقوله حين تمسون { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم : 18] صلاة الظهر أظهر أي دخل في وقت الظهيرة ، والقول الأكثر أن الصلوات الخمس فرضت بمكة { يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [الأنعام : 95] الطائر من البيضة أو الإنسان من النطفة أو المؤمن من الكافر { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } [يونس : 31] أي البيضة من الطائر أو النطفة من الإنسان أو الكافر من المؤمن ، والميت بالتخفيف فيهما : مكي وشامي وأبو عمرو وأبو بكر وحماد ، وبالتشديد : غيرهم { وَفِى الارْضِ } بالنبات { بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم : 50] يبسها { وَكَذَالِكَ تُخْرَجُونَ } [الروم : 19] تخرجون حمزة وعلي وخلف ، أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم.
والكاف في محل النصب بـ تخرجون ، والمعنى أن الإبداء والإعادة يتساويان في قدرة من هو قادر على إخراج الميت من الحي وعكسه.
روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال " من قرأ فسبحان الله حين تمسون إلى الثلاث ، وأخر سورة والصافات دبر كل صلاة كتب له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر الأمطار وورق الأشجار وتراب الأرض ، فإذا مات أجري له بكل حرف عشر حسنات في قبره " قال عليه السلام " من قرأ حين يصبح فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " .
ومن آياته ومن علامات ربوبيته وقدرته { أَنْ خَلَقَكُم } [الروم : 20] أي أباكم
389
{ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُم بَشَرٌ } [الروم : 20] أي آدم وذريته { تَنتَشِرُونَ } تنصرفون فيما فيه معاشكم ، وإذا للمفاجأة وتقديره : ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 389
(3/215)
{ وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } [الروم : 21] أي حواء خلقت من ضلع آدم عليه السلام والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال ، أو من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون وما بين الجنسين المختلفين من التنافر.
يقال : سكن إليه إذا مال إليه { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم : 21] أي جعل بينكم التواد والتراحم بسبب الزواج.
وعن الحسن : المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد.
وقيل : المودة للشابة والرحمة للعجوز.
وقيل : المودة والرحمة من الله والفرك من الشيطان أي بغض المرأة زوجها وبغض الزوج المرأة { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد : 3] فيعلمون أن قوام الدنيا بوجود التناسل { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافُ أَلْسِنَتِكُمْ } [الروم : 22] أي اللغات أو أجناس النطق وأشكاله { وَأَلْوَانِكُمْ } كالسواد والبياض وغيرهما ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف وإلا فلو تشاكلت واتفقت لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت المصالح ، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله متفاوتون.
{ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّلْعَـالِمِينَ } [الروم : 22] للعالمين جمع " عالم " ، وبكسر اللام : حفص عالم ويشهد للكسر قوله تعالى { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَـالِمُونَ } [العنكبوت : 43] { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِهِ } [الروم : 23] هذا من باب اللف ، وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين القرينين الأولين بالقرينين الآخرين ، أو المراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما ،
390
والجمهور على الأول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [يونس : 67] أي يسمعون سماع تدبر باذان واعية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 390
{ وَمِنْ ءَايَـاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } [الروم : 24] في يريكم وجهان : إضمار أن كما في حرف ابن مسعود رضي الله عنه وإنزال الفعل منزلة المصدر وبهما فسر المثل " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " أي أن تسمع أو سماعك { خَوْفًا } من الصاعقة أو من الإخلاف { وَطَمَعًا } في الغيث أو خوفاً للمسافر وطمعاً للحاضر ، وهما منصوبان على المفعول له على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي إرادة خوف وإرادة طمع ، أو على الحال أي خائفين وطامعين { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ } [الروم : 24] وبالتخفيف : مكي وبصري ماءً مطراً { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ } [الروم : 24] يتفكرون بعقولهم { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَن تَقُومَ } [الروم : 25] تثبت بلا عمد { السَّمَآءُ وَالارْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم : 25] أي بإقامته وتدبيره وحكمته { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } [الروم : 25] للبعث { دَعْوَةً مِّنَ الارْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [الروم : 25] من قبوركم هذا كقوله يريكم في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض واستمساكها بغير عمد ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا ، والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف.
وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بـ " ثم " بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر : 68] و " إذا " الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط ومن الأرض متعلق بالفعل لا بالمصدر.
وقولك " دعوته من مكان كذا " يجوز أن يكون مكانك ويجوز أن يكون مكان صاحبك
391
جزء : 3 رقم الصفحة : 391
{ وَلَهُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ كُلٌّ لَّهُ قَـانِتُونَ } [الروم : 26] منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه أو مقرون بالعبودية.
(3/216)
{ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَؤُا الْخَلْقَ } [الروم : 27] أي ينشئهم { ثُمَّ يُعِيدُهُ } [العنكبوت : 19] للبعث { وَهُوَ } أي البعث { أَهْوَنُ } أيسر { عَلَيْهِ } عندكم لأن الإعادة عندكم أسهل من الإنشاء فلم أنكرتم الإعادة ، وأخرت الصلة في قوله وهو أهون عليه وقدمت في قوله : و { هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ } [مريم : 9].
لقصد الاختصاص هناك ، وأما هنا فلا معنى للاختصاص.
وقال أبو عبيدة والزجاج وغيرهما الأهون بمعنى الهين فيوصف به الله عز وجل وكان ذلك على الله يسيراً كما قالوا : الله أكبر أي كبير ، والإعادة في نفسها عظيمة ولكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء ، أو هو أهون على الخلق من الإنشاء لأن قيامهم بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفاً ثم علقاً ثم مضغ إلى تكميل خلقهم { وَلَهُ الْمَثَلُ الاعْلَى فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الروم : 27] أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره وقد عرف به ووصف في السماوات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ويدل عليه قوله { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] أي القاهر لكل مقدور { الْحَكِيمُ } الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : المثل الأعلى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى : 11] .
جزء : 3 رقم الصفحة : 392
وعن مجاهد : هو قول لا إله إلا الله.
ومعناه وله الوصف الأرفع الذي هو الوصف بالوحدانية ويعضده قوله { ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [الروم : 28] فهذا مثل ضربه الله عز وجل لمن جعل له
392
شريكاً من خلقه.
و " من " للابتداء كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم { هَل لَّكُم } [الروم : 28] معاشر الأحرار { مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم } [الروم : 28] عبيدكم و " من " للتبعيض { مِّن شُرَكَآءَ } [الروم : 28] " من " مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي ومعناه : هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشارككم بعضهم { فِى مَا رَزَقْنَـاكُمْ } [الروم : 28] من الأموال وغيرها { فَأَنتُمْ } معاشر الأحرار والعبيد { فِيهِ } في ذلك الرزق { سَوَآءٌ } من غير تفصلة بين حر وعبد يحكم مماليككم في أموالكم كحكمكم { تَخَافُونَهُمْ } حال من ضمير الفاعل في سواء أي متساوون خائفاً بعضكم بعضاً مشاركته في المال ، والمعنى : تخافون معاشرة السادة عبيدكم فيها فلا تمضون فيها حكماً دون إذنهم خوفاً من لائمة تلحقكم من جهتهم { كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } [الروم : 28] يعني كما يخاف بعض الأحرار بعضاً فيما هو مشترك بينهم ، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ { كَذَالِكَ } موضع الكاف نصب أي مثل هذا التفصيل { نُفَصِّلُ الايَـاتِ } [يونس : 24] نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة : 164] يتدبرون في ضرب الأمثال فلما لم ينزجروا أضرب عنهم فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 392
{ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [الروم : 29] أنفسهم بما أشركوا كما قال الله تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13].
{ أَهْوَآءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الروم : 29] أي اتبعوا أهواءهم جاهلين { فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [الروم : 29] أي أضله الله تعالى { وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ } [آل عمران : 22] من العذاب.
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } [الروم : 30] فقوم وجهك له وعد له غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه ، فإن من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه وسدد إليه نظره وقوم له وجهه { حَنِيفًا } حال عن
393
(3/217)
المأمور أو من الدين { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } [الروم : 30] أي الزموا فطرة الله والفطرة الخلقة ، ألا ترى إلى قوله { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] فالمعنى أنه خلقهم قابلين للتوحيد والإسلام غير نائين عنه ولا منكرين له لكونه مجاوباً للعقل مساوقاً للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس ومنه قوله عليه السلام " كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري " وقوله عليه السلام " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه " (2) وقال الزجاج : معناه أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به على ما جاء في الحديث " إن الله عز وجل آخرج من صلب آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم " فقال وإذ أخذ ربك إلى قوله { قَالُوا بَلَى } [الأعراف : 172] وكل مولود هو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى خالقها.
فمعنى فطرة الله دين الله { الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم : 30] أي خلق { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير.
وقال الزجاج : معناه لا تبديل لدين الله ويدل عليه ما بعده وهو قوله { ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [التوبة : 36] أي المستقيم { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] حقيقة ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 393
{ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } [الروم : 33] راجعين إليه وهو حال من الضمير في " الزموا " ، وقوله واتقوه وأقيموا ولا تكونوا معطوف على هذا المضمر ، أو من قوله فأقم وجهك لأن الأمر له عليه السلام أمر لأمته فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم منيبين إليه ، أو التقدير كونوا منبيين دليله قوله ولا تكونوا { وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ } [الروم : 31] أي أدوها في أوقاتها { وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الروم : 31] ممن يشرك به غيره في العبادة { مِنَ الَّذِينَ } [النساء : 51] بدل من المشركين بإعادة الجار { فَرَّقُوا دِينَهُمْ } [الروم : 32] جعلوه أدياناً
394
مختلفة لاختلاف أهوائهم فارقوا حمزة وعلي وهي قراءة علي رضي الله عنه أي تركوا دين الإسلام { وَكَانُوا شِيَعًا } [الروم : 32] فرقاً كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها { كُلُّ حِزْب } [المؤمنون : 53] منهم { بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون : 53] فرح بمذهبه مسرور يحسب باطله حقاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 394
{ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ } [الروم : 33] شدة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك { دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً } [الروم : 33] أي خلاصاً من الشدة { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [الروم : 33] في العبادة { لِيَكْفُرُوا } هذه لام كي.
وقيل : لام الأمر للوعيد { لِيَكْفُرُوا بِمَآ } [النحل : 55] من النعم { فَتَمَتَّعُوا } بكفركم قليلاً أمر وعيد { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 123] وبال تمتعكم { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا } [الروم : 35] حجة { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } [الروم : 35] وتكلمه مجاز كما تقول " كتابه ناطق بكذا " وهذا مما نطق به القرآن ، ومعناه الشهادة كأنه قال : فهو يشهد بشركهم وبصحته { بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } [الروم : 35] " ما " مصدرية أي بكونهم بالله يشركون ، أو موصولة ويرجع الضمير إليها أي فهو يتكلم بالأمر الذي بسببه يشركون ، أو معنى الآية أم أنزلنا عليهم ذا سلطان أي ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً } [الروم : 36] أي نعمة من مطر أوسعة أوصحة { فَرِحُوا بِهَا } [الروم : 36] بطروا بسببها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ } [الروم : 36] أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] بسبب شؤم معاصيهم { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم : 36] من الرحمة و إذا المفاجأة جواب الشرط نابت عن الفاء لتاخيهما في التعقيب.
395
(3/218)
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الروم : 37] أنكر عليهم بأنهم قد علموا بأنه القابض الباسط فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين عن المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها حتى يعيد إليهم رحمته ولما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 395
{ وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى } [الإسراء : 26] أعط قريبك { حَقَّهُ } من البر والصلة { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] نصيبهما من الصدقة المسماة لهما ، وفيه دليل وجوب النفقة للمحارم كما هو مذهبنا { ذَالِكَ } أي إيتاء حقوقهم { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [الروم : 38] أي ذاته أي يقصدون بمعروفهم أياه خالصاً { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5].
{ وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَا فِى أَمْوَالِ النَّاسِ } [الروم : 39] يريد وما أعطيتم أكلة الربا من رباً ليربوا في أموالهم { فَلا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ } [الروم : 39] فلا يزكوا عند الله ولا يبارك فيه.
وقيل : هو من الربا الحلال أي وما تعطونه من الهدية لتأخذوا أكثر منها فلا يربوا عند الله لأنكم لم تريدوا بذلك وجه الله { وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زَكَواةٍ } [الروم : 39] صدقة { تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } [الروم : 39] تبتغون به وجهه خالصاً لا تطلبون به مكافأة ولا رياء ولا سمعة { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم : 39] ذوو الإضعاف من الحسنات ونظير المضعف المقوى والموسر لذي القوة واليسار.
أتيتم من ربا بلامد : مكي أي وما غشيتموه من إعطاء ربا مدني أي لتزيدوا في أموالهم.
وقوله فأولئك هم المضعفون التفات حسن لأنه يفيد التعميم كأنه قيل : من فعل هذا فسبيله سبيل المخاطبين.
والمعنى المضعفون به لأنه لا بد له من ضمير يرجع إلى " ما " الموصولة.
وقال الزجاج : في قوله فأولئك هم المضعفون أي فأهلها هم المضعفون أي هم الذي يضاعف لهم الثواب يعطون بالحسنة عشر أمثالها.
ثم أشار إلى عجز آلهتهم فقال
396
جزء : 3 رقم الصفحة : 396
(3/219)
{ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ } [الروم : 40] مبتدأ وخبر { ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الروم : 40] أي هو المختص بالخلق والرزق والإماتة والإحياء { هَلْ مِن شُرَكَآ ـاِكُم } [يونس : 34] أي أصنامكم التي زعمتم أنهم شركاء لله { مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُم } [الروم : 40] أي من الخلق والرزق والإماتة والإحياء { مِّن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] أي شيئاً من تلك الأفعال فلم يجيبوا عجزاً فقال استبعاداً { سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18] و " من " الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الروم : 41] نحو القحط وقلة الأمطار والريع في الزراعات والربح في التجارات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة الحرق والغرق ومحق البركات من كل شيء { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ } [الروم : 41] بسبب معاصيهم وشركهم كقوله : { وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى : 30] { لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِى عَمِلُوا } [الروم : 41] أي ليذيقهم وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، وبالنون عن قنبل { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] عما هم عليه من المعاصي.
ثم أكد تسبيب المعاصي لغضب الله ونكاله بقوله { قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ } [الروم : 42] حيث أمرهم بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعصايهم { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ } [الروم : 43] البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ } [الروم : 43] هو مصدر بمعنى الرد { مِنَ اللَّهِ } [الجن : 22] يتعلق بيأتي والمعنى من قبل أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد كقوله تعالى : { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أو
397
بمرد على معنى لا يرده هو بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته { يَوْمَـاـاِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم : 43] يتصدعون أي يتفرقون.
ثم أشار إلى غناه عنهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 397
{ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } [الروم : 44] أي وبال كفره { وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلانفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [الروم : 44] أي يسوون لأنفسهم ما يسويه لنفسه الذي يمهد لنفسه فراشه ويوطئه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده من نتوء وغيره ، والمعنى أنه يمهد لهم الجنة بسبب أعمالهم فأضيف إليهم.
وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أن ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تجاوزه.
ليجزى متعلق بـ يمهدون تعليل له وتكرير { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 25] وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن { مِّن فَضْلِهِ } [النساء : 32] أي عطائه.
وقوله { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ } [الروم : 45] تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ } [الروم : 25] أي ومن آيات قدرته { أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ } [الروم : 46] هي الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة ، وأما الدبور فريح العذاب ومنه قوله عليه السلام " اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً " وقد عدد الفوائد في إرسالها فقال { مُبَشِّرَاتٍ } أي أرسلها للبشارة بالغيث { وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [الروم : 46] ولإذاقة الرحمة وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض وغير ذلك.
وليذيقكم معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم { وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ } [الروم : 46] في البحر عند هبوبها { بِأَمْرِهِ } أي بتدبيره أو بتكوينه كقوله { إِنَّمَآ أَمْرُهُا إِذَآ أَرَادَ شيئا } [يس : 82] الآية.
{ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } [النحل : 14] يريد تجارة البحر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] ولتشكروا نعمة الله فيها.
398
جزء : 3 رقم الصفحة : 398
(3/220)
{ بِالْبَيِّنَـاتِ } أي فآمن بهم قوم وكفر بهم قوم ، ويدل على هذا الإضمار قوله { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } [الروم : 47] أي كفروا بالإهلاك في الدنيا { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم : 47] أي وكان نصر المؤمنين حقاً علينا بإنجائهم مع الرسل.
وقد يوقف على حقاً ومعناه وكان الانتقام منهم حقاً ثم يبدأ علينا نصر المؤمنين والأول أصح { اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ } [الروم : 48] الريح مكي { فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ } [الروم : 48] أي السحاب { فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] أي في سمت السماء وشقها كقوله { وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ } [إبراهيم : 24] { كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران : 6] من ناحية الشمال أو الجنوب أو الدبور أو الصبا { وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا } [الروم : 48] قطعاً جمع كسفة أي يجعله منبسطاً يأخذ وجه السماء مرة ويجعله قطعاً متفرقة غير منبسطة مرة.
كسفا يزيد وابن ذكوان { فَتَرَى الْوَدْقَ } [النور : 43] المطر { يُخْرِجُ } في التارتين جميعاً { مِنْ خِلَـالِهِ } [الروم : 48] وسطه { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ } [الروم : 48] بالودق { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [الروم : 48] يريد إصابة بلادهم وأراضيهم { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الروم : 48] يفرحون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 399
{ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم } [الروم : 49] المطر { مِّن قَبْلِهِ } [الإسراء : 107] كرر للتأكيد كقوله : { فَكَانَ عَـاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَـالِدَيْنِ فِيهَا } [الحشر : 17] ومعنى التوكيد فيها الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول فاستحكم بأسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك { لَمُبْلِسِينَ } ايسين { فَانظُرْ إِلَى ءَاثَـارِ } [الروم : 50] شامي وكوفي غير أبي بكر.
وغيرهم { أَثَرِ } { رَحْمَتِ اللَّهِ } [الزمر : 53] أي المطر { كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ } بالنبات وأنواع الثمار { بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَالِكَ } [الروم : 50]
399
أي الله { فَانظُرْ إِلَى } [الروم : 50] يعني أن ذلك القادر الذي يحيي الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الناس بعد موتهم ، فهذا استدلال بإحياء الموات على إحياء الأموات { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة : 120] أي وهو على كل شيء من المقدورات قادر وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 399
(3/221)
{ وَلَـاـاِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا } [الروم : 51] أي الدبور { فَرَأَوْهُ } أي أثر رحمه الله لأن رحمة الله هي الغيث وأثرها النبات.
ومن قرأ بالجمع رجع الضمير إلى معناه لأن معنى اثار الرحمة النبات واسم النبات يقع على القليل والكثير لأنه مصدر سمي به ما ينبت { مُصْفَرًّا } بعد اخضراره.
وقال مصفرا لأن تلك صفرة حادثة.
وقيل : فرأوا السحاب مصفراً لأن السحاب الأصفر لا يمطر.
واللام في لئن موطئه للقسم دخلت على حرف الشرط ، وسد مسد جوابي القسم والشرط { لَّظَلُّوا } ومعناه ليظلن { مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } [الروم : 51] أي من بعد اصفراره أو من بعد الاستبشار ، ذمهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم المطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر استبشروا ، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ضجوا وكفروا بنعمة الله فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله فقنطوا ، وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ففرحوا ، وأن يصبروا على بلائه فكفروا.
{ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [الروم : 52] أي موتى القلوب أو هؤلاء في حكم الموتى فلا تطمع أن يقبلوا منك { وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ } [النمل : 80] ولا يسمع الصم مكي { إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } [النمل : 80] فإن قلت : الأصم لا يسمع مقبلاً أو مدبراً ، فما فائدة هذا التخصيص؟ قلت : هو إذا كان مقبلاً يفهم بالرمز بالإشارة فإذا ولى لا يسمع ولا يفهم بالإشارة { وَمَآ أَنتَ بِهَـادِ الْعُمْىِ } [الروم : 53] أي عمى القلوب ، وما أنت تهدى العمي حمزة { عَن ضَلَـالَتِهِمْ } [النمل : 81] أي لا يمكنك أن تهدي الأعمى إلى طريق قد ضل عنه بإشارة منك له إليه { إِن تُسْمِعُ } [النمل : 81] ما تسمع { وَمَآ أَنتَ بِهَـادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَـالَتِهِمْ } [النمل : 81] منقادون لأوامر الله تعالى.
400
جزء : 3 رقم الصفحة : 400
{ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ } [الروم : 54] من النطف كقوله { مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [السجدة : 8] { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } [الروم : 54] يعني حال الشباب وبلوغ الأشد { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } [الروم : 54] يعني حال الشيخوخة والهرم { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [آل عمران : 47] من ضعف وقوة وشباب وشيبة { وَهُوَ الْعَلِيمُ } [التحريم : 2] بأحوالهم { الْقَدِيرُ } على تغييرهم وهذا الترديد في الأحوال أبين دليل على الصانع العليم القدير.
فتح الضاد في الكل : عاصم وحمزة ، وضم غيرهما وهو اختيار حفص ، وهما لغتان والضم أقوى في القراءة لما روي عن ابن عمر قال : قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ضعف فأقرأني من ضُعفٍ.
{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } [غافر : 46] أي القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة كما تقول في ساعة لمن تستعجله وجرت علماً لها كالنجم للثريا { يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ } [الروم : 55] يحلف الكافرون ، ولا وقف عليه لأن { مَا لَبِثُوا } [الروم : 55] في القبور أو في الدنيا { غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم : 55] جواب القسم استقلوا مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لهول يوم القيامة وطول مقامهم في شدائدها أو ينسون أو يكذبون { كَذَالِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ } [الروم : 55] أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق إلى الكذب في الدنيا ويقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 401
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالايمَـانَ } [الروم : 56] هم الأنبياء والملائكة والمؤمنون { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَـابِ اللَّهِ } [الروم : 56] في علم الله المثبت في اللوح أو في حكم الله وقضائه { إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } [الروم : 56] ردوا ما قالوه وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة ، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم { فَهَـاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـاكِنَّكُمْ كُنتُمْ } [الروم : 56] في الدنيا { لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 30] أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.
والفاء لجواب شرط يدل عليه الكلام تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث الذي أنكرتموه
401
(3/222)
جزء : 3 رقم الصفحة : 401
{ فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يَنفَعُ } [الروم : 57] بالياء : كوفي { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] كفروا { مَعْذِرَتُهُمْ } عذرهم { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة من قولك " استعتبني فلان فأعتبته " أي استرضاني فأرضيته { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَـاـاِن جِئْتَهُم بِـاَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ } [الروم : 58] أي ولقد وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا جئتنا بزور باطل { كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الروم : 59] أي مثل ذلك الطبع وهو الختم يطبع الله على قلوب الجهلة الذين علم الله منهم اختيار الضلال حتى يسموا المحقين مبطلين وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة { فَاصْبِرْ } على أذاهم أو عداوتهم { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [غافر : 77] بنصرتك على أعدائك وإظهار دين الإسلام على كل دين { حَقٌّ } لا بد من إنجازه والوفاء به { وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } [الروم : 60] أي لا يحملنك هؤلاء الذين لا يوقنون بالآخرة على الخفة والعجلة في الدعاء عليهم بالعذاب ، أو لا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم ضلال شاكون لا يستبدع منهم ذلك ولا يستخفنك بسكون النون عن يعقوب.
402
سورة لقمان
مكية وهي ثلاث أو أربع وثلاثون آية
{ الاـم * تِلْكَ ءَاَيَـاتُ الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ } ذي الحكمة أو وصف بصفة الله عز وجل على الإسناد المجازي { هُدًى وَرَحْمَةً } [الأعراف : 52] حالان من الآيات والعامل معنى الإشارة في تلك حمزة بالرفع على أن تلك مبتدأ و آيات الكتاب خبره و هدى خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هي هدى ورحمة { لِّلْمُحْسِنِينَ } للذين يعملون الحسنات المذكورة في قوله { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ونظيره قول أوس :
الألمعيّ الذي يظن بك الظ
ــن كأن قد رأى وقد سمعا
403
أو للذين يعملون جميع ما يحسن.
ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاثة لفضلها
جزء : 3 رقم الصفحة : 403
{ أؤلئك عَلَى هُدًى } [البقرة : 5] مبتدأ وخبر { مِّن رَّبِّهِمُ } [محمد : 3] صفة لـ هدى { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] عطف عليه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ } [لقمان : 6] نزلت في النضر بن الحرث وكان يشتري أخبار الأكاسرة من فارس ويقول : إن محمداً يقص طرفاً من قصة عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث الأكاسرة فيميلون إلى حديثه ويتركون استماع القرآن.
واللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني ولهو الحديث نحو السمر بالأساطير التي لا أصل لها والغناء وكان ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما يحلفان أنه الغناء.
وقيل : الغناء مفسدة للقلب منفدة للمال مسخطة للرب.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم " ما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت " والاشتراء من الشراء كما روي عن النضر ، أو من قوله اشتروا الكفر بالإيمان أي استبدلوه منه واختاروه عليه أي يختارون حديث الباطل على حديث الحق.
وإضافة اللهو إلى الحديث للتبيين بمعنى " من " ، لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث والمراد بالحديث الحديث المنكر كما جاء في الحديث " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " أو للتبعيض كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه.(3/223)
{ لِّيُضِلَّ } أي ليصد الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ، ليضل مكي وأبو عمرو أي ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ويزيد فيه { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] عن دين الإسلام والقرآن { بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] أي جهلاً منه بما عليه من الوزر به { وَيَتَّخِذَهَا } أي السبيل بالنصب كوفي غير أبي بكر عطفاً على ليضل ومن رفع عطفه على يشتري { هُزُوًا } بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبضم الزاي بلا
404
همز : حفص ، وغيرهم بضم الزاي والهمزة { أؤلئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [لقمان : 6] أي يهينهم و " من " لإبهامه يقع على الواحد والجمع أي النضر وأمثاله
جزء : 3 رقم الصفحة : 404
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا } [لقمان : 7] أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } [الجاثية : 8] يشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو حال من مستكبرا والأصل كأنه والضمير ضمير الشأن { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا } [لقمان : 7] ثقلاً وهو حال من لم يسمعها أذنيه : نافع { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ جَنَّـاتُ النَّعِيمِ } ولا وقف عليه لأن { خَـالِدِينَ فِيهَآ } [الجن : 23] حال من الضمير في لهم { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } [يونس : 4] مصدران مؤكدان الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره إذ لهم جنات النعيم في معنى وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد ، و حقاً يدل على معنى الثبات فأكد به معنى الوعد ومؤكدهما لهم جنات النعيم { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] الذي لا يغلبه شيء فيهين أعداءه بالعذاب المهين { الْحَكِيمُ } بما يفعل فيثيب أولياءه بالنعيم المقيم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
{ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ } [لقمان : 10] جمع عماد { تَرَوْنَهَا } الضمير للسماوات وهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة على قوله بغير عمد كما تقول لصاحبك " أنا بلا سيف ولا رمح تراني " ، ولا محل لها من الأعراب لأنها مستأنفة أو في محل الجرصفة لـ عمد أي بغير عمد مرئية يعني أنه عمدها بعمد لا ترى وهي إمساكها بقدرته { وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل : 15] لئلا تضطرب بكم { وَبَثَّ } ونشر { فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ } [لقمان : 10] صنف { كَرِيمٌ } حسن { هَـاذَا } إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته { خَلَقَ اللَّهُ } [يونس : 5] أي مخلوقه
405
{ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } [لقمان : 11] يعني الهتهم بكّتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله ، فأروني ما خلقته الهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة { بَلِ الظَّـالِمُونَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [لقمان : 11] أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 405
(3/224)
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَـانَ الْحِكْمَةَ } [لقمان : 12] وهو لقمان ابن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته.
وقيل : كان من أولاد ازر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقيل : كان خياطاً.
وقيل نجاراً وقيل راعياً وقيل ، كان قاضياً في بني إسرائيل.
وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً.
والجمهور على أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً.
وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة وهي الإصابة في القول والعمل.
وقيل : تتلمذ لألف وتتلمذ له ألف نبي.
و " أن " في { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ } [لقمان : 12] مفسرة والمعنى أي اشكر الله لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله تعالى على أن الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له حيث فسر إيتاء الحكمة بالحث على الشكر.
وقيل : لا يكون الرجل حكيماً حتى يكون حكيماً في قوله وفعله ومعاشرته وصحبته ، وقال السري السقطي : الشكر أن لا تعصي الله بنعمه.
وقال الجنيد : أن لا ترى معه شريكاً في نعمه.
وقيل : هو الإقرار بالعجز عن الشكر.
والحاصل أن شكر القلب المعرفة ، وشكر اللسان الحمد ، وشكر الأركان الطاعة ، ورؤية العجز في الكل دليل قبول الكل.
{ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } [لقمان : 12] لأن منفعته تعود إليه فهو يريد المزيد { وَمَن كَفَرَ } [النور : 55] النعمة { فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ } [لقمان : 12] غير محتاج إلى الشكر { حَمِيدٌ } حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد { وَإِذْ } أي واذكر إذ { قَالَ لُقْمَـانُ ابْنِهِ } [لقمان : 13] أنعم أواشكم { وَهُوَ يَعِظُهُ يَـابُنَىَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13-31] بالإسكان مكي يا بني حفص بفتحه في كل القرآن
406
{ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا وهي منه ومن لا نعمة له أصلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 406
{ وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } [لقمان : 14] أي حملته تهن وهناً على وهن أي تضعف ضعفاً فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل كلما ازداد أو عظم ازدادت ثقلاً وضعفاً { وَفِصَـالُهُ فِى عَامَيْنِ } [لقمان : 14] أي فطامه عن الرضاع لتمام عامين { أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ } [لقمان : 14] هو تفسير لـ وصينا أي وصيناه بشكرنا وبشكر والديه.
وقوله حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين اعتراض بين المفسر والمفسر لأنه لما وصى بالوالدين ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق في حمله وفصاله هذه المدة الطويلة تذكير " بحقها العظيم مفرداً " .
وعن ابن عيينة : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكرهما { إِلَىَّ الْمَصِيرُ } [لقمان : 14] أي مصيرك إليّ وحسابك عليّ.
{ وَإِن جَـاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [لقمان : 15] أراد بنفي العلم به نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام { فَلا تُطِعْهُمَآ } [لقمان : 15] في الشرك { وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } [لقمان : 15] صفة مصدر محذوف أي صحاباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } [لقمان : 15] أي سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا.
وقال ابن عطاء : صاحب من ترى عليه أنوار خدمتي.
{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } [آل عمران : 55] أي مرجعك ومرجعهما { فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت : 8] فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما.
وقد اعترض بهاتين الآيتين على سبيل الاستطراد تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك يعني إنا وصيناه بوالديه وأمرناه أن لا يطيعهما في الشرك وإن جهداً كل الجهد لقبحه.
407
جزء : 3 رقم الصفحة : 407
{ يَـابُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } [لقمان : 16] بالرفع : مدني ، والضمير للقصة وأنت المثقال لإضافته إلى الحبة كما قال :
كما شرقت صدر القناة من الدم
(3/225)
و " كان " تامة والباقون بالنصب والضمير للهنة من الإساءة والإحسان أي إن كانت مثلاً في الصغر كحبة خردل { فَتَكُن فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَـاوَاتِ أَوْ فِى الارْضِ } [لقمان : 16] أي فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة ، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي والأكثر على أنها التي عليها الأرض وهي السجين يكتب فيها أعمال الفجار وليست من الأرض { يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } يوم القيامة فيحاسب بها عاملها { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } [الحج : 63] بتوصل علمه إلى كل خفي { خَبِيرٌ } عالم بكنهه أو لطيف باستخراجها خبير بمستقرها { يَـابُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } [لقمان : 17] في ذات الله تعالى إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، أو على ما أصابك من المحن فإنها تورث المنح { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] الذي وصيتك به { مِنْ عَزْمِ الامُورِ } [آل عمران : 186] أي مما عزمه الله من الأمور أي قطعه قطع إيجاب وإلزام أي أمر به أمراً حتماً ، وهو من تسمية المفعول بالمصدر وأصله من معزومات الأمور أي مقطوعاتها ومفروضاتها ، وهذا دليل على أن هذه الطاعات كانت مأموراً بها في سائر الأمم.
{ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [لقمان : 18] أي ولا تعرض عنهم تكبراً.
تصاعر أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي ، وهو بمعنى تصعّر ، والصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله
408
المتكبرون { وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } [الإسراء : 37] أي تمرح مرحاً ، أو أوقع المصدر موقع الحال أي مرحاً ، أو ولا تمش لأجل المرح والأشر { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ } [لقمان : 18] متكبر { فَخُورٌ } من يعدد مناقبة تطاولا
جزء : 3 رقم الصفحة : 408
{ وَاقْصِدْ } القصد التوسط بين العلو والتقصير { فِى مَشْيِكَ } [لقمان : 19] أي اعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثوب الشطار.
قال عليه السلام " سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن " وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنه : كان إذا مشى أسرع ، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشياً بين ذلك.
وقيل : معناه وانظر موضع قدميك متواضعاً { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } [لقمان : 19] وانقص منه أي اخفض صوتك { إِنَّ أَنكَرَ الاصْوَاتِ } [لقمان : 19] أي أوحشها { لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان : 19] لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار.
وعن الثوري : صياح كل شيء تسبيح إلا الحمار فإنه يصيح لرؤية الشيطان ولذلك سماه الله منكراً.
وفي تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق تنبيه على أن أرفع الصوت في غاية الكراهة يؤيده ما روي أنه عليه السلام كان يعجبه أن يكون الرجل خفيض الصوت ويكره أن يكون مجهور الصوت.
وإنما وحد صوت الحمير ولم يجمع لأنه لم يرد أن يذكر صوت كل واحد من احاد هذا الجنس حتى يجمع ، بل المراد أن كل جنس من الحيوان له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده.
{ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ } [لقمان : 20] يعني الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك { وَمَا فِى الارْضِ } [الشورى : 53] يعني البحار والأنهار والمعادن والدواب وغير
409
ذلك { وَأَسْبَغَ } وأتم { عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ } [لقمان : 20] مدني وأبو عمرو وسهل وحفص.
نعمة غيرهم والنعمة كل نفع قصد به الإحسان { ظَـاهِرَةً } بالمشاهدة { وَبَاطِنَةً } ما لا يعلم إلا بدليل ثم قيل : الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة ، والباطنة القلب والعقل والفهم وما أشبه ذلك.
ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي دلني على أخفى نعمتك على عبادك فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس.
وقيل : تخفيف الشرائع وتضعيف الذرائع والخلق ونيل العطايا وصرف البلايا وقبول الخلق ورضا الرب.
وقال ابن عباس : الظاهرة ما سوّى من خلقك والباطنة ما ستر من عيوبك.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ } [الحج : 8] نزلت في النضر بن الحرث وقد مر في " الحج "
(3/226)
جزء : 3 رقم الصفحة : 409
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُا إِلَى اللَّهِ } [لقمان : 22] عدِّي هنا بـ " إلى " ، وفي { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] باللام فمعناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله أي خالصاً له ، ومعناه مع " إلى " أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه والمراد التوكل عليه والتفويض إليه { وَهُوَ مُحْسِنٌ } [لقمان : 22] فيما يعمل { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } [البقرة : 256] تمسك وتعلق { بِالْعُرْوَةِ } هي ما يعلق به الشيء { الْوُثْقَى } تأنيث الأوثق مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه { وَإِلَى اللَّهِ عَـاقِبَةُ الامُورِ } [لقمان : 22] أي هي صائرة إليه فيجازي عليها { وَمَن كَفَرَ } [النور : 55] ولم يسلم وجهه لله { فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُا } [لقمان : 23] من حزن ، يحزنك نافع من أحزن أي لا يهمنك كفر من كفر { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } [لقمان : 23]
410
فنعاقبهم على أعمالهم { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران : 119] إن الله يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه
جزء : 3 رقم الصفحة : 410
{ نُمَتِّعُهُمْ } زماناً { قَلِيلا } بدنياهم { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } [لقمان : 24] نلجئهم { إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24] شديد شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطر إلى الشيء ، والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد ، الشدة والثقل على المعذب.
{ وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [لقمان : 25] إلزام لهم على إقرارهم بأن الذي خلق السماوات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر وأن لا يعبد معه غيره.
ثم قال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النحل : 75] أن ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم يتنبهوا { لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ } [لقمان : 26] عن حمد الحامدين { الْحَمِيدِ } المستحق للحمد وإن لم يحمدوه.
قال المشركون : إن هذا أي الوحي كلام سينفذ فأعلم الله أن كلامه لا ينفذ بقوله { وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَـامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـاتُ اللَّهِ } [لقمان : 27] والبحر بالنصب أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم " أن " وهو " ما " ، والرفع على محل " أن " ومعمولها أي ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر ، أو على الابتداء والواو للحال على معنى : ولو أن الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً وقرىء يمدّه وكان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أن الشجر أقلام والبحر مداد ، لكن أغنى عن ذكر المداد قوله يمده لأنه من قولك " مد الدواة وأمدها " جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً فهي تصب فيه مدادها
411
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
(3/227)
أبداً صباً لا ينقطع.
والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله لما نفدت كلماته وتفدت الأقلام والمداد كقوله : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى } [الكهف : 109].
فإن قلت : زعمت أن قوله والبحر يمده حال في أحد وجهي الرفع وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال.
قلت : هو كقولك " جئت والجيش مصطف " وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف.
وإنما ذكر شجرة على التوحيد لأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً ، وأوثر الكلمات وهي جمع قلة على الكلم وهي جمع كثرة لأن معناه أن كلمات لا تفي بكتبتهالبحار فكيف بكلمه { أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } لا يخرج من علمه وحكمته شيء فلا تنفد كلماته وحكمه
جزء : 3 رقم الصفحة : 411
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] إلا كخلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة فحذف للعلم به أي سواء في قدرته القليل والكثير فلا يشغله شأن عن شأن { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ } [الحج : 75] لقول المشركين إنه لا بعث { بَصِيرٌ } بأعمالهم فيجازيهم.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ } [لقمان : 29] يدخل ظلمة الليل في ضوء النهاء إذا أقبل الليل { وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [لقمان : 29] لمنافع العباد { كُلُّ } أي كل واحد من الشمس والقمر { يَجْرِى } في فلكه ويقطعه { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] إلى يوم القيامة أو إلى وقت معلوم الشمس إلى آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر { وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [لقمان : 29] وبالياء : عياش.
دل أيضاً بتعاقب الليل والنهار وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما على تقدير وحساب وبإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته وكمال حكمته { ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } [الحج : 62] بالياء : عراقي غير أبي بكر
412
{ مِن دُونِهِ الْبَـاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ } [لقمان : 30] أي ذلك الوصف الذي وصف به من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون ، فكيف بالجماد الذي يدعونه من دون الله إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت الإلهية وأن من دونه باطل الإلهية وأنه هو العلي الشأن الكبير السلطان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 412
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ } [لقمان : 31] وقريء { الْفُلْكُ } وكل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى } [لقمان : 31] بإحسانه ورحمته أو بالريح لأن الريح من نعم الله { لِيُرِيَكُم مِّنْ ءَايَـاتِهِ } [لقمان : 31] عجائب قدرته في البحر إذا ركبتموها { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } [إبراهيم : 5] على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن فالإيمان نصفان : نصفه شكر ونصفه صبر فكأنه قال : إن في ذلك لآيات لكل مؤمن.
{ وَإِذَا غَشِيَهُم } [لقمان : 32] أي الكفار { مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ } [لقمان : 32] الموج يرتفع فيعود مثل الظلل والظلة كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } [لقمان : 32] أي باقٍ على الإيمان والإخلاص الذي كان منه ولم يعد إلى الكفر ، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط والمقتصد قليل نادر { وَمَا يَجْحَدُ بِـاَايَـاتِنَآ } [العنكبوت : 49] أي بحقيقتها { إِلا كُلُّ خَتَّارٍ } [لقمان : 32] غدار والختر أقبح الغدر { كَفُورٌ } لربه { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 413
لقمان : 33] لا يقضي عنه شيئاً والمعنى لا يجزيء فيه فحذف { وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شيئا } [لقمان : 33] وارد
413
(3/228)
على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه لأن الجملة الاسمية اكد من الجملة الفعلية وقد انضم إلى ذلك قوله هو وقوله مولود والسبب في ذلك أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض اباؤهم على الكفر فأريد حسم أطماعهم أن ينفعوا اباءهم بالشفاعة في الآخرة.
ومعنى التأكيد لفظ المولود أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لأجداده إذ الولد يقع على الولد وولد الولد بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك كذا في الكشاف { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [غافر : 77] بالبعث والحساب والجزاء { حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } [لقمان : 33] بزينتها فإن نعمتها دانية ولذتها فانية { وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان : 33] الشيطان أو الدنيا أو الأمل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 413
{ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [لقمان : 34] أي وقت قيامها { وَيُنَزِّلُ } بالتشديد : شامي ومدني وعاصم ، وهو عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل تقديره : إن الله يثبت عنده علم الساعة وينزل { الْغَيْثَ } في إبّانه من غير تقديم ولا تأخير { وَيَعْلَمُ مَا فِى الارْحَامِ } أذكر أم أنثى وتام أم ناقص { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } [لقمان : 34] برة أو فاجرة { مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا } [لقمان : 34] من خير أو شر وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً وعازمة على شر فعملت خيراً { وَمَا تَدْرِى نَفْسُ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [لقمان : 34] أي أين تموت؟ وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت لا أبرحها فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها.
روي أن ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه فقال الرجل : من هذا؟ فقال له : ملك الموت.
قال : كأنه يريدني وسأل سليمان عليه السلام أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
وجعل العلم لله والدارية للعبيد لما في الدارية من معنى الختل والحيلة ،
414
والمعنى أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها ما يختص بها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتها كان معرفة ماعدتهما أبعد وأما المنجم الذي يخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في الطالع وما يدرك بالدليل لا يكون غيباً على أنه مجرد الظن والظن غير العلم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم " مفاتح الغيب خمس " وتلا هذه الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب.
ورأى المنصور في منامة صورة ملك الموت وسأله عن مدة عمره فأشار بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنوات وبخمسة أشهر وبخمسة أيام فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ } [آل عمران : 119] بالغيوب { خَبِيرٌ } بما كان ويكون.
وعن الزهريّ رضي الله تعالى عنه : أكثروا قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب.
415
سورة السجدة
مكية وهي ثلاثون آية مدني وكوفي ، وتسع وعشرون آية بصري
{ الاـم } على أنها اسم السورة مبتدأ وخبره { تَنزِيلُ الْكِتَـابِ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 416(3/229)
السجدة : 2] وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع { تَنزِيلُ } بأنه خبر مبتدأ محذوف أو هو مبتدأ خبره { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] أو يرتفع بالابتداء وخبره { مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 61] و { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] اعتراض لا محل له ، والضمير في { فِيهِ } راجع إلى مضمون الجملة كأنه قيل : لا ريب في ذلك أي في كونه منزلاً من رب العالمين لأنه معجز للبشر ومثله أبعد شيء من الريب.
ثم أضرب عن ذلك إلى قوله { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ } [السجدة : 3] أي اختلقه محمد لأن " أم " هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة معناه بل أيقولون افتراه إنكاراً لقولهم وتعجيباً منهم لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه { بَلْ هُوَ الْحَقُّ } [السجدة : 3] ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق { مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] ولم يفتره محمد صلى الله عليه وسلّم كما قالوا تعنتاً وجهلاً { لِتُنذِرَ قَوْمًا } [القصص : 46] أي العرب { مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [القصص : 46] " ما " للنفي والجملة ضفة لـ { قَوْمًا } { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء : 31] على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما كان لعله يتذكر على الترجي من موسى وهارون.
416
{ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [السجدة : 4] استولى عليه بإحداثه { مَا لَكُم مِّن دُونِهِ } [السجدة : 4] من دون الله { مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ } [السجدة : 4] أي إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً أي ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم { أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 80] تتعظون بمواعظ الله { يُدَبِّرُ الامْرَ } [يونس : 31] أي أمر الدنيا { مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الارْضِ } [السجدة : 5] إلى أن تقوم الساعة { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [السجدة : 5] ذلك الأمر كله أي يصير إليه ليحكم فيه { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُا أَلْفَ سَنَةٍ } [السجدة : 5] وهو يوم القيامة { مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج : 47] من أيام الدنيا ولا تمسّك للمشبهة بقوله { إِلَيْهِ } في إثبات الجهة لأن معناه إلى حيث يرضاه أو أمره كما لا تشبث لهم بقوله : { إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى } [الصافات : 99] (الصافات : 99).
{ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّى } [العنكبوت : 26] (العنكبوت : 62).
{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ } [النساء : 100](النساء : 001).
جزء : 3 رقم الصفحة : 416
{ ذَالِكَ عَـالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ } [السجدة : 6] أي الموصوف بما مر عالم ما غاب عن الخلق وما شاهدوه { الْعَزِيزُ } الغالب أمره { الرَّحِيمُ } البالغ لطفه وتيسيره.
وقيل : لا وقف عليه لأن { الَّذِى } صفته { أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ } [السجدة : 7] أي حسنه لأن كل شيء مرتب على ما اقتضته الحكمة { خَلَقَهُ } كوفي ونافع وسهل على الوصف أي كل شيء خلقه فقد أحسن { خَلَقَهُ } غيرهم على البدل أي أحسن خلق كل شيء { وَبَدَأَ خَلْقَ الانسَـانِ } [السجدة : 7] آدم { مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } ذريته { مِن سُلَـالَةٍ } [المؤمنون : 12] من نطفة { مِّن مَّآءٍ } [الطارق : 6] أي مني وهو بدل من { سُلَـالَةٍ } { مَّهِينٍ } ضعيف حقير
417
{ ثُمَّ سَوَّاـاهُ } [السجدة : 9] قومه كقوله { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين : 4] (التين : 4) { وَنَفَخَ } أدخل { فِيهِ مِن رُّوحِهِ } [السجدة : 9] الإضافة للاختصاص كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } [النحل : 78] لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا { قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف : 10] أي تشكرون قليلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 416
(3/230)
{ وَقَالُوا } القائل أبيّ بن خلف ولرضاهم بقوله أسند إليهم { أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ } أي صرنا تراباً وذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن ، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها.
وقرأ عليٌّ { ضَلَلْنَا } بكسر اللام يقال : ضل يضل وضل يضل.
وانتصب الظرف في { ضَلَلْنَا فِى } [السجدة : 10] بما يدل عليه { أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيد } وهو نبعث { بَلْ هُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ كَـافِرُونَ } [السجدة : 10] جاحدون.
لما ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالبعث وحده { قُلْ يَتَوَفَّـاـاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة : 11] أي يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بقبض أرواحكم ثم ترجعون إلى ربكم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء وهذا معنى لقاء الله.
والتوفي استيفاء النفس وهي الروح أي يقبض أرواحكم أجمعين من قولك " توفيت حقي من فلان " إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان.
وعن مجاهد : حويت لملك الموت الأرض وجعلت له مثل الطست يتناول منها حيث يشاء.
وقيل : ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها والله تعالى هو الآمر لذلك كله وهو الخالق لأفعال المخلوقات.
وهذا وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام : 61] (الأنعام : 16) وقوله { اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [الزمر : 42] (الزمر : 24).
418
{ وَلَوْ تَرَى } [الأنعام : 93] الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل أحد و " لو " امتناعية والجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً { إِذِ الْمُجْرِمُونَ } [السجدة : 12] هم الذين قالوا { أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الارْضِ } و " لو " و " إذ " للمضي وإنما جاز ذلك لأن المترقب من الله بمنزلة الموجود ولا يقدر لترى ما يتناوله كأنه قيل : ولو تكون منك الرؤية و " إذ " ظرف له { نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ } من الذل والحياء والندم { عِندَ رَبِّهِمْ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 416
فاطر : 39] عند حساب ربهم ويوقف عليه لحق الحذف إذ التقدير وقولون { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا } [السجدة : 12] صدق وعدك وعيدك { وَسَمِعْنَا } منك تصديق رسلنا أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا { فَارْجِعْنَا } إلى الدنيا { نَعْمَلْ صَـالِحًا } [السجدة : 12] أي الإيمان والطاعة { إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] بالبعث والحساب الآن { وَلَوْ شِئْنَا لاتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاـاهَا } [السجدة : 13] في الدنيا أي لو شئنا أعطينا كل نفس ما عندنا من اللطف الذي لو كان منهم اختيار ذلك لاهتدوا لكن لم نعطهم ذلك اللطف لما علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره ، وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت وقد أعطاها لكنها لم تهتد ، وهم أوّلوا الآية بمشيئة الجبر وهو تأويل فاسد لما عرف في تبصر الأدلة.
{ وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة : 13] ولكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ما يستوجبون به جهنم وهو ما علم منهم أنهم يختارون الرد والتكذيب.
وفي تخصيص الإنس والجن إشارة إلى أنه عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم.
{ فَذُوقُوا } العذاب { بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ } [السجدة : 14] بما تركتم من عمل لقاء { يَوْمِكُمْ هَـاذَآ } [السجدة : 14] وهو الإيمان به { إِنَّا نَسِينَـاكُمْ } [السجدة : 14] تركناكم في العذاب كالمنسي { وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } أي العذاب الدائم الذي لا انقطاع له { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] من الكفر والمعاصي.
419
(3/231)
{ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِـاَايَـاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا } [السجدة : 15] أي وعظوا بها { خَرُّوا سُجَّدًا } [مريم : 58] سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً وشكراً على ما رزقهم من الإسلام { وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [السجدة : 15] ونزهوا لله عما لا يليق به وأثنوا عليه حامدين له { وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [النحل : 49] عن الإيمان والسجود له { تَتَجَافَى } ترتفع وتتنحى { جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [السجدة : 16] عن الفرض ومضاجع النوم.
قال سهل : وهب لقوم هبة وهو أن أذن لهم في مناجاته وجعلهم من أهل وسيلته ثم مدحهم عليه فقال { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } [السجدة : 16] { يَدْعُونَ } داعين { رَبَّهُمْ } عابدين له { خَوْفًا وَطَمَعًا } [الأعراف : 56] مفعول له أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته وهم المتهجدون.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم في تفسيرها قيام العبد من الليل.
وعن ابن عطاء : أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة وطلبت بساط القربة يعني صلاة الليل.
وعن أنس : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة فنزلت فيهم.
وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.
{ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ } في طاعة الله تعالى { يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم } [السجدة : 17] " ما " بمعنى " الذي " { أُخْفِىَ } على حكاية النفس : حمزة ويعقوب { مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [السجدة : 17] أي لا يعلم أحد ما أعد لهؤلاء من الكرامة { جَزَآءَ } مصدر أي جوزوا جزاء { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 108] عن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالاً فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
وفيه دليل على أن المراد الصلاة في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً.
ثم بين أن من كان في نور الطاعة والإيمان لا يستوي مع من هو في ظلمة الكفر والعصيان بقوله :
420
جزء : 3 رقم الصفحة : 416
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا } [السجدة : 18] أي كافراً وهما محمولان على لفظ من وقوله { لا يَسْتَوُانَ } [السجدة : 18] على المعنى بدليل قوله { أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَلَهُمْ جَنَّـاتُ الْمَأْوَى } [السجدة : 19] هي نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء.
وقيل : هي عن يمين العرش { نُزُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة : 19] عطاء بأعمالهم والنزل عطاء النازل ثم صار عاماً { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُ } [السجدة : 20] أي ملجؤهم ومنزلهم { كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ } [السجدة : 20] أي تقول لهم خزنة النار { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة : 20] وهذا دليل على أن المراد بالفاسق الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 421
{ وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الادْنَى } [السجدة : 21] أي عذاب الدنيا من الأسر وما محنوا به من السنة سبع سنين { دُونَ الْعَذَابِ الاكْبَرِ } [السجدة : 21] أي عذاب الآخرة أي نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة.
وعن الداراني : العذاب الأدنى الخذلان والعذاب الأكبر الخلود في النيران.
وقيل : العذاب الأدنى عذاب القبر { لَعَلَّهُمْ } لعل المعذبين بالعذاب الأدنى { يَرْجِعُونَ } يتوبون عن الكفر { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ } [الكهف : 57] وعظ { وَمَنْ أَظْلَمُ } [السجدة : 22] أي بالقرآن { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } [السجدة : 22] أي فتولى عنها ولم يتدبر فيها.
و " ثم " للاستبعاد أي أن الإعراض عن مثل هذه الآيات في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها ، مستبعد في العقل كما تقول لصاحبك " وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها " استبعاداً لتركه الانتهاز { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } [السجدة : 22] ولم يقل " منه " لأنه إذا جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم فقد دل على إصابة الأظلم
421
(3/232)
النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة { فَلا تَكُن فِى مِرْيَةٍ } [السجدة : 23] شك { مِّن لِّقَآءِ } [فصلت : 54] من لقاء موسى الكتاب أو من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة أو من لقاء موسى ربه في الآخرة كذا عن النبي صلى الله عليه وسلّم { وَجَعَلْنَـاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ } [السجدة : 23] وجعلنا الكتاب المنزل على موسى لقومه هدى { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَاـاِمَّةً } [السجدة : 24] بهمزتين : كوفي وشامي { يَهْدُونَ } بذلك الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه { بِأَمْرِنَا } إياهم بذلك { لَمَّا صَبَرُوا } [السجدة : 24] حين صبروا على الحق بطاعة الله أو عن المعاصي { لَمَّا صَبَرُوا } [السجدة : 24] حمزة وعلي أي لصبرهم عن الدنيا ، وفيه دليل على أن الصبر ثمرته إمامة الناس { وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا } [فصلت : 15] التوراة { يُوقِنُونَ } يعلمون علماً لا يخالجه شك { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ } [السجدة : 25] يقضي { بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الحج : 17] بين الأنبياء وأممهم أو بين المؤمنين والمشركين { فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [البقرة : 113] فيظهر المحق من المبطل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 421
{ أَوَ لَمْ } [الشعراء : 197] الواو للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف أي أو لم يدع { يَهْدِ } يبين والفاعل الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب { عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد : 6] لأهل مكة { كَمْ } لا يجوز أن يكون " كم " فاعل { يَهْدِى } لأن " كم " للاستفهام فلا يعمل فيه ما قبله ومحله نصب بقوله { أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ } [السجدة : 26] كعاد وثمود وقوم لوط { يَمْشُونَ فِى مَسَـاكِنِهِمْ } [طه : 128] أي أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [السجدة : 26] المواعظ فيتعظون
422
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ } نجري المطر والأنهار { إِلَى الارْضِ الْجُرُزِ } [السجدة : 27] أي الأرض التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء أو لأنه رعي ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدليل قوله { فَنُخْرِجُ بِهِ } [السجدة : 27] بالماء { زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ } [السجدة : 27] من الزرع { أَنْعَـامُهُمْ } من عصفه { وَأَنفُسُهُمْ } من حبه { أَفَلا يُبْصِرُونَ } [السجدة : 27] بأعينهم فيستدلوا به على قدرته على إحياء الموتى { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْفَتْحُ } [السجدة : 28] النصر أو الفصل بالحكومة من قوله { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا } [الأعراف : 89] (الأعراف : 98) وكان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أو بفتح بيننا وبينهم فإذا سمع المشركون ذلك قالوا : متى هذا الفتح أي في أي وقت يكون { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في أنه كائن.
{ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } [السجدة : 29] أي يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم أو يوم نصرهم عليهم أو يوم بدر أو يوم فتح مكة { لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيَمَـانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ } [السجدة : 29] وهذا الكلام لم ينطبق جواباً على سؤالهم ظاهراً ولكن لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلا ينفعكم الإيمان ، أو استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا ، ومن فسره بيوم الفتح أو بيوم بدر فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ } [السجدة : 30] النصرة وهلاكهم { إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ } [السجدة : 30] الغلبة عليكم وهلاككم ، وكان عليه السلام لا ينام حتى يقرأ " ألم تنزيل السجدة " ، و " تبارك
423
الذي بيده الملك " .
وقال " من قرأ الم تنزيل في بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام " وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سورة الم تنزيل هي المانعة تمنع من عذاب القبر.
424(3/233)
سورة الأحزاب
مدنية وهي ثلاث وسبعون آية
قال أبيّ بن كعب لزرّ رضي الله عنهما : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قال : ثلاثاً وسبعين.
قال : فوالذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها آية الرجم " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم " .
أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن.
وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ } وبالهمز : نافع أي يا أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ خطابنا إلى أحبابنا.
وإنما لم يقل " يا محمد " كما قال يا ادم
426
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ } { حَدِيثُ مُوسَى } تشريفاً له وتنويهاً بفضله ، وتصريحه باسمه في قوله { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [الفتح : 29] (الفتح : 92) ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله { اتَّقِ اللَّهَ } [البقرة : 206] اثبت على تقوى الله ودم عليه وازدد منه فهو باب لا يدرك مداه { وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 426
الأحزاب : 1] ولا تساعدهم على شيء واحترس منهم فإنهم أعداء الله والمؤمنين.
وروي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد فنزلوا على عبد الله بن أبيّ وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه فقالوا : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تنفع وتشفع ، ووازرهم المنافقون على ذلك فهمّ المسلمون بقتلهم فنزلت.
أي اتق الله في نقض العهد ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } [النساء : 11] بخبث أعمالهم { حَكِيمًا } في تأخير الأمر بقتالهم.
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] في الثبات على التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين { إِنَّ اللَّهَ } [التوبة : 111] الذي يوحي إليك { كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء : 94] أي لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم.
وقيل : إنما جمع لأن المراد بقوله { أَتَّبِعُ } هو وأصحابه ، وبالياء : أبو عمر وأي بما يعمل الكافرون والمنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 61] أسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [النساء : 81] حافظاً موكولاً إليه كل أمر ، وقال الزجاج : لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 426(3/234)
{ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـاـِاى تُظَـاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } أي ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في امرأة ، ولا بنوة ودعوة في رجل.
والمعنى أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلاً من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة.
لم يحكم أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له ، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة وبينهما منافاة ، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابناً له لأن النبوة أصالة في النسب والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهبته له فطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأعتقه وتبناه وكانوا يقولون " زيد بن محمد " ، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلّم زينب وكانت تحت زيد قال المنافقون : تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه فأنزل الله هذه الآية ، وقيل : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان قلب معكم وقلب مع أصحابه.
وقيل : كان أبو معمر أحفظ العرب فقيل له " ذو القلبين " فأكذب الله قولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني.
والتنكير في { رَجُلٌ } وإدخال " من " الاستغراقية على { قَلْبَيْنِ } وذكر الجوف للتأكيد.
بياء بعد الهمزة حيث كان : كوفي وشامي ، نافع ويعقوب وسهل وهي جمع.
{ أَزْوَاجَكَ الَّـاتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } عاصم من ظاهر إذا قال لامرأته " أنت علي كظهر أمي " { تُظْهِرُونَ } علي وحمزة وخلف.
{ تُظْهِرُونَ } شامي من ظاهر بمعنى تظاهر.
غيرهم { تُظْهِرُونَ } من اظّهّر بمعنى تظهر.
وعدي بـ " من " لتضمنه معنى البعد لأنه كان طلاقاً في الجاهلية ونظيره " آلى من امرأته " لما ضمن معنى التباعد عدي بـ " من " وإلا فآلى في أصله الذي هو معنى حلف وأقسم ليس هذا بحكمه.
427
جزء : 3 رقم الصفحة : 426
والدعي فعيل بمعنى مفعول وهو الذي يدعي ولداً ، وجمع على أفعلاء شاذاً لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء وشقي وأشقياء ولا يكون ذلك في نحو " رمي " و " سميّ " للتشبيه اللفظي.
{ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } [الأحزاب : 4] أي أن قولكم للزوجة هي أم وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة وكذا الأم { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } [الأحزاب : 4] أي ما حق ظاهره وباطنه { وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ } [الأحزاب : 4] أي سبيل الحق.
ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق وهو قوله { ادْعُوهُمْ لابَآ ـاِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ } [الأحزاب : 5] أعدل { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل.
وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه.
وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان.
ثم انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث وصل الجملة الطلبية ثم فصل الخبرية عنها ووصل بينها ، ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها ثم فصل بالطلبية { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا ءَابَآءَهُمْ } [الأحزاب : 5] فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } [الأحزاب : 5] أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين فقولوا هذا أخي وهذا مولاي ويا أخي ويا مولاي ، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه.
(3/235)
{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُم بِهِ } [الأحزاب : 5] أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي { وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } [الأحزاب : 5] ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النهي.
أولا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمدين ، و " ما " في موضع الجر عطف على " ما " الأولى ، ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على سبيل العموم ثم تناول
428
لعمومه خطأ التبني وعمده.
وإذا وجد التبني فإن كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً منه ثبت نسبه منه وعتق إن كان عبداً له ، وإن كان أكبر سناً منه لم يثبت النسب وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبداً { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 96] لا يؤاخذكم بالخطأ ويقبل التوبة من المتعمد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 426
{ النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ } [الأحزاب : 6] أي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه ، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله { بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة : 821) وفي قراءة ابن مسعود { النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُا أُمَّهَـاتُهُمْ وَأُوْلُوا الارْحَامِ } وقال مجاهد : كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أبوهم في الدين { وَأَزْوَاجُهُا أُمَّهَـاتُهُمْ } [الأحزاب : 6] في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن { وَأُوْلُوا الارْحَامِ } [الانفال : 75] وذوو القرابات { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [الأحزاب : 6] في التوارث وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة { فِي كِتَـابِ اللَّهِ } [الانفال : 75] في حكمه وقضائه أو في اللوح المحفوظ أو فيما فرض الله { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ } [الأحزاب : 6] يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين أي الأنصار بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة { إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَآ ـاِكُم مَّعْرُوفًا } [الأحزاب : 6] الاستثناء من خلاف الجنس أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث.
وعدي { تَفْعَلُوا } بـ " إلى " لأنه في معنى تسدوا والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين { كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ مَسْطُورًا } [الإسراء : 58] أي التوارث بالأرحام كان مسطوراً في اللوح.
429
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 426
(3/236)
الأحزاب : 7] واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم { وَمِنكَ } خصوصاً.
وقدم رسول الله على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلّم أفضل هؤلاء قدم عليهم ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه { وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا } [الأحزاب : 7] وثيقاً.
وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه وإنما فعلنا ذلك { لِّيَسْـاَلَ } الله { مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] أي الأنبياء { عَن صِدْقِهِمْ } [الأحزاب : 8] عما قالوه لقومهم أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن من قال للصادق صدقت كان صادقاً في قوله ، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم وهو كقوله { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [المائدة : 109] (المائدة : 901) { وَأَعَدَّ لِلْكَـافِرِينَ } [الأحزاب : 8] بالرسل { عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18] وهو عطف على { أَخَذْنَآ } لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليماً ، أو على ما دل عليه { بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [الأحزاب : 8] كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 426
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وكان بعد حرب أحد بسنة { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 430
الأحزاب : 9] أي الأحزاب وهم : قريش وغطفان وقريظة والنضير { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا } [فصلت : 16] أي الصبا.
قال عليه السلام " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [الأحزاب : 9]
430
وهم الملائكة وكانوا ألفاً بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وأسفت التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال.
وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام واشتد الخوف ، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن ، وعامر بن الطفيل في هوازن وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الأحزاب : 9] أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصن بالخندق والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلّم { بَصِيرًا } وبالياء ، أبو عمرو أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله.
{ إِذْ جَآءُوكُم } [الأحزاب : 10] بدل من { إِذْ جَآءَتْكُمْ } [الأحزاب : 9] { مِّن فَوْقِكُمْ } [الأنعام : 65] أي من أعلى الوادي من
431
(3/237)
قبل المشرق بنو غطفان { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [الأحزاب : 10] من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش { وَإِذْ زَاغَتِ الابْصَـارُ } [الأحزاب : 10] مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة ، أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [الأحزاب : 10] الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم ، والحلقوم مدخل الطعام والشراب.
قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة.
وقيل : هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.
روي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال : " نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " .
{ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } [الأحزاب : 10] خطاب للذين آمنوا ومنهم الثبت القلوب والأقدام والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون ، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم.
قرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبالألف فيهما : مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف ، وبالألف في الوقف : مكي وعلي وحفص ، ومثله { وَأَطَعْنَا الرَّسُولا } [الأحزاب : 66] و { السَّبِيلا } زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية.
من قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 430
أقلي اللوم عاذل والعتابا وهن كلهن في الإمام بالألف { هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ } [الأحزاب : 11] امتحنوا بالصبر على الإيمان { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } [الأحزاب : 11] وحركوا بالخوف تحريكاً بليغاً.
{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ } [الأحزاب : 12] عطف على الأول { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [الانفال : 49] قيل : هو وصف المنافقين بالواو كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
432
وقيل : هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُا إِلا غُرُورًا } [الأحزاب : 12] روي أن معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور { وَإِذْ قَالَت طَّآ ـاِفَةٌ مِّنْهُمْ } [الأحزاب : 13] من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه { يَـا أَهْلَ يَثْرِبَ } [الأحزاب : 13] هم أهل المدينة { لا مُقَامَ لَكُمْ } [الأحزاب : 13] وبضم الميم : حفص أي لا قرار لكم ههنا ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون { فَارْجِعُوا } عن الإيمان إلى الكفر أو من عسكر رسول الله إلى المدينة { وَيَسْتَـاْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ } أي بنو حارثة { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [الأحزاب : 13] أي ذات عورة { وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا } [الأحزاب : 13] العورة الخلل والعورة ذات العورة وهي قراءة ابن عباس.
يقال : عور المكان عوراً إذا بدا منه خلل يخاف منه العدو والسارق ، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من القتال { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم } [الأحزاب : 14] المدينة أو بيوتهم من قولك " دخلت على فلا داره " { مِّنْ أَقْطَارِهَا } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 430
الأحزاب : 14] من جوانبها أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم وأولاهم ناهبين سابين { ثُمَّ سُـاِلُوا } [الأحزاب : 14] عند ذلك القزع { الْفِتْنَةِ } أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين { لاتَوْهَا } لأعطوها.
{ لاتَوْهَا } بلا مد : حجازي أي لجاءوها وفعلوها
433
(3/238)
{ وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَآ } [الأحزاب : 14] بإجابتها { إِلا يَسِيرًا } [الأحزاب : 14] ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف ، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً فإن الله يهلكهم ، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين وعن مصافة الأحزاب الذين ملئوهم هولاً ورعباً ، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر ، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبهم الكفر.
{ وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ } [الأحزاب : 15] أي بنو حارثة من قبل الخندق أو من قبل نظرهم إلى الإحزاب { لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ } [الأحزاب : 15] منهزمين { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْـاُولا } [الأحزاب : 15] مطلوباً مقتضى حتى يوفى به.
{ قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا } [الأحزاب : 16] أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار ، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتعوا في الدنيا إلا قليلاً وهو مدة أعماركم وذلك قليل.
وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب.
{ قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ } [الأحزاب : 17] أي مما أراد الله إنزاله بكم { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُواءًا } [الأحزاب : 17] في أنفسكم من قتل أو غيره { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [الأحزاب : 17] أي إطالة عمر في عافية وسلامة أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة لما في العصمة من معنى المنع { وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } [النساء : 173] ناصراً { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ } [الأحزاب : 18] أي من يعوق عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يمنع وهم المنافقون { وَالْقَآ ـاِلِينَ لاخْوَانِهِمْ } [الأحزاب : 18] في الظاهر من المسلمين
جزء : 3 رقم الصفحة : 430
{ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [الأحزاب : 18] أي
434
قربوا أنفسكم إلينا ودعوا محمداً وهي لغة أهل الحجاز فإنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة ، وأما تميم فيقولون " هلم يا رجل " و " هلموا يا رجال " وهو صوت سمي به فعل متعد نحو " أحضر وقرّب " { وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ } [الأحزاب : 18] أي الحرب { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] إلا إتياناً قليلاً أي يحضرون ساعة رياء ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون { أَشِحَّةً } جمع شحيح وهو البخيل نصب على الحال من الضمير في { يَأْتُونَ } أي يأتون الحرب بخلاء { عَلَيْكُمْ } بالظفر والغنيمة { فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ } [الأحزاب : 19] من قبل العدو أو منه عليه السلام { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } [الأحزاب : 19] في تلك الحالة { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ } [الأحزاب : 19] يميناً وشمالاً { كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [الأحزاب : 19] كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولواذاً بك.
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ } [الأحزاب : 19] زال ذلك الخوف وأمنوا وحيزت الغنائم { سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [الأحزاب : 19] خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام.
خطيب مسلق فصيح ورجل مسلاق مبالغ في الكلام أي يقولون : وفّروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } [الأحزاب : 19] أي خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة و { أَشِحَّةً } حال من فاعل { سَلَقُوكُم } { أوالَـائكَ لَمْ يُؤْمِنُوا } [الأحزاب : 19] في الحقيقة بل بالألسنة { فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ } [الأحزاب : 19] أبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال { وَكَانَ ذَالِكَ } [النساء : 30] إحباط أعمالهم { عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [النساء : 30] هيناً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 430
{ يَحْسَبُونَ الاحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } [الأحزاب : 20] أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا { وَإِن يَأْتِ الاحْزَابُ } [الأحزاب : 20] كرة ثانية { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِى الاعْرَابِ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 435
(3/239)
الأحزاب : 20] البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال { يُسْـاَلُونَ } كل قادم منهم من جانب المدينة { عَنْ أَنابَآ ـاِكُمْ } [الأحزاب : 20]
435
عن أخباركم وعما جرى عليكم { وَلَوْ كَانُوا فِيكُم } [الأحزاب : 20] ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال { مَّا قَـاتَلُوا إِلا قَلِيلا } [الأحزاب : 20] رياء وسمعة.
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب : 21] بالضم حيث كان : عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول " في البيضة عشرون مناً حديداً " أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد.
أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه { لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاخِرَ } أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر.
قالوا { لِمَنْ } بدل من { لَكُمْ } وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب.
وقيل : { لِمَنْ } يتعلق بـ { حَسَنَةٌ } أي أسوة حسنة كائنة لمن كان { وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب : 21] أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء { وَلَمَّا رَءَا الْمُؤْمِنُونَ الاحْزَابَ } [الأحزاب : 22] وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم } [البقرة : 214] إلى قوله { قَرِيبٌ } (البقرة : 412) فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد { قَالُوا هَـاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب : 22] وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر.
فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك ، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء { وَمَا زَادَهُمْ } [الأحزاب : 22] ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم { إِلا إِيمَانًا } [الأحزاب : 22] بالله وبمواعيده { وَتَسْلِيمًا } لقضائه وقدره.
جزء : 3 رقم الصفحة : 435
{ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 23] أي فيما عاهدوه عليه
436
فحذف الجار كما في المثل " صدقني سن بكره " أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل.
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم { فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ } [الأحزاب : 23] أي مات شهيداً كحمزة ومصعب.
وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره { وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ } [الأحزاب : 23] الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة { وَمَا بَدَّلُوا } [الأحزاب : 23] العهد { تَبْدِيلا } ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ } [الأحزاب : 15] { لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّـادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } [الأحزاب : 24] بوفائهم بالعهد { وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ إِن شَآءَ } [الأحزاب : 24] إذا لم يتوبوا { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [الأحزاب : 24] إن تابوا { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا } [النساء : 23] بقبول التوبة { رَّحِيمًا } بعفو الحوبة.
جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 435
(3/240)
{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأحزاب : 25] الأحزاب { بِغَيْظِهِمْ } حال أي مغيظين كقوله { تَنابُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون : 20] (المؤمنون : 02) { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا } [الأحزاب : 25] ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } [الأحزاب : 25] بالريح والملائكة { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [الأحزاب : 25] قادراً غالباً.
437
{ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَـاهَرُوهُم } [الأحزاب : 26] عاونوا الأحزاب { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 72] من بني قريظة { مِن صَيَاصِيهِمْ } [الأحزاب : 26] من حصونهم الصيصية ما تحصن به.
روي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم ، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : من متابعة قريش.
فقال : يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة.
فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة.
فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : تنزلون على حكمي فأبوا ، فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلّم وقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الأحزاب : 26] الخوف وبضم العين : شامي وعلي.
ونصب { فَرِيقًا } بقوله { تَقْتُلُونَ } وهم الرجال { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } [الأحزاب : 26] وهم النساء والذراري { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَـارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [الأحزاب : 27] أي المواشي والنقود والأمتعة.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم { وَأَرْضًا لَّمْ تَطَـاُوهَا } [الأحزاب : 27] بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا } [الأحزاب : 27] قادراً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 435
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لازْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [الأحزاب : 28] أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال { فَتَعَالَيْنَ } أصل تعال أن يقوله من في المكان
438
(3/241)
المرتفع لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة ، ومعنى أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين ، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله " قام يهددني " .
{ فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } [الأحزاب : 28] أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء { وَأُسَرِّحْكُنَّ } وأطلقكن { سَرَاحًا جَمِيلا } [الأحزاب : 28] لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ثم اختار جميعهن اختيارها.
وروي أنه قال لعائشة : إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء.
وعن علي رضي الله عنه : إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَـاتِ مِنكُنَّ } [الأحزاب : 29] " من " للبيان لا للتبعيض.
{ أَجْرًا عَظِيمًا * يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ } سيئة بليغة في القبح { مُّبَيِّنَةٍ } ظاهر فحشها.
من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء : مكي وأبو بكر.
قيل : هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونشوزهن.
وقيل : الزنا والله عاصم رسوله من ذلك { يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ } [الأحزاب : 30] { يُضَـاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ } مكي وشامي { يُضَـاعِفُ } أبو عمرو ويزيد ويعقوب { ضِعْفَيْنِ } ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن ، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء
439
النبي صلى الله عليه وسلّم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل ، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر { وَكَانَ ذَالِكَ } [النساء : 30] أي تضعيف العذاب عليهن { عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [النساء : 30] هيناً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 435
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [الأحزاب : 31] القنوت الطاعة { وَتَعْمَلْ صَـالِحًا نُّؤْتِهَآ } [الأحزاب : 31] وبالياء فيهما : حمزة وعلي { أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } [الأحزاب : 31] مثلي ثواب غيرها
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
(3/242)
{ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } [الأحزاب : 31] جليل القدر وهو الجنة { يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } [الأحزاب : 32] أي لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل.
وأحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه { إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } [الأحزاب : 32] إن أردتن التقوى أو إن كنتن متقيات { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } [الأحزاب : 32] أي إذا كلمتن الرجال من وراء الحجاب فلا تجئن بقولكن خاضعاً أي ليناً خنثاً مثل كلام المريبات { فَيَطْمَعَ } بالنصب على جواب النهي { الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب : 32] ريبة وفجور { وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا } [الأحزاب : 32] حسناً مع كونه خشناً { وَقَرْنَ } مدني وعاصم غير هبيرة وأصله " اقررن " فحذفت الراء تخفيفاً وألقيت فتحتها على ما قبلها ، أو من قار يقار إذا اجتمع.
والباقون { قَرْنٍ } من وقر يقر وقاراً ، أو من قرّ يقر ، حذفت الأولى من راء اقررن قراراً من التكرار ونقلت كسرتها إلى القاف { فِى بُيُوتِكُنَّ } [الأحزاب : 34] بضم الباء بصري ومدني وحفص { وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ الاولَى } [الأحزاب : 33] أي القديمة.
والتبرج التبختر في المشي وإظهار الزينة والتقدير : ولا تبرجن تبرجاً مثل تبرج النساء في الجاهلية الأولى ـ وهي الزمان الذي ولد فيه إبراهيم أو ما بين آدم ونوح عليهما السلام أو زمن داود وسليمان ـ والجاهلية
440
الأخرى ـ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى ـ ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
أو الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
{ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاهِلِيَّةِ } [الأحزاب : 33] خص الصلاة والزكاة بالأمر ثم عم بجميع الطاعات تفضيلاً لهما لأن من واظب عليهما جرتاه إلى ما وراءهما { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } [الأحزاب : 33] نصب على النداء أو على المدح ، وفيه دليل على أن نساءه من أهل بيته.
وقال : { عَنكُمْ } ، لأنه أريد الرجال والنساء من آله بدلالة { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [الأحزاب : 33] من نجاسة الآثام.
ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم الماثم وليتصونوا عنها بالتقوى.
واستعار الذنوب الرجس وللتقوى الطهر ، لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها كما يتلوث بدنه بالأرجاس ، وأما المحسنات فالعرض منها نقي كالثوب الطاهر وفيه تنفير لأولي الألباب عن المناهي وترغيب لهم في الأوامر { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [الأحزاب : 34] القرآن { وَالْحِكْمَةِ } أي السنة أو بيان معاني القرآن { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا } [الأحزاب : 34] عالماً بغوامض الأشياء { خَبِيرًا } عالماً بحقائقها أي هو عالم بأفعالكن وأقوالكن فاحذرن مخالفة أمره ونهيه ومعصية رسوله.
ولما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلّم ما نزل قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء ، فنزلت :
{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ } [الأحزاب : 35] المسلم الداخل في السّلم بعد الحرب المنقاد الذي لا يعاند ، أو المفوض أمره إلى الله المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله { وَالْمُؤْمِنِينَ } المصدقين بالله ورسوله وبما يحب أن يصدق به
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
{ وَالْمُؤْمِنَـاتِ وَالْقَـانِتِينَ } [الأحزاب : 35]
441
(3/243)
القائمين بالطاعة { وَالْقَـانِتَـاتِ وَالصَّـادِقِينَ } [الأحزاب : 35] في النيات والأقوال والأعمال { وَالصَّـادِقَـاتِ وَالصَّـابِرِينَ وَالصَّـابِرَاتِ } [الأحزاب : 35] على الطاعات وعن السيئات { وَالْخَـاشِعِينَ } المتواضعين لله بالقلوب والجوارح أو الخائفين { وَالْخَـاشِعَـاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ } [الأحزاب : 35] فرضاً ونفلاً { وَالصَّـائِمِينَ وَالصَّـائِمَـاتِ } [الأحزاب : 35] فرضاً ونفلاً.
وقيل : من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ، ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين { وَالْحَـافِظِينَ فُرُوجَهُمْ } [الأحزاب : 35] عما لا يحل { وَالْحَـافِظَـاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب : 35] بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر والمعنى والحافظات فروجهن والذاكرات الله فحذف لدلالة ما تقدم عليه.
والفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين لأن الأول نظير قوله { ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا } [التحريم : 5] (التحريم : 5) في أنهما جنسان مختلفان واشتركا في حكم واحد فلم يكن بد من توسط العاطف بينهما ، وأما الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ومعناه أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب : 35] على طاعاتهم.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ } [الأحزاب : 36] أي وما صلح لرجل مؤمن ولا امرأة مؤمنة { إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب : 36] أي رسول الله { أَمْرًا } من الأمور { أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب : 36] أن يختاروا من أمرهم ما شاءوا بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه واختيارهم تلوا لاختياره فقالا : رضينا يا رسول الله ، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها.
وإنما جمع الضمير في
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
{ لَهُمْ } وإن كان من حقه أن يوحد لأن المذكورين وقعا
442
تحت النفي فعما كل مؤمن ومؤمنة فرجع الضمير إلى المعنى لا إلى اللفظ.
و { يَكُونَ } بالياء : كوفي ، والخيرة ما يتخير ودل ذلك على أن الأمر للوجوب { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـالا مُّبِينًا } [الأحزاب : 36] فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال وكفر ، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.
{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 37] بالإسلام الذي هو أجل النعم { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 37] بالإعتاق والتبني فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب : 37] زينب بنت جحش ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبصرها بعدما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : مالك أرابك منها شيء؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني فقال له : أمسك عليك زوجك { وَاتَّقِ اللَّهَ } [الأحزاب : 37] فلا تطلقها.
وهو نهي تنزيه إذ الأولى أن لا يطلق أو واتق الله فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج { وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [الأحزاب : 37] أي تخفي في نفسك نكاحها إن طلقها زيد وهو الذي أبداه الله تعالى.
وقيل : الذي أخفى في نفسه تعلق قلبه بها ومودة مفارقة زيد إياها.
والواو في { وَتُخْفِى فِى نَفْسِكَ } [الأحزاب : 37] { وَتَخْشَى النَّاسَ } [الأحزاب : 37] أي قالة الناس إنه نكح امرأة ابنه { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاهُ } [الأحزاب : 37] واو الحال أي تقول لزيد أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله.
وعن عائشة رضي الله عنها : لو
443
(3/244)
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
كتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية.
{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا } [الأحزاب : 37] الوطر الحاجة فإذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة.
قيل : قضى منه وطره ، والمعنى فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وتقاصرت عنها همته وطلقها وانقضت عدتها { زَوَّجْنَـاكَهَا } .
روي أنها لما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيد : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك : أخطب عليّ زينب.
قال زيد : فانطلقت وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخطبك ففرحت وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودخل بها وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار { لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآ ـاِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } [الأحزاب : 37] قيل : قضاء الوطر إدراك الحاجة وبلوغ المراد منه { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ } [الأحزاب : 38] الذي يريد أن يكونه { مَفْعُولا } مكوناً لا محالة وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 440
{ مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ } [الأحزاب : 38] أحل له وأمر له وهو نكاح زينب امرأة زيد أو قدر له من عدد النساء { سُنَّةَ اللَّهِ } [غافر : 85] اسم موضع موضع المصدر كقولهم " تراباً وجندلاً " مؤكد لقوله { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ } [الأحزاب : 38] كأنه قيل : سن الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين وهو أن لا يحرج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود مائة امرأة وثلثمائة سرية ولسليمان ثلثمائة حرة وسبعمائة سرية { فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } [الأحزاب : 38] في الأنبياء الذين مضوا من قبل
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
{ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا } [الأحزاب : 38] قضاء مقضياً وحكماً مبتوتاً ، ولا وقف عليه إن جعلت { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَـالَـاتِ اللَّهِ } [الأحزاب : 39] بدلاً من { الَّذِينَ } الأول ، وقف إن جعلته في
444
محل الرفع أو النصب على المدح أي هم الذين يبلغون أو أعني الذي يبلغون { وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } [الأحزاب : 39] وصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلا اللّه تعريض بعد التصريح في قوله { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاهُ } [الأحزاب : 37] { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [النساء : 6] كافياً للمخاوف ومحاسباً على الصغيرة والكبيرة فكان جديراً بأن تخشى منه.
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ } [الأحزاب : 40] أي لم يكن أبا رجل منكم حقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح ، والمراد من رجالكم البالغين ، والحسن والحسين لم يكونا بالغين حينئذ والطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم توفوا صبياناً { وَلَـاكِنِ } كان { رَسُولِ اللَّهِ } [الأحزاب : 21] وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة فكان حكمه كحكمكم والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
(3/245)
{ وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ } [الأحزاب : 40] بفتح التاء عاصم بمعنى الطابع أي آخرهم يعني لا ينبأ أحد بعده وعيسى ممن نبي قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلّم كأنه بعض أمته.
وغيره بكسر التاء بمعنى الطابع وفاعل الختم.
وتقوّيه قراءة ابن مسعود { وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ } { كَثِيرًا } أثنوا عليه بضروب الثناء وأكثروا ذلك { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً } [الأحزاب : 42] أول النهار { وَأَصِيلا } آخر النهار ، وخصا بالذكر لأن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون فيهما.
وعن قتادة : قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والفعلان أي اذكروا الله وسبحوه موجهان إلى البكرة والأصيل كقولك " صم وصل يوم الجمعة " .
والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختص من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة إبانة لفضله على سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات.
وجاز أن يراد بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات والعبادات فإنها من جملة الذكر ، ثم خص
445
من ذلك التسبيح بكرة وهي صلاة الفجر وأصيلاً وهي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء أو صلاة الفجر والعشاءين.
{ هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَـائكَتُهُ } [الأحزاب : 43] لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنواً عليه وترؤفاً كعائد المريض في انعطافه عليه والمرأة في حنوها على ولدها ، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم " صلى الله عليك " أي ترحم عليك وترأف.
والمراد بصلاة الملائكة قولهم " اللهم صل على المؤمنين " جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة ، والمعنى هو الذي يترحم عليكم ويترأف حين يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة { لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [الأحزاب : 43] من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب : 43] هو دليل على أن المراد بالصلاة الرحمة.
وروي أنه لما نزل { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ } [الأحزاب : 56] قال أبو بكر : ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه فنزلت { تَحِيَّتُهُمْ } من إضافة المصدر إلى المفعول أي تحية الله لهم { يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة : 77] يرونه { سَلَـامٌ } يقول الله تبارك وتعالى السلام عليكم { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } [الأحزاب : 44] يعني الجنة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا } [الأحزاب : 45] على من بعثت إليهم وعلى تكذيبهم وتصديقهم أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم.
كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم ، وهو حال مقدرة كما تقول " مررت برجل معه صقر صائداً به " إي مقدراً به الصيد غداً { وَمُبَشِّرَا } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين بالنار { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } [الأحزاب : 46] بأمره أو بتيسيره والكل منصوب على الحال { وَسِرَاجًا مُّنِيرًا } [الأحزاب : 46] جلا به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالون كما يجلى ظلام الليل
446
(3/246)
بالسراج المنير ويهتدي به.
والجمهور على أنه القرآن فيكون التقدير وذا سراج منير أو وتالياً سراجاً منيراً ، ووصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته ، أو شاهداً بواحدانيتنا ومبشراً برحمتنا ونذيراً بنقمتنا وداعياً إلى عبادتنا وسراجاً وحجة ظاهرة لحضرتنا { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا } [الأحزاب : 47] ثواباً عظيماً { وَلا تُطِعِ الْكَـافِرِينَ وَالْمُنَـافِقِينَ } [الأحزاب : 1] المراد به التهييج أو الدوام والثبات على ما كان عليه { وَدَعْ أَذَاـاهُمْ } [الأحزاب : 48] هو بمعنى الإيذاء فيحتمل أن يكون مضافاً إلى الفاعل أي اجعل إيذاءهم إياك في جانب ولا تبال بهم ولا تخف عن إيذائهم ، أو إلى المفعول أي دع إيذاءك إياهم مكافأة لهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 61] فإنه يكفيكهم { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [النساء : 81] وكفى به مفوضاً إليه.
وقيل : إن الله تعالى وصفه بخمسة أوصاف وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له ، قابل الشاهد { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] لأنه يكون شاهداً على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم وهو الفضل الكبير ، والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمناققين لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين وهو مناسب للبشارة ، والنذير بـ { وَدَعْ أَذَاـاهُمْ } لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر والأذى لا بد له من عقاب عاجل أو آجل كانوا منذرين به في المستقبل ، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 61] فإن من توكل على الله يسر عليه كل عسير ، والسراج المنير بالإكتفاء به وكيلاً لأن من أناره الله برهاناً على جميع خلقه كان جديراً بأن يكتفي به عن جميع خلقه.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } [الأحزاب : 49] أي تزوجتتم.
والنكاح هو الوطء في الأصل وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث إنه طريق إليه كتسمية الخمر إثماً لأنه سببه ، وكقول الراجز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
أسنمة الآبال في سحابه سمي الماء
447
بأسنمة الآبال لأنه سبب سمن الآبال وارتفاع أسنمتها.
ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به ، ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
وفي تخصيص المؤمنات مع أن الكتابيات تساوي المؤمنات في هذا الحكم إشارة إلى ان الأولى بالمؤمن أن ينكح مؤمنة { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [الأحزاب : 49] والخلوة الصحيحة كالمس { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب : 49] فيه دليل على أن العدة تجب على النساء للرجال.
ومعنى { تَعْتَدُّونَهَا } تستوفون عددها تفتعلون من العد { فَمَتِّعُوهُنَّ } والمتعة تجب للتي طلقها قبل الدخول بها ولم يسم لها مهر دون غيرها { وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [الأحزاب : 49] أي لا تمسكوهن ضراراً وأخرجوهن من منازلكم إذ لا عدة لكم عليهن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 444
{ يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّـاتِى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } [الأحزاب : 50] مهورهن إذ المهر أجر على البضع ولهذا قال الكرخي : إن النكاح بلفظ الإجارة جائز.
وقلنا : التأييد من شرط النكاح والتأقيت من شرط الإجارة وبينهما منافاة.
وإيتاؤها إعطاؤها عاجلاً أو فرضها وتسميتها في العقد
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
{ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } [الأحزاب : 50] وهي صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّـاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَـالَـاـتِكَ الَّـاتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ } [الأحزاب : 50] ومع ليس للقران بل لوجودها فحسب كقوله { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَـانَ } [النمل : 44] (النمل : 44) وعن أم هانيء بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعتذرت فعذرني
448
(3/247)
فأنزل الله هذه الآية ، فلم أحل له لأني لم أهاجر معه { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ } [الأحزاب : 50] وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها نولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ولذا نكرها.
قال ابن عباس : هو بيان حكم في المستقبل ولم يكن عنده أحد منهن بالهبة.
وقيل : الواهبة نفسها ميمونة بنت الحرث أو زينب بنت خزيمة أو أم شريك بنت جابر أو خولة بنت حكيم.
وقرأ الحسن " أن " بالفتح على التعليل بتقدير حذف اللام.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بغير " إن " { إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } [الأحزاب : 50] استنكاحها طلب نكاحها والرغبة فيه.
وقيل : نكح واستنكح بمعنى ، والشرط الثاني تقييد للشرط الأول شرط في الإحلال هبتها نفسها وفي الهبة إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم ، وفيه دليل جواز النكاح بلفظ الهبة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل { خَالِصَةٌ } بلا مهر حال من الضمير في { وَهَبَتْ } أو مصدر مؤكد أي خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة بمعنى خلوصاً والفاعلة في المصادر غير عزيز كالعافية والكاذبة { لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [الأحزاب : 50] بل يجب المهر لغيرك وإن لم يسمه أو نفاه.
عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله { إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ } [الأحزاب : 50] ثم رجع إلى الخطاب ليؤذن أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوة وتكريره أي تكرير النبي تفخيم له.
{ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ } [الأحزاب : 50] أي ما أوجبنا من المهور على أمتك في زوجاتهم أو ما أوجبنا عليهم في أزواجهم من الحقوق { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ } [الأحزاب : 50] بالشراء وغيره من وجوه الملك.
وقوله { لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } [الأحزاب : 50] ضيق متصل بـ { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } وقوله { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ } [الأحزاب : 50] جملة
449
اعتراضية { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 96] بالتوسعة على عباده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
{ تُرْجِى } بلا همز : مدني وحمزة وعلي وخلف وحفص ، وبهمز غيرهم : تؤخر { مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـاْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } تضم بمعنى تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء ، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء ، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت ، أو تترك تزوج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أولم يقسم ، وإذا طلق وعزل فإما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها.
وروي أنه أرجى منهن جويرية وسودة وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب ، أرجى خمساً وآوى أربعاً ، وروي أنه كان يسوي مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ } [الأحزاب : 51] أي ومن دعوت إلى فراشك وطلبت صحبتها ممن عزلت عن نفسك بالإرجاء فلا ضيق عليك في ذلك أي ليس إذا عزلتها لم يجز لك ردها إلى نفسك.
و " من " رفع بالابتداء وخبره { فَلا جُنَاحَ } [الأحزاب : 51] { ذَالِكَ } التفويض إلى مشيئتك { أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ } أي أقرب إلى قرة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً لأنهن إذا علمن أن هذا التفويض من عند الله اطمأنت نفوسهن وذهب التغاير وحصل الرضا وقرت العيون.
{ كُلُّهُنَّ } بالرفع تأكيد لنون وقرىء { وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } على التقديم ، وقرىء شاذاً " كلهن " بالنصب تأكيداً لهن في { ءَاتَيْتَهُنَّ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } [الأحزاب : 51] فيه وعيد لمن لم ترض
450
(3/248)
منهن بما دبر الله من ذلك وفوض إلى مشيئة رسوله { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } [النساء : 17] بذات الصدور { حَلِيمًا } لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق بأن يتقي ويحذر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
{ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ } [الأحزاب : 52] بالتاء : أبو عمرو ويعقوب ، وغيرهما بالتذكير لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وإذا جاز بغير فصل فمع الفصل أجوز { مِن بَعْدِ } [يونس : 3] من بعد التسع لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته { وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [الأحزاب : 52] الطلاق.
والمعنى أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن كرامة لهن وجزاء على ما اخترن ورضين فقصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليهن وهن التسع التي مات عنهن : عائشة ، حفصة ، أم حبيبة ، سودة أم سلمة ، صفية ، ميمونة ، زينب بنت جحش ، جويرية.
و " من " في { مِنْ أَزْوَاجٍ } [الأحزاب : 52] التأكيد النفي وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } [الأحزاب : 52] في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في { تُبَدَّلُ } أي تتبدل لا من المفعول الذي هو من أزواج لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضاً إعجابك بهن.
وقيل : هي أسماء بنت عميس امرأة جعفر بن أبي طالب فإنها ممن أعجبه حسنهن.
وعن عائشة وأم سلمة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء يعني أن الآية نسخت ، ونسخها إما بالسنة أو بقوله { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } [الأحزاب : 50] وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف { إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } [الأحزاب : 52] استثنى ممن حرم عليه الإماء ومحل " ما " رفع بدل من { النِّسَآءِ } { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيبًا } [الأحزاب : 52] حافظاً وهو تحذير عن مجاوزة حدوده.
451
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَـاظِرِينَ إِنَـاـاهُ } [الأحزاب : 53] { أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [الأحزاب : 53] في موضع الحال أي لا تدخلوا إلا مأذوناً لكم ، أو في معنى الظرف تقديره إلا وقت أن يؤذن لكم ، { غَيْرَ نَـاظِرِينَ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
الأحزاب : 53] حال من { لا تَدْخُلُوا } [الأحزاب : 53] وقع الاستثناء على الحال والوقت معاً كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين أي غير منتظرين.
وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه ، ومعناه لا تدخلوا يا أيها المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، وإنى الطعام إدراكه يقال إنىً الطعام أني كقولك قلاه قلي.
وقيل : إناه وقته أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجاً يأكل فوج ويخرج ثم يدخل فوج إلى أن قال يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحدر أدعوه فقال " ارفعوا طعامكم " ، وتفرق الناس وبقيء ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليخرجوا فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحجرات وسلم عليهن ودعون له ورجع ، فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم شديد الحياء فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع ونزلت { وَلَـاكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } [الأحزاب : 53] فتفرقوا { وَلا مُسْتَـاْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } هو مجرور معطوف على { نَـاظِرِينَ } أو منصوب أي ولا تدخولها مستأنسين نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدث به { إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىَّ فَيَسْتَحْىِ مِنكُمْ } من إخراجكم { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقِّ } يعني أن إخراجكم حق ما ينبغي أن يستحيا منه.
ولما كان الحياء مما يمنع الحيّ من بعض الأفعال قيل لا يستحي من الحق أي لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحي منكم ، هذا
452
(3/249)
أدبٌ أدّب اللّه به الثقلاء.
وعن عائشة رضي الله عنها : حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم وقال { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } [الأحزاب : 53].
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } [الأحزاب : 53] الضمير لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم لدلالة بيوت النبي لأن فيها نساءه { مَّتَـاعًا } عارية أو حاجة المتاع { فَسْـاَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب : 53] من خواطر الشيطان وعوارض الفتن ، وكانت النساء قبل نزول هذه الآية يبرزن للرجال وكان عمر رضي الله عنه يجب ضرب الحجاب عليهن ويود أن ينزل فيه وقال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت.
وذكر أن بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة فنزل { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا } [الأحزاب : 53] أي وما صح لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا نكاح أزواجه من بعد موته { إِنَّ ذَالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا } [الأحزاب : 53] أي ذنباً عظيماً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 448
{ إِن تُبْدُوا شيئا } [الأحزاب : 54] من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلّم أو من نكاحهن { أَوْ تُخْفُوهُ } [النساء : 149] في أنفسكم من ذلكم { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب : 54] فيعاقبكم به.
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل { لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآ ـاِهِنَّ وَلا أَبْنَآ ـاِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَآ ـاِهِنَّ وَلا } أي نساء المؤمنات { وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ } [الأحزاب : 55] أي لا إثم عليهن
453
في ألا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين وقد جاءت تسمية العم أبا قال الله تعالى :
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
{ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } (البقرة : 331).
وإسماعيل عم يعقوب ، وعبيدهن عند الجمهور كالأجانب.
ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } [الأحزاب : 55] فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار واحتطن فيه { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا } [النساء : 33] عالماً.
قال ابن عطاء : الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح.
{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ } [الأحزاب : 56] أي قولوا اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد { وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب : 56] أي قولوا اللهم سلم على محمد أو انقادوا لأمره وحكمه انقياداً.
وسئل عليه السلام عن هذه الآية فقال " إن الله وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين ، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين " ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي ، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي وهو الاحتياط وعليه الجمهور.
وإن صلى على غيره على سبيل التبع كقوله " صلى الله على النبي وآله " فلا كلام فيه ، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة فمكروه وهو من شعائر الروافض.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب : 57] أي يؤذون رسول الله ، وذكر اسم الله للتشريف أو عبر بإيذاء الله ورسوله عن فعل ما لا يرضى به الله ورسوله كالكفر وإنكار النبوة مجازاً ، وإنما جعل مجازاً فيهما وحقيقة الإيذاء يتصور في رسول الله لئلا يجتمع المجاز والحقيقة في لفظ واحد { لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [الأحزاب : 57] طردهم الله
454
(3/250)
عن رحمته في الدارين { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا } [الأحزاب : 57] في الآخرة { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } [الأحزاب : 58] أطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن ذاك يكون غير حق أبداً ، وأما هذا فمنه حق كالحد والتعزيز ومنه باطل.
قيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمونه.
وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات { فَقَدِ احْتَمَلُوا } [الأحزاب : 58] تحملوا { بُهْتَـانًا } كذباً عظيماً { وَإِثْمًا مُّبِينًا } [النساء : 20] ظاهراً.
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
{ مُّبِينًا * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَـاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّ } الجلباب : ما يستر الكل مثل الملحفة عن المبرد.
ومعنى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّ } [الأحزاب : 59] يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن.
يقال : إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك.
و " من " للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة ، أو المراد أن يتجلبن ببعض مالهن من الجلابيب وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة ولها جلبابان فصاعداً في بيتها ، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار لا فضل بين الحرة والأمة ، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه فلا يطمع فيهن طامع وذلك قوله { ذَالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [الأحزاب : 59] أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } [النساء : 96] لما سلف منهن من التفريط { رَّحِيمًا } بتعليمهن آداب المكارم { لَّـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَـافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [الأحزاب : 60] فجور ، وهم الزناة من
455
قوله { فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } [الأحزاب : 32] { وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ } [الأحزاب : 60] هم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين.
يقال : أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } [الأحزاب : 60] لنأمرنك بقتالهم أو لنسلطنك عليهم { وَفَرَضْنَـاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ } في المدينة وهو عطف على { لَنُغْرِيَنَّكَ } لأنه يجوز أن يجاب به القسم لصحة قولك لئن لم ينتهوا لا يجاورونك.
ولما كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف بـ { ثُمَّ } لبعد حاله عن حال المعطوف عليه { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] زماناً قليلاً.
والمعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء ، لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسوءهم ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زماناً قليلاً ريثما يرتحلون ، فسمي ذلك إغراء وهو التحريش على سبيل المجاز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 453
(3/251)
{ مَّلْعُونِينَ } نصب على الشتم أو الحال أي لا يجاورنك إلا ملعونين ، فالاستثناء دخل على الظرف والحال معاً كما مر ولا ينتصب عن { أُخِذُوا } لأن ما بعد حروف الشرط لا يعمل فيما قبلها { أَيْنَمَا ثُقِفُوا } [الأحزاب : 61] وجدوا { أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا } [الأحزاب : 61] والتشديد يدل على التكثير { سُنَّةَ اللَّهِ } [غافر : 85] في موضع مصدر مؤكد أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما وجدوا { فِى الَّذِينَ خَلَوْا } [الأحزاب : 38] مضوا { مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } [الأحزاب : 62] أي لا يبدل الله سنته بل يجريها مجرى واحداً في الأمم.
{ يَسْـاَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } [الأحزاب : 63] كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحاناً لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسوله بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله
456
به ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع تهديداً للمستعجلين وإسكاناً للممتحنين بقوله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا } [الأحزاب : 63] شيئاً قريباً أو لأن الساعة في معنى الزمان { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَـافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا } [الأحزاب : 64] ناراً شديدة الاتقاد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
{ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } [الجن : 23] هذا يرد مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان.
ولا وقف على { سَعِيرًا } لأن قوله { خَـالِدِينَ فِيهَآ } [الجن : 23] حال عن الضمير في { لَهُمْ } .
{ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } [الأحزاب : 65] ناصراً يمنعهم.
اذكر { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ } [الأحزاب : 66] تصرّف في الجهات كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت ، وخصصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة { يَقُولُونَ } حال { يَـالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا } [الأحزاب : 66] فنتخلص من هذا العذاب فتمنوا حين لا ينفعهم التمني { وَقَالُوا رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا } [الأحزاب : 67] جمع سيد.
شامي وسهل ويعقوب جمع الجمع ، والمراد رؤساء الكفرة الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم { سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [الأحزاب : 67] ذوي الأسنان منا أو علماءنا { فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا } [الأحزاب : 67] يقال : ضل السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف { رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } [الأحزاب : 68] للضلال والإضلال { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب : 68] بالباء عاصم ليدل على أشد اللعن وأعظمه ، وغيره بالثاء تكثيراً لأعداد اللعائن.
ونزل في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس
457
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا } [الأحزاب : 69] " ما " مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤاده وهو الأمر المعيب.
وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها أواتهامهم إياه بقتل هرون فأحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام كما برأ نبينا عليه السلام بقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ } { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا } [الأحزاب : 69] ذا جاه ومنزلة مستجاب الدعوة.
وقرأ ابن مسعود والأعمش { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا } .
جزء : 3 رقم الصفحة : 456
(3/252)
{ وَجِيهًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا } صدقاً وصواباً أو قاصداً إلى الحق.
والسداد : القصد إلى الحق والقول بالعدل والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول والبعث على أن يسددوا قولهم في كل باب ، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس كل خير.
ولا تقف على { سَدِيدًا } لأن جواب الأمر قوله { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ } [الأحزاب : 71] يقبل طاعتكم أو يوفقكم لصالح العمل { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [آل عمران : 31] أي يمحها.
والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها.
وهذه الآية مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ولما علق بالطاعة الفوز العظيم بقوله { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب : 71] أتبعه قوله.
{ إِنَّا عَرَضْنَا الامَانَةَ عَلَى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالْجِبَالِ } [الأحزاب : 72] وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة.
يقال : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها
458
ولهذا يقال : ركبته الديون ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات ، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تتمنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ـاِعِينَ } [فصلت : 11] (فصلت : 11).
وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ } ، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، وهذا معنى قوله { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } [الأحزاب : 72] أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [الأحزاب : 72] وخفن من الخيانة فيها { وَحَمَلَهَا الانسَـانُ } [الأحزاب : 72] أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا } [الأحزاب : 72] لكونه تاركاً لأداء الأمانة { جَهُولا } لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.
قال الزجاج : الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا.
ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلوماً جهولاً.
وقيل : معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه { إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا } [الأحزاب : 72] حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاص بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم " لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج " .
واللام في { لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ } [الأحزاب : 73] للتعليل لأن التعذيب هنا نظير التأديب في قولك " ضربته للتأديب " فلا تقف على { جَهُولا }
459
(3/253)
{ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } [الأحزاب : 73] وقرأ الأعمش { وَيَتُوبَ اللَّهُ } [الأحزاب : 73] بالرفع ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتديء { وَيَتُوبَ اللَّهُ } [الأحزاب : 73] ومعنى المشهورة ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي كان نوعاً من عذاب الغادر ، أو للعاقبة أي حملها الإنسان فآل الآمر إلى تعذيب الأشقياء وقبول توبة السعداء { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } [النساء : 96] للتائبين { رَّحِيمًا } بعباده المؤمنين
460
سورة سبأ
مكية وهي أربع وخمسون آية
{ الْحَمْدُ } إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود ، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق { لِّلَّهِ } بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً { الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } [إبراهيم : 2] خلقاً وملكاً وقهراً فكان حقيقاً بأن يحمد سراً وجهراً { وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاخِرَةِ } [سبأ : 1] كما هو له في الدنيا إذا النعم في الدارين من المولى ، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا ، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر : 74] (الزمر : 47) { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
فاطر : 34] (فاطر : 43) { وَهُوَ الْحَكِيمُ } [الأنعام : 18] بتدبير ما في السماء والأرض { الْخَبِيرُ } بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض { يَعْلَمْ } مستأنف { مَا يَلِجُ } [سبأ : 2] ما يدخل { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] من الأموات والدفائن { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } [سبأ : 2] من النبات وجواهر المعادن { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ } [سبأ : 2] من الأمطار
461
وأنواع البركات { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [سبأ : 2] يصعد إليها من الملائكة والدعوات { وَهُوَ الرَّحِيمُ } [سبأ : 2] بإنزال ما يحتاجون إليه { الْغَفُورُ } لما يجترئون عليه.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] أي منكرو البعث { لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } [سبأ : 3] نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة { قُلْ بَلَى } [سبأ : 3] أوجب ما بعد النفي بـ " بلى " على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها { وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [سبأ : 3] ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل ، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله { عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق.
{ عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] مدني وشامي أي هو عالم الغيب { عَـالِمُ الْغَيْبِ } حمزة وعلي على المبالغة { لا يَعْزُبُ عَنْهُ } [سبأ : 3] وبكسر الزاي : عليّ.
يقال : عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [الزلزلة : 7] مقدار أصغر نملة { فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 461(3/254)
سبأ : 3] من مثقال ذرة { وَلا أَكْبَرَ } [يونس : 61] من مثقال ذرة { إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام : 59] إلا في اللوح المحفوظ ، { وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ } بالرفع عطف على { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [الزلزلة : 7] ويكون " إلا " بمعنى لكن ، أو رفعاً بالابتداء والخبر { فِي كِتَـابِ } [الانفال : 75] واللام في { لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أؤلئك لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [سبأ : 4] لما قصروا فيه من مدارج الإيمان { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الانفال : 4] لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق بـ { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له.
{ وَالَّذِينَ سَعَوْ فِى ءَايَـاتِنَا } [سبأ : 5] جاهدوا في رد القرآن { مُعَـاجِزِينَ } مسابقين ظانين
462
أنهم يفوتوننا.
{ مُعَـاجِزِينَ } مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز { أؤلئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } برفع { أَلِيمٌ } مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب.
قال قتادة : الرجز سوء العذاب ، وغيرهم بالجر صفة لرجز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
{ وَيَرَى } في موضع الرفع بالاستئناف أي ويعلم { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [سبأ : 6] يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن يطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه ، والمفعول الأول لـ { يَرَى } { الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [سبأ : 6] يعني القرآن { هُوَ الْحَقُّ } [النور : 25] أي الصدق وهو فصل و { الْحَقِّ } مفعول ثانٍ أو في موضع النصب معطوف على { لِيَجْزِىَ } وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان { وَيَهْدِى } الله أو الذي أنزل إليك { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [إبراهيم : 1] وهو دين الله { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] وقال قريش بعضهم لبعض { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } [سبأ : 7] يعنون محمداً صلى الله عليه وسلّم.
وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً علماً في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره وباب التجاهل في البلاغة وإلى سحرها { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } [سبأ : 7] أي يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق أي يفرقكم كل تفريق ، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق ، والعامل في { إِذَآ } ما دل عليه { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } [سبأ : 7] أي تبعثون ، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز { إِنَّكُمْ } بالفتح للام في خبره { افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الكهف : 15] أهو مفترٍ على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك
4630
والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها { أَم بِهِ جِنَّةُ } [سبأ : 8] جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه { بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَـالِ الْبَعِيدِ } [سبأ : 8] ثم قال سبحانه وتعالى : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك.
وذلك أجن الجنون ، جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد ، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان.
ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأن بالبعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 461
(3/255)
{ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ } وبالإدغام : عليّ للتقارب بين الفاء والباء ، وضعفه البعض لزيادة صوت الفاء على الباء { الارْضَ أَوْ نُسْقِطْ } [سبأ : 9] الثلاثة بالياء : كوفي غير عاصم لقوله { افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الكهف : 15] { عَلَيْهِمْ كِسَفًا } [سبأ : 9] { كِسَفًا } حفص { مِّنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] أي أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله ولم يخافوا أن يخسف الله بهم ، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما تدلان عليه من قدرة الله تعالى { لايَةً } لدلالة { لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [سبأ : 9] راجع إلى ربه مطيع له إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُادَ مِنَّا فَضْلا يَـاجِبَالُ } بدل من { فَضْلا } أو من { ءَاتَيْنَآ } بتقدير
464
قولنا يا جبال أو قلنا يا جبال { أَوِّبِى مَعَهُ } [سبأ : 10] من التأويب رجعي معه التسبيح ومعنى تسبيح الجبال أن الله يخلق فيها تسبيحاً فيسمع منها كما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه السلام { وَالطَّيْرُ } عطف على محل الجبال و { الطَّيْرُ } عطف على لفظ الجبال وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا وإذا دعاهم أجابوا إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئة الله تعالى ، ولو قال آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة.
{ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } [سبأ : 10] وجعلناه له ليّناً كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة.
وقيل : لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة.
{ أَنِ اعْمَلْ } [سبأ : 11] " أن " بمعنى أي أو أمرناه أن أعمل { سَـابِغَـاتٍ } دروعاً واسعة تامة من السبوغ وهو أول من اتخذها ، وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء.
وقيل : كان يخرج متنكراً فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم ما تقولون في داود فيثنون عليه فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه وهو أنه يطعم عياله من بيت المال فسأله عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال فعلمه صنعة الدروع { وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ } [سبأ : 11] لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق ، والسرد : نسج الدروع { وَاعْمَلُوا } الضمير لداود وأهله { صَـالِحًا } خالصاً يصلح للقبول { إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [سبأ : 11] فأجازيكم عليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
{ وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ } [الأنبياء : 81] أي وسخرنا لسليمان الريح وهي الصبا.
ورفع { الرِّيحَ } أبو بكر وحماد والفضل أي وسليمان الريح مسخرة { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ : 12] جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك ، وكان يغدو من دمشق فيقيل
465
(3/256)
باصطخر فارس وبينهما مسيرة شهر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع.
وقيل : كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } [سبأ : 12] أي معدن النحاس فالقطر النحاس وهو الصفر ولكنه أساله وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام كما يسيل الماء وكان قبل سليمان لا يذوب ، وسماه عين القطر باسم ما آل إليه { وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ } [سبأ : 12] " من " في موضع نصب أي وسخرنا من الجن من يعمل { بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [سبأ : 12] بأمر ربه { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ } [سبأ : 12] ومن يعدل منهم { عَنْ أَمْرِنَا } [سبأ : 12] الذي أمرنا به من طاعة سليمان { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } [سبأ : 12] عذاب الآخرة.
وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار فمن زاع عن أمر سليمان عليه السلام ضرب ضربة أحرقته { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَـارِيبَ } [سبأ : 13] أي مساجد أو مساكن { وَتَمَـاثِيلَ } أي صور السباع والطيور.
وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وكان التصوير مباحاً حينئذ { وَجِفَانٍ } جمع جفنة { كَالْجَوَابِ } جمع جابية وهي الحياض الكبار.
قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل.
في الوصل والوقف : مكي ويعقوب وسهل ، وافق أبو عمرو في الوصل ، الباقون بغير ياء اكتفاء بالكسرة { كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَـاتٍ } [سبأ : 13] ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها.
وقيل : إنها باقية باليمن وقلنا لهم { اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُادَ شُكْرًا } أي ارحموا أهل البلاد واسألوا ربكم العافية عن الفضل و { شَاكِرًا } مفعول له أو حال أي شاكرين أو اشكروا لأن { اعْمَلُوا } فيه معنى اشكروا من حيث إن العمل للمنعم شكر له أو مفعول به يعني إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً ، وسئل الجنيد عن الشكر فقال : بذل المجهود بين يدي المعبود { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ } [سبأ : 13] بسكون الياء : حمزة وغيره بفتحها
466
{ الشَّكُورُ } المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكدحاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : من يشكر على أحواله كلها.
وقيل : من يشكر على الشكر.
وقيل : من يرى عجزه عن الشكر.
وحكي عن داود عليه السلام أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.
جزء : 3 رقم الصفحة : 464
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ } [سبأ : 14] أي على سليمان { مَا دَلَّهُمْ } [سبأ : 14] أي الجن وآل داود { عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَآبَّةُ الارْضِ } [سبأ : 14] أي الأرضة وهي دويبة يقال لها صرفة والأرض فعلها فأضيفت إليه.
يقال : أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة { تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } [سبأ : 14] والعصا تسمى منسأة لأنه ينسأ بها أي يطرد ، و { مِنسَأَتَهُ } بغير همز : مدني وأبو عمرو { فَلَمَّا خَرَّ } [سبأ : 14] سقط سليمان { تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ } [سبأ : 14] علمت الجن كلهم علماً بيناً بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم { أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا } [سبأ : 14] بعد موت سليمان { فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ : 14] وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة فبقي في ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه.
وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 467
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } [سبأ : 15] بالصرف بتأويل الحي ، وبعدمه : أبو عمرو بتأويل القبيلة { فِى مَسْكَنِهِمْ } [سبأ : 15] حمزة وحفص { مَسْكَنِهِمْ } علي وخلف وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن أو مسكن كل واحد منهم ، غيرهم
467
(3/257)
{ مَسْكَنِهِمْ } { ءَايَةً } اسم كان { جَنَّتَانِ } بدل من { ءَايَةً } أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان ، ومعنى كونهما آية أن أهلها لما أعرضوا عن شكر الله سلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم ، أو جعلهما آية أي علامة دالة على قدرة الله وإحسانه ووجوب شكره { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } [سبأ : 15] أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 467
{ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } [سبأ : 15] حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك.
ولما أمرهم بذلك أتبعه قوله { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ : 15] أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره.
قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد ، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر وطيبها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها.
{ فَأَعْرِضُوا } عن دعوة أنبيائهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } [سبأ : 16] أي المطر الشديد أو العرم اسم الوادي أو هو الجرذ الذي نقب عليهم السّكر لما طغوا سلط الله عليهم الجرذ فنقبه من أسفل فغرقهم { وَبَدَّلْنَـاهُم } المذكورتين { بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [سبأ : 16] وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام كقوله { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04) { ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } [سبأ : 16] الأكل الثمر يثقل ويخفف وهو قراءة نافع ومكي ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل شجر ذي شوك { وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } [سبأ : 16] الأثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود
468
عوداً ، ووجه من نون الأكل ـ وهو غير أبي عمرو ـ أن أصله ذواتي أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع ، ووجه أبي عمر أن أكل الخمط في معنى البرير وهو ثمر الأراك إذا كان غضاً فكأنه قيل ذواتي برير ، والأثل والسدر معطوفان على { أَكَلَ } لا على { خَمْطٍ } لأن الأثل لا أكل له.
وعن الحسن : قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا لأنه يكون في الجنان { ذَالِكَ جَزَيْنَـاهُم بِمَا كَفَرُوا } [سبأ : 17] أي جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم { وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ } كوفي غير أبي بكر.
{ وَهَلْ نُجَـازِى إِلا الْكَفُورَ } غيرهم يعني وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها أو كفر بالله ، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عاماً يستعمل في معنى المعاقبة وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص وهو العقاب.
وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 467
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } [الكهف : 52] بين سبإٍ { وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا } [سبأ : 18] بالتوسعة على أهلها في النعم والمياه وهي قرى الشام { قُرًى ظَـاهِرَةً } [سبأ : 18] متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لأعين الناظرين ، أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفي عليهم وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبإٍ إلى الشام { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } [سبأ : 18] أي جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر في قرية ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام { سِيرُوا فِيهَا } [سبأ : 18] وقلنا لهم سيروا ولا قول ثمة ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ } [سبأ : 18] أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات أي سيروا فيها آمنين لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي
(3/258)
469
{ فَقَالُوا رَبَّنَا بَـاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ : 19] قالوا يا ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا ، ونربح في التجارات ونفاخر في الدواب والأسباب ، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب ، { بَعْدَ } مكي وأبو عمرو { وَظَلَمُوا } بما قالوا { أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ } [سبأ : 19] يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم { وَمَزَّقْنَـاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [سبأ : 19] وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً يقولون " ذهبوا أيدي سبأ " و " تفرقوا أيادي سبأ " فلحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } [إبراهيم : 5] عن المعاصي { شَكُورٍ } للنعم أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 467
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ : 20] بالتشديد : كوفي أي حقق عليهم ظنه أو وجده صادقاً ، وبالتخفيف : غيرهم أي صدق في ظنه { فَاتَّبَعُوهُ } الضمير في { عَلَيْهِمْ } و { اتَّبَعُوهُ } لأهل سبإ أو لبني آدم.
وقلل المؤمنين بقوله { إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سبأ : 20] لقلتهم بالإضافة إلى الكفار { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ } [الأعراف : 17] (الأعراف : 71) { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم } [سبأ : 21] لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقاً { مِنْ } من تسليط واستيلاء بالوسوسة { سُلْطَـانٍ إِلا لِنَعْلَمَ } [سبأ : 21] موجوداً ما علمناه معدوماً والتغير على المعلوم لا على العلم
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
{ مَن يُؤْمِنُ بِالاخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ } [سبأ : 21] محافظ عليه وفعيل ومفاعل متآخيان { قُلْ } لمشركي قومك { ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [سبأ : 22] أي زعمتموهم آلهة من دون الله ، فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول وحذف كما حذف في قوله { أَهَـاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } [الفرقان : 41] (الفرقان : 14) استخفافاً لطول الموصول بصلته.
والمفعول الثاني آلهة وحذف لأنه موصوف صفته { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] والموصوف يجوز
470
حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً ، فإذاً مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين ، والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجؤن إليه وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته ، ثم أجاب عنهم بقوله { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [سبأ : 22] من خير أو شر أو نفع أو ضر { فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } [سبأ : 22] وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك { وَمَا لَهُ } [البقرة : 200] تعالى { مِنْهُمْ } من آلهتهم { مِّن ظَهِيرٍ } [سبأ : 22] من عوين يعينه على تدبير خلقه يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعي ويرجوا كما يرجى.
{ وَلا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ عِندَهُا إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] أي أذن له الله يعني إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله وهي اللام الثانية في قولك " أذن لزيد لعمرو " أي لأجله ، وهذا تكذيب لقولهم { هؤلاء شُفَعَـاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [يونس : 18] ، { أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] كوفي غير عاصم إلا الأعشى { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } [سبأ : 23] أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن و { فُزِّعَ } شامي أي الله تعالى ، والتفزيع إزالة الفزع و { حَتَّى } غاية لما فهم من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقفاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن لهم كأنه قيل : يتربصون ويتوقعون ملياً فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم { قَالُوا } سأل بعضهم بعضاً { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا } [سبأ : 23] قال { الْحَقِّ } أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
(3/259)
{ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ } [سبأ : 23] ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه وان يشفع إلا لمن ارتضى { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ قُلِ اللَّهُ } [سبأ : 24] أمره بأن يقررهم بقوله { مَن يَرْزُقُكُم } [يونس : 31] ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله " يرزقكم الله " وذلك للإشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا
471
يقدر على الرزق ، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [سبأ : 24] ومعناه وإن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك.
وفي درجة بعد تقدم ما قدم من التقرير دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ولكن التعرض أوصل بالمجادل إلى الغرض ، ونحوه قولك للكاذب " إن أحدنا لكاذب " .
وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه.
{ قُل لا تُسْـاَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلا نُسْـاَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [سبأ : 25] هذا أدخل في الإنصاف من الأول حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور ، والعمل إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور.
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } [سبأ : 26] يوم القيامة { ثُمَّ يَفْتَحُ } [سبأ : 26] يحكم { بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ص : 22] بلا جور ولا ميل { وَهُوَ الْفَتَّاحُ } [سبأ : 26] الحاكم { الْعَلِيمُ } بالحكم { قُلْ أَرُونِىَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم } [سبأ : 27] أي ألحقتموهم { بِهِ } بالله { شُرَكَآءَ } في العبادة معه.
ومعنى قوله { أَرُونِىَ } وكان يراهم أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله وأن يطلعهم على حالة الإشراك به { كَلا } ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالكم { بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ } [سبأ : 27] الغالب فلا يشاركه أحد وهو ضمير الشأن { الْحَكِيمُ } في تدبيره
472
{ وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } [سبأ : 28] إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتّهم أن يخرج منها أحد منهم.
وقال الزجاج : معنى الكافة في اللغة الإحاطة ، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالاً من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلاّمة { بَشِيرًا } بالفضل لمن أقر { وَنَذِيرًا } بالعدل لمن أصر { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 470
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
(3/260)
يونس : 48] أي القيامة المشار إليها في قوله { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } [سبأ : 26] { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَـاْخِرُونَ } الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ { مِّيعَادُ يَوْمٍ } [سبأ : 30] فأبدل منه اليوم ، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول " بعير سانية " { لا تَسْتَـاْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } [سبأ : 30] أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال ، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً للسؤال على الإنكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] أي أبو جهل وذووه { لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْءَانِ وَلا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } [سبأ : 31] أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله أو القيامة والجنة والنار حتى إنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله ، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّـالِمُونَ مَوْقُوفُونَ } [سبأ : 31] محبوسون { عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ } [سبأ : 31] يرد { بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ } [سبأ : 31] في الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة
473
فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو للمخاطب : ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب فحذف الجواب { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } [سبأ : 31] أي الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } [إبراهيم : 21] أي للرؤوس والمقدمين { لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [سبأ : 31] لولا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
{ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الْهُدَى } [سبأ : 32] أولى الاسم أي نحن حرف الانكار لأن المراد إنكار أن يكون هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتوا من قبل اختيارهم { بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } [سبأ : 32] إنما وقعت " إذ " مضافاً إليها وإن كانت " إذ " و " إذا " من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان { بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [سبأ : 32] كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا.
{ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } [سبأ : 33] لم يأت بالعاطف في { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } [الأعراف : 76] وأتى به في { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } [سبأ : 33] لأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ : 33] بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه ، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكراً بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُا أَندَادًا } [سبأ : 33] أشباهاً.
والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم { أَنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ } [سبأ : 32] أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم { بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ } [سبأ : 32] أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كر عليهم المستضعفون بقولهم { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ : 33] فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً
474
ونهاراً وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ } [يونس : 54] أضمروا أو أظهروا وهو من الأضداد وهم الظالمون في قوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
(3/261)
{ إِذِ الظَّـالِمُونَ مَوْقُوفُونَ } [سبأ : 31] يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } [سبأ : 33] الجحيم { وَجَعَلْنَا الاغْلَـالَ فِى أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا } [سبأ : 33] أي في أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 147] في الدنيا.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } [سبأ : 34] نبي { إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [سبأ : 34] متنعموها ورؤساؤها { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ كَـافِرُونَ } [سبأ : 34] هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال { وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 35] أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا ، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله ، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس ، وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر.
الثواب وذلك قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
{ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [سبأ : 36] قدر الرزق تضييقه قال الله تعالى { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [الطلاق : 7] (الطلاق : 7) { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] ذلك { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } [سبأ : 37] أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء
475
في حكم التأنيث ، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب على المصدر أي تقربكم قربة كقوله { أَنابَتَكُم مِّنَ الارْضِ نَبَاتًا } [نوح : 17] (نوح : 71) { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَـادُكُم بِالَّتِى } [سبأ : 37] الاستثناء من " كم " في { تُقَرِّبُكُمْ } يعني أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة.
وعن ابن عباس : " إلا " بمعنى " لكن " ومن شرط جوابه { فَأُوالَـائكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ } [سبأ : 37] وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف ، ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشراً وقرأ يعقوب { جَزَآءُ الضِّعْفِ } [سبأ : 37] ، على " فأولئك لهم الضعف جزاء " { بِمَا عَمِلُوا } [المجادلة : 6] بأعمالهم { وَهُمْ فِى الْغُرُفَـاتِ } [سبأ : 37] أي غرف منازل الجنة { الْغُرْفَةَ } حمزة { ءَامِنُونَ } من كل هائل وشاغل.
{ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـاتِنَا } [سبأ : 38] في إبطالها { مُعَـاجِزِينَ أؤلئك فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ } يوسع { لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُا وَمَآ أَنفَقْتُم } [سبأ : 39] " ما " شرطية في موضع النصب { مِن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] بيانه { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ : 39] يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو آجلاً بالثواب جواب الشرط { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [المؤمنون : 72] المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق.
وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشتهٍ لا يجد وواجد لا يشتهي.
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَـائكَةِ أَهَـاؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ } [سبأ : 40] وبالياء فيهما : حفص ويعقوب.
هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر :
476
إياك أعني واسمعي يا جاره
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
(3/262)
ونحوه قوله { قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ } [المائدة : 116] (المائدة : 611) الآية { قَالُوا } أي الملائكة { سُبْحَـاـنَكَ } تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك { أَنتَ وَلِيُّنَا } [الأعراف : 155] الموالاة خلاف المعاداة وهي مفاعلة من الولي وهو القرب والولي يقع على الموالي والموالي جميعاً ، والمعنى أنت الذي تواليه { مِن دُونِهِمُ } [القصص : 23] إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سبأ : 41] أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله ، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها ، أو صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها { أَكْثَرُهُمْ } أكثر الإنس أو الكفار { بِهِمُ } بالجن { مُؤْمِنُونَ } .
جزء : 3 رقم الصفحة : 473
{ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا } [سبأ : 42] لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد ، لأن الدار دار ثواب وعقاب والمثيب والمعاقب هو الله.
فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف والناس فيها مخلي بينهم يتضارون ويتنافعون ، والمراد أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو.
ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } [سبأ : 42] بوضع العبادة في غير موضعها معطوف على { لا يَمْلِكُ } [سبأ : 42] { ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [سبأ : 42] في الدنيا { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا } أي إذا قريء عليهم القرآن { بَيِّنَـاتٍ } واضحات { قَالُوا } أي المشركون { مَا هَـاذَآ } [الأحقاف : 17] أي محمد { إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَـاذَآ } [سبأ : 43] أي القرآن { إِلا إِفْكٌ } .
جزء : 3 رقم الصفحة : 477
{ عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] أي
477
وقالوا ، والعدول عنه دليل على إنكار عظيم وغضب شديد { لِلْحَقِّ } للقرآن أو لأمر النبوة كله { لَمَّا جَآءَهُمْ } [سبأ : 43] وعجزوا عن الإتيان بمثله { إِنَّ هَـاذَآ } [ص : 23] أي الحق { إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [المائدة : 110] بتوه على أنه سحر ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحراً { وَمَآ ءَاتَيْنَـاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } [سبأ : 44] أي ما أعطينا مشركي مكة كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك { وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } [سبأ : 44] ولا أرسلنا إليهم نذيراً يندرهم بالعقاب إن لم يشركوا.
ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [سبأ : 45] أي وكذب الذين تقدموهم من الأمم الماضية والقرون الخالية الرسل كما كذبوا { وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ } [سبأ : 45] أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال والأولاد { فَكَذَّبُوا رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [سبأ : 45] للمكذبين الأولين فليحذروا من مثله.
وبالياء في الوصل والوقف : يعقوب أي فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون ، فما بال هؤلاء؟ وإنما قال { فَكَذَّبُوا } وهو مستغنى عنه بقوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [سبأ : 45] لأنه لما كان معنى قوله { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [سبأ : 45] وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه وهو كقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 477
(3/263)
{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ } [سبأ : 46] بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله { أَن تَقُومُوا } [سبأ : 46] على أنه عطف بيان لها وقيل هو بدل ، وعلى هذين الوجهين هو في محل الجر.
وقيل : هو في محل الرفع على تقدير وهي أن تقوموا ، والنصب على تقدير أعني ، وأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده ، أو قيام القصد إلى الشيء دون النهوض والانتصاب ، والمعنى إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم
478
الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا { لِّلَّهِ } أي لوجه الله خالصاً لا لحمية ولا عصبية بل لطلب الحق { مَثْنَى } اثنين اثنين { وَفُرَادَى } فرداً فرداً { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } [سبأ : 46] في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم وما جاء به ، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق ، وكذلك الفرد يتفكر في نفسه بعدل ونصفة ويعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويعمي البصائر ويمنع من الروية ويقال الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب.
و { تَتَفَكَّرُوا } معطوف على { تَقُومُوا } { مَا بِصَاحِبِكُم } [سبأ : 46] يعني محمداً صلى الله عليه وسلّم { مِّن جِنَّةٍ } [الأعراف : 184] جنون.
والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ : 46] قدام عذاب شديد وهو عذاب الآخرة وهو كقوله عليه السلام " بعثت بين يدي الساعة " .
ثم بين أنه لا يطلب أجراً على الإنذار بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 477
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } [سبأ : 47] على إنذاري وتبليغي الرسالة { فَهُوَ لَكُمْ } [سبأ : 47] جزاء الشرط تقديره أي شيء سألتكم من أجر كقوله : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [فاطر : 2] (فاطر : 2) ومعناه نفي مسئلة الأجر رأساً نحو مالي في هذا فهو لك أي ليس فيه شيء { إِنْ أَجْرِىَ } [هود : 51] مدني وشامي وأبو بكر وحفص ، وبسكون الياء : غيرهم { إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدُُ } [سبأ : 47] فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصحيتكم ودعائكم إليه إلا منه.
{ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ } [سبأ : 48] بالوحي.
والقذف توجيه السهم ونحوه بدفع واعتماد ويستعار لمعنى الإلقاء ومنه { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } [الأحزاب : 26] (الأحزاب : 62) { أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ } [طه : 39] (طه : 93) ومعنى يقذف بالحق يلقيه وينزله إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه { عَلَّـامُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 109] مرفوع على البدل من الضمير في { يَقْذِفُ } أو على أنه خبر مبتدأ محذوف { قُلْ جَآءَ الْحَقُّ } [سبأ : 49] الإسلام والقرآن { وَمَا يُبْدِئُ الْبَـاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
سبأ : 49] أي زال
479
(3/264)
الباطل وهلك لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي فعدمهما عبارة عن الهلاك ، والمعنى جاء الحق وزهق الباطل كقوله { جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ } [الإسراء : 81] (الإسراء : 18) وعن ابن مسعود رضي الله عنه : دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة وحول الكعبة أصنام فجعل يطعنها بعود معه ويقول " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد " .
وقيل : الباطل الأصنام.
وقيل : إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحداً ولا يبعثه فالمنشيء والباعث هو الله.
ولما قالوا : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } [سبأ : 50] عن الحق { فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى } [سبأ : 50] إن ضللت فمني وعليّ { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى } [سبأ : 50] أي فتبسديده بالوحي إلي.
وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها كقوله : { فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [الزمر : 41] (الإسراء : 51).
ولكن هما متقابلان معنى ، لأن النفس كل ما عليها وضار لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إِنَّهُ سَمِيعٌ } [الأعراف : 200] لما أقوله لكم { قَرِيبٌ } مني ومنكم يجازيني ويجازيكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
{ وَلَوْ تَرَى } [الأنعام : 93] جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة { إِذْ فَزِعُوا } [سبأ : 51] عند البعث أو عند الموت أو يوم بدر { فَلا فَوْتَ } [سبأ : 51] فلا مهرب أو فلا يفوتون الله ولا يسبونه { وَأُخِذُوا } عطف على { فَزِعُوا } أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم أو على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ : 51] من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من صحراء
480
بدر إلى القليب { وَقَالُوا } حين عاينوا العذاب { بِهِ إِنَّهُ } [القصص : 53] بمحمد عليه السلام لمرور ذكره في قوله { مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ } [سبأ : 46] (سبأ : 64) أو بالله { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَان بَعِيدٍ } [سبأ : 52] التناوش : التناول أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم ، يري أن التوبة كانت تقبل منهم في الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة.
وقيل : هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناول الآخر من قيس ذراع.
بالهمزة : أبو عمرو وكوفي غير حفص همزت الواو لأن كل واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك " أدور وتقاوم " ، وإن شئت قلت " أدؤر وتقاؤم " .
وعن ثعلب : التناؤش بالهمز التناول من بعد ، وبغير همز التناول من قرب.
{ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ } [سبأ : 53] من قبل العذاب أو في الدنيا { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } [سبأ : 53] معطوف على { فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } على حكاية الحال الماضية يعني وكانوا يتكلمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار { مِن مَّكَان بَعِيدٍ } [سبأ : 52] عن الصدق أو عن الحق والصواب ، أو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلّم شاعر ساحر كذاب وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً.
وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله لأن أبعد شيء مما جاء به السحر والشعر وأبعد شيء من عاداته التي عرفت بينهم وجربت الكذب { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } [سبأ : 53] عن أبي عمرو على البناء للمفعول أي تأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه
481
وإن شئت فعلقه بقوله { ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ } على أنه مثّلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم { مِنْ } في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً.
(3/265)
جزء : 3 رقم الصفحة : 479
ويجوز أن يكون الضمير في { بِهِ إِنَّهُ } [القصص : 53] للعذاب الشديد في قوله : { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ : 46] (سبأ : 64).
وكانوا يقولون وما نحن بمعذبين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا ، فهذا كان قذفهم بالغيب وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف { وَحِيلَ } وحجز { بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ : 54] من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة أو من الرد إلى الدنيا كما حكي عنهم بقوله { فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا } [السجدة : 12] (السجدة : 21) والأفعال التي هي { فَزِعُوا } { وَأُخِذُوا } { وَحِيلَ } كلها للمضي والمراد بها الاستقبال لتحقق وقوعه { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } [سبأ : 54] بأشباههم من الكفرة { إِنَّهُمْ كَانُوا فِى شَكٍّ } [سبأ : 54] من أمر الرسل والبعث { مُرِيبٍ } موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، هذا رد على من زعم أن الله لا يعذب على الشك.
482
سورة فاطر
مكية وهي خمس وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [فاطر : 34] حمد ذاته تعليماً وتعظيماً { فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ } [يوسف : 101] مبتدئها ومبتدعها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها.
أي ابتدأتها { وَالارْضِ جَاعِلِ الْمَلَـائكَةِ رُسُلا } [فاطر : 1] إلى عباده { أُوْلِى } ذوي اسم جمع لذو وهو بدل من { رُسُلا } أو نعت له { أَجْنِحَةٍ } جمع جناح { مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } [النساء : 3] صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير.
وقيل : للعدل والوصف والتعويل عليه ، والمعنى أن الملائكة طائفة أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان ، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة ، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة ، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ } [فاطر : 1] أي يزيد في خلق الأجنحة يمدهما بقوة ، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ } [فاطر : 1] أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره { مَا يَشَآءُ } [آل عمران : 40] وقيل : هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن والخط الحسن والملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة
483
في الرأي وذلاقة في اللسان ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] قادر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 483
{ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [فاطر : 2] نكرت الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قال من أية رحمة رزق أو مطر أو صحة أو غير ذلك { فَلا مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر : 2] فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، واستعير الفتح للإطلاق والإرسال ألا ترى إلى قوله { وَمَا يُمْسِكْ } [فاطر : 2] يمنع ويحبس { فَلا مُرْسِلَ لَهُ } [فاطر : 2] مطلق له { مِّن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد إمساكه.
وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمن معنى الشرط على معنى الرحمة ، ثم ذكره حملاً على اللفظ المرجع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسر بالرحمة فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير.
وعن معاذ مرفوعاً " لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظم برهم فاجرهم وتعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم " .
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] الغالب القادر على الإرسال والإمساك { الْحَكِيمُ } الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه.(3/266)
{ الْحَكِيمُ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا } باللسان والقلب { نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 231] وهي التي تقدمت من بسط الأرض كالمهاد ، ورفع السماء بلا عماد ، وإرسال الرسل لبيان السبيل دعوة إليه وزلفة لديه ، والزيادة في الخلق وفتح أبواب الرزق.
ثم نبه على رأس النعم وهو اتحاد المنعم بقوله { هَلْ مِنْ خَـالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر : 3] برفع { غَيْرَ } على الوصف لأن { خَـالِقٍ } مبتدأ خبره محذوف أي لكم.
وبالجر : علي وحمزة على الوصف لفظاً { يَرْزُقُكُم } يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون صفة لـ { خَـالِقٍ } { مِنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] بالمطر { وَالارْضَ } بأنواع النبات { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] جملة مفصولة لا محل لها { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [الأنعام : 95] فبأي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك.
484
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [فاطر : 4] نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله بأن له في الأنبياء قبله أسوة ولهذا نكر { رُسُلٌ } أي رسل ذوو عدد كبير وأولو آيات ونذر وأهل أعمال طوال وأصحاب صبر وعزم لأنه أسلى له ، وتقدير الكلام وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك لأن الجزاء يتعقب الشرط ، ولو أجرى على الظاهر يكون سابقاً عليه.
ووضع { فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [فاطر : 4] موضع " فتأس " استغناء بالسبب عن المسبب أي بالتذكيب عن التأسي { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [البقرة : 210] كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه ، { تُرْجَعُ } بفتح التاء : شامي وحمزة وعلي ويعقوب وخلف وسهل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 483
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [فاطر : 5] بالبعث والجزاء { حَقٌّ } كائن { فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } [لقمان : 33] فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله { وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [لقمان : 33] أي الشيطان فإنه يمنّيكم الأمانيّ الكاذبة ويقول إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك.
{ إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ } [فاطر : 6] ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بأحواله { فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [فاطر : 6] في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجدنّ منكم إلا ما يدل على معاداته في سركم وجهركم.
ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله { إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ } .
ثم كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه فقال { الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [فاطر : 7] أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد
485
(3/267)
لأنه صار من حزبه أي أتباعه { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 82] ولم يجيبوه ولم يصيروا من حزبه بل عادوه { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [هود : 11] لكبر جهادهم.
ولما ذكر الفريقين قال لنبيه عليه السلام { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا } [فاطر : 8] بتزيين الشيطان كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لا ، فقال { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] وذكر الزجاج أن المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرة ، فحذف الجواب لدلالة { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ } [فاطر : 8] عليه ، أو أفمن له سوء علمه كمن هداه الله فحذف لدلالة { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] عليه.
{ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ } [فاطر : 8] : يزيد أي لا تهلكها { حَسَرَاتٍ } مفعول له يعني فلا تهلك نفسك للحسرات و { عَلَيْهِمْ } صلة { تَذْهَبْ } كما تقول : هلك عليه حباً ومات عليه حزناً.
ولا يجوز أن يتعلق بـ { حَسَرَاتٍ } لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر : 8] وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم { وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ } [فاطر : 9] { الرِّيحَ } : مكي وحمزة وعلي { فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [فاطر : 9] بالتشديد : مدني وحمزة وعلي وحفص ، وبالتخفيف : غيرهم.
{ فَأَحْيَيْنَا بِهِ } [فاطر : 9] بالمطر لتقدم ذكره ضمناً { الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الروم : 50] يبسها.
وإنما قيل { فَتُثِيرُ } لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب ، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها.
لما كان من الدليل على القدرة الباهرة قيل فسقنا وأحيينا معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه { كَذَالِكَ النُّشُورُ } [فاطر : 9] الكاف في محل الرفع أي مثل إحياء الموت نشور الأموات قيل يحيي الله الخلق بما يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق.
486
جزء : 3 رقم الصفحة : 483
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } [فاطر : 10] أي العزة كلها مختصة ، بالله عزة الدنيا وعزة الآخرة وكان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال : { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } [مريم : 81] (مريم : 18).
والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء : 139] (النساء : 931).
فبين أن لا عزة إلا بالله.
والمعنى فليطلبها عند الله فوضع قوله { فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } موضعه استغناء عنه به لدلالته عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه وماله ونظير قولك : " من أراد النصيحة فهي عند الأبرار " .
تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت مايدل عليه مقامه ، وفي الحديث " إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز " ثم عرف أن ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 487
(3/268)
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّـالِحُ يَرْفَعُهُ } ومعنى قوله { إِلَيْهِ } إلى محل القبول والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود ، أو إلى حيث لا ينفذ فيه إلا حكمه والكلم الطيب كلمات التوحيد أي لا إله إلا الله.
وكان القياس الطيبة ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يذكر ويؤنث.
والعمل الصالح العبادة الخالصة يعني والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب فالرافع الكلم والمرفوع العمل لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد.
وقيل : الرافع الله والمرفوع العمل أي العمل الصالح يرفعه الله ، وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع والكلم الطيب يصعد بنفسه.
وقيل : العمل الصالح يرفع العامل ويشرفه أي من أراد العزة فليعمل عملاً صالحاً فإنه هو الذي يرفع العبد { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } [فاطر : 10] هي صفة لمصدر محذوف أي المكرات السيئات لأن مكر فعل غير متعدٍ ، لا يقال مكر فلان عمله.
والمراد مكر قريش به عليه السلام حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال الله تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } [الانفال : 30] (الأنفال : 031) الآية { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الشورى : 26] في الآخرة { وَمَكْرُ أؤلئك } [فاطر : 10] مبتدأ { هُوَ } فصل { يَبُورُ } خبر أي
487
ومكر أولئك الذين مكروا هو خاصة يبور أي يفسد ويبطل دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعاً حقق بهم.
قوله تعالى { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ } [الانفال : 30] (الأنفال : 03) وقوله { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } (فاطر : 34).
جزء : 3 رقم الصفحة : 487
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُم } [النحل : 70] أي أباكم { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ } [الروم : 20] أنشأكم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } [فاطر : 11] أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } [فاطر : 11] هو في موضع الحال أي معلومة له { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } [فاطر : 11] أي وما يعمر من أحد.
وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه { وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِى كِتَـابٍ } [فاطر : 11] يعني اللوح أو صحيفة الإنسان ولا ينقص زيد.
فإن قلت : الإنسان إما معمر أي طويل العمر أو منقوص العمر أي قصيره ، فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صح قوله { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [فاطر : 11]؟ قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد وعليه كلام الناس يقولون : لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق.
أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره فذلك نقصان عمره.
وعن قتادة : المعمر من يبلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] أي إحصاءه أو زيادة العمر ونقصانه { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] سهل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 487
{ وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَـاذَا } [فاطر : 12] أي أحدهما { عَذْبٌ فُرَاتٌ } [فاطر : 12] شديد العذوبة.
وقيل : هو الذي يكسر العطش { سَآ ـاِغٌ شَرَابُهُ } [فاطر : 12] مريء سهل الانحدار لعذوبته وبه ينتفع شرّاته { وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } [الفرقان : 53] شديد الملوحة.
وقيل : هو الذي يحرق بملوحته
488
(3/269)
{ وَمِن كُلٍّ } [فاطر : 12] ومن كل واحد منهما { تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } [فاطر : 12] وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [فاطر : 12] وهي اللؤلؤ والمرجان { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ } [فاطر : 12] في كل { مَوَاخِرَ } شواقّ للماء بجريها.
يقال : فخرت السفينة الماء أي شقته وهي جمع ماخرة { لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } [الإسراء : 66] من فضل الله ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] الله على ما أتاكم من فضله.
ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر.
ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمته وعطائه ، ويحتمل غير طريق الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه.
والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] ثم قال { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [البقرة : 74] (البقرة : 47).
جزء : 3 رقم الصفحة : 487
{ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } [الحج : 61] يدخل من ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة والناقص تسعاً { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [الرعد : 2] أي ذلل أضواء صوره لاستواء سيره { كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } [الزمر : 5] أي يوم القيامة ينقطع جريهما { ذَالِكُمُ } مبتدأ { اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } [الزمر : 6] أخبار مترادفة أو { اللَّهُ رَبُّكُمْ } [يونس : 32] خبر إن و { لَهُ الْمُلْكُ } [البقرة : 247] جملة مبتدأة واقعة في قران قوله { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } [الأعراف : 197] يعني الأصنام التي تعبدونها من دون الله يدعون قتيبة { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [فاطر : 13] هي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة { إِن تَدْعُوهُمْ } [فاطر : 14] أي الأصنام { لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ } [فاطر : 14] لأنهم جماد { وَلَوْ سَمِعُوا } [فاطر : 14] على سبيل الفرض { مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } [فاطر : 14] لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من
489
الإلهية ويتبرءون منها { وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [فاطر : 14] بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر : 14] ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبك الله الخبير بخبايا الأمور ، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به ، والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 487
(3/270)
{ خَبِيرٍ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ } قال ذو النون : الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة وكيف لا ووجودهم به وبقاؤهم به { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ } [فاطر : 15] عن الأشياء أجمع { الْحَمِيدُ } المحمود بكل لسان ، ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض على الاستغناء ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء ، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني جواداً منعماً وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم.
قال سهل : لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر ، فمن ادعى الغنى حجب عن الله ، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه.
فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسر إليه ومنقطعاً عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة ، فالعبودية هي الذل والخضوع وعلامته أن لا يسأل من أحد.
وقال الواسطي : من استغنى بالله لا يفتقر ومن تعزز بالله لا يذل.
وقال الحسين : على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنياً بالله وكلما ازداد افتقاراً ازداد غنى.
وقال يحيى : الفقر خير للعبد من الغنى لأن المذلة في الفقر والكبر في الغنى ، والرجوع إلى الله بالتواضع ، والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال.
وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء.
وقال الشبلي : الفقر يجر البلاء وبلاؤه كله عز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [النساء : 133] كلكم إلى العدم فإن غناه بذاته لا بكم في القدم { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [إبراهيم : 19] وهو بدون حمدكم حميد
490
{ وَمَا ذَالِكَ } [إبراهيم : 20] الأنشاء والإفناء { عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم : 20] بممتنع.
وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً.
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
والوزر والوقر أخوان ، ووزر الشيء إذا حمله ، والوازرة صفة للنفس ، والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار.
وإنما قيل { وَازِرَةٌ } ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى ، لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها.
وقوله { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت : 13] (العنكبوت : 31) وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم ، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم { اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ } [العنكبوت : 12] بقوله { وَمَا هُم بِحَـامِلِينَ مِنْ خَطَـايَـاهُم مِّن شَىْءٍ } [العنكبوت : 12] (العنكبوت : 21) { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } [فاطر : 18] أي نفس مثقلة بالذنوب أحداً { إِلَى حِمْلِهَا } [فاطر : 18] ثقلها أي ذنوبها ليتحمل عنها بعض ذلك { لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ } [فاطر : 18] أي المدعو وهو مفهوم من قوله { وَإِن تَدْعُ } [فاطر : 18] { ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18] ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ.
والفرق بين معنى قوله { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] ومعنى { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
(3/271)
فاطر : 18] أن الأول دال على عدل الله في حكمه وأن لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني في بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث حتى إن نفساً قد أثقلتها الأوزار لودعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث وإن كان المدعو بعض قرابتها { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم } [فاطر : 18] أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء { بِالْغَيْبِ } حال من الفاعل أو المفعول أي يخشون ربهم غائبين عن عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم.
وقيل : بالغيب في السر حيث لا اطلاع أي يخشون ربهم غائبين من عذابه ، أو يخشون عذابه غائباً عنهم.
وقيل : بالغيب في السر حيث لا اطلاع للغير عليه { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ } [الأعراف : 170] في مواقيتها { وَمَن تَزَكَّى } [فاطر : 18] تطهر بفعل
491
الطاعات وترك المعاصي { فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } [فاطر : 18] وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 28] المرجع وهو وعد للمتزكي الثواب.
{ وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ } [فاطر : 19] مثل للكافر والمؤمن أو للجاهل والعالم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
{ وَلا الظُّلُمَـاتُ } [فاطر : 20] مثل للكفر { وَلا النُّورُ } [فاطر : 20] للإيمان { وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ } الحق والباطل أو الجنة والنار.
والحرور الريح الحار كالسموم إلا أن السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار.
عن الفراء { وَمَا يَسْتَوِى الاحْيَآءُ وَلا الامْوَاتُ } [فاطر : 22] مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه وزيادة.
" لا " لتأكيد معنى النفي.
والفرق بين هذه الواوات أن بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها وتراً إلى وتر { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ } [فاطر : 22] يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه فيهدي من يشاء هدايته ، وأما أنت فخفي عليك أمرهم فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين.
شبه الكفار بالموتى حيث لا ينتفعون بمسموعهم { إِنْ أَنتَ إِلا نَذِيرٌ } [فاطر : 23] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع وإن كان من المصرين فلا عليك { إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ } [البقرة : 119] حال من أحد الضميرين يعني محقاً أو محقين أو صفة للمصدر أي إرسالاً مصحوباً بالحق { بَشِيرًا } بالوعد { وَنَذِيرًا } بالوعيد { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ } [فاطر : 24] وما من أمة قبل أمتك.
والأمة : الجماعة الكثيرة وجد عليه أمة من الناس ويقال لأهل كل عصر أمة ، والمراد هنا أهل العصر وقد كانت آثار النذارة باقية فيما
492
بين عيسى ومحمد عليهما السلام فلم تخل تلك الأمم من نذير ، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث محمد عليه السلام { إِلا خَلا } [فاطر : 24] مضى { فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 24] يخوفهم وخامة الطغيان وسوء عاقبة الكفران ، واكتفى بالنذير عن البشير في آخر الآية بعدما ذكرهما لأن النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة.
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [فاطر : 25] رسلهم { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } [غافر : 83] حال و " قد " مضمرة
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
(3/272)
{ بِالْبَيِّنَـاتِ } بالمعجزات { وَبِالزُّبُرِ } وبالصحف { وَبِالْكِتَـابِ الْمُنِيرِ } [فاطر : 25] أي التوراة والإنجيل والزبور.
ولما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم ـ وهي البينات ـ وبعضها في بعضهم ـ وهي الزبر والكتاب ـ وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { ثُمَّ أَخَذْتُ } [فاطر : 26] عاقبت { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] بأنواع العقوبة { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج : 44] إنكاري عليهم وتعذيبي لهم { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ } [فاطر : 27] بالماء { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا } [فاطر : 27] أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ } [فاطر : 27] طرق مختلفة جدة كمدة ومدد { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر : 27] جمع غربيب وهو تأكيد للأسود.
يقال : أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب.
وكان من حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك " أصفر فاقع " إلا أنه أضمر المؤكد قبله والذي بعده تفسير للمضمر ، وإنما يفصل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً ، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدُ } [فاطر : 27] أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال ثمرات مختلفاً ألوانها.
493
{ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [فاطر : 28] يعني ومنهم بعض مختلف ألوانه { كَذَالِكَ } أي كاختلاف الثمرات والجبال.
ولما قال { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [الحج : 63] وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَـاؤُا } أي العلماء به الذين علموه بصفاته فعظموه ومن ازداد علماً به ازداد منه خوفاً ومن كان علمه به أقل كان آمن.
وفي الحديث " أعلمكم بالله أشدكم له خشية " وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أن معناه أن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم ولو عكس لكان المعنى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله : { وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ } [الأحزاب : 39] (الأحزاب : 93) وبينهما تغاير ، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء ، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله تعالى.
وقرأ أبو حنيفة وابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [فاطر : 28] والخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى إنما يعظم الله من عباده العلماء { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر : 28] تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب المثيب حقه أن يخشى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 490
{ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـابَ اللَّهِ } [فاطر : 29] يداومون على تلاوة القرآن { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ } [الرعد : 22] أي مسرين النفل ومعلنين الفرض يعني لا يقتنعون بتلاوته عن حلاوة العمل به { يَرْجُونَ } خبر " إنّ " هي طلب الثواب بالطاعة { تِجَـارَةً لَّن تَبُورَ } [فاطر : 29] لن تكسد يعني تجارة ينتفى عنها الكساد وتنفق عند الله { لِيُوَفِّيَهُمْ } متعلق بـ { لَّن تَبُورَ } [فاطر : 29] أي ليوفيهم بنفاقها عنده { أُجُورَهُمْ } ثواب
494
أعمالهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 494
(3/273)
{ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [فاطر : 30] بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم أو بتضعيف حسناتهم أو بتحقيق وعد لقائه.
أو { يَرْجُونَ } في موضع الحال أي راجين.
واللام في { لِيُوَفِّيَهُمْ } تتعلق بـ { يَتْلُونَ } وما بعده أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض وخبر " إنّ " { إِنَّهُ غَفُورٌ } [فاطر : 30] لفرطاتهم { شَكُورٌ } أي غفورٌ لهم شكور لأعمالهم أي يعطي الجزيل على العمل القليل { وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ } [فاطر : 31] أي القرآن.
و " من " للتبيين { هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا } [فاطر : 31] حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر : 31] لما تقدمه من الكتب { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرُ بَصِيرٌ } [فاطر : 31] فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب.
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـابَ } [فاطر : 32] أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر : 32] وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الإنتماء إلى أفضل رسله.
ثم رتبهم على مراتب فقال { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [فاطر : 32] وهو المرجأ لأمر الله { وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } [فاطر : 32] هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً { وَمِنْهُمْ سَابِقُ بِالْخَيْرَاتِ } [فاطر : 32] وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال : { وَالسَّـابِقُونَ الاوَّلُونَ مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ } [التوبة : 100] (التوبة : 001) الآية وقال بعده : { وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } [التوبة : 102] (التوبة : 201) الآية وقال بعده : { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ } [التوبة : 106] (التوبة : 601) الآية.
والحديث فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له "
495
وعنه عليه السلام " السابق يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة " رواه أبو الدرداء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 494
(3/274)
والأثر فعن ابن عباس رضي الله عنهما : السابق المخلص ، والمقتصد المرائي ، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.
وقول السلف فقد قال الربيع بن أنس : الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد صاحب الصغائر ، والسابق المجتنب لهما.
وقال الحسن البصري : الظالم من رجحت سيئاته ، والسابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته.
وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون ، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } [فاطر : 36].
وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده فإنه قال : { فَمِنْهُمْ } { وَمِنْهُم } { وَمِنْهُم } والكل راجع إلى قوله { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر : 32] وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور.
وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل.
وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله.
وقيل : إنما قدمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربه.
وقيل : إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة.
وقال سهل : السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل.
وقال أيضاً : السابق الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده ، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده.
وقيل : الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق.
وقيل : الظالم من أخذ الدنيا حلالاً كانت أو حراماً ، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال ، والسابق من أعرض عنها جملة.
وقيل : الظالم طالب الدنيا ، والمقتصد طالب العقبي ، والسابق طالب المولى { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بأمره أو بعلمه أو بتوفيقه { ذَالِكَ } أي إيراث الكتاب { هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر : 32].
{ جَنَّـاتُ عَدْنٍ } [مريم : 61] خبر ثان لـ { ذَالِكَ } أو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر
496
{ يَدْخُلُونَهَا } أي الفرق الثلاثة { يَدْخُلُونَهَا } : أبو عمرو { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } جمع أسورة جمع سوار { مِن ذَهَبٍ } أي من ذهب مرصع باللؤلؤ { ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } [الحج : 23] بالنصب والهمزة : نافع وحفص عطفاً على محل { مِنْ أَسَاوِرَ } [الحج : 23] أي يحلون أساور ولؤلؤاً { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23] لما فيه من اللذة والزينة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 494
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [فاطر : 34] خوف النار أو خوف الموت أو هموم الدنيا { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ } [فاطر : 34] يغفر الجنايات وإن كثرت { شَكُورٌ } يقبل الطاعات وإن قلت { الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ } [فاطر : 35] أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها يقال أقمت إقامة ومقاماً ومقامة { مِّن فَضْلِهِ } [النساء : 32] من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا { لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } [فاطر : 35] تعب ومشقة { وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [فاطر : 35] إعياء من التعب وفترة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي { لُغُوبٌ } بفتح اللام وهو شيء يلغب منه أي لا نتكلف عملاً يلغبنا { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } [فاطر : 36] جواب النفي ونصبه بإضمار " أن " أي لا يقضى عليهم بموت ثانٍ فيستريحوا { وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا } [فاطر : 36] من عذاب نار جهنم { كَذَالِكَ } مثل ذلك الجزاء { نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ } [فاطر : 36] { نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ } : أبو عمرو { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } [فاطر : 37] يستغيثون فهو يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة ، واستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث { رَبَّنَآ } يقولون ربنا
497
(3/275)
{ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ } [فاطر : 37] أي أخرجنا من النار ردنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر ونطع بعد المعصية فيجاوبون بعد فدر عمر الدنيا { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } [فاطر : 37] يجوز أن يكون " ما " نكرة موصوفة أي تعميراً يتذكر فيه من تذكر وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر ، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم.
ثم قيل : هو ثمان عشرة سنة.
وقيل : أربعون.
وقيل : ستون سنة { وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } [فاطر : 37] الرسول عليه السلام أو المشيب وهو عطف على معنى { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم } [فاطر : 37] لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه إخبار كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير { فَذُوقُوا } العذاب { فَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [فاطر : 37] ناصر يعينهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 494
{ إِنَّ اللَّهَ عَـالِمُ غَيْبِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [فاطر : 38] ما غاب فيهما عنكم { إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] كالتعليل لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم.
وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جاريةٌ.
أي ما في بطنها من الحبل لأن الحبل يصحب البطن.
وكذا المضمرات تصحب الصدور وذو موضوع لمعنى الصحبة
جزء : 3 رقم الصفحة : 498
{ هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارْضِ } [فاطر : 39] يقال للمستخلف خليفة ويجمع على خلائف ، والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة { فَمَن كَفَرَ } [المائدة : 12] منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } [فاطر : 39] فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله وخسار الآخرة كما قال { وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا } [فاطر : 39] وهو أشد
498
البغض { وَلا يَزِيدُ الْكَـافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا } [فاطر : 39] هلاكاً وخسراناً { قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ } [فاطر : 40] آلهتكم التي أشركتموهم في العباد { الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ } [فاطر : 40] { أَرُونِى } بدل من { أَرَءَيْتُمْ } أخبروني كأنه قيل : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة ، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله؟ { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ } [فاطر : 40] أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات { أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِّنْهُ } أي معهم كتاب من عند الله ينطق أنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب.
{ بَيِّنَـاتٍ } علي وابن عامر ونافع وأبو بكر { بَلْ إِن يَعِدُ } [فاطر : 40] ما يعد { الظَّـالِمُونَ بَعْضُهُم } [فاطر : 40] بدل من { الظَّـالِمُونَ } وهم الرؤساء { بَعْضًا } أي الأتباع { إِلا غُرُورًا } [النساء : 120] هو قولهم { هؤلاء شُفَعَـاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [يونس : 18] (يونس : 81).
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ أَن تَزُولا } [فاطر : 41] يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع { وَلَـاـاِن زَالَتَآ } [فاطر : 41] على سبيل الفرض { إِنْ أَمْسَكَهُمَا } [فاطر : 41] ما أمسكهما { مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } [فاطر : 41] من بعد إمساكه.
و " من " الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44] غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدًّا لعظم كلمة الشرك كما قال { تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارْضُ } [مريم : 90] (مريم : 09) الآية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 498(3/276)
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } [الأنعام : 109] نصب على المصدر أي إقساماً بليغاً أو على الحال أي جاهدين في أيمانهم { لَـاـاِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الامَمِ } [فاطر : 42] بلغ قريشاً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم
499
أي من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } [فاطر : 42] فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم { مَّا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } [فاطر : 42] أي ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلّم إلا تباعداً عن الحق وهو إسناد مجازي { اسْتِكْبَارًا فِى الارْضِ } [فاطر : 43] مفعول له وكذا { وَمَكْرَ } والمعنى وما زادهم إلا نفوراً للاستنكار ومكر السيء ، أو حال يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وأصل قوله ومكر السيء وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، ثم ومكراً السيء ثم ومكر السيء والدليل عليه وقوله { وَلا يَحِيقُ } [فاطر : 43] يحيط وينزل { الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [فاطر : 43] ولقد حاق بهم يوم بدر وفي المثل " من حفر لأخيه جباً وقع فيه مكباً { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الاوَّلِينَ } وهو إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم ، والمعنى فهل ينظرون بعد تكذيبك إلا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا } بين أن سنته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل سنة لا يبدلها في ذاتها ولا يحولها عن أوقاتها وأن ذلك مفعول لا محالة.
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الروم : 9] استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم { وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ } [فاطر : 44] من أهل مكة { قُوَّةً } اقتداراً فلم يتمكنوا من الفرار { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ } [فاطر : 44] ليسبقه ويفوته { مِن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] أيّ شيء
500
{ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـانِ عَبْدًا } بهم { قَدِيرًا } قادراً عليهم { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا } [فاطر : 45] بما اقترفوا من المعاصي { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } [فاطر : 45] على ظهر الأرض لأنه جرى ذكر الأرض في قوله { لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ } [فاطر : 44] (فاطر : 44) { مِن دَآبَّةٍ } [الجاثية : 4] من نسمة تدب عليها { وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [النحل : 61] إلى يوم القيامة { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرَا } [فاطر : 45] أي لم تخف عليه حقيقة أمرهم وحكمة حكمهم.
501
جزء : 3 رقم الصفحة : 498(3/277)
سورة يس
مكية وهي ثلاث وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
جزء : 4 رقم الصفحة : 4(4/4)
{ يس } عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه يا إنسان في لغة طيء ، وعن ابن الحنفية يا محمد ، وفي الحديث : " إن الله سماني في القرآن بسبعة أسماء : محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله " .
وقيل يا سيد.
{ يَاسِينَ } بالإمالة : علي وحمزة وخلف وحماد ويحيى { وَالْقُرْءَانِ } قسم { الْحَكِيمِ } ذي الحكمة أو لأنه دليل ناطق بالحكمة أو لأنه كلام حكيم فوصف بصفة المتكلم به { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [يس : 3] جواب القسم وهو رد على الكفار حين قالوا : { لَسْتَ مُرْسَلا } [الرعد : 43] (الرعد : 34) { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام : 39] خبر بعد خبر أوصلة لـ { الْمُرْسَلِينَ } أي الذين أرسلوا على صراط مستقيم أي طريقة مستقيمة وهو الإسلام { تَنزِيلَ } بنصب اللام : شامي وكوفي غير أبي بكر على " اقرأ تنزيل " أو على أنه مصدر أي نزل تنزيل ، وغيرهم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل
5
والمصدر بمعنى المفعول { الْعَزِيزِ } الغالب بفصاحة نظم كتابه أو هام ذوي العناد { الرَّحِيمِ } الجاذب بلطافة معنى خطابه أفهام أولي الرشاد.
واللام في { لِتُنذِرَ قَوْمًا } [القصص : 46] متصل بمعنى المرسلين أي أرسلت لتنذر قوماً { مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 5
يس : 6] " ما " نافية عند الجمهور أي قوماً غير منذر آباؤهم على الوصف بدليل قوله { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أَتَـاـاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [القصص : 46] (القصص : 64) { وَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } [سبأ : 44] (سبأ : 44).
أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني أي العذاب الذي أنذره آباؤهم كقوله { إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } [النبأ : 40] (النبأ : 04) أو مصدرية أي لتنذر قوماً إنذار آبائهم أي مثل إنذار آبائهم { فَهُمْ غَـافِلُونَ } [يس : 6] إن جعلت " ما " نافية فهو متعلق بالنفي أي لم ينذروا فهم غافلون وإلا فهو متعلق بقوله : { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } .
كما تقول " أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل أو فهو غافل " { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [يس : 7] يعني قوله : { لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود : 119] (السجدة : 31) أي تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 5
ثم مثل تصميمهم على الكفر وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطئون رؤوسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر ، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله بقوله { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَـاقِهِمْ أَغْلَـالا فَهِىَ إِلَى الاذْقَانِ } [يس : 8] معناه فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها { فَهُمْ } مرفوعة رءوسهم.
يقال : قمح البعير فهو قامح إذا روي فرفع رأسه وهذا لأن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجاً من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه
6
(4/5)
يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحاً { مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } [يس : 9] بفتح السين : حمزة وعلي وحفص.
وقيل : ما كان من عمل الناس فبالفتح ، وما كان من خلق الله كالجبل ونحوه فبالضم { فَأَغْشَيْنَـاهُمْ } فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [يس : 9] الحق والرشاد.
وقيل : نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به ، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر : أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى الله بصره و { سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] أي سواء عليهم الإنذار وتركه ، والمعنى من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار.
وروي أن عمر بن عبد العزيز قرأ الآية على غيلان القدري فقال : كأني لم أقرأها أشهدك أني تائب عن قولي في القدر.
فقال عمر : اللهم إن صدق فتب عليه وإن كذب فسلط عليه من لا يرحمه ، فأخذه هشام بن عبد الملك من عنده فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس : 11] أي إنما ينتفع بإنذارك من اتبع القرآن { وَخَشِىَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ } [يس : 11] وخاف عقاب الله ولم يره { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } [يس : 11] وهي العفو عن ذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يس : 11] أي الجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 5
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى } [يس : 12] نبعثهم بعد مماتهم أو نخرجهم من الشرك إلى
7
الإيمان { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُوا } [يس : 12] ما أسلفوا من الأعمال الصالحات وغيرها { وَءَاثَارَهُمْ } ما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علّموه أو كتاب صنّفوه أو حبيس حبّسوه أو رباط أو مسجد صنعوه أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلمة ، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها ونحوه قوله تعالى { يُنَبَّؤُا الانسَـانُ يَوْمَـاـاِذ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13] (القيامة : 31) قدم من أعماله وأخر من آثاره.
وقيل : هي خطاهم إلى الجمعة أو إلى الجماعة { وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَـاهُ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
يس : 12] عددناه وبيناه { فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } [يس : 12] يعني اللوح المحفوظ لأنه أصل الكتب ومقتداها.
{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ } [يس : 13] ومثل لهم من قولهم " عندي من هذا الضرب كذا " أي من هذا المثال ، وهذه الأشياء على ضرب واحد أي على مثال واحد ، والمعنى واضرب لهم مثلاً مثل أصحاب القرية أي أنطاكية ، أي اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، والمثل الثاني بيان للأول.
وانتصاب { إِذْ } بأنه بدل من { أَصْحَـابَ الْقَرْيَةِ } [يس : 13] { جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } [يس : 13] رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان { إِذْ } بدل من { إِذْ } الأولى { أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ } [يس : 14] أي أرسل عيسى بأمرنا { اثْنَيْنِ } صادقاً وصدوقاً ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له ـ وهو حبيب النجار ـ فسأل عن حالهما فقالا : نحن رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال : أمعكما آية؟ فقالا : نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص ، وكان له ابن مريض مدة سنتين فمسحاه فقام ، فآمن حبيب وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير ، فدعاهما الملك وقال لهما : ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك.
فقال : حتى أنظر في أمركما فتبعهما الناس وضربوهما.
وقيل : حبسا ثم بعث عيسى شمعون فدخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم : بلغني أنك حبست رجلين
8
(4/6)
فهل سمعت قولهما؟ قال : لا.
فدعاهما فقال شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ورزق كل حي وليس له شريك.
فقال : صفاه وأوجزا.
قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك.
فدعا بغلام أكمه فدعوا الله فأبصر الغلام.
فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف؟ قال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع.
ثم قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به ، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال : إني أدخلت في سبعة أودية من النار لما مت عليه من الشرك وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا.
وقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة.
قال الملك : ومن هم؟ قال : شمعون وهذان ، فتعجب الملك.
فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه فآمن وآمن قوم ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
{ فَكَذَّبُوهُمَا } فكذب أصحاب القرية الرسولين { فَعَزَّزْنَا } فقويناهما ، { فَعَزَّزْنَا } أبو بكر من عزّه يعزّه إذا غلبه أي فغلبنا وقهرنا { بِثَالِثٍ } وهو شمعون وترك ذكر المفعول به لأن المراد ذكر المعزز به وهو شمعون وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وذل الباطل ، وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه كأن ما سواه مرفوض { فَقَالُوا إِنَّآ إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ } [يس : 14] أي قال الثلاثة لأهل القرية { قَالُوا } أي أصحاب القرية { مَآ أَنتُمْ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [يس : 15] رفع { بَشَرٌ } هنا ونصب في قوله { مَا هَذَا بَشَرًا } [يوسف : 31] (يوسف : 13) لانتقاض النفي بـ " إلا " فلم يبق لما شبه بليس وهو الموجب لعمله { وَمَآ أَنزَلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَىْءٍ } [يس : 15] أي وحياً { إِنْ أَنتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ } [يس : 15] ما أنتم إلا كذبة.
{ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } [يس : 16] أكد الثاني باللام دون الأول لأن الأول ابتداء إخبار والثاني جواب عن إنكار فيحتاج إلى زيادة تأكيد.
و { رَبُّنَا يَعْلَمُ } [يس : 16] جارٍ مجرى القسم في التوحيد وكذلك قولهم " شهد الله " و " علم الله " { وَمَا عَلَيْنَآ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [يس : 17] أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآية
9
الشاهدة بصحته { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } [يس : 18] تشاءمنا بكم وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه وقبلته طباعهم ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم بلاء أو نعمة قالوا بشؤم هذا وبركة ذلك.
وقيل : حبس عنهم المطر فقالوا ذلك { لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهُوا } [يس : 18] عن مقالتكم هذه { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } لنقتلنكم أو لنطردنكم أو لنشتمنكم { وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يس : 18] وليصيبنكم عذاب النار وهو أشد عذاب { قَالُوا طائركم } [يس : 19] أي سبب شؤمكم { مَّعَكُمْ } وهو الكفر { أَاـاِنَّ } بهمزة الاستفهام وحرف الشرط : كوفي وشامي { أئن ذُكِّرْتُم } [يس : 19] وعظتم ودعيتم إلى الإسلام ، وجواب الشرط مضمر وتقديره " تطيرتم " ، { أَيْنَ } بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : أبو عمرو ، و { أَيْنَ } بهمزة مقصورة بعدها ياء مسكورة : مكي ونافع.
{ ذُكِّرْتُم } بالتخفيف : يزيد { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [الأعراف : 81] مجاوزون الحد في العصيان فمن ثم أتاكم الشؤم من قبلكم لا من قبل رسل الله وتذكيرهم ، أو بل أنتم مسرفون في ضلالكم وغيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من رسل الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
{ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } هو حبيب النجار وكان في غار من الجبل يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقال : أتسألون على ما جئتم به أجراً؟ قالوا : لا { قَالَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } على تبليغ الرسالة { وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] أي الرسل : فقالوا : أو أنت على دين هؤلاء؟ فقال :
10
{ وَمَا لِىَ لا أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى } خلقني { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] وإليه مرجعكم ، { وَمَا لِىَ } [يس : 22] حمزة.(4/7)
{ ءَأَتَّخِذُ } بهمزتين : كوفي { ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } [يس : 23] يعني الأصنام { إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَـانُ بِضُرٍّ } [يس : 23] شرط جوابه { لا تُغْنِ عَنِّى شَفَـاعَتُهُمْ شيئا وَلا يُنقِذُونِ } [يس : 23] من مكروه ، { وَلا } في الحالين : يعقوب { يُنقِذُونِ * إِنِّى إِذًا } [يس : 24] أي إذا اتخذت { لَّفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [آل عمران : 164] ظاهر بين.
ولما نصح قومه أخذوا يرجمونه فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال لهم { إِنِّى ءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } [يس : 25] أي اسمعوا إيماني لتشهدوا لي به.
ولما قتل { قِيلَ } له { ادْخُلِ الْجَنَّةَ } [يس : 26] وقبره في سوق أنطاكية.
ولم يقل " قيل له " لأن الكلام سيق لبيان المقول لا لبيان المقول له مع كونه معلوماً ، وفيه دلالة أن الجنة مخلوقة.
وقال الحسن : لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه وهو في الجنة ولا يموت إلا بفناء السماوات والأرض ، فلما دخل الجنة ورأى نعيمها { قَالَ يَـالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى } أي بمغفرة ربي لي أو بالذي غفر لي { وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [يس : 27] بالجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 7
{ وَمَآ أَنزَلْنَا } [الانفال : 41] " ما " نافيه { عَلَى قَوْمِهِ } [القصص : 79] قوم حبيب { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] أي من بعد قتله أو رفعه { مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ } [يس : 28] لتعذيبهم { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } [يس : 28] وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء ، وذلك لأن الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون بعض لحكمة اقتضت ذلك { إِن كَانَتْ } [يس : 29] الأخذة أو العقوبة { إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس : 49] صاح جبريل عليه السلام
11
صيحة واحدة { فَإِذَا هُمْ خَـامِدُونَ } [يس : 29] ميتون كما تخمد النار.
والمعنى أن الله كفى أمرهم بصيحة ملك ولم ينزل لإهلاكهم جنداً من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 11
{ يَـاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [يس : 30] الحسرة شدة الندم وهذا نداء للحسرة عليهم كأنما قيل لها تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل ، والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون ، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين { أَلَمْ يَرَوْا } [النمل : 86] ألم يعلموا { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ } [طه : 128] " كم " نصب بـ { أَهْلَكْنَا } و { يَرَوْا } معلق عن العمل في " كم " لأن " كم " لا يعمل فيها عامل قبلها كانت للاستفهام أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناه نافذ في الجملة.
وقوله { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ } [يس : 31] بدل من { كَمْ أَهْلَكْنَا } [طه : 128] على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كثرة إهلا كنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس : 32] { لَّمَّا } بالتشديد : شامي وعاصم وحمزة بمعنى إلا و " إن " نافية.
وغيرهم بالتخفيف على أن " ما " صلة للتأكيد و " إن " مخففة من الثقيلة وهي متلقاة باللام لا محالة.
والتنوين في { كُلِّ } عوض من المضاف إليه ، والمعنى إن كلهم محشورون مجموعون محضرون للحساب أو معذبون.
وإنما أخبر عن { كُلِّ } بجميع لأن " كلا " يفيد معنى الإحاطة والجميع فعيل بمعنى مفعول ومعناه الاجتماع يعني أن المحشر يجمعهم { وَءَايَةٌ لَّهُمُ } [يس : 33] مبتدأ وخبر أي وعلامة تدل على أن الله يبعث الموتى إحياء الأرض الميتة ، ويجوز أن يرتفع { ءَايَةٍ } بالابتداء و { لَهُمُ } صفتها ، وخبرها { الارْضُ الْمَيْتَةُ } [يس : 33] اليابسة.
وبالتشديد : مدني { أَحْيَيْنَـاهَا } بالمطر وهو استئناف بيان لكون الأرض
12
الميتة آية وكذلك { نَسْلَخُ } ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل لأنه أريد بهما جنسان مطلقان لا أرض وليل بأعيانهما فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ونحوه :
جزء : 4 رقم الصفحة : 11
ولقد أمر على اللئيم يسبني(4/8)
{ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا } [يس : 33] أريد به الجنس { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس : 33] قدم الظرف ليدل على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس ، وإذا قل جاء القحط ووقع الضر وإذا فقد حضر الهلاك ونزل البلاء { وَجَعَلْنَا فِيهَا } [يس : 34] في الأرض { جَنَّـاتٍ } بساتين { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ } [يس : 34] " من " زائدة عند الأخفش وعند غيره المفعول محذوف تقديره ما ينتفعون به { لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ } [يس : 35] والضمير لله تعالى أي ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر.
{ مِن ثَمَرِهِ } [الأنعام : 141] حمزة وعلي { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [يس : 35] أي ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والتلقيح وغير ذلك من الأعمال إلى أن يبلغ الثمر منتهاه ، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه وفيه آثار من كد بني آدم وأصله من ثمرنا كما قال { وَجَعَلْنَا } { وَفَجَّرْنَا } فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى النخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها لأنه علم أنها في حكم النخيل مما علق به من أكل ثمره ، ويجوز أن يراد من ثمر المذكور وهو الجنات كما قال رؤبة.
فيها خطوط من بياض وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له فقال : أردت كأن ذاك.
{ وَمَا عَمِلَتْهُ } [آل عمران : 30] كوفي غير حفص وهي في مصاحف أهل الكوفة كذلك ، وفي مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام مع الضمير.
وقيل : " ما " نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه { أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس : 35] استبطاء وحث على شكر النعمة.
13
{ سُبْحَـانَ الَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ } [يس : 36] الأصناف { كُلَّهَا مِمَّا تُنابِتُ الارْضُ } [يس : 36] من النخيل والشجر والزرع والثمر { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } [يس : 36] الأولاد ذكوراً وإناثاً { وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس : 36] ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا توصلوا إلى معرفتها ، ففي الأودية والبحار أشياء لا يعلمها الناس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 11
{ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ } نخرج منه النهار إخراجاً لا يبقى معه شيء من ضوء النهار ، أو ننزع عنه الضوء نزع القميص الأبيض فيعرى نفس الزمان كشخص زنجي أسود لأن أصل ما بين السماء والأرض من الهواء الظلمة فاكتسى بعضه ضوء الشمس كبيت مظلم أسرج فيه فإذا غاب السراج أظلم { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [يس : 37] داخلون في الظلام { وَالشَّمْسُ تَجْرِى } [يس : 38] وآية لهم الشمس تجري { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } [يس : 38] لحد لها موقت مقدر تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة ، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب ، أو لانتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا { ذَالِكَ } الجري على ذلك التقدير والحساب الدقيق { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } [الأنعام : 96] الغالب بقدرته على كل مقدور { الْعَلِيمِ } بكل معلوم { وَالْقَمَرَ } نصب بفعل يفسره { قَدَّرْنَـاهُ } وبالرفع مكي ونافع وأبو عمرو وسهل على الابتداء والخبر قدرناه أو على " وآية لهم القمر " { مَنَازِلَ } وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة وفي واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ، ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.
ولا بد في { قَدَّرْنَـاهُ مَنَازِلَ } [يس : 39] من تقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل أي قدرنا نوره فيزيد وينقص ، أو قدرنا مسيره منازل فيكون ظرفاً فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ } [يس : 39] هو عود الشمراخ إذا يبس واعوج
14
ووزنه فعلون من الانعراج وهو الانعطاف { الْقَدِيمِ } العتيق المحول وإذا قدم دق وانحنى واصفر فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 11
(4/9)
{ لا الشَّمْسُ يَنابَغِى لَهَآ } [يس : 40] أي لا يتسهل لها ولا يصح ولا يستقيم { أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ } [يس : 40] فتجتمع معه في وقت واحد وتداخله في سلطانه فتطمس نوره لأن لكل واحد من النيرين سلطاناً على حياله ، فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل { وَلا الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } [يس : 40] ولا يسبق الليل النهار أي آية الليل آية النهار وهما النيران ، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن تقوم القيامة فيجمع الله بين الشمس والقمر وتطلع الشمس من مغربها { وَكُلَّ } التنوين فيه عوض من المضاف إليه أي وكلهم والضمير للشموس والأقمار { فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [الأنبياء : 33].
يسيرون
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
{ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [يس : 41] مدني وشامي { مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [الشعراء : 119] أي المملوء.
والمراد بالذرية الأولاد ومن يهمهم حمله وكانوا يبعثونهم إلى التجارات في بر أو بحر ، أو الآباء لأنها من الأضداد.
والفلك على هذا سفينة نوح عليه السلام.
وقيل : معنى حمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم هم وذرياتهم.
وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم { وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ } [يس : 42] من مثل الفلك { مَا يَرْكَبُونَ } [يس : 42] من الإبل وهي سفائن البر { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } [يس : 43] في البحر { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } فلا مغيث أو فلا إغاثة { وَلا هُمْ يُنقَذُونَ } لا ينجون { إِلا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَـاعًا إِلَى حِينٍ } [يس : 44] أي ولا ينقذون إلا لرحمة منا ولتمتيع بالحياة إلى انقضاء الأجل ، فهما منصوبان على المفعول له.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } [يس : 45] أي ما تقدم من ذنوبكم وما
15
تأخر مما أنتم تعملون من بعد أو من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها ، وما خلفكم من أمر الساعة أو فتنة الدنيا وعقوبة الآخرة { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران : 132] لتكونوا على رجاء رحمة الله.
وجواب " إذا " مضمر أي أعرضوا ، وجاز حذفه لأن قوله { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الأنعام : 4] يدل عليه.
و " من " الأولى لتأكيد النفي والثانية للتبعيض أي ودأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } [البقرة : 91] لمشركي مكة { أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [يس : 47] أي تصدقوا على الفقراء { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [يس : 47] عن ابن عباس رضي الله عنهما : كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا : لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن : { إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [يس : 47] قول الله لهم أو حكاية قول المؤمنين لهم أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [يونس : 48] أي وعد البعث والقيامة { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] فيما تقولون خطاب للنبي وأصحابه { مَا يَنظُرُونَ } [يس : 49] ينتظرون { إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس : 49] هي النفخة الأولى { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } [يس : 49] حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا غلبه في الخصومة ، وشدد الباقون الصاد أي { يَخِصِّمُونَ } بإدغام التاء في الصاد ، لكنه مع فتح الخاء : مكي بنقل حركة التاء المدغمة إليها ، وبسكون الخاء : مدني ، وبكسر الياء والخاء : يحيى فأتبع الياء الخاء في الكسر ، وبفتح الياء وكسر الخاء : غيرهم.
والمعنى تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً في معاملاتهم.
{ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } [يس : 50] فلا يستطيعون أن يوصوا في شيء من أمورهم توصية { وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } [يس : 50] ولا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } هي النفخة الثانية والصور القرن أو جمع صورة
16
(4/10)
{ فَإِذَا هُم مِّنَ الاجْدَاثِ } [يس : 51] أي القبور { إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [يس : 51] يعدون بكسر السين وضمها { قَالُوا } أي الكفار { قَالُوا يَـاوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا } من أنشرنا { مِن مَّرْقَدِنَا } [يس : 52] أي مضجعنا ، وقف لازم عن حفص وعن مجاهد للكفار مضجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا من بعثنا { هَـاذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [يس : 52] كلام الملائكة أو المتقين أو الكافرين يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو بعضهم بعضاً ، أو " ما " مصدرية ومعناه هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسلمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق ، أو موصولة وتقديره هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي والذي صدق فيه المرسلون { إِن كَانَتْ } [يس : 29] النفخة الأخيرة
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
{ إِن كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَـامِدُونَ } [يس : 29] للحساب.
ثم ذكر ما يقال لهم في ذلك اليوم { شُغُلٍ } بضمتين : كوفي وشامي ، وبضمة وسكون : مكي ونافع وأبو عمرو.
والمعنى في شغل في أي شغل وفي شغل لا يوصف ، وهو افتضاض الأبكار على شط الأنهار تحت الأشجار أو ضرب الأوتار أو ضيافة الجبار { فَـاكِهُونَ } خبر ثان { فَـاكِهُونَ } يزيد ، والفاكه والفكه : المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها مما يتلذذ به وكذا الفكاهة { هُمْ } مبتدأ { وَأَزْوَاجُهُمْ } عطف عليه { فِى ظِلَـالٍ } [يس : 56] حال جمع ظل وهو الموضع الذي لا تقع عليه الشمس كذئب وذئاب ، أو جمع ظلة كبرمة وبرام دليله قراءة حمزة وعليّ ، { ظِلَـالٍ } جمع ظلة وهي ما سترك عن الشمس
17
{ عَلَى الارَآ ـاِكِ } [الإنسان : 13] جمع الأريكة وهي السرير في الحجلة أو الفراش فيها { مُتَّكِـاُونَ } خبر أو { فِى ظِلَـالٍ } [يس : 56] خبر و { عَلَى الارَآ ـاِكِ } [الإنسان : 13] مستأنف { لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ } [يس : 57] يفتعلون من الدعاء أي كل ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم أو يتمنون من قولهم " ادع علي ما شئت " أي تمنه عليّ ، عن الفراء هو من الدعوى ولا يدعون ما لا يستحقون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 15
{ سَلَـامٌ } بدل من { مَّا يَدَّعُونَ } [يس : 57] كأنه قال لهم سلام يقال لهم { قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس : 58] والمعنى أن الله يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيماً لهم وذلك متمناهم ولهم ذلك لا يمنعونه.
قال ابن عباس : والملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين.
{ وَامْتَـازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس : 59] وانفردوا عن المؤمنين وكونوا على حدة وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنة.
وعن الضحاك : لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أبداً ويقول لهم يوم القيامة { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَـابَنِى ءَادَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يس : 60] العهد الوصية وعهد إليه إذا وصاه وعهد الله إليهم ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع ، وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم { وَأَنِ اعْبُدُونِى } [يس : 61] وحدوني وأطيعوني { هَـاذَا } إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] أي صراط بليغ في استقامته ولا صراط أقوم منه { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلا } [يس : 62] بكسر الجيم والباء والتشديد : مدني وعاصم
18
وسهل { جِبِلا } بضم الجيم والباء والتشديد : يعقوب { جِبِلا } مخففاً : شامي وأبو عمرو.
و { جِبِلا } بضم الجيم والباء وتخفيف اللام : غيرهم ، وهذه لغات في معنى الخلق { كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [يس : 62] استفهام تقريع على تركهم الانتفاع بالعقل { هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [يس : 63] بها { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [يس : 64] ادخلوها بكفركم وإنكاركم لها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 18(4/11)
{ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } [يس : 65] أي نمنعهم من الكلام { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس : 65] يروى أنهم يجحدون وبخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم فيحلفون ما كانوا مشركين ، فحيئذ يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وأرجلهم ، وفي الحديث " يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه : أنطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل " { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ } [يس : 66] لأعميناهم وأذهبنا أبصارهم.
والطمس تعفيه شق العين حتى تعود ممسوحة { فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ } [يس : 66] على حذف الجار وإيصال الفعل والأصل فاستبقوا إلى الصراط { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } [يس : 66] فكيف يبصرون حينئذ وقد طمسنا أعينهم { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَـاهُمْ } [يس : 67] قردة أو خنازير أو حجارة { عَلَى مَكَانَتِهِمْ } [يس : 67] { عَلَى } أبو بكر وحماد.
والمكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام أي لمسخناهم في منازلهم حيث يجترحون الماثم { مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَـاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ } [يس : 67] فلم يقدروا على ذهاب ولا مجيء أو مضياً أمامهم ولا يرجعون خلفهم.
{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ } [يس : 68] عاصم وحمزة ، والتنكيس : جعل الشيء أعلاه أسفله ، الباقون { نُنَكِّسْهُ } { فِى الْخَلْقِ } [يس : 68] أي نقلبه فيه بمعنى من أطلنا عمره نكسنا خلقه
19
فصار بدل القوة ضعفاً وبدل الشباب هرماً ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده وخلو من عقل وعلم ثم جعلناه يتزايد إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقض حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله قال عز وجل : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئا } [الحج : 5] (الحج : 5) { أَفَلا يَعْقِلُونَ } [يس : 68] أن من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم ومن القوة إلى الضعف ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز ، قادر على أن يطمس على أعينهم ويمسخهم على مكانتهم ويبعثهم بعد الموت.
وبالتاء : مدني ويعقوب وسهل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم شاعر فنزل { وَمَا عَلَّمْنَـاهُ الشِّعْرَ } [يس : 69] أي وما علمنا النبي عليه السلام قول الشعراء أو وما علمناه بتعليم القرآن الشعر على معنى أن القرآن ليس بشعر فهو كلام موزون مقفى يدل على معنى ، فأين الوزن وأين التقفية؟.
فلا مناسبة بينه وبين الشعر إذا حققته { وَمَا يَنابَغِى لَهُا } [يس : 69] وما يصح له ولا يليق بحاله ولا يتطلب لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل كما جعلناه أمياً لا يهتدي إلى الخط لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض وأما قوله :
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
وقوله :
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
فما هو إلا من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف إلا أنه اتفق من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه أن جاء موزوناً كما يتفق في خطب الناس ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ، ولا يسميها أحد شعراً لأن
20
صاحبه لم يقصد الوزن ولا بد منه ، على أنه عليه السلام قال " لقيت " بالسكون ، وفتح الباء في " كذب " وخفض الباء في " المطلب " ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال { إِنْ هُوَ } [يوسف : 104] أي المعلم { إِلا ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ } [يس : 69] أي ما هو إلا ذكر من الله يوعظ به الإنس والجن ، وما هو إلا قرآن كتاب سماوي يقرأ في المحاريب ويتلى في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين ، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين { لِّيُنذِرَ } القرآن أو الرسول { لِتُنذِرَ } مدني وشامي وسهل ويعقوب { مَن كَانَ حَيًّا } [يس : 70] عاقلاً متأملاً لأن الغافل كالميت أو حياً بالقلب ، { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ } [يس : 70] وتجب كلمة العذاب { عَلَى الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 89] الذين لا يتأملون وهم في حكم الأموات.(4/12)
جزء : 4 رقم الصفحة : 18
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعَـامًا } أي مما تولينا نحن إحداثه ولم يقدر على توليه غيرنا { فَهُمْ لَهَا مَـالِكُونَ } [يس : 71] أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع بها أو فهم لها ضابطون قاهرون { وَذَلَّلْنَـاهَا لَهُمْ } [يس : 72] وصيرناها منقادة لهم وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليله تعالى وتسخيره لها ، ولهذا ألزم الله سبحانه الراكب أن يشكر هذه النعمة ويسبح بقوله { سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف : 13] (الزخرف : 31) { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } [يس : 72] وهو ما يركب { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 72] أي سخرناها لهم ليركبوا ظهرها ويأكلوا لحمها { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ } [يس : 73] من الجلود والأوبار وغير ذلك من اللبن وهو جمع مشرب وهو موضع الشرب أو الشراب { أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس : 35] الله على إنعام الأنعام { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [يس : 74] أي لعل أصنامهم تنصرهم إذا حزبهم أمر
21
{ لا يَسْتَطِيعُونَ } [النساء : 98] أي آلهتهم { نَصْرَهُمْ } نصر عابديهم { وَهُمْ لَهُمْ } [يس : 75] أي الكفار للأصنام { جُندٌ } أعوان وشيعة { مُحْضَرُونَ } يخدمونهم ويذبون عنهم ، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم والأمر على خلاف ما توهموا حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقود النار { فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يس : 76] وبضم الياء وكسر الزاي : نافع من حزنه وأحزنه يعني فلا يهمك تكذيبهم وأذاهم وجفاؤهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } [يس : 76] من عداوتهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] وإنا مجازوهم عليه فحق مثلك أن يتسلى بهذا الوعيد ويستحضر في نفسه صورة حاله وحالهم في الآخرة حتى ينقشع عنه الهم ولا يرهقه الحزن.
ومن زعم أن من قرأ { إِنَّا نَعْلَمُ } [يس : 76] بالفتح فسدت صلاته وإن اعتقد معناه كفر فقد أخطأ ، لأنه يمكن حمله على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن والشعر وفي كل كلام ، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلّم " أن الحمد والنعمة لك " ، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي رحمة الله عليهما ، وكلاهما تعليل.
فإن قلت : إن كان المفتوح بدلاً من { قَوْلُهُمْ } كأنه قيل : فلا يحزنك أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ففساده ظاهر.
قلت : هذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول ، فقد تبين أن تعلق الحزن بكون الله عالماً وعدم تعلقه لا يدوران على كسر " إن " وفتحها ، وإنما يدوران على تقديرك فتفضل إن فتحت بـ " أن " تقدر معنى التعليل ولا تقدر معنى البدل كما أنك تفضل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية.
ثم إن قدرته كاسراً أو فاتحاً على ما عظم فيه الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الحزن على علمه تعالى بسرهم وعلانيتهم ، والنهي عن حزنه ليس إثباتاً لحزنه بذلك كما في قوله : { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـافِرِينَ } [القصص : 86] (القصص : 68) ، { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 14] (الأنعام : 41) { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [القصص : 88] (القصص : 88).
ونزل في أبي بن خلف حين أخذ عظماً بالياً وجعل يفته بيده ويقول : يا محمد أترى الله يحيي
22
هذا بعدما رم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " .
جزء : 4 رقم الصفحة : 21(4/13)
{ أَوَلَمْ يَرَ الانسَـانُ أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن نُّطْفَةٍ } مذرة خارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } [النحل : 4] بين الخصومة أي فهو على مهانة أصله ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربه وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهو غاية المكابرة { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا } [يس : 78] بفته العظم { وَنَسِىَ خَلْقَهُ } [يس : 78] من المني فهو أغرب من إحياء العظم ، المصدر مضاف إلى المفعول أي خلقنا إياه { قَالَ مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ } هو اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات ولهذا لم يؤنث ، وقد وقع خبراً لمؤنث ومن يثبت الحياة في العظام ويقول إن عظام الميتة نجسة لأن الموت يؤثر فيها من قبل أن الحياة تحلها يتشبث بهذه الآية وهي عندنا طاهرة ، وكذا الشعر والعصب لأن الحياة لا تحلها فلا يؤثر فيها الموت.
والمراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ } [يس : 79] خلقها { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [التوبة : 13] أي ابتداء { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ } [يس : 79] مخلوق { عَلِيمٌ } لا تخفى عليه أجزاؤه وإن تفرقت في البر والبحر فيجمعه ويعيده كما كان { الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاخْضَرِ نَارًا فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } [يس : 80] تقدحون.
ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي تورى بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار ، وفي أمثالهم " في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار " لأن المرخ شجر سريع
23
الوري ، والعفار شجر تقدح منه النار ، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ ـ وهو ذكر ـ على العفار ـ وهي أنثى ـ فتنقدح النار بإذن الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من شجرة إلا وفيها النار إلا العناب لمصلحة الدق للثياب ، فمن قدر على جمع الماء والنار في الشجر قدر على المعاقبة بين الموت والحياة في البشر ، وإجراء أحد الضدين على الآخر بالعقيب أسهل في العقل من الجمع معاً بلا ترتيب.
والأخضر على اللفظ وقريء الخضراء على المعنى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 21
ثم بين أن من قدر على خلق السماوات والأرض مع عظم شأنهما فهو على خلق الأناسيّ أقدر بقوله { أَوَ لَيْسَ } في الصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم لأن المعاد مثل للمبتدأ وليس به { بَلَى } أي قل بلى هو قادر على ذلك { وَهُوَ الْخَلَّـاقُ } [يس : 81] الكثير المخلوقات { الْعَلِيمِ } الكثير المعلومات { إِنَّمَآ أَمْرُهُ } [يس : 82] شأنه { إِذَآ أَرَادَ شيئا أَن يَقُولَ لَهُ كُن } [يس : 82] أن يكونه { فَيَكُونُ } فيحدث أي فهو كائن موجود لا محالة.
فالحاصل أن المكونات بتخليقه وتكوينه ولكن عبر عن إيجاده بقوله { كُن } من غير أن كان منه كاف ونون وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد كأنه يقول : كما لا يثقل قول " كن " عليكم فكذا لا يثقل على الله ابتداء الخلق وإعادتهم ، { فَيَكُونُ } شامي وعلي عطف على { يَقُولَ } ، وأما الرفع فلأنها جملة من مبتدأ وخبر لأن تقديرها " فهو يكون " معطوفة على مثلها وهي " أمره أن يقول له كن " { فَسُبْحَـانَ } تنزيه مما وصفه به المشركون وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قالوا { الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ } [يس : 83] أي ملك كل شيء.
وزيادة الواو والتاء للمبالغة يعني هو مالك كل شيء { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] تعادون بعد الموت بلا فوت ، { تُرْجَعُونَ } : يعقوب.
قال عليه الصلاة والسلام " إن لكل شيء قلباً وإن قلب القرآن يس " ، " من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين
24(4/14)
مرة " وقال عليه السلام " من قرأ يس أمام حاجته قضيت له " وقال عليه السلام " من قرأها إن كان جائعاً أشبعه الله ، وإن كان ظمان أرواه الله ، وإن كان عرياناً ألبسه الله ، وإن كان خائفاً أمنه الله ، وإن كان مستوحشاً آنسه الله ، وإن كان فقيراً أغناه الله ، وإن كان في السجن أخرجه الله ، وإن كان أسيراً خلصه الله ، وإن كان ضالاً هداه الله ، وإن كان مديوناً قضى الله دينه من خزائنه " وتدعى الدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة.
25
سورة الصافات
مكية وهي مائة وإحدى ، أو اثنتان وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالصَّـافَّـاتِ صَفًّا * فَالزاَّجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّـالِيَـاتِ ذِكْرًا } أقسم سبحانه وتعالى بطوائف الملائكة ، أو بنفوسهم الصافات أقدامها في الصلاة.
فالزاجرات الحساب سوقاً أو عن المعاصي بالإلهام ، فالتاليات لكلام الله من الكتب المنزلة وغيرها وهو قول ابن عباس وابن مسعود ومجاهد ؛ أو بنفوس العلماء العمال الصافات أقدامها في التهجد وسائر الصلوات ، فالزاجرات بالمواعظ والنصائح ، فالتاليات آيات الله والدارسات شرائعه.
أو بنفوس الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل للجهاد وتتلو الذكر مع ذلك.
و { صَفًّا } مصدر مؤكد وكذلك { زَجْرًا } والفاء تدل على ترتيب الصفات في التفاضل فتفيد الفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو على العكس.
وجواب القسم { إِنَّ إِلَـاهَكُمْ لَوَاحِدٌ } [الصافات : 4] قيل : هو جواب قولهم { أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } [ص : 5] (ص : 5) { رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنبياء : 56] خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب { وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَـارِقِ } [الصافات : 5] أي مطالع الشمس وهي ثلثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك
26
المغرب تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب منها ولا تطلع ولا تغرب في واحد يومين.
وأما { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } [الرحمن : 17] (الرحمن : 71) فإنه أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما ، وأما { رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [المزمل : 9] (المزمل : 9) فإنه أراد به الجهة فالمشرق جهه والمغرب جهة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا } [الصافات : 6] القربى منكم تأنيث الأدنى { بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [الصافات : 6] حفص وحمزة على البدل من { زِينَةُ } والمعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب ، { بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [الصافات : 6] أبو بكر على البدل من محل { بِزِينَةٍ } أو على إضمار أعني أو على إعمال المصدر منوناً في المفعول ، { بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [الصافات : 6] غيرهم بإضافة المصدر إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وأصله بزينةٍ الكواكب أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها ، لأنها إنما زينت السماء لحسنها في أنفسها وأصله { بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [الصافات : 6] لقراءة أبي بكر { وَحِفْظًا } محمول على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً من الشياطين كما قال { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَـابِيحَ وَجَعَلْنَـاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَـاطِينِ } [الملك : 5] (الملك : 5) أو الفعل المعلل مقدر كأنه قيل : وحفظاً من كل شيطان قد زيناها بالكواكب ، أو معناه حفظناها حفظاً { مِّن كُلِّ شَيْطَـانٍ مَّارِدٍ } [الصافات : 7] خارج من الطاعة.
والضمير في { لا يَسَّمَّعُونَ } [الأعراف : 100] لكل شيطان لأنه في معنى الشياطين ، { يَسَّمَّعُونَ } كوفي غير أبي بكر ، وأصله " يتسمعون " والتسمع تطلب السماع يقال : تسمع فسمع أو فلم يسمع.
وينبغي أن يكون كلاماً منقطعاً مبتدأ اقتصاصاً لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا.
وقيل : أصله لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في " جئتك أن تكرمني " فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في
27
قوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى(4/15)
وفيه تعسف يجب صون القرآن عن مثله ، فإن كل واحد من الحذفين غير مردود على انفراده ولكن اجتماعهما منكر.
والفرق بين " سمعت فلاناً " يتحدث و " سمعت إليه يتحدث " و " سمعت حديثه " و " إلى حديثه " ، أن المعدى بنفسه يفيد الإدراك ، والمعدى بـ " إلى " يفيد الإصغاء مع الإدراك { إِلَى الْمَلا الاعْلَى } [الصافات : 8] أي الملائكة لأنهم يسكنون السماوات ، والإنس والجن هم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض { وَيُقْذَفُونَ } يرمون بالشهب { مِن كُلِّ جَانِبٍ } [الصافات : 8] من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للإستراق { دُحُورًا } مفعول له أي ويقذفون للدحور وهو الطرد ، أو مدحورين على الحال ، أو لأن القذف والطرد متقاربان في المعنى فكأنه قيل : يدحرون أو قذفاً { وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ } [الصافات : 9] دائم من الوصوب أي أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب وقد أعد لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع.
و " من " في { إِلا مَنْ } [سبأ : 37] في محل الرفع بدل من الواو في { لا يَسَّمَّعُونَ } [الأعراف : 100] أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي { خَطِفَ الْخَطْفَةَ } [الصافات : 10] أي سلب السلبة يعني أخذ شيئاً من كلامهم بسرعة { فَأَتْبَعَهُ } لحقه { شِهَابٌ } أي نجم رجم { ثَاقِبٌ } مضيء.
{ فَاسْتَفْتِهِمْ } فاستخبر كفار مكة { أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا } [الصافات : 11] أي أقوى خلقاً من قولهم شديد الخلق وفي خلقه شدة ، أو أصعب خلقاً وأشقه على معنى الرد لإنكارهم البعث ، وأن من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } [الصافات : 11] يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما.
وجيء بـ " من " تغليباً للعقلاء على غيرهم ويدل عليه قراءة من قرأ " أم من " عددنا بالتشديد والتخفيف.
{ إِنَّا خَلَقْنَـاهُم مِّن طِينٍ لازِب } [الصافات : 11] لاصق أو لازم وقرىء به ، وهذا شهادة عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة ، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا أئذا كنا تراباً؟ وهذا
28
المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث { بَلْ عَجِبْتَ } [الصافات : 12] من تكذيبهم إياك { وَيَسْخُرُونَ } هم منك ومن تعجبك ، أو عجبت من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث ، { بَلْ عَجِبْتَ } [الصافات : 12] حمزة وعلي أي استعظمت ، والعجب روعة تعتري الإنسان عند استعظام الشيء فجرد لمعنى الاستعظام في حقه تعالى لأنه لا يجوز عليه الروعة ، أو معناه قل يا محمد بل عجبت { وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ } [الصافات : 13] ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
{ وَإِذَا رَأَوْا ءَايَةً } [الصافات : 14] معجزة كانشقاق القمر ونحوه { يَسْتَسْخِرُونَ } يستدعي بعضهم بعضاً أن يسخر منها أو يبالغون في السخرية.
{ وَقَالُوا إِنْ هَـاذَآ } [الصافات : 15] ما هذا { إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [المائدة : 110] ظاهر { أَءِذَا } استفهام إنكار { مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [المؤمنون : 82] أي أنبعث إذا كنا تراباً وعظاماً معطوف على محل " ان " واسمها ، أو على الضمير في { أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ } [المطففين : 4] والمعنى أيبعث أيضاً آباؤنا على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل.
{ أَوَ ءَابَآؤُنَا } [الصافات : 17] بسكون الواو : مدني و شامي أي أيبعث واحد منا على المبالغة في الإنكار { الاوَّلُونَ } الأقدمون { قُلْ نَعَمْ } [الصافات : 18] تبعثون { نَعَمْ } علي وهما لغتان { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } [الصافات : 18] صاغرون { فَإِنَّمَا هِىَ } [النازعات : 13] جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا { زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } [النازعات : 13] و " هي " لا ترجع إلى شيء إنما هي مبهمة موضحها خبرها ، ويجوز فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية.
والزجرة الصيحة من قولك زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها ف { أَذَاـاهُمْ } أحياء بصراء { يَنظُرُونَ } إلى سوء أعمالهم أو ينتظرون ما يحل بهم
29
(4/16)
{ وَقَالُوا يَـاوَيْلَنَا } [الصافات : 20] الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة { هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ } [الصافات : 20] أي اليوم الذي ندان فيه أي نجازي بأعمالنا { هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } [الصافات : 21] يوم القضاء والفرق بين فرق الهدى والضلال { الَّذِى كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة : 20] ثم يحتمل أن يكون { هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ } [الصافات : 20] إلى قوله { احْشُرُوا } من كلام الكفرة بعضهم مع بعض ، وأن يكون من كلام الملائكة لهم ، وأن يكون { وَقَالُوا يَـاوَيْلَنَا هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ } من كلام الكفرة و { هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } [الصافات : 21] من كلام الملائكة جواباً لهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
{ احْشُرُوا } خطاب الله للملائكة { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] كفروا { وَأَزْوَاجَهُمْ } أي وأشباههم وقرناءهم من الشياطين أو نساءهم الكافرات ، والواو بمعنى " مع " وقيل : للعطف.
وقرىء بالرفع عطفاً على الضمير في { ظَلَمُوا } { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ } أي الأصنام { فَاهْدُوهُمْ } دلوهم ، عن الأصمعي : هديته في الدين هدىً وفي الطريق هداية { إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 23] طريق النار { وَقِفُوهُمْ } احبسوهم { إِنَّهُمْ } عن أقوالهم وأفعالهم { لا تَجْـاَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ } [الصافات : 25] أي لا ينصر بعضكم بعضاً ، وهذا توبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعدما كانوا متناصرين في الدنيا.
وقيل : هو جواب لأبي جهل حيث قال يوم بدر نحن جميع منتصر ، وهو في موضع النصب على الحال أي ما لكم غير متناصرين { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات : 26] منقادون أو قد أسلم بعضهم بعضاً وخذله عن عجر وكلهم مستسلم غير منتصر.
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [الصافات : 27] أي التابع على المتبوع { يَتَسَآءَلُونَ } يتخاصمون
30
{ قَالُوا } أي الأتباع للمتبوعين { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } [الصافات : 28] عن القوة والقهر إذ اليمين موصوفة بالقوة وبها يقع البطش أي أنكم كنتم تحمولننا على الضلال وتقسروننا عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 26
{ قَالُوا } أي الرؤساء { بَلْ لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الصافات : 29] أي بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر غير ملجئين { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـان } [الصافات : 30] تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم { بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَـاغِينَ } [الصافات : 30] بل كنتم قوماً مختارين الطغيان { فَحَقَّ عَلَيْنَا } [الصافات : 31] فلزمنا جميعاً { قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآ ـاِقُونَ } [الصافات : 31] يعني وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا ، ولو حكى الوعيد كما هو لقال إنكم لذائقون ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم ونحوه قوله :
فقد زعمت هوازن قل ما لي ولو حكي قولها لقال " قل مالك " { فَأَغْوَيْنَـاكُمْ } فدعوناكم إلى الغي { إِنَّا كُنَّا غَـاوِينَ } [الصافات : 32] فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا { فَإِنَّهُمْ } فإن الأتباع والمتبوعين جميعاً { يَوْمَـاـاِذٍ } يوم القيامة { فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الصافات : 33] كما كانوا مشتركين في الغواية { إِنَّا كَذَالِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } [الصافات : 34] أي بالمشركين إنا مثل ذلك الفعل نفعل بكل مجرم { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } [الصافات : 35] إنهم كانوا إذا سمعوا بكلمة التوحيد استكبروا وأبو إلا الشرك
31
{ وَيَقُولُونَ } بهمزتين : شامي وكوفي { ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون * بَلْ } يعنون محمداً عليه السلام { بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ } [الصافات : 37] رد على المشركين { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [الصافات : 37] كقوله : { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر : 31] (البقرة : 79).
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
(4/17)
{ إِنَّكُمْ لَذَآ ـاِقُوا الْعَذَابِ الالِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } بلا زيادة { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 40] بفتح اللام : كوفي ومدني ، وكذا ما بعده أي لكن عباد الله على الاستثناء المنقطع { أؤلئك لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } فسر الرزق المعلوم بالفواكه وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة يعني أن رزقهم كله فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات لأن أجسادهم محكمة مخلوقة للأبد فما يأكلونه للتلذذ ، ويجوز أن يراد رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر.
وقيل : معلوم الوقت كقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم : 62] (مريم : 26) والنفس إليه أسكن { وَهُم مُّكْرَمُونَ } [الصافات : 42] منعمون { فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [يونس : 9] يجوز أن يكون ظرفاً وأن يكون حالاً وأن يكون خبراً بعد خبر ، وكذا { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ } [الحجر : 47] التقابل أتم للسرور وآنس { يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ } [الصافات : 45] بغير همز : أبو عمرو وحمزة في الوقف ، وغيرهما بالهمزة.
يقال للزجاجة فيها الخمر كأس وتسمى الخمر نفسها كأساً.
وعن
32
الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر ، وكذا في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما { مِّن مَّعِين } [الصافات : 45] من شراب معين أو من نهر معين وهو الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون ، وصف بما وصف به الماء لأنه يجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء قال الله تعالى : { وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ } [محمد : 15] (محمد : 51) { بَيْضَآءَ } صفة للكأس { لَذَّةٍ } وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها أو ذات لذة { لِّلشَّـارِبِينَ } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 31
{ لا فِيهَا غَوْلٌ } [الصافات : 47] أي لا تغتال عقولهم كخمور الدنيا وهو من غاله يغوله غولاً إذا أهلكه وأفسده { وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [الصافات : 47] يسكرون من نزف الشارب إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، { يُنزَفُونَ } علي وحمزة أي لا يسكرون أو لا ينزف شرابهم من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه { وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ } [ص : 52] قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفاً إلى غيرهم { عِينٌ } جمع عيناء أي نجلاء واسعة العين { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [الصافات : 49] مصون شبههن ببيض النعام المكنون في الصفاء وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور.
وعطف { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ } [الصافات : 50] يعني أهل الجنة.
{ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات : 27] عطف على { يُطَافُ عَلَيْهِم } [الزخرف : 71] والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشّرب قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 33
وما بقيت من اللذات إلا
أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا إلا أنه جيء به ماضياً على ما عرف في أخباره.
{ قَالَ قَآ ـاِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ * يَقُولُ أَءِنَّكَ } بهمزتين : شامي وكوفي { لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } [الصافات : 52] بيوم الدين
33
(4/18)
{ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الصافات : 16] لمجزيون من الدين وهو الجزاء { قَالَ } ذلك القائل { هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ } [الصافات : 54] إلى النار لأريكم ذلك القرين قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار.
أو قال الله تعالى لأهل الجنة : هل أنتم مطلعون إلى النار فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار { فَاطَّلَعَ } المسلم { فَرَءَاهُ } أي قرينة { فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 55] في وسطها { قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } [الصافات : 56] " إن " مخففة من الثقيلة وهي تدخل على " كاد " كما تدخل على " كان " ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والإرداء الإهلاك.
وبالياء في الحالين : يعقوب { وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّى } [الصافات : 57] وهي العصمة والتوفيق في الاستمساك بعروة الإسلام { لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [الصافات : 57] من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الاولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } الفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذبين ، والمعنى أن هذه حال المؤمنين وهو أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى بخلاف الكفار فإنهم فيما يتمنون فيه الموت كل ساعة.
وقيل لحكيم : ما شر من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت.
وهذا قول يقوله المؤمن تحدثاً بنعمة الله يسمع من قرينه ليكون توبيخاً له وزيادة تعذيب.
و { مَوْتَتَنَا } نصب على المصدر والاستثناء متصل تقديره ولا نموت إلا مرة ، أو منقطع وتقديره لكن الموتة الأولى قد كانت في الدنيا.
ثم قال لقرينه تقريعاً له
جزء : 4 رقم الصفحة : 33
{ إِنْ هَـاذَآ } [ص : 23] أي الأمر الذي نحن فيه { لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [الصافات : 60].
ثم قال الله عز وجل { لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَـامِلُونَ } [الصافات : 61] وقيل : هو أيضاً من كلامه.
34
{ أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلا } [الصافات : 62] تمييز { أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } [الصافات : 62] أي نعيم الجنة وما فيها من اللذات والطعام والشراب خير نزلاً أم شجرة الزقوم خير نزلاً؟ والنزل ما يقام للنازل بالمكان من الرزق ، والزقوم : شجرة مر يكون بتهامة { إِنَّا جَعَلْنَـاهَا فِتْنَةً لِّلظَّـالِمِينَ } [الصافات : 63] محنة وعذاباً لهم في الآخرة أو ابتلاء لهم في الدنيا ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر فكذبوا { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 64] قيل منتبهاً في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَـاطِينِ } [الصافات : 65] الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها ، وشبه برءوس الشياطين للدلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر ، لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض.
وقيل : الشيطان حية عرفاء قبيحة المنظر هائلة جداً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 33
{ فَإِنَّهُمْ لاكِلُونَ مِنْهَا } [الصافات : 66] من الشجرة أي من طلعها { فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } [الصافات : 66] فمالئون بطونهم لما يغلبهم من الجوع الشديد { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا } [الصافات : 67] على أكلها { لَشَوْبًا } لخلطاً ولمزاجاً { مِّنْ حَمِيمٍ } [الصافات : 67] ماء حار يشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم كما قال في صفة شراب أهل الجنة { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } [المطففين : 27] (المطففين : 72) والمعنى ثم إنهم يملئون البطون من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم ويعطشهم فلا يسقون إلا بعد ملىء تعذيباً لهم بذلك العطش ثم يسقون ما هو أحر وهو الشراب المشوب بالحميم.
{ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لالَى الْجَحِيمِ } [الصافات : 68] أي أنهم يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن
35
(4/19)
يمتلئوا ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون إلى دركاتهم ، ومعنى التراخي في ذلك ظاهر { إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد بتقليد الآباء في الدين واتباعهم إياهم في الضلال وترك اتباع الدليل.
والإهراع : الإسراع الشديد كأنهم يحثون حثاً { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ } [الصافات : 71] قبل قومك قريش { أَكْثَرُ الاوَّلِينَ } [الصافات : 71] يعني الأمم الخالية بالتقليد وترك النظر والتأمل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ } [الصافات : 72] أنبياء حذروهم العواقب { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [يونس : 73] أي الذين أنذروا وحذروا أي أهلكوا جميعاً { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 40] أي إلا الذين آمنوا منهم وأخلصوا لله دينهم أو أخلصهم الله لدينه على القراءتين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 33
ولما ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية وسوء عاقبة المنذرين أتبع ذلك ذكر نوح ودعاءه إياه حين أيس من قومه بقوله { وَلَقَدْ نَادَاـانَا نُوحٌ } [الصافات : 75] دعانا لننجيه من الغرق.
وقيل : أريد به قوله { أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } [القمر : 10] (القمر : 01) { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } [الصافات : 75] اللام الداخلة على " نعم " جواب قسم محذوف ، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ولقد نادانا نوح فوالله لنعم المجيبون نحن ، والجمع دليل العظمة والكبرياء.
والمعنى إنا أجبناه أحسن الإجابة ونصرناه على أعدائه وانتقمنا منهم بأبلغ ما يكون
36
{ وَنَجَّيْنَـاهُ وَأَهْلَهُ } [الصافات : 76] ومن آمن به وأولاده { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الأنبياء : 76] وهو الغرق { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ } [الصافات : 77] وقد فني غيرهم.
قال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح وكان لنوح عليه السلام ثلاثة أولاد : سام وهو أبو العرب وفارس والروم ، وحام وهو أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج.
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ } [الصافات : 78] من الأمم هذه الكلمة وهي { سَلَـامٌ عَلَى نُوحٍ } [الصافات : 79] يعني يسلمون عليه تسليماً ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك " قرأت سورة أنزلناها " { فِى الْعَـالَمِينَ } [الصافات : 79] أي ثبت هذه التحية فيهم جميعاً ولا يخلو أحد منهم منها كأنه قيل : ثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم { إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الصافات : 80] علل مجازاته بتلك التكرمة السنية بأنه كان محسناً { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } [الصافات : 81] ثم علل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً ليريك جلالة محل الإيمان وأنه القصارى من صفات المدح والتعظيم { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخَرِينَ } [الشعراء : 66] أي الكافرين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 33
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لابْرَاهِيمَ } أي من شيعة نوح أي ممن شايعه على أصول الدين أو شايعه على التصلب في دين الله ومصابرة المكذبين ، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ } [الصافات : 84] " إذ " تعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء : 89] من الشرك أو من آفات القلوب
37
(4/20)
لإبراهيم ، أو بمحذوف وهو " اذكر " .
ومعنى المجيء بقلبه ربه أنه أخلص لله قلبه وعلم الله ذلك منه فضرب المجيء مثلاً لذلك { إِذْ } بدل من الأولى { قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَاـاِفْكًا ءَالِهَةً } مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ وإنما قدم المفعول به على الفعل للعناية ، وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم.
ويجوز أن يكون { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [العنكبوت : 17] مفعولاً به أي أتريدون إفكاً؟ ثم فسر الإفك بقوله { دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } [الصافات : 86] على أنها إفك في نفسها ، أو حالاً أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين؟ { فَمَا ظَنُّكُم } [الصافات : 87] أيّ شيء ظنكم { بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 121] وأنتم تعبدون غيره؟ و " ما " رفع بالابتداء والخبر { ظَنُّكُم } أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم وقد عبدتم غيره وعلمتم أنه المنعم على الحقيقة فكان حقيقاً بالعبادة؟ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ } [الصافات : 88] أي نظر في النجوم رامياً ببصره إلى السماء متفكراً في نفسه كيف يحتال ، أو أراهم أنه ينظر في النجوم لاعتقادهم علم النجوم فأوهمهم أنه استدل بأمارة على أنه يسقم { فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ } [الصافات : 89] أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الإسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرقوا عنه فهربوا منه إلى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل.
وقالوا : علم النجوم كان حقاً ثم نسخ الاشتغال بمعرفته.
والكذب حرام إلا إذا عرّض ، والذي قاله إبراهيم عليه السلام معراض من الكلام أي سأسقم ، أو من الموت في عنقه سقيم ومنه المثل " كفى بالسلامة داء " .
ومات رجل فجأة فقالوا : مات وهو صحيح.
فقال أعرابي : أصحيح من الموت في عنقه ، أو أراد إني سقيم النفس لكفركم كما يقال أنا مريض القلب من كذا
38
{ فَتَوَلَّوْا } فأعرضوا { عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [الصافات : 90] أي مولين الأدبار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{ فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ } [الصافات : 91] فمال إليهم سراً { فَقَالَ } استهزاء { أَلا تَأْكُلُونَ } [الصافات : 91] وكان عندها طعام { مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ } [الصافات : 92] والجمع بالواو والنون لما أنه خاطبها خطاب من يعقل { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبَا } [الصافات : 93] فأقبل عليهم مستخفياً كأنه قال فضربهم ضرباً لأن { سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ } بمعنى ضربهم أو فراغ عليهم يضربهم ضرباً أي ضارباً { بِالْيَمِينِ } أي ضرباً شديداً بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما أو بالقوة والمتانة ، أو بسبب الحلف الذي سبق منه وهو قوله { وَتَاللَّهِ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم } (الأنبياء : 75) { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ } [الصافات : 94] إلى إبراهيم { يَزِفُّونَ } يسرعون من الزفيف وهو الإسراع.
{ يَزِفُّونَ } حمزة من أزفّ إذا دخل في الزفيف إزفافاً فقال لمن رآه بعضهم يكسرها وبعضهم لم يره فأقبل من رآه مسرعاً نحوه ثم جاء من لم يره يكسرها فكأنه قد رآه { مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّـالِمِينَ } [الأنبياء : 59] ، فأجابوه على سبيل التعريض بقولهم { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُا إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء : 60] (الأنبياء : 06) ثم قالوا بأجمعهم نحن نعبدها وأنت تكسرها فأجابهم بقوله { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [الصافات : 95] بأيديكم { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 96] وخلق ما تعملونه من الأصنام أو " ما " مصدرية أي وخلق أعمالكم وهو دليلنا في خلق الأفعال أي الله خالقكم وخالق أعمالكم فلم تعبدون غيره؟
39
(4/21)
{ قَالُوا ابْنُوا لَهُ } [الصافات : 97] أي لأجله { بُنْيَـانًا } من الحجر طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً { فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ } [الصافات : 97] في النار الشديدة.
وقيل : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم { فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا } [الصافات : 98] بإلقائه في النار { فَجَعَلْنَـاهُمُ الاسْفَلِينَ } [الصافات : 98] المقهورين عند الإلقاء فخرج من النار { وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى } [الصافات : 99] إلى موضع أمرني بالذهاب إليه { سَيَهْدِينِ } سيرشدني إلى ما فيه صلاحي في ديني ويعصمني ويوفقني.
فيهما : يعقوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{ سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ } [الصافات : 100] بعض الصالحين يريد الولد لأن لفظ الهبة غلب في الولد { فَبَشَّرْنَـاهُ بِغُلَـامٍ حَلِيمٍ } [الصافات : 101] انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ أوان الحلم لأن الصبي لا يوصف بالحلم ، وأنه يكون حليماً وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال : { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ } [الصافات : 102].
ثم استسلم لذلك.
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ } [الصافات : 102] بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه.
و { مَعَهُ } لا يتعلق بـ { بَلَغَ } لاقتضائه بلوغهما معاً حد السعي ، ولا بـ { السَّعْىَ } لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه ، فبقي أن يكون بياناً كأنه لما قال : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ } أي الحد الذي يقدر فيه على السعي قيل : مع من؟ قال : مع أبيه وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة { قَالَ يَـابُنَىَّ } [الصافات : 102] حفص والباقون بكسر الياء { إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ } وبفتح الياء فيهما : حجازي وأبو عمرو.
قيل له في المنام : اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة.
وإنما لم يقل رأيت لأنه رأى مرة بعد مرة فقد قيل : رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا.
فلما أصبح روّى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثمّ سمي يوم الترويه.
فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فمن ثمّ سمي يوم عرفة.
ثم رأى مثل ذلك في
40
الليلة الثالثة فهم بنحره فسمى اليوم يوم النحر { فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } [الصافات : 102] من الرأي على وجه المشاورة لا من رؤية العين ، ولم يشاوره ليرجع إلى رأيه ومشورته ولكن ليعلم أيجزع أم يصبر.
{ تَرَى } علي وحمزة أي ماذا تصبر من رأيك وتبديه { قَالَ يَـا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } [الصافات : 102] أي ما تؤمر به وقرىء به { سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّـابِرِينَ } [الصافات : 102] على الذبح.
روي أن الذبيح قال لأبيه : يا أبت خذ بناصيتي واجلس بين كتفي حتى لا أوذيك إذا أصابتني الشفرة ، ولا تذبحني وأنت تنظر في وجهي عسى أن ترحمني ، واجعل وجهي إلى الأرض.
ويروى اذبحني وأنا ساجد واقرأ على أمي السلام ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 37
{ فَلَمَّآ أَسْلَمَا } [الصافات : 103] انقادا لأمر الله وخضعا.
وعن قتادة : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات : 103] صرعه على جبينه ووضع السكين على حلقه فلم يعمل ، ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
روي أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى.
وجواب " لما " محذوف تقديره فلما أسلما وتله للجبين { وَنَـادَيْنَـاهُ أَن يَـاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } أي حققت ما أمرناك به في المنام من تسليم الولد للذبح كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، أو الجواب قبلنا منه و معطوف عليه { الْعَـالَمِينَ * إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الصافات : 80] تعليل لتخويل ما خولهما من الفرج بعد الشدة { إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلَـاؤُا الْمُبِينُ } الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 41
(4/22)
{ وَفَدَيْنَـاهُ بِذِبْحٍ } [الصافات : 107] هو ما يذبح.
وعن ابن عباس : هو الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة حتى فدي به إسماعيل.
وعنه : لو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة وذبح الناس أبناءهم { عَظِيمٍ } ضخم الجثة سمين وهي السنة في الأضاحي.
41
وروي أنه هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي.
وروي أنه لما ذبحه قال جبريل : الله أكبر الله أكبر.
فقال الذبيح : لا إله إلا الله والله أكبر.
فقال إبراهيم : الله أكبر ولله الحمد ، فبقي سنة وقد استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فيمن نذر ذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة.
والأظهر أن الذبيح إسماعيل وهو قول أبي بكر وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين رضي الله عنهم لقوله عليه السلام " أنا ابن الذبيحين " ؟ فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله.
وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح آخر ولده تقرباً ، وكان عبد الله آخراً ففداه بمائة من الإبل ، ولأن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في زمن الحجاج وابن الزبير.
وعن الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان اسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة.
وعن علي وابن مسعود والعباس وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أنه إسحق ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف عليهما السلام : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله.
وإنما قيل { وَفَدَيْنَـاهُ } وإن كان الفادي إبراهيم عليه السلام والله تعالى هو المفتدى منه لأنه الآمر بالذبح ، لأنه تعالى وهب له الكبش ليفتدي به.
وههنا إشكال وهو أنه لا يخلو إما أن يكون ما أتى به إبراهيم عليه السلام من بطحه على شقه وإمرار الشفرة على حلقه في حكم الذبح أم لا ، فإن كان في حكم الذبح فما معنى الفداء والفداء هو التخليص من الذبح ببدل؟ وإن لم يكن فما معنى قوله { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ } [الصافات : 105] وإنما كان يصدقها لو صح منه الذبح أصلاً أو بدلاً ولم يصح؟ والجواب أنه عليه السلام قد بذل وسعه وفعل ما يفعل الذابح ، ولكن الله تعالى جاء
42
بما منع الشفرة أن تمضي فيه وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم ، ووهب الله له الكبش ليقيم ذبحه مقام تلك الحقيقة في نفس إسماعيل بدلاً منه وليس هذا بنسخ منه للحكم كما قال البعض ، بل ذلك الحكم كان ثابتاً إلا أن المحل الذي أضيف إليه لم يحله الحكم على طريق الفداء دون النسخ ، وكان ذلك ابتلاء ليستقر حكم الأمر عند المخاطب في آخر الحال ، على أن المبتغي منه في حق الولد أن يصير قرباناً بنسبة الحكم إليه مكرماً بالفداء الحاصل لمعرة الذبح مبتلى بالصبر والمجاهدة إلى حال المكاشفة ، وإنما النسخ بعد استقرار المراد بالأمر لا قبله وقد سمي فداء في الكتاب لا نسخاً.
{ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاخِرِينَ } [الصافات : 78] ولا وقف عليه لأن { سَلَـامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الصافات : 109] مفعول { وَتَرَكْنَا } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 41
(4/23)
{ كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الصافات : 80] ولم يقل " إنا كذلك " هنا كما في غيره لأنه قد سبق في هذه القصة فاستخف بطرحه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَـاهُ بِإِسْحَـاقَ نَبِيًّا } حال مقدرة من { إِسْحَـاقَ } ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وبشرناه بوجود إسحق نبياً أي بأن يوجد مقدرة نبوّته فالعامل في الحال الوجود لا البشارة { مِنَ الصَّـالِحِينَ } [آل عمران : 39] حال ثانية وورودها على سبيل الثناء لأن كل نبي لا بد وأن يكون من الصالحين { وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـاقَ } [الصافات : 113] أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا.
وقيل : باركنا على إبراهيم في أولاده ، وعلى إسحق بأن أخرجنا من صلبه ألف نبي ، أو لهم يعقوب وآخرهم عيسى عليهم السلام { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ } [الصافات : 113] مؤمن { وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [الصافات : 113] كافر { مُّبِينٌ } ظاهر أو محسن إلى الناس وظالم على نفسه بتعديه عن حدود الشرع ، وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر ، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر ، وعلى أن الظلم في
43
أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة ، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاقب على ما اجترحت يداه لا على ما وجد من أصله وفرعه.
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا } [الصافات : 114] أنعمنا { عَلَى مُوسَى وَهَـارُونَ } [الصافات : 114] بالنبوة { وَنَجَّيْنَـاهُمَا وَقَوْمَهُمَا } [الصافات : 115] بني إسرائيل { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الأنبياء : 76] من الغرق أو من سلطان فرعون وقومه وغشمهم { وَنَصَرْنَـاهُمْ } أي موسى وهرون وقومهما { فَكَانُوا هُمُ الْغَـالِبِينَ } [الصافات : 116] على فرعون وقومه { وَءَاتَيْنَـاهُمَا الْكِتَـابَ الْمُسْتَبِينَ } [الصافات : 117] البليغ في بيانه وهو التوراة { وَهَدَيْنَـاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الصافات : 118] صراط أهل الإسلام وهي صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 41
{ الْمُرْسَلِينَ } هو إلياس بن ياسين من ولد هرون أخي موسى.
وقيل : هو إدريس النبي عليه السلام.
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه { وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِدْرِيسَ } في موضع " إلياس " .
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ } [الصافات : 124] ألا تخافون الله { أَتَدْعُونَ } أتعبدون { بَعْلا } هو علم لصنم كان من ذهب وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء ، وكان موضعه يقال له بك فركب وصار بعلبك وهو من بلاد الشأم.
وقيل :
44
(4/24)
في إلياس والخضر إنهما حيان ، وقيل إلياس وكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار ، والحسن يقول : قد هلك إلياس والخضر ولا تقول كما يقول الناس إنهما حيان { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَـالِقِينَ } [الصافات : 125] وتتركون عبادة الله الذي هو أحسن المقدرين { اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءَابَآ ـاِكُمُ الاوَّلِينَ } [الصافات : 126] بنصب الكل : عراقي غير أبي بكر وأبي عمرو على البدل من { أَحْسَنَ } ، وغيرهم بالرفع على الابتداء.
{ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [الصافات : 127] في النار { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 40] من قومه { يَاسِينَ } أي إلياس وقومه المؤمنين كقولهم الخبيبون يعني أبا خبيب عبد الله بن الزبير وقومه.
{ إِلْ يَاسِينَ } [الصافات : 130] شامي ونافع لأن ياسين اسم أبي إلياس فأضيف إليه الآل { إِنَّا كَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَـاهُ وَأَهْلَهُا أَجْمَعِينَ * إِلا عَجُوزًا فِى الْغَـابِرِينَ } في الباقين { ثُمَّ دَمَّرْنَا } [الشعراء : 172] أهلكنا { الاخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ } [الصافات : 137] داخلين في الصباح { وَبِالَّيْلِ } والوقف عليه مطلق { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] يعني تمرون على منازلهم في متاجركم إلى الشأم ليلاً ونهاراً فما فيكم عقول تعتبرون بها.
وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام كما ختم قصة من قبلهما ، لأن الله تعالى قد سلم على جميع المرسلين في آخر السورة فاكتفي بذلك عن ذكر كل واحد منفرداً بالسلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 41
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ } الإباق : الهرب إلى حيث لا
45
يهتدي إليه الطلب ، فسمى هربه من قومه بغير إذن ربه إباقاً مجازاً { إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } [الصافات : 140] المملوء.
وكان يونس عليه السلام وعد قومه العذاب ، فلما تأخر العذاب عنهم خرج كالمستور منهم فقصد البحر وركب السفينة فوقفت فقالوا : ههنا عبد آبق من سيده.
وفيما يزعم البحارون أن السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فقال : أنا الآبق ، وزج بنفسه في الماء فذلك قوله { فَسَاهَمَ } فقارعهم مرة أو ثلاثاً بالسهام.
والمساهمة : إلقاء السهام على جهة القرعة { فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [الصافات : 141] المغلوبين بالقرعة { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ } [الصافات : 142] فابتلعه { وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات : 142] داخل في الملامة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
{ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } [الصافات : 143] من الذاكرين الله كثيراً بالتسبيح.
أو من القائلين { لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ } أو من المصلين قبل ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل تسبيح في القرآن فهو صلاة.
ويقال : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر { لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات : 144] الظاهر لبثه حياً إلى يوم البعث.
وعن قتادة : لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة.
وقد لبث في بطنه ثلاثة أيام أو سبعة أو أربعين يوماً.
وعن الشعبي : التقمه ضحوة ولفظه عشية { فَنَبَذْنَـاهُ بِالْعَرَآءِ } [الصافات : 145] فألقيناه بالمكان الخالي الذي لا شجر فيه ولا نبات { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات : 145] عليل مما ناله من التقام الحوت.
وروي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد { وَأَنابَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً } [الصافات : 146] أي أنبتناها فوقه مظلة له كما يطنّب البيت على
46
(4/25)
الإنسان { مِّن يَقْطِينٍ } [الصافات : 146] الجمهور على أنه القرع ، وفائدته أن الذباب لا يجتمع عنده وأنه أسرع الأشجار نباتاً وامتداداً وارتفاعاً.
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إنك لتحب القرع قال : " أجل هي شجرة أخي يونس " { وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ } [الصافات : 147] المراد به القوم الذين بعث إليهم قبل الالتقام فتكون " قد " مضمرة { أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال : هي مائة ألف أو أكثر.
وقال الزجاج : قال غير واحد : معناه بل يزيدون.
قال ذلك الفراء وأبو عبيدة ونقل عن ابن عباس كذلك { فَـاَامَنُوا } به وبما أرسل به { فَمَتَّعْنَـاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات : 148] إلى منتهى آجالهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
{ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } [الصافات : 149] معطوف على مثله في أول السورة أي على { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا } [الصافات : 11] وإن تباعدت بينهما المسافة.
أمر رسول الله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً ، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض ، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى التي قسموها حيث جعلوا لله تعالى الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم الملائكة بنات الله مع كراهتهم الشديدة لهن ووأدهم واستنكافهم من ذكرهن { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَـائكَةَ إِنَـاثًا وَهُمْ شَـاهِدُونَ } [الصافات : 150] حاضرون تخصيص علمهم بالمشاهدة استهزاء بهم وتجهيل لهم لأنهم كما لم يعلموا ذلك مشاهدة لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق ولا بطريق استدلال ونظر ، أو معناه أنهم يقولون ذلك عن طمأنينة نفس لإفراط جهلهم كأنهم شاهدوا خلقهم { أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } في قولهم.
{ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } [الصافات : 153] بفتح الهمزة للاستفهام ، وهو استفهام
47
توبيخ.
وحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [القلم : 36] هذا الحكم الفاسد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
{ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص { أَمْ لَكُمْ سُلْطَـانٌ مُّبِينٌ } [الصافات : 156] حجة نزلت عليكم من السماء بأن الملائكة بنات الله { فَأْتُوا بِكِتَـابِكُمْ } [الصافات : 157] الذي أنزل عليكم { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في دعواكم { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ } [الصافات : 158] بين الله { وَبَيْنَ الْجِنَّةِ } [الصافات : 158] الملائكة لاستتارهم { نَسَبًا } وهو زعمهم أنهم بناته أو قالوا إن الله تزوج من الجن فولدت له الملائكة { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [الصافات : 158] ولقد علمت الملائكة إن الذين قالوا هذا القول لمحضرون في النار { سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون : 91] نزه نفسه عن الولد والصاحبة { إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 40] استثناء منقطع من المحضرين معناه ولكن المخلصين ناجون من النار و { سُبْحَـانَ اللَّهِ } [الطور : 43] اعتراض بين الاستثناء وبين ما وقع منه ، ويجوز أن يقع الاستثناء من واو { يَصِفُونَ } أي يصفه هؤلاء بذلك ولكن المخلصون براء من أن يصفوه به { فَإِنَّكُمْ } يا أهل مكة { وَمَا تَعْبُدُونَ } [الصافات : 161] ومعبوديكم { مَآ أَنتُمْ } [يس : 15] وهم جميعاً { عَلَيْهِ } على الله { بِفَـاتِنِينَ } بمضلين { إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 163] بكسر اللام أي لستم تضلون أحداً إلا أصحاب النار الذين سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
يقال : فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه.
وقال الحسن : فإنكم أيها القائلون بهذا القول والذي تعبدونه من الأصنام ، ما أنتم على عبادة الأوثان بمضلين أحداً إلا من قدر عليه أن يصلى الجحيم أي يدخل النار.
وقيل : ما أنتم بمضلين إلا من أوجبت عليه الضلال
48
(4/26)
في السابقة.
و " ما " في { مَآ أَنتُمْ } [يس : 15] نافية و " من " في موضع النصب بـ وقرأ الحسن { هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 163] بضم اللام ، ووجهه أن يكون جمعاً فحذفت النون للإضافة وحذفت الواو لالتفاء الساكنين هي واللام في الجحيم ومن موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
{ وَمَا مِنَّآ } [الصافات : 164] أحد { إِلا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات : 164] في العبادة لا يتجاوزه فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ } [الصافات : 165] نصف أقدامنا في الصلاة أو نصف حول العرش داعين للمؤمنين { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } [الصافات : 166] المنزهون أو المصلون.
والوجه أن يكون هذا وما قبله من قوله { سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون : 91] من كلام الملائكة حتى يتصل بذكرهم في قوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } [الصافات : 158] كأنه قيل : ولقد علم الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا سبحان الله ، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباد الله المخلصين وبرؤوهم منه وقالوا للكفرة : فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه وتضلوه إلا من كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام معلوم من الطاعة لا يستطيع أن يزل عنه ظفراً خشوعاً لعظمته ، ونحن الصافون أقدامنا لعبادته مسبحين ممجدين كما يجب على العباد لربهم؟ وقيل : هو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله من قوله تعالى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } [الإسراء : 79] (الإسراء : 97) ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه.
{ وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ } [الصافات : 167] أي مشركو قريش قبل مبعثه عليه السلام { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ } [الصافات : 168] أي كتاباً من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل
49
{ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } [الصافات : 169] لأخلصنا العبادة لله ولما كذبنا كما كذبوا ولما خالفنا كما خالفوا ، فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب { فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الصافات : 170] مغبة تكذيبهم وما يحل بهم من الانتقام.
و " إن " مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة وفي ذلك أنهم كانوا يقولونه مؤكدين للقول جادين فيه فكم بين أول أمرهم وآخره { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } [الصافات : 171] الكلمة قوله { إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ } وإنما سماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة ، والمراد الموعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة.
وعن الحسن : ما غلب نبي في حرب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى.
والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه والغالب منه الظفر والنصرة وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة والعبرة للغالب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 45
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [الصافات : 174] فأعرض عنهم { حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] إلى مدة يسيرة وهي المدة التي أمهلوا فيها أو إلى يوم بدر أو إلى فتح مكة { وَأَبْصِرْهُمْ } أي أبصر ما ينالهم يومئذ { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } [الصافات : 175] ذلك وهو للوعيد لا للتبعيد ، أو انظر إليهم إذا عذبوا فسوف يبصرون ما أنكروا ، أو أعلمهم فسوف يعلمون.
{ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } [الشعراء : 204] قبل حينه { فَإِذَا نَزَلَ } [الصافات : 177] العذاب { بِسَاحَتِهِمْ } بفنائهم { فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ } [الصافات : 177] صباحهم.
واللام في { الْمُنذَرِينَ } مبهم في جنس من أنذروا ، لأن " ساء " و " بئس " يقتضيان ذلك.
وقيل : هو نزول رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الفتح بمكة.
مثّل العذاب النازل بهم بعدما أنذروه فأنكروه بجيش
50
(4/27)
أنذر بهجومه قومه بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة ، وكانت عادة مغاويرهم أن يغيروا صباحاً فسميت الغارة صباحاً وإن وقعت في وقت آخر { يُبْصِرُونَ } وإنما ثنى ليكون تسلية على تسلية وتأكيداً لوقوع الميعاد إلى تأكيد ، وفيه فائدة زائدة وهي إطلاق الفعلين معاً عن التقييد بالمفعول وأنه يبصروهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة.
وقيل : أريد بأحدهما عذاب الدنيا وبالآخرة عذاب الآخرة.
{ سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } [الصافات : 180] أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق ، ويجوز أن يراد أنه ما من عزة لأحد إلا وهو ربها ومالكها كقوله ، { بِهَا مَن تَشَآءُ } (آل عمران : 62) { عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام : 100] من الولد والصاحبة والشريك { وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [الصافات : 181] عم الرسل بالسلام بعدما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأنعام : 45] على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء.
اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم ، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب.
والمراد تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يخلّوا به ولا يغفلوا عن مضمنات كتاب الكريم ومودعات قرآنه المجيد.
وعن علي رضي الله عنه : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه { سُبْحَـانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَـامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } .
51
سورة ص
مكية وهي ثمان وثمانون آية كوفي وتسع بصري وست مدني
بسم الله الرحمن الرحيم
{ ص } ذكر هذا الحرف من حروف المعجم على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز ، ثم أتبعه القسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه كأنه قال { وَالْقُرْءَانِ ذِى } [ص : 1] أي ذي الشرف إنه لكلام معجز ، ويجوز أن يكون { } خبر مبتدأ محذوف على أنه اسم للسورة كأنه قال : هذه ص أي هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر كما تقول : هذا حاتم والله ، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله ، وكذلك إذا أقسم بها كأنه قال : أقسمت بـ
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
{ وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ } [ص : 1] إنه لمعجز.
ثم قال { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى عِزَّةٍ } [ص : 2] تكبر عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق { وَشِقَاقٍ } خلاف لله ولرسوله.
والتنكير في { عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ص : 2] للدلالة على شهدتما وتفاقمهما.
وقريء { فِى } أي في غفلة عما يجب عليهم من النظر واتباع الحق { لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا } [طه : 128] وعيد لذوي العزة والشقاق { مِن قَبْلِهِم } [الدخان : 37] من قبل قومك { مِّن قَرْنٍ } [ص : 3] من أمة { فَنَادَوا } فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب { وَّلاتَ } هي " لا " المشبهة بـ " ليس " زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على " رب " و " ثم " للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها
52
حيث لم تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا أحد مقتضييها إما الاسم أو الخبر وامتنع بروزهما جميعاً وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها " لا " النافية للجنس زيدت عليها التاء وخصت بنفي الأحيان.
وقوله { حِينَ مَنَاصٍ } [ص : 3] منجى منصوب بها كأنك قلت : ولا حين مناص لهم.
وعندهما أن النصب على تقدير ولات الحين.
حين مناص أي وليس الحين حين مناص.
{ وَعَجِبُوا أَن جَآءَهُم } [ص : 4] من أن جاءهم { مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق : 2] رسول من أنفسهم ينذرهم يعني استبعدوا أن يكون النبي من البشر { عُجَابٌ } ولم يقل " وقالوا " إظهاراً للغضب عليهم ودلالة على أن هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغي إذ لا كفر أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله كاذباً ساحراً ويتعجبوا من التوحيد وهو الحق الأبلج.(4/28)
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
ولا يتعجبوا من الشرك وهو باطل لجلج.
وروي أن عمر رضي الله عنه لما أسلم فرح به المؤمنون وشق على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا : أنت كبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ـ يريدون الذين دخلوا في الإسلام ـ وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك.
فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك.
فقال عليه السلام : ماذا يسألونني؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال عليه السلام : أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟ قالوا : نعم وعشراً أي نعطيكها وعشر كلمات معها.
فقال : قولوا لا إله إلا الله.
فقاموا وقالوا { أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَـاهًا وَاحِدًا } [ص : 5] أي أصيّر { إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } [ص : 5] أي بليغ في العجب.
وقيل : العجيب ما له مثل والعجاب ما لا مثل له.
{ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا } [ص : 6]وانطلق أشراف قريش عن مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالجواب العتيد قائلين بعضهم لبعض { أَنِ امْشُوا } [ص : 6] و " أن " بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم فكان انطلاقهم متضمناً معنى القول { وَاصْبِرُوا عَلَى } [ص : 6] عبادة { إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ } [ص : 6] الأمر { لَشَىْءٌ يُرَادُ } [ص : 6] أي يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه فلا مرد له ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا انفكاك لنا منه { مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا } [المؤمنون : 24] بالتوحيد { فِى الْمِلَّةِ الاخِرَةِ } في ملة عيسى التي هي آخر الملل لأن النصارى مثلثه غير موحدة ، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا { إِنَّ هَـاذَآ } [ص : 23] ما هذا { إِلا اخْتِلَـاقٌ } [ص : 7] كذب اختلقه محمد من تلقاء نفسه { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } [ص : 8] القرآن { مِن بَيْنِنَا } [الأنعام : 53] أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم حسداً
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
{ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى } [ص : 8] من القرآن { بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ } [ص : 8] بل لم يذوقوا عذابي بعد ، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد حينئذ أي أنهم لا يصدقون به إلا أن يمسهم العذاب فيصدقون حينئذ { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآ ـاِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } [ص : 9] يعني ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ويصرفوها عمن شاءوا ، ويتخيروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفعوا بها عن محمد ، وإنما الذي يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه الوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها ، الذي يقسمها على ما تقتضيه حكمته.
ثم رشح هذا المعنى فقال { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا } [ص : 10] حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة والكبرياء.
ثم تهكم بهم غاية التهكم فقال : فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق والتصرف في قسمة الرحمة { فَلْيَرْتَقُوا فِى الاسْبَـابِ } فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى السماء حتى يدبروا أمر العالم وملكوت الله وينزلوا الوحي إلى من يختارون.
54
ثم وعد نبيه عليه السلام النصرة عليهم بقوله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
(4/29)
{ جُندٌ } مبتدأ { مَآ } صلة مقوية للنكرة المبتدأة { هُنَالِكَ } إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم من قولهم لمن ينتدب لأمر ليس من أهله لست { هُنَالِكَ } خبر المبتدأ { مَهْزُومٌ } مكسور { مِّنَ الاحَزَابِ } [ص : 11] متعلق بـ { جُندٌ } أو بـ { مَهْزُومٌ } يريد ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسول الله مهزوم عما قريب ، فلا تبال بما يقولون ولا تكترث لما به يهذون.
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } [القمر : 9] قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ } [هود : 89] نوحاً { وَعَادٌ } هوداً { وَفِرْعَوْنُ } موسى { ذُو الاوْتَادِ } [ص : 12] قيل : كانت له أوتاد وجبال يلعب بها بين يديه.
وقيل : يوتد من يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه { وَثَمُودُ } وهم قوم صالح صالحاً { وَقَوْمُ لُوطٍ } [الحج : 43] لوطاً { وَأَصْحَـابُ لْـاَيْكَةِ } [ص : 13] الغيضة شعيباً { أؤلئك الاحْزَابُ } [ص : 13] أراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب { إِن كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرٌّسُلَ } [ص : 14] ذكر تكذيبهم أولاً في الجملة الخبرية على وجه الإبهام حيث لم يبين المكذب ، ثم جاء بالجملة الاستثنائية فأوضحه فيها وبيّن المكذّب وهم الرسل ، وذكر أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأن في تكذيب الواحد منهم تكذيب الجميع لاتحاد دعوتهم.
وفي تكرير التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه والتنويع في تكريره بالجملة الخبرية أولاً وبالاستثنائية ثانياً وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التوكيد ، أنواع من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العقاب وأبلغه ، ثم قال { فَحَقَّ عِقَابِ } [ص : 14] أي فوجب لذلك أن أعاقبهم حق عقابهم.
{ عَذَابِى } و في الحالين : يعقوب.
{ عِقَابِ * وَمَا يَنظُرُ هؤلاء } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
ص : 15] وما ينتظر أهل مكة ، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأحزاب { إِلا صَيْحَةً واحِدَةً } [يس : 49] أي النفخة
55
الأولى وهي الفزع الأكبر { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ص : 15] وبالضم : حمزة وعلي ، أي ما لها من توقف مقدار فواق وهو ما بين حلبتي الحالب أي إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض إذا رجع إلى الصحة وفواق الناقة ساعة يرجع الدر إلى ضرعها يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ص : 16] حظنا من الجنة لأنه عليه السلام ذكر وعد الله المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء : عجل لنا نصيبنا منها أو نصيبنا من العذاب الذي وعدته كقوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } [الحج : 47] (الحج : 74).
وأصل القط القسط من الشيء لأنه قطعة منه من قطه إذا قطعه ، ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس { قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } فيك وصن نفسك أن تزلّ فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم.
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُادَ } وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي من عتاب الله ما لقي { ذَا الايْدِ } [ص : 17] ذا القوة في الدين وما يدل على أن الأيد القوة في الدين قوله { إِنَّهُا أَوَّابٌ } [ص : 17] أي رجاع إلى مرضاة الله تعالى ، وهو تعليل لذي الأيد.
روي أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل إنّا سخّرنا } ذللنا { الْجِبَالَ مَعَهُ } [ص : 18] قيل : كان تسخيرها أنها تسير معه إذا أراد سيرها إلى حيث يريد { يُسَبِّحْنَ } في معنى مسبحات على الحال.
واختار { يُسَبِّحْنَ } على " مسبحات " ليدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئاً بعد شيء وحالاً بعد حال { بِالْعَشِىِّ وَالاشْرَاقِ } [ص : 18] أي طرفي النهار ، والعشي وقت العصر إلى الليل ، والإشراق وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها تقول : شرقت الشمس ولمّا تشرق.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } [ص : 19] وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية.
وعن ابن عباس
56
(4/30)
رضي الله عنهما : كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت فذلك حشرها { كُلٌّ لَّهُا أَوَّابٌ } [ص : 19] كل واحد من الجبال والطير لأجل داود أي لأجل تسبيحه مسبح لأنها كانت تسبح لتسبيحه.
ووضع الأواب موضع المسبح لأن الأواب وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه.
وقيل : الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجّع للتسبيح { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } [ص : 20] قويناه.
قيل : كان يبيت حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل يحرسونه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
{ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } [ص : 20] الزبور وعلم الشرائع.
وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } [ص : 20] علم القضاء وقطع الخصام والفصل بين الحق والباطل.
والفصل هو التمييز بين الشيئين.
وقيل : للكلام البين فصل بمعنى المفصول كضرب الأمير ، وفصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبس عليه ، وجاز أن يكون الفصل بمعنى الفاصل كالصوم والزور.
والمراد بفصل الخطاب الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد والحق والباطل ، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات.
وعن علي رضي الله عنه : هو الحكم بالبينة على المدعي واليمين على المدعي عليه ، وهو من الفصل بين الحق والباطل.
وعن الشعبي : هو قوله " أما بعد " وهو أول من قال " أما بعد " ، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له فصل بينه وبين ذكر الله بقوله " أما بعد " .
{ وَهَلْ أَتَـاـاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ } [ص : 21] ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأنباء العجيبة.
والخصم الخصماء وهو يقع على الواحد والجمع لأنه مصدر في الأصل تقول خصمه خصماً.
وانتصاب { إِذْ } بمحذوف تقديره : وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم أو بالخصم ملا فيه من معنى الفعل { تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ } [ص : 21] تصعدوا سوره ونزلوا إليه ، والسور الحائط المرتفع ، والمحراب الغرفة أو المسجد أو صدر المسجد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 52
{ إِذْ } بدل من الأولى { دَخَلُوا عَلَى دَاوُادَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } روي أن الله تعالى
57
بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسوروا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ، ففزع منهم لأنهم دخلوا عليه المحراب في غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا عليه من فوق وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه { قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ } [ص : 22] خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان { بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ } [ص : 22] تعدى وظلم { فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ } [ص : 22] ولا تجر من الشطط وهو مجاوزة الحد وتخطى الحق { وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ } [ص : 22] وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته والمراد عين الحق ومحضه.
روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك وكان الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك ، فاتفق أن داود عليه السلام وقعت عينه على امرأة أوريا فأحبها فسأله النزول له عنها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان.
فقيل له : إنك مع عظم منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها لك بل كان الواجب عليك مغالبة هواك وقهر نفسك والصبر على ما امتحنت به.
وقيل : خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.
وما يحكى أنه بعث مرة بعد مرة أوريا إلى غزوة البلقاء وأحب أن يقتل ليتزوجها فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أفناء المسلمين فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء.
وقال علي رضي الله عنه : من حدثكم بحديث داود عليه السلام ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
(4/31)
وروي أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق فكذب المحدث به وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها وأعظم بأن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما
58
ينبغي إظهارها عليه.
فقال عمر : لسماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
والذي يدل عليه المثل الذي ضربه الله بقصته عليه السلام ليس إلا طلبه إلى زوج المرأة أن ينزل له عنها فحسب ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض دون التصريح لكونها أبلغ في التوبيخ من قبل أن التأمل إذا أداه إلى الشعور بالمعرض به كان أوقع في نفسه وأشد تمكناً من قلبه وأعظم أثراً فيه مع مراعاة حسن الأدب بترك المجاهرة.
{ إِنَّ هَـاذَآ أَخِى } [ص : 23] هو بدل من { هَـاذَآ } أو خبر لـ { ءَانٍ } ، والمراد أخوة الدين أو إخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله { وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ } [ص : 24] { لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } [ص : 23] { وَلِىَ } حفص.
والنعجة كناية عن المرأة.
ولما كان هذا تصويراً للمسئلة وفرضاً لها لا يمتنع أن يفرض الملائكة في أنفسهم كما تقول لي : أربعون شاة ولك أربعون فخلطناها وما لكما من الأربعين أربعة ولا ربعها { فَقَالَ } ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : اجعلها كفلي أن نصيبي { أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى } [ص : 23] وغلبني يقال عزه يعزه { فِى الْخِطَابِ } [ص : 23] في الخصومة أي أنه كان أقدر على الاحتجاج مني.
وأراد بالخطاب مخاطبة المحاج المجادل ، أو أراد خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطاباً أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني.
ووجه التمثيل أن مثلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة فطمع في نعجة خليطة وأراده على الخروج من ملكها إليه وحاجّة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده ، وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ليحكم بما حكم به من قوله { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } [ص : 24] حتى يكون محجوباً بحكمه.
وهذا جواب قسم محذوف وفي ذلك استنكار لفعل خليطه والسؤال مصدر مضاف إلى المفعول وقد ضمن معنى الإضافة فعدى تعديتها كأنه قيل : بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب.
وإن ظلّم الآخر بعدما اعترف به خصمه ولكنه
59
لم يحك في القرآن لأنه معلوم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
(4/32)
ويروى أنه قال : أنا أريد أن آخذها منه وأكمل نعاجي مائة فقال داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا وأشار إلى طرف الأنف والجبهة.
فقال : يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا وهذا وأنت فعلت كيت وكيت.
ثم نظر داود فلم ير أحداً فعرف ما وقع فيه { وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَآءِ } [ص : 24] الشركاء والأصحاب { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا } [ص : 24] المستنثى منصوب وهو من الجنس والمستثنى منه بعضهم { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ص : 24] { مَآ } للابهام و { هُمْ } مبتدأ و { قَلِيلٌ } خبره { وَظَنَّ دَاوُادُ } أي علم وأيقن وإنما استعير له لأن الظن الغالب يداني العلم { أَنَّمَا فَتَنَّـاهُ } [ص : 24] ابتليناه { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } [ص : 24] لزلته { وَخَرَّ رَاكِعًا } [ص : 24] أي سقط على وجهه ساجداً لله ، وفيه دليل على أن الركوع يقوم مقام السجود في الصلاة إذا نوي لأن المراد مجرد ما يصلح تواضعاً عند هذه التلاوة والركوع في الصلاة يعمل هذا العمل بخلاف الركوع في غير الصلاة { وَأَنَابَ } ورجع إلى الله بالتوبة.
وقيل : إنه بقي ساجداً أربعين يوماً وليلة لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة أو ما لا بد منه ، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب من دمعه ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دمع { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ } [ص : 25] أي زلته { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى } [ص : 25] لقربة { وَحُسْنَ مَـاَابٍ } [الرعد : 29] مرجع وهو الجنة.
{ يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ } أي استخلفناك على الملك في الأرض أو جعلناك خليفة ممن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله بعد التوبة بقيت على ما كانت عليه لم تتغير { فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } [ص : 26] أي بحكم الله إذ كنت خليفته أو بالعدل { وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى } [ص : 26] أي هوى النفس في قضائك { فَيُضِلَّكَ } الهوى { عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [ص : 26] دينه { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص : 26] أي بنسيانهم يوم الحساب.
60
جزء : 4 رقم الصفحة : 57
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } [الأنبياء : 16] من الخلق { بَـاطِلا } خلقاً باطلاً لا لحكمة بالغة ، أو مبطلين عابثين كقوله { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ } [الأنبياء : 16] (الأنبياء : 61) وتقديره ذوي باطل ، أو عبثاً فوضع { بَـاطِلا } موضعه أي ما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ولكن للحق المبين ، وهو أنا خلقنا نفوساً أودعناها العقل ومنحناها التمكين وأزحنا عللها ثم عرضناها للمنافع العظيمة بالتكليف وأعددنا لها عاقبة وجزاءً على حسب أعمالهم.
{ ذَالِكَ } إشارة إلى خلقها باطلاً { ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ص : 27] الظن بمعنى المظنون أي خلقها للعبث لا للحكمة هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جعلوا ظانين أنه خلقها للعبث لا للحكمة مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض وما بينهما لقوله { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [لقمان : 25] (لقمان : 52) لأنه لما كان إنكارهم للبعث والحساب والثواب والعقاب مؤدياً إلى أن خلقها عبث وباطل جعلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه ، لأن الجزاء هو الذي سبقت إليه الحكمة في خلق العالم ، فمن جحده فقد جحد الحكمة في خلق العالم { كَالْفُجَّارِ } " أم " منقطعة ، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما يقول الكفار لاستوت أحوال من أصلح وأفسد واتقى وفجر ، ومن سوّى بينهم كان سفيهاً ولم يكن حكيماً
جزء : 4 رقم الصفحة : 61
{ كِتَـابٌ } أي هذا كتاب { أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ } [إبراهيم : 1] يعني القرآن { مُبَـارَكٌ } صفة أخرى { لِّيَدَّبَّرُوا ءَايَـاتِهِ } [ص : 29] وأصله ليتدبروا قرىء به ومعناه ليتفكروا فيها فيقفوا على ما فيه ويعملوا به.
وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيعوا حدوده على الخطاب بحذف إحدى التاءين : يزيد { ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ } وليتعظ بالقرآن أولو العقول.
61
(4/33)
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُادَ سُلَيْمَـانَ نِعْمَ الْعَبْدُ } أي سليمان.
وقيل : داود ، وليس بالوجه فالمخصوص بالمدح محذوف { إِنَّهُا أَوَّابٌ } [ص : 17] وعلل كونه ممدوحاً بكونه أواباً أي كثير الرجوع إلى الله تعالى { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } [ص : 31] على سليمان { بِالْعَشِىِّ } بعد الظهر الخيول القائمة على ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى على طرف حافر { الْجِيَادُ } السراع جمع جواد لأنه يجود بالركض ، وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجان وإنما هو العراب.
وقيل : وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية ، يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعاً خفافاً في جريها.
وقيل : الجياد الطوال الأعناق من الجيد.
وروي أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس.
وقيل : ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة.
وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة فقعد يوماً بعدما صلى الظهر على كرسيه واستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر وكانت فرضاً عليه ، فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقرباً لله وبقي مائة ، فما في أيدي الناس من الجياد ، فمن نسلها.
وقيل : لما عقرها أبدله الله خيراً منها وهي الريح تجري بأمره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 61
{ فَقَالَ إِنِّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّى } [ص : 32] أي آثرت حب الخيل عن ذكر ربي كذا عن الزجاج.
فأحببت بمعنى آثرت كقوله تعالى { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت : 17] (فصلت : 71) و " عن " بمعنى " على " ، وسمى الخيل خيراً كأنها نفس الخير لتعلق الخير بها كما قال عليه السلام " الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " وقال أبو علي : أحببت بمعنى جلست من إحباب البعير وهو بروكه.
حب الخير أي المال مفعول له
62
مضاف إلى المفعول { حَتَّى تَوَارَتْ } [ص : 32] الشمس { بِالْحِجَابِ } والذي دل على أن الضمير للشمس مررو ذكر العشي ولا بد للضمير من جري ذكر أو دليل ذكر ، أو الضمير للصافنات أي حتى توارت بحجاب الليل يعني الظلام { رُدُّوهَا عَلَىَّ } [ص : 33] أي قال للملائكة : ردوا الشمس علي لأصلي العصر فردت الشمس له وصلى العصر ، أو ردوا الصافنات { فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالاعْنَاقِ } [ص : 33] فجعل يمسح مسحاً أي يمسح السيف بسوقها وهي جمع ساق كدار ودور وأعناقها ، يعني يقطعها لأنها منعته عن الصلاة.
تقول : مسح علاوته إذا ضرب عنقه ، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه.
وقيل : إنما فعل ذلك كفارة لها أو شكراً لرد الشمس ، وكانت الخيل مأكولة في شريعته فلم يكن إتلافاً.
وقيل : مسحها بيده استحساناً لها وإعجاباً بها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 61
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـانَ } [ص : 34] ابتليناه.
{ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ } [ص : 34] سرير ملكه { جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } [ص : 34] رجع إلى الله.
قيل : فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة وملك بعد الفتنة عشرين سنة ، وكان من فتنته أنه ولد له ابن فقالت الشياطين : إن عاش لم ننفك من السخرة فسبيلنا أن نقتله أو نخبله ، فعلم ذلك سليمان عليه السلام فكان يغذوه في السحابة خوفاً من مضرة الشياطين ، فألفى ولده ميتاً على كرسيه فتنبه على زلته في أن لم يتوكل فيه على ربه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلّم " قال سليمان : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة منهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون " وأما ما يروى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فمن أباطيل اليهود.
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا } [ص : 35] قدم الاستغفار على استيهاب الملك جرياً على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين في تقديم الاستغفار على السؤال { لا يَنابَغِى } [ص : 35] لا يتسهل ولا يكون { لاحَدٍ مِّن بَعْدِى } [ص : 35] أي دوني.
وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو ، وإنما
63
(4/34)
سأل بهذه الصفة ليكون معجزة له لا حسداً وكان قبل ذلك لم يسخر له الريح والشياطين ، فلما دعا بذلك سخرت له الريح والشياطين ولن يكون معجزة حتى يخرق العادات { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ } { الرِّيَـاحِ } أبو جعفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
{ تَجْرِى } حال من { الرِّيحَ } { بِأَمْرِهِ } بأمر سليمان { رُخَآءً } لينة طيبة لا تزعزع وهو حال من ضمير { تَجْرِى } { حَيْثُ } ظرف { تَجْرِى } { أَصَابَ } قصد وأراد.
والعرب تقول : أصاب الصواب فاخطأ الجواب { وَالشَّيَـاطِينَ } عطف على { الرِّيحَ } أي سخرنا له الشياطين { كُلَّ بَنَّآءٍ } [ص : 37] بدل من { الشَّيَـاطِينِ } كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية { وَغَوَّاصٍ } أي ويغوصون له في البحر لإخراج اللؤلؤ ، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
والمعنى وسخرنا له كل بناء وغواص من الشياطين { وَءَاخَرِينَ } عطف على { كُلَّ بَنَّآءٍ } [ص : 37] داخل في حكم البدل { مُقَرَّنِينَ فِى الاصْفَادِ } [إبراهيم : 49] وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد.
والصفد : القيد وسمي به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ، ومنه قول علي رضي الله عنه : من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك { هَـاذَآ } الذي أعطيناك من الملك والمال والبسطة { عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ } [ص : 39] فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء { أَوْ أَمْسِكْ } [ص : 39] عن العطاء ، وكان إذا أعطى أجر وإن منع لم يأتم بخلاف غيره { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة : 212] متعلق بـ { عَطَآؤُنَا } وقيل : هو حال أي هذا عطاؤنا جماً كثيراً لا يكاد يقدر على حصره ، أو هذه التسخير عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق أو أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب أي لا حساب عليك في ذلك
64
{ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَـاَابٍ } [ص : 40] { لَزُلْفَى } اسم " إن " والخبر { لَهُ } والعامل في { عِندَ } الخبر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } [ص : 41] هو بدل من { عَبْدَنَآ } أو عطف بيان { إِذْ } بدل اشتمال منه { نَادَى رَبَّهُ } [ص : 41] دعاه { أَنِّى مَسَّنِىَ } بأني مسني حكاية لكلامة الذي ناداه بسببه ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب { الشَّيْطَـانُ بِنُصْبٍ } [ص : 41] قراءة العامة { بِنُصْبٍ } ، يزيد تثقيل نصب { بِنُصْبٍ } كرشد ورشد ، يعقوب { بِنُصْبٍ } على أصل المصدر هبيرة ـ والمعنى واحد وهو التعب والمشقة { وَعَذَابٍ } يريد مرضه وما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب.
وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل.
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين.
وذكر في سبب بلائه أنه ذبح شاة فأكلها وجاره جائع ، أو رأى منكراً فسكت عنه ، أو ابتلاه الله لرفع الدرجات بلا زلة سبقت منه { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } [ص : 42] حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام أي أرسلنا إليه جبريل عليه السلام فقال له : اركض برجلك أي اضرب برجلك الأرض وهي أرض الجابية فضربها فنبعت عين فقيل : { هَـاذَا مُغْتَسَلُ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ص : 42] أي هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك.
وقيل : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
{ وَوَهَبْنَا لَهُا أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ } [ص : 43] قيل : أحياهم الله تعالى بأعيانهم وزاده مثلهم { رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ } [ص : 43] مفعول لهما أي الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولى الألباب ، لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه لصبره رغبهم في الصبر على البلاء
65
(4/35)
{ وَخُذْ } معطوف على { ارْكُضْ } { بِيَدِكَ ضِغْثًا } [ص : 44] حزمة صغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبضة من الشجر { فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ } [ص : 44] وكان حلف في مرضه ليضربن امرأته مائة إذا برأ ، فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ، وهذه الرخصة باقية ويجب أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة.
والسبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فحرج صدره.
وقيل : باعت ذؤابتيها برغيفين وكانتا متعلق أيوب عليه السلام إذا قام { إِنَّا وَجَدْنَـاهُ } [ص : 44] علمناه { صَابِرًا } على البلاء نعم قد شكا إلى الله ما به واسترحمه لكن الشكوى إلى الله لا تسمى جزعاً فقد قال يعقوب عليه السلام { إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ } [يوسف : 86] (يوسف : 68) على أنه عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة حيث كان الشيطان يوسوس إليهم أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به وإرادة القوة على الطاعة فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلا القلب واللسان { نِعْمَ الْعَبْدُ } [ص : 30] أيوب { إِنَّهُا أَوَّابٌ } [ص : 17].
جزء : 4 رقم الصفحة : 63
{ وَاذْكُرْ عِبَـادَنَآ } [ص : 45] { عَبْدَنَآ } مكي.
{ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ } فمن جمع فـ { إِبْرَاهِيمَ } ومن بعده عطف بيان على { عِبَـادَنَآ } ومن وحد فـ { إِبْرَاهِيمَ } وحده عطف بيان له ، ثم عطف ذريته على { عَبْدَنَآ } ولما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم وإن كان عملاً لا تتأتى فيه المباشرة بالأيدي ، أو كان العمال جذمن لا أيدي لهم وعلى هذا ورد قوله
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
{ أُوْلِى الايْدِى وَالابْصَـارِ } [ص : 45] أي أولي الأعمال الظاهرة والفكر الباطنة كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في الله ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم ، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما { إِنَّآ أَخْلَصْنَـاهُم } [ص : 46] جعلناهم لنا خالصين { بِخَالِصَةٍ } بخصلة خالصة لا شوب
66
فيها.
{ ذِكْرَى الدَّارِ } [ص : 46] { ذِكْرَى } في محل النصب أو الرفع بإضمار " أعني " ، أو " هي " ، أو الجر على البدل من بـ { خَالِصَةٌ } والمعنى إنا أخلصناهم بذكرى الدار ، والدار هنا : الدار الآخرة يعني جعلناهم لنا خالصين بأن جعلناهم يذكرون الناس الدار الآخرة ويزهدونهم في الدنيا كما هو ديدن الأنبياء عليهم السلام ، أو معناه أنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله وينسون ذكر الدنيا بخالصة ذكرى الدار ، على الإضافة مدني ونافع وهي من إضافة الشيء إلى ما يبينه ، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى.
و { ذِكْرَى } مصدر مضاف إلى المفعول أي بإخلاصهم ذكرى الدار.
وقيل : خالصة بمعنى خلوص فهي مضافة إلى الفاعل أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بهمٍ آخر ، إنما همهم ذكرى الدار لا غير.
وقيل : ذكرى الدار الثناء الجميل في الدنيا ، وهذا شيء قد أخلصهم به فليس يذكر غيرهم في الدنيا بمثل ما يذكرون به يقويه قوله { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } [مريم : 50] (مريم : 05) { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ } [ص : 47] المختارين من بين أبناء جنسهم { الاخْيَارِ } جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
(4/36)
{ وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ } [ص : 48] كأن حرف التعريف دخل على " يسع " { وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ } [ص : 48] التنوين عوض عن المضاف إليه أي وكلهم { وَاذْكُرْ إِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الاخْيَارِ * هَـاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَـاَابٍ } أي هذا شرف وذكر جميل يذكرون به أبداً ، وإن لهم مع ذلك لحسن مرجع يعني يذكرون في الدنيا بالجميل ويرجعون في الآخرة إلى مغفرة رب جليل.
ثم بين كيفية حسن ذلك المرجع فقال { جَنَّـاتِ عَدْنٍ } [مريم : 61] بدل من { لَحُسْنَ مَـاَابٍ } { مُّفَتَّحَةً } حال من { جَنَّـاتِ } لأنها معرفة لإضافتها إلى { عَدْنٍ } وهو علم ، والعامل فيها ما في { لِلْمُتَّقِينَ } من معنى الفعل { لَّهُمُ الابْوَابُ } [ص : 50] ارتفاع الأبواب بأنها فاعل { مُّفَتَّحَةً } والعائد محذوف أي مفتحة لهم الأبواب منها فحذف كما حذف في قوله { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى } [النازعات : 39] (النازعات : 93) أي لهم أو أبوابها إلا أن الأول أجود ، أو هي بدل من الضمير في { مُّفَتَّحَةً } وهو ضمير الجنات تقديره
67
مفتحة هي الأبواب وهو من بدل الاشتمال { مُتَّكِـاِينَ } حال من المجرور في { لَّهُمُ } والعامل { مُّفَتَّحَةً } { فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } [ص : 51] أي وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول { وَعِندَهُمْ قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ } [ص : 52] أي قصرن طرفهن على أزواجهن { أَتْرَابٌ } لدات أسنانهن كأسنانهم لأن التحاب بين الأقران أثبت كأن اللدات سمين أتراباً لأن التراب مسهن في وقت واحد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
{ هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ } [ق : 32] وبالياء : مكي وأبو عمر { لِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ص : 53] أي ليوم تجزى كل نفس بما عملت { إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } [ص : 54] من انقطاع والجملة حال من الرزق والعامل الإشارة.
{ هَـاذَآ } خبر والمبتدأ محذوف أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر { هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّـاغِينَ لَشَرَّ } [ص : 55] مرجع { جَهَنَّمَ } بدل منه { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { فَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ص : 56] شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم { هَـاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ص : 57] أي هذا حميم وغساق فليذوقوه ، فـ { هَـاذَآ } مبتدأ و { حَمِيمٌ } خبر { وَغَسَّاقٌ } بالتشديد : حمزة وعلي وحفص.
والغساق بالتشديد والتخفيف ما يغسق من صديد أهل النار ، يقال : غسقت العين إذا سال دمعها.
وقيل : الحميم يحرق بحره والغساق يحرق ببرده { وَءَاخَرُ } أي وعذاب آخر أو مذوق آخر { مِن شَكْلِهِ } [ص : 58] من مثل
68
العذاب المذكور.
{ وَءَاخَرُ } بصري أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق في الشدة والفظاعة { أَزْوَاجٌ } صفة لـ { ءَاخَرَ } لأنه يجوز أن يكون ضروباً { هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } [ص : 59] هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم.
والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة ، والقحمة : الشدة ، وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض أي يقولون هذا والمراد بالفوج اتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة فيقتحمون معهم العذاب { لا مَرْحَبَا بِهِمْ } [ص : 59] دعاء منهم على أتباعهم تقول لن تدعو له مرحباً أي أتيت رحباً من البلاد لا ضيقاً أو رحبت بلادك رحباً ثم تدخل عليه " لا " في دعاء السوء ، وبهم بيان للمدعو عليهم { إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } [ص : 59] أي داخلوها وهو تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم.
وقيل : { هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ } [ص : 59] كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم ، و { لا مَرْحَبَا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } [ص : 59] كلام الرؤساء.
وقيل : هذا كله كلام الخزنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
(4/37)
{ قَالُوا } أي الأتباع { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ } [ص : 60] أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به ، وعللوا ذلك بقوله { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } [ص : 60] والضمير للعذاب أو لصليهم أي انكم دعوتمونا إليه فكفرنا باتباعكم { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ص : 60] أي النار { قَالُوا } أي الأتباع { رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا } [ص : 61] أي مضاعفاً { فِى النَّارِ } [ص : 61] ومعناه ذا ضعف.
ونحوه قوله { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَـاَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } [الأعراف : 38] وهو أن يزيد على عذابه مثله { وَقَالُوا } الضمير لرؤساء الكفرة { مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا } [ص : 62] يعنون فقراء المسلمين { كُنَّا نَعُدُّهُم } [ص : 62] في الدنيا { مِّنَ الاشْرَارِ } [ص : 62] من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى { أَتَّخَذْنَـاهُمْ سِخْرِيًّا } [ص : 63] بلفظ الإخبار : عراقي غير عاصم على أنه صفة لـ
69
{ رِجَالا } مثل { كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الاشْرَارِ } [ص : 62] وبهمزة الاستفهام : غيرهم على أنه إنكار على أنفسهم في الاستسخار منهم ، { سِخْرِيًّا } مدني وحمزة وعلي وخلف والمفضل { أَمْ زَاغَتْ } [ص : 63] مالت { عَنْهُمُ الابْصَـارُ } [ص : 63] هو متصل بقوله { مَا لَنَا } [هود : 79] أي ما لنا لا نراهم في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها ، قسموا أمرهم بين أن يكونوا من أهل الجنة وبين أن يكونوا من أهل النار إلا أنه خفي عليهم مكانهم { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] الذي حكينا عنهم { لَحَقٌّ } لصدق كائن لا محالة لا بد أن يتكلموا به.
ثم بين ما هو فقال : هو { تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } [ص : 64] ولما شبه تقاولهم وما يجري بينهم من السؤال والجواب بما يجري بين المتخاصمين سماه تخاصماً ، ولأن قول الرؤساء { لا مَرْحَبَا بِهِمْ } [ص : 59] وقول أتباعهم : { بَلْ أَنتُمْ لا مَرْحَبَا بِكُمْ } [ص : 60] من باب الخصومة فسمى التقاول كله تخاصماً لاشتماله على ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
{ قُلْ } يا محمد لمشركي مكة { إِنَّمَآ أَنَا مُنذِرٌ } [ص : 65] ما أنا إلا رسول منذر أنذركم عذاب الله تعالى
70
{ وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ } [آل عمران : 62] وأقول لكم إن دين الحق توحيد الله وأن تعتقدوا أن لا إله إلا الله { الْوَاحِدُ } بلا ند ولا شريك { الْقَهَّارُ } لكل شيء { رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [مريم : 65] له الملك والربوبية في العالم كله { الْعَزِيزُ } الذي لا يغلب إذا عاقب { الْغَفَّـارُ } لذنوب من التجأ إليه { قُلْ هُوَ } [البقرة : 222] أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولاً منذراً وأن الله واحد لا شريك له { نَبَؤٌا عَظِيمٌ } لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة.
ثم { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ص : 68] غافلون { مَا كَانَ لِىَ } [ص : 69] حفص { مِنْ عِلْم بِالْمَلا الاعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ص : 69] احتج لصحة نبوته بأن ما ينبىء به عن الملإ الأعلى واختصامهم أمر ما كان له به من علم قط ، ثم علمه ولم يسلك الطريق الذي يسلكه الناس في علم ما لم يعلموا وهو الأخذ من أهل العلم وقراءة الكتب ، فعلم أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى.
{ إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلا أَنَّمَآ أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ص : 70] أي لأنما أنا نذير مبين ومعناه ما يوحى إلي إلا للإنذار فحذف اللام وانتصب بإفضاء الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع على معنى ما يوحى إلي إلا هذا وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك أي ما أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس لي غير ذلك.
وبكسر { إِنَّمَآ } يزيد على الحكاية أي إلا هذا القول وهو أن أقول لكم إنما أنا نذير مبين ولا أدعي شيئاً آخر.
وقيل : النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : القرآن.
وعن الحسن : يوم القيامة.
والمراد بالملإ الأعلى أصحاب القصة : الملائكة وآدم وإبليس ، لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم و { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران : 44] متعلق بمحذوف إذ المعنى ما كان لي من علم بكلام الملإ الأعلى وقت اختصامهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 66
(4/38)
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ } [ص : 71] بدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران : 44] أي في شأن آدم حين قال تعالى على لسان ملك { لِلْمَلَـائكَةِ إِنِّى خَـالِقُ بَشَرًا مِّن طِينٍ } [ص : 71] وقال { إِنِّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة : 30] (البقرة : 03) { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } [الحجر : 29] فإذا أتممت خلقته وعدلته { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [الحجر : 29] الذي خلقته ، وأضافه إليه تخصيصاً كبيت الله وناقة الله ، والمعنى أحييته وجعلته حساساً متنفساً { فَقَعُوا } أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض والمعنى اسجدوا { لَهُ سَـاجِدِينَ } [الحجر : 29] قيل : كان انحناء يدل على التواضع.
وقيل : كان سجدة لله أو كان سجدة التحية { فَسَجَدَ الْمَلَـائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر : 30] " كل " للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعهم في وقت واحد غير متفرقين في أوقات
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
{ إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ } [ص : 74] تعظم عن السجود { وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 34] وصار من الكافرين بإباء الأمر
71
{ قَالَ يَـاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } [ص : 75] ما منعك عن السجود { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ص : 75] أي بلا واسطة امتثالاً لأمري وإعظاماً لخطابي ، وقد مر أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيده فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما حتى قيل في عمل القلب : هو ما عملت يداك ، حتى قيل لمن لا يدين له : يداك أو كتافوك نفخ.
وحتى لم يبق فرق بين قولك " هذا مما عملته " و " هذا مما عملته يداك " ، ومنه قوله { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } [يس : 71] (يس : 17) و { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ص : 75] { أَسْتَكْبَرْتَ } استفهام إنكار { أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } [ص : 75] ممن علوت وفقت.
وقيل : أستكبرت الآن أم لم تزل مذ كنت من المستكبرين.
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف : 12] يعني لو كان مخلوقاً من نار لما سجدت له لأنه مخلوق مثلي فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله؟ وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي { خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ } [الأعراف : 12] مجرى المعطوف عطف البيان والإيضاح.
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } [الحجر : 34] من الجنة أو من السماوات أو من الخلقة التي أنت فيها ، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته واسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [الحجر : 34] مرجوم أي مطرود.
تكبر إبليس أن يسجد لمن خلق من طين وزل عنه أن الله أمر به ملائكته واتبعوا أمره إجلالاً لخطابه وتعظيماً لأمره فصار مرجوماً ملعوناً بترك أمره { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى } [ص : 78] بفتح الياء : مدني أي إبعادي من كل الخير { إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [الحجر : 35] أي يوم الجزاء ولا يظن أن لعنته غايتها يوم الدين ثم تنقطع ، لأن معناه أن عليه اللعنة في الدنيا وحدها فإذا كان يوم الدين اقترن بها العذاب فينقطع الانفراد ، أو لما كان عليه اللعنة في أوان الرحمة فأولى أن تكون عليه في غير أوانها ، وكيف تنقطع وقد قال الله تعالى { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 44]
72
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى } [الحجر : 36] فأمهلني { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } الوقت المعلوم الوقت الذي تقع فيه النفخة الأولى ، ويومه اليوم الذي وقت النفخة جزء من أجزائه ، ومعنى المعلوم أنه معلوم عند الله معين لا يتقدم ولا يتأخر { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص : 82] أي أقسم بعزة الله وهي سلطانه وقهره { إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [الحجر : 40] وبكسر اللام : مكي وبصري وشامي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 71
(4/39)
{ قَالَ فَالْحَقُّ } [ص : 84] بالرفع : كوفي غير عليّ على الابتداء أي الحق منى ، أو على الخبر أي أنا الحق.
وغيرهم بالنصب على أنه مقسم به كقولك الله لأفعلن كذا يعني حذف عنه الباء فانتصب وجوابه { لامْلَأَنَّ } { وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ص : 84] اعتراض بين المقسم والمقسم عليه وهو منصوب بـ { أَقُولُ } ومعناه ولا أقول إلا الحق ، والمراد بالحق إما اسمه عز وجل الذي في قوله { أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } [النور : 25] (الحج : 6) أو الحق الذي هو نقيض الباطل عظمه الله بإقسامه به { لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ } [ص : 85] من جنسك وهم الشياطين { وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } [ص : 85] من ذرية آدم { أَجْمَعِينَ } أي لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحداً { قُلْ مَآ أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ص : 86] الضمير للقرآن أو للوحي { وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص : 86] من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعاً ولا مدعياً بما ليس عندي حتى أنتحل النبوة وأتقول القرآن { إِنْ هُوَ } [يوسف : 104] ما القرآن { إِلا ذِكْرٌ } [يوسف : 104] من الله { لِّلْعَـالَمِينَ } للثقلين أوحى إليّ فأنا
73
أبلغه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم " للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم " { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } [ص : 88] نبأ القرآن وما فيه من الوعد والوعيد وذكر البعث والنشور { بَعْدَ حِين } [ص : 88] بعد الموت أو يوم بدر أو يوم القيامة ، ختم السورة بالذكر.
74
سورة الزمر
مكية وهي خمس وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَنزِيلُ الْكِتَـابِ } [السجدة : 2] أي القرآن مبتدأ خبره { مِنَ اللَّهِ } [الجن : 22] أي نزل من الله ، أو خبر مبتدأ محذوف والجار صلة التنزيل ، أو غير صلة بل هو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره هذا تنزيل الكتاب هذا من الله
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
{ الْعَزِيزِ } في سلطانه { الْحَكِيمِ } في تدبيره { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ } [النساء : 105] هذا ليس بتكرار لأن الأول كالعنوان للكتاب والثاني لبيان ما في الكتاب { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا } [الزمر : 2] حال { لَّهُ الدِّينَ } [الزمر : 2] أي ممحضاً له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر ، فـ { الدِّينَ } منصوب بـ { مُخْلِصًا } وقرىء { الدِّينَ } بالرفع وحق من رفعه أن يقرأ { مُخْلِصًا } { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر : 3] أي هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة
75(4/40)
من كل شائبة كدر لاطلاعه على الغيوب والأسرار.
وعن قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله.
وعن الحسن : الإسلام.
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الزمر : 3] أي آلهة وهو مبتدأ محذوف الخبر تقديره : والذين عبدوا الأصنام يقولون { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] مصدر أي تقريباً { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [الزمر : 3] بين المسلمين والمشركين { فِى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر : 3] قيل : كان المسلمون إذا قالوا لهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
والمعنى أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَـاذِبٌ كَفَّارٌ } [الزمر : 3] أي لا يهدي من هو في علمه أنه يختار الكفر يعني لا يوفقه للهدى ولا يعينه وقت اختياره الكفر ولكنه يخذله ، وكذبهم قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء بنات الله ، ولذا عقبه محتجاً عليهم بقوله { لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا اصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } [الزمر : 4] أي لو جاز اتخاذ الولد على ما تظنون لاختار مما يخلق ما يشاء لا ما تختارون أنتم وتشاءون { سُبْحَـانَهُ } نزه ذاته عن أن يكون له أخذ ما نسبوا إليه من الأولياء والأولاد ، ودل على ذلك بقوله { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الزمر : 4] يعني أنه واحد متبريء عن انضمام الأعداد متعال عن التجزؤ والولاد ، قهار غلاب لكل شيء ـ ومن الأشياء آلهتهم ـ فأنى يكون له أولياء وشركاء؟.
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
ثم دل بخلق السماوات والأرض وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر وتسخير النيرين وجريهما لأجل مسمى ، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة ، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك قهار لا يغالب بقوله { خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الَّيْلِ } [الزمر : 5] والتكوير اللف واللي يقال : كار العمامة على رأسه وكورها ، والمعنى أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيّبه عن مطامح الأبصار ، أو أن هذا يكر على هذا كروراً متتابعاً ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } [الرعد : 2] أي يوم القيامة { أَلا هُوَ الْعَزِيزُ } [آل عمران : 6] الغالب القادر على عقاب من لم يعتبر بتسخير الشمس والقمر فلم يؤمن بمسخرهما { الْغَفَّـارُ } لمن فكر واعتبر فآمن بمدبرهما.
{ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [الزمر : 6] أي آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الزمر : 6] أي حواء من قصيراه.
قيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الانْعَـامِ } [الزمر : 6] أي جعل.
عن الحسن : أو خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ثم أنزلها ، أو لأنها لا تعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها { ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الأنعام : 143] ذكراً وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز كما بين في سورة الأنعام ، والزوج اسم لواحد معه آخر فإذا انفرد فهو فرد ووتر { يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } [الزمر : 6] نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم إلى تمام الخلق { فِى ظُلُمَـاتٍ } ظلمة البطن والرحم والمشيمة أو ظلمة الصلب والبطن والرحم { الاخِرِ ذالِكُمْ } [البقرة : 232] الذي هذه مفعولاته هو { اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [الزمر : 6] فكيف يعدل بكم من عبادته إلى عبادة غيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
(4/41)
ثم بين أنه غني عنهم بقوله { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ } [الزمر : 7] عن إيمانكم وأنتم محتاجون إليه لتضرركم بالكفر وانتفاعكم بالإيمان { وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [الزمر : 7] لأن الكفر ليس برضا الله تعالى وإن كان بإرادته { وَإِن تَشْكُرُوا } [الزمر : 7] فتؤمنوا { يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر : 7] أي يرض الشكر
77
لكم لأنه سبب فوزكم فيثيبكم عليه الجنة { يَرْضَهُ } بضم الهاء والإشباع : مكي وعلي : { يَرْضَهُ } بضم الهاء بدون الإشباع : نافع وهشام وعاصم غير يحيى وحماد.
وغيرهمم { يَرْضَهُ } { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ } [الأنعام : 164] إلى جزاء ربكم رجوعكم { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] فيخبركم بأعمالكم ويجازيكم عليها { إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] بخفيات القلوب { وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ } [الزمر : 8] هو أبو جهل أو كل كافر { ضُرٌّ } بلاء وشدة والمس في الأعراض مجاز { دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ } [الزمر : 8] راجعاً إلى الله بالدعاء لا يدعو غيره { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } [الزمر : 8] أعطاه { نِعْمَةً مِّنْهُ } [الزمر : 8] من الله عز وجل { نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } [الزمر : 8] أي نسى ربه الذي كان يتضرع إليه.
و " ما " بمعنى " من " كقوله { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالانثَى } [الليل : 3] (الليل : 3) أو نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا } [الزمر : 8] أمثالاً { لِّيُضِلَّ } { لِّيُضِلَّ } مكي وأبو عمرو ويعقوب { عَن سَبِيلِهِ } [التوبة : 9] أي الإسلام { قُلْ } يا محمد { تَمَتَّعْ } أمر تهديد { بِكُفْرِكَ قَلِيلا } [الزمر : 8] أي في الدنيا { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـابِ النَّارِ } [الزمر : 8] من أهلها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
{ مِن } قرأ بالتخفيف مكي ونافع وحمزة على إدخال همزة الاستفهام على " من " ، وبالتشديد غيرهم على إدخال " أم " عليه و " من " مبتدأ خبره محذوف تقديره " أمن " { هُوَ قَـانِتٌ } [الزمر : 9] كغيره أي أمن هو مطيع كمن هو عاص والقانت المطيع لله وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جرى ذكر الكافر قبله ، وقوله بعده { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر : 9] { أَمَّنْ هُوَ } [الزمر : 9] ساعاته { سَاجِدًا وَقَآ ـاِمًا } [الزمر : 9] حالان من الضمير في { قَـانِتٌ } { يَحْذَرُ الاخِرَةَ } [الزمر : 9] أي عذاب الآخرة { وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر : 9] أي الجنة ، ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء ، يرجو رحمته لا عمله ويحذر عقابه لتقصيره في عمله.
ثم الرجاء إذا جاوز حده يكون أمناً ، والخوف إذا جاوز حده يكون إياساً ، وقد قال الله تعالى
78
{ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ } [الأعراف : 99] (الأعراف : 99) وقال { يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن } [يوسف : 87] (يوسف : 78) ، فيجب أن لا يجاوز أحدهما حده { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الزمر : 9] أي يعلمون ويعملون به كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون ويفتنّون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة حيث جعل القانتين هم العلماء ، أو أريد به التشبيه أي كما لا يستوي العالم والجاهل كذلك لا يستوي المطيع والعاصي { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ } [الرعد : 19] جمع لب أي إنما يتعظ بوعظ الله أولو العقول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 75
(4/42)
{ قُلْ يَـاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [الزمر : 10] بلا ياء عند الأكثر { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } [النساء : 1] بامتثال أوامره واجتناب نواهيه { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [النحل : 30] أي أطاعوا الله في الدنيا.
و " في " يتعلق بـ { أَحْسَنُوا } لا بـ { حَسَنَةٌ } ، معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة أي حسنة لا توصف.
وقد علقه السدي بـ { حَسَنَةٌ } ففسر الحسنة بالصحة والعافية.
ومعنى { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } [الزمر : 10] أي لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة حتى إن اعتلوا بأنهم لا يتمكنون في أوطانهم من التوفر على الإحسان.
قيل لهم : فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فتحولوا إلى بلاد أخرى.
واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحساناً إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّـابِرُونَ } [الزمر : 10] على مفارقة أوطانهم وعشارئهم وعلى غيرها من تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير { أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر : 10] عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يهتدي إليه حساب الحسّاب ولا يعرف.
وهو حال من الأجر أي موفراً { قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ } [الزمر : 11] بأن أعبد الله { مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } [الزمر : 2] أي أمرت بإخلاص الدين { وَأُمِرْتُ لانْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } [الزمر : 12] وأمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة ، والمعنى أن الإخلاص له السّبقة
79
في الدين فمن أخلص كان سابقاً ، فالأول أمر بالعبادة مع الإخلاص ، والثاني بالسبق فلاختلاف جهتيهما نزلاً منزلة المختلفين ، فصح عطف أحدهما على الآخر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
{ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأنعام : 15] لمن دعاك بالرجوع إلى دين آبائك ، وذلك أن كفار قريش قالوا له عليه السلام : ألا تنظر إلى أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فنزلت رداً عليهم { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِى } [الزمر : 14] وهذه الآية إخبار بأنه يخص الله وحده بعبادته مخلصاً له دينه دون غيره ، والأولى إخبار بأنه مأمور بالعبادة والإخلاص فالكلام أولاً واقع في نفس الفعل وإثباته ، وثانياً فيما يفعل الفعل لأجله ولذلك رتب عليه قوله :
{ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } [الزمر : 15] وهذا أمر تهديد.
وقيل له عليه السلام : إن خالفت دين آبائك فقد خسرت فنزلت { قُلْ إِنَّ الْخَـاسِرِينَ } [الزمر : 15] أي الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ } [الأعراف : 9] بإهلاكها في النار { وَأَهْلِيهِمْ } أي وخسروا أهليهم { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] لأنهم أضلوهم فصاروا إلى النار ، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله : { أَلا ذَالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الزمر : 15] حيث صدر الجملة بحرف التنبيه ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر وعرف الخسران ونعته بالمبين ، وذلك لأنهم استبدلوا بالجنة ناراً وبالدرجات دركات { لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر : 16] أطباق { مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر : 16] أطباق من النار وهي ظلل لآخرين أي النار محيطة بهم { ذَالِكَ } الذي وصف من العذاب أو ذلك الظلل { يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } [الزمر : 16] ليؤمنوا به ويجتنبوا مناهيه { يَـاعِبَادِ فَاتَّقُونِ } [الزمر : 16] ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي خوّفهم بالنار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
ثم حذرهم نفسه { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّـاغُوتَ } [الزمر : 17] الشياطين " فعلوت " من الطغيان كالملكوت
80
(4/43)
والرحموت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين ، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكون الطاغوت مصدراً ، وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأن عين الشيطان طغيان وأن البناء بناء مبالغة ، فإن الرحموت الرحمة الواسعة ، والملكوت الملك المبسوط والقلب وهو للاختصاص ، إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها ههنا الجمع وقريء { الطَّـاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [الزمر : 17] بدل الاشتمال من الطاغوت أي عبادتها { وَأَنَابُوا } رجعوا { إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى } [الزمر : 17] هي البشارة بالثواب تتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين وحين يحشرون { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُا } هم الذين اجتنبوا أنابوا ، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة فوضع الظاهر موضع الضمير أراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل ، فإذا اعترضهم أمران ـ واجب وندب ـ اختاروا الواجب ، وكذا المباح والندب حراصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً ، أو يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن ، أو يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو ونحو ذلك ، أو يستمعون الحديث مع القوم فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه { أؤلئك الَّذِينَ هَدَاـاهُمُ اللَّهُ وَأُوالَـائكَ هُمْ أُوْلُوا الالْبَـابِ } أي المنتفعون بعقولهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 79
{ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ } [الزمر : 19] أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب أي وجب { أَفَأَنتَ } جملة شرطية دخلت عليها همزة الانكار والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف تقديره : أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الانكار.
ووضع { تُنقِذُ مَن فِى النَّارِ } [الزمر : 19] موضع الضمير أي تنقذه ، فالآية على هذا جملة واحدة ، أو معناه : أفمن حق عليه كلمة العذاب ينجو منه ، أفأنت تنقذه أي لا يقدر أحد أن ينقذ من أضله الله وسبق في علمه أنه من أهل النار { لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } [الزمر : 20] أي لهم منازل في الجنة
81
رفيعة وفوقها منازل أرفع منها يعني للكفار ظلل من النار وللمتقين غرف { مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } [الزمر : 20] أي من تحت منازلها { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر : 20] وعد الله مصدر مؤكد ، لأن قوله { لَهُمْ غُرَفٌ } [الزمر : 20] في معنى وعدهم الله ذلك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
(4/44)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [الحج : 63] يعني المطر.
وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله { فَسَلَكَهُ } فادخله { يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ } [الزمر : 21] عيوناً ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد.
و { يَنَـابِيعَ } نصب على الحال أو على الظرف و { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] صفة لـ { يَنَـابِيعَ } .
{ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ } [الزمر : 21] بالماء { زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } [الزمر : 21] هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض أو أصنافه من بن وشعير وسمسم وغير ذلك { ثُمَّ يَهِيجُ } [الزمر : 21] يجف { فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا } [الزمر : 21] بعد نضارته وحسنه { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَـامًا } [الزمر : 21] فتاتاً متكسراً ، فالحطام ما تفتت وتكسر من النبت وغيره { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] في إنزال الماء وإخراج الزرع { لَذِكْرَى لاوْلِى الالْبَـابِ } [الزمر : 21] لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد من صانع حكيم ، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ } [الزمر : 22] أي وسع صدره { لِلاسْلَـامِ } فاهتدى ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الشرح فقال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح فقيل : فهل لذلك من علامة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [الزمر : 22] بيان وبصيرة ، والمعنى : أفمن شرح الله صدره فاهتدى كمن طبع على قلبه فقسا قلبه؟ فحذف لأن قوله { فَوَيْلٌ لِّلْقَـاسِيَةِ قُلُوبُهُم } [الزمر : 22] يدل عليه { مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } [الزمر : 22] أي من ترك ذكر الله أو من أجل ذكر الله أي إذا ذكر الله عندهم أو آياته ازدادت قلوبهم قساوة كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
التوبة : 125] (التوبة : 521) { أؤلئك فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [الزمر : 22] غواية ظاهرة.
82
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [الزمر : 23] في إيقاع اسم { اللَّهَ } مبتدأ وبناء { نَزَّلَ } عليه تفخيم لأحسن الحديث { كِتَـابًا } بدل من { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [الزمر : 23] أو حال منه { مُّتَشَـابِهًا } يشبه بعضه بعضاً في الصدق والبيان والوعظ والحكمة والإعجاز وغير ذلك نعت { أَحْصَيْنَـاهُ كِتَـابًا } [النبأ : 29] جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ومواعظه ، فهو بيان لكونه متشابهاً لأن القصص المكررة وغيرها لا تكون إلا متشابهة.
وقيل : لأنه يثنّى في التلاوة فلا يمل.
وإنما جاز وصف الواحد بالجمع لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته ، ألا تراك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات؟ فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات.
أو منصوب على التمييز من { مُّتَشَـابِهًا } كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل ، والمعنى متشابهة مثانية { تَقْشَعِرُّ } تضطرب وتتحرك { مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [الزمر : 23] يقال : اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً.
والمعنى أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم ، وفي الحديث " إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها " { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } [الزمر : 23] أي إذا ذكرت آيات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.
وعدي بـ " إلى " لتضمنه معنى فعل متعد بـ " إلى " كأنه قيل : اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة.
واقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة ، لأن رحمته سبقت غضبه فلأصالة رحمته إذا ذكر الله لم يخطر بالبال إلا كونه رءوفاً رحيماً.
وذكرت الجلود وحدها أولاً ثم قرنت بها القلوب ثانياً لأن محل الخشية القلب فكان ذكرها يتضمن ذكر القلوب { ذَالِكَ }
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
(4/45)
إشارة إلى الكتاب وهو { هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ } [الأنعام : 88] من عباده وهو من علم منهم اختيار الاهتداء { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } [النساء : 88] يخلق الضلالة فيه { فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد : 33] إلى الحق.
83
{ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُواءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الزمر : 24] كمن أمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره وسوء العذاب شدته ، ومعناه أن الإنسان إذا لقي مخوفاً من المخاوف استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنه أعز أعضائه عليه ، والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ومحاماة عليه { وَقِيلَ لِلظَّـالِمِينَ } [الزمر : 24] أي تقول لهم خزنة النار { ذُوقُوا } وبال { مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [الزمر : 24] أي كسبكم { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [فاطر : 25] من قبل قريش { فَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [الزمر : 25] من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها بيناهم آمنون إذ فوجئوا من مأمنهم { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ } [الزمر : 26] الذل والصغار كالمسخ والخسف والقتل والجلاء ونحو ذلك من عذاب الله { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْىَ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الزمر : 26] من عذاب الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] لآمنوا.
{ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [الزمر : 27] ليتعظوا { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا } [الزمر : 28] حال مؤكدة كما تقول : جاءني زيد رجلاً صالحاً وإنساناً عاقلاً ، فتذكر رجلاً أو إنساناً توكيداً ، أو نصب على المدح { غَيْرَ ذِى عِوَجٍ } [الزمر : 28] مستقيماً بريئاً من التناقض والاختلاف.
ولم يقل " مستقيماً " للإشعار بأن لا يكون فيه عوج قط.
وقيل : المراد بالعوج الشك { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة : 187] الكفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا } [الزمر : 29] بدل { فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَـاكِسُونَ } [الزمر : 29] متنازعون ومختلفون { وَرَجُلا سَلَمًا } [الزمر : 29] مصدر سلم والمعنى ذا سلامة { لِّرَجُلٍ } أي ذا خلوص له من الشركة.
84
سالماً مكي وأبو عمرو أي خالصاً له { وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا } [هود : 24] صفة وهو تمييز ، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالاهما.
وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقريء .
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ } [فاطر : 34] الذي لا إله إلا هو { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النحل : 75] فيشركون به غيره.
مثل الكافر ومعبوديه بعبد اشترك فيه شركاء بينهم تنازع واختلاف ، وكل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى وهو متحير لا يدري أيهم يرضي بخدمته ، وعلى أيهم يعتمد في حاجاته ، وممن يطلب رزقه ، وممن يلتمس رفقه ، فهمه شعاع وقلبه أوزاع ، والمؤمن بعبد له سيد واحد فهّمه واحد وقلبه مجتمع { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [الزمر : 30] أي ستموت { وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر : 30] وبالتخفيف من حل به الموت ، قال الخليل أنشد أبو عمرو :
وتسألني تفسير ميت وميّت
فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميت
وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلّم موته فأخبر أن الموت يعمهم فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني ، وعن قتادة : نعى إلى نبيه نفسه ونعى إليكم أنفسكم أي إنك وإياهم في عداد الموتى لأن ما هو كائن فكأن قد كان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 81
(4/46)
{ ثُمَّ إِنَّكُمْ } [الواقعة : 51] أي إنك وإياهم فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [الزمر : 31] فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا واجتهدت في الدعوة ، فلجّوا في العناد ويعتذرون بما لا طائل تحته ، تقول الأتباع : أطعنا ساداتنا وكبراءنا ، وتقول السادات : أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون.
قال الصحابة رضى الله عنهم أجمعين : ما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا.
عن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة وذلك في الدماء والمظالم التي بينهم.
والوجه هو الأوّل ألا ترى إلى قوله
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ } [الزمر : 32] وقوله
85
{ وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر : 33] وما هو إلا بيان وتفسير للذين تكون بينهم الخصومة.
{ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ } [الزمر : 32] افترى عليه بإضافة الولد والشريك إليه { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ } [الزمر : 32] بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم { إِذْ جَآءَهُا } [الزمر : 32] فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة لإعمال روية أو اهتمام بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ } [العنكبوت : 68] أي لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق.
واللام في { لِّلْكَـافِرِينَ } إشارة إليهم { وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر : 33] هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاء بالحق وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [المؤمنون : 49] (المؤمنون : 94) فلذا قال تعالى { أؤلئك هُمُ الْمُتَّقُونَ } [الزمر : 33] وقال الزجاج : روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : والذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والذي صدق به أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وروي أن الذي جاء بالصدق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والذي صدق به المؤمنون ، والكل صحيح كذا قاله.
قالوا : والوجه في العربية أن يكون " جاء " و " صدق " لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي ، وذا غير جائز ، أو إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر وذا بعيد.
{ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ } إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل كقولك : الأشج أعدل بني مروان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ } [الزمر : 36] أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها { عَبْدَهُ } أي محمداً صلى الله عليه وسلّم.
{ عِبَادَهُ } حمزة وعلي أي الأنبياء والمؤمنين وهو مثل { إِنَّا كَفَيْنَـاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ } [الحجر : 95] (الحجر : 59) { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر : 36]
86
(4/47)
أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه ، وذلك أن قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك مضرتها لعيبك إياها { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ } بغالب منيع { ذِى انتِقَامٍ } [الزمر : 37] ينتقم من أعدائه ، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم وينصرهم عليهم.
ثم أعلم بأنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض بقوله { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ } [الزمر : 38] بفتح الياء سوى حمزة { بِضُرٍّ } مرض أو فقر أو غير ذلك { هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّهِ } [الزمر : 38] دافعات شدته عني { أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ } [الزمر : 38] صحة أو غنى أو نحوهما { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِهِ } [الزمر : 38] { كَـاشِفَـاتُ ضُرِّهِ } [الزمر : 38] ، و { مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِهِ } [الزمر : 38] بالتنوين على الأصل : بصري ، وفرض المسئلة في نفسه دونهم لأنهم خوفوه معرة الأوثان وتخبيلها ، فأمر بأن يقررهم أولاً بأن خالق العالم هو الله وحده ثم يقول لهم بعد التقرير : فإن أرادني خالق العالم الذي أقررتم به بضر أو برحمة هل يقدرون على خلاف ذلك؟ فلما أفحمهم قال الله تعالى : { قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ } [الزمر : 38] كافياً لمعرة أوثانكم { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر : 38] يروى أن النبي صلى الله عليه وسلّم سألهم فسكتوا فنزل { قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ } [الزمر : 38] ، وإنما قال { كَـاشِفَـاتُ } و { مُمْسِكَـاتُ } على التأنيث بعد قوله { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر : 36] لأنهن إناث وهن اللات والعزى ومناة ، وفيه تهكم بهم وبمعبوديهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
{ قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [الأنعام : 135] على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها ، والمكانة بمعنى المكان فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا وحيث للزمان وهما للمكان { إِنِّى عَـامِلٌ } [هود : 93] أي على مكانتي وحذف
87
للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حالته تزداد كل يوم قوّة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ، ألا ترى إلى قوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [هود : 39] كيف توعدهم بكونه منصوراً عليهم غالباً عليهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته من حيث إن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه وبذل ذليل من أعدائه ، و { يُخْزِيهِ } صفة للعذاب كـ { مُّقِيمٌ } أي عذاب مخزلة وهو يوم بدر ، وعذاب دائم وهو عذاب النار.
أبو بكر وحماد.
{ مُّقِيمٌ * إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ } [الزمر : 41] القرآن { لِلنَّاسِ } لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه ليبشروا وينذروا فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية { بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ } [الزمر : 41] فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه { وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [يونس : 108] ومن اختار الضلالة فقد ضرها { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام : 107] بحفيظ.
{ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } الأنفس الجمل كما هي ، وتوفيها إماتتها وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة دراكة { وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها أي يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ } [الأنعام : 60] (الأنعام : 06) { فَيُمْسِكُ }
جزء : 4 رقم الصفحة : 85
(4/48)
الأنفس { الَّتِى قَضَى } [الزمر : 42] { قَضَى } حمزة وعلي.
{ عَلَيْهَا الْمَوْتَ } [الزمر : 42] الحقيقي أي لا يردها في وقتها حية { وَيُرْسِلُ الاخْرَى } [الزمر : 42] النائمة { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] إلى وقت ضربه لموتها.
وقيل : يتوفى الأنفس أي يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في مقامها وهي أنفس التمييز.
قالوا : فالتي تتوفى في المنام هي نفس التمييز لا نفس الحياة لأن نفس
88
الحياة إذا زنت زال معها النفس والنائم يتنفس ، ولكل إنسان نفسان : إحداهما نفس الحياة وهي التي تفارق عند الموت ، والأخرى نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام.
وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما : في ابن آدم نفس وروح بينهما شعاع مثل شعاع الشمس ، فالنفس هي التي بها العقل والتمييز ، والروح هي التي بها النفس والتحرك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه.
وعن علي رضي الله عنه قال : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فذلك يرى الرؤيا ، فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة ، وعنه ما رأت عين النائم في السماء فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأت بعد الإرسال فيلقها الشيطان فهي كاذبة.
وعن سعيد بن جبير : أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء حياتها.
وروي أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم في السماء فمن كان منهم طاهراً أذن في السجود ، ومن لم يكن منهم طاهراً لم يؤذن له فيه { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] إن في توفي الأنفس ميتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل { لايَـاتٍ } على قدرة الله وعلمه { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس : 24] يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون { أَمِ اتَّخَذُوا } [الزمر : 43] بل اتخذ قريش والهمزة للإنكار { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] من دون إذنه { شُفَعَآءَ } حين قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شيئا وَلا يَعْقِلُونَ } معناه أيشفعون ولو كانوا لا يملكون شيئاً قط ولا عقل لهم؟ { قُل لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر : 44] أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه وانتصب { جَمِيعًا } على الحال { لَّهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 44] تقرير لقوله { لِّلَّهِ الشَّفَـاعَةُ جَمِيعًا } [الزمر : 44] لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك كان مالكاً لها.
{ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 28] متصل بما يليه معناه له ملك السماوات والأرض واليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له فله ملك الدنيا والآخرة.
89
جزء : 4 رقم الصفحة : 85(4/49)
{ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } [الزمر : 45] مدار المعنى على قوله { وَحْدَهُ } أي إذا أفرد الله بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم { اشْمَأَزَّتْ } أي نفرت وانقبضت { قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } [الزمر : 45] يعني آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الروم : 48] لافتتانهم بها ، وإذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا لأن فيه نفياً لآلهتهم ، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه ، فالاستبشار أن يمتلىء قلبه سروراً حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل ، والاشمئزاز أن يمتلىء غماً وغيظاً حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه ، والعامل في { إِذَا ذُكِرَ } [الانفال : 2] هو العامل في " إذاً " المفاجأة.
تقديره : وقت ذكر الذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 46] أي يا فاطر ، وليس بوصف كما يقوله المبرد والفراء { عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ } [الزمر : 46] السر والعلانية { أَنتَ تَحْكُمُ } [الزمر : 46] تقضي { بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [الزمر : 46] من الهدى والضلالة ، وقيل : هذه محاكمة من النبي للمشركين إلى الله.
وعن ابن المسيب : لا أعرف آية قرئت فدعي عندها إلا أجيب سواها.
وعن الربيع بن خيثم وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين رضي الله عنه وقالوا : الآن يتكلم فما زاد أن قال : آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية.
وروي أنه قال على أثره : قتل من كان صلى الله عليه وسلّم يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
{ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [الزمر : 47] الهاء تعود إلى " ما " { افْتَدَوْا بِهِ مِن سُواءِ الْعَذَابِ } [الزمر : 47] شدته
90
{ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر : 47] وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسبانهم ولا يحدثون به نفوسهم.
وقيل : عملوا أعمالاً حسبوها حسنات فإذا هي سيئات ، وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء.
وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له فقال : أخشى آية من كتاب الله وتلاها ، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه { وَبَدَا لَهُمْ سيئات مَا كَسَبُوا } [الزمر : 48] أي سيئات أعمالهم التي كسبوها أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائف أعمالهم وكانت خافية عليهم أو عقاب ذلك { وَحَاقَ بِهِم } [هود : 8] ونزل بهم وأحاط { مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام : 5] جزاء هزئهم.
{ فَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَـاهُ } [الزمر : 49] أي أعطيناه تفضلاً.
يقال : خولني إذا أعطاك على غير جزاء { نِعْمَةً مِّنَّا } [الزمر : 49] ولا تقف عليه لأن جواب " إذا " { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم } [القصص : 78] مني أني سأعطاه لما فيّ من فضل واستحقاق ، أو على علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون { عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [القصص : 78] (القصص : 87) وإنما ذكر الضمير في { أُوتِيتُهُ } وهو للنعمة نظراً إلى المعنى لأن قوله { نِعْمَةً مِّنَّا } [الزمر : 49] شيئاً من النعمة وقسماً منها.
وقيل : " ما " في " إنما " موصولة لا كافة فيرجع الضمير إليها أي إن الذي أوتيته على علم { بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ } [الزمر : 49] إنكار له كأنه قال : ما خولناك من النعمة لما تقول بل هي فتنة أي ابتلاء وامتحان لك أتشكر أم تكفر.
ولما كان الخبر مؤنثاً ـ أعني فتنة ـ ساغ تأنيث المبتدأ لأجله ، وقريء بل هو فتنة على وفق { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } [الزمر : 49] { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] أنها فتنة ، والسبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أول السورة بالواو ، أن هذه وقعت مسببة عن قوله { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ } [الزمر : 45] على معنى أنهم يشمئزون من ذكر الله
91
ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز بذكره دون من استبشر بذكره وما بينهما من الآي اعتراض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 90(4/50)
فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه.
قلت : ما في الاعتراض من دعاء الرسول الله صلى الله عليه وسلّم ربه بأمر من الله وقوله { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } [الزمر : 46] ثم ما عقبه من الوعيد العظيم ، تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كأنه قيل : يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترئون عليك مثل هذه الجرأة إلا أنت ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } [الزمر : 47] متناول هم ولكل ظالم إن جعل عاماً ، أو إياهم خاصة إن عنيتهم به كأنه قيل : ولو أن لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به حين حكم عليهم بسوء العذاب ، وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو نحو " قام زيد وقعد عمرو " ، وبيان وقوعها مسببة أنك تقول : زيد يؤمن بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه ، فهذا تسبيب ظاهر ، ثم تقول : زيد كافر بالله فإذا مسه ضر التجأ إليه ، فتجيء بالفاء مجيئك بها ثمة كأن الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه مقيم كفره مقام الإيمان في جعله سبباً في الالتجاء { قَدْ قَالَهَا } [الزمر : 50] هذه المقالة وهي قوله { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْم } [الزمر : 49] { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [فاطر : 25] أي قارون وقومه حيث قال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [القصص : 78] (القصص : 87) وقومه راضون بها ، فكأنهم قالوها ، ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الحجر : 84] من متاع الدنيا وما يجمعون منها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 90
{ فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا كَسَبُوا } [الزمر : 51] أي جزاء سيئات كسبهم ، أو سمى جزاء السيئة سيئة للازدواج كقوله : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04).
{ وَالَّذِينَ ظَلَمُوا } [الزمر : 51] كفروا { مِنْ هؤلاء } [الزمر : 51] أي من مشركي قومك { سَيُصِيبُهُمْ سيئات مَا كَسَبُوا } [الزمر : 51] أي سيصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، فقتل صناديدهم ببدر وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين { وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [الزمر : 51] بفائتين من عذاب الله ، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم
92
{ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الزمر : 52] ويضيق.
وقيل : يجعله على قدر القوت { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 79] بأنه لا قابض ولا باسط إلا الله عز وجل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
{ قُلْ يَـاعِبَادِىَ الَّذِينَ } [الزمر : 53] وبسكون الياء : بصري وحمزة وعلي { أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } [الزمر : 53] جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلو فيها { لا تَقْنَطُوا } [الزمر : 53] لا تيأسوا ، وبكسر النون : علي وبصري { مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } [الزمر : 53] بالعفو عنها إلا الشرك ، وفي قراءة النبي عليه السلام يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ، ونظير نفي المبالاة نفي الخوف في قوله { وَلا يَخَافُ عُقْبَـاهَا } [الشمس : 15] (الشمس : 61).
قيل : نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ } [يوسف : 98] بستر عظائم الذنوب { الرَّحِيمُ } بكشف فظائع الكروب { وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ } [الزمر : 54] وتوبوا إليه { وَأَسْلِمُوا لَهُ } [الزمر : 54] وأخلصوا له العمل { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ } [الزمر : 54] إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } [الزمر : 55] مثل قوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُا } [الزمر : 18] ، وقوله { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الزمر : 55] أي يفجؤكم وأنتم غافلون كأنكم لا تخشون شيئاً لفرط غفلتكم.
93(4/51)
{ أَن تَقُولَ } [طه : 94] لئلا تقول { نَفْسٍ } إنما نكرت لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر ، ويجوز أن يراد نفس متميزة من الأنفس إما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير { يَـاحَسْرَتَى } الألف بدل من ياء المتكلم ، وقرىء : يا حسرتي على الأصل ويا حسرتى على الجمع بين العوض والمعوض منه { نَفْسٌ يَـاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
الزمر : 56] قصرت و " ما " مصدرية مثلها في { بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 25] (التوبة : 52) { فِى جَنابِ اللَّهِ } [الزمر : 56] في أمر الله أو في طاعة الله أو في ذاته ، وفي حرف عبد الله في ذكر الله والجنب الجانب يقال : أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته ، وفلان لين الجانب والجنب ، ثم قالوا : فرط في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه ، وهذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ، ومنه الحديث : " من الشرك الخفي أن يصلي الرجل لمكان الرجل " ، أي لأجله ، وقال الزجاج : معناه فرط في طريق الله وهو توحيده والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم { وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّـاخِرِينَ } [الزمر : 56] المستهزئين.
قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها.
ومحل { وَإِن كُنتُ } [الزمر : 56] النصب على الحال كأنه قال : فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَاـانِى } [الزمر : 57] أي أعطاني الهداية { لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [الزمر : 57] من الذين يتقون الشرك ، قال الشيخ الإمام أبو منصور رحمه الله تعالى : هذا الكافر أعرف بهداية الله من المعتزلة ، وكذا أولئك الكفرة الذين قالوا لأتباعهم : { لَوْ هَدَاـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَـاكُمْ } [إبراهيم : 21] (إبراهيم : 12) يقولون : لو وفقنا الله للهداية وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن علم منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا ، والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق لكنهم لم يهتدوا.
والحاصل أن عند الله لطفاً من أعطى ذلك اهتدى ، وهو التوفيق والعصمة ومن لم يعطه ضل وغوى ، وكان استحبابه العذاب وتضييعه الحق بعدما مكن من تحصيله لذلك
94
{ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً } [الزمر : 58] رجعة إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر : 58] من الموحدين { بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ ءَايَـاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَـافِرِينَ } [الزمر : 59] " بلى " رد من الله عليه كأنه يقول : بلى قد جاءتك آياتي وبينت لك الهداية من الغواية وسبيل الحق من الباطل ومكنتك من اختيار الهداية على الغواية واختيار الحق على الباطل ، ولكن تركت ذلك وضيعته واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به فإنما جاء التضييع من قبلك فلا عذر لك ، و { بَلَى } جواب لنفي تقديري لأن المعنى : لو أن الله هداني ما هديت وإنما لم يقرن الجواب به ، لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس على ترتيبها ثم الجواب من بينها عما اقتضى الجواب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 92
{ وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ } [الزمر : 60] وصفوه بما لا يجوز عليه من إضافة الشريك والولد إليه ، ونفى الصفات عنه
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
{ وُجُوهُهُم } مبتدأ { مُّسْوَدَّةٌ } خبر والجملة في محل النصب على الحال إن كان ترى من رؤية البصر ، وإن كان من رؤية القلب فمفعول ثانٍ { أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى } [العنكبوت : 68] منزل { لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } هو إشارة إلى قوله { وَاسْتَكْبَرْتَ } { وَيُنَجِّى اللَّهُ } [الزمر : 61] { وَيُنَجِّى } : روح { الَّذِينَ اتَّقَوْا } [الأعراف : 201] من الشرك { بِمَفَازَتِهِمْ } بفلاحهم يقال : فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه وتفسيره المفازة { لا يَمَسُّهُمُ السُّواءُ } [الزمر : 61] النار { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] كأنه قيل : وما مفازتهم؟ قيل : لا يمسهم السوء أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم.
أي لا يمس أبدانهم أذى ولا قلوبهم خزي ، أو بسبب منجاتهم من قوله تعالى : { فَلا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ } [آل عمران : 188] (آل عمران : 881).
أي بمنجاة
95
(4/52)
منه ؛ لأن النجاة من أعظم الفلاح وسبب منجاتهم العمل الصالح ، ولهذا(فسر ابن عباس المفازة بالأعمال الحسنة ويجوز بسبب فلاحهم العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة ، ويجوز أن يسمى العمل الصالح فنفسه مفازة لأنه سببها ، ولا محل لـ { لا يَمَسُّهُمُ } [الزمر : 61] على التفسير الأول لأنه كلام مستأنف ، ومحله النصب على الحال على الثاني.
كوفي غير حفص.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
{ قُلِ اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ } [الرعد : 16] رد على المعتزلة والثنوية { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ } [الأنعام : 102] حافظ.
{ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 63] أي هو مالك أمرها وحافظها ، وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح واحدها مقليد ، وقيل : لا واحد لها من لفظها ، والكلمة أصلها فارسية { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ أؤلئك هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [الزمر : 63] هو متصل بقوله { وَيُنَجِّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا } [الزمر : 61] أي ينجي الله المتقين بمفازاتهم والذين كفروا هم الخاسرون.
واعترض بينهما بأنه خالق كل شيء ، فهو مهيمن عليه ، فلا يخفى عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يجزون عليها ، أو بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه ، والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون ، وقيل : سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله : { لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 63] فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك ، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وتأويله على هذا أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه ، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده أولئك هم الخاسرون.
96
{ قُلْ } لمن دعاك إلى دين آبائك { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى أَعْبُدُ } [الزمر : 64] { تَأْمُرُوانِّى } مكي ، على الأصل : شامي ، { اللَّهِ تَأْمُرُوانِّى } [الزمر : 64] مدني ، وانتصب.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ } [الأنعام : 114] بـ { أَعْبُدَ } و { تَأْمُرُوانِّى } اعتراض ، ومعناه أفغير الله أعبد بأمركم بعد هذا البيان
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
{ أَيُّهَا الْجَـاهِلُونَ } [الزمر : 64] بتوحيد الله { وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الزمر : 65] من الأنبياء عليهم السلام { لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر : 65] الذي علمت قبل الشرك { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ } [الزمر : 65] وإنما قال { لَـاـاِنْ أَشْرَكْتَ } [الزمر : 65] على التوحيد والموحى إليهم جماعة لأن معناه أوحي إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك وإلى الذين من قبلك مثله ، واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف ، والثانية لام الجواب ، وهذا الجواب ساد مسد الجوابين أعني جوابي القسم والشرط.
وإنما صح هذا الكلام مع علمه تعالى بأن رسله لا يشركون لأن الخطاب للنبي عليه السلام والمراد به غيره ، ولأنه على سبيل الفرض ، والمحالات يصح فرضها.
وقيل : لئن طالعت غيري في السر ليحبطن ما بيني وبينك من السر { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } [الزمر : 66] رد لما أمروه من عبادة آلهتهم كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إن عبدت فاعبد الله ؛ فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضاً عنه { وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ } [الأعراف : 144] على ما أنعم به عليك من أن جعلك سيد ولد آدم { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام : 91] وما عظموه حق عظمته إذ دعوك إلى عبادة غيره ، ولما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تعظيمه قيل : وما قدروا الله حق قدره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
(4/53)
ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التخييل فقال : { وَالارْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَالسَّمَـاوَاتُ مَطْوِيَّـاتُ بِيَمِينِهِ } [الزمر : 67] والمراد بهذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين
97
إلى جهة حقيقية أو جهة مجاز.
والمراد بالأرض الأرضون السبع يشهد لذلك قوله { جَمِيعًا } ، وقوله { وَالسَّمَـاوَاتُ } ولأن الموضع موضع تعظيم فهو مقتضٍ للمبالغة ، و { الارْضِ } مبتدأ و { قَبْضَتُهُ } الخبر و { جَمِيعًا } منصوب على الحال أي : والأرض إذا كانت مجتمعة قبضته يوم القيامة ، والقبضة : المرة من القبضة.
والقبضة : المقدار المقبوض بالكف ، ويقال : أعطني قبضة من كذا تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر ، وكلا المعنين محتمل ، والمعنى والأرضون جميعاً قبضته أي ذوات قبضته بقبضهن قبضة واحدة يعني أن الأرضين مع عظمهن وبسطهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة كما تقول : الجزور أكلة لقمان أي لا تفي إلا بأكلة فذة من أكلاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر ، لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
والمطويات من الطي الذي هو ضد النشر كما قال : { يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [الأنبياء : 104] (الأنبياء : 401).
وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه ، وقيل : قبضته ملكه بلا مدافع ولا منازع وبيمينه بقدرته.
وقيل : مطويات بيمينه مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يفنيها { سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18] ما أبعد من هذه قدرته وعظمته وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.
{ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ } [الزمر : 68] مات { مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ إِلا مَن شَآءَ اللَّهُ } [النمل : 87] أي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، وقيل : هم حملة العرش أو رضوان والحور العين ومالك والزبانية { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى } [الزمر : 68] هي في محل الرفع لأن المعنى ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى ، وإنما حذفت لدلالة
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
{ أُخْرَى } عليها ، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر : 68] يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب أو ينظرون أمر الله فيهم ، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان : الأولى للموت والثانية للبعث ، والجمهور على أنها ثلاث : الأولى للفزع ، كما قال : { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ } (النمل : 78) ، والثانية للموت والثالثة للإعادة.
98
{ وَأَشْرَقَتِ الارْضُ } [الزمر : 69] أضاءت { بِنُورِ رَبِّهَا } [الزمر : 69] أي بعدله بطريق الاستعارة.
يقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك.
كما يقال أظلمت البلاد بجور فلان ، وقال عليه الصلاة والسلام : " الظلم ظلمات يوم القيامة " .
وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله ، وينصب فيها موازين قسطه ، ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، وقال الإمام أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يخلق الله نوراً فينور به أرض الموقف ، وإضافته إليه تعالى للتخصيص كبيت الله وناقة الله { وَوُضِعَ الْكِتَـابُ } [الكهف : 49] أي صحائف اوعمال ، ولكنه اكتفى باسم الجنس أو اللوح المحفوظ { وَجِا ى ءَ بِالنَّبِيِّـانَ } ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة وما أجابهم قومهم { وَالشُّهَدَآءِ } الحفظة.
وقيل : هم الأبرار في كل زمان يشهدون على أهل ذلك الزمان { وَقُضِىَ بَيْنَهُم } [الزمر : 75] بين العباد { بِالْحَقِّ } بالعدل { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] ختم الآية بنفي الظلم كما افتتحها بإثبات العدل { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } [الزمر : 70] أي جزاءه { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر : 70] من غير كتاب ولا شاهد ، وقيل : هذه الآية تفسير قوله { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281].
أي ووفيت كل نفس ما عملت من خير وشر لا يزاد في شر ولا ينقص من خير.
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
(4/54)
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ } [الزمر : 71] سوقاً عنيفاً ، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل { زُمَرًا } حال أي أفواجاً متفرقة بعضها في أثر بعض { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ } [الزمر : 71] بالتخفيف فيهما : كوفي { أَبْوَابُهَا } وهي سبعة { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ } [الزمر : 71] أي حفظة جهنم وهم الملائكة الموكلون بتعذيب أهلها { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الزمر : 71] من بني آدم { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } [الزمر : 71] أي وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة { قَالُوا بَلَى } [الأعراف : 172] أتونا
99
وتلوا علينا { وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [الزمر : 71] أي ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأن جهنم بسوء أعمالنا كما قالوا : { غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ } [المؤمنون : 106] (المؤمنون : 601) ، فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال.
{ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا } [الزمر : 72] حال مقدرة أي مقدرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر : 72] اللام فيه للجنس لأن { مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [النحل : 29] فاعل " بئس " و " بئس " فاعلها اسم معرف بلام الجنس أو مضاف إلى مثله ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره فبئس مثوى المتكبرين جهنم.
{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [الزمر : 73] المراد سوق مراكبهم ، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم ويشرف من الوافدين على بعض الملوك { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا } [الزمر : 71] هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية إلا أن جزاءها محذوف ، وإنما حذف لأنه في صفة ثواب أهل الجنة فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف ، وقال الزجاج : تقديره حتى إذا جاءوها { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ } [الزمر : 73] دخلوها فحذف دخولها ؛ لأن في الكلام دليلاً عليه.
وقال قوم : حتى إذا جاءوها وجاءوها وفتحت أبوابها فعندهم جاءوها محذوف ، والمعنى : حتى إذا جاءوها وقع مجيئهم مع فتح أبوابها ، وقيل : أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله تعالى : { جَنَّـاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابْوَابُ } [ص : 50] (ص : 05).
فلذلك جيء بالواو كأنه قال : حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها طبتم من دنس المعاصي ، وطهرتم من خبث الخطايا ، وقال الزجاج : أي كنتم طيبين في الدنيا ولم تكونوا خبيثين أي لم تكونوا أصحاب خبائث ، وقال ابن عباس : طاب لكم المقام ، وجعل دخول الجنة سببا عن الطيب والطهارة لأنها دار الطيبين ومثوى الطاهرين قد طهر من كل دنس وطيبها من كل قذر ، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها.
100
جزء : 4 رقم الصفحة : 95
(4/55)
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [الزمر : 74] أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى { وَأَوْرَثَنَا الارْضَ } [الزمر : 74] أرض الجنة وقد أورثوها أي ملكوها وجعلوا ملوكها وأطلق تصرفهم فيها كما يشاءون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه { نَتَبَوَّأُ } حال { مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } [الزمر : 74] أي يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ أي فيتخذ متبوأ ومقراً من جنته حيث يشاء { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ } [الزمر : 74] في الدنيا الجنة { وَتَرَى الْمَلَـائكَةَ حَآفِّينَ } [الزمر : 75] حال من { الْمَلَـائكَةَ } { مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } [الزمر : 75] أي محدقين من حوله.
و " من " لابتداء الغاية أي ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله { يُسَبِّحُونَ } حال من الضمير في { حَآفِّينَ } { بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الزمر : 75] أي يقولون : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وذلك للتلذذ دون التعبد لزوال التكليف { وَقُضِىَ بَيْنَهُم } [الزمر : 75] بين الأنبياء والأمم أو بين أهل الجنة والنار { بِالْحَقِّ } بالعدل { وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الزمر : 75] أي يقول أهل الجنة شكراً حين دخولها ، وتم وعد الله لهم كما قال { دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } [يونس : 10] (يونس : 01) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
101
سورة غافر
مكية وهي خمس وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم } وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد ، وبني الفتح والكسر : مدني ، وغيرهم بالتفخيم ، وعن ابن عباس أنه اسم الله الأعظم { تَنزِيلُ الْكِتَـابِ } [السجدة : 2] أي هذا تنزيل الكتاب { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ } [الزمر : 1] أي المنيع بسلطانه عن أن يتقول عليه متقول { الْعَلِيمِ } بمن صدق به وكذب ، فهو تهديد للمشركين وبشارة للمؤمنين { غَافِرِ الذَّنابِ } [غافر : 3] ساتر ذنب المؤمنين { وَقَابِلِ التَّوْبِ } [غافر : 3] قابل توبة الراجعين { شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] على المخالفين { ذِى الطَّوْلِ } [غافر : 3] ذي الفضل على العارفين أو ذي الغنى عن الكل ، وعن ابن عباس : غافر الذنب وقابل التوب لمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله.
والتوب والثوب والأوب أخوات في معنى الرجوع ، والطول الغنى والفضل ، فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً والموصوف معرفة؟ قلت : أما
102
غافر الذنب وقابل التوب فمعرفتان لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتى يكونا في تقدير الانفصال فتكون إضافتهما غير حقيقية.
وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، وأما شديد العقاب فهو في تقدير شديد عقابه فتكون نكرة ، فقيل هو بدل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
وقيل : لما وجدت هذه النكرة بين هذه المعارف آذنت بأن كلها أبدال غير أوصاف.
وإدخال الواو في { وَقَابِلِ التَّوْبِ } [غافر : 3] لنكتة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محّاءة للذنوب كأن لم يذنب كأنه قال : جامع المغفرة والقبول ، وروي أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان : سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
بسم الله الرحمن الرحيم { حم } إلى قوله { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر : 3].
وختم الكتاب قال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة.
فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزوع وحسنت توبته.
فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشياطين عليه.(4/56)
{ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] صفة أيضاً لـ { ذِى الطَّوْلِ } [غافر : 3] ويجوز أن يكون مستأنفاً { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر : 3] المرجع { مَا يُجَـادِلُ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا } [غافر : 4] ما يخاصم فيها بالتكذيب بها والإنكار لها ، وقد دل على ذلك في قوله { وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [غافر : 5] (غافر : 5) فأما الجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها واستنباط معانيها ورد أهل الزيغ بها فأعظم جهاد في سبيل الله { فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى الْبِلَـادِ } [غافر : 4] بالتجارات النافقة والمكاسب المربحة سالمين غانمين فإن عاقبة أمرهم إلى العذاب ، ثم بين كيف ذلك فأعلم أن الأمم الذين كذبت قبلهم أهلكت فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } [القمر : 9] نوحاً { وَالاحْزَابُ } أي الذين تحزبوا
103
على الرسل وناصبوهم وهم عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم { مِن بَعْدِهِمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
الأعراف : 173] من بعد قوم نوح { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّة } [غافر : 5] من هذه الأمم التي هي قوم نوح والأحزاب { بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [غافر : 5] ليتمكنوا منه فيقتلوه.
والأخيذ : الأسير { وَجَـادَلُوا بِالْبَـاطِلِ } [غافر : 5] بالكفر { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [غافر : 5] ليبطلوا به الإيمان { فَأَخَذْتُهُمْ } مظهر : مكي وحفص يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذ الرسل أن أخذتهم فعاقبتهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [الرعد : 32] وبالياء : يعقوب.
أي فإنكم تمرون على بلادهم فتعاينون أثر ذلك ، وهذا تقرير فيه معنى التعجيب { وَكَذَالِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } { كَلِمَتُ رَبِّكَ } مدني وشامي { أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ } [غافر : 6] في محل الرفع بدل من { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ } [الأعراف : 137] أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة.
أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل و { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] قريش ، ومعناه كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء ؛ لأن علة واحدة تجمعهم أنهم من أصحاب النار ، ويلزم الوقف على النار.
لأنه لو وصل لصار
{ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } [غافر : 7] يعني حاملي العرش والحافين حوله وهم الكروبيون سادة الملائكة صفة لأصحاب النار وفساده ظاهر.
روي أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورءوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وفي الحديث " إن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة " وقيل : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو " يسبح بما لا يسبح به الآخر " .
{ يُسَبِّحُونَ } خبر
104
المبتدأ وهو { الَّذِينَ } { بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الزمر : 75] أي مع حمده إذ الباء تدل على أن تسبيحهم بالحمدلة { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } [غافر : 7] وفائدته مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البلد : 17] (البلد : 71).
فأبان بذلك فضل الإيمان ، وقد روعي التناسب في قوله : { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } [غافر : 7].
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
(4/57)
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [غافر : 7] كأنه قيل : ويؤمنون به ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه دليل على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأجناس والأماكن { رَبَّنَآ } أي يقولون ربنا وهذا المحذوف حال { وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7] والرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى ، إذ الأصل وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز مبالغة في وصفه بالرحمة والعلم { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } [غافر : 7] أي للذين علمت منهم التوبة لتناسب ذكر الرحمة والعلم { وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } [غافر : 7] أي طريق الهدى الذي دعوت إليه { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآ ـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } " من " في موضع نصب عطف على " هم " في { وَأَدْخِلْهُمْ } أو في { وَعَدْتَّهُمْ } والمعنى وعدتهم ووعدت من صلح من آبائهم { وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [غافر : 8] أي الملك الذي لا يغلب ، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً من الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك { وَقِهِمُ السَّيِّـاَاتِ } [غافر : 9] أي جزاء السيئات وهو عذاب النار { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُا وَذَالِكَ } [غافر : 9] أي رفع العذاب { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 72].
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ } [غافر : 10] أي يوم القيامة إذا دخلوا النار ومقتوا
105
أنفسهم فيناديهم خزنة النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
{ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } [غافر : 10] أي لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة ، والمقت أشد البغض ، وانتصاب { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الايمَـانِ } [غافر : 10] بالمقت الأول عند الزمخشري ، والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما تمقتونهن اليوم ، وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن ، وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا } [العنكبوت : 25] (العنكبوت : 52) ، و { إِذْ تُدْعَوْنَ } [الشعراء : 72] تعليل ، وقال جامع العلوم وغيره : " إذ " منصوب بفعل مضمر دل عليه { لَمَقْتُ اللَّهِ } [غافر : 10] أي يمقتهم الله حين دعوا إلى الإيمان فكفروا ، ولا ينتصب بالمقت الأول لأن قوله { لَمَقْتُ اللَّهِ } [غافر : 10] مبتدأ وهو مصدر وخبره { أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } [غافر : 10] ، فلا يعمل في { إِذْ تُدْعَوْنَ } [الشعراء : 72] ؛ لأن المصدر إذا أخبر عنه لم يجز أن يتعلق به شيء يكون في صلته لأن الإخبار عنه يؤذن بتمامه ، وما يتعلق به يؤذن بنقصانه ، ولا بالثاني لاختلاف الزمانين ، وهذا لأنهم مقتوا أنفسهم في النار وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا { فَتَكْفُرُونَ } فتصرون على الكفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 102
{ قَالُوا رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [غافر : 11] أي إماتتين وإحياءتين أو موتتين وحياتين ، وأراد بالإماتتين خلقهم أمواتاً أولاً وإماتتهم عند انقضاء آجالهم ، وصح أن يسمى خلقهم أمواتاً إماتة ، كما صح أن يقال : سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل ، وليس ثمة نقل من كبر إلى صغر ، ولا من صغر إلى كبر ، والسبب فيه أن الصغر والكبر جائزان على المصنوع الواحد ، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر ، فجعل صرفه عنه كنقله منه.
وبالإحياءتين : الإحياءة الأولى في الدنيا ، والإحياءة الثانية البعث ، ويدل عليه قوله : { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 106
(4/58)
البقرة : 28] (البقرة : 82).
وقيل : الموتة الأولى في الدنيا ، والثانية في
106
القبر بعد الإحياء للسؤال ، والإحياء الأول إحياؤه في القبر بعد موته للسؤال ، والثاني للبعث { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } [غافر : 11] لما رأوا الإماتة والإحياء قد تكررا عليهم علموا أن الله قادر على الإعادة كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ } [غافر : 11] من النار.
أي إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء لنتخلص { مِّن سَبِيلٍ } [غافر : 11] قط أم اليأس واقع دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس وإنما يقولون ذلك تحيراً ، ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله { ذَالِكُم بِأَنَّهُا إِذَا دُعِىَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا } [غافر : 12] أي ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم بتوحيد الله وإيمانكم بالإشراك به { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ } [غافر : 12] حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد { الْعَلِىِّ } شأنه ، فلا يرد قضاؤه { الْكَبِيرِ } العظيم سلطانه ، فلا يحد جزاؤه ، وقيل : كأن الحرورية أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله من هذا.
وقال قتادة : لما خرج أهل حروراء قال علي رضي الله عنه : من هؤلاء؟ قيل : المحكمون.
أي يقولون : لا حكم إلا لله ، فقال علي رضي الله عنه : كلمة حق أريد بها باطل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 106
{ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ } [غافر : 13] من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ } [غافر : 13] وبالتخفيف : مكي وبصري { رِزْقًا } مطراً ؛ لأنه سبب الرزق { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ } [غافر : 13] وما يتعظ وما يعتبر بآيات الله إلا من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله ، فإن المعاند لا يتذكر ولا يتعظ ، ثم قال للمنيبين : { فَادْعُوا اللَّهَ } [غافر : 14] فاعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر : 65] من الشرك { وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ } [التوبة : 32] وإن غاظ ذلك أعداءكم ممن ليس على دينكم { رَفِيعُ الدَّرَجَـاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِى الرُّوحَ } [غافر : 15] ثلاثة أخبار لقوله هو مرتبة على
107
قوله : { الَّذِى يُرِيكُمْ } [غافر : 13].
أو أخبار مبتدأ محذوف ، ومعنى رفيع الدرجات رافع السماوات بعضها فوق بعض ، أو رافع درجات عباده في الدنيا بالمنزلة ، أو رافع منازلهم في الجنة.
وذ العرش مالك عرشه الذي فوق السماوات خلقه مطافاً للملائكة إظهاراً لعظمته مع استغنائه في مملكته ، والروح جبريل عليه السلام ، أو الوحي الذي تحيا به القلوب { مِنْ أَمْرِهِ } [النحل : 2] من أجل أمره أو بأمره { عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ } [غافر : 15] أي الله أو الملقى عليه وهو النبي عليه السلام ويدل عليه قراءة يعقوب { لِّتُنذِرَ } { يَوْمَ التَّلاقِ } [غافر : 15] يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والأولون والآخرون.
: مكي ويعقوب { التَّلاقِ * يَوْمَ هُم بَـارِزُونَ } [غافر : 16] ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء { لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ } [غافر : 16] أي من أعمالهم وأحوالهم { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر : 16] أي يقول الله تعالى ذلك حين لا أحد يجيبه ، ثم يجيب نفسه بقوله { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم : 48] أي الذي قهر الخلق بالموت ، وينتصب { الْيَوْمَ } بمدلول { لِّمَنِ } أي لمن ثبت الملك في هذا اليوم ، وقيل : ينادي منادٍ فيقول : لمن الملك اليوم فيجيبه أهل المحشر : لله الواحد القهار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 106
(4/59)
{ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [غافر : 17] لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك وهي أن كل نفس تجزى بما كسبت عملت في الدنيا من خير وشر ، وأن الظلم مأمون منه لأنه ليس بظلام للعبيد ، وأن الحساب لا يبطيء لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ } [غافر : 18] أي القيامة سميت بها لأزوفها أي لقربها ، ويبدل من يوم الآزفة { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } [غافر : 18] أي التراقي يعني ترتفع قلوبهم عن مقارها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا { كَـاظِمِينَ } ممسكين بحناجرهم.
من كظم القربة شد رأسها ، وهو حال من القلوب محمول على أصحابها ، أو إنما جمع الكاظم جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء { مَا لِلظَّـالِمِينَ } [غافر : 18] الكافرين { مِنْ حَمِيمٍ } [الصافات : 67] محب مشفق
108
{ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر : 18] أي يشفع وهو مجاز عن الطاعة ، لأن الطاعة حقيقة لا تكون إلا لمن فوقك ، والمراد نفي الشفاعة والطاعة كما في قوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 106
ولا ترى الضب بها ينجحر
يريد نفي الضب وانجحاره ، وإن احتمل اللفظ انتفاء الطاعة دون الشفاعة ، فعن الحسن : والله ما يكون لهم شفيع البتة.
{ يَعْلَمُ خَآ ـاِنَةَ الاعْيُنِ } [غافر : 19] مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل { وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ } [غافر : 19] وما تسره من أمانة وخيانة ، وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوة مسارقة ، ثم يتفكر بقلبه في جمالها ولا يعلم بنظرته وفكرته من بحضرته ، والله يعلم ذلك كله ويعلم خائنة الأعين خبر من أخبار هو في قوله : { هُوَ الَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ } [غافر : 13].
مثل { يُلْقِى الرُّوحَ } [غافر : 15] ولكن يلقي الروح قد علل بقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ } [غافر : 15] ثم استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله { وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } [غافر : 18] فبعد لذلك عن أخواته { وَاللَّهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ } [غافر : 20] أي والذي هذه صفاته لا يحكم إلا بالعدل { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَىْءٍ } [غافر : 20] وآلهتهم لا يقضون بشيء ، وهذا تهكم بهم لأن ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.
{ تُدْعَوْنَ } نافع { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [غافر : 20] تقرير لقوله { يَعْلَمُ خَآ ـاِنَةَ الاعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ } [غافر : 19] ، ووعيد لهم بأنه يسمع ما يقولون ويبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دونه وأنها لا تسمع ولا تبصر { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ } أي آخر أمر الذين كذبوا الرسل من قبلهم { كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [غافر : 21] " هم " فصل ، وحقه أن يقع بين معرفتين إلا أن أشد منهم ضارع المعرفة في أنه لا تدخله الألف واللام ،
109
فأجري مجراه.
{ مِّنكُمْ } : شامي.
{ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى } [غافر : 21] أي حصوناً وقصوراً { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } [الانفال : 52] عاقبهم بسبب ذنوبهم { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } [غافر : 21] ولم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 106
{ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ } [المنافقون : 3] أي الأخذ بسبب أنهم { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِىٌّ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
(4/60)
غافر : 22] قادر على كل شيء { شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] إذا عاقب.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَا } [إبراهيم : 5] التسع { وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [هود : 96] وحجة ظاهرة { إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَـامَـانَ وَقَـارُونَ } [غافر : 24] هو { سَـاحِرٌ كَذَّابٌ } [ص : 4] فسموا السلطان المبين سحراً وكذباً { فَلَمَّا جَآءَهُم بِالْحَقِّ } [غافر : 25] بالنبوة { مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَآءَ الَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [غافر : 25] أي أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً { وَاسْتَحْيُوا نِسَآءَهُمْ } [غافر : 25] للخدمة { وَمَا كَيْدُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ } [غافر : 25] ضياع يعني أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، وكان فرعون قد كف عن قتل الولدان ، فلما بعث موسى عليه السلام وأحس بأنه قد وقع أعاده عليهم غيظاً وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى عليه السلام ، وما علم أن كيده ضائع في الكرتين جميعاً { وَقَالَ فِرْعَوْنُ } [يونس : 79] لملئه { ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } [غافر : 26] كان إذا همّ بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر أن فرعون قد استيقن أنه نبي وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر ، ولكن كان فيه خب وكان قتالاً
110
سفاكاً للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس بأنه هو الذي يهدم ملكه؟ ، ولكن كان يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك ، وقوله { وَلْيَدْعُ رَبَّهُا } [غافر : 26] شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، وكان قوله : { ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى } [غافر : 26] تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع { إِنِّى أَخَافُ } [المائدة : 28] إن لم أقتله { أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
غافر : 26] أن يغير ما أنتم عليه.
وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام { أَوْ أَن يُظْهِرَ } [غافر : 26] موسى { فِى الارْضِ الْفَسَادَ } [غافر : 26] بضم الياء ونصب الدال : مدني وبصري وحفص ، وغيرهم بفتح الياء ورفع الدال ، والأول أولى لموافقة { يُبَدِّلَ } .
والفساد في الأرض التقاتل والتهايج الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش ويهلك الناس قتلاً وضياعاً كأنه قال : إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه ، وقرأ غير أهل الكوفة { وَإِنَّ } ، ومعناه إني أخاف فساد دينكم ودنياكم معاً.
{ وَقَالَ مُوسَى } [إبراهيم : 8] لما سمع بما أجراه فرعون من حديث قتله لقومه { إِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } وفي قوله { وَرَبِّكُم } بعث لهم على أن يقتدوا به فيعوذوا بالله عياذه ، ويعتصموا بالتوكل عليه اعتصامه ، وقال { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } [غافر : 27] لتشمل استعاذته فرعون وغيره من الجبابرة ، وليكون على طريقة التعريض فيكون أبلغ ، وأراد بالتكبر الاستكبار(عن الاذعان للحق وهو أقبح استكبار ، وأدل على دناءة صاحبه وعلى فرط ظلمه ، وقال : { لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } [غافر : 27] : لأنه إذا اجتمع في الرجل التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله وعباده ، ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها ، وعذت ولذت أخوان.
بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
{ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَـانَهُ } [غافر : 28] قيل : كان قبطياً ابن
111
(4/61)
عم لفرعون آمن بموسى سراً ، و { مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [البقرة : 49] صفة لـ { رَجُلٌ } ، وقيل : كان إسرائيلياً ومن آل فرعون صلة ليكتم أي يكتم إيمانه من آل فرعون واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل أو حزبيل ، والظاهر الأول { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ } [غافر : 28] لأن يقول وهذا إنكار منه عظيم كأنه قيل : أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق؟ ، وهي قوله { رَبِّىَ اللَّهُ } [غافر : 28] وهو ربكم أيضاً لا ربه وحده { وَقَدْ جَآءَكُم } [غافر : 28] الجملة حال { بِالْبَيِّنَـاتِ مِن رَّبِّكُمْ } [غافر : 28] يعني أنه لم يحضر لتصحيح قوله ببينة واحدة ولكن ببينات من عند من نسب إليه الربوبية وهو استدراج لهم إلى الاعتراف به { وَإِن يَكُ كَـاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُا وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ } [غافر : 28] احتج عليهم بطريق التقسيم فإنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً ، فإن يك كاذباً فعليه وبال كذبه ولا يتخطاه ، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم من العذاب ، ولم يقل " كل الذي يعدكم " مع أنه وعد من نبي صادق القول مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له وليس فيه نفي إصابة الكل ، فكأنه قال لهم : أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض ما يعدكم وهو العذاب العاجل وفي ذلك هلاككم ، وكان وعدهم عذاب الدنيا والآخرة ، وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل أيضاً ، وتفسير البعض بالكل مزيف { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } [غافر : 28] مجاوز للحد { كَذَّابٌ } في ادعائه ، وهذا أيضاً من باب المجاملة ، والمعنى أنه إن كان مسرفاً كذاباً خذله الله وأهلكه فتتخلصون منه ، أو لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله بالنبوة ولما عضده بالبينات ، وقيل : أو هم أنه عنى بالمسرف موسى وهو يعني به فرعون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
{ يَـاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَـاهِرِينَ } [غافر : 29] عالين وهو حال من " كم " في { لَكُمُ } { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في أرض مصر { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا } [غافر : 29] يعني أن لكم ملك مصر ، وقد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس الله أي عذابه ، فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ولا يمنعكم منه أحد ،
112
وقال { يَنصُرُنَا } و { جَآءَنَا } لأنه منهم في القرابة ، وليعلمهم بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلا مَآ أَرَى } [غافر : 29] أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب { وَمَآ أَهْدِيكُمْ } [غافر : 29] بهذا الرأي { إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر : 29] طريق الصواب والصلاح ، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئاً ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر.
يعني أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام ، ولكنه كان يتجلد ، ولولا استشعاره لم يستشر أحداً ولم يقف الأمر على الإشارة.
(4/62)
{ وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الاحْزَابِ } [غافر : 30] أي مثل أيامهم : لأنه لما أضافه إلى الأحزاب وفسرهم بقوله { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } [غافر : 31] ولم يلتبس أن كل حزب منهم كان له يوم دمار اقتصر على الواحد من الجمع ، ودأب هؤلاء دءوبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي وكون ذلك دائباً دائماً منهم لا يفترون عنه ، ولا بد من حذف مضاف ، أي مثل جزاء دأبهم ، وانتصاب { مِثْلَ } الثاني بأنه عطف بيان لـ { مِثْلَ } الأول { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ } [غافر : 31] أي وما يريد الله أن يظلم عباده فيعذبهم بغير ذنب أو يزيد على قدر ما يستحقون من العذاب.
يعني أن تدميرهم كان عدلاً لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت : 46] (فصلت : 64) حيث جعل المنفي إرادة ظلم منكّر ومن بعد عن إرادة ظلم ما لعباده كان عن الظلم أبعد وأبعد ، وتفسير المعتزلة بأنه لا يريد لهم أن يظلموا بعيد ، لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرجل لآخر " لا أريد ظلماً لك " معناه لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويف بعذاب الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
ثم خوفهم من عذاب الآخرة بقوله { وَيَـاقَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } [غافر : 32] أي يوم القيامة.
مكي ويعقوب في الحالين وإثبات الياء هو الأصل وحذفها حسن لأن الكسرة تدل على
113
الياء وآخر هذه الآي على الدال ، وهو ما حكى الله تعالى في سورة الأعراف : { تَعْمَلُونَ * وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ } [الأعراف : 44] (الآية : 44).
{ وَنَادَى أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 50] (الأعراف : 05).
{ وَنَادَى أَصْحَـابُ الاعْرَافِ } [الأعراف : 48] (الآية : 84).
وقيل : ينادي منادٍ : ألا إن فلانا سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، ألا إن فلاناً شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [غافر : 33] منحرفين عن موقف الحساب إلى النار { مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ } من عذاب الله { مِنْ عَاصِمٍ } [يونس : 27] مانع ودافع { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد : 33] مرشد { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَـاتِ } [غافر : 34] هو يوسف بن يعقوب ، وقيل : يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نبياً عشرين سنة ، وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف إلى زمنه.
وقيل : هو فرعون آخر وبخهم بأن يوسف أتاكم من قبل موسى بالمعجزات { فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِ } [غافر : 34] فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين { حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولا } [غافر : 34] حكماً من عند أنفسكم من غير برهان.
أي أقمتم على كفركم وظننتم أنه لا يجدد عليكم إيجاب الحجة { كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } [غافر : 34] أي مثل هذا الإضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب شاك في دينه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 110
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ } [غافر : 35] بدل من { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } [غافر : 28] وجاز إبداله منه وهو جمع لأنه لا يريد مسرفاً واحداً بل كل مسرف { مَا يُجَـادِلُ فِى } [غافر : 4] في دفعها وإبطالها { بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ } [غافر : 56] حجة { أَتَـاـاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا } [غافر : 35] أي عظم بغضاً ، وفاعل
114
(4/63)
{ كِبْرٌ } ضمير { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } [غافر : 28] وهو جمع معنى وموحد لفظاً فحمل البدل على معناه والضمير الراجع إليه على لفظه ، ويجوز أن يرفع { الَّذِينَ } على الابتداء ، ولا بد في هذا الوجه من حذف مضاف يرجع إليه الضمير في { كِبْرٌ } تقديره جدال الذين يجادلون كبر مقتاً { عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُوا كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر : 35].
{ قَلْبِ } بالتنوين : أبو عمرو.
وإنما وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كما تقول : سمعت الأذن وهو كقوله : { فَإِنَّهُا ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283] (البقرة : 382) ، وإن كان الآثم هو الجملة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ } [يونس : 79] تمويهاً على قومه أو جهلاً منه { يَـاهَـامَـانُ ابْنِ لِى صَرْحًا } أي قصراً.
وقيل الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بعد ، ومنه يقال : صرح الشيء إذا ظهر { لَّعَلِّى } وبفتح الياء : حجازي وشامي وأبو عمرو { أَبْلُغُ الاسْبَـابَ } [غافر : 36] ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها وإبانة أنه يقصد أمراً عظيماً { أَسْبَـابَ السَّمَـاوَاتِ } [غافر : 37] أي طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه { فَأَطَّلِعَ } بالنصب : حفص على جواب الترجي تشبيهاً للترجي بالتمني.
وغيره بالرفع عطفاً على { أَبْلُغُ } { إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى } [القصص : 38] والمعنى فأنظر إليه { وَإِنِّى لاظُنُّهُ } [غافر : 37] أي موسى { كَـاذِبًا } في قوله له إله غيري { وَكَذَالِكَ } ومثل ذلك التزيين وذلك الصد { زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُواءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } [غافر : 37] المستقيمة.
وبفتح الصاد : كوفي ويعقوب أي غيره صداً أو هو بنفسه صدوداً.
والمزين الشيطان بوسوسته كقوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } [النمل : 24] (النمل : 42).
أو الله تعالى ، ومثله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } [النمل : 4] (النمل : 4) { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِى تَبَابٍ } [غافر : 37] خسران وهلاك.
115
{ وَقَالَ الَّذِى ءَامَنَ يَـاقَوْمِ اتَّبِعُونِ } [غافر : 38] في الحالين : مكي ويعقوب وسهل.
{ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر : 38] وهو نقيض الغي ، وفيه تعريض شبيه بالتصريح أن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي.
أجمل أولاً ، ثم فسر فافتتح بذم الدنيا وتصغير شأنها بقوله { يَـاقَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا مَتَـاعٌ } تمتع يسير ، فالإخلاد إليها أصل الشر ومنبع الفتن وثنى بتعظيم الآخرة وبين أنها هي الوطن والمستقر بقوله { وَإِنَّ الاخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ } [غافر : 39] ثم ذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف بقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوالَـائكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } [غافر : 40] { يَدْخُلُونَ } مكي وبصري ويزيد وأبو بكر ، ثم وازن بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته الجنات ، ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار بقوله { وَيَـاقَوْمِ } وبفتح الياء : حجازي وأبو عمرو { وَيَـاقَوْمِ مَا لِى } [غافر : 41] أي الجنة { وَتَدْعُونَنِى إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِى لاكْفُرَ بِاللَّهِ } هو بدل من { تَدْعُونَنِى } الأول يقال : دعاه إلى كذا ودعاه له كما يقال هداه إلى الطريق وهداه له { وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } [غافر : 42] أي بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصح أن يعلم إلهاً { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّـارِ } [غافر : 42] وهو الله سبحانه وتعالى ، وتكرير النداء لزيادة التنبيه لهم والإيقاظ عن سنة الغفلة ، وفيه أنهم قومه وأنه
116
من آل فرعون.
وجيء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ، لأن الثاني داخل على كلام هو بيان للمجمل وتفسير له بخلاف الثالث.
(4/64)
{ لا جَرَمَ } [النحل : 23] عند البصريين لا رد لما دعاه إليه قومه ، و " جرم " فعل بمعنى حق و " أن " مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته { أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدُّنْيَا وَلا فِى الاخِرَةِ } [غافر : 43] معناه أن تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط أي من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى طاعته ، وما تدعون إليه وإلى عبادته لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية ، أو معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة مستجابة ، جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة كما سمي الفعل المجازي عليه بالجزاء في قوله : " كما تدين تدان " { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ } [غافر : 43] وأن رجوعنا إليه { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ } [غافر : 43] وأن المشركين { هُمْ أَصْحَـابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } أي من النصيحة عند نزول العذاب { وَأُفَوِّضُ } وأسلم { أَمْرِى } وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو { إِلَى اللَّهِ } [غافر : 44] لأنهم توعدوه { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ } [غافر : 44] بأعمالهم ومالهم { فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا } [غافر : 45] شدائد مكرهم وما هموا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم ، وقيل : إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل فبعث قريباً من ألف في طلبه فمنهم من أكلته السباع ومن رجع منهم صلبه فرعون { وَحَاقَ } ونزل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{ فَوَقَـاـاهُ اللَّهُ سَيِّـاَاتِ مَا مَكَرُوا } بدل من { سُواءُ الْعَذَابِ } [غافر : 45] أو خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل : ما سوء العذاب؟ فقيل : هو النار ، أو مبتدأ خبره { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [الشورى : 45] وعرضهم عليها إحراقهم
117
بها يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به.
{ غُدُوًّا وَعَشِيًّا } [غافر : 46] أي في هذين الوقتين يعذبون بالنار ، وفيما بين ذلك إما أن يعذبوا بجنس آخر أو ينفس عنهم ، ويجوز أن يكون غدواً وعشياً عبارة عن الدوام هذا في الدنيا { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ } [غافر : 46] يقال لخزنة جهنم { أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ } [غافر : 46] من الإدخال : مدني وحمزة وعلي وحفص وخلف ويعقوب ، وغيرهم { أَدْخِلُوا } أي يقال لهم ادخلوا يا آل فرعون { أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر : 46] أي عذاب جهنم ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر.
{ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ } [غافر : 47] واذكر وقت تخاصمهم { فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَـاؤُا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } يعني الرؤساء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } [إبراهيم : 21] تباعاً كخدم في جمع خادم { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ } [إبراهيم : 21] دافعون { عَنَّا نَصِيبًا } [غافر : 47] جزاءً { مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } التنوين عوض من المضاف إليه أي إنا كلنا فيها لا يغني أحد عن أحد { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [غافر : 48] قضى بينهم بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار { وَقَالَ الَّذِينَ فِى النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } [غافر : 49] للقوّام بتعذيب أهلها.
وإنما لم يقل " لخزنتها " لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم " بئر جهنّام " بعيدة القعر وفيها أعتى الكفار وأطغاهم ، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا } [غافر : 49] بقدر يوم من الدنيا { مِّنَ الْعَذَابِ * قَالُوا } أي الخزنة توبيخاً لهم بعد مدة طويلة { أَوَلَمْ تَكُ } [غافر : 50] أي ولم تك قصة ، وقوله { تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم } [غافر : 50] تفسير للقصة { بِالْبَيِّنَـاتِ } بالمعجزات { قَالُوا } أي الكفار { بَلَى قَالُوا } [غافر : 50] أي الخزنة تهكماً بهم { فَادْعُوا } أنتم ولا استجابة لدعائكم { وَمَا دُعَـاؤُا الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ } بطلان وهو من قول الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة.
118
(4/65)
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَـادُ } [غافر : 51] أي في الدنيا والآخرة يعني أنه يغلبهم في الدارين جميعاً بالحجة والظفر على مخالفيهم وإن غلبوا في الدنيا في بعض الأحايين امتحاناً من الله والعاقبة لهم ، ويتيح الله من يقتص من أعدائهم ولو بعد حين.
و { يَوْمِ } نصب محمول على موضع الجار والمجرور كما تقول جئتك في أمس واليوم ، والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب يريد الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب والحفظة يشهدون على بني آدم بما عملوا من الأعمال.
{ تَقُومُ } بالتاء : الرازي عن هشام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 114
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
{ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّـالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } [غافر : 52] هذا بدل من { يَوْمَ يَقُومُ } [إبراهيم : 41] أي لا يقبل عذرهم.
{ لا يَنفَعُ } [الروم : 57] كوفي ونافع { وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ } [غافر : 52] البعد من رحمة الله { وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ } [الرعد : 25] أي سوء دار الآخرة وهو عذابها { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } [غافر : 53] يريد به جميع ما أتى به في باب الدين من المعجزات والتوراة والشرائع { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَـابَ } [غافر : 53] أي التوراة والإنجيل والزبور لأن الكتاب جنس أي تركنا الكتاب من بعد هذا إلى هذا { هُدًى وَذِكْرَى } [غافر : 54] إرشاداً وتذكرة ، وانتصابهما على المفعول له أو على الحال { لاوْلِى الالْبَـابِ } [آل عمران : 190] لذوي العقول.
{ فَاصْبِرْ } على ما يجرعك قومك من الغصص { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } [غافر : 77]
119
يعني إن ما سبق به وعدي من نصرتك وإعلاء كلمتك حق { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ } [غافر : 55] أي لذنب أمتك { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ } [غافر : 55] أي دم على عبادة ربك والثناء عليه.
وقيل : هما صلاتا العصر والفجر.
وقيل : قل سبحان الله وبحمده.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـانٍ أَتَـاـاهُمْ } [غافر : 56] لا وقف عليه لأن خبر " إن " { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ } [غافر : 56] تعظم وهو إرادة التقدم والرياسة وأن لا يكون أحد فوقهم ، فلهذا عادوك ودفعوا آياتك خيفة أن تتقدمهم ويكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة ، أو إرادة أن تكون لهم النبوة دونك حسداً وبغياً وبدل عليه قوله : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف : 11] (الأحقاف : 11) أو إرادة دفع الآيات بالجدل { مَّا هُم بِبَـالِغِيهِ } [غافر : 56] ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من الرياسة أو النبوة أو دفع الآيات { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف : 200] فالتجيء إليه من كيد من يحسدك ويبغي عليك { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لم تقول ويقولون { الْبَصِيرُ } بما تعمل ويعملون فهو ناصرك عليهم وعاصمك من شرهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
{ لَخَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57] لما كانت مجادلتهم في آيات الله مشتملة على إنكار البعث ، وهو أصل المجادلة ومدارها حجوا بخلق السماوات الأرض لأنهم كانوا مقرين بأن الله خالقها فإن من قدر على خلقها مع عظمها كان على خلق الإنسان مع مهانته أقدر.
{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] لأنهم لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم.
{ وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُ } [غافر : 58] " لا " زائدة { قَلِيلا مَّا تَتَذَكَّرُونَ } [غافر : 58] تتعظون بتاءين : كوفي ، وبياء وتاء : غيرهم ، و { قَلِيلا } صفة مصدر محذوف أي تذكراً قليلاً يتذكرون و " ما " صلة زائدة.
120
(4/66)
{ إِنَّ السَّاعَةَ لاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا } [غافر : 59] لا بد من مجيئها وليس بمرتاب فيها لأنه لا بد من جزاء لئلا يكون خلق الخلق للفناء خاصة { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } [هود : 17] لا يصدقون بها { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى } [غافر : 60] اعبدوني { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر : 60] أثبكم فالدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن ويدل عليه قوله { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } [غافر : 60] وقال عليه السلام : " الدعاء هو العبادة " وقرأ هذه الآية صلى الله عليه وسلّم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وحدوني أغفر لكم وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد.
وقيل : سلوني أعطكم { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ } [غافر : 60] { سَيَدْخُلُونَ } مكي وأبو عمرو.
{ دَاخِرِينَ } صاغرين.
{ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } [غافر : 61] هو من الإسناد المجازي أي مبصراً فيه لأن الإبصار في الحقيقة لأهل النهار.
وقرن { الَّيْلَ } بالمفعول له و { النَّهَارَ } بالحال ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما رعاية لحق المقابلة لأنهما متقابلان معنى ، لأن كل واحد منهما يؤدي مؤدي الآخر ، ولأنه لو قيل لتبصروا فيه فاتت الفصاحة التي في الإسناد المجازي ، ولو قيل ساكناً لم تتميز الحقيقة من المجاز إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم ليل ساجٍ أي ساكن لا ريح فيه { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } [البقرة : 243] ولم يقل لمفضل أو لمتفضل لأن المراد تنكير الفضل وأن يجعل فضلاً لا يوازيه فضل وذلك إنما يكون بالإضافة { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [البقرة : 243] ولم يقل " ولكن أكثرهم " حتى لا يتكرر ذكر الناس لأن في هذا التكرير تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله ولا
121
يشكرونه كقوله : { إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ } [الحج : 66] (الحج : 66).
وقوله : { إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 34] (إبراهيم : 43).
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
{ ذَالِكُمُ } الذي خلق لكم الليل والنهار { اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [غافر : 62] أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الربوبية والإلهية وخلق كل شيء والوحدانية { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [الأنعام : 95] فكيف ومن أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟ { كَذَالِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [غافر : 63] أي كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يطلب الحق أفك كما أفكوا.
{ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ قَرَارًا } [غافر : 64] مستقراً { وَالسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة : 22] سقفاً فوقكم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [التغابن : 3] قيل : لم يخلق حيواناً أحسن صورة من الإنسان.
وقيل : لم يخلقهم منكوسين كالبهائم { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } [النحل : 72] اللذيذات { ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَـالَمِينَ * هُوَ الْحَىُّ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ فَـادْعُوهُ } فاعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر : 65] أي الطاعة من الشرك والرياء قائلين { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الفاتحة : 2] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين.
ولما طلب الكفار منه عليه السلام عبادة الأوثان نزل { قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِىَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّى } [غافر : 66] هي القرآن وقيل العقل والوحي { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ } [غافر : 66] أستقيم وأنقاد { لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 131].
122
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم } [التغابن : 2] أي أصلكم { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا } [غافر : 67] اقتصر على الواحد لأن المراد بيان الجنس
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
(4/67)
{ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } [غافر : 67] متعلق بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك { ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا } [غافر : 67] وبكسر الشين : مكي وحمزة وعلي وحماد ويحيى والأعشى { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ } [غافر : 67] أي من قبل بلوغ الأشد أو من قبل الشيوخة { وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُّسَمًّى } [غافر : 67] معناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت أو يوم القيامة { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [غافر : 67] ما في ذلك من العبر والحجج { هُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي فإنما يكوّنه سريعاً من غير كلفة.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } [غافر : 69] ذكر الجدال في هذه السورة في ثلاثة مواضع فجاز أن يكون في ثلاثة أقوام أو ثلاثة أصناف أو للتأكيد { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَـابِ } [غافر : 70] بالقرآن { وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } [غافر : 70] من الكتاب { إِذِ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَـاقِهِمْ } " إذا " ظرف زمان ماضٍ والمراد به هنا الاستقبال كقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3] وهذا لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد ، والمعنى على الاستقبال { وَالسَّلَـاسِلُ } عطف على { الاغْلَـالُ } والخبر { فِى أَعْنَـاقِهِمْ } [يس : 8] والمعنى إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم { يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ } يجرون في الماء الحار { ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ } [غافر : 72] من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم
123
وهم مسجورون بالنار مملوءة بها أجوافهم { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ } [غافر : 73] أي تقول لهم الخزنة { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ } [غافر : 73].
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
{ مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] يعني الأصنام التي تعبدونها { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } [غافر : 74] غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا ننتفع بهم { بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُوا مِن قَبْلُ شَيْئًا } [غافر : 74] أي تبين لنا أنهم لم يكونوا شيئاً وما كنا نعبد بعبادتهم شيئاً كما تقول : حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء إذا خبرته فلم تر عنده خيراً.
{ كَذَالِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَـافِرِينَ } [غافر : 74] مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلون عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا ، أو كما أضل هؤلاء المجادلين يضل سائر الكافرين الذين علم منهم اختيار الضلالة على الدين { ذَالِكُمُ } العذاب الذي نزل بكم { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [غافر : 75] بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان فيقال لهم { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } [الزمر : 72] السبعة المقسومة لكم.
قال الله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر : 44] (الحجر : 44).
{ خَـالِدِينَ فِيهَا } [الجن : 23] مقدرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر : 72] عن الحق جهنم { فَاصْبِرْ } يا محمد { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [غافر : 77] بإهلاك الكفار { حَقٌّ } كائن { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } [غافر : 77] أصله فإن نريك و " ما " مزيدة لتوكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل ، ألا تراك لا تقول إن تكرمني أكرمك ولكن إما تكرمني أكرمك { بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [غافر : 77] هذا الجزاء متعلق بـ { نَتَوَفَّيَنَّكَ } وجزاء { نُرِيَنَّكَ } محذوف وتقديره وإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب وهو القتل يوم بدر فذاك ، أو إن نتوفينك قبل يوم بدر فإلينا يرجعون يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام.
124
جزء : 4 رقم الصفحة : 119
(4/68)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ } [الرعد : 38] إلى أممهم { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [غافر : 78] قيل : بعث الله ثمانية آلاف نبي : أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس.
وعن علي رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث نبياً أسود فهو ممن لم تذكر قصته في القرآن { اللَّهِ } وهذا جواب اقتراحهم الآيات عناداً يعني إنا قد أرسلنا كثيراً من الرسل وما كان لواحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله فمن أين لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إلا أن يشاء الله ويأذن في الإتيان بها؟ { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ } [غافر : 78] أي يوم القيامة وهو وعيد ورد عقيب اقتراحهم الآيات { قُضِىَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } [غافر : 78] المعاندون الذين اقترحوا الآيات عناداً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 125
{ اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ } [غافر : 64] خلق { لَكُمُ الانْعَـامَ } [الحج : 30] الإبل { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [غافر : 79] أي لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ } [المؤمنون : 21] أي الألبان والأوبار { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } [غافر : 80] أي لتبلغوا عليها ما تحتاجون إليه من الأمور { وَعَلَيْهَا } وعلى الأنعام { وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [المؤمنون : 22] أي على الأنعام وحدها لا تحملون ولكن عليها وعلى الفلك في البر والبحر { وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ فَأَىَّ ءَايَـاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ } [غافر : 81] أنها من عند الله.
و { أَيُّ } نصب ـ { تُنكِرُونَ } وقد جاءت على اللغة المستفيضة.
وقولك " فأية آيات الله " قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في " أي " أغرب لإبهامه
125
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ } [غافر : 82] عدداً { وَأَشَدَّ قُوَّةً } [غافر : 82] بدناً { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِى } [غافر : 21] قصوراً ومصانع.
{ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم } [الأحقاف : 26] " ما " نافية { مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم } يريد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال { يَعْلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاخِرَةِ هُمْ غَـافِلُونَ } [الروم : 7] (الروم : 7) فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات ، لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزءوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به ، أو علم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم.
وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام وقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا ، أو المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به كأنه قال : استهزءوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين مرحين ، ويدل عليه قوله { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [هود : 8] أو الفرح للرسل أي الرسل لما رأوا جهلهم واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم.
{ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [غافر : 84] شدة عذابنا { قَالُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } أي فلم يصح ولم يستقم أن
126
(4/69)
ينفعهم إيمانهم { سُنَّتَ اللَّهِ } بمنزلة وعد الله ونحوه من المصادر المؤكدة { الَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } [غافر : 85] أن الإيمان عند نزول العذاب لا ينفع وأن العذاب نازل بمكذبي الرسل { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـافِرُونَ } [غافر : 85] هنالك مكان مستعار للزمان والكافرون خاسرون في كل أوان ، ولكن يتبين خسرانهم إذا عاينوا العذاب ، وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات أن { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم } [الأحقاف : 26] نتيجة قوله { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ } [غافر : 82] و { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } [غافر : 83] كالبيان والتفسير لقوله { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم } [الأحقاف : 26] كقولك رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء ، { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [غافر : 84] تابع لقوله { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ } [النمل : 13] كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا ، وكذلك { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ } [غافر : 85] تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله.
127
سورة فصلت
مكية وهي ثلاث وخمسون آية
{ حم } إن جعلته اسماً للسورة كان مبتدأ { تَنزِيلٌ } خبره ، وإن جعلته تعديداً للحروف كان { تَنزِيلٌ } خبراً لمبتدأ محذوف و { كِتَـابٌ } بدل من { تَنزِيلٌ } أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف أو { تَنزِيلٌ } مبتدأ { مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ } [فصلت : 2] صفته { كِتَـابٌ } خبره { فُصِّلَتْ ءَايَـاتُهُا } [فصلت : 44] ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفة من أحكام وأمثال ومواعظ ووعد ووعيد وغير ذلك { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا } [الزمر : 28] نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت ، أو على الحال أي فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] أي لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي.
و { لِّقَوْمٍ } يتعلق بـ { تَنزِيلٌ } أو بـ { فُصِّلَتْ } أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لهم ، والأظهر أن يكون صفته مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب { بَشِيرًا وَنَذِيرًا } [فصلت : 4] صفتان لـ { قُرْءَانًا } { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } [فصلت : 4] أي لا
128
يقبلون من قولك " تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي " ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } [فصلت : 5] أغطية جمع كنان وهو الغطاء { مِمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ } [هود : 62] من التوحيد { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى } [فصلت : 5] ثقل يمنع من استماع قولك { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [فصلت : 5] ستر.
وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن تقبل الحق واعتقاده كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ومج إسماعهم له كأنه بها صمماً عنه ، ولتباعد المذهبين والدينين كأن بينهم وماهم عليه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما هو عليه حجاباً ساتراً وحاجزاً منيعاً من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي { فَاعْمَلْ } على دينك { إِنَّنَا عَـامِلُونَ } [فصلت : 5] على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.
وفائدة زيادة " من " أن الحجاب ابتداء منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، ولو قيل بينا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين.(4/70)
{ قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [الكهف : 110] هذا جواب لقولهم { قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } [فصلت : 5] ووجهه أنه قال لهم : إني لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إلي دونكم فصحت نبوتي بالوحي إليّ وأنا بشر ، وإذا صحت نبوتي وجب عليكم اتباعي وفيما يوحى إليّ أن إلهكم إله واحد { فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ } [فصلت : 6] فاستووا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة غير ذاهبين يميناً ولا شمالاً ولا ملتفتين إلى ما يسول لكم الشيطان من اتخاذ الأولياء والشفعاء { وَاسْتَغْفِرُوهُ } من الشرك { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزكاة } لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يعطونها أو لا يفعلون ما يكونون به أزكياء وهو الإيمان { وَهُم بِالاخِرَةِ } [الأعراف : 45] بالبعث والثواب والعقاب { هُمْ كَـافِرُونَ } [هود : 19] وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته وصدق نيته ونصوع طويته ، وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا
129
فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وما ارتدت بنو حنيفة إلا بمنع الزكاة ، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا } [مريم : 96] مقطوع.
قيل : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
{ قُلْ أَاـاِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ } الأحد والاثنين تعليماً للأناة ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل { وَتَجْعَلُونَ لَهُا أَندَادًا } [فصلت : 9] شركاء وأشباهاً { ذَالِكَ } الذي خلق ما سبق { رَبُّ الْعَـالَمِينَ } [الفاتحة : 2] خالق جميع الموجودات وسيدها ومربيها { وَجَعَلَ فِيهَا } [فصلت : 10] في الأرض { رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت { مِن فَوْقِهَا } [الزمر : 20] إنما اختار إرساءها فوق الأرض لتكون منافع الجبال ظاهرة لطالبيها ، وليبصر أن الأرض والجبال أثقال على أثقال كلها مفتقرة إلى ممسك وهو الله عز وجل { وَبَـارَكَ } بالماء والزرع والشجر والثمر { فِيهَا } وفي الأرض.
وقيل : وبارك فيها وأكثر خيرها { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [فصلت : 10] أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم ، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } [فصلت : 10] في تتمة أربعة أيام يريد بالتتمة اليومين تقول : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة وإلى الكوفة في خمسة عشر أي تتمة خمسة عشر ولا بد من هذا التقدير ، لأنه لو أجرى على الظاهر لكانت ثمانية أيام لأنه قال { خَلَقَ الارْضَ فِى يَوْمَيْنِ } [فصلت : 9] ثم قال { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } [فصلت : 10] ثم قال { فَقَضَـاـاهُنَّ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ } فيكون خلاف قوله { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف : 54] (ق : 83) في موضع آخر ، وفي الحديث : " إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ،
130
وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة " .
قيل : هي الساعة التي تقوم فيها القيامة { سَوَآءً } ـ { سَوَآءً } : ـ يعقوب صفة للأيام أي في أربعة أيام مستويات تامات ، { سَوَآءً } بالرفع : يزيد أي هي سواء ، غيرهما { سَوَآءً } على المصدر أي استوت سواء أي استواء أو على الحال { لِّلسَّآ ـاِلِينَ } متعلق بـ { قُدِرَ } أي قدر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلاً يطلب القوت ويسأله ، أو بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 128
(4/71)
{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلارْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ـاِعِينَ } [فصلت : 11] هو مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا.
ثم استوى إلى عمل كذا يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، ويفهم منه أن خلق السماء كان بعد خلق الأرض وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما ، وعنه أنه قال : أول ما خلق الله تعالى جوهرة طولها وعرضها مسيرة ألف سنة في مسيرة عشرة آلاف سنة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ، ثم ثار منها دخان بتسليط النار عليها فارتفع واجتمع زبد فقام فوق الماء فجعل الزبد أرضاً والدخان سماء.
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد أن يكونهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما ، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع.
وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان ـ والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين ـ لأنه قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة ثم دحاها بعد خلق السماء كما قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
{ وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ } [النازعات : 30] (النازعات : 03) فالمعنى أن ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك وائتي يا سماء مقبية سقفاً لهم.
ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما تقول أتى عمله مرضياً ، وقوله
131
{ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } [فصلت : 11] لبيان تأثير قدرته فيهما وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال كما تقول لمن تحت يدك.
لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً.
وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين.
وإنما لم يقل طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون لأنهن لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره.
قيل : طائعين في موضع طائعات كقوله { سَـاجِدِينَ } (يوسف : 4).
{ فَقَضَـاـاهُنَّ } فأحكم خلقهن.
قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما
والضمير يرجع إلى السماء لأن السماء للجنس ، ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسراً بقوله { سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [نوح : 15].
والفرق بين النصبين في { سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [البقرة : 29] أن الأول على الحال والثاني على التمييز { فِى يَوْمَيْنِ } [البقرة : 203] في يوم الخميس والجمعة { وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [فصلت : 12] ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيران وغير ذلك { وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا } [فصلت : 12] القريبة من الأرض { بِمَصَـابِيحَ } بكواكب { وَحِفْظًا } وحفظناها من المسترقة بالكواكب حفظاً { ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } [الأنعام : 96] الغالب غير المغلوب { الْعَلِيمِ } بمواقع الأمور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
{ فَإِنْ أَعْرَضُوا } [فصلت : 13] عن الإيمان بعد هذا البيان { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } [فصلت : 13] خوفتكم { صَـاعِقَةُ } عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة وأصلها رعد معه نار { مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي أتوهم من كل جانب وعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا الإعراض.
وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة { ءَانٍ } بمعنى " أي " أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه { لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي القوم { لَوْ شَآءَ رَبُّنَا } [فصلت : 14] إرسال الرسل فمفعول { شَآءَ } محذوف { لانزَلَ مَلَـائكَةً فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ كَـافِرُونَ } [فصلت : 14] معناه فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فإنا لا نؤمن بكم وبما جئتم به ، وقوله { أُرْسِلْتُم بِهِ } [سبأ : 34] ليس بإقرار بالإرسال وإنما
132
(4/72)
هو على كلام الرسل وفيه تهكم كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء : 27] (الشعراء : 72) وقولهم : { فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ كَـافِرُونَ } [فصلت : 14].
خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء الذين دعوا إلى الإيمان بهم.
روي أن قريشاً بعثوا عتبة بن ربيعة ـ وكان أحسنهم حديثاً ـ ليكلم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينظر ما يريد ، فأتاه وهو في الحطيم فلم يسأل شيئاً إلا أجابه ثم قرأ عليه السلام السورة إلى قوله { مِّثْلَ صَـاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت : 13] فناشده بالرحم وأمسك على فيه ووثب مخافة أن يصب عليهم العذاب فأخبرهم به وقال : لقد عرفت السحر والشعر فوالله ما هو بساحر ولا بشاعر فقالوا : لقد صبأت أما فهمت منه كلمة؟ فقال : لا ولم أهتد إلى جوابه.
فقال عثمان بن مظعون : ذلك والله لتعلموا أنه من رب العالمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
ثم بين ما ذكر من صاعقة عاد وثمود فقال { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [فصلت : 15] أي تعظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم وهو القوة وعظم الأجرام ، أو استولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [فصلت : 15] كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم ، وبلغ قوتهم أن الرجل كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده { أَوَلَمْ يَرَوْا } [الإسراء : 99] أولم يعلموا علماً يقوم مقام العيان { أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت : 15] أوسع منهم قدرة لأنه قادر على كل شيء وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره { وَكَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ } [فصلت : 15] معطوف على { فَاسْتَكْبَرُوا } أي كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } [فصلت : 16] عاصفة تصرصر أي تصوت في هبوبها من الصرير ، أو باردة تحرق بشدة بردها تكرير لبناء الصر وهو البرد قيل إنها الدبور
133
{ فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [فصلت : 16] مشئؤومات عليهم.
{ نَّحِسَاتٍ } مكي وبصري ونافع.
ونحس نحساً نقيض سعد سعداً وهو نحس ، وأما نحس فإما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر وكانت من الأربعاء في آخر شوال إلى الأربعاء ، وما عذب قوم إلا في الأربعاء.
{ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [فصلت : 16] أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل على أنه وصف للعذاب كأنه قال عذاب خزي كما تقول فعل السوء تريد الفعل السيء ، ويدل عليه قوله { وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَخْزَى } [فصلت : 16] وهو من الإسناد المجازي ، ووصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به فشتان ما بين قوليك " هو شاعر " و " له شعر شاعر " .
{ وَهُمْ لا يُنصَرُونَ } [فصلت : 16] من الأصنام التي عبدوها على رجاء النصر لهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 131
{ وَأَمَّا ثَمُودُ } [فصلت : 17] بالرفع على الابتداء وهو الفصيح لوقوعه بعد حرف الابتداء والخبر { فَهَدَيْنَـاهُمْ } وبالنصب المفضّل بإضمار فعل يفسره { فَهَدَيْنَـاهُمْ } أي بينا لهم الرشد { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت : 17] فاختاروا الكفر على الإيمان { فَأَخَذَتْهُمْ صَـاعِقَةُ الْعَذَابِ } [فصلت : 17] داهية العذاب { الْهُونِ } الهوان وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
(4/73)
{ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } بكسبهم وهو شركهم ومعاصيهم ، وقال الشيخ أبو منصور : يحتمل ما ذكر من الهداية التبيين كما بينا ، ويحتمل خلق الاهتداء فيهم فصاروا مهتدين ثم كفروا بعد ذلك وعقروا الناقة ، لأن الهدى المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان والتوفيق وخلق فعل الاهتداء ، فأما الهدى المضاف إلى الخلق يكون بمعنى البيان لا غير.
وقال صاحب الكشاف فيه : فإن قلت : أليس معنى قولك هديته جعلت فيه الهدى والدليل عليه قولك هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول : ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت : للدلالة على أنه مكنهم فأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها وإنما تمحل بهذا لأنه لا يتمكن من أن يفسره بخلق الاهتداء لأنه يخالف مذهبه الفاسد { وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [فصلت : 18] أي اختاروا الهدى على العمى من تلك الصاعقة { وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس : 63] اختيار العمى على الهدى.
134
{ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ } [فصلت : 19] أي الكفار من الأولين والآخرين.
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا } نافع ويعقوب { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [النمل : 17] يحبس أولهم على آخرهم أي يستوقف سوابهم حتى يلحق بهم تواليهم ، وهي عبارة عن كثرة أهل النار وأصله من وزعته أي كففته { حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا } [فصلت : 20] صاروا بحضرتها و " ما " مزيدة للتأكيد ومعنى التأكيد أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم ولا وجه لأن يخلو منها { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [فصلت : 20] شهادة الجلود بملامسة الحرام وقيل : وهي كناية عن الفروج { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [فصلت : 21] لما تعاظمهم من شهادتها عليهم { قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍ } [فصلت : 21] من الحيوان والمعنى أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [فصلت : 21] وهو قادر على إنشائكم أول مرة وعلى إعادتكم ورجوعكم إلى جزائه { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَـارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } [فصلت : 22] أي أنكم كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش ، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن يشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلاً { وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت : 22] ولكنكم إنما استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
{ وَذَالِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاـاكُمْ } [فصلت : 23] وذلك الظن هو الذي
135
(4/74)
أهلككم ، و { ذالِكُمْ } مبتدأ و { ظَنُّكُمُ } خبر و { الَّذِى ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ } [فصلت : 23] صفته و { أَرْدَاـاكُمْ } خبر ثانٍ أو { ظَنُّكُمُ } بدل من { ذالِكُمْ } و { أَرْدَاـاكُمْ } الخبر { فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار { وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } [فصلت : 24] وإن يطلبوا الرضا فما هم من المرضيّين ، أو إن يسألوا العتبى ـ وهي الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعاً مما هم فيه ـ لم يعتبوا لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ } [فصلت : 25] أي قدرنا لمشركي مكة ، يقال : هذان ثوبان قيضان أي مثلان والمقايضة المعاوضة ، وقيل : سلطنا عليهم { قُرَنَآءَ } أخداناً من الشياطين جمع قرين كقوله { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف : 36] (الزخرف : 63) { فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [فصلت : 25] أي ما تقدم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا واتباع الشهوات وما خلفهم من أمر العاقبة وأن لا بعث ولا حساب { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } [فصلت : 25] كلمة العذاب { فِى أُمَمٍ } [الأعراف : 38] في جملة أمم ومحله النصب على الحال من الضمير في { عَلَيْهِمُ } أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم } [فصلت : 25] قبل أهل مكة { مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ } [فصلت : 25] هو تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَـاذَا الْقُرْءَانِ } [فصلت : 26] إذًّا قريء { وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت : 26] وعارضوه بكلام غير مفهوم حتى تشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا } [فصلت : 27] يجوز أن يريد بالذين كفروا هؤلاء
136
اللاغين والآمرين لهم باللغو خاصة ، ولكن يذكر الذين كفروا عامة لينطووا تحت ذكرهم { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ } [فصلت : 27] أي أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم وهو الكفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
{ ذَالِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ } [فصلت : 28] ذلك إشارة إلى الأسوأ ويجب أن يكون التقدير أسوأ جزاء الذي كانوا يعملون حتى تستقيم هذه الإشارة { النَّارِ } عطف بيان للجزاء أو خبر مبتدأ محذوف { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ } [فصلت : 28] أي النار في نفسها دار الخلد كما تقول : لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها { جَزَآءُ } أي جوزوا بذلك جزاء { أَرِنَا } وبسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ : مكي وشامي وأبو بكر.
وبالاختلاس : أبوعمرو { الَّذَيْنِ أَضَلانَا } [فصلت : 29] أي الشيطانين اللذين أضلانا { مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } [فصلت : 25] لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي ، قال تعالى : { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام : 112] { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الاسْفَلِينَ } [فصلت : 29] في النار جزاء إضلالهم إيانا.
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [فصلت : 30] أي نطقوا بالتوحيد { ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } [فصلت : 30] ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضيانه ، وعن الصديق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً كما استقاموا قولاً : وعنه أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا.
قال : حملتم الأمر على أشده.
قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان.
وعن عمر رضي الله عنه : لم يروغوا روغان الثعالب أي لم ينافقوا.
وعن عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل.
وعن علي رضي الله عنه : أدوا الفرائض.
وعن الفضيل :
137
(4/75)
زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقيل : حقيقة الاستقامة القرار بعد الإقرار لا الفرار بعد الإقرار { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَـائكَةُ } [فصلت : 30] عند الموت { إِلا } بمعنى " أي " أو مخففة من الثقيلة وأصله بأنه { تَخَافُوا } والهاء ضمير الشأن أي لا تخافوا ما تقدمون عليه { وَلا تَحْزَنُوا } [فصلت : 30] على ما خلفتهم فالخوف غم يلحق الإنسان لتوقع المكروه ، والحزن غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار والمعنى أن الله كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه { وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت : 30] في الدنيا ، وقال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمن عند مفارقة الأرواح الأبدان أن لا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان التي كنتم توعدون في سالف الزمان { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاخِرَةِ } [فصلت : 31] كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } [فصلت : 31] من النعيم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } [فصلت : 31] تتمنون { نُزُلا } هو رزق نزيل وهو الضيف وانتصابه على الحال من الهاء المحذوفة أو من " ما " { مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } [فصلت : 32] نعت له.
جزء : 4 رقم الصفحة : 134
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ } [فصلت : 33] إلى عبادته هو رسول الله دعا إلى التوحيد { وَعَمِلَ صَـالِحًا } [طه : 82] خالصاً { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت : 33] تفاخراً بالإسلام ومعتقداً له ، أو أصحابه عليه السلام ، أو المؤذنون ، أو جميع الهداة والدعاة إلى الله.
138
{ وَلا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [فصلت : 34] يعني أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك كما لو أساء إليك رجل إساءة ، فالحسنة أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك مثل أن يذمك فتمدحه أو يقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه { فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } [فصلت : 34] فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك.
ثم قال { وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ } [فصلت : 35] أي وما يلقي هذه الخصلة التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } [هود : 11] إلا أهل الصبر { وَمَا يُلَقَّـاـاهَآ إِلا ذُو حَظِّ عَظِيمٍ } [فصلت : 35] إلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير.
وإنما لم يقل " فادفع بالتي هي أحسن " لأنه على تقدير قائل قال : فكيف أصنع؟ فقيل : { ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [المؤمنون : 96] وقيل : " لا " مزيدة للتأكيد والمعنى : لا تستوي الحسنة والسيئة ، وكان القياس على هذا التفسير أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة ، ولكن وضع { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [الإسراء : 53] موضع " الحسنة " ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة ، لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : بالتي هي أحسن : الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة وفسر الحظ بالثواب ، وعن الحسن : والله ما عظم حظ دون الجنة ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلّم فصار ولياً مصافياً { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ } [الأعراف : 200] النزغ شبه النخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه يبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل جد جده ، أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو لتسويله ، والمعنى وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف : 200] من شره وامض على حلمك ولا تطعه { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لاستعاذتك { الْعَلِيمِ } بنزغ الشيطان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{ وَمِنْ ءَايَـاتِهِ } [الروم : 25] الدالة على وحدانيته { وَسَخَّرَ لَكُمُ } [إبراهيم : 33] في تعاقبهما على
(4/76)
139
حد معلوم وتناوبهما على قدر مقسوم { وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [الأنعام : 96] في اختصاصهما بسير مقدور ونور مقرر { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ } [فصلت : 37] فإنهما مخلوقان وإن كثرت منافعهما { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [فصلت : 37] الضمير في { خَلَقَهُنَّ } للآيات أو الليل والنهار والشمس والقمر ، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهن ، ولعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى ، فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً إن كانوا إياه يعبدون وكانوا موحدين غير مشركين ، فإن من عبد مع الله غيره لا يكون عابداً لله.
{ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } [فصلت : 38] أي الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْـاَمُونَ } [فصلت : 38] لا يملون.
والمعنى فإن استكبروا ولم يمتثلوا ما أمروا به وأبوا إلا الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله خالصاً ، فدعهم وشأنهم فإن الله تعالى لا يعدم عابد ساجد بالإخلاص وله العباد المقربون الذين ينزهونه بالليل والنهار عن الأنداد.
و { عِندَ رَبِّكَ } [الكهف : 46]عبارة عن الزلفى والمكانة والكرامة.
وموضع السجدة عندنا { لا يَسْـاَمُونَ } [فصلت : 38] وعند الشافعي رحمه الله عند { تَعْبُدُونَ } والأول أحوط.
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{ وَمِنْ ءَايَـاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الارْضَ خَـاشِعَةً } [فصلت : 39] يابسة مغبرة والخشوع التذلل فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ } [الحج : 5] المطر { اهْتَزَّتْ } تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } انتفخت { إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى ا إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فيكون قادراً على البعث ضرورة { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا } [فصلت : 40] يميلون عن الحق في أدلتنا بالطعن ، يقال :
140
ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق فاستعير لحال الأرض إذا كانت ملحودة ، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة.
{ يُلْحِدُونَ } حمزة { لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } [فصلت : 40] وعيد لهم على التحريف { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى ءَايَـاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يُلْقَى فِى } [فصلت : 40] هذا تمثيل للكافر والمؤمن { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } [فصلت : 40] هذا نهاية في التهديد ومبالغة في الوعيد { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود : 112] فيجازيكم عليه { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ } [فصلت : 41] بالقرآن لأنهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا تأويله { لَمَّا جَآءَهُمْ } [سبأ : 43] حين جاءهم.
وخبر " إن " محذوف أي يعذبون أو هالكون أو { أُوالَـائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَان بَعِيدٍ } [فصلت : 44] وما بينهما اعتراض { وَإِنَّهُ لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ } [فصلت : 41] أي منيع محمي بحماية الله { لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ } [فصلت : 42] التبديل أو التناقض { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت : 42] أي بوجه من الوجوه { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] مستحق للحمد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
(4/77)
{ مَّا يُقَالُ لَكَ } [فصلت : 43] ما يقول لك كفار قومك { إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [فصلت : 43] إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } [فصلت : 43] ورحمة لأنبيائه { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت : 43] لأعدائهم ، ويجوز أن يكون ما يقول لك الله إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والمقول هو قوله { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت : 43].
{ وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ } [فصلت : 44] أي الذكر { قُرْءَانًا أعْجَمِيًّا } [فصلت : 44] أي بلغة العجم كانوا لتعنتهم يقولون : هلا نزل القرآن بلغة العجم فقيل في جوابهم : لو كان كما يقترحون { لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُهُا } [فصلت : 44] أي بينت بلسان العرب حتى نفهمها تعنتاً { أَعْجَمِىٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ } بهمزتين كوفي غير حفص ، والهمزة للإنكار يعني لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي
141
ورسول عربي أو مرسل إليه عربي.
الباقون بهمزة واحدة ممدودة مستفهمة.
والأعجمي الذي لا يفصح ولا يفهم كلامه سواء كان من العجم أو العرب ، والعجمي منسوب إلى أمة العجم فصيحاً كان أو غير فصيح ، والمعنى أن آيات الله على أي طريقة جاءتهم وجدوا فيها متعنتاً لأنهم غير طالبين للحق وإنما يتبعون أهواءهم ، وفيه إشارة إلى أنه لو أنزله بلسان العجم لكان قرآناً فيكون دليلاً لأبي حنيفة رضي الله عنه في جواز الصلاة إذا قرأ بالفارسية.
{ قُلْ هُوَ } [البقرة : 222] أي القرآن { هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [فصلت : 44] إرشاد إلى الحق { وَشِفَآءٌ } لما في الصدور من الشك إذ الشك مرض { وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ } [فصلت : 44] في موضع الجر لكونه معطوفاً على { الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] أي هو للذين آمنوا هدى وشفاء ، وهو للذين لا يؤمنون في آذانهم وقر أي صمم إلا أن فيه عطفاً على عاملين وهو جائز عند الأخفش ، أو الرفع وتقديره والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ أو في آذانهم منه وقر
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{ وَهُوَ } أي القرآن { عَلَيْهِمْ عَمًى } [فصلت : 44] ظلمة وشبهة { أُوالَـائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَان بَعِيدٍ } [فصلت : 44] يعني أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم كأنهم ينادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون لبعد المسافة.
وقيل : ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } [هود : 110] فقال بعضهم : هو حق.
وقال بعضهم : هو باطل كما اختلف قومك في كتابك { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } [يونس : 19] بتأخير العذاب { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 19] لأهلكهم إهلاك استئصال.
وقيل : الكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وأن الخصومات تفصل في ذلك اليوم ولولا ذلك لقضي بينهم في الدنيا وإنّهم } وإن الكفار { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [هود : 110] موقع في الريبة { مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِهِ } [فصلت : 46] فنفسه نفع { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [الجاثية : 15] فنفسه ضر { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت : 46] فيعذب غير المسيء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 138
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } [فصلت : 47] أي علم قيامها يرد إليه أي يجب على
142
(4/78)
المسؤول أن يقول الله يعلم ذلك { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ } [فصلت : 47] مدني وشامي وحفص وغيرهم بغير ألف { مِّنْ أَكْمَامِهَا } [فصلت : 47] أوعيتها قبل أن تنشق جمع " كم " { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى } [فاطر : 11] حملها { وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ } [فاطر : 11] أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع إلا وهو عالم به ، يعلم عدد أيام الحمل وساعاته وأحواله من الخداج والتمام والذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآءِى } [فصلت : 47] أضافهم إلى نفسه على زعمهم وبيانه في قوله { أَيْنَ شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـاقُّونَ } وفيه تهكم وتقريع { قَالُوا ءَاذَنَّـاكَ } [فصلت : 47] أعلمناك وقيل أخبرناك وهو الأظهر إذ الله تعالى كان عالماً بذلك وإعلام العالم محال ، أما الإخبار للعالم بالشيء فيتحقق بما علم به إلا أن يكون المعنى إنك علمت من قلوبنا الآن إنا لنشهد تلك الشهادة الباطلة ، لأنه إذا علمه من نفوسهم فكأنه أعلموه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
{ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } [فصلت : 47] أي ما منا أحد اليوم يشهد بأن لك شريكاً وما منا إلا من هو موحد لك ، أو مامنا من أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ.
وقيل : هو كلام الشركاء أي ما منا من شهيد يشهد بما أضافوا إلينا من الشركة { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ } [فصلت : 48] يعبدون { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] في الدنيا { وَظَنُّوا } وأيقنوا { مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ } [فصلت : 48] مهرب.
{ لا يَسْـاَمُ } [فصلت : 49] لا يمل { الانسَـانِ } الكافر بدليل قوله { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآ ـاِمَةً } [الكهف : 36] { مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ } [فصلت : 49] من طلب السعة في المال والنعمة والتقدير من دعائه الخير فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ } [فصلت : 49] الفقر { فَيَئُوسٌ } من الخير { قَنُوطٌ } من الرحمة بولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فعول ، ومن طريق التكرير.
والقنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر أي يقطع الرجاء من فضل الله وروحه وهذا صفة الكافر بدليل قوله تعالى
143
{ يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن } [يوسف : 87] (يوسف : 78) { وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِى } [فصلت : 50] وإذا فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق قال هذا لي أي هذا حقي وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير وفضل وأعمال بر ، أو هذا لي لا يزول عني { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآ ـاِمَةً } [الكهف : 36] أي ما أظنها تكون قائمة { وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى } [فصلت : 50] كما يقول المسلمون { إِنَّ لِى عِندَهُ } [فصلت : 50] عند الله { لَلْحُسْنَى } أي الجنة أو الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا } [فصلت : 50] فلنخبرنهم بحقيقة ما علموا من الأعمال الموجبة للعذاب { وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت : 50] شديد لا يفتر عنهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 142
(4/79)
{ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ أَعْرَضَ } [الإسراء : 83] هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمة أبطرته النعمة فنسي المنعم وأعرض عن شكره { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا } وتباعد عن ذكرالله ودعائه أو ذهب بنفسه وتكبر وتعظم ، وتحقيقه أن يوضع جانبه موضع نفسه لأن مكان الشيء وجهته ينزل منزلة نفسه ومنه قول الكتاب كتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قال : ونأى بنفسه { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ } [فصلت : 51] الضر والفقر { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصلت : 51] كثير أي أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع.
وقد استعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه وهو من صفة الأجرام كما استعير الغلظ لشدة العذاب ، ولا منافاة بين قوله { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } [فصلت : 49] وبين قوله { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } [فصلت : 51] لأن الأول في قوم والثاني في قوم ، أو قنوط في البر وذو دعاء عريض في البحر ، أو قنوط بالقلب ذو دعاء عريض باللسان ، أو قنوط من الصنم ذو دعاء لله تعالى.
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } [يونس : 50] أخبروني { إِن كَانَ } [التوبة : 24] القرآن { مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ } [فصلت : 52] ثم جحدتم أنه من عند الله { مَنْ أَضَلُّ } [الروم : 29] منكم إلا أنه وضع قوله
144
{ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاق بَعِيدٍ } [فصلت : 52] موضع " منكم " بياناً لحالهم وصفتهم { سَنُرِيهِمْ ءَايَـاتِنَا فِى الافَاقِ } [فصلت : 53] من فتح البلاد شرقاً وغرباً { وَفِى أَنفُسِهِمْ } [فصلت : 53] فتح مكة { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت : 53] أي القرآن أو الإسلام { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } [فصلت : 53] موضع { بِرَبِّكَ } الرفع على أنه فاعل والمفعول محذوف وقوله { أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت : 53] بدل منه تقديره أولم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد أي أولم تكفهم شهادة ربك على كل شيء ، ومعناه أن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتبينون عند ذلك أن القرآن تنزيل عالم الغيب الذي هو على كل شيء شهيد.
{ أَلا إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ } [فصلت : 54] شك { مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطُ } [فصلت : 54] عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها وظواهرها وبواطنها فلا تخفى عليه خافية فيجازيهم على كفرهم ومريتهم في لقاء ربهم.
145
سورة الشورى
مكية وهي ثلاثة وخمسون آية
فصل { حم } من { عسق } كتابة مخالفاً لـ { كاهيعاص } تلفيفاً بأخواتها ولأنه آيتان و { كاهيعاص } آية واحدة { كَذَالِكَ يُوحِى إِلَيْكَ } [الشورى : 3] أي مثل ذلك الوحي أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك { وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } [الشورى : 3] وإلى الرسل من قبلك { اللَّهُ } يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله وفي غيرها من السور ، وأوحاه إلى من قبلك يعني إلى رسله.
والمعنى أن الله كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ليس من نبي صاحب كتاب إلا أوحي إليه بـ
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
{ حم * عاساق } .
{ يُوحِى } بفتح الحاء : مكي.
ورافع اسم الله على هذه القراءة ما دل عليه { يُوحِى } كأن قائلاً قال : من الموحي؟ فقيل : الله { الْعَزِيزُ } الغالب بقهره { الْحَكِيمُ } المصيب في فعله وقوله { لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] ملكاً وملكاً { وَهُوَ الْعَلِىُّ } [البقرة : 255] شأنه { الْعَظِيمُ } برهانه.
146(4/80)
{ تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ } [الشورى : 5] وبالياء : نافع وعلي.
{ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } [الشورى : 5] يتشققن ، : بصري وأبو بكر ومعناه يكدن ينفطرن من علو شأن الله وعظمته يدل عليه مجيئه بعد قوله { وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ } [البقرة : 255] وقيل : من دعائهم له ولداً كقوله { تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [مريم : 90] (مريم : 09) ومعنى { مِن فَوْقِهِنَّ } [الشورى : 5] أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية.
وكان القياس أن يقال ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر لأنها جاءت من الذين تحت السماوات ، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن مع الجهة التي تحتهن.
وقيل : من فوقهن من فوق الأرض فالكناية راجعة إلى الأرض لأنه بمعنى الأرضين.
وقيل : يتشققن لكثرة ما على السماوات من الملائكة ، قال عليه السلام " أطت السماء أطاً وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد " .
{ وَالْمَلَـائكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الشورى : 5] خضوعاً لما يرون من عظمته { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الارْضِ } [الشورى : 5] أي للمؤمنين منهم كقوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [غافر : 7] خوفاً عليهم من سطواته أو يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات حامدين له على ما أولادهم من ألطافه ، متعجبين مما رأوا من تعرضهم لسخط الله تعالى ، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرءوا من تلك الكلمة ، أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب { أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الشورى : 5] لهم { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الزمر : 3] أي جعلوا له شركاء وأنداداً { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } [الشورى : 6] رقيب على أقوالهم وأعمالهم لا يفوته منها شيء فيجازيهم عليها { وَمَآ أَنتَ } [الشعراء : 186] يا محمد { عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام : 107] بموكل عليهم ولا مفوض إليك أمرهم إنما أنت منذر فحسب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
{ وَكَذَالِكَ } ومثل ذلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [النحل : 123] وذلك إشارة إلى معنى الآية التي
147
قبلها من أن الله رقيب عليهم لا أنت بل أنت منذر لأن هذا المعنى كرره الله في كتابه أو هو مفعول به لـ { أَوْحَيْنَآ } { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا } [الزمر : 28] حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي بيّن { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } [الشورى : 7] أي مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ولأنها أشرف البقاع والمراد أهل أم القرى { وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام : 92] من العرب { وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } [الشورى : 7] يوم القيامة لأن الخلائق تجتمع فيه { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] اعتراض لا محل له ، يقال : أنذرته كذا وأنذرته بكذا.
وقد عدي { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى } [الشورى : 7] إلى المفعول الأول { وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } [الشورى : 7] إلى المفعول الثاني { فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ } [الشورى : 7] أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير ، والضمير للمجموعين لأن المعنى يوم جمع الخلائق.
(4/81)
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الشورى : 8] أي مؤمنين كلهم { وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ } [الشورى : 8] أي يكرم من يشاء بالإسلام { وَالظَّـالِمُونَ } والكافرون { مَا لَهُم مِّن وَلِىٍّ } [الشورى : 8] شافع { وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] دافع { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ } [الشورى : 9] الفاء لجواب شرط مقدر كأنه قيل بعد إنكار كل ولي سواءه إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق ، وهو الذي يجب أن يتولى وحده لا ولي سواه.
{ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ } [الشورى : 10] حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمؤمنين أي ما خالفتكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين فاختلفتم أنتم وهم فيه من أمر من أمور الدين { فَحُكْمُهُ } أي حكم ذلك المختلف فيه مفوض { إِلَى اللَّهِ } [غافر : 44] وهو إثابة المحقين فيه من المؤمنين ومعاقبة المبطلين { ذَالِكُمُ } الحاكم بينكم { اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [الشورى : 10] فيه رد كيد أعداء الدين { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود : 88] أرجع في كفاية شرهم.
وقيل : وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه
148
فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
{ فَاطِرُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يوسف : 101] ارتفاعه عل أنه أحد أخبار { ذَالِكُمُ } أو خبر مبتدأ محذوف { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [النحل : 72] خلق لكم من جنسكم من الناس { أَزْوَاجًا وَمِنَ الانْعَـامِ أَزْوَاجًا } [الشورى : 11] أي وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يَذْرَؤُكُمْ } يكثركم.
يقال : ذرأ الله الخلق بثهم وكثرهم { فِيهِ } في هذا التدبير وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير { فِيهِ } على " به " لأنه جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
والضمير في { يَذْرَؤُكُمْ } يرجع إلى المخاطبين والأنعام مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } [الشورى : 11] قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل وتقديره ليس مثله شيء.
وقيل : المثل زيادة وتقديره ليس كهو شيء كقوله تعالى : { فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ } (البقرة : 731).
وهذا لأن المراد نفي المثلية ، وإذا لم تجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل.
وقيل : المراد ليس كذاته شيء لأنهم يقولون " مثلك لا يبخل " يريدون به نفي البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية ، لأنهم إذا نفوه عمن يسد مسده فقد نفوه عنه فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله " ليس كالله شيء " وبين قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } [الشورى : 11] إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها وكأنهم عبارتان متعقبتان على معنى واحد وهو نفي المماثلة عن ذاته ونحوه { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة : 64] (المائدة : 46) فمعناه بل هو جواد من غير تصور يد ولا بسط لها ، لأنها وقعت عبارة عن الجود حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له { وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لجميع المسموعات بلا أذن { الْبَصِيرُ } لجميع المرئيات بلا حدقة ، وكأنه ذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له كما لا مثل له.
جزء : 4 رقم الصفحة : 146
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 63] مر في " الزمر " { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } [الرعد : 26] أي يضيق { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [الشورى : 12].
149
(4/82)
{ شَرَعَ } بين وأظهر { لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } [الشورى : 13] أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء عليهم السلام ، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ } [الشورى : 13] والمراد إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء وسائر ما يكون المرء بإقامته مسلماً ، ولم يرد به الشرائع فإنها مختلفة قال الله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة : 48] (المائدة : 84).
ومحل { أَنْ أَقِيمُوا } [الشورى : 13] نصب بدل من مفعول { شَرَعَ } والمعطوفين عليه ، أو رفع على الاستئناف كأنه قيل وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين { لِّلْعَـالَمِينَ * فِيهِ } ولا تختلفوا في الدين قال علي رضي الله عنه : لا تتفرقوا فالجماعة رحمة والفرقة عذاب.
{ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } [الشورى : 13] عظم عليهم وشق عليهم { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [الشورى : 13] من إقامة دين الله والتوحيد { اللَّهُ يَجْتَبِى } [آل عمران : 179] يجتلب ويجمع { إِلَيْهِ } إلى الدين بالتوفيق والتسديد { مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [الشورى : 13] يقبل على طاعته { وَمَا تَفَرَّقُوا } [الشورى : 14] أي أهل الكتاب بعد أنبيائهم { إِلا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } [آل عمران : 19] إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلال وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء عليهم السلام
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } [الجاثية : 17] حسداً وطلباً للرياسة والاستطالة بغير حق { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [الشورى : 14] وهي بل الساعة موعدهم { لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 19] لأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترفوا { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِن بَعْدِهِمْ } [الشورى : 14] هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ } [النساء : 157] من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان { مُرِيبٍ } مدخل في الريبة.
وقيل : وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم كقوله تعالى :
150
{ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ إِلا مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } [البينة : 4] ، { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَـابَ مِن بَعْدِهِمْ } [الشورى : 14] (الشورى : 41).
هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
(4/83)
{ فَلِذَالِكَ } فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً { فَادْعُ } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القوية { وَاسْتَقِمْ } عليها وعلى الدعوة إليها { كَمَآ أُمِرْتَ } [الشورى : 15] كما أمرك الله { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [المائدة : 48] المختلفة الباطلة { وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَـابٍ } [الشورى : 15] بأي كتاب صح أن الله تعالى أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض كقوله : { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [النساء : 150] إلى قوله { أؤلئك هُمُ الْكَـافِرُونَ حَقًّا } [النساء : 151] (النساء : 151) { وَأُمِرْتُ لاعْدِلَ بَيْنَكُمُ } [الشورى : 15] في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } [الشورى : 15] أي كلنا عبيده { لَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ } [القصص : 55] هو كقوله { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [الكافرون : 6] (الكافرون : 6) ويجوز أن يكون معناه إنا لا نؤاخذ بأعمالكم وأنتم لا تؤاخذون بأعمالنا { لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } [الشورى : 15] أي لا خصومة لأن الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة ، ومعناه لا إيراد حجة بيننا لأن المتحاجين يورد هذا حجته وهذا حجته { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } [الشورى : 15] يوم القيامة { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [المائدة : 18] المرجع لفصل القضاء فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم { وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ } [الشورى : 16] يخاصمون في دينه { مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ } [الشورى : 16] من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام ليردوهم إلى دين الجاهلية كقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَـانِكُمْ كُفَّارًا } [البقرة : 109] (البقرة : 901).
كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فنحن خير منكم وأولى بالحق.
وقيل : من بعد ما استجيب لمحمد عليه السلام دعاؤه على المشركين يوم بدر
151
{ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } [الشورى : 16] باطلة وسماها حجة وإن كانت شبهة لزعمهم أنها حجة { عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } [الشورى : 16] بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الشورى : 16] في الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{ اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ } [الشورى : 17] أي جنس الكتاب { بِالْحَقِّ } بالصدق أو ملتبساً به { وَالْمِيزَانَ } والعدل والتسوية.
ومعنى إنزال العدل أنه أنزله في كتبه المنزلة.
وقيل : هو عين الميزان أنزله في زمن نوح عليه السلام { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى : 17] أي لعل الساعة قريب منك وأنت لا تدري والمراد مجيء الساعة ، أوالساعة في تأويل البعث.
ووجه مناسبة اقتراب الساعة مع إنزال الكتب والميزان أن الساعة يوم الحساب ووضع الموازين بالقسط فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ووزن أعمالكم.
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى : 18] استهزاء { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مُشْفِقُونَ } [الشورى : 18] خائفون { مِنْهَا } وجلون لهولها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [الشورى : 18] الكائن لا محالة { أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِى السَّاعَةِ } [الشورى : 18] المماراة الملاحّة لأن كل واحد منهما يمري ما عند صاحبه { لَفِى ضَلَـال بَعِيدٍ } [الشورى : 18] عن الحق لأن قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله تعالى ، وقد دل الكتاب والسنة على وقوعها ، والعقول تشهد على أنه لا بد من دار جزاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{ اللَّهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ } [الشورى : 19] في إيصال المنافع وصرف البلاء من وجه يلطف إدراكه وهو بر بليغ البر بهم قد توصل بره إلى جميعهم.
وقيل : هو من لطف بالغوامض علمه وعظم عن الجرائم حلمه ، أو من ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو يعفو عمن يهفو ، أو يعطي العبد فوق الكفاية ويكلفه الطاعة دون الطاقة.
وعن الجنيد : لطف بأوليائه فعرفوه ولو لطف بأعدائه ما جحدوه { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 212] أي
152
(4/84)
يوسع رزق من يشاء إذا علم مصلحته فيه ، في الحديث " إن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك " { وَهُوَ الْقَوِىُّ } [الشورى : 19] الباهر القدرة الغالب على كل شيء { الْعَزِيزُ } المنيع الذي لا يغلب.
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ } [الشورى : 20] سمى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً مجازاً { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } [الشورى : 20] بالتوفيق في عمله أو التضعيف في إحسانه أو بأن ينال به الدنيا والآخرة { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا } [الشورى : 20] أي من كان عمله للدنيا ولم يؤمن بالآخرة { نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران : 145] أي شيئاً منها لأن " من " للتبعيض وهو رزقه الذي قسم له لا ما يريده ويبتغيه { لَهُ فِى الاخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } وماله نصيب قط في الآخرة وله في الدينا نصيب ، ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في الماب { أَمْ لَهُمْ } قيل : هي " أم " المنقطعة وتقديره بل ألهم شركاء.
وقيل : هي المعادلة لألف الاستفهام.
وفي الكلام إضمار تقديره أيقبلون ما شرع الله من الدين أم لهم آلهة { شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } أي لم يأمر به؟ { اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ } [الشورى : 21] أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء أي ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة { لَّقُضِىَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 19] بين الكافرين والمؤمنين أو لعجلت لهم العقوبة { وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى : 21] وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة وإن أخر عنهم في دار الدنيا { تَرَى الظَّـالِمِينَ } [الشورى : 22] المشركين في الآخرة { مُشْفِقِينَ } خائفين
153
{ مِمَّا كَسَبُوا } [إبراهيم : 18] من جزاء كفرهم { وَهُوَ وَاقِعُ بِهِمْ } [الشورى : 22] نازل بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } [الشورى : 22] كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } [الزمر : 34] عند نصب بالظرف لا بيشاؤون { ذَالِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } [فاطر : 32] على العمل القليل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 149
{ ذَالِكَ } أي الفضل الكبير { الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ } [الشورى : 23] { يُبَشِّرُ } مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي { عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [الشورى : 23] أي به عباده الذين آمنوا فحذف الجار كقوله { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف : 155] (الأعراف : 551) ثم حذف الراجع إلى الموصول كقوله { أَهَـاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } [الفرقان : 41] (الفرقان : 14).
ولما قال المشركون : أيبتغي محمد على تبليغ الرسالة أجراً نزل { قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ } [الشورى : 23] على التبليغ
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
{ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى } [الشورى : 23] يجوز أن يكون استثناء متصلاً أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون منقطعاً أي لا أسألكم عليه أجراً قط ولكني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم.
ولم يقل إلا مودة القربى أو المودة للقربى لأنهم جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها كقولك " لي في آل فلان مودة ولي فيهم حب شديد " تريد أحبهم وهم مكان حبي ومحله.
وليست " في " بصلة لـ { الْمَوَدَّةَ } كاللام إذا قلت إلا المودة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك " المال في الكيس " وتقديره إلا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها.
والقربى مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى القرابة ، والمراد في أهل القربى.
وروي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : علي وفاطمة وابناهما.
وقيل : معناه إلا أن تودوني لقرابتي فيكم ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي إذ لم يكن من بطون قريش إلا بين رسول الله وبينهم قرابة.
وقيل : القربى التقرب إلى الله تعالى أي إلا أن تحبوا
154
(4/85)
الله ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } [الشورى : 23] يكتسب طاعة.
عن السدي : أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ومودته فيهم والظاهر العموم في أي حسنة كانت إلا أنها تتناول المودة تناولاً أولياً لذكرها عقيب ذكر المودة في القربى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
{ نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا } [الشورى : 23] أي نضاعفها كقوله { مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَـاعِفَهُ لَهُا أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245] (البقرة : 542) وقرىء وهو مصدر كالبشرى والضمير يعود إلى الحسنة أو إلى الجنة { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] لمن أذنب بطوله { شَكُورٌ } لمن أطاع بفضله.
وقيل : قابل للتوبة حامل عليها.
وقيل : الشكور في صفة الله تعالى عبارة عن الاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها والتفضل على المثاب { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الشورى : 24] " أم " منقطعة ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله الذي هو أعظم الفرى وأفحشها؟ { فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } [الشورى : 24] قال مجاهد : أي يربط على قلبك بالصبر على أذاهم وعلى قولهم { افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الكهف : 15] لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَـاطِلَ } [الشورى : 24] أي الشرك وهو كلام مبتدأ غير معطوف على { يَخْتِمْ } لأن محو الباطل غير متعلق بالشرط بل هو وعد مطلق دليله تكرار اسم الله تعالى ورفع { وَيُحِقُّ } وإنما سقطت الواو في الخط كما سقطت في { وَيَدْعُ الانسَـانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ } [الإسراء : 11] (الاسراء : 11) و { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } [العلق : 18] (الفلق : 81) على أنها مثبتة في مصحف نافع { وَيُحِقُّ الْحَقَّ } [الشورى : 24] ويظهر الإسلام ويثبته { بِكَلِمَـاتِهِ } مما أنزل من كتابه على لسان نبيه عليه السلام وقد فعل الله ذلك فمحا باطلهم وأظهر الإسلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
{ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] أي عليم بما في صدرك وصدورهم فيجزي الأمر على حسب ذلك.
{ وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [الشورى : 25] يقال : قبلت منه الشيء إذا أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي.
ويقال : قبلته عنه أي عزلته عنه وأبنته عنه.
والتوبة أن يرجع عن
155
القبيح والإخلال بالواجب بالندم عليهما والعزم على أن لا يعود ، وإن كان لعبد فيه حق لم يكن بد من التفصي على طريقه.
وقال علي رضي الله عنه : هو اسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقناها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وعن السدي : هو صدق العزيمة على ترك الذنوب والإنابة بالقلب إلى علام الغيوب.
وعن غيره : هو أن لا يجد حلاوة الذنب في القلب عند ذكره.
وعن سهل : هو الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة.
وعن الجنيد : هو الإعراض عما دون الله { وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ } [الشورى : 25] وهو ما دون الشرك ، يعفو لمن يشاء بلا توبة { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [الشورى : 25] بالتاء : كوفي غير أبي بكر أي من التوبة والمعصية ولا وقف عليه للعطف عليه واتصال المعنى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [الشورى : 26] أي إذا دعوه استجاب دعاءهم وأعطاهم ما طلبوه وزادهم على مطلوبهم.
واستجاب وأجاب بمعنى ، والسين في مثله لتوكيد الفعل كقولك " تعظم " و " استعظم " والتقدير ويجيب الله الذين آمنوا.
وقيل : معناه ويستجيب للذين فحذف اللام.
منّ عليهم بأن يقبل توبتهم إذا تابوا ويعفو عن سيآتهم ويستجيب لهم إذا دعوه ويزيدهم على ما سألوه ، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له : ما لنا ندعوه فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلم تجيبوه { وَالْكَـافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الشورى : 26] في الآخرة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
(4/86)
{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ } [الشورى : 27] أي لو أغناهم جميعاً { لَبَغَوْا فِى الارْضِ } [الشورى : 27] من البغي وهو الظلم أي لبغي هذا على ذاك وذاك على هذا لأن الغني مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة أو من البغي وهو الكبر أي لتكبّروا في الأرض { وَلَـاكِن يُنَزِّلُ } [الشورى : 27] بالتخفيف : مكي وأبو عمرو { بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [الشورى : 27] بتقدير يقال قدره قدراً
156
وقدراً { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [الشورى : 27] يعلم أحوالهم فيقدر لهم ما تقتضيه حكمته فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط ، ولو أغناهم جميعاً لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على من يبغي ومن البغي بدون البسط فهو قليل ، ولا شك أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب.
{ وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ } [الشورى : 28] بالتشديد : مدني وشامي وعاصم { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا } [الشورى : 28] وقرىء { قَنَطُوا } { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } [الشورى : 28] أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب.
وقيل لعمر رضي الله عنه : اشتد القحط وقنط الناس.
فقال : مطروا إذا أراد هذه الآية.
أو أراد رحمته في كل شيء { وَهُوَ الْوَلِىُّ } [الشورى : 28] الذي يتولى عباده بإحسانه { الْحَمِيدُ } المحمود على ذلك يحمده أهل طاعته { وَمِنْ ءَايَـاتِهِ } [الروم : 25] أي علامات قدرته { خَلْقُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [إبراهيم : 19] مع عظمهما { وَمَا بَثَّ } [الشورى : 29] فرق { وَمَا } يجوز أن يكون مرفوعاً ومجروراً حملاً على المضاف أو المضاف إليه { فِيهِمَا } من السماوات والأرض { مِن دَآبَّةٍ } [الجاثية : 4] الدواب تكون في الأرض وحدها لكن يجوز أن ينسب الشيء إلى جميع المذكور وإن كان ملتبساً ببعضه كما يقال : بنو تميم فيهم شاعر مجيد وإنما هو في فخذ من أفخاذهم ومنه قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن : 22] (الرحمن : 22) وإنما يخرج من الملح ، ولا يبعد أن يخلق في السماوات حيوانات يمشون فيها مشي الأناسي على الأرض ، أو يكون للملائكة مشي مع الطيران فوصفوا بالدبيب كما وصف به الأناسي { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ } [الشورى : 29] يوم القيامة { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [الشورى : 29] " إذا " تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي ، قال الله تعالى : { وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } [الليل : 1] (الليل : 1).
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
{ وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ } [الشورى : 30] غم وألم ومكروه { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى : 30] أي بجناية كسبتموها عقوبة عليكم.
{ بِمَا كَسَبَتْ } [الروم : 41] بغير الفاء : مدني وشامي على أن " ما " مبتدأ و
157
{ بِمَا كَسَبَتْ } [الروم : 41] خبره من غير تضمين معنى الشرط ، ومن أثبت الفاء فعلى تضمين معنى الشرط.
وتعلق بهذه الآية من يقول بالتناسخ وقال لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا.
وقلنا : الآية مخصومة بالمكلفين بالسباق والسياق وهو { وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ } [الشورى : 30] أي من الذنوب فلا يعاقب عليه أو عن كثير من الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة ، وقال ابن عطاء : من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.
وقال محمد بن حامد : العبد ملازم للجنايات في كل أوان وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه لأن جناية المعصية من وجه وجناية الطاعة من وجوه والله يطهر عبده من جناياته بأنواع من المصائب ليخفف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة ، وعن علي رضي الله تعالى عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانياً وإذا عفا لا يعود { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِى الارْضِ } [العنكبوت : 22] أي بفائتين ما قضى عليكم من المصائب { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ } [البقرة : 107] متول بالرحمة { وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ناصر يدفع عنكم العذاب إذا حل بكم.
{ وَمِنْ ءَايَـاتِهِ الْجَوَارِ } [الشورى : 32] جمع جارية وهي السفينة في الحالين : مكي وسهل ويعقوب ، وافقهم مدني وأبو عمر في الوصل { الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَـامِ } [الشورى : 32] كالجبال.
(4/87)
جزء : 4 رقم الصفحة : 154
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } [الشورى : 33] { الرِّيَـاحِ } مدني { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ } [الشورى : 33] ثوابت لا تجري { عَلَى ظَهْرِهِ } [الشورى : 33] على ظهر البحر { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } [إبراهيم : 5] على بلائه { شَكُورٌ } لنعمائه أي لكل مؤمن مخلص فالإيمان نصفان : نصف شكر ونصف صبر.
أو صبار على طاعته شكور لنعمته
158
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ } [الشورى : 34] يهلكهن فهو عطف على { يُسْكِنِ } والمعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها { بِمَا كَسَبُوا } [النساء : 88] من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } [الشورى : 34] منها فلا يجازي عليها.
وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق حيث جزم جزمه لأن المعنى أو إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم { وَيَعْلَمَ } بالنصب عطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم { الَّذِينَ يُجَـادِلُونَ فِى ءَايَـاتِنَا } [الشورى : 35] أي في إبطالهما ودفعها ، { وَيَعْلَمَ } مدني وشامي على الاستئناف { لَنَا مِن مَّحِيصٍ } مهرب من عذابه { فَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ } [الشورى : 36] من الثواب { خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الشورى : 36] " ما " الأولى ضمنت معنى الشرط فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية.
نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بجميع ماله فلامه الناس { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ } [الشورى : 37] عطف على { الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] وكذا ما بعده { كَبَـائرَ الاثْمِ } [النجم : 32] أي الكبائر من هذا الجنس ، { كَبِيرٌ } علي وحمزة.
وعن ابن عباس : كبير الإثم هو الشرك.
{ وَالْفَوَاحِشَ } قيل : ما عظم قبحه فهو فاحشة كالزنا { وَإِذَا مَا غَضِبُوا } [الشورى : 37] من أمور دنياهم { هُمْ يَغْفِرُونَ } [الشورى : 37] أي هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب والمجيء بهم.
وإيقاعه مبتدأ وإسناد { يَغْفِرُونَ } إليه لهذه الفائدة ومثله { هُمْ يَنتَصِرُونَ } [الشورى : 39].
{ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ } [الشورى : 38] نزلت في الأنصار دعاهم الله عز وجل للإيمان به وطاعته فاستجابوا له بأن آمنوا به وأطاعوه { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ } [الأعراف : 170] وأتموا الصلوات الخمس { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [الشورى : 38] أي ذو شورى لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم ، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى
159
التشاور { وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة : 3] يتصدقون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
(4/88)
{ وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ } [الشورى : 39] الظلم { هُمْ يَنتَصِرُونَ } [الشورى : 39] ينتقمون ممن ظلمهم أي يقتصرون في الانتصار على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجتريء عليهم الفساق.
وإنما حمدوا على الانتصار لأن من انتصر وأخذ حقه ولم يجاوز في ذلك حد الله فلم يسرف في القتل إن كان ولي دم فهو مطيع لله وكل مطيع محمود.
ثم بين حد الانتصار فقال { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] فالأولى سيئة حقيقة والثانية لا.
وإنما سميت لأنها مجازاة السوء ، أو لأنها تسوء من تنزل به ، ولأنه لو لم تكن الأولى لكانت الثانية سيئة لأنها إضرار ، وإنما صارت حسنة لغيرها ، أو في تسمية الثانية سيئة إشارة إلى أن العفو مندوب إليه.
والمعنى أنه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير زيادة { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } [الشورى : 40] بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء { فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40] عدة مبهمة لا يقاس أمرها في العظم { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ } [الشورى : 40] الذين يبدءون بالظلم أو الذين يجاوزون حد الانتصار.
في الحديث : " ينادي منادٍ يوم القيامة من كان له أجر على الله فليقم فلا يقوم إلا من عفا " .
{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } [الشورى : 41] أي أخذ حقه بعدما ظلم على إضافة المصدر إلى المفعول { فَأُوالَـائكَ } إشارة إلى معنى من دون لفظه { مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ } [الشورى : 41] للمعاقب ولا للمعاتب والمعايب { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } [الشورى : 42] يبتدئونهم بالظلم { وَيَبْغُونَ فِى الارْضِ } [الشورى : 42] يتكبرون فيها ويعلون ويفسدون { بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوالَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى : 42] وفسر السبيل بالتبعة والحجة
160
{ وَلَمَن صَبَرَ } [الشورى : 43] على الظلم والأذى { وَغَفَرَ } ولم ينتصر { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] أي الصبر والغفران منه { لَمِنْ عَزْمِ الامُورِ } [الشورى : 43] أي من الأمور التي ندب إليها أو مما ينبغي أن يوجبه العاقل على نفسه ولا يترخص في تركه.
وحذف الراجع أي " منه " لأنه مفهوم كما حذف من قولهم : السمن منوان بدرهم ، وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه يصيبه ولم يجزع أورثه الله تعالى حال الرضا وهو أجل الأحوال ، ومن جزع من المصيبات وشكا وكله الله تعالى إلى نفسه ثم لم تنفعه شكواه.
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ } [الشورى : 44] فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ويمنعه من عذابه { وَتَرَى الظَّـالِمِينَ } [الشورى : 44] يوم القيامة { لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } [سبأ : 33] حين يرون العذاب واختير لفظ الماضي للتحقيق { يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [الشورى : 44] يسألون ربهم الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
{ وَتَرَاـاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [الشورى : 45] على النار إذ العذاب يدل عليها { خَـاشِعِينَ } متضائلين متقاصرين مما يلحقهم { مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ } [الشورى : 45] إلى النار { مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ } [الشورى : 45] ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف.
{ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ الْخَـاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الشورى : 45] { يَوْمَ } متعلق بـ { خَسِرُوا } وقول المؤمنين واقع في الدنيا أو يقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة { أَلا إِنَّ الظَّـالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } [الشورى : 45] دائم { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [الشورى : 46] من دون عذابه
161
(4/89)
{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } [الشورى : 46] إلى النجاة { اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم } [الشورى : 47] أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ } [البقرة : 254] أي يوم القيامة { لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } [الروم : 43] " من " يتصل بـ { لا مَرَدَّ } [الروم : 43] أي لا يرده الله بعدما حكم به ، أو بـ { يَأْتِىَ } أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده { مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَـاـاِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ } [الشورى : 47] أي ليس لكم مخلص من العذاب ولا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه ودوّن في صحائف أعمالكم ، والنكير الإنكار { فَإِنْ أَعْرَضُوا } [فصلت : 13] عن الإيمان { فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء : 80] رقيباً { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَـاغُ } [الشورى : 48] ما عليك إلا تبليغ الرسالة وقد فعلت { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الانسَـانَ } [الشورى : 48] المراد الجمع لا الواحد { مِنَّا رَحْمَةً } [هود : 9] نعمة وسعة وأمناً وصحة { فَرِحَ بِهَا } [الشورى : 48] بطر لأجلها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ } [الروم : 36] بلاء كالمرض والفقر ونحوهما.
وتوحيد فرح باعتبار اللفظ والجمع في { وَإِن تُصِبْهُمْ } [النساء : 78] باعتبار المعنى { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] بسبب معاصيهم { فَإِنَّ الانسَـانَ كَفُورٌ } [الشورى : 48] ولم يقل فإنه كفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال : { إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [إبراهيم : 34](إبراهيم : 43).
والكفور البليغ الكفران.
والمعنى أنه يذكر البلاء وينسى النعم ويغمطها.
قيل : أريد به كفران النعمة.
وقيل : أريد به الكفر بالله تعالى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
{ لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَـاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ } أي يقرنهم { ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا } [الشورى : 50] لما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها ، أتبع ذلك أن له تعالى الملك وأنه يقسم النعمة والبلاء كيف أراد ويهب لعباده من الأولاد ما يشاء ، فيخص بعضاً
162
بالإناث ، وبعضاً بالذكور ، وبعضاً بالصنفين جميعاً ، ويجعل البعض عقيماً.
والعقيم التي لا تلد وكذلك رجل عقيم إذا كان لا يولد له.
وقدم الإناث أولاً على الذكور لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاؤه لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهم والأهم واجب التقديم ، وليلي الجنس الذي كانت العرب تعدّه بلاء ذكر البلاء.
ولما أخر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك تأخيرهم بتعريفهم لأن التعريف تنويه وتشهير ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرّف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال { ذُكْرَانًا وَإِنَـاثًا } [الشورى : 50].
وقيل : نزلت في الأنبياء عليهم السلام حيث وهب للوط وشعيب إناثاً ، ولإبراهيم ذكوراً ، ولمحمد صلى الله عليه وسلّم ذكوراً وإناثاً ، وجعل يحيى وعيسى عليهما السلام عقيمين { إِنَّهُ عَلِيمُ } [الانفال : 43] بكل شيء { قَدِيرٌ } قادر على كل شيء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 158
(4/90)
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ } [الشورى : 51] وما صح لأحد من البشر { أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا } [الشورى : 51] أي إلهاماً كما روي " نفث في روعي " أو رؤيا في المنام كقوله عليه السلام " رؤيا الأنبياء وحي " وهو كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد { أَوْ مِن وَرَآى ِ } [الحشر : 14] حجابٍ أي يسمع كلاماً من الله كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه.
وليس المراد به حجاب الله تعالى لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الحجاب ولكن المراد به أن السامع محجوب عن الرؤية في الدنيا { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا } [الشورى : 51] أي يرسل ملكاً { فَيُوحِىَ } أي الملك إليه.
وقيل : وحياً كما أوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا } [الشورى : 51] أي نبياً كما كلم أمم الأنبياء على ألسنتهم.
و { وَحْيًا } و { أَن يُرْسِلَ } [الروم : 46] مصدران واقعان موقع الحال لأن { أَن يُرْسِلَ } [الروم : 46] في معنى إرسالاً و { مِن وَرَآى ِ حِجَابٍ } [الشورى : 51] ظرف واقع موقع الحال كقوله { وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } [آل عمران : 191] (آل عمران : 192).
والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً.
ويجوز أن يكون المعنى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بأن يوحي أو أن يسمع من وراء حجاب أو أن يرسل رسولاً وهو اختيار الخليل ، { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِىَ } بالرفع : نافع على تقدير
163
أو هو يرسل { بِإِذْنِهِ } إذن الله { مَّا يَشَآءُ } [آل عمران : 40] من الوحي { إِنَّهُ عَلِىٌّ } [الشورى : 51] قاهر فلا يمانع { حَكِيمٌ } مصيب في أقواله وأفعاله فلا يعارض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 163
{ وَكَذَالِكَ } أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك أو كما وصفنا لك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [النحل : 123] إيحاء كذلك { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52] يريد ما أوحى إليه لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح { مَا كُنتَ تَدْرِى } [الشورى : 52] الجملة حال من الكاف في { إِلَيْكَ } .
{ مَا الْكِتَـابُ } [الشورى : 52] القرآن { وَلا الايمَـانُ } [الشورى : 52] أي شرائعه أو ولا الإيمان بالكتاب لأنه إذا كان لا يعلم بأن الكتاب ينزل عليه لم يكن عالماً بذلك الكتاب.
وقيل : الإيمان يتناول أشياء بعضها الطريق إليه العقل ، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل وذاك بما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي { وَلَـاكِن جَعَلْنَـاهُ } [الشورى : 52] أي الكتاب { نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى } [الشورى : 52] وقرىء به { يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] الإسلام { صِرَاطِ اللَّهِ } [الشورى : 53] بدل { الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } [إبراهيم : 2] ملكاً وملكاً { أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الامُورُ } [الشورى : 53] هو وعيد بالجحيم ووعد بالنعيم والله أعلم بالصواب.
164
سورة الزخرف
تسع وثمانون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم * وَالْكِتَـابِ الْمُبِينِ } أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن ، وجعل قوله { إِنَّا جَعَلْنَـاهُ } [الزخرف : 3] صيرناه { قُرْءَانًا عَرَبِيًّا } [الزمر : 28] جواباً للقسم وهو من الأيمان الحسنة البديعة لتناسب القسم والمقسم عليه ، والمبين البين للذين أنزل عليهم لأنه بلغتهم وأساليبهم أو الواضح للمتدبرين أو الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 73] لكي تفهموا معانيه { وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَـابِ لَدَيْنَا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 165(4/91)
الزخرف : 4] وإن القرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، دليله قوله : { مَّحْفُوظ } (البروج : 22).
وسمي أم الكتاب لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ.
{ أُمِّ الْكِتَـابِ } [الرعد : 39] بكسر الألف : علي وحمزة { لَعَلِىٌّ } خبر " إن " أي في أعلى طبقات البلاغة أو رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزاً من بينها { حَكِيمٌ } ذو حكمة بالغة { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ } [الزخرف : 5] أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل
165
المجاز من قولهم " ضرب الغرائب عن الحوض " .
والفاء للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر إنكاراً لأن يكون الأمر على خلاف ما قدم من إنزاله الكتاب؟ وجعله قرآناً عربياً ليعقلوه وليعلموا بمواجبه { صَفْحًا } مصدر من صفح عنه إذا أعرض ، منتصب على أنه مفعول له على معنى أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم.
ويجوز أن يكون مصدراً على خلاف الصدر لأنه يقال " ضربت عنه " أي أعرضت عنه كذا قاله الفراء { أَن كُنتُمْ } [يونس : 84] لأن كنتم { أَن كُنتُمْ } [يونس : 84] مدني وحمزة.
وهو من الشرط الذي يصدر عن المدل بصحة الأمر المتحقق لثبوته كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي وهو عالم بذلك { قَوْمًا مُّسْرِفِينَ } [الزخرف : 5] مفرطين في الجهالة مجاوزين الحد في الضلالة.
{ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الاوَّلِينَ } [الزخرف : 6] أي كثيراً من الرسل أرسلنا من تقدمك { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الزخرف : 7] هي حكاية حال ماضية مستمرة أي كانوا على ذلك وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
{ فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا } [الزخرف : 8] تمييز ، والضمير للمسرفين لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره عنهم { وَمَضَى مَثَلُ الاوَّلِينَ } [الزخرف : 8] أي سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل ، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ووعيد لهم.
{ وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم } [التوبة : 65] أي المشركين { مَّنْ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا } كوفي وغيره مهاداً أي موضع قرار { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا } [الزخرف : 10] طرقاً { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 53] لكي تهتدوا في أسفاركم.
166
{ وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ بِقَدَرٍ } [الزخرف : 11] بمقدار يسلم معه العباد ويحتاج إليه البلاد { فَأَنشَرْنَا } فأحيينا عدول من المغايبة إلى الإخبار لعلم المخاطب بالمراد { بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا } [ق : 11] يريد ميّتاً { كَذَالِكَ تُخْرَجُونَ } [الزخرف : 11] من قبوركم أحياء { تُخْرَجُونَ } حمزة وعلي ولا وقف على { الْعَلِيمُ } لأن { الَّذِى } صفته ، وقد وقف عليه أبو حاتم على تقدير " هو الذي " ، لأن هذه الأوصاف ليست من مقول الكفار لأنهم ينكرون الإخراج من القبور فكيف يقولون { كَذَالِكَ تُخْرَجُونَ } [الزخرف : 11] بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث { وَالَّذِى خَلَقَ الازْوَاجَ } [الزخرف : 12] الأصناف { كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالانْعَـامِ مَا تَرْكَبُونَ } [الزخرف : 12] أي تركبونه.
يقال : ركبوا في الفلك وركبوا الأنعام فغلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فقيل تركبونه { لِتَسْتَوُا عَلَى ظُهُورِهِ } [الزخرف : 13] على ظهور ما تركبونه وهو الفلك والأنعام { ثُمَّ تَذْكُرُوا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
(4/92)
الزخرف : 13] بقلوبكم { نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا } [الزخرف : 13] بألسنتكم { سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا } [الزخرف : 13] ذلل لنا هذا المركوب { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } [الزخرف : 13] مطيقين.
يقال : أقرن الشيء إذا أطاقه وحقيقة أقرنه وجده قرينته لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف { وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [الزخرف : 14] لراجعون في المعاد.
قيل : يذكرون عند ركوبهم مراكب الدنيا آخر مركبهم منها وهو الجنازة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله.
فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال ، { سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا } [الزخرف : 13] إلى قوله { لَمُنقَلِبُونَ } وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً.
وقالوا : إذا ركب في السفينة قال : { بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [هود : 41] (هود : 14)
167
وحكي أن قوماً ركبوا وقالوا { سُبْحَـانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا } [الزخرف : 13] الآية.
وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالاً فقال : إني مقرن لهذه فسقط منها لوثبتها واندقت عنقه.
وينبغي أن لا يكون ركوب العاقل للتنزه والتلذذ بل للاعتبار ، ويتأمل عنده أنه هالك لا محالة ومنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
{ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } [الزخرف : 15] متصل بقوله { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم } [التوبة : 65] أي ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزأ أي قالوا الملائكة بنات الله فجعلوهم جزأ له وبعضاً منه كما يكون الولد جزأ لوالده أبو بكر وحماد { جُزْءًا إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } [الزخرف : 15] لجحود للنعمة ظاهر جحوده لأن نسبة الولد إليه كفر والكفر أصل الكفران كله { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَـاكُم بِالْبَنِينَ } [الزخرف : 16] أي بل أتخذ والهمزة للإنكار تجهيلاً لهم وتعجيباً من شأنهم حيث ادعوا أنه اختار لنفسه المنزلة الأدنى ولهم الأعلى { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلا } [الزخرف : 17] بالجنس الذي جعله له مثلاً أي شبهاً لأنه إذا جعل الملائكة جزءاً لله وبعضاً منه فقد جعله من جنسه ومماثلاً له لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل : 58] يعني أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له قد ولدت لك بنت اغتم واربد وجهه غيظاً وتأسفاً وهو مملوء من الكرب والظلول بمعنى الصيرورة { أَوَمَن يُنَشَّؤُا فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } أي أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته وهو أنه ينشأ في الحلية أي يتربى في الزينة والنعمة ، وهو إذا احتاج إلى مجاناة الخصوم ومجاراة الرجال كان غير مبين ، ليس عنده بيان ولا يأتي ببرهان وذلك لضعف عقولهن.
قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها.
وفيه أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب ، فعلى الرجل أن يجتنب
168
ذلك ويتزين بلباس التقوى ، و { مِّنْ } منصوب المحل والمعنى أو جعلوا من ينشأ في الحلية يعني البنات لله عز وجل { يُنَشَّؤُا } حمزة وعلي وحفص أي يربي قد جمعوا في كفرهم ثلاث كفرات ، وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد ، ونسبوا إليه أخس النوعين ، وجعلوه من الملائكة المكرمين فاستخفوا بهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 165
(4/93)
{ وَجَعَلُوا الْمَلَـائكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا } [الزخرف : 19] أي سموا وقالوا إنهم إناث { عِندَ الرَّحْمَـانِ } [مريم : 78] مكي ومدني وشامي ، أي عندية منزلة ومكانة لا منزل ومكان.
والعباد جمع عبد وهو ألزم في الحجاج مع أهل العناد لتضاد بين العبودية والولاد { أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } [الزخرف : 19] وهذا تهكم بهم يعني أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم ، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك ولا تطرقوا إليه باستدلال ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم ولم يشاهدوا خلقهم حتى يخبروا عن المشاهدة { سَتُكْتَبُ شَهَـادَتُهُمْ } [الزخرف : 19] التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم { وَيُسْـاَلُونَ } عنها وهذا وعيد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{ وَقَالُوا لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } [الزخرف : 20] أي الملائكة.
تعلقت المعتزلة بظاهر هذه الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء الإيمان ، فإن الكفار ادعوا أن الله شاء منهم الكفر وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام حيث قالوا { لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَـاهُم } [الزخرف : 20] أي لو شاء منا أن نترك عبادة الأصنام لمنعنا عن عبادتها ، ولكن شاء منا عبادة الأصنام ، والله تعالى رد عليهم قولهم واعتقادهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَالِكَ } [الزخرف : 20] المقول { مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } [الزخرف : 20] أي يكذبون ، ومعنى الآية عندنا أنهم أرادوا بالمشيئة الرضا وقالوا : لو لم يرض بذلك لعجل عقوبتنا ، أو لمنعنا عن عبادتها منع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك ، فرد الله تعالى عليهم بقوله { مَّا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ } [الزخرف : 20] الآية.
أو قالوا ذلك استهزاءً لاجداً واعتقاداً ، فأكذبهم الله تعالى فيه وجهلهم حيث لم يقولوا عن اعتقاد كما قال مخبراً عنهم.
{ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [يس : 47] (يس : 74).
وهذا حق في الأصل ، ولكن لما قالوا ذلك استهزاءً كذبهم الله بقوله { إِنْ أَنتُمْ إِلا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [يس : 47] (يس : 74) وكذلك قال الله تعالى :
169
{ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } [المنافقون : 1] ثم قال { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لَكَـاذِبُونَ } [المنافقون : 1] (المنافقون : 1) لأنهم لم يقولوه عن اعتقاد وجعلوا المشيئة حجة لهم فيما فعلوا باختيارهم ، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على شيء فعلوه بمشيئته ، وجعلوا أنفسهم معذورين في ذلك ، فرد الله تعالى عليهم { أَمْ ءَاتَيْنَـاهُمْ كِتَـابًا مِّن قَبْلِهِ } [الزخرف : 21] من قبل القرآن أو من قبل قولهم هذا { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [الزخرف : 21] آخذون عاملون.
وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره أشهدوا خلقهم أم آتيناهم كتاباً من قبله فيه أن الملائكة إناث { بَلْ قَالُوا } [الأنبياء : 5] بل لا حجة لهم يتمسكون بها لا من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث السمع إلا قولهم { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } [الزخرف : 22] على دين فقلدناهم وهي من الأم وهو القصد فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَآ } [الزخرف : 22] الظرف صلة المهتدون أو هما خبران.
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{ وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } [الزخرف : 23] نبي { إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [سبأ : 34] أي متنعموها وهم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويعافون مشاق الدين وتكاليفه { وَكَذَالِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } [الزخرف : 23] وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم وبيان أن تقليد الآباء داء قديم { قَالَ } شامي وحفص أي النذير ، { قُلْ } : غيرهما أي قيل للنذير قل { أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ } [الزخرف : 24] أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم؟ { قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ كَـافِرُونَ } [الزخرف : 24] إنا ثابتون على دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى
170
(4/94)
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الأعراف : 136] فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الزخرف : 25].
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ } [الزخرف : 26] أي واذكر إذ قال { إِنَّنِى بَرَآءٌ } [الزخرف : 26] أي بريء وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث كما تقول : رجل عدل وامرأة عدل وقوم عدل والمعنى ذو عدل وذات عدل { مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى } استثناء منقطع كأنه قال : لكن الذي فطرني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [الزخرف : 27] يثبتني على الهداية { وَجَعَلَهَا } وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله { إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِى فَطَرَنِى } { كَلِمَةَ بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ } [الزخرف : 28] في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم والترجي لإبراهيم.
{ بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَءَابَآءَهُمْ } [الزخرف : 29] يعني أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد { حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ } [الزخرف : 29] أي القرآن { وَرَسُولٌ } أي محمد عليه السلام { مُّبِينٌ } واضح الرسالة بما معه من الآيات البينة.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ } [الزخرف : 30] القرآن { قَالُوا هَـاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَـافِرُونَ * وَقَالُوا } فيه متحكمين بالباطل { لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ } [الزخرف : 31] فيه استهانة به { عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31] أي رجل عظيم من إحدى القريتين كقوله { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن : 22] (الرحمن : 22) أي من أحدهما ، والقريتان : مكة والطائف.
وعنوا بعظيم
171
مكة الوليد بن المغيرة ، وبعظيم الطائف عروة بن مسعود الثقفي ، وأرادوا بالعظيم من كان ذا مال وذا جاه ولم يعرفوا أن العظيم من كان عند الله عظيماً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } أي النبوة ، والهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من تحكمهم في اختيار من يصلح للنبوة { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ } [الزخرف : 32] ما يعيشون به وهو أرزاقهم { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } [العنكبوت : 25] أي لم نجعل قسمة الأدون إليهم وهو الرزق فكيف النبوة؟ أو كما فضلت البعض على البعض في الرزق فكذا أخص بالنبوة من أشاء { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـاتٍ } [الزخرف : 32] أي جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف : 32] ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويصلوا إلى منافعهم هذا بماله وهذا بأعماله و { رَحْمَتِ رَبِّكَ } [مريم : 2] أي النبوة أو دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [آل عمران : 157] مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.
ولما قلل أمر الدنيا وصغرها أردفه بما يقرر قلة الدنيا عنده فقال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 169
{ وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الزخرف : 33] ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه { لَّجَعَلْنَا } لحقارة الدنيا عندنا { لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِـاُونَ * وَزُخْرُفًا }
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
أي لجعلنا للكفار سقوفاً ومصاعد وأبواباً وسرراً كلها من فضة ، وجعلنا لهم زخرفاً أي زينة من كل شيء.
والزخرف الذهب والزينة ، ويجوز أن يكون الأصل سقفاً من فضة وزخرف أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفاً على محل { مِّن فِضَّةٍ } [الإنسان : 16] لبيوتهم بدل اشتمال من { لِمَن يَكْفُرُ } [الزخرف : 33].
{ سُقُفًا } على الجنس : مكي وأبو عمرو ويزيد.(4/95)
172
والمعارج جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي عليها يظهرون على المعارج يظهرون السطوح أي يعلونها { وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَالِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَاةِ } [الزخرف : 35] " إن " نافية و " لما " بمعنى إلا أي وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا ، وقد قرىء به.
وقرأ { لَمَّا } غير عاصم وحمزة على أن اللام هي الفارقة بين " إن " المخففة والنافية و " ما " صلة أي وإن كل ذلك متاع الحياة الدينا { وَالاخِرَةُ } أي ثواب الآخرة { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف : 35] لمن يتقي الشرك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
{ وَمَن يَعْشُ } [الزخرف : 36] وقرىء { وَمَن يَعْشُ } [الزخرف : 36] والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشى يعشى ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا يعشو.
ومعنى القراءة بالفتح ومن يعم { عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } [الزخرف : 36] وهو القرآن كقوله { صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [البقرة : 18] ومعنى القراءة بالضم : ومن يتعام عن ذكره أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل كقوله : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } [النمل : 14] (النمل : 41) { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف : 36] قال ابن عباس رضي الله عنهما : نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة يحمله على المعاصي.
وفيه إشارة إلى أن من دوام عليه لم يقرنه الشيطان { وَإِنَّهُمْ } أي الشياطين { لَيَصُدُّونَهُمْ } ليمنعون العاشين { عَنِ السَّبِيلِ } [النمل : 24] عن سبيل الهدى { وَيَحْسَبُونَ } أي العاشون { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف : 30] وإنما جمع ضمير { مِّنْ } وضمير الشيطان لأن { مِّنْ } مبهم في جنس العاشي وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه فجاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعاً { حَتَّى إِذَا جَآءَنَا } [الزخرف : 38] على الواحد : عراقي غير أبي بكر أي العاشي { جَآءَنَا } غيرهم أي العاشي وقرينه { قَالَ } لشيطانه { يَـالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } [الزخرف : 38] يريد المشرق والمغرب فغلب كما قيل : العمران والقمران ، والمراد بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق { فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف : 38] أنت.
173
{ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ } [الزخرف : 39] إذ صح ظلمكم أي كفركم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين و " إذ " بدل من { الْيَوْمَ } { أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } [الزخرف : 39] { أَنَّكُمْ } في محل الرفع على الفاعلية أي ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب ، أو كونكم مشتركين في العذاب كما كان عموم البلوى يطيب القلب في الدنيا كقول الخنساء :
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن
أعزي النفس عنه بالتأسي
أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه.
وقيل : الفاعل مضمر أي ولن ينفعكم هذا التمني أو الاعتذار لأنكم في العذاب مشتركون لاشتراككم في سببه وهو الكفر ، ويؤيده قراءة من قرأ { أَنَّكُمْ } بالكسر.
{ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ } [الزخرف : 40] أي من فقد سمع القبول { أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ } [الزخرف : 40] أي من فقد البصر { وَمَن كَانَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [الزخرف : 40] ومن كان في علم الله أنه يموت على الضلال.
{ فَإِمَّا } دخلت " ما " على " إن " توكيداً للشرط ، وكذا النون الثقيلة في { نَذْهَبَنَّ بِكَ } [الزخرف : 41] أي نتوفينك قبل أن ننصرك عليهم ونشفي صدور المؤمنين منهم { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } [الزخرف : 41] أشد الانتقام في الآخرة { أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَـاهُمْ } [الزخرف : 42] قبل أن نتوفاك يعني يوم بدر
174(4/96)
{ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ } [الزخرف : 42] قادرون وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال بقوله { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ } [الزخرف : 40] الآية.
ثم أوعدهم بعذاب الدنيا والآخرة بقوله { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } [الزخرف : 41] الآيتين.
{ فَاسْتَمْسِكْ } فتمسك { بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ } [الزخرف : 43] وهو القرآن واعمل به { إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الزخرف : 43] أي على الدين الذي لا عوج له { وَإِنَّهُ } وإن الذي أوحي إليك { لَذِكْرٌ لَّكَ } [الزخرف : 44] لشرف لك { وَلِقَوْمِكَ } ولأمتك { وَسَوْفَ تُسْـاَلُونَ } [الزخرف : 44] عنه يوم القيامة وعن قيامكم بحقه وعن تعظيمكم له وعن شكركم هذه النعمة { وَسْـاَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ } ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء ، وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه ، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً ، وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها.
وقيل : إنه عليه السلام جمع له الأنبياء ليلة الإسراء فأمهم ، وقيل له : سلهم فلم يشكك ولم يسأل.
وقيل : معناه سل أمم من أرسل وهم أهل الكتابين أي التوراة والإنجيل ، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء ، ومعنى هذا السؤال التقرير لعبدة الأوثان أنهم على الباطل.
و { سَلْ } بلا همزة : مكي وعلي { رُّسُلِنَآ } أبو عمرو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلّم بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الزخرف : 46] ما أجابوه به عند قوله { إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الزخرف : 46] محذوف دل عليه قوله { فَلَمَّا جَآءَهُم بِـاَايَـاتِنَآ } [الزخرف : 47] وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } [الزخرف : 47] يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحراً.
و " إذا " للمفاجأة وهو جواب " فلما " لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محل " إذا " كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم.
175
{ وَمَا نُرِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلا هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [الزخرف : 48] قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها في نقض العادة ، وظاهر النظم يدل على أن اللاحقة أعظم من السابقة وليس كذلك بل المراد بهذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر ولا يكدن يتفاوتن فيه وعليه كلام الناس.
يقال : هما أخوان كل واحد منهما أكرم من الآخر { وَأَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ } [الزخرف : 48] وهو ما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } (الأعراف : 331) الآية.
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] عن الكفر إلى الإيمان { وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ } كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لتعظيمهم علم السحر.
{ وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ } بضم الهاء بلا ألف : شامي.
ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } [الأعراف : 134] بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة ، أو بعهده عندك وهو النبوة ، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } [الزخرف : 49] مؤمنون به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172(4/97)
{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [الزخرف : 50] ينقضون العهد بالإيمان ولا يفون به { وَنَادَى فِرْعَوْنُ } [الزخرف : 51] نادى بنفسه عظماء القبط أو أمر منادياً فنادى كقولك " قطع الأمير اللص " إذا أمر بقطعه { فِى قَوْمِهِ } [الزخرف : 51] جعلهم محلاً لندائه وموقعاً له { قَالَ يَـاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ } [الزخرف : 51] أي أنهار النيل ومعظمها أربعة { تَجْرِى مِن تَحْتِى } [الزخرف : 51] من تحت قصري.
وقيل : بين يدي في جناني.
والواو عاطفة للأنهار على { مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف : 51] و { تَجْرِى } نصب على الحال منها ، أو الواو للحال واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة لاسم الإشارة ، و { تَجْرِى } خبر للمبدأ ، وعن الرشيد أنه لما قرأها قال :
176
لأولينها أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان خادمه على وضوئه ، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال { أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ } [الزخرف : 51] والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثني عنانه { أَفَلا تُبْصِرُونَ } [القصص : 72] قوتي وضعف موسى وغناي وفقره.
جزء : 4 رقم الصفحة : 172
{ أَمْ أَنَا خَيْرٌ } [الزخرف : 52] " أم " منقطعة بمعنى " بل " والهمزة كأنه قال : أثبت عندكم وأستقر أني أنا خير وهذه حالي؟ { مِّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ } [الزخرف : 52] ضعيف حقير { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف : 52] الكلام لما كان به من الرتة { فَلَوْلا } فهلا { أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ } [الزخرف : 53] حفص ويعقوب وسهل جمع سوار ، غيرهم جمع أسورة وأساوير جمع أسوار وهو السوار ، حذف الياء من أساوير وعوض منها التاء { أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [الزخرف : 53] أراد بإلقاء الأسورة عليه إلقاء مقاليد الملك إليه لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب { أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَـائكَةُ مُقْتَرِنِينَ } يمشون معه يقترن بعضهم ببعض ليكونوا أعضاده وأنصاره وأعوانه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 177
ع { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ } [الزخرف : 54] استفزهم بالقول واستنزلهم وعمل فيهم كلامه.
وقيل : طلب منهم الخفة في الطاعة وهي الإسراع { فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ } [الزخرف : 54] خارجين عن دين الله { فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ } [الزخرف : 55] " آسف " منقول من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه ومعناه أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن يعجل لهم عذابنا وانتقامنا وأن لا نحلم عنهم
177
{ فَجَعَلْنَـاهُمْ سَلَفًا } [الزخرف : 56] جمع سالف كخادم وخدم { سَلَفًا } حمزة وعلي ، جمع سليف أي فريق قد سلف { وَمَثَلا } وحديثاً عجيب الشأن سائراً مسير المثل يضرب بهم الأمثال ويقال مثلكم مثل قوم فرعون { لِّلاخِرِينَ } لمن يجيء بعدهم ، ومعناه فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم لإتيانهم بمثل أفعالهم ومثلاً يحدثون به.
(4/98)
{ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا } [الزخرف : 57] لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قريش : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98] (الأنبياء : 89) غضبوا فقال ابن الزبعري : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام : هو لكم ولآلهتكم.
ولجميع الأمم.
فقال : ألست تزعم أن عيسى بن مريم نبي وتثني عليه وعلى أمه خيراً؟ وقد علمت أن النصارى يعبدونهما وعزيز يعبد ، والملائكة يعبدون.
فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وءآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا ، وسكت النبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أؤلئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [الأنبياء : 101] (الأنبياء : 101) ونزلت هذه الآية.
والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً لآلهتهم وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعبادة النصارى إياه { إِذَا قَوْمُكَ } [الزخرف : 57] قريش { مِنْهُ } من هذا المثل { يَصِدُّونَ } يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وضحكاً بما سمعوا منه من إسكات النبي صلى الله عليه وسلّم بجدله ، { يَصِدُّونَ } مدني وشامي والأعشى وعلي ، من الصدود أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه.
وقيل : من الصديد وهو الجلبة وأنهما لغتان نحو يعكف ويعكف { وَقَالُوا ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا { مَا ضَرَبُوهُ } [الزخرف : 58] أي ما ضربوا هذا المثل { لَكَ إِلا جَدَلا} [الزخرف : 58] إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب الميز بين الحق والباطل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 177
{ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف : 58] لد شداد الخصومة دأبهم اللجاج وذلك أن قوله تعالى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [الأنبياء : 98] لم يرد به إلا الأصنام لأن ما لغير العقلاء إلا أن ابن
178
الزبعري بخداعه لما رأى كلام الله محتملاً لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير ، وجد للحيلة مساغاً فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله على طريق اللجاج والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى أجاب عنه ربه { إِنْ هُوَ } [يوسف : 104] ما عيسى { إِلا عَبْدٌ } [الزخرف : 59] كسائر العبيد { أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [الزخرف : 59] بالنبوة { وَجَعَلْنَـاهُ مَثَلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الزخرف : 59] وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبني إسرائيل { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَـائكَةً فِى الارْضِ } [الزخرف : 60] أي بدلاً منكم كذا قاله الزجاج.
وقال جامع العلوم : لجعلنا بدلكم و " من " بمعنى البدل { يَخْلُفُونَ } يخلفونكم في الأرض أو يخلف الملائكة بعضهم بعضاً.
وقيل : ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور لجعلنا منكم ، لولّدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم كما ولّدنا عيسى من أنثى من غير فحل ، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ، ولتعلموا أن الملائكة أجساد لا تتولد إلا من أجسام والقديم متعالٍ عن ذلك.
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } [الزخرف : 61] وإن عيسى مما يعلم به مجيء الساعة.
وقرأ ابن عباس { لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } [الزخرف : 61] وهو العلامة أي وإن نزوله علم للساعة { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا } [الزخرف : 61] فلا تشكن فيها من المرية وهو الشك { وَاتَّبِعُونِ } وبالياء فيهما : سل ويعقوب أي واتبعوا هداي وشرعي أو رسولي أو هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقوله { هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [آل عمران : 51] أي هذا الذي أدعوكم إليه { وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ } [الزخرف : 62] عن الإيمان بالساعة أو عن الاتباع { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظاهر العداوة إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 177
{ وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـاتِ } [الزخرف : 63] بالمعجزات أو بآيات الإنجيل والشرائع
179(4/99)
البينات الواضحات { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ } [الزخرف : 63] أي الإنجيل والشرائع { وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [الزخرف : 63] وهو أمر الدين لا أمر الدنيا { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَـاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلابَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } هذا تمام كلام عيسى عليه السلام.
{ فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ } [مريم : 37] الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم : اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية { مِن بَيْنِهِمْ } [الزخرف : 65] من بين النصارى { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا } [الزخرف : 65] حيث قالوا في عيسى ما كفروا به { مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [الزخرف : 65] وهو يوم القيامة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ } [الزخرف : 66] الضمير لقوم عيسى أو للكفار { أَن تَأْتِيَهُم } [محمد : 18] بدل من { السَّاعَةَ } أي هل ينظرون إلا إتيان الساعة { بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] أي وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم كقوله { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } [يس : 49] (يس : 94) { الاخِلاءُ } جمع خليل { يَوْمَـاـاِذ } يوم القيامة { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف : 67] أي المؤمنين.
وانتصاب { يَوْمَـاـاِذ } بـ { عَدُوٌّ } أي تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله وتنقلب عداوة ومقتاً إلا خلة المتصادقين في الله فإنها الخلة الباقية { يَـاعِبَادِ } بالياء في الوصل والوقف : مدني وشامي وأبو عمرو ، وبفتح الياء : أبو بكر.
الباقون : بحذف الياء { لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } [الزخرف : 68] هو حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ { الَّذِينَ } منصوب المحل على صفة لعبادي لأنه منادى مضاف { ءَامَنُوا بِـاَايَـاتِنَا } صدقوا بآياتنا { وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } [الزخرف : 69] لله منقادين له
180
{ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } [الزخرف : 70] المؤمنات في الدنيا { تُحْبَرُونَ } تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره على وجوهكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 177
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ } [الزخرف : 71] جمع صفحة { مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ } [الزخرف : 71] أي من ذهب أيضاً والكوب الكوز لا عروة له { وَفِيهَا } في الجنة { مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ } [الزخرف : 71] مدني وشامي وحفص بإثبات الهاء العائدة إلى الموصول ، وحذفها غيرهم لطول الموصول بالفعل والفاعل والمفعول.
و { وَتَلَذُّ الاعْيُنُ } [الزخرف : 71] وهذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهيات في القلوب أو مستلذة في العيون
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفُسُ وَتَلَذُّ الاعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } { تِلْكَ } إشارة إلى الجنة المذكورة وهي مبتدأ و { الْجَنَّةُ } خبر و { الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف : 72] صفة الجنة ، أو { الْجَنَّةُ } صفة للمبتدأ الذي هو اسم الإشارة و { الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف : 72] خبر المبتدأ ، أو { الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا } [الزخرف : 72] صفة المبتدأ و { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] الخبر ، والباء تتعلق بمحذوف أي حاصلة أو كائنة كما في الظروف التي تقع أخباراً ، وفي الوجه الأول تتعلق بـ { أُورِثْتُمُوهَا } وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة { لَكُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } [الزخرف : 73] " من " للتبعيض أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في شجرها فهي مزينة بالثمار أبداً ، وفي الحديث " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها " .
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ } [الزخرف : 74] خبر بعد خبر { لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [الزخرف : 75] خبر آخر أي لا يخفف ولا ينقص { وَهُمْ فِيهِ } [الزخرف : 75] في العذاب { مُبْلِسُونَ } آيسون من الفرج متحيرون
181(4/100)
{ وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ } [هود : 101] بالعذاب { وَلَـاكِن كَانُوا هُمُ الظَّـالِمِينَ } [الزخرف : 76] هم فصل { وَنَادَوْا يَـامَـالِكُ } [الزخرف : 77] لما آيسوا من فتور العذاب نادروا يا مالك وهو خازن النار.
وقيل لابن عباس : إن ابن مسعود قرأ " يا مال " فقال : ما أشغل أهل النار عن الترخيم { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [الزخرف : 77] ليمتنامن قضى عليه إذا أماته { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } [القصص : 15] (القصص : 51) والمعنى سل ربك أن يقضي علينا { قَالَ إِنَّكُم مَّـاكِثُونَ } [الزخرف : 77] لا بثون في العذاب لا تتخلصون عنه بموت ولا فتور { لَقَدْ جِئْنَـاكُم بِالْحَقِّ } [الزخرف : 78] كلام الله تعالى.
ويجب أن يكون في { قَالَ } ضمير الله لما سألوا مالكاً أن يسأل القضاء عليهم أجابهم الله بذلك.
وقيل : هو متصل بكلام مالك والمراد بقوله جئناكم الملائكة إذ هم رسل الله وهو منهم { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ } [الزخرف : 78] لا تقبلونه وتنفرون منه لأن مع الباطل الدعة ومع الحق التعب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا } [الزخرف : 79] أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم { فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } [الزخرف : 79] كيدنا كما أبرموا كيدهم وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في دار الندوة { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ } [الزخرف : 80] حديث أنفسهم { وَنَجْوَاـاهُم } ما يتحدثون فيما ببينهم ويخفونه عن غيرهم { بَلَى } نسمعها ونطلع عليها { وَرُسُلُنَا } أي الحفظة { لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف : 80] عندهم يكتبون ذلك ، وعن يحيى بن معاذ : من ستر من الناس عيوبه وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من أمارات النفاق.
{ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ } [الزخرف : 81] وصح ذلك ببرهان { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ } [الزخرف : 81] فأنا أول
182
من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد إليه كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه ، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والمراد نفي الولد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها فكان المعلق بها محالاً مثلها ، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له : والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك.
وقيل : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين أي الموحدين لله المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه.
وقيل ؛ إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد ، من عبد يعبد إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد.
وقرىء { الْعَـابِدِينَ } وقيل : هي " إن " النافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد.
وروي أن النضر قال : الملائكة بنات الله فنزلت : فقال النضر : ألا ترون أنه صدقني فقال له الوليد : ما صدقك ولكن قال ما كان للرحمن ولد فأنا أو الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
{ وَلَدٌ } حمزة وعلي.
ثم نزه ذاته على اتخاذ الولد فقال { سُبْحَـانَ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الزخرف : 82] أي هو رب السماوات والأرض والعرش فلا يكون جسماً إذ لو كان جسماً لم يقدر على خلقها ، وإذا لم يكن جسماً لا يكون له ولد لأن التولد من صفة الأجسام { فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا } [الزخرف : 83] في باطلهم { وَيَلْعَبُوا } في دنياهم { حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } [الزخرف : 83] أي القيامة ، وهذا دليل على أن ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{ وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ } [الزخرف : 84] ضمن اسمه تعالى معنى وصف فلذلك علق به الظرف في قوله { فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] { وَفِى الارْضِ } [الزخرف : 84] كما تقول : هو حاتم في طيّ وحاتم في تغلب.
على تضمين معنى الجواد الذي شهر به كأنك قلت : هو جواد في طيّ
183
(4/101)
جواد في تغلب.
وقرىء { وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } ومثله قوله { وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ } [الأنعام : 3] فكأنه ضمن معنى المعبود.
والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام كقولهم " ما أنا بالذي قائل لك شيئاً " والتقدير : وهو الذي هو في السماء إله.
و { إِلَـاهٌ } يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر ولا يرتفع { إِلَـاهٌ } بالابتداء وخبره { فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] لخلو الصلة حينئذ من عائد يعود إلى الموصول { وَهُوَ الْحَكِيمُ } [الأنعام : 18] في أقواله وأفعاله { الْعَلِيمُ } بما كان ويكون { وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [الزخرف : 85] أي علم قيامها { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] { يَرْجِعُونَ } : مكي وحمزة وعلي { وَلا يَمْلِكُ } [الزخرف : 86] آلهتهم { الَّذِينَ يَدْعُونَ } [الأنعام : 52] أي يدعونهم { مِن دُونِهِ } [يس : 23] من دون الله { الشَّفَـاعَةَ } كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله { إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } [الزخرف : 86] أي ولكن من شهد بالحق بكلمة التوحيد { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] أن الله ربهم حقاً ويعتقدون ذلك هو الذي يملك الشفاعة ، وهو استثناء منقطع أو متصل لأن في جملة الذين يدعون من دون الله الملائكة { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُم } [التوبة : 65] أي المشركين { مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف : 87] لا الأصنام والملائكة { فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } [العنكبوت : 61] فكيف أو من أين يصرفون عن التوحيد مع هذا الإقرار
جزء : 4 رقم الصفحة : 181
{ وَقِيلِهِ } بالجر : عاصم وحمزة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله { يَـارَبِّ } والهاء يعود إلى محمد صلى الله عليه وسلّم لتقدم ذكره في قوله : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَـابِدِينَ } .
وبالنصب : الباقون عطفاً على محل { السَّاعَةَ } أي يعلم الساعة ويعلم قيله أي قيل محمد يا رب.
والقيل والقول والمقال واحد ، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه.
وجواب القسم { إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ } [الزخرف : 88] كأنه قيل : وأقسم بقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه
184
{ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } [الزخرف : 89] فأعرض عن دعوتهم يائساً عن إيمانهم وودعهم وتاركهم و { وَقُلْ } لهم { سَلَـامٌ } أي تسلم منكم ومتاركة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3] وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلّم.
وبالتاء : مدني وشامي.
185
سورة الدخان
تسع وخمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
في الخبر " من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفوراً له " .
{ حم* وَالْكِتَـابِ الْمُبِينِ } أي القرآن.
الواو في { وَالْكِتَـابِ } واو القسم.
إن جعلت { حم } تعديداً للحروف ، أو اسماً للسورة مرفوعاً على خبر الابتداء المحذوف ، وواو العطف إن كانت { حم } مقسماً بها وجواب القسم { إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـارَكَةٍ } [الدخان : 3] أي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان.
وقيل : بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة.
والجمهور على الأول لقوله { إِنَّآ أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر : 1] (القدر : 1) وقوله { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } [البقرة : 185] (البقرة : 581) وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان.
ثم قالوا : أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل في وقت وقوع الحاجة إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : ابتداء نزوله في ليلة القدر.
والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة
186(4/102)
{ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ } هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل : أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً ، لأن إنزال القرآن من الأمور الحكمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.
ومعنى { يُفْرَقُ } يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة { حَكِيمٍ } ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة ، وهو من الإسناد المجازي لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازاً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 186
{ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ } [الدخان : 5] نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [الدخان : 5] بدل من { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [الدخان : 3] { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الإسراء : 87] مفعول له على معنى أنزلنا القرآن.
لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم ، أو تعليل لقوله { أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ } [الدخان : 5] ، و { رَحْمَةً } مفعول به.
وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله { وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر : 2] (فاطر : 2) والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لأقوالهم { الْعَلِيمُ } بأحوالهم { رَبِّ } كوفي بدل من { رَّبِّكَ } وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ { السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } [الشعراء : 24] ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ، ثم قيل : إن هذا الرب هو السميع العليم الذي أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول : إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته
187
{ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ } [الدخان : 8] أي هو ربكم { وَرَبُّ ءَابَآ ـاِكُمُ الاوَّلِينَ } [الشعراء : 26] عطف عليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 186
ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ } [الدخان : 9] وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب { فَارْتَقِبْ } فانتظر { يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ } [الدخان : 10] يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ، ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.
وقيل : إن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا عليهم فقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان { مُّبِينٍ } ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان { يَغْشَى النَّاسَ } [الدخان : 11] يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة لـ { دُخَانٌ } وقوله { رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } [الدخان : 13] كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من
188
الإيمان عند كشف العذاب { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } [الدخان : 13].
جزء : 4 رقم الصفحة : 186(4/103)
{ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } [الدخان : 14] أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان ، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه إلى الجنون { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا } [الدخان : 15] زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً { إِنَّكُمْ عَآ ـاِدُونَ } [الدخان : 15] إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } [الدخان : 16] هي يوم القيامة أو يوم بدر { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [الدخان : 16] أي ننتقم منهم في ذلك اليوم.
وانتصاب { يَوْمَ نَبْطِشُ } [الدخان : 16] بـ " اذكر " أو بما دل عليه { إِنَّا مُنتَقِمُونَ } [الدخان : 16] وهو ننتقم لا بـ { مُنتَقِمُونَ } لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ } [الدخان : 17] قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً { قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } [الدخان : 17] على الله وعلى عباده المؤمنين ، أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم { أَنْ أَدُّوا إِلَىَّ } [الدخان : 18] هي " أن " المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله ، أو المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليّ سلّموا إلي { عِبَادَ اللَّهِ } [الدخان : 18] هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول : أدوهم إلي وأرسلوهم معي كقوله : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ } [طه : 47] (طه : 74).
ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى أدوا إلي يا عباد الله ما هو واجب لي عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي ، وعلل ذلك بقوله { إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } [الشعراء : 107] أي على رسالتي غير متهم { وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ } [الدخان : 19] " أن " هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا
189
على الله بالاستهانة برسوله ووحيه ، أو لا تستكبروا على نبي الله { وَأَن لا تَعْلُوا عَلَى } [الدخان : 19] بحجة واضحة تدل على أني نبي { وَإِنِّى عُذْتُ } [الدخان : 20] مدغم : أبو عمرو وحمزة وعلي { بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } [الدخان : 20] أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ } [الدخان : 21] أي إن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عني ، أو فخلوني كفافاً لا لي ولا عليّ ولا تتعرضوا لي بشركم وأذاكم ، فليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ذلك.
، في الحالين : يعقوب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 186
جزء : 4 رقم الصفحة : 190
(4/104)
{ فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ } [الدخان : 22] شاكياً قومه { أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } [الدخان : 22] بأن هؤلاء أي دعا ربه بذلك.
قيل : كان دعاؤه : اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم.
وقيل : هو قوله { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 85] وقرىء { أَنَّ هؤلاء } [الحجر : 68] بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء { فَأَسْرِ } من أسرى.
{ فَأَسْرِ } بالوصل : حجازي من سرى والقول مضمر بعد الفاء أي فقال أسر { بِعِبَادِى } أي بني إسرائيل { لَيْلا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } [الدخان : 23] أي دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجي المتقدمين ويغرق التابعين { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا } [الدخان : 24] ساكناً.
أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً لا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط ، فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم.
وقيل : الرهو : الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } [الدخان : 24] بعد خروجكم من البحر ، وقرىء بالفتح أي لأنهم.
{ كَمْ } عبارة عن الكثرة منصوب بقوله :
190
{ تَرَكُوا مِن جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ } [الدخان : 25].
{ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [الدخان : 26] هو ما كان لهم من المنازل الحسنة وقيل : المنابر { وَنَعْمَةٍ } تنعم { كَانُوا فِيهَا فَـاكِهِينَ } [الدخان : 27] متنعمين { كَذَالِكَ } أي الأمر كذلك فالكاف في موضع الرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر { كَذَالِكَ وَأَوْرَثْنَـاهَا قَوْمًا } [الدخان : 28] ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء وهم بنو إسرائيل { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالارْضُ } [الدخان : 29] لأنهم ماتوا كفاراً ، والمؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض فيبكي على المؤمن من الأرض مصلاه ومن السماء مصعد عمله ، وعن الحسن : أهل السماء والأرض { وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ } [الدخان : 29] أي لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 190
{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [الدخان : 30] أي الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد { مِن فِرْعَوْنَ } [الدخان : 31] بدل من { الْعَذَابِ الْمُهِينِ } [سبأ : 14] بإعادة الجار كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من فرعون { إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا } [الدخان : 31] متكبراً { مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } [الدخان : 31] خبر ثانٍ أي كان متكبراً مسرفاً { وَلَقَدِ اخْتَرْنَـاهُمْ } [الدخان : 32] أي بني إسرائيل { عَلَى عِلْمٍ } [الزمر : 49] حال من ضمير الفاعل أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا { عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] على عالمي زمانهم { وَءَاتَيْنَـاهُم مِّنَ الايَـاتِ } [الدخان : 33] كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك { مَا فِيهِ بَلَـاؤٌا مُّبِينٌ } [الدخان : 33] نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون { أَنَّ هؤلاء } [الحجر : 68] يعني كفار قريش { لَيَقُولُونَ * إِنْ هِىَ } ما الموتة { إِلا مَوْتَتُنَا الاولَى } [الصافات : 59] والإشكال أن الكلام وقع في الحياة الثانية لا في الموت ، فهلا قيل : إن
191(4/105)
هي إلا حياتنا الأولى؟ وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى جحدوها وأثبتوا الأولى؟ والجواب أنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قول تعالى : { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَـاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة : 28] (البقرة : 82) فقالوا : إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله " إلا حياتنا الدنيا " في المعنى.
ويحتمل أن يكون هذا إنكاراً لما في قوله : { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [غافر : 11] (غافر : 11) { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } [الدخان : 35] بمبعوثين يقال : أنشر الله الموتى.
ونشرهم إذا بعثهم { فَأْتُوا بِـاَابَآ ـاِنَآ } [الدخان : 36] خطاب الذين كانوا يعدونهم النشور من رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أي إن صدقتم فيما تقولون فعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 190
{ أَهُمْ خَيْرٌ } [الدخان : 37] في القوة والمنعة { أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [الدخان : 37] هو تبع الحميري كان مؤمناً وقومه كافرين.
وقيل : كان نبياً في الحديث : " ما أدرى أكان تبع نبياً أو غير نبي " { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الدخان : 37] مرفوع بالعطف على { قَوْمُ تُبَّعٍ } [الدخان : 37] { أَهْلَكْنَـاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [الدخان : 37] كافرين منكرين للبعث { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } [الحجر : 85] أي وما بين الجنسين { لَـاعِبِينَ } حال ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للفناء خاصة فيكون لعباً { مَا خَلَقْنَـاهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ } [الدخان : 39] بالجد ضد اللعب { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] أنه خلق لذلك.
192
{ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ } [النبأ : 17] بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة { مِيقَـاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الدخان : 40] وقت موعدهم كلهم { يَوْمَ لا يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شيئا } [الدخان : 41] أيّ ولي كان عن أي ولي كان شيئاً من إغناء أي قليلاً منه { وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 48] الضمير للمولى لأنهم في المعنى لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى { إِلا مَن رَّحِمَ اللَّهُ } [الدخان : 42] في محل الرفع على البدل من الواو في { يُنصَرُونَ } أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } [العنكبوت : 26] الغالب على أعدائه { الرَّحِيمُ } لأوليائه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 190
{ إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ } هي على صورة شجرة الدنيا لكنها في النار والزقوم ثمرها وهو كل طعام ثقيل { طَعَامُ الاثِيمِ } [الدخان : 44] هو الفاجر الكثير الآثام.
وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول : طعام اليتيم.
فقال : قل طعام الفاجر يا هذا.
وبهذا تستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية بشرط أن يؤدي القارىء المعاني كلها على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً.
قالوا : وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه وأساليبه من لطائف المعاني والدقائق ما لا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها.
ويروى رجوعه إلى قولهما وعليه الاعتماد { كَالْمُهْلِ } هو دردي الزيت ، والكاف رفع خبر بعد خبر { يَغْلِى فِى الْبُطُونِ } [الدخان : 45] بالياء : مكي وحفص (وقرىء بالتاء) فالتاء للشجرة والياء للطعام
193(4/106)
{ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ } [الدخان : 46] أي الماء الحار الذي انتهى غليانه ومعناه غلياً كغلي الحميم فالكاف منصوب المحل.
ثم يقال للزبانية { خُذُوهُ } أي الأثيم { فَاعْتِلُوهُ } فقودوه بعنف وغلظة ، { فَاعْتِلُوهُ } مكي ونافع وشامي وسهل ويعقوب { إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ } [الدخان : 47] إلى وسطها ومعظمها { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } [الدخان : 48] المصبوب هو الحميم لا عذابه إلا أنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته وصب العذاب استعارة ويقال له { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان : 49] على سبيل الهزؤ والتهكم.
{ إِنَّكَ } أي لأنك : عليّ { إِنَّ هَـاذَا } [ص : 23] أي العذاب أو هذا الأمر هو { مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ } [الدخان : 50] تشكون.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ } [الدخان : 51] بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم ، وبالضم : مدني وشامي وهو موضع الإقامة { أَمِينٌ } من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن ، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره { فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر : 45] بدل من { مَقَامٍ أَمِينٍ } [الدخان : 51] { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } [الدخان : 53] ما رقّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه وهو تعريب استبر ، واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي { مُّتَقَـابِلِينَ } في مجالسهم وهو أتم للأنس { كَذَالِكَ } الكاف مرفوعة أي الأمر كذلك { وَزَوَّجْنَـاهُم } وقرناهم
194
ولهذا عدي بالباء { بِحُورٍ } جمع حوراء وهي الشديدة سواد العين والشديدة بياضها { عِينٍ } جمع عيناء وهي الواسعة العين { يَدْعُونَ فِيهَا } [ص : 51] يطلبون في الجنة { بِكُلِّ فَـاكِهَةٍ ءَامِنِينَ } [الدخان : 55] من الزوال والانقطاع وتولد الضرر من الإكثار { لا يَذُوقُونَ فِيهَا } [النبأ : 24] أي في الجنة { الْمَوْتَ } البتة { إِلا الْمَوْتَةَ الاولَى } [الدخان : 56] أي سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا.
وقيل : لكن الموتة قد ذاقوها في الدنيا { وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي للفضل فهو مفعول له أو مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله { وَوَقَـاـاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [الدخان : 56] تفضل منه لهم لأن العبد لا يستحق على الله شيئاً { ذَالِكَ } أي صرف العذاب ودخول الجنة { فَضْلا مِّن رَّبِّكَ ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي الكتاب وقد جرى ذكره في أول السورة { بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [الدخان : 58] يتعظون { فَارْتَقِبْ } فانتظر ما يحل بهم { إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ } [الدخان : 59] منتظرون ما يحل بك من الدوائر.
195
سورة الجاثية
مكية وهي سبع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم } إن جعلتها إسماً للسورة فهو مرفوعة بالابتداء والخبر { تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ } [الزمر : 1] صلة للتنزيل ، وإن جعلتها تعديداً للحروف كان { تَنزِيلُ الْكِتَـابِ } [السجدة : 2] مبتدأ والظرف خبراً { الْعَزِيزِ } في انتقامه { الْحَكِيمِ } في تدبيره { إِنَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ لايَـاتٍ } [الجاثية : 3] لدلالات على وحدانيته ، ويجوز أن يكون المعنى إن في خلق السماوات والأرض لآيات { لِّلْمُؤْمِنِينَ } دليله قوله { وَفِى خَلْقِكُمْ } [الجاثية : 4] ويعطف { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } [الجاثية : 4] على الخلق المضاف لأن المضاف إليه ضمير مجرور متصل يقبح العطف عليه { ءَايَـاتِ } حمزة وعلي بالنصب.
وغيرهما بالرفع مثل قولك إن زيداً في الدار وعمراً في السوق أو وعمرو في السوق { وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ } أي مطر وسمي به لأنه سبب الرزق { فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 196
الجاثية : 5] { الرِّيحَ } حمزة وعلي.
196(4/107)
{ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ } [الجاثية : 5 ، 6] بالنصب : علي وحمزة ، وغيرهما بالرفع ، وهذا من العطف على عاملين سواء نصبت أو رفعت فالعاملان إذا نصبت " إن " و " في " .
أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في { وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [آل عمران : 190] والنصب في { ءَايَـاتِ } .
وإذا رفعت فالعاملان الابتداء و " في " .
في عملت الواو الرفع في آيات والجر في { وَاخْتِلَـافِ } هذا مذهب الأخفش لأنه يجوز العطف على عاملين ، وأما سيبويه فإنه لا يجيزه وتخريج الآية عنده ، أن يكون على اضمار " في " والذي حسنه تقديم ذكر " في " في الآيتين قبل هذه الآية ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه و { إِنَّ فِى اخْتِلَـافِ الَّيْلِ } [يونس : 6] ويجوز أن ينتصب { ءَايَـاتِ } على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفاً على ما قبله ، أو على التكرير توكيداً لآيات الأولى كأنه قيل : آيات آيات ، ورفعها بإضمار هي.
والمعنى في تقديم الإيمان على الإيقان وتوسيطه وتأخير الآخر ، أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات والأرض نظراً صحيحاً علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا بالله ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وفي خلق ما ظهر على الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بها بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم { تِلْكَ } إشارة إلى الآيات المتقدمة أي تلك الآيات { اللَّهِ إِلا } [غافر : 4] وقوله { نَتْلُوهَا } في محل الحال أي متلوة { عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } [الجاثية : 6] والعامل ما دل عليه { تِلْكَ } من معنى الإشارة { فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَ اللَّهِ وَءايَـاتِهِ } أي بعد آيات الله كقولهم " أعجبني زيد وكرمه " يريدون أعجبني كرم زيد { يُؤْمِنُونَ } حجازي وأبو عمرو وسهل وحفص ، وبالتاء غيرهم على تقدير قل يا محمد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 196
{ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ } [الجاثية : 7] كذاب { أَثِيمٍ } متبالغ في اقتراف الآثام { يَسْمَعُ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [الجاثية : 8] في موضع جر صفة { تُتْلَى عَلَيْهِ } [القلم : 15] حال من آيات الله { ثُمَّ يُصِرُّ } [الجاثية : 8] يقبل على كفره ويقيم عليه { مُسْتَكْبِرًا } عن الإيمان بالآيات والإذعان لما تنطق
197
به من الحق مزدرياً لها معجباً بما عنده.
قيل : نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث العجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن.
والآية عامة في كل من كان مضاراً لدين الله.
وجيء بـ " ثم " لأن الإصرار على الضلالة والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن مستبعد في العقول { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } [الجاثية : 8] " كأن " مخففة والأصل كأنه لم يسمعها والضمير ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصر مثل غير السامع { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان : 7] فأخبره خبراً يظهر أثره على البشرة.
{ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَـاتِنَا شيئا } [الجاثية : 9] وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها { اتَّخَذَهَا } اتخذ الآيات { هُزُوًا } ولم يقل اتخذه للإشعار بأنه إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى شيء لأنه في معنى الآية كقول أبي العتاهية :
نفسي بشيء من الدنيا معلقة
الله والقائم المهدي يكفيها
حيث أراد عتبة { أؤلئك } إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله الأفاكين { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [الحج : 57] مخز { مِّن وَرَآ ـاِهِمْ } [الجاثية : 10] من قدامهم الوراء اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام { جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُوا } [الجاثية : 10] من الأموال { شيئا } من عذاب الله { وَلا مَا اتَّخَذُوا } [الجاثية : 10] " ما " فيهما مصدرية أو موصلة { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] من الأوثان { أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الجاثية : 10] في جهنم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 196
{ هَـاذَا هُدًى } [الجاثية : 11] إشارة إلى القرآن ويدل عليه
جزء : 4 رقم الصفحة : 198(4/108)
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَاتِ رَبِّهِمْ } [الجاثية : 11] لأن آيات ربهم هي القرآن أي هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي
198
كامل في الرجولية { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ } [سبأ : 5] هو أشد العذاب { أَلِيمٍ } بالرفع : مكي ويعقوب وحفص صفة لعذاب وغيرهم بالجر صفة لرجز { اللَّهُ الَّذِى سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِىَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } [الجاثية : 12] بإذنه { وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } [النحل : 14] بالتجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان واستخراج اللحم الطري { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا } هو تأكيد ما في السماوات وهو مفعول { سَخَّرَ } وقيل : { جَمِيعًا } نصب على الحال { مِّنْهُ } حال أي سخر هذه الأشياء كائنة منه حاصلة من عنده ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه ، أو صفة للمصدر أي تسخيراً منه { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا } أي قل لهم اغفروا يغفروا فحذف المقول لأن الجواب يدل عليه.
ومعنى يغفروا يعفوا ويصفحوا.
وقيل : إنه مجزوم بلام مضمر تقديره ليغفرو فهو أمر مستأنف وجاز حذف اللام للدلالة على الأمر { لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } [الجاثية : 14] لا يتوقعون وقائع الله بأعدائه من قولهم لوقائع العرب أيام العرب.
وقيل : لا يؤملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها.
قيل : نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من المشركين من بني غفار فهم أن يبطش به { لِيَجْزِىَ } تعليل للأمر بالمغفرة أي إنما أمروا بأن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة.
وتنكير { قَوْمَا } على المدح لهم كأنه قيل : ليجزي أيما قوم و { قَوْمَا } مخصوصين بصبرهم على أذى أعدائهم.
} لتجزي } شامي وحمزة وعلي.
{ لِيَجْزِىَ قَوْمَا } [الجاثية : 14] يزيد أي ليجزى الخير قوماً فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه كما أضمر الشمس في قوله { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } (ص : 23) لأن قوله { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ } [ص : 31] دليل
199
على تواري الشمس ، وليس التقدير ليجزي الجزاء قوماً لأن المصدر لا يقوم مقام الفاعل ومعك مفعول صحيح ، أما إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل فجائز وأنت تقول جزاك الله خيراً { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام : 129] من الإحسان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 198
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت : 46] أي لها الثواب وعليها العقاب { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [السجدة : 11] أي إلى جزائه.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ الْكِتَابَ } [الجاثية : 16] التوراة { وَالْحُكْمَ } الحكمة والفقه أو فصل الخصومات بين الناس لأن الملك كان فيهم { وَالنُّبُوَّةَ } خصها بالذكر لكثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم { وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } [يونس : 93] مما أحل الله لهم وأطاب من الأرزاق { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [الجاثية : 16] على عالمي زمانهم { وَءَاتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ } [الجاثية : 17] آيات ومعجزات { مِّنَ الامْرِ } [آل عمران : 128] من أمر الدين { فَمَا اخْتَلَفُوا } [الجاثية : 17] فما وقع الخلاف بينهم في الدين { إِلا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ } [آل عمران : 19] أي إلا من بعد ما جاءهم ما هو موجب لزوال الخلاف وهو العلم وإنما اختلفوا لبغي حدث بينهم أي لعداوة وحسد بينهم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [يونس : 93] قيل : المراد اختلافهم في أوامر الله ونواهيه في التوراة حسداً وطلباً للرياسة لا عن جهل يكون الإنسان به معذوراً.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ } [الجاثية : 18] بعد اختلاف أهل الكتاب { عَلَى شَرِيعَةٍ } [الجاثية : 18] على طريقة ومنهاج { مِّنَ الامْرِ } [آل عمران : 128] من أمر الدين { فَاتَّبِعْهَا } فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج والدلائل { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [الجاثية : 18] ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء
200(4/109)
الجهال ودينهم المبني على هوى وبدعة وهم رؤساء قريش حين قالوا : ارجع إلى دين آبائك { إِنَّهُمْ } إن هؤلاء الكافرين { لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شيئا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُتَّقِينَ } [الجاثية : 19] وهم موالوه وما أبين الفضل بين الولايتين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 198
{ هَاذَا } أي القرآن { بَصَائرُ لِلنَّاسِ } [القصص : 43] جعل ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب كما جعل روحاً وحياة { وَهُدًى } من الضلالة { وَرَحْمَةٌ } من العذاب { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة : 118] لمن آمن وأيقن بالبعث { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ } [الجاثية : 21] " أم " منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان { اجْتَرَحُوا السَّيِّاَاتِ } [الجاثية : 21] اكتسبوا المعاصي والكفر ومنه الجوارح وفلان جارحة أهله أي كاسبهم { أَن نَّجْعَلَهُمْ } [الجاثية : 21] أن نصيرهم وهو من " جعل " المتعدي إلى مفعولين فأولهما الضمير والثاني الكاف في { كَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [الجاثية : 21] والجملة التي هي { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [الجاثية : 21] بدل من الكاف لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً فكانت في حكم المفرد ، { سَوَآءً } علي وحمزة وحفص بالنصب على الحال من الضمير في { نَّجْعَلَهُمْ } ويرتفع { مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [الجاثية : 21] بـ { سَوَآءً } .
وقرأ الأعمش { وَمَمَاتُهُمْ } بالنصب جعل { مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [الجاثية : 21] ظرفين كمقدم الحاج أي سواء في محياهم وفي مماتهم.
والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً وأن يستووا مماتاً لافتراق أحوالهم أحياء ، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة ، وقيل : معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة في الرزق والصحة ، وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام فبلغ هذه الآية فجعل يبكي ويردد إلى الصباح ، وعن الفضيل أنه بلغها فجعل يرددها ويبكي ويقول : يا فضيل ليت شعري من
201
أي الفريقين أنت { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام : 136] بئس ما يقضون إذا حسبوا أنهم كالمؤمنين فليس من أقعد على بساط الموافقة كمن أقعد على مقام المخالفة بل نفرق بينهم فنعلي المؤمنين ونخزي الكافرين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 198
{ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ } [الجاثية : 22] ليدل على قدرته { وَلِتُجْزَى } معطوف على هذا المعلل المحذوف { كُلُّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَااهُ } أي هو مطواع لهوى النفس يتبع ما تدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } [الجاثية : 23] منه باختياره الضلال أو أنشأ فيه فعل الضلال على علم منه بذلك { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } [الجاثية : 23] فلا يقبل وعظاً { وَقَلْبِهِ } فلا يعتقد حقاً { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية : 23] فلا يبصر عبرة ، { غِشَاوَةً } حمزة وعلي { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ } [الجاثية : 23] من بعد إضلال الله إياه { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالتشديد.
فأصل الشر متابعة الهوى والخير كله في مخالفته فنعم ما قال :
إذا طلبتك النفس يوماً بشهوة
وكان إليها للخلاف طريق
فدعها وخالف ما هويت فإنما
هواك عدو والخلاف صديق(4/110)
{ وَقَالُوا مَا هِىَ } [الجاثية : 24] أي ما الحياة لأنهم وعدوا حياة ثانية { إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } [المؤمنون : 37] التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } [المؤمنون : 37] نموت نحن ونحيا ببقاء أولادنا ، أو يموت بعض ويحيا بعض ، أو نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ونحيا بعد ذلك ، أو يصيبنا الأمران الموت والحياة يريدون الحياة في الدنيا والموت بعدها وليس وراء ذلك حياة.
وقيل : هذا كلام من يقول بالتناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في موات فيحيا به { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلا الدَّهْرُ } [الجاثية : 24] كانوا يزعمون أن مرور الأيام والليالي هو المؤثر في هلاك الأنفس
202
وينكرون ملك الموت وقبضه الأرواح بإذن الله ، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلى الدهر والزمان ، وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان ومنه قوله عليه السلام : " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " أي فإن الله هو الآتي بالحوادث لا الدهر { وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ } [الجاثية : 24] وما يقولون ذلك من علم ويقين ولكن من ظن وتخمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 198
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا } [يونس : 15] أي القرآن يعني ما فيه من ذكر البعث { بَيِّنَـاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } [الجاثية : 25] وسمى قولهم حجة وإن لم يكن حجة لأنه في زعمهم حجة { إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا } أي أحيوهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
{ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في دعوى البعث ، و { حُجَّتَهُمْ } خبر " كان " واسمها { أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] والمعنى ما كان حجتهم إلا مقالتهم : { ائْتُوا بِـاَابَآ ـاِنَآ } [الجاثية : 25] وقرىء { حُجَّتَهُمْ } بالرفع على أنها اسم " كان " و { أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] الخبر.
{ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ } [الجاثية : 26] في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [الجاثية : 26] فيها عند انتهاء أعماركم { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [الجاثية : 26] أي يبعثكم يوم القيامة جميعاً ومن كان قادراً على ذلك كان قادراً على الإتيان بآبائكم ضرورة { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] أي في الجمع { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] قدرة الله على البعث لإعراضهم عن التفكر في الدلائل { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَـاـاِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } [الجاثية : 27] عامل النصب في { يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } { يَخْسَرُ } و { يَوْمَـاـاِذٍ } بدل من { يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [الجاثية : 28] جالسة على الركب ، يقال : جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبتيه وقيل جاثية مجتمعة { كُلَّ أُمَّةٍ } [غافر : 5] بالرفع على الابتداء { كُلَّ } بالفتح : يعقوب على الإبدال من { كُلَّ أُمَّةٍ } [غافر : 5] { تُدْعَى إِلَى كِتَـابِهَا } [الجاثية : 28] إلى صحائف أعمالها فاكتفى باسم الجنس فيقال لهم { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 28] في الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
{ هَـاذَا كِتَـابُنَا } [الجاثية : 29] أضيف الكتاب إليهم لملابسته إياهم لأن أعمالهم مثبتة
203
فيه وإلى الله تعالى لأنه مالكه والآمر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال عباده { يَنطِقُ عَلَيْكُم } [الجاثية : 29] يشهد عليكم بما عملتم { بِالْحَقِّ } من غير زيادة ولا نقصان { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 29] أي نستكتب الملائكة أعمالكم.
وقيل : نسخت واستنسخت بمعنى وليس ذلك بنقل من كتاب بل معناه نثبت { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم : 15] جنته { ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الجاثية : 30].
(4/111)
{ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا } [الجاثية : 31] فيقال لهم { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ } [الجاثية : 31] والمعنى ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فحذف المعطوف عليه { فَاسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان بها { وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ } [الجاثية : 31] كافرين { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [الجاثية : 32] بالجزاء { حَقٌّ وَالسَّاعَةُ } [الجاثية : 32] بالرفع عطف على محل " إن " واسمها.
{ وَالسَّاعَةُ } : حمزة عطف على { وَعْدَ اللَّهِ } [النور : 55] { لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ } [الجاثية : 32] أي شيء الساعة { إِن نَّظُنُّ إِلا ظَنًّا } [الجاثية : 32] أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه ، وزيد نفي ما سوى الظن توكيداً بقوله { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ * وَبَدَا لَهُمْ } ظهر لهؤلاء الكفار { سيئات مَا عَمِلُوا } [النحل : 34] قبائح أعمالهم أو عقوبات أعمالهم السيئات كقوله : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04) { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [هود : 8] ونزل بهم جزاء استهزائهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 203
{ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَـاـاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } [الجاثية : 34] أي نترككم في العذاب كما تركتم عدة لقاء يومكم وهي الطاعة ، وإضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في
204
قوله { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ : 33] (سبأ : 33) أي نسيتم لقاء الله تعالى في يومكم هذا ولقاء جزائه { وَمَأْوَاـاكُمُ النَّارُ } [العنكبوت : 25] أي منزلكم { وَمَا لَكُم مِّن نَّـاصِرِينَ } العذاب { بِأَنَّكُمُ } بسبب أنكم { اتَّخَذْتُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا } [الجاثية : 35] { لا يُخْرَجُونَ } [الحشر : 12] حمزة وعلي { وَلا هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } [النحل : 84] ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَرَبِّ الارْضِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الجاثية : 36] أي فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين ، فإن مثل هذه الربوبية العامة توجب الحمد والثناء على كل مربوب { وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الجاثية : 37] وكبّروه فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السماوات والأرض { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] في انتقامه { الْحَكِيمِ } في أحكامه.
205
سورة الأحقاف
مكية وهي خمس وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ حم } ملتبساً بالحق { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [طه : 129] وبتقدير أجل مسمى ينتهي إليه وهو يوم القيامة { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّآ أُنذِرُوا } [الأحقاف : 3] عما أنذروه من هول ذلك اليوم الذي لا بد لكل مخلوق من انتهائه إليه { مُّعْرِضُونَ }
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون " ما " مصدرية أي عن إنذارهم ذلك اليوم { قُلْ أَرَءَيْتُمْ } [يونس : 50] أخبروني { مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الزمر : 38] تعبدونه من الأصنام { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الارْضِ } [فاطر : 40] أي شيء خلقوا مما في الأرض إن كانوا آلهة { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَـاوَاتِ } [فاطر : 40] شركة مع الله في خلق السماوات والأرض { ائْتُونِى بِكِتَـابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ } [الأحقاف : 4] أي من قبل هذا الكتاب وهو القرآن يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا
206
بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أَوْ أَثَـارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } [الأحقاف : 4] أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أن الله أمركم بعبادة الأوثان.(4/112)
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآ ـاِهِمْ غَـافِلُونَ } أي أبداً { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَآءً } [الأحقاف : 6] أي الأصنام لعبدتها { وَكَانُوا } أي الأصنام { بِعِبَادَتِهِمْ } بعبادة عبدتهم { كَـافِرِينَ } يقولون ما دعوناهم إلى عبادتنا.
ومعنى الاستفهام في { مَنْ أَضَلَّ } [الروم : 29] إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً من عبدة الأوثان حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على كل شيء ويدعون من دونه جماداً لا يستجيب لهم ولا قدرة له على استجابة أحد منهم ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ، وإذا قامت القيامة وحشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا عليهم ضداً فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم في الدنيا بالاستجابة ، وفي الآخرة تعاديهم وتجحد عبادتهم.
ولما أسند إليهم ما يسند إلى أولي العلم من الاستجابة والغفلة قيل " من " و " هم " ، ووصفهم بترك الاستجابة والغفلة ، طريقه طريق التهكم بها وبعبدتها ونحوه قوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [فاطر : 14] (فاطر : 41).
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ } [يونس : 15] جمع بينة وهي الحجة والشاهد أو واضحات مبينات { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ } [الأحقاف : 7] المراد بالحق الآيات وبالذين كفروا المتلو عليهم فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلو بالحق { لَمَّا جَآءَهُمْ } [سبأ : 43] أي بادهوه بالجحود ساعة أتاهم وأول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر { هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [النمل : 13] ظاهر أمره في البطلان لا شبهة فيه
207
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ } [السجدة : 3] إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحراً إلى ذكر قولهم إن محمداً عليه السلام افتراه أي اختلقه وأضافه إلى الله كذباً ، والضمير للحق والمراد به الآيات { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِى مِنَ اللَّهِ شيئا } [الأحقاف : 8] أي إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بعقوبة الافتراء عليه فلا تقدرون على كفه عن معاجلتي ، ولا تطيقون دفع شيء من عقابه فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه؟.
{ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } [الأحقاف : 8] أي تندفعون فيه من القدح في وحي الله والطعن في آياته وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى { كَفَى بِهِ شَهِيدَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } [الأحقاف : 8] يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالجحود والإنكار ، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بجزاء إفاضتهم { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس : 107] موعدة بالغفران والرحمة إن تابوا عن الكفر وآمنوا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف : 9] أي بديعاً كالخف بمعنى الخفيف ، والمعنى إني لست بأول مرسل فتنكروا نبوّتي { وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلا بِكُمْ } [الأحقاف : 9] أي ما يفعل الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان.
وعن الكلبي قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين : حتى متى تكون على هذا؟ فقال : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، أأترك بمكة أم أو أومر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخيل وشجره و " ما " في { مَّا يَفْعَلُ } [النساء : 147] يجوز أن يكون موصولة منصوبة ، وأن تكون استفهامية مرفوعة.
وإنما دخل " لا " في قوله { وَلا بِكُمْ } [الأحقاف : 9] مع أن ب { فِعْلَ } مثبت غير منفي لتناول النفي في { وَمَآ أَدْرِى } " ما " وما في حيزه { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَآ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ } القرآن
208
(4/113)
{ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الأحقاف : 10] هو عبد الله بن سلام عند الجمهور ولهذا قيل : إن هذه الآية مدنية لأن إسلام بن سلام بالمدينة.
روي أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب.
قال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام يأكله أهل الجنة ، وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته.
فقال : أشهد أنك رسول الله حقاً.
{ عَلَى مِثْلِهِ } [الأحقاف : 10] الضمير للقرآن أي مثله في المعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك ، ويجوز أن يكون المعنى إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد على نحو ذلك يعني كونه من عند الله { فَـاَامَنَ } الشاهد { وَاسْتَكْبَرْتُمْ } عن الإيمان به.
وجواب الشرط محذوف تقديره إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين ، ويدل على هذا المحذوف.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [المائدة : 51] والواو الأولى عاطفة لـ { كَفَرْتُمْ } على فعل الشرط ، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة لـ { اسْتَكْبَرْتُمْ } على { وَشَهِدَ شَاهِدٌ } ، وأما الواو في { وَشَهِدَ } فقد عطفت جملة قوله { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَـاَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } على جملة قوله { كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ } [الأحقاف : 10] والمعنى قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به ، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله ، فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟.
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [العنكبوت : 12] أي لأجلهم وهو كلام كفار مكة قالوا : إن عامة من يتبع محمداً السقاط يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف : 11] لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } [الأحقاف : 11] العامل في " إذ " محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم وقوله { فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف : 11] مسبب عنه وقولهم { إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف : 11] أي كذب
209
متقادم كقولهم أساطير الأولين { وَمِن قَبْلِهِ } [هود : 17] أي القرآن { كِتَـابُ مُوسَى } [هود : 17] أي التوراة وهو مبتدأ و { مِن قَبْلِهِ } [الإسراء : 107] ظرف واقع خبراً مقدماً عليه وهو ناصب { إِمَامًا } على الحال نحو : في الدار زيد قائماً.
ومعنى { إِمَامًا } قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإمام { وَرَحْمَةً } لمن آمن به وعمل بما فيه { وَهَـاذَآ } القرآن { كِتَـابٌ مُّصَدِّقٌ } [الأحقاف : 12] لكتاب موسى أو لما بين يديه وتقدمه من جميع الكتب { لِّسَانًا عَرَبِيًّا } [الأحقاف : 12] حال من ضمير الكتاب في { مُّصَدِّقُ } والعامل فيه { مُّصَدِّقُ } أو من كتاب لتخصصه بالصفة ويعمل فيه معنى الإشارة ، وجوز أن يكون مفعولاً لـ { مُّصَدِّقُ } أي يصدق ذا لسان عربي وهو الرسول { لِّيُنذِرَ } أي الكتاب ، { لِّتُنذِرَ } حجازي وشامي.
{ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] كفروا { وَبُشْرَى } في محل النصب معطوف على محل { لِّيُنذِرَ } لأنه مفعول له { لِّلْمُحْسِنِينَ } للمؤمنين المطيعين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 206
(4/114)
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } [فصلت : 30] على توحيد الله وشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 38] في القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] عند الموت { أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا } [الأحقاف : 14] حال من { أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ } [القلم : 17] والعامل فيه معنى الإشارة الذي دل عليه { أؤلئك } { جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة : 17] جزاء مصدر لفعل دل عليه الكلام أي جوزوا جزاء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
{ وَوَصَّيْنَا الانسَـانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَـانًا } [الأحقاف : 15] كوفي أي وصيناه بأن يحسن بوالديه إحساناً ، { حَسَنًا } غيرهم أي وصيناه بوالديه أمراً ذا حسن أو بأمر ذي حسن ، فهو في
210
موضع البدل من قوله { بِوَالِدَيْهِ } وهو من بدل الاشتمال { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } [الأحقاف : 15] وبفتح الكافين : حجازي وأبو عمرو وهما لغتان في معنى المشقة ، وانتصابه على الحال أي ذات كره ، أو على أنه صفة للمصدر أي حملاً ذاكره { وَحَمْلُهُ وَفِصَـالُهُ } [الأحقاف : 15] ومدة حمله وفطامه { ثَلَـاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف : 15] وفيه دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع إذا كانت حولين لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة : 233] (البقرة : 332) بقيت للحمل ستة أشهر ، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : المراد به الحمل بالأكف.
{ وَفِصَـالُهُ } يعقوب.
والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [الأحقاف : 15] هو جمع لا واحد له من لفظه ، وكان سيبويه يقول : واحده شدة ، وبلوغ الأشد أن يكتهل ويستوفي السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين.
وعن قتادة : ثلاث وثلاثون سنة ووجهه أن يكون ذلك أول الأشد وغايته الأربعون.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
{ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى } [الأحقاف : 15] ألهمني { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ } المراد به نعمة التوحيد والإسلام ، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمة عليه { وَأَنْ أَعْمَلَ صَـالِحًا تَرْضَـاـاهُ } [النمل : 19] قيل : هي الصلوات الخمس { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى } أي اجعل ذريتي موقعاً للصلاح ومظنة له { إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ } [الأحقاف : 15] من كل ذنب { وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الأحقاف : 15] من المخلصين { أؤلئك الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّـاَاتِهِمْ } [الأحقاف : 16] حمزة وعلي وحفص.
{ يُتَقَبَّلْ } { هُمْ أَحْسَنُ } [مريم : 74] غيرهم { فِى أَصْحَـابِ الْجَنَّةِ } [الأحقاف : 16] هو كقولك : أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم ، ومحله النصب على الحال على معنى كائنين في أصحاب الجنة ومعدودين فيهم { وَعْدَ الصِّدْقِ } [الأحقاف : 16] مصدر مؤكد لأن قوله { يُتَقَبَّلْ } وعد من الله لهم بالتقبل والتجاوز.
قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ودعا لهما وهو ابن أربعين سنة ولم يكن أحد من الصحابة من المهاجرين منهم والأنصار أسلم هو
211
ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر رضي الله عنه { الصِّدْقِ الَّذِى كَانُوا يُوعَدُونَ } [الأحقاف : 16] في الدنيا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
(4/115)
{ وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ } [الأحقاف : 17] مبتدأ خبره { أؤلئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } [الأحقاف : 18] والمراد بالذي قال ، الجنس القائل ذلك القول ولذلك وقع الخبر مجموعاً.
وعن الحسن : هو في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث.
وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه قبل إسلامه ، ويشهد لبطلانه كتاب معاوية إلى مروان ليأمر الناس بالبيعة ليزيد فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية أتبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان : يا أيها الناس هذا الذي قال الله تعالى فيه : { وَالَّذِى قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } [الأحقاف : 17].
فسمعت عائشة رضي الله عنها فغضبت وقالت : والله ما هو به ولو شئت أن أسميه لسميته ، ولكن الله تعالى لعن أباك وأنت في صلبه فأنت فضض من لعنة الله أي قطعة { أُفٍّ لَّكُمَآ } [الأحقاف : 17] مدني وحفص ، { أُفٍّ } مكي وشامي ، { أُفٍّ } غيرهم وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر كما إذا قال " حس " علم أنه متوجع.
واللام للبيان أي هذا التأفيف لكما خاصة ولأجلكما دون غيركما.
{ أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ } [الأحقاف : 17] أن أبعث وأخرج من الأرض { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى } [الأحقاف : 17] ولم يبعث منهم أحد { وَهُمَا } أبواه { يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } [الأحقاف : 17] يقولان الغياث بالله منك ومن قولك وهو استعظام لقوله ويقولان له { وَيْلَكَ } دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك { ءَامَنَ } بالله وبالبعث { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [غافر : 77] بالبعث { حَقٍّ } صدق { فَيَقُولُ } لهما
212
{ مَا هَـاذَآ } [الأحقاف : 17] القول { إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الأنعام : 25].
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
{ أؤلئك الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } [الأحقاف : 18] أي لأملأن جهنم { فِى أُمَمٍ } [الأعراف : 38] في جملة أمم { قَدْ خَلَتْ } [غافر : 85] قد مضت { مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَـاسِرِينَ * وَلِكُلٍّ } من الجنسين المذكورين الأبرار والفجار { دَرَجَـاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا } [الأحقاف : 19] أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، أو من أجل ما عملوا منهما ، وإنما قال { دَرَجَـاتٌ } وقد جاء " الجنة درجات والنار دركات " على وجه التغليب { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ } [الأحقاف : 19] بالياء : مكي وبصري وعاصم { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] أي وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم ، قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات فاللام متعلقة بمحذوف { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } [الأحقاف : 20] عرضهم على النار تعذيبهم بها من قولهم : عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به.
وقيل : المراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا { أَذْهَبْتُمْ } أي يقال لهم أذهبتم وهو ناصب الظرف { طَيِّبَـاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [الأحقاف : 20] أي ما كتب لكم حظ من الطيبات إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به وأخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها.
وعن عمر رضي الله عنه : لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكني أستبقي طيباتي { وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } [الأحقاف : 20] بالطيبات { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } [الأحقاف : 20] أي الهوان وقرىء به { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأحقاف : 20] تتكبرون { فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } [الأحقاف : 20] أي باستكباركم وفسقكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
{ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } [الأحقاف : 21] أي هوداً { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالاحْقَافِ } [الأحقاف : 21] جمع حقف وهو
213
(4/116)
رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو وادٍ بين عمان ومهرة { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ } [الأحقاف : 21] جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الرعد : 11] من قبل هود ومن خلف هود ، وقوله { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الأحقاف : 21] وقع اعتراضاً بين { أَنذَرَ قَوْمَهُ } [الأحقاف : 21] وبين { أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأحقاف : 21] والمعنى واذكر إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك { قَالُوا } أي قوم هود { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [الأحقاف : 22] لتصرفنا فالأفك الصرف يقال : أفكه عن رأيه { عَنْ ءَالِهَتِنَا } [الأحقاف : 22] عن عبادتها { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [الأعراف : 70] من معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] في وعدك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 210
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
{ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ } [الأحقاف : 23] بوقت مجيء العذاب { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] ولا علم لي بالوقت الذي يكون فيه تعذيبكم { وَأُبَلِّغُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } [الأحقاف : 23] وبالتخفيف : أبو عمرو أي الذي هو شأني أن أبلغكم ما أرسلت به من الإنذار والتخويف { وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } [هود : 29] أي ولكنكم جاهلون لا تعلمون أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أذن لهم فيه.
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } [الملك : 27] الضمير يرجع إلى { بِمَا تَعِدُنَآ } أو هو مبهم وضح أمره بقوله { عَارِضًا } إما تمييزاً أو حالاً.
والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [الأحقاف : 24] روي أن المطر قد احتبس عنهم فرأوا سحابة استقبلت أوديتهم فقالوا : هذا سحاب يأتينا بالمطر وأظهروا من ذلك فرحاً.
وإضافة { مُّسْتَقْبِلَ } و مجازية غير معرفة بدليل وقوعهما وهما مضافان إلى معرفتين وصفاً للنكرة { الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ } [العنكبوت : 49] أي قال هود : بل هو ، ويدل عليه قراءة من قرأ { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } { مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ } [الأحقاف : 24] من العذاب.
ثم فسره فقال { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْء } تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير فعبر عن
214
الكثرة بالكلية { بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف : 25] رب الريح { فَأْصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ } [الأحقاف : 25] عاصم وحمزة وخلف أي لا يرى شيء إلا مساكنهم.
غيرهم { لا يُرَى إِلا مَسَـاكِنُهُمْ } والخطاب للرائي من كان.
{ كَذَالِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [الأحقاف : 25] أي مثل ذلك نجزي من أجرم مثل جرمهم وهو تحذير لمشركي العرب.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : اعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلذه الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
(4/117)
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ } [الأحقاف : 26] " إن " نافية أي فيما ما مكنا كم فيه إلا أن " إن " أحسن في اللفظ لما في مجامعة ما مثلها من التكرير المستبشع ، ألا ترى أن الأصل في " مهما " " ما ما " فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء.
وقد جعلت " إن " صلة وتؤول بأنا مكناهم في مثل { فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ فِيهِ } (الأحقاف : 62) والوجه هو الأول لقوله تعالى : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَـاثًا } (مريم : 47) { قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَارًا } [غافر : 82] (غافر : 12) و " ما " بمعنى الذي أو نكرة موضوفة { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـارًا وَأَفْـاِدَةً } [الأحقاف : 26] أي آلات الدرك والفهم { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَـارُهُمْ وَلا أَفْـاِدَتُهُم مِّن شَىْءٍ } [الأحقاف : 26] أي من شيء من الإغناء وهو القليل منه { وَلَقَدْ مَكَّنَّـاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّـاكُمْ } [الأحقاف : 26] " إذ " نصب بقوله { فَمَآ أَغْنَى } [الأحقاف : 26] وجرى مجرى التعليل لاستواء مؤدي التعليل والظرف في قولك : ضربته لإساءته وضربته إذ أساء ، لأنك إذا ضربته في وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه إلا أن " إذ " و " حيث " غلبتا دون سائر الظروف في ذلك { وَحَاقَ بِهِم } [هود : 8] ونزل بهم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام : 5] جزاء استهزائهم وهذا تهديد لكفار مكة ثم زادهم تهديداً بقوله :
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم } [الأحقاف : 27] يا أهل مكة { مِّنَ الْقُرَى } [الأحقاف : 27] نحو حجر ثمود وقرى قوم لوط والمراد أهل القرى ولذلك قال { وَصَرَّفْنَا الايَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] أي كررنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون عن الطغيان إلى الإيمان فلم يرجعوا
215
{ فَلَوْلا } فهلا { نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا ءَالِهَةَ } [الأحقاف : 28] القربان ما تقرب به إلى الله تعالى أي اتخذوهم شفعاء متقرباً بهم إلى الله تعالى حيث قالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
وأحد مفعولي " اتخذ " الراجع إلى " الذين " محذوف أي اتخذوهم والثاني { ءَالِهَةً } و { قُرْبَانًا } حال { بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ } [الأحقاف : 28] غابوا عن نصرتهم { وَذَالِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأحقاف : 28] { وَذَالِكَ } إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم أي وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَرًا } [الأحقاف : 29] أملناهم إليك وأقبلنا بهم نحوك والنفردون العشرة { مِّن الْجِنِّ } [النمل : 39] جن نصيبين { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ } [الأحقاف : 29] منه عليه الصلاة والسلام { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } [الأحقاف : 29] أي الرسول صلى الله عليه وسلّم أو القرآن أي كانوا منه بحيث يسمعون { قَالُوا } أي قال بعضهم لبعض { أَنصِتُوا } اسكتوا مستمعين روي أن الجن كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ورجموا بالشهب قالوا : ما هذا إلا لنبأ حدث.
فنهض سبعة نفر أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى منهم زوبعة فضربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته.
وعن سعيد بن جبير : ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فمروا به فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر فأنبأه الله باستماعهم.
وقيل : بل الله أمر رسوله أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فصرف إليه نفراً منهم فقال :
216
إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثاً.
فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : لم يحضره ليلة الجن أحد غيري فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطاً وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم اففتح القرآن وسمعت لغطاً شديداً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم : هل رأيت شيئاً؟ قلت : نعم رجالاً سوداً.
فقال : أولئك جن نصيبين وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] (العلق : 1).
(4/118)
{ فَلَمَّا قَضَى } [الأحزاب : 37] أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلّم من القراءة { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [الأحقاف : 29] إياهم { قَالُوا يَـاقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } [الأحقاف : 30] وإنما قالوا { مِن بَعْدِ مُوسَى } [البقرة : 246] لأنهم كانوا على اليهودية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر : 31] من الكتب { يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ } [يونس : 35] إلى الله تعالى { وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ } أي محمداً صلى الله عليه وسلّم { وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف : 31] قال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار لهذه الآية.
وقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله : لهم الثواب والعقاب.
وعن الضحاك : أنهم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون لقوله تعالى { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ } [الرحمن : 56] (الرحمن : 65).
جزء : 4 رقم الصفحة : 214
{ وَمَن لا يُجِبْ دَاعِىَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارْضِ } [الأحقاف : 32] أي لا ينجي منه مهرب { بِخَلْقِهِنَّ } هو
217
كقوله { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق : 38] (ق : 83) ويقال : عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه { بِقَـادِرٍ } محله الرفع لأنه خبر " أنّ " يدل عليه قراءة عبد الله قادر.
وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على " أن " وما في حيزها وقال الزجاج : لو قلت ما ظننت أن زيداً بقائم جاز كأنه قيل : أليس الله بقادر؟ ألا ترى إلى وقوع " بلى " مقررة للقدرة على كل شيء من البعث وغيره لا لرؤيتهم { عَلَى أَن يُحِْـاىَ الْمَوْتَى } هو جواب للنفي { إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } يقال لهم { أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 30] وناصب الظرف القول المضمر وهذا إشارة إلى العذاب { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [الأنعام : 30] بكفركم في الدنيا.
{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ } [الأحقاف : 35] أولوا الجد والثبات والصبر { مِّنَ الرُّسُلِ } [المائدة : 19] " من " للتبعيض والمراد بأولي العزم ما ذكر في الأحزاب : { وَإِذَآ } (الآية : 7).
ويونس ليس منهم لقوله { وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [القلم : 48] (القلم : 84) وكذا آدم لقوله { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } [طه : 115] (طه : 511) أو للبيان فيكون { أُوْلُوا الْعَزْمِ } صفة { الرُّسُلَ } كلهم { وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [الأحقاف : 35] لكفار قريش بالعذاب أي لا تدع لهم بتعجيله فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّن نَّهَار } [الأحقاف : 35] أي أنهم يستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها ساعة من نهار { بَلَـاغٌ } هذا بلاغ أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو هذا تبليغ من الرسول { فَهَلْ يُهْلَكُ } [الأحقاف : 35] هلاك عذاب.
والمعنى فلن يهلك بعذاب الله { إِلا الْقَوْمُ الْفَـاسِقُونَ } [الأحقاف : 35] أي المشركون الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه قال عليه السلام " من قرأ سورة الأحقاف كتب الله له عشرة حسنات بعدد كل رملة في الدنيا " .
218
سورة محمد صلى الله عليه وسلّم
، وقيل سورة القتال
مدنية وقيل مكية وهي ثمان وثلاثون آية أو تسع وثلاثون آية(4/119)
{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء : 167] أي أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام أوصدوا غيرهم عنه.
قال الجوهري : صد عنه يصد صدوداً أعرض ، وصده عن الأمر صداً منعه وصرفه عنه.
وهم المطعمون يوم بدر أو أهل الكتاب أو عام في كل من كفر وصد { أَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ } [محمد : 1] أبطلها وأحبطها ، وحقيقته جعلها ضالة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها كالضالة من الإبل ، وأعمالهم ما عملوه في كفرهم من صلة الأرحام وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام ، أو ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والصد عن سبيل الله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 82] هم ناس من قريش أو من الأنصار أو من أهل الكتاب أو عام { وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } [محمد : 2] وهو القرآن ، وتخصيص الإيمان بالمنزل على رسوله من بين ما يجب الإيمان به لتعظيم شأنه ، وأكد ذلك بالجملة
219
الاعتراضية وهي قوله { وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 2] أي القرآن.
وقيل : إن دين محمد هو الحق إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ } [محمد : 2] ستر بإيمانهم وعملهم الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي لرجوعهم عنها وتوبتهم { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } [محمد : 2] أي حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين وبالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة والتأييد { ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَـاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 3] { ذَالِكَ } مبتدأ وما بعده خبره أي ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين وتكفير سيئات الثاني والإصلاح كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهو الشيطان وهؤلاء الحق وهو القرآن { كَذَالِكَ } مثل ذلك الضرب { يَضْرِبُ اللَّهُ } [الرعد : 17] أي يبين الله { لِلنَّاسِ أَمْثَـالَهُمْ } [محمد : 3] والضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [محمد : 4] من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [محمد : 4] أصله فاضربوا الرقاب ضرباً فحذف الفعل وقدم المصدر فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد لأنك تذكر المصدر وتدل على الفعل بالنصبة التي فيه { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } عبارة عن القتل لا أن الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء ، ولأن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته فوقع عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته { حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } [محمد : 4] أكثرتم فيهم القتل { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [محمد : 4] فاسروهم والوثاق بالفتح والكسر اسم ما يوثق به ، والمعنى فشدوا وثاق الأسارى حتى لا يفلتوا منكم { فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ } [محمد : 4] أي بعد أن تأسروهم { وَإِمَّا فِدَآءً } [محمد : 4] { مَنَّا } و { فِدَآءً } منصوبان بفعليهما مضمرين أي فإما تمنون مناً أو تفدون فداء ، والمعنى التخيير
220
بين الأمرين بعد الأسر بين أن يمنوا عليهم فيطلقوهم وبين أن يفادوهم ، وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق ، والمن والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5] (التوبة : 5) لأن سورة " براءة " من آخر ما نزل.
وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء إنما هو الإسلام أو ضرب العنق.
أو المراد بالمن أن يمن عليهم بترك القتل ويسترقوا ، أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وبالفداء أن يفادى بأسراهم أسارى المسلمين فقد رواه الطحاوي مذهباً عن أبي حنيفة رحمه الله وهو قولهما ، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره لئلا يعودوا حرباً علينا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى : للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة : القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
(4/120)
{ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } [محمد : 4] أثقالها وآلاتها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع.
وقيل : أوزارها آثامها يعني حتى يترك أهل الحرب وهم المشركون شركهم بأن يسلموا وحتى لا يخلو من أن يتعلق بالضرب والشد أو بالمن والفداء ، فالمعنى على كلا المتعلقين ـ عند الشافعي رحمه الله ـ أنهم لا يزالون على ذلك أبداً إلى أن لا يكون حرب مع المشركين ، وذلك إذا لم يبق لهم شوكة.
وقيل : إذا نزل عيسى عليه السلام.
وعند أبي حنيفة رحمه الله : إذا علق بالضرب والشد فالمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب الأوزار ، وذلك حين لا تبقى شوكة للمشركين.
وإذا علق بالمن والفداء فالمعنى أنه يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها إلا أن يتأول المن والفداء بما ذكرنا من التأويل { ذَالِكَ } أي الأمر ذلك فهو مبتدأ وخبر أو افعلوا بهم ذلك فهو في محل النصب { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ انتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ } لانتقم منهم بغير قتال ببعض أسباب الهلاك كالخسف أو الرجفة أو غير ذلك { وَلَـاكِن } أمركم بالقتال { لِّيَبْلُوَا بَعْضَكُم بِبَعْضٍ } أي المؤمنين بالكافرين تمحيصاً للمؤمنين وتمحيقاً للكافرين { وَالَّذِينَ قُتِلُوا } [محمد : 4] بصري وحفص.
{ قَـاتَلُوا } غيرهم { فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـالَهُمْ } [محمد : 4].
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
{ سَيَهْدِيهِمْ } إلى طريق الجنة أو إلى الصواب في جواب منكر ونكير { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } [محمد : 5] يرضى خصماءهم ويقبل أعمالهم { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد : 6] عن مجاهد : عرفهم مساكنهم فيها حتى لا
221
يحتاجون أن يسألوا أو طيبها لهم من العرف وهو طيب الرائحة.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ } [محمد : 7] أي دين الله ورسوله { يَنصُرْكُمْ } على عدوكم ويفتح لكم { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد : 7] في مواطن الحرب أو على محجة الإسلام { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } [النور : 39] في موضع رفع بالابتداء والخبر { فَتَعْسًا لَّهُمْ } [محمد : 8] وعطف قوله { وَأَضَلَّ أَعْمَـالَهُمْ } [محمد : 8] على الفعل الذي نصب لأن المعنى فقال تعساً لهم والتعس العثور.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار.
{ يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] أي التعس والضلال { بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [محمد : 9] أي القرآن { فَأَحْبَطَ أَعْمَـالَهُمْ } يعني كفار أمتك { فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [محمد : 10] أهلكهم هلال استئصال { وَلِلْكَـافِرِينَ } مشركي قريش { أَمْثَـالُهَا } أمثال تلك الهلكة لأن التدمير يدل عليها { ذَالِكَ } أي نصر المؤمنين وسوء عاقبة الكافرين { بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا } وليهم وناصرهم { وَأَنَّ الْكَـافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ } [محمد : 11] أي لا ناصر لهم فإن الله مولى العباد جميعاً من جهة الاختراع وملك التصرف فيهم ، ومولى المؤمنين خاصة من جهة النصرة { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ } ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أياماً قلائل { وَيَأْكُلُونَ } غافلين غير
222
متفكرين في العاقبة { كَمَا تَأْكُلُ الانْعَـامُ } [محمد : 12] في معالفها ومسارحها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح { وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [محمد : 12] منزل ومقام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
(4/121)
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [الحج : 48] أي وكم من قرية للتكثير وأراد بالقرية أهلها ولذلك قال { أَهْلَكْنَـاهُمْ } { هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ } [محمد : 13] أي وكم من قرية أشد قوة من قومك الذين أخرجوك أي كانوا سبب خروجك { أَهْلَكْنَـاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } [محمد : 13] أي فلم يكن لهم من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [هود : 17] أي على حجة من عنده وبرهان وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات يعني رسول الله صلى الله عليه وسلّم { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ } [محمد : 14] هم أهل مكة الذين زين لهم الشيطان شركهم وعداوتهم لله ورسوله.
وقال سوء عمله { وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُم } [محمد : 14] للحمل على لفظ من ومعناه { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } [الرعد : 35] صفة الجنة العجيبة الشأن { الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الرعد : 35] عن الشرك { فِيهَآ أَنْهَـارٌ } [محمد : 15] داخل في حكم الصلة كالتكرير لها ألا ترى إلى صحة قولك التي فيها أنهار ، أو حال أي مستقرة فيها أنهار { مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } [محمد : 15] غير متغير اللون والريح والطعم.
يقال : أسن الماء إذا تغير طعمه وريحه { ءَاسِنٍ } مكي { وَأَنْهَـارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } [محمد : 15] كما تتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها { وَأَنْهَـارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ } [محمد : 15] تأنيث لذ وهو اللذيذ { لِّلشَّـارِبِينَ } أي ما هو إلا التلذذ الخالص ليس معه ذهاب عقل ولا خمار ولا صداع ولا آفة من آفات الخمر { وَأَنْهَـارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } [محمد : 15] لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [محمد : 15] { مَّثَلُ } مبتدأ خبره { كَمَنْ هُوَ خَـالِدٌ فِى النَّارِ وَسُقُوا مَآءً حَمِيمًا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
محمد : 15] حاراً في النهاية { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [محمد : 15] والتقدير :
223
أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ودخوله في حيزه وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ } [محمد : 14].
وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتابع لهواه وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم.
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءَانِفًا } [محمد : 16] هم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يلقون له بالاً تهاوناً منهم ، فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من الصحابة : ماذا قال الساعة على جهة الاستهزاء { أؤلئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ } [محمد : 16].
جزء : 4 رقم الصفحة : 219
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
(4/122)
محمد : 17] بالإيمان واستماع القرآن { زَادَهُمْ } الله { هُدًى } أي بصيرة وعلماً أو شرح صدورهم { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا } [محمد : 17] أعانهم عليها أو آتاهم جزاء تقواهم أو بين لهم ما يتقون { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ } [محمد : 18] أي ينتظرون { أَن تَأْتِيَهُم } [محمد : 18] أي إتيانها فهو بدل اشتمال من { السَّاعَةَ } { بَغْتَةً } فجأة { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } [محمد : 18] علاماتها وهو مبعث محمد صلى الله عليه وسلّم وإنشقاق القمر والدخان.
وقيل : قطع الأرحام وقلة الكرام وكثرة اللئام { فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاـاهُمْ } [محمد : 18] قال الأخفش : التقدير فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم { فَاعْلَمْ أَنَّهُ } [محمد : 19] أن الشأن { لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } والمعنى فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله وعلى التواضع وهضم النفس باستغفار ذنبك وذنوب من على دينك.
وفي شرح التأويلات جاز أن يكون له ذنب فأمره بالاستغفار له ولكنا لا نعلمه ، غير أن ذنب الأنبياء ترك الأفضل
224
دون مباشرة القبيح ، وذنوبنا مباشرة القبائح من الصغائر والكبائر.
وقيل : الفاآت في هذه الآيات لعطف جملة على جملة بينهما اتصال { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } [محمد : 19] في معايشكم ومتاجركم { وَمَثْوَاـاكُمْ } ويعلم حيث تستقرون من منازلكم أو متقلبكم في حياتكم ومثوا كم في القبور ، أو متقلبكم في أعمالكم ومثوا كم في الجنة والنار ، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى وأن يستغفره وسئل سفيان ابن عيينة عن فضل العلم فقال : ألم تسمع قوله { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنابِكَ } فأمر بالعمل بعد العلم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ } [محمد : 20] فيها ذكر الجهاد { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } [محمد : 20] في معنى الجهاد { مُّحْكَمَةٌ } مبينة غير متشابهة لا تحتمل وجهاً إلا وجوب القتال.
وعن قتادة : كل سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة لأن النسخ لا يرد عليها من قبل أن القتال نسخ ما كان من الصفح والمهادنة وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } [محمد : 20] أي أمر فيها بالجهاد { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [محمد : 20] نفاق أي رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [محمد : 20] أي تشخص أبصارهم جبناً وجزعاً كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فَأَوْلَى لَهُمْ } [محمد : 20] وعيد بمعنى فويل لهم وهو أفعل من الولى وهو القرب ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [محمد : 21] كلام مستأنف أي طاعة وقول معروف خير لهم { فَإِذَا عَزَمَ الامْرُ } [محمد : 21] فإذا جد الأمر ولزمهم فرض القتال { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } [محمد : 21] في الإيمان والطاعة { لَكَانَ } الصدق { خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] من كراهة الجهاد.
ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب بضرب من التوبيخ والإرهاب فقال :
{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الارْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد : 22] أي فلعلكم إن أعرضتم عن دين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسنته أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في
225
الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ووأد البنات.
وخبر عسى { أَن تُفْسِدُوا } [محمد : 22] والشرط اعتراض بين الاسم والخبر والتقدير : فهل عسيتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم إن توليتم { أؤلئك } إشارة إلى المذكورين { الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } [محمد : 23] أبعدهم عن رحمته { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماع الموعظة { وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ } [محمد : 23] عن إبصارهم طريق الهدى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
(4/123)
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ } [محمد : 24] فيعرفوا ما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة حتى لا يجسروا على المعاصي.
و " أم " في { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [محمد : 24] بمعنى بل وهمزة التقرير للتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يتوصل إليها ذكره.
ونكرت القلوب لأن المراد على قلوب قاسية مبهم أمرها في ذلك ، والمراد بعض القلوب وهي قلوب المنافقين ، وأضيفت الأقفال إلى القلوب لأن المراد الأقفال المختصة بها وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح نحو الرين والختم والطبع.
{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد : 25] أي المنافقون رجعوا إلى الكفر سراً بعد وضوح الحق لهم { الشَّيْطَانُ سَوَّلَ } [محمد : 25] زين { لَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبراً لـ " إن " نحو : إن زيداً عمرو مر به { وَأَمْلَى لَهُمْ } [محمد : 25] ومدّ لهم في الآمال والأماني { وَأَمْلَى } أبو عمرو أي امهلوا ومد في عمرهم { ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ } [محمد : 26] أي المنافقون قالوا لليهود { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الامْرِ } [محمد : 26] أي عدواة محمد والقعود عن نصرته { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } [محمد : 26] على المصدر من أسر : حمزة وعلي وحفص.
{ إِسْرَارَهُمْ } غيرهم جمع سر { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائكَةُ } [محمد : 27] أي فكيف يعملون وما حيلتهم حينئذ
226
{ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [محمد : 27] عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتوفى أحد على معصية إلا يضرب من الملائكة في وجهه ودبره { ذَالِكَ } إشارة إلى التوفي الموصوف { بِأَنَّهُمُ } بسبب أنهم { اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ } [محمد : 28] من معاونة الكافرين { وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } [محمد : 28] من نصرة المؤمنين { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } [محمد : 9].
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [محمد : 29] أحقادهم.
والمعنى أظن المنافقون أن الله تعالى لا يبرز بغضهم وعداوتهم للمؤمنين { وَلَوْ نَشَآءُ لارَيْنَاكَهُمْ } [محمد : 30] لعرّفناكهم ودللناك عليهم { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } [محمد : 30] بعلامتهم وهو أن يسمهم الله بعلامة يعلمون بها وعن أنس رضي الله عنه : ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية أحد من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ } [محمد : 30] في نحوه وأسلوبه الحسن من فحوى كلامهم لأنهم كانوا لا يقدرون على كتمان ما في أنفسهم.
واللام في { فَلَعَرَفْتَهُم } داخلة في جواب " لو " كالتي في { لارَيْنَاكَهُمْ } كررت في المعطوف ، وأما اللام في { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ } فواقعة مع النون في جواب قسم محذوف { وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } [محمد : 30] فيميز خيرها من شرها.
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } بالقتال إعلاماً لا استعلاماً أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العدل { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } [محمد : 31] على الجهاد أي نعلم كائناً ما علمناه أنه سيكون { وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ } [محمد : 31] أسراركم وليبلونكم حتى يعلم.
أبو بكر وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها بكى وقال : اللهم لا تبلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذبتنا { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَآقُّوا الرَّسُولَ } [محمد : 32] وعادوه يعني
227
المطعمين يوم بدر وقد مر { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد : 25] من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا الرسول { لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } [محمد : 32] التي عملوها في مشاقة الرسول أي سيبطلها فلا يصلون منها إلى أغراضهم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 224
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد : 33] بالنفاق أو بالرياء.(4/124)
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [محمد : 34] قيل : هم أصحاب القليب والظاهر العموم { فَلا تَهِنُوا } [محمد : 35] فلا تضعفوا ولا تذلوا للعدو { وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } [محمد : 35] وبالكسر : حمزة وأبو بكر وهما المسالة أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح { وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ } [آل عمران : 139] أي الأغلبون وتدعوا مجزوم لدخوله في حكم النهي { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد : 35] بالنصرة أي ناصركم { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ } [محمد : 35] ولن ينقصكم أجر أعمالكم { إِنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [محمد : 36] تنقطع في أسرع مدة { وَإِن تُؤْمِنُوا } [آل عمران : 179] بالله ورسوله { وَتَتَّقُوا } الشرك { يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } [محمد : 36] ثواب إيمانكم وتقواكم { وَلا يَسْـاَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } [محمد : 36] أي لا يسألكم جميعها بل ربع العشر ، والفاعل الله أو الرسول وقال سفيان بن عيينة : غيضاً من فيض { إِن يَسْـاَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ } أي يجهدكم ويطلبه كله والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء.
يقال : أحفاه في المسئلة إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه إذا استأصله { تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ } [محمد : 37] أي الله أو البخل { أَضْغَـانَكُمْ } عند الامتناع أو عند سؤال الجميع لأنه عند مسئلة المال تظهر العداوة والحقد.
228
{ هَـاأَنتُمْ } هاللتنبيه { هؤلاء } موصول بمعنى الذين صلته { تُدْعَوْنَ } أي أنتم الذين تدعون { لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 38] هي النفقة في الغزو أو الزكاة كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } [محمد : 38] بالرفع لأن من هذه ليست للشرط أي فمنكم ناس يبخلون به { وَمَن يَبْخَلْ } [محمد : 38] بالصدقة وأداء الفريضة { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [محمد : 38] أي يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه.
وقيل : يبخل على نفسه يقال بخلت عليه وعنه { وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } [محمد : 38] أي أنه لا يأمر بذلك لحاجته إليه لأنه غني عن الحاجات ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب { وَإِن تَتَوَلَّوْا } [الفتح : 16] وإن تعرضوا أيها العرب عن طاعته وطاعة رسوله والإنفاق في سبيله ، وهو معطوف على { وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا } [آل عمران : 179] { يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } [محمد : 38] يخلق قوماً خيراً منكم وأطوع وهم فارس وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال : هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناله رجال من فارس { ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَـالَكُم } [محمد : 38] أي ثم لا يكونوا في الطاعة أمثالكم بل أطوع منكم.
229
سورة الفتح
مدنية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } [الفتح : 1] الفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحاً بحرب أو بغير حرب ، لأنه مغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح ، ثم قيل هو فتح مكة وقد نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن مكة عام الحديبية عدة له بالفتح.
وجيء به على لفظ الماضي لأنها في تحققها بمنزلة الكائنة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر عنه وهو الفتح ما لا يخفى.
وقيل : هو فتح الحديبية ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترامٍ بين القوم بسهام وحجارة ، فرمى المسلمون المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وسألوا الصلح فكان فتحاً مبيناً وقال الزجاج : كان في فتح الحديبية آية للمسلمين عظيمة ، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس.
وقيل : هو فتح خيبر.
وقيل : معناه قضينا لك قضاء بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت من الفتاحة وهي الحكومة.
230(4/125)
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ } [الفتح : 2] قيل : الفتح ليس بسبب للمغفرة والتقدير : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً فاستغفر ليغفر لك الله ومثله { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } [النصر : 1] إلى قوله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } [النصر : 3] (النصر : 1 ، 3) ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سبباً للغفران.
وقيل : الفتح لم يكن ليغفر له بل لإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، ولكنه لما عدد عليه هذه النعم وصلها بما هو أعظم النعم كأنه قيل : يسرّنا لك فتح مكة أو كذا لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والآجل { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح : 2] يريد جميع ما فرط منك أو ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } [يوسف : 6] بإعلاء دينك وفتح البلاد على يدك { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [الفتح : 2] ويثبتك على الدين المرضي { وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } [الفتح : 3] قوياً منيعاً لا ذل بعده أبداً.
{ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَـانًا مَّعَ إِيمَـانِهِمْ } السكينة للسكون كالبهيتة للبهتان أي أنزل الله في قلوبهم السكون والطمأنينة بسبب الصلح ليزدادوا يقيناً إلى يقينهم.
وقيل : السكينة الصبر على ما أمر الله والثقة بوعد الله والتعظيم لأمر الله { عَظِيمًا } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
{ وَيُعَذِّبَ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَـاتِ } [الفتح : 6] أي ولله جنود السماوات والأرض يسلط بعضها على بعض كما يقتضيه علمه وحكمته ، ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية ووعدهم أن يفتح لهم ، وإنما قضى ذلك ليعرف
231
المؤمنون نعمة الله فيه ويشكروها فيثيبهم ويعذب الكافرين والمنافقين لما غاظهم من ذلك وكرهوه { الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } [الفتح : 6] وقع السوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده.
يقال : فعل سوء أي مسخوط فاسد ، والمراد ظنهم أن الله تعالى لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلى مكة ظافرين فاتحيها عنوة وقهراً { عَلَيْهِمْ دَآ ـاِرَةُ السَّوْءِ } [التوبة : 98] مكي وأبو عمرو أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم ، والسوء الهلاك والدمار وغيرهما { دَآ ـاِرَةُ السَّوْءِ } [التوبة : 98] بالفتح إلا أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه من كل شيء ، وأما السوء فجارٍ مجرى الشر الذي هو نقيض الخير { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيرًا } [الفتح : 6] جهنم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الفتح : 4] فيدفع كيد من عادى نبيه عليه السلام والمؤمنين بما شاء منها { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا } [النساء : 158] غالباً فلا يرد بأسه { حَكِيمًا } فيما دبر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ شَـاهِدًا } [الأحزاب : 45] تشهد على أمتك يوم القيامة وهذه حال مقدرة { وَمُبَشِّرًا } للمؤمنين بالجنة { وَنَذِيرًا } للكافرين من النار { لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الفتح : 9] والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولأمته { وَتُعَزِّرُوهُ } وتقووه بالنصر { وَتُوَقِّرُوهُ } وتعظموه { وَتُسَبِّحُوهُ } من التسبيح أو من السبحة ، والضمائر لله عز وجل.
والمراد بتعزيز الله تعزيز دينه ورسوله ، ومن فرق الضمائر فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلّم فقد أبعد { لِيُؤْمِنُوا } مكي وأبو عمرو والضمير للناس وكذا الثلاثة الأخيرة بالياء عندهما { بُكْرَةً } صلاة الفجر { وَأَصِيلا } الصلوات الأربع { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } [الفتح : 10] أي بيعة الرضوان.
ولما قال { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح : 10] أكده تأكيداً على طريقة التخييل فقال { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح : 10] يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم
232
(4/126)
التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله من غير تفاوت بينهما كقوله { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80] (النساء : 08) و { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح : 10] خبر " إن " { فَمَن نَّكَثَ } [الفتح : 10] نقض العهد ولم يف بالبيعة { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [الفتح : 10] فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه.
قال جابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً اختبأ تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَـاهَدَ } [الفتح : 10] يقال : وفيت بالعهد وأوفيت به ومنه قوله { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة : 1] (المائدة : 1) ـ { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ } [البقرة : 177] (البقرة : 771) { عَلَيْهُ اللَّهَ } [الفتح : 10] حفص { فَسَيُؤْتِيهِ } وبالنون حجازي وشامي { أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] الجنة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
{ سَيَقُولُ لَكَ } [الفتح : 11] إذا رجعت من الحديبية { الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الاعْرَابِ } [الفتح : 11] هم الذين خلّفوا عن الحديبية وهم أعراب غفار ومزينة وجهينة وأسلم وأشجع والدئل ، وذلك أنه عليه السلام حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت ، وأحرم هو صلى الله عليه وسلّم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد
233
حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فيقاتلهم وظنوا أنه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [الفتح : 11] هي جمع أهل اعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس من يقوم بأشغالهم { فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } [الفتح : 11] ليغفر لنا الله تخلفنا عنك { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } [الفتح : 11] تكذيب لهم في اعتذارهم وأن الذي خلفهم ليس ما يقولون ، وإنما هو الشك في الله والنفاق فطلبهم الاستغفار أيضاً ليس بصادر عن حقيقة { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شيئا } [الفتح : 11] فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا } [الفتح : 11] ما يضركم من قتل أو هزيمة { ضَرًّا } حمزة وعلي { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعَا } [الفتح : 11] من غنيمة وظفر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
{ قُلُوبِكُمْ } زينه الشيطان { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ } [الفتح : 12] من علو الكفر وظهور الفساد { وَكُنتُمْ قَوْمَا بُورًا } [الفتح : 12] جمع بائر كعائذ وعوز من بار الشيء هلك وفسد أي وكنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم ، أو هالكين عند الله مستحقين لسخطه وعقابه { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ } [الفتح : 13] أي لهم فأقيم الظاهر مقام الضمير للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمانين : الإيمان بالله والإيمان برسوله ، فهو كافر ونكّر { سَعِيرًا } لأنها نار مخصوصة كما نكر { نَارًا تَلَظَّى } [الليل : 14] (الليل : 41) { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [آل عمران : 189] يدبره تدبير قادر حكيم { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 129] يغفر ويعذب بمشيئته وحكمته وحكمته المغفرة للمؤمنين والتعذيب للكافرين { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 96] سبقت رحمته غضبه.
234
(4/127)
{ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } [الفتح : 15] الذين تخلفوا عن الحديبية { إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ } [الفتح : 15] إلى غنائم خيبر { لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَـامَ اللَّهِ } [الفتح : 15] { كَلَـامَ اللَّهِ } [البقرة : 75] : حمزة وعلي أي يريدون أن يغيروا موعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئاً { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } [الفتح : 15] إلى خيبر وهو إخبار من الله بعدم اتباعهم ولا يبدل القول لديه { كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } [الفتح : 15] من قبل انصرافهم إلى لا المدينة إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية دون غيرهم { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } [الفتح : 15] أي لم يأمركم الله به بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة { بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ } [الفتح : 15] من كلام الله { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] إلا شيئاً قليلاً يعني مجرد القول.
والفرق بين الإضرابين أن الأول رد أن يكون حكم الله أن لا يتّبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أطم منه وهو الجهل وقلة الفقه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 230
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
{ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعْرَابِ } [الفتح : 16] هم الذين تخلفوا عن الحديبية { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } [الفتح : 16] يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقل منهم إلا الإسلام أو السيف.
وقيل : هم فارس وقد دعاهم عمر رضي الله عنه { تُقَـاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [الفتح : 16] أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام.
ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية ، وفي الآية دلالة صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله { فَإِن تُطِيعُوا } [الفتح : 16] من دعاكم إلى قتاله { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا } [الفتح : 16] فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة { وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ } [الفتح : 16] أي عن الحديبية { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح : 16] في الآخرة
235
{ لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور : 61] نفي الحرج عن ذوي العاهات في التخلف عن الغزو { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب : 71] في الجهاد وغير ذلك { يُدْخِلْهُ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَمَن يَتَوَلَّ } [الفتح : 17] يعرض عن الطاعة { يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا } [الفتح : 17] و { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } [الكهف : 87] مدني وشامي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
(4/128)
{ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [الفتح : 18] هي بيعة الرضوان سميت بهذه الآية.
وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلّم حين نزل بالحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولاً إلى مكة فهموا به فمنعه الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه فقال : إني أخافهم على نفسي لما عرف من عداوتي إياهم ، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً للبيت فوقروه واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : لا نبرح حتى نناجز القوم ، ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا تحت الشجرة ، وكانت سمرة وكان عدد المبايعين ألفاً وأربعمائة { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } [الفتح : 18] من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه { فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } [الفتح : 18] أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم { وَأَثَـابَهُمْ } وجازاهم { فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح : 18] هو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } [الفتح : 19] هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا } [النساء : 158] منيعاً فلا يغالب { حَكِيمًا } فيما يحكم فلا يعارض { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } [الفتح : 20] هي ما أصابوه مع النبي صلى الله عليه وسلّم وبعده إلى يوم القيامة { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِهِ } [الفتح : 20] المغانم يعني مغانم خيبر
236
{ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ } [الفتح : 20] يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا.
وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح { وَلِتَكُونَ } هذه الكفة { ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الفتح : 20] وعبرة يعرفون بها أنهم من الله عز وجل بمكان وأنه ضامن نصرتهم والفتح عليهم فعل ذلك { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [الفتح : 20] ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
{ وَأُخْرَى } معطوفة على { هَـاذِهِ } أي فعجل لكم هذه المغانم و { مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } هي مغانم هوازن في غزوة حنين { لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } [الفتح : 21] لما كان فيها من الجولة { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } [الفتح : 21] أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها ، ويجوز في { أُخْرَى } النصب بفعل مضمر يفسره { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } [الفتح : 21] تقديره : وقضى الله أخرى قد أحاط بها ، وأما { لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا } [الفتح : 21] فصفة لـ { أُخْرَى } والرفع على الابتداء لكونها موصوفة بـ { لَمْ تَقْدِرُوا } [الفتح : 21] ، و { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } [الفتح : 21] خبر المبتدأ { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرًا } [الأحزاب : 27] قادراً { وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُوا } [الفتح : 22] من أهل مكة ولم يصالحوا أو من حلفاء أهل خيبر { لَوَلَّوُا الادْبَـارَ } [الفتح : 22] لغلبوا وانهزموا { ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا } [الفتح : 22] يلي أمرهم { وَلا نَصِيرًا } [النساء : 89] ينصرهم { سُنَّةَ اللَّهِ } [غافر : 85] في موضع المصدر المؤكد أي سن الله غلبة أنبيائه سنة وهو قوله { لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } [المجادلة : 21] (المجادلة : 12) { الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } [الفتح : 23] تغييراً.
237
{ وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [الفتح : 24] أي أيدي أهل مكة { وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } [الفتح : 24] عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً.
وقيل : كان في غزوة الحديبية لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم من هزمه وأدخله حيطان مكة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت
(4/129)
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
{ بِبَطْنِ مَكَّةَ } [الفتح : 24] أي بمكة أو بالحديبية لأن بعضها منسوب إلى الحرم { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [الفتح : 24] أي أقدركم وسلطكم { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [الأحزاب : 9] وبالياء : أبو عمرو { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ } [الفتح : 25] هو ما يهدي إلى الكعبة.
ونصبه عطفاً على " كم " في { صَدُّوكُمْ } أي وصدوا الهدي { مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ } [الفتح : 25] محبوساً أن يبلغ ، و { مَعْكُوفًا } حال.
وكان عليه السلام ساق سبعين بدنة { مَحِلَّهُ } مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب ، وهذا دليل على أن المحصر محل هديه الحرم والمراد المعهود وهو منى { وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَـاتٌ } [الفتح : 25] بمكة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } [الفتح : 25] صفة للرجال والنساء جميعاً { أَن تَطَـاُوهُمْ } [الفتح : 25] بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في { تَعْلَمُوهُمْ } { فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةُ } [الفتح : 25] إثم وشدة وهي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه وهو الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والإثم إذا قصر.
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] متعلق بـ { أَن تَطَـاُوهُمْ } [الفتح : 25] يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم.
والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة.
والمعنى أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم.
وقوله
238
{ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [الفتح : 25] تعليل لما دلت عليه الآية وسيقت له من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين كأنه قال : كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم ، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم { لَوْ تَزَيَّلُوا } [الفتح : 25] لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، وجواب " لولا " محذوف أغنى عنه جواب " لو " ، ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير لـ { وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما إلى معنى واحد ، ويكون { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا } [الفتح : 25] هو الجواب تقديره ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف { مِّنْهُم } من أهل مكة { عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18].
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
والعامل في { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الفتح : 26] أي قريش لعذبنا أي لعذبناهم في ذلك الوقت أو اذكر { فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَـاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [الفتح : 26] المراد بحمية الذين كفروا وهي الأنفة وسكينة المؤمنين وهي الوقار ما يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزل بالحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلّم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتاباً.
فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم.
ثم قال : اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل مكة.
فقالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة.
فقال عليه السلام : اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله فهمّ المسملون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } [الفتح : 26] الجمهور على أنها كلمة الشهادة.
وقيل : بسم
239
(4/130)
الله الرحمن الرحيم.
والإضافة إلى التقوى باعتبار أنها سبب التقوى وأساسها.
وقيل : كلمة أهل التقوى { وَكَانُوا } أي المؤمنون { أَحَقَّ بِهَا } [الفتح : 26] من غيرهم { وَأَهْلَهَا } بتأهيل الله إياهم { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب : 40] فيجري الأمور على مصالحها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 235
{ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا } أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله : { صَدَقُوا مَا عَـاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 23] (الاحزاب : 32).
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلفوا وقصروا ، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا : إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم حق ، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وغيره : والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت { بِالْحَقِّ } متعلق بـ { صَدَقَ } أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض ، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه ، وجوابه { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [الفتح : 27] وعلى الأول هو جواب قسم محذوف { إِن شَآءَ اللَّهُ } [يوسف : 99] حكاية من الله تعالى ما قال رسوله لأصحابه وقص عليهم ، أو تعليم لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
{ ءَامِنِينَ } حال والشرط معترض { مُحَلِّقِينَ } حال من الضمير في { ءَامِنِينَ } { رُءُوسَكُمْ } أي جميع شعورها { وَمُقَصِّرِينَ } بعض شعورها { لا تَخَافُونَ } [الفتح : 27] حال مؤكدة { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } [الفتح : 27] من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَالِكَ } [الفتح : 27] أي من دون فتح مكة { فَتْحًا قَرِيبًا } [الفتح : 18] وهو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.
240
{ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى } [التوبة : 33] بالتوحيد { وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة : 33] أي الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [الفتح : 28] على جنس الدين يريد الأديان المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب ، ولقد حقق ذلك سبحانه فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العزة والغلبة.
وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر.
وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء : 79] على أن ما وعده كائن ، وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيظهر دينه والتقدير وكفاه الله شهيداً و { شَهِيدًا } تمييز أو حال { مُّحَمَّدٌ } خبر مبتدأ أي هو محمد لتقدم قوله { هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ } [التوبة : 33] أو مبتدأ خبره { رَّسُولُ اللَّهِ } [الأحزاب : 21] وقف عليه نصير { وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الممتحنة : 4] أي أصحابه مبتدأ والخبر { أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ } [الفتح : 29] أو { مُّحَمَّدٌ } مبتدأ و { رَّسُولُ اللَّهِ } [الأحزاب : 21] عطف بيان و الَّذِينَ مَعَه عطف على المبتدأ و { أَشِدَّآءُ } خبر عن الجميع ومعناه غلاظ { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح : 29] متعاطفون وهو خبر ثانٍ وهما جمعاً شديد ورحيم ونحوه { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [المائدة : 54] (المائدة : 45) وبلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 240
(4/131)
{ تَرَاـاهُمْ رُكَّعًا } [الفتح : 29] راكعين { سُجَّدًا } ساجدين { يَبْتَغُونَ } حال كما أن ركعاً وسجداً كذلك { فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ } [الفتح : 29] علامتهم { فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } [الفتح : 29] أي من التأثير الذي يؤثره السجود.
وعن عطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لقوله عليه السلام : " من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " { ذَالِكَ } أي المذكور { مَثَلُهُمْ } صفتهم { فِى التَّوْرَاـاةِ } [التوبة : 111] وعليه وقف { وَمَثَلُهُمْ فِى الانجِيلِ } [الفتح : 29] مبتدأ خبره { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ } فراخه.
يقال : أشطأ الزرع إذا فرخ
241
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ } [الفتح : 29] قواه ، { فَـاَازَرَهُ } شامي { فَاسْتَغْلَظَ } فصار من الرقة إلى الغلظ { فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ } [الفتح : 29] فاستقام على قصبه جمع ساق { يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ } [الفتح : 29] يتعجبون من قوته.
وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضوان الله عليهم.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } [الفتح : 29] تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة.
ويجوز أن يعلل به { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [المائدة : 9] لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك.
و " من " في { مِّنْهُم } للبيان كما في قوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ } [الحج : 30] (الحج : 03) يعني فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وقولك " أنفق من الدراهم " أي اجعل نفقتك هذا الجنس.
وهذه الآية ترد قول الروافض إنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته.
242
سورة الحجرات
مدنية وهي ثمان عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا } [الحجرات : 1] قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو ، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى { يَقْدُمُ قَوْمَهُ } [هود : 98] (هود : 89) وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل ، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله { هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ } (غافر : 86) أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب { لا تُقَدِّمُوا } [الحجرات : 1] بحذف إحدى تاءي تتقدموا { بَيْنَ يَدَىِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات : 1] حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً ، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة.
ويجوز أن يجري مجرى قولك " سرني زيد وحسن حاله " أي سرني حسن حال زيد.
فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وفائدة
243
جزء : 4 رقم الصفحة : 243(4/132)
هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص.
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك ، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام ، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت.
وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت ، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعيدوا ذبحاً آخر.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك.
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ } [الحج : 75] لما تقولون { عَلِيمٌ } بما تعملون وحق مثله أن يتقي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 278] إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد ، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم { لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِىِّ } [الحجرات : 2] أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة { وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } [الحجرات : 2] أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم ، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر ، أو لا تقولوا : له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم ، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت ، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلّم فيتأذى بصوته ، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر
244
مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 243
{ أَن تَحْبَطَ أَعْمَـالُكُمْ } [الحجرات : 2] منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي ، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف { وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ } [الزمر : 55].
{ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ } [الحجرات : 3] تم اسم " إن " عند قوله { رَسُولِ اللَّهِ } [الأحزاب : 21] والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له { أؤلئك } مبتدأ خبره { الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } [الحجرات : 3] وتم صلة { الَّذِينَ } عند قوله { لِلتَّقْوَى } و { أؤلئك } مع خبره خبر " إن " .
والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم " امتحن الذهب وفتنة " إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه ، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه : أذهب الشهوات عنها.
والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [المائدة : 9] جملة أخرى قيل : نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت ، وهذه الآية ـ بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم ـ اسماً لـ " إن " المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة ، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره ـ دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم ، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم.
(4/133)
{ إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ } [الحجرات : 4] نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلّم من وراء حجراته وقالوا : اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين ، فاستيقظ وخرج.
والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من
245
خلف أو قدام ، و " من " لابتداء الغاية ، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين ، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وكانت لكل منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً { أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [العنكبوت : 63] يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه ، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 243
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلّم منها : التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل ، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه ، ومنها التعريف باللام دون الإضافة ، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك.
فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد ، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني ، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله ، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلّم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا } [الحجرات : 5] أي ولو ثبت صبرهم ، ومحل { أَنَّهُمْ صَبَرُوا } [الحجرات : 5] الرفع على الفاعلية.
والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [الكهف : 28] (الكهف : 82).
وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس.
وقيل : الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ.
وقوله { حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } [الحجرات : 5] يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم { لَكَانَ } الصبر { خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] في دينهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
246
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } [الحجرات : 6] أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : قد ارتدوا منعوا الزكاة.
فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع.
وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ
جزء : 4 رقم الصفحة : 243
(4/134)
{ فَتَبَيَّنُوا } فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق ، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه.
وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة ، والفسوق الخروج من الشيء.
يقال : فسقت الرطبة عن قشرها ، ومن مقلوبه : فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها ، ومن مقلوبه أيضاً : قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه ، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر.
حمزة وعلي والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا } لئلا تصيبوا { بِجَهَـالَةٍ } حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة { فَتُصْبِحُوا } فتصيروا { عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَـادِمِينَ } [الحجرات : 6] الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ } [الحجرات : 7] فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب ، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه.
ثم قال مستأنفاً
247
{ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامْرِ لَعَنِتُّمْ } [الحجرات : 7] لوقعتم في الجهد والهلاك ، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد ، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمَـانَ } [الحجرات : 7] وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت " لكن " في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ } [الحجرات : 7] وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود { وَالْفُسُوقَ } وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر { وَالْعِصْيَانَ } وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع { أؤلئك هُمُ الراَّشِدُونَ } [الحجرات : 7] أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة ، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة { فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [الحجرات : 8] الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام ، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل { حَكِيمٌ } حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل.
جزء : 4 رقم الصفحة : 243
{ وَإِن طَآ ـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات : 9] وقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار فأمسك ابن أبي بأنفه وقال : خل سبيل حمارك فقد آذانا نتنه.
فقال عبد الله بن رواحة : والله إن بول حماره لأطيب من مسكك.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطال الخوض بينهما حتى استبا وتجالدا وجاء قوماهما ـ وهما الأوس والخزرج ـ فتجالدوا بالعصي.
وقيل : بالأيدي والنعال والسعف ، فرجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم ونزلت.
وجمع { اقْتَتَلُوا } حملاً
248
(4/135)
على المعنى لأن الطائفتين في معنى القوم والناس ، وثنى في { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات : 9] نظراً إلى اللفظ { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاـاهُمَا عَلَى الاخْرَى } [الحجرات : 9] البغي الاستطالة والظلم وإباء الصلح { فَقَـاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِى ءَ } [الحجرات : 9] أي ترجع والفيء الرجوع وقد سمى به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ما يرجع من أموال الكفار إلى المسلمين ، وحكم الفئة الباغية وجوب قتالها ما قاتلت فإذا كفت وقبضت عن الحرب أيديها تركت { إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات : 9] المذكور في كتابه من الصلح وزوال الشحناء { فَإِن فَآءَتْ } [الحجرات : 9] عن البغي إلى أمر الله { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ } [الحجرات : 9] بالإنصاف { وَأَقْسِطُوا } واعدلوا وهو أمر باستعمال القسط على طريق العموم بعدما أمر به في إصلاح ذات البين { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة : 42] العادلين والقسط : الجور ، والقسط : العدل ، والفعل منه أقسط وهمزته للسلب أي أزال القسط وهو الجور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 248
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات : 10] هذا تقرير لما ألزمه من تولي الإصلاح بين من وقعت بينهم المشاقة من المؤمنين ، وبيان أن الإيمان قد عقد بين أهله من السبب القريب والنسب اللاصق ما إن لم يفضل الإخوة لم ينقص عنها.
ثم قد جرت العادة على أنه إذا نشب مثل ذلك بين الأخوين ولاداً لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته بالصلح بينهما فالإخوة في الدين أحق بذلك ، { أَخَوَاتِكُمْ } يعقوب { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الحجرات : 10] أي واتقوا الله ، فالتقوى تحملكم على التواصل والائتلاف وكان عند فعلكم ذلك وصول رحمة الله إليكم مرجواً ، والآية تدل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان لأنه سماهم مؤمنين مع وجود البغي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ } [الحجرات : 11] القوم : الرجال خاصة لأنهم القوام بأمور النساء قال الله تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } [النساء : 34] (النساء : 43) وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور في
249
جمع صائم وزائر.
واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في قوم لم يقل ولا نساء وحقق ذلك زهير في قوله :
وما أدري ولست إخال أدري
أقوم آل حصن أم نساء؟
وأما قولهم في قوم فرعون وقوم عاد هم الذكور والإناث فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ، ولكن قصد ذكر الذكور وترك ذكر الإناث لأنهن توابع لرجالهن.
وتنكير القوم والنساء يحتمل معنيين : أن يراد لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وأن يقصد إفادة الشياع وأن يصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية.
وإنما لم يقل رجل من رجل ولا امرأة من امرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه ، وقوله : { عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ } [الحجرات : 11].
كلام مستأنف ورد مورد جواب المستخبر عن علة النهي وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء ، والمعنى وجوب أن يعتقد كل واحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر إذ لا اطلاع للناس إلا على الظواهر ولا علم لهم بالسرائر ، والذي يزن عند الله خلوص الضمائر فينبغي أن لا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته ، فلعله أخلص ضميراً وأتقى قلباً ممن هو على ضد صفته فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 248
(4/136)
{ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [الحجرات : 11] ولا تطعنوا أهل دينكم.
واللمز : الطعن والضرب باللسان { وَلا تَلْمِزُوا } [الحجرات : 11] يعقوب وسهل.
والمؤمنون كنفس واحدة فإذا عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه.
وقيل : معناه لا تفعلوا ما تلمزون به لأن من فعل ما استحق به اللمز فقد لمز نفسه حقيقة { وَلا تَنَابَزُوا بِالالْقَـابِ } [الحجرات : 11] التنابز بالألقاب التداعي بها ، والنبز لقب السوء والتلقيب المنهي عنه هو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له ، فأما ما يحبه فلا بأس به.
وروي أن قوماً من بني تميم استهزءوا ببلال وخباب وعمار وصهيب فنزلت.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة وكانت قصيرة ، وعن أنس رضي الله عنه : عيرت نساء النبي صلى الله عليه وسلّم أم سلمة بالقصر.
وروي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليسمع ، فأتى يوماً وهو يقول تفسحوا
250
حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لرجل : تنح فلم يفعل.
فقال : من هذا؟ فقال الرجل : أنا فلان.
فقال : بل أنت ابن فلانة يريد أماً كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت : لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً.
{ بِئْسَ اسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الايمَـانِ } [الحجرات : 11] الاسم ههنا بمعنى الذكر من قولهم " طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم " وحقيقته ما سما من ذكره وارتفع بين الناس كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يذكروا بالفسق.
وقوله { بَعْدَ الايمَـانِ } [الحجرات : 11] استقباح للجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يحظره الإيمان كما تقول " بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة " .
وقيل : كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود يا يهودي يا فاسق فنهوا عنه ، وقيل لهم : بئس الذكر أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه { افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } وحد وجمع للفظ من ومعناه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 248
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ } [الحجرات : 12] يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه.
وحقيقته جعله في جانب فيعدى إلى مفعولين قال الله تعالى : { وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ } [إبراهيم : 35] (إبراهيم : 53) ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولاً والمأمور باجتنابه بعض الظن وذلك البعض موصوف بالكثرة ألا ترى إلى قوله { إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [الحجرات : 12] قال الزجاج : هو ظنك بأهل الخير سوأ ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم.
أو معناه اجتناباً كثيراً أو احترزوا من الكثير ليقع التحرز عن البعض ، والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ومنه قيل لعقوبته الأثام فعلا منه كالنكال والعذاب { وَلا تَجَسَّسُوا } [الحجرات : 12] أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم.
يقال : تجسس الأمر إذا تطلبه وبحث عنه تفعل من الجس.
وعن مجاهد : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر الله.
وقال سهل : لا تبحثوا عن طلب معايب ما ستره الله على عباده { وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } [الحجرات : 12] الغيبة الذكر بالعيب في ظهر الغيب وهي من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال ، وفي الحديث " هو أن تذكر أخاك بما يكره " فإن كان فيه فهو غيبة وإلا
251
بهتان.
وعن ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس.
(4/137)
{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } [الحجرات : 12] { مَيْتًا } مدني.
وهذا تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه ، وفي مبالغات منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أن لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها أن لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتاً.
وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي ، وانتصب { مَيْتًا } على الحال من اللحم أو من أخيه ، ولما قررهم بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله { فَكَرِهْتُمُوهُ } أي فتحققت كراهتكم له باستقامة العقل فليتحقق أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة باستقامة الدين { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } [الحجرات : 12] التواب : البليغ في قبول التوبة ، والمعنى واتقوا الله بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما وجد منكم منه فإنكم إن اتقيتم تقبل الله توبتكم وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين.
وروي أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبغي لهما إداماً وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها.
فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا : ما تناولنا لحماً ، قال : إنكما قد اغتبتما ومن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه.
ثم قرأ الآية ، وقيل : غيبة الخلق إنما تكون من الغيبة عن الحق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 248
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } [الحجرات : 13] من آدم وحواء أو كل واحد منكم من أب وأم فما منكم من أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا معنى للتفاخر والتفاضل في النسب { وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآ ـاِلَ } [الحجرات : 13] الشعب الطبقة الأولى
252
من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة.
فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن تجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة ، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها { لِتَعَارَفُوا } أي إنما رتبكم على شعوب وقبائل ليعرف بعضكم نسب بعض فلا يعتزي إلى غير آبائه ، لا أن تتفاخروا بالآباء والأجداد وتدعوا التفاضل في الأنساب.
ثم بين الخصلة التي يفضل بها الإنسان غيره ويكتسب الشرف والكرم عند الله فقال { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } [الحجرات : 13] في الحديث : " من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله " .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى.
وروي أنه صلى الله عليه وسلّم طاف يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها.
يا أيها الناس إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر وشقي هين على الله.
ثم قرأ الآية.
وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فاشتراه بعضهم فمرض فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم توفي فحضر دفنه فقالوا في ذلك شيئاً فنزلت { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ } [آل عمران : 119] كرم القلوب وتقواها { خَبِيرٌ } بهمّ النفوس في هواها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 252
(4/138)
{ قَالَتِ الاعْرَابُ } [الحجرات : 14] أي بعض الأعراب لأن من الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر وهم أعراب بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فاظهروا الشهادة يريدون الصدقة ويمنون عليه { ءَامَنَّا } أي ظاهراً وباطناً { قُلْ } لهم يا محمد { لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الدخان : 21] لم تصدقوا بقلوبكم { وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا } [الحجرات : 14] فالإيمان هو التصديق ، والإسلام
253
الدخول في السلم والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ، ألا ترى إلى قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } [الحجرات : 14] فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة.
وأما في الشرع فالإيمان والإسلام واحد لما عرف ، وفي { لَّمًّا } معنى التوقع وهو دال على أن بعض هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
والآية تنقض على الكرامية مذهبهم أن الإيمان لا يكون بالقلب ولكنّ باللسان ، فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم.
قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً فقيل { قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الحجرات : 14] مع أدب حسن فلم يقل كذبتم تصريحاً ووضع { لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الدخان : 21] الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه واستغنى بقوله { لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الدخان : 21] عن أن يقال لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ، ولم يقل ولكن أسلمتم ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى كما كان قولهم آمنا كذلك.
ولو قيل ولكن أسلمتم لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم وهو غير معتد به.
وليس قوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } [الحجرات : 14] تكريراً لمعنى قوله { لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الدخان : 21] فإن فائدة قوله { لَّمْ تُؤْمِنُوا } [الدخان : 21] تكذيب لدعواهم وقوله { وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ } [الحجرات : 14] توقيب لما أمروا به أن يقولوه كأن قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في { قُولُوا } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 252
{ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الحجرات : 14] في السر بترك النفاق { لا يَلِتْكُم } [الحجرات : 14] { لا } : بصري { يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـالِكُمْ شيئا } [الحجرات : 14] أي لا ينقصكم من ثواب حسناتكم شيئاً.
ألت يألت وألات يليت ولات يليت بمعنى وهو النقص { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] بستر الذنوب { رَّحِيمٌ } بهدايتهم للتوبة عن العيوب.
ثم وصف المؤمنين المخلصين فقال { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } [الحجرات : 15] ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، والمعنى أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لما صدقوه.
ولما كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيهاً على مكانه ، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعاراً
254
باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضاً جديداً { وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [الانفال : 72] يجوز أن يكون المجاهد منوياً وهو العدو المحارب أو الشيطان أو الهوى ، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد ، ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس الغزو وأن يتناول العبادات بأجمعها وبالمجاهدة بالمال نحو صنيع عثمان في جيش العسرة ، وأن يتناول الزكاة وكل ما يتعلق بالمال من أعمال البر.
وخبر المبتدأ الذي هو { الْمُؤْمِنُونَ } { أؤلئك هُمُ الصَّـادِقُونَ } [الحجرات : 15] أي الذين صدقوا في قولهم آمنا ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد أو هم الذين إيمانهم إيمان صدق وحق.
وقوله { الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] صفة لهم.
(4/139)
ولما نزلت هذه الآية جاءوا وحلفوا أنهم مخلصون فنزل { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ } [الحجرات : 16] أي أتخبرونه بتصديق قلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [الحجرات : 16] من النفاق والإخلاص وغير ذلك { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ } [الحجرات : 17] أي بأن { أَسْلَمُوا } يعني بإسلامهم.
والمن ذكر الأيادي تعريضاً للشكر { قُل لا تَمُنُّوا عَلَىَّ إِسْلَـامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } [الحجرات : 17] أي المنة لله عليكم { أَنْ هَدَاـاكُمْ } [الحجرات : 17] بأن هداكم أو لأن { لِلايمَـانِ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [الحجرات : 17] إن صح زعمكم وصدقت دعواكم إلا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان بالله فلله المنة عليكم وقرىء { أَنْ هَدَاـاكُمْ } [الحجرات : 17] { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحجرات : 18] وبالياء : مكي.
وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم يعني أنه تعالى يعلم كل مستتر في العالم ويبصر كل عمل تعملونه في سركم وعلانيتكم لا يخفي عليه منه شيء فكيف يخفي عليه ما في ضمائركم
255
سورة ق
مكية وهي خمس وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
الكلام في { قا وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا } كالكلام في { وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا } سواء بسواء لالتقائهما في أسلوب واحد.
والمجيد ذو المجد والشرف على غيره من الكتب ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند الناس.
وقوله { بَلْ عَجِبُوا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 256
ق : 2] أي كفار مكة { أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ق : 2] أي محمد صلى الله عليه وسلّم إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالمخوف رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه خائفاً أن ينالهم مكروه ، وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم فكيف بما هو غاية المخاوف وإنكار لتعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وعلى اختراع كل شيء وإقرارهم بالنشأة الأولى مع شهادة العقل بأنه لا بد من الجزاء؟ ثم عول على أحد الإنكارين بقوله { تُرَابَا } دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار.
وضع الكافرون موضع الضمير للشهادة
256
على أنهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم ، وهذا إشارة إلى الرجع.
و " إذا " منصوب بمضمر معناه أحين نموت ونبلى نرجع.
{ مِتْنَا } نافع وعلي وحمزة وحفص { ذَالِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } [ق : 3] مستبعد مستنكر كقولك " هذا قول بعيد " أي بعيد من الوهم والعادة.
ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب ، ويكون من كلام الله تعالى استبعاداً لإنكارهم ما أنذروا به من البعث ، والوقف على { تُرَابَا } على هذا حسن ، وناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارْضُ مِنْهُمْ } [ق : 4] رد لاستبعادهم الرجع لأن من لطف علمه حتى علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى وتأكله من لحومهم وعظامهم كان قادراً على رجعهم أحياء كما كانوا { وَعِندَنَا كِتَـابٌ حَفِيظُ } [ق : 4] محفوظ من الشياطين ومن التغير وهو اللوح المحفوظ ، أو حافظ لما أودعه وكتب فيه { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } [ق : 5] إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ق : 5] مضطرب.
يقال : مرج الخاتم في الإصبع إذا اضطرب من سعته فيقولون تارة شاعر وطوراً ساحر ومرة كاهن لا يثبتون على شيء واحد.
وقيل : الحق القرآن.
وقيل : الإخبار بالبعث.
جزء : 4 رقم الصفحة : 256(4/140)
ثم دلهم على قدرته على البعث فقال { أَفَلَمْ يَنظُرُوا } [ق : 6] حين كفروا بالبعث { إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ } [ق : 6] إلى آثار قدرة الله تعالى في خلق العالم { كَيْفَ بَنَيْنَـاهَا } [ق : 6] رفعناها بغير عمد { وَزَيَّنَّـاهَا } بالنيرات { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ق : 6] من فتوق وشقوق أي أنها سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل { وَالارْضَ مَدَدْنَـاهَا } [ق : 7] دحوناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } [الحجر : 19] جبالاً ثوابت لولا هي
257
لمالت { وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج } [ق : 7] صنف { بَهِيجٍ } يبتهج به لحسنه { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى } [ق : 8] لنبصر به ونذكر { لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } [سبأ : 9] راجع إلى ربه مفكر في بدائع خلقه.
{ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَـارَكًا } [ق : 9] كثير المنافع { فَأَنابَتْنَا بِهِ جَنَّـاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } [ق : 9] أي وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالحنطة والشعير وغيرهما { وَالنَّخْلَ بَاسِقَـاتٍ } [ق : 10] طوالاً في السماء { لَّهَا طَلْعٌ } [ق : 10] هو كل ما يطلع من ثمر النخيل { نَّضِيدٌ } منضود بعضه فوق بعض لكثرة الطلع وتراكمه أو لكثرة ما فيه من الثمر { رِّزْقًا لِّلْعِبَادِ } [ق : 11] أي أنبتناها رزقاً للعباد لأن الإنبات في معنى الرزق فيكون { رِّزْقًا } مصدراً من غير لفظه ، أو هو مفعول له أي أنبتناها لرزقهم { وَأَحْيَيْنَا بِهِ } [ق : 11] بذلك الماء { بَلْدَةً مَّيْتًا } [ق : 11] قد جف نباتها { كَذَالِكَ الْخُرُوجُ } [ق : 11] أي كما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم لأن إحياء الموات كإحياء الأموات ، والكاف في محل الرفع على الابتداء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 256
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } [القمر : 9] قبل قريش { قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَـابُ الرَّسِّ } [ق : 12] هو بئر لم تطو وهم قوم باليمامة وقيل أصحاب الأخدود { وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ } أراد بفرعون وقومه كقوله { مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِمْ } [يونس : 83] (يونس : 38) لأن المعطوف عليه قوم نوح والمعطوفات جماعة
258
{ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } سماهم إخوانه لأن بينهم وبينه نسباً قريباً { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } [ق : 14] هو ملك باليمن أسلم ودعا قومه إلى الإسلام فكذبوه وسمي به لكثرة تبعه { كُلِّ } أي كل واحد منهم { كَذَّبَ الرُّسُلَ } [ص : 14] لأن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميعهم { فَحَقَّ وَعِيدِ } [ق : 14] فوجب وحل وعيدي وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وتهديد لهم { أَفَعَيِينَا } عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة للإنكار { بِالْخَلْقِ الاوَّلِ } [ق : 15] أي أنا لم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني والاعتراف بذلك اعتراف بالإعادة { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ } [ق : 15] في خلط وشبهة قد لبس عليهم الشيطان وحيرهم وذلك تسويله إليهم أن إحياء الموتى أمر خارج عن العادة فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح وهو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر { مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق : 15] بعد الموت.
وإنما نكر الخلق الجديد ليدل على عظمة شأنه وأن حق من سمع به أن يخاف ويهتم به.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ق : 16] الوسوسة الصوت الخفي ووسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس ، والباء مثلها في قوله " صوت بكذا " { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } [ق : 16] المراد قرب علمه منه { مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق : 16] هو مثل في فرط القرب ، والوريد عرق في باطن العنق ، والحبل العرق ، والإضافة للبيان كقولهم " بعير سانية " { إِذْ يَتَلَقَّى } يعني الملكين الحافظين { الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ق : 17] التلقي التلقن بالحفظ والكتابة والقعيد والمقاعد بمعنى المجالس وتقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال من المتلقيين فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه كقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 256
رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريئاً ومن أجل الطوى رماني
أي رماني بأمر كنت منه بريئاً وكان والدي منه بريئاً.
و " إذ " منصوب بأقرب لما فيه
259
(4/141)
من معنى يقرب ، والمعنى إنه لطيف يتوصل علمه إلى خطرات النفس ولا شيء أخفى منه وهو أقرب من الإنسان من كل قريب حين يتلقى الحفيظان ما يتلفظ به إيذاناً بأن استحفاظ الملكين أمر هو غني عنه ، وكيف لا يستغني عنه وهو مطلع على أخفى الخفيات؟ وإنما ذلك لحكمة وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائف العمل يوم القيامة من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات.
{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } [ق : 18] ما يتكلم به وما يرمي به من فيه { إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ } [ق : 18] حافظ { عَتِيدٌ } حاضر.
ثم قيل : يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه.
وقيل : لا يكتبان إلا ما فيه أجر أو وزر.
وقيل : إن الملكين لا يجتنبانه إلا عند الغائط والجماع.
لما ذكر إنكارهم البعث واحتج عليهم بقدرته وعلمه أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه عن قريب عند موتهم وعند قيام الساعة ، ونبه على اقتراب ذلك بأن عبر عنه بلفظ الماضي وهو قوله { وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } [ق : 19] أي شدته الذاهبة بالعقل ملتبسة { بِالْحَقِّ } أي بحقيقة الأمر أو بالحكمة { ذَالِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ } [ق : 19] الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان في قوله { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ } [المؤمنون : 12] على طريق الالتفات { تَحِيدُ } تنفر وتهرب { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } [ق : 20] يعني نفخة البعث { ذَالِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ } [ق : 20] أي وقت ذلك يوم الوعيد على حذف المضاف والإشارة إلى مصدر نفخ { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآ ـاِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق : 21] أي ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه بعمله ، ومحل { مَّعَهَا سَآ ـاِقٌ } [ق : 21] النصب على الحال من { كُلِّ } لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة { لَّقَدْ كُنتَ } [ق : 22] أي يقال لها لقد كنت { فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا } [الأنبياء : 97] النازل بك اليوم { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } [ق : 22] أي فأزلنا غفلتك بما تشاهده { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق : 22] جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله أو غشاوة غطي بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ،
260
فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها فيبصر ما لم يبصره من الحق ، ورجع بصره الكليل عن الإبصار لغفلته حديداً لتيقظه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 256
{ وَقَالَ قَرِينُهُ } [ق : 23] الجمهور على أنه الملك الكاتب الشهيد عليه { هَـاذَا } أي ديوان عمله ، مجاهد : شيطانه الذي قيض له في قوله { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف : 36](الزخرف : 63).
هذا أي الذي وكلت به { مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 261
ق : 23] { هَـاذَا } مبتدأ و { مَآ } نكرة بمعنى شيء والظرف بعده وصف له وكذلك { عَتِيدٌ } و { مَآ } وصفتها خبر { هَـاذَا } والتقدير هذا شيء ثابت لديّ عتيد.
ثم يقول الله تعالى { أَلْقِيَا } والخطاب للسائق والشهيد أو لمالك ، وكأن الأصل ألق ألق فناب ألقيا عن ألق ألق لأن الفاعل كالجزء من الفعل فكانت تثنية الفاعل نائبة عن تكرار الفعل.
وقيل : أصله ألقين والألف بدل من النون إجراء للوصل مجرى الوقف دليله قراءة الحسن { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ } [ق : 24] بالنعم والمنعم { عَنِيدٍ } معاند مجانب للحق معاد لأهله { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } [القلم : 12] كثير المنع للمال عن حقوقه أو مناع لجنس الخير أن يصل إلى أهله { مُعْتَدٍ } ظالم متخط للحق { مُّرِيبٍ } شاك في الله وفي دينه { الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [ق : 26] مبتدأ متضمن معنى الشرط خبره { فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ق : 26] أو بدل من { كُلَّ كَفَّارٍ } [البقرة : 276] و { فَأَلْقِيَاهُ } تكرير للتوكيد ولا يجوز أن يكون صفة لـ { كَفَّارٍ } لأن النكرة لا توصف بالموصول.
جزء : 4 رقم الصفحة : 261
(4/142)
{ قَالَ قَرِينُهُ } [ق : 27] أي شيطانه الذي قرن به وهو شاهد لمجاهد ، وإنما أخليت هذه الجملة عن الواو دون الأولى لأن الأولى واجب عطفها للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهي مستأنفة كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كما في مقاولة موسى وفرعون ، فكأن الكافر قال رب هو أطغاني فقال قرينه
261
{ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـاكِن كَانَ فِى ضَلَـال بَعِيدٍ } [ق : 27] أي ما أوقعته في الطغيان ولكنه طغى واختار الضلالة على الهدى { قَالَ لا تَخْتَصِمُوا } [ق : 28] هو استئناف مثل قوله تعالى { قَالَ قَرِينُهُ } [ق : 27] كأن قائلاً قال : فماذا قال الله؟ فقيل : قال لا تختصموا { لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } [ق : 28] أي لا تختصموا في دار الجزاء وموقف الحساب فلا فائدة في اختصامكم ولا طائل تحته وقد أوعدتكم بعذابي على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فما تركت لكم حجة عليّ.
والباء في { بِالْوَعِيدِ } مزيدة كما في قوله { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ } [البقرة : 195] (البقرة : 591) أو معدية على أن قدم مطاوع بمعنى تقدم { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ } [ق : 29] أي لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار { وَمَآ أَنَا بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [ق : 29] فلا أعذب عبداً بغير ذنب.
وقال { بِظَلَّـامٍ } على لفظ المبالغة لأنه من قولك هو ظالم لعبده وظلام لعبيده { يَوْمَ } نصب بـ أو بمضمر هو اذكر وأنذر { إِن نَّقُولُ } [هود : 54] نافع وأبو بكر أي يقول الله { لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ق : 30] وهو مصدر كالمجيد أي أنها تقول بعد امتلائها هل من مزيد أي هل بقي فيّ موضع لم يمتليء يعني قد امتلأت ، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد وهذا على تحقيق القول من جهنم وهو غير مستنكر كإنطاق الجوارح ، والسؤال لتوبيخ الكفرة لعلمه تعالى بأنها امتلأت أم لا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 261
{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ق : 31] غير نصب على الظرف أي مكاناً غير بعيد ، أو على الحال وتذكيره لأنه على زنة المصدر كالصليل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث ، أو على حذف الموصوف أي شيئاً غير بعيد ومعناه التوكيد كما تقول : هو قريب غير بعيد وعزيز غير ذليل { هَـاذَا } مبتدأ وهو إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أزلفت
262
{ مَا تُوعَدُونَ } [الأنبياء : 109] صفته وبالياء : مكي { لِكُلِّ أَوَّابٍ } [ق : 32] رجاع إلى ذكر الله خبره { حَفِيظُ } حافظ لحدوده جاء في الحديث " من حافظ على أربع ركعات في أول النهار كان أواباً حفيظاً " { مِنَ } مجرور المحل بدل من { أَوَّابٍ } أو رفع بالابتداء وخبره { ادْخُلُوهَا } على تقدير يقال لهم ادخولها بسلام لأن " من " في معنى الجمع { خَشِىَ الرَّحْمَـانَ } [ق : 33] الخشية انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة ، وقرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته مع علمه أنه الواسع الرحمة كما أثنى عليه بأنه خاشٍ مع أن المخشي منه غائب { بِالْغَيْبِ } حال من المفعول أي خشيه وهو غائب ، أو صفة لمصدر خشي أي خشيه خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب.
الحسن : إذا أغلق الباب وأرخى الستر { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ق : 33] راجع إلى الله.
وقيل : بسريرة مرضية وعقيدة صحيحة { ادْخُلُوهَا بِسَلَـامٍ } [الحجر : 46] أي سالمين من زوال النعم وحلول النقم { ذَالِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } [ق : 34] أي يوم تقدير الخلود كقوله { فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ } [الزمر : 73] (الزمر : 37) أي مقدرين الخلود { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق : 35] على ما يشتهون ، والجمهور على أنه رؤية الله تعالى بلا كيف.
(4/143)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم } [مريم : 74] قبل قومك { مِّن قَرْنٍ } [ص : 3] من القرون الذين كذبوا رسلهم { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم } [ق : 36] من قومك { بَطْشًا } قوة وسطوة { فَنَقَّبُوا } فخرقوا { فِى الْبِلَـادِ } [آل عمران : 196] وطافوا.
والتنقيب التنقير عن الأمر والبحث والطلب ، ودخلت الفاء للتسبيب عن قوله { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا } [ق : 36] أي شدة بطشهم أقدرتهم على التنقيب وقوّتهم عليه ، ويجوز أن يراد فنقب أهل مكة في أسفارهم ومسايرهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصاً حتى يؤملوا مثله لأنفسهم ، ويدل عليه قراءة من قرأ { فَنَقَّبُوا } على الأمر
263
{ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } [ق : 36] مهرب من الله أو من الموت.
جزء : 4 رقم الصفحة : 261
{ إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] المذكور { لَذِكْرَى } تذكرة وموعظة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ق : 37] واعٍ لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } [ق : 37] أصغى إلى المواعظ { وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق : 37] حاضر بفطنته لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ق : 38] إعياء ، قيل : نزلت في اليهود ـ لعنت ـ تكذيباً لقولهم خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش وقالوا : إن الذي وقع من التشبيه في هذه الأمة إنما وقع من اليهود ومنهم أخذ.
وأنكر اليهود التربيع في الجلوس وزعموا أنه جلس تلك الجلسة يوم السبت { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [طه : 130] أي على ما يقول اليهود ويأتون به من الكفر والتشبيه ، أو على ما يقول المشركون في أمر البعث فإن من قدر على خلق العالم قدر على بعثهم والانتقام منه { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } [غافر : 55] حامداً ربك ، والتسبيح محمول على ظاهره أو على الصلاة فالصلاة { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } [ق : 39] الفجر { وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق : 39] الظهر والعصر { وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } [ق : 40] العشاءان أو التهجد { وَأَدْبَـارَ السُّجُودِ } [ق : 40] التسبيح في آثار الصلوات والسجود ولاركوع يعبر بهما عن الصلاة.
وقيل : النوافل بعد المكتوبات أو الوتر بعد العشاء والأدبار جمع دبر ، { وَأَدْبَـارَ } حجازي وحمزة وخلف من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت ، ومعناه وقت انقضاء السجود كقولهم " آتيك خفوق النجم " .
{ وَاسْتَمِعْ } لما أخبرك به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به وقد وقف يعقوب عليه.
وانتصب { يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ } [ق : 41] بما دل عليه
264
{ ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ق : 42] أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور.
وقيل : تقديره واستمع حديث يوم ينادي المنادي.
بالياء في الحالين : مكي وسهل ويعقوب ، وفي الوصل : مدني وأبو عمرو ، وغيرهم بغير ياء فيهما.
والمنادي إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
وقيل : إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالحشر { وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [سبأ : 51] من صخرة بيت المقدس وهي أقرب من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً وهي وسط الأرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 261
(4/144)
{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ } [ق : 42] بدل من { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } .
الصيحة النفخة الثانية { بِالْحَقِّ } متعلق بـ { الصَّيْحَةَ } والمراد به البعث والحشر للجزاء { ذَالِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ق : 42] من القبور { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ } [يس : 12] الخلق { وَنُمِيتُ } أي نميتهم في الدنيا { وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } [ق : 43] أي مصيرهم { يَوْمَ تَشَقَّقُ } [ق : 44] بالتخفيف : كوفي وأبو عمرو ، وغيرهم بالتشديد { الارْضُ عَنْهُمْ } [ق : 44] أي تتصدع الأرض فتخرج الموتى من صدوعها { سِرَاعًا } حال من المجرور أي مسرعين { ذَالِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ق : 44] هين.
وتقديم الظرف يدل على الاختصاص أي لا يتيسر مثل ذلك الأمر العظيم إلا على القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } [طه : 104] فيك وفينا تهديد لهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ } [ق : 45] كقوله { بِمُصَيْطِرٍ } (الغاشية : 22) أي ما أنت بمسلط عليهم إنما أنت داعٍ وباعث.
وقيل : هو من جبره على الأمر بمعنى أجبره أي ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان { فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ق : 45] كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـاـاهَا } [النازعات : 45] (النازعات : 54).
لأنه لا ينفع إلا فيه
265
سورة الذاريات
مكية وهي ستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالذَّارِيَـاتِ } الرياح لأنها تذرو التراب وغيره ، وبادغام التاء في الذال : حمزة وأبو عمرو { ذَرْوًا } مصدر والعامل فيه اسم الفاعل { فَالْحَـامِلَـاتِ } السحاب لأنها تحمل المطر { وِقْرًا } مفعول الحاملات { فَالْجَـارِيَـاتِ } الفلك { يُسْرًا } جرياً ذا يسر أي ذا سهولة { فَالْمُقَسِّمَـاتِ أَمْرًا } [الذاريات : 4] الملائكة لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما ، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك ، أو تتولى تقسيم أمر العباد ؛ فجبريل للغلظة ، وميكائيل للرحمة ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل للنفخ.
ويجوز أن يراد الرياح لا غير لأنها تنشيء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجوّ جرياً سهلاً ، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب.
ومعنى الفاء على الأول أنه أقسم بالرياح فبالسحاب التي تسوقه فبالفلك التي تجريها بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعها.
وعلى الثاني أنها تبتديء في الهبوب فتذرو التراب والحصباء فتقل السحاب فتجري في الجوّ باسطة له فتقسم المطر { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات : 5] جواب القسم و " ما " موصولة أو مصدرية والموعود البعث { لَصَادِقٌ } وعد صادق كعيشة راضية أي ذات رضا
266
{ وَإِنَّ الدِّينَ } [الذاريات : 6] الجزاء على الأعمال { لَوَاقِعٌ } لكائن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 266
{ وَالسَّمَآءَ } هذا قسم آخر { ذَاتِ الْحُبُكِ } [الذاريات : 7] الطرائق الحسنة مثل ما يظهر على الماء من هبوب الريح ، وكذلك حبك الشعر آثار تثنيه وتكسره جمع حبيكة كطريقة وطرق.
ويقال : إن خلقة السماء كذلك.
وعن الحسن : حبكها نجومها جمع حباك { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [الذاريات : 8] أي قولهم في الرسول ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن سحر وشعر وأساطير الأولين { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات : 9] الضمير للقرآن أو الرسول أي يصرف عنه من صرف ، الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم ، أو يصرف عنه من صرف في سابق علم الله أي علم فيما لم يزل أن مأفوك عن الحق لا يرعوي.
ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين ، أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق ، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه فمنهم شاك ومنهم جاحد ، ثم قال : يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو مأفوك { قُتِلَ } لعن وأصله الدعاء بالقتل والهلاك ثم جرى مجرى لعن { الْخَراَّصُونَ } الكذابون المقدرون ما لا يصح وهم أصحاب القول المختلف ، واللام إشارة إليهم كأنه قيل : قتل هؤلاء الخراصون { الَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ } [الذاريات : 11] في جهل يغمرهم { سَاهُونَ } غافلون عما أمروا به.(4/145)
{ يَسْـاَلُونَ } فيقولون { أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } [الذاريات : 12] أي متى يوم الجزاء وتقديره : أيان وقوع يوم الدين لأنه إنما تقع الأحيان ظروفاً للحدثان.
وانتصب اليوم الواقع في الجواب بفعل مضمر دل عليه السؤال أي يقع { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } [الذاريات : 13] ويجوز أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى غير متمكن وهو الجملة ، ومحله نصب بالمضمر الذي هو يقع أو رفع على هو يوم هم على النار يفتنون يحرقون
267
{ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ } [الذاريات : 14] أي تقول لهم خزنة النار ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار { هَـاذَا } مبتدأ خبره { الَّذِى } أي هذا العذاب هو الذي { كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [يونس : 51] في الدنيا بقولكم فأتنا بما تعدنا.
ثم ذكر حال المؤمنين فقال.
جزء : 4 رقم الصفحة : 266
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر : 45] أي وتكون العيون وهي الأنهار الجارية بحيث يرونها وتقع عليها أبصارهم لا أنهم فيها { ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ } قابلين لكل ما أعطاهم من الثواب راضين به وآخذين حال من الضمير في الظرف وهو خبر إن { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ } [الواقعة : 45] قبل دخول الجنة في الدنيا { مُحْسِنِينَ } قد أحسنوا أعمالهم وتفسير إحسانهم ما بعده.
{ كَانُوا قَلِيلا مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [الذاريات : 17] ينامون.
و " ما " مزيدة للتوكيد و { يَهْجَعُونَ } خبر { كَانَ } والمعنى كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل ، أو مصدرية والتقدير : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم فيرتفع هجوعهم لكونه بدلاً من الواو في { كَانُوا } لا بـ { قَلِيلا } لأنه صار موصوفاً بقوله { مِّن الَّيْلِ } [هود : 114] خرج من شبه الفعل وعمله باعتبار المشابهة أي كان هجوعهم قليلاً من الليل ، ولا يجوز أن تكون " ما " نافية على معنى أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله لأن " ما " النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لا تقول : زيداً ما ضربت { وَبِالاسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات : 18] وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، والسحر السدس الأخير من الليل { وَفِى أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآ ـاِلِ } [الذاريات : 19] لمن يسأل لحاجته { وَالْمَحْرُومِ } أي الذي يتعرض ولا يسأل حياء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 266
{ وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ } [الذاريات : 20] تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره حيث هي
268
مدحوة كالبساط لما فوقها ، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها وهي مجزأة ؛ فمن سهل ومن جبل وصلبة ورخوة وعذاة وسبخة ، وفيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة ودواب منبثة مختلفة الصور والأشكال متباينة الهيئات والأفعال { لِّلْمُوقِنِينَ } للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصّل إلى المعرفة ، فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيقاناً على إيقانهم { وَفِى أَنفُسِكُمْ } [الذاريات : 21] في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال ، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان ، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وبالألسن والنطق ومخارج الحروف وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة مدبرها وصانعها مع الأسماء والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له ، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني فإنه إذا جسا منها شيء جاء العجز ، وإذا استرخى أناخ الذل ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وما قيل إن التقدير أفلا تبصرون في أنفسكم ضعيف لأنه يفضي إلى تقديم ما في حيز الاستفهام على حرف الاستفهام { أَفَلا تُبْصِرُونَ } [القصص : 72] تنظرون نظر من يعتبر { وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } [الذاريات : 22] أي المطر لأنه سبب الأقوات ، وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم { وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات : 22] الجنة فهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش ، أو أراد أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى كله مقدور مكتوب في السماء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 266
(4/146)
{ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [الذاريات : 23] الضمير يعود إلى الرزق أو إلى { مَّا تُوعَدُونَ } [الأنبياء : 109] { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات : 23] بالرفع : كوفي غير حفص صفة للحق أي حق مثل نطقكم ،
269
وغيرهم بالنصب أي إنه لحق حقاً مثل نطقكم ، ويجوز أن يكون فتحاً لإضافته إلى غير متمكن و " ما " مزيدة.
وعن الأصمعي أنه قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال : من الرجل؟ فقلت : من بني أصمع.
قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الله ، قال : اتلو عليّ فتلوت { وَالذَّارِيَـاتِ } فلما بلغت قوله { وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } [الذاريات : 22] قال : حسبك.
فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد وطفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم عليّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت { فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالارْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [الذاريات : 23] فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى حلف قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 269
{ هَلْ أَتَـاـاكَ } [البروج : 17] تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإنما عرفه بالوحي وانتظامها بما قبلها باعتبار أنه قال { وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ } [الذاريات : 20] وقال في آخر هذه القصة { وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً } [الذاريات : 37] { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [الذاريات : 24] الضيف للواحد والجماعة كالصوم والزور لأنه في الأصل مصدر ضافه ، وكانوا اثني عشر ملكاً.
وقيل : تسعة عاشرهم جبريل.
وجعلهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك { الْمُكْرَمِينَ } عند الله لقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنبياء : 26] (الأنبياء : 62) وقيل : لأنه خدمهم بنفسه وأخدمهم امرأته وعجل لهم القرى { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ } [الحجر : 52] نصب بـ { الْمُكْرَمِينَ } إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم وإلا فبإضمار اذكر { فَقَالُوا سَلَـامًا } [الحجر : 52] مصدر سادٌّ مسد الفعل مستغنى به عنه ، وأصله نسلم عليكم سلاماً { قَالَ سَلَـامٌ } [مريم : 47] أي عليكم سلام فهو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، والعدول إلى الرفع للدلالة على إثبات السلام كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذاً بأدب الله ، وهذا أيضاً من إكرامه لهم.
حمزة وعلي : سلم
270
والسلم السلام { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [الحجر : 62] أي أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } [الذاريات : 26] فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ومن أدب المضيف أن يخفي أمره وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه ، وكان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُا إِلَيْهِمْ } ليأكلوا منه فلم يأكلوا { قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } [الذاريات : 27] أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه { فَأَوْجَسَ } فأضمر { مِنْهُمْ خِيفَةً } [هود : 70] خوفاً لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب { قَالُوا لا تَخَفْ } [هود : 70] إنا رسل الله ، وقيل : مسح جبريل العجل فقام ولحق بأمه { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَـامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات : 28] أي يبلغ ويعلم والمبشر به إسحاق عند الجمهور.
جزء : 4 رقم الصفحة : 269
(4/147)
{ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّةٍ } [الذاريات : 29] في صيحة من صر القلم والباب ، قال الزجاج : الصرة شدة الصياح ههنا ومحله النصب على الحال أي فجاءت صارة.
وقيل : فأخذت في صياح وصرتها قولها يا ويلتا { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } [الذاريات : 29] فلطمت ببسط يديها.
وقيل : فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [الذاريات : 29] أي أنا عجوز فكيف ألد كما قال في موضع آخر { وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ } [هود : 72] (هود : 27) { قَالُوا كَذَالِكِ } [الذاريات : 30] مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به { قَالَ رَبُّكِ } [الذاريات : 30] أي إنما نخبرك عن الله تعالى والله قادر على ما تستبعدين { إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ } [الذاريات : 30] في فعله { الْعَلِيمُ } فلا يخفى عليه شيء.
وروي أن جبريل قال لها حين استبعدت : انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.
ولما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلاً في بعض الأمور.
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } [الحجر : 57] أي فما شأنكم وما طلبتكم وفيم أرسلتم؟
271
{ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } [الحجر : 57] أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما { قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الحجر : 58] أي قوم لوط { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات : 33] أريد السجيل وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة { مُّسَوَّمَةً } معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به { عِندَ رَبِّكَ } [الكهف : 46] في ملكه وسلطانه { لِلْمُسْرِفِينَ } سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا } [الذاريات : 35] في القرية ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 27] يعني لوطاً ومن آمن به { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } [الذاريات : 36] أي غير أهل بيت وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا { وَتَرَكْنَا فِيهَآ } [الذاريات : 37] في قراهم { ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الالِيمَ } [الذاريات : 37] علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم.
قيل : هي ماء أسود منتن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 269
{ وَفِى مُوسَى } [الذاريات : 38] معطوف على { وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ } [الذاريات : 20] أو على قوله { وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً } [الذاريات : 37] على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله.
علفتها تبناً وماء بارداً
{ إِذْ أَرْسَلْنَـاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [الذاريات : 38] بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا { فَتَوَلَّى } فأعرض عن الإيمان { بِرُكْنِهِ } بما كان يتقوى به من جنوده وملكه ، والركن ما يركن إليه الإنسان من مال وجند { وَقَالَ سَـاحِرٌ } [الذاريات : 39] أي هو ساحر { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَـاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } آتٍ بما يلام عليه من كفره
272
وعناده.
وإنما وصف يونس عليه السلام به في قوله { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات : 142] (الصافات) 241) لأن موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم ، فراكب الكفر ملوم على مقداره ، وراكب الكبيرة والصغيرة والذلة كذلك ، والجملة مع الواو حال من الضمير في { فَأَخَذْنَـاهُ } .
{ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } [الذاريات : 41] هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي ريح الهلاك ، واختلف فيها والأظهر أنها الدبور لقوله عليه السلام : " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
جزء : 4 رقم الصفحة : 272
(4/148)
{ مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } [الذاريات : 42] هو كل ما رم أي بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك ، والمعنى ما تترك من شيء هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته { وَفِى ثَمُودَ } [الذاريات : 43] آية أيضاً { إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ } [الذاريات : 43] تفسيره قوله { تَمَتَّعُوا فِى دَارِكُمْ ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ } [هود : 65] (هود : 56) { فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } [الذاريات : 44] فاستكبروا عن امتثاله { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ } [النساء : 153] العذاب وكل عذاب مهلك صاعقة { الصَّـاعِقَةُ } علي وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة { وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الانفال : 6] لأنها كانت نهاراً يعاينونها { فَمَا اسْتَطَـاعُوا مِن قِيَامٍ } [الذاريات : 45] أي هرب أو هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه { وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } [الذاريات : 45] ممتنعين من العذاب أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة { وَقَوْمَ نُوحٍ } [الفرقان : 37] أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه ، أو واذكر قوم
273
نوح.
وبالجر أبو عمرو وعلي وحمزة أي وفي قوم نوح آية ويؤيده قراءة عبد الله { قَوْمُ نُوحٍ } { مِّن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل هؤلاء المذكورين { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَـاسِقِينَ } [النمل : 12] كافرين.
{ وَالسَّمَآءَ } نصب بفعل يفسره { بَنَيْنَـاهَا } بقوة والأيد القوة { بِأَيايْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات : 47] لقادرون من الوسع وهي الطاقة والموسع القوي على الإنفاق أو لموسعون ما بين السماء والأرض { وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا } [الذاريات : 48] بسطناها ومهدناها وهي منصوبة بفعل مضمر أي فرشنا الأرض فرشناها { فَنِعْمَ الْمَـاهِدُونَ } [الذاريات : 48] نحن { وَمِن كُلِّ شَىْءٍ } [الذاريات : 49] من الحيوان { خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [الذاريات : 49] ذكراً وأنثى.
وعن الحسن : السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة ، فعدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152] أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ } [الذاريات : 50] أي من الشرك إلى الإيمان بالله أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن أو مما سواه إليه { إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } والتكرير للتوكيد والإطالة في الوعيد أبلغ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 272
{ كَذَالِكِ } الأمر مثل ذلك وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً أو مجنوناً.
ثم فسر ما أجمل بقوله { مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } [الذاريات : 52] من قبل قومك { مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا } [الذاريات : 52] هو { سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات : 39] رموهم بالسحر أو الجنون لجهلهم { أَتَوَاصَوْا بِهِ } [الذاريات : 53] الضمير للقول أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعاً متفقين عليه { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات : 53] أي لم يتواصوا به لأنهم لم
274
(4/149)
يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان والطغيان هو الحامل عليه { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [الصافات : 174] فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عناداً { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } [الذاريات : 54] فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة { وَذَكِّرْ } وعظ بالقرآن { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات : 55] بأن تزيد في عملهم { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات : 55] وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلا بد أن توجد منهم ، فإذا لم يؤمنوا علم أنهم خلقهم لجهنم كما قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } [الأعراف : 179] (الأعراف : 971).
وقيل : إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه.
وقيل : إلا ليكونوا عباداً لي.
والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد.
والكل يوحدونه في الآخرة لما عرف أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله { ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] (الأنعام : 32).
جزء : 4 رقم الصفحة : 272
نعم قد أشرك البعض في الدنيا بالإضافة إلى الأبد أقل من يوم ، ومن اشترى غلاماً وقال : ما اشتريته إلا للكتابة كان صادقاً في قوله ما اشتريته إلا للكتابة ، وإن استعمله في يوم من عمره لعمل آخر { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ } [الذاريات : 57] ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحداً من عبادي { وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [الذاريات : 57] قال ثعلب : أن يطعموا عبادي وهي إضافة تخصيص
275
كقوله عليه السلام خبراً عن الله تعالى : " من أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومن آذى مؤمناً فقد آذاني " { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات : 58] الشديد القوة والمتين بالرفع صفة لذو ، وقرأ الأعمش بالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } [الذاريات : 59] رسول الله بالتكذيب من أهل مكة { ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـابِهِمْ } [الذاريات : 59] نصيباً من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون المهلكة.
قال الزجاج : الذنوب في اللغة النصيب { فَلا يَسْتَعْجِلُونِ } [الذاريات : 59] نزول العذاب وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ } [الذاريات : 60] أي من يوم القيامة.
وقيل : من يوم بدر ، { ءَانٍ } .
{ فَلا } بالياء في الحالين : يعقوب ، وافقه سهل في الوصل الباقون بغير ياء والله أعلم.
276
سورة الطور
وهي تسع وأربعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُوعَدُونَ * وَالطُّورِ } [الطور : 1] هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين { وَكِتَـابٍ مُّسْطُورٍ } [الطور : 2] هو القرآن ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب أو اللوح المحفوظ أو التوراة { فِى رَقٍّ } [الطور : 3] هو الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه { مَّنشُورٍ } مفتوح لا ختم عليه أو لائح { وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } [الطور : 4] أي الضراح وهو بيت في السماء حيال الكعبة وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة.
روي أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ويخرجون ثم لا يعودون إليه أبداً.
وقيل : الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } [الطور : 5] أي السماء أو العرش { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [الطور : 6] المملوء أو الموقد ، والواو الأولى للقسم والبواقي للعطف ، وجواب القسم { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ } [الإسراء : 57] أي الذي أوعد الكفار به { لَوَاقِعٌ } لنازل.
قال جبير بن
277(4/150)
مطعم : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكلمه في الأسارى فلقيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور ، فلما بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [الطور : 7] أسلمت خوفاً من أن ينزل العذاب { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } لا يمنعه مانع والجملة صفة لـ " واقع " أي واقع غير مدفوع.
جزء : 4 رقم الصفحة : 277
والعامل في { يَوْمَ } { لَوَاقِعٌ } أي يقع في ذلك اليوم ، أو اذكر { يَوْمَ تَمُورُ } [الطور : 9] تدور كالرحى مضطربة { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } في الهواء كالسحاب لأنها تصير هباء منثوراً { فَوَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب ومنه قوله { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآ ـاِضِينَ } [المدثر : 45] (المدثر : 54) ويبدل { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [الطور : 13] من { يَوْمَ تَمُورُ } [الطور : 9] والدع : الدفع العنيف وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعاً على وجوههم وزخاً في أقفيتهم فيقال لهم { هَـاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور : 14] في الدنيا { أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ } [الطور : 15] { هَـاذَآ } مبتدأ و { سَـاحِرٌ } خبره يعني كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفسحر هذا يريد أهذا المصداق أيضاً سحر ودخلت الفاء لهذا المعنى { أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور : 15] كما كنتم لا تبصرون في الدنيا يعني أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر وهذا تقريع وتهكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 277
{ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } [الطور : 16] خبر { سَوَآءٌ } محذوف أي سواء
278
عليكم الأمران الصبر وعدمه بقوله { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 16] لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة فلا مزية له على الجزع.
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ } [الحجر : 45] في أية جنات { وَنَعِيمٍ } أي وأي نعيم بمعنى الكمال في الصفة أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين خلقت لهم خاصة { فَـاكِهِينَ } حال من الضمير في الظرف والظرف خبر أي متلذذين { بِمَآ ءَاتَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ } [الطور : 18] وعطف قوله { وَوَقَـاـاهُمْ رَبُّهُمْ } [الطور : 18] على { فِى جَنَّـاتٍ } [الصف : 12] أي إن المتقين استقروا في جنات.
.
.
ووقاهم ربهم ، أو على { رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ } [الذاريات : 16] على أن تجعل " ما " مصدرية والمعنى فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم { عَذَابَ الْجَحِيمِ } [غافر : 7] أو الواو للحال و " قد " بعدها مضمرة يقال لهم { كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيائَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 19] أكلاً وشرباً هنيئاً أو طعاماً وشراباً هنيئاً وهو الذي لا تنغيص فيه { مُتَّكِـاِينَ } حال من الضمير في { كُلُوا وَاشْرَبُوا } [البقرة : 60] { عَلَى سُرُرٍ } [الحجر : 47] جمع سرير { مَّصْفُوفَةٍ } موصول بعضها ببعض { وَزَوَّجْنَـاهُم } وقرناهم { بِحُورٍ } جمع حوراء { عِينٍ } عظام الأعين حسانها { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 165] مبتدأ و { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } [الطور : 21] خبره { وَاتَّبَعَتْهُمْ } { وَأَتْبَعْنَـاهُمْ } أبو عمرو { ذُرِّيَّتُهُم } أولادهم { بِإِيمَـانٍ } حال من الفاعل { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور : 21] أي نلحق الأولاد
279
بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء.
وقيل : إن الذرية وإن لم يبلغون مبلغاً يكون منهم الإيمان استدلالاً وإنما تلقنوا منهم تقليداً فهم يلحقون بالآباء.
{ ذُرِّيَّتُهُم } مدني أبو عمرو شامي { ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَـاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَىْءٍ } [الطور : 21] وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء.
{ أَلَتْنَـاهُم } مكي ألت يألت ألت يألت لغتان من الأولى متعلقة بألتناهم والثانية زائدة { كُلُّ امْرِى بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور : 21] أي مرهون فنفس المؤمن مرهونة بعمله وتجازى به.
جزء : 4 رقم الصفحة : 277
(4/151)
{ وَأَمْدَدْنَـاهُم } وزدناهم في وقت بعد وقت { بِفَـاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } [الطور : 22] وإن لم يقترحوا { يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا } [الطور : 23] خمراً أي يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم يتناول هذا الكأس من يد هذا وهذا من يد هذا { لا لَغْوٌ فِيهَا } [الطور : 23] في شربها { وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] أي لا يجري بينهم ما يلغي يعني لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه إثم لو فعله فاعل في دار التكليف من الكذب والشتم ونحوهما كشاربي خمر الدنيا ، لأن عقولهم ثابتة فيتكلمون بالحكم والكلام الحسن.
{ لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] مكي وبصري.
جزء : 4 رقم الصفحة : 280
{ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } [الطور : 24] مملوكون لهم مخصوصون بهم { كَأَنَّهُمْ } من بياضهم وصفائهم { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } [الطور : 24] في الصدف لأنه رطباً أحسن وأصفى أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة ، في الحديث : " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه لبيك لبيك " .
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات : 27] يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله وما استحق به نيل ما عند الله
280
{ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ } [الطور : 26] أي في الدنيا { فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [الطور : 26] أرقاء القلوب من خشية الله أو خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو من رد الحسنات والأخذ بالسيئات { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } [الطور : 27] بالمغفرة والرحمة { وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [الطور : 27] هي الريح الحارة التي تدخل المسام فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ } [الطور : 28] من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه يعنون في الدنيا { نَدْعُوهُ } نعبده ولا نعبد غيره ونسأله الوقاية { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ } [الطور : 28] المحسن الرّحيم } العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب.
{ إِنَّهُ } بالفتح : مدني وعلي أي بأنه أو لأنه { فَذَكِّرْ } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ } برحمة ربك وإنعامه عليه بالنبوة ورجاحة العقل { بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ } [الطور : 29] كما زعموا وهو في موضع الحال والتقدير لست كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 280
{ أَمْ يَقُولُونَ } [السجدة : 3] هو { شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطور : 30] حوادث الدهر أي ننتظر نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء زهير والنابغة.
و " أم " في أوائل هذه الآي منقطعة بمعنى بل والهمزة { قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } [الطور : 31] أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـامُهُم } [الطور : 32] عقولهم { بِهَـاذَآ } التناقض في القول وهو قولهم كاهن وشاعر مع قولهم مجنون وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الطور : 32] مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم ، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز
281
(4/152)
{ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } [الطور : 33] اختلقه محمد من تلقاء نفسه { بَل } رد عليهم أي ليس الأمر كما زعموا { لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه المطاعن مع علمهم ببطلان قولهم وأنه ليس بمتقول لعجز العرب عنه وما محمد إلا واحد من العرب { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ } [الطور : 34] مختلق { مِّثْلِهِ } مثل القرآن { إِن كَانُوا صَـادِقِينَ } [الطور : 34] في أن محمداً تقوله من تلقاء نفسه لأنه بلسانهم وهم فصحاء { أَمْ هُمُ الْخَـالِقُونَ } [الطور : 35] أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق.
وقيل : أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب أم هم الخالقون فلا يأتمرون { أَمْ خَلَقُوا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } فلا يعبدون خالقهما { بَل لا يُوقِنُونَ } [الطور : 36] أي لا يتدبرون في الآيات فيعلموا خالقهم وخالق السماوات والأرض.
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآ ـاِنُ رَبِّكَ } [الطور : 37] من النبوة والرزق وغيرهما فيخصوا من شاءوا بما شاءوا { أَمْ هُمُ } الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على مشيئتهم.
وبالسين : مكي وشامي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 280
{ الْمُصاَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ } [الطور : 38] منصوب يرتقون به إلى السماء { يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } [الطور : 38] كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون.
قال الزجاج : يستمعون فيه أي عليه { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [الطور : 38] بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم { أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } [الطور : 39] ثم سفه أحلامهم حيث اختاروا لله ما يكرهون وهم حكماء عند أنفسهم { أَمْ تَسْـاَلُهُمْ أَجْرًا } [الطور : 40] على التبليغ والإنذار { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } [الطور : 40] المغرم أن
282
يلتزم الإنسان ما ليس عليه أي لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك { أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ } [الطور : 41] أي اللوح المحفوظ { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [الطور : 41] ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لم نعذب { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا } [الطور : 42] وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله وبالمؤمنين { فَالَّذِينَ كَفَرُوا } [الحج : 19] إشارة إليهم أو أريد بهم كل من كفر بالله تعالى { هُمُ الْمَكِيدُونَ } [الطور : 42] هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته { أَمْ لَهُمْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ } [الطور : 43] يمنعهم من عذاب الله { سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ } والكسف القطعة وهو جواب قولهم { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [الإسراء : 92] (الإسراء : 29) يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطناه عليهم لقالوا هذا سحاب { مَّرْكُومٌ } قدركم أي جمع بعضه على بعض يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب.
{ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَـاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ } [الطور : 45] بضم الياء : عاصم وشامي.
الباقون بفتح الياء ، يقال : صعقه فصعق وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق { يَوْمَ لا يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شيئا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } وإن لهؤلاء الظلمة { عَذَابًا دُونَ ذَالِكَ } [الطور : 47] دون يوم القيامة وهو القتل ببدر والقحط سبع سنين وعذاب القبر { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] ذلك.
ثم أمره بالصبر إلى أن يقع بهم العذاب فقال { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [الطور : 48] بإمهالهم وبما يلحقك فيه من المشقة
283
(4/153)
{ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور : 48] أي بحيث نراك ونكلؤك.
وجمع العين لأن الضمير بلفظ الجماعة ألا ترى إلى قوله { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى } [طه : 39] (طه : 93) { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } [الطور : 48] للصلاة وهو ما يقال بعد التكبير سبحانك اللهم وبحمدك ، أو من أي مكان قمت أو من منامك { وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَـارَ النُّجُومِ } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وأدبار زيد أي في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت ، والمراد الأمر بقول سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات.
وقيل : التسبيح الصلاة إذا قام من نومه ، ومن الليل صلاة العشاءين ، وإدبار النجوم صلاة الفجر.
284
سورة النجم
اثنتان وستون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّجْمِ } أقسم بالثريا أو بجنس النجوم { إِذَا هَوَى } [النجم : 1] إذا غرب أو انتثر يوم القيامة وجواب القسم { مَا ضَلَّ } [النجم : 2] عن قصد الحق { صَاحِبُكُمْ } أي محمد صلى الله عليه وسلّم والخطاب لقريش { وَمَا غَوَى } [النجم : 2] في اتباع الباطل.
وقيل : الضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي { يُوحَى } وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه إنما هو وحي من عند الله يوحى إليه.
ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام ، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي لا نطقاً عن الهوى.
{ عَلَّمَهُ } علم محمداً عليه السلام { شَدِيدُ الْقُوَى } [النجم : 5] ملك شديد قواه والإضافة غير حقيقية لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، وهو جبريل عليه السلام عند
285
الجمهور ، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين { ذُو مِرَّةٍ } [النجم : 6] ذو منظر حسن عن ابن عباس { فَاسْتَوَى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي ، وكان ينزل في صورة دحية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق.
وقيل : ما رآه أحد من الأنبياء عليهم السلام في صورته الحقيقية سوى محمد صلى الله عليه وسلّم مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
{ وَهُوَ } أي جبريل عليه السلام { بِالافُقِ الاعْلَى } [النجم : 7] مطلع الشمس { ثُمَّ دَنَا } [النجم : 8] جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلّم { فَتَدَلَّى } فزاد في القرب ، والتدلي هو النزول بقرب الشيء { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [النجم : 9] مقدار قوسين عربيتين.
وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط والذراع والباع ومنه : " لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين " ، وفي الحديث : " لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها " .
والقد السوط وتقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين فحذفت هذه المضافات { أَوْ أَدْنَى } [النجم : 9] أي على تقديركم كقوله { أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147](الصافات : 741) وهذا لأنهم خوطبوا على لغتهم ومقدار فهمهم وهم يقولون هذا قدر رمحين أو أنقص.
وقيل : بل أدنى { فَأَوْحَى } جبريل عليه السلام { إِلَى عَبْدِهِ } [النجم : 10] إلى عبد الله وإن لم يجر لاسمه
286(4/154)
ذكر لأنه لا يلتبس كقوله { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } [فاطر : 45] (فاطر : 54) { مَآ أَوْحَى } [النجم : 10] تفخيم للوحي الذي أوحي إليه.
قيل : أوحي إليه إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ } [النجم : 11] فؤاد محمد { مَا رَأَى } [النجم : 11] ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق.
وقيل : المرئي هو الله سبحانه ، رآه بعين رأسه وقيل بقلبه { أَفَتُمَـارُونَهُ } أفتجادلونه من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه ، { أَفَتُمَـارُونَهُ } حمزة وعلي وخلف ويعقوب ، أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته ولما فيه من معنى الغلبة قال { عَلَى مَا يَرَى } [النجم : 12] فعدي بـ " على " كما تقول غلبته على كذا.
وقيل : أفتمرونه أفتجحدونه يقال : مريته حقه إذا جحدته وتعديته بـ " على " لا تصح إلا على مذهب التضمين.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ } [التكوير : 23] رأى محمد جبريل عليهما السلام { نَزْلَةً أُخْرَى } [النجم : 13] مرة أخرى من النزول نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه فرآه عليها وذلك ليلة المعراج { عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } [النجم : 14] الجمهور على أنها شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش.
والمنتهى بمعنى موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها ، وقيل : لم يجاوزها أحد وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ولا يعلم أحد ما وراءها.
وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء
287
{ عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [النجم : 15] أي الجنة التي يصير إليها المتقون.
وقيل : تأوي إليها أرواح الشهداء { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم : 16] أي رآه إذ يغشى السدرة ما يغشى ، وهو تعظيم وتكثير لما يغشاها ، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله تعالى وجلاله أشياء لا يحيط بها الوصف.
وقد قيل : يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله تعالى عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها { وَمَا طَغَى } [النجم : 17] وما جاوز ما أمر برؤيته.
{ لَقَدْ رَأَى } [النجم : 18] والله لقد رأى { مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [النجم : 18] الآيات التي هي كبراها وعظماها يعني حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت.
{ أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ } أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها من دون الله عز وجل هل لها من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة؟ اللات والعزى ومناة أصنام لهم وهي مؤنثات ، فاللات كانت لثقيف بالطائف.
وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة ، والعزى كانت لغطفان وهي ثمرة وأصلها تأنيث الأعز وقطعها خالد بن الوليد ، ومناة صخرة كانت لهذيل وخزاعة.
وقيل : لثقيف وكأنها سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق مكي مفعلة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها { الثَّالِثَةَ الاخْرَى } [النجم : 20] هي صفة ذم أي المتأخرة الوضيعة المقدار ، كقوله و { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاولَـاهُمْ } [الأعراف : 38] (الأعراف : 83) أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم ، ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله مع وأدهم البنات وكراهتهم لهن فقيل لهم
288
{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } أي جعلكم لله البنات ولكم البنين قسمة ضيزى أي جائزة من ضازه يضيزه إذا ضامه.
و { ضِيزَى } فعلى إذ لا فعلى في النعوت فكسرت الضاد للياء كما قيل " بيض " وهو بوض مثل حمر وسود ، بالهمز : مكي من ضأزه مثل ضازه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 285
(4/155)
{ ضِيزَى * إِنْ هِىَ } [النجم : 23] ما الأصنام { إِلا أَسْمَآءٌ } [يوسف : 40] ليس تحتها في الحقيقة مسميات لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشذ منافاة لها { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } حجة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } [الأنعام : 116] إلا توهم أن ما هم عليه حق { وَمَا تَهْوَى الانفُسُ } [النجم : 23] وما تشتهيه أنفسهم { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم : 23] الرسول والكتاب فتركوه ولم يعملوا به { أَمْ لِلانسَانِ مَا تَمَنَّى } [النجم : 24] هي " أم " المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي ليس للإنسان يعني الكافر ما تمنى من شفاعة الأصنام أو من قوله : { وَلَئن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت : 50] (فصلت : 05).
وقيل : هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي { فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى } [النجم : 25] أي هو مالكهما وله الحكم فيهما يعطى النبوة والشفاعة من شاء وارتضى لا من تمني.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
{ وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شيئا إِلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى } [النجم : 26] يعني أن أمر الشفاعة ضيق فإن الملائكة مع قربتهم وكثرتهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم شيئاً قط ، ولا تنفع إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلاً لأن يشفع له فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائكَةَ } [النجم : 27] أي كل واحد منهم
289
{ تَسْمِيَةَ الانثَى } [النجم : 27] لأنهم إذا قالوا للملائكة بنات الله فقد سموا كل واحد منهم بنتاً وهي تسمية الأنثى.
{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } [النجم : 28] أي بما يقولون وقرىء بها أي بالملائكة أو التسمية { إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } [الأنعام : 116] هو تقليد الآباء { وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شيئا } [النجم : 28] أي إنما يعرف الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا } [النجم : 29] فأعرض عمن رأيته معرضاً عن ذكر الله أي القرآن { وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا * ذَالِكَ } أي اختيارهم الدنيا والرضا بها { مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ } [النجم : 30] منتهى علمهم { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } [النجم : 30] أي هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازيهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
{ وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا } [النساء : 126] بعقاب ما عملوا من السوء أو بسبب ما عملوا من السوء { وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] بالمثوبة الحسنى وهي الجنة أو بسبب الأعمال الحسنى ، والمعنى أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذه الملكوت ليجزي المحسن من المكلفين والمسيء منهم إذ الملك أهل لنصر الأولياء وقهر الأعداء { الَّذِينَ } بدل أو في موضع رفع على المدح أي هم الذين { يَجْتَنِبُونَ كَبَائرَ الاثْمِ } [النجم : 32] أي الكبائر من الإثم لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر والكبائر الذنوب التي يكبر عقابها ، { كَبِيرٌ } حمزة وعلي أي النوع الكبير منه
290(4/156)
{ وَالْفَوَاحِشَ } ما فحش من الكبائر كأنه قال : والفواحش منها خاصة.
قيل : الكبائر ما أوعد الله عليه النار والفواحش ما شرع فيها الحد { إِلا اللَّمَمَ } [النجم : 32] أي الصغائر والاستثناء منقطع لأنه ليس من الكبائر والفواحش وهو كالنظرة والقبلة واللمسة والغمزة { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } [النجم : 32] فيغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم } [النجم : 32] أي أباكم { مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } [النجم : 32] جمع جنين { فِى بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ } [النجم : 32] فلا تنسبوها إلى زكاء العمل وزيادة الخير والطاعات ، أو إلى الزكاة والطهارة من المعاصي ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولاً وآخراً قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم.
وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا فنزلت.
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم : 32] فاكتفوا بعلمه عن علم الناس وبجزائه عن ثناء الناس.
{ أَفَرَءَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى } [النجم : 33] أعرض عن الإيمان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
{ وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى } [النجم : 34] قطع عطيته وأمسك ، وأصله إكداء الحافر وهو أن تلقاه كدية وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : فيمن كفر بعد الإيمان.
وقيل : في الوليد بن المغيرة وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعيره بعض الكافرين وقال له : تركت دين الأشياخ وزعمت أنهم في النار.
قال : إني خشيت عذاب الله.
فضمن له إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ففعل وأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه { عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ } [النجم : 35 ، 36] فهو يعلم أن ما ضمنه من عذاب الله حق { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ } [النجم : 36] يخبر { بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى } [النجم : 36] أي التوراة { وَإِبْرَاهِيمَ } أي وفي صحف إبراهيم { الَّذِى وَفَّى } [النجم : 37] أي وفر وأتم كقوله { فَأَتَمَّهُنَّ } (البقرة : 421) وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية.
وقرىء مخففاً والتشديد
291
مبالغة في الوفاء.
وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفى به ، وعن عطاء بن السائب : عهد أن لا يسأل مخلوقاً فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال أما إليك فلا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار وهي صلاة الضحى ، وروي ألا أخبركم لم سمى الله خليله الذي وفى؟ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى { فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ } [الروم : 17] إلى { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } (الروم : 81) وقيل : وفي سهام الإسلام وهي ثلاثون : عشرة في " التوبة " { التَّـائِبُونَ } (التوبة : 211) ، وعشرة في " الأحزاب " { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ } [الأحزاب : 35] (الآية : 53) وعشرة في " المؤمنين " { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 1] (المؤمنون : 1) ثم أعلم بما في صحف موسى وإبراهيم فقال { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } تزر من وزر يزر إذا اكتسب وزراً وهو الإثم ، و " إن " مخففة من الثقيلة والمعنى أنه لا تزر والضمير ضمير الشأن ومحل " أن " وما بعدها الجر بدلاً من { مُوسَى } أو الرفع على هو أن لا تزر كأن قائلاً قال : وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل : { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [النجم : 38] أي لا تحمل نفس ذنب نفس.
جزء : 4 رقم الصفحة : 289
(4/157)
{ وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } [النجم : 39] إلا سعيه وهذه أيضاً مما في صحف إبراهيم وموسى ، وأما ما صح في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه فقد قيل : إن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه وهو أن يكون مؤمناً كان سعي غيره كأنه سعي نفسه لكونه تابعاً له وقائماً بقيامة ، ولأن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه والوكيل القائم مقامه { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } [النجم : 40] أي يرى هو سعيه يوم القيامة في ميزانه
292
{ ثُمَّ يُجْزَاـاهُ } [النجم : 41] ثم يجزى العبد سعيه.
يقال : جزاه الله عمله وجزاه على عمله بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء.
ثم فسره بقوله { الْجَزَآءَ الاوْفَى } [النجم : 41] أو أبدله عنه { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } [النجم : 42] هذا كله في الصحف الأولى.
والمنتهى مصدر بمعنى الانتهاء أي ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه كقوله : { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 28] (آل عمران : 82) { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [النجم : 43] خلق الضحك والبكاء.
وقيل : خلق الفرح والحزن.
وقيل : أضحك المؤمنين في العقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب و { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } [النجم : 44] قيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء ، أو أمات بالكفر وأحيا بالإيمان ، أو أمات هنا وأحيا ثمة { تَمَنَّى } إذا تدفق في الرحم يقال منى وأمنى { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الاخْرَى } [النجم : 47] الإحياء بعد الموت { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } [النجم : 48] وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك.
جزء : 4 رقم الصفحة : 292
{ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } [النجم : 49] هو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر وكانت خزاعة تعبدها ، فأعلم الله أنه رب معبودهم هذا { وَأَنَّهُا أَهْلَكَ عَادًا الاولَى } [النجم : 50] هم قوم هود وعاد الأخرى إرم { عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا أَفَلا تَتَّقُونَ } مدني وبصري غير سهل بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة { أُوْلِى } ونقل ضمتها إلى لام التعريف
293
{ وَثَمُودَا فَمَآ أَبْقَى } حمزة وعاصم الباقون { وَثَمُودَا } وهو معطوف على { عَادًا } ولا ينصب بـ { فَمَآ أَبْقَى } [النجم : 51] لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبله لا تقول : زيداً فضربت ، وكذا ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله ، والمعنى وأهلك ثمود فما أبقاهم.
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } [الفرقان : 37] أي أهلك قوم نوح { مِّن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } [النجم : 52] من عاد وثمود لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حرام وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه { وَالْمُؤْتَفِكَةَ } والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهم قوم لوط يقال : أفكه فأتفك { أَهْوَى } أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها و منصوب بـ { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [النجم : 53] { فَغَشَّـاـاهَا } ألبسها { مَا غَشَّى } [النجم : 54] تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ } [النجم : 55] أيها المخاطب { تَتَمَارَى } تتشكك بما أولاك من النعم أو بما كفاك من النقم ، أو بأي نعم ربك الدالة على وحدانيته وربوبيته تشكك { هَـاذَا نَذِيرٌ } [النجم : 56] أي محمد منذر { مِّنَ النُّذُرِ الاولَى } [النجم : 56] من المنذرين الأولين.
وقال { الاولَى } على تأويل الجماعة أو هذا القرآن نذير من النذر الأولى أي إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم { أَزِفَتِ الازِفَةُ } [النجم : 57] قربت الموصوفة بالقرب في قوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [القمر : 1] (القمر : 1) { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [النجم : 58] أي ليس لها نفس كاشفة أي مبينة متى تقوم كقوله : { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ } [الأعراف : 187] (الأعراف : 781).
أو ليس لها نفس كاشفة أي قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله تعالى غير أنه لا يكشفها
294
(4/158)
{ أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ } [النجم : 59] أي القرآن { تَعْجَبُونَ } إنكاراً { وَتَضْحَكُونَ } استهزاء { وَلا تَبْكُونَ } [النجم : 60] خشوعاً { وَأَنتُمْ سَـامِدُونَ } [النجم : 61] غافلون أو لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ليشغلوا الناس عن استماعه { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [النجم : 62] أي فاسجدوا لله واعبدوه ولا تعبدوا الآلهة.
295
سورة القمر
خمس وخمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [القمر : 1] قربت القيامة { وَانشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر : 1] نصفين.
وقرىء { وَقَدْ } أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق كما تقول : أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : رأيت حراء بين فلقتي القمر.
وقيل : معناه ينشق يوم القيامة.
والجمهور على الأول وهو المروي في الصحيحين.
ولا يقال لو انشق لما خفي على أهل الأقطار ولو ظهر عندهم لنقلوه متواتراً لأن الطباع جبلت على نشر العجائب لأنه يجوز أن يحجبه الله عنهم بغيم { الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا } [القمر : 2] يعني أهل مكة { ءَايَةً } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلّم { يُعْرِضُوا } عن الإيمان به { وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } [القمر : 2] محكم قوي من المرة القوة أو دائم مطرد أو مار ذاهب يزول ولا يبقى
296
{ وَكَذَّبُوا } النبي صلى الله عليه وسلّم { وَاتَّبَعُوا أَهْوَآءَهُمْ } [محمد : 14] وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره { وَكُلُّ أَمْرٍ } [القمر : 3] وعدهم الله { مُّسْتَقِرٌّ } كائن في وقته.
وقيل : كل ما قدر واقع.
وقيل : كل أمر من أمرهم واقع مستقر أي سيثبت ويستقر عند ظهور العقاب والثواب { وَلَقَدْ جَآءَهُم } [النحل : 113] أهل مكة { مِّنَ الانابَآءِ } [القمر : 4] من القرآن المودع أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } [القمر : 4] ازدجار عن الكفر.
تقول : زجرته وازدجرته أي منعته وأصله ازتجر ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور ، فأبدل من التاء حرف مجهور وهو الدال ليتناسبا وهذا في آخر كتاب سيبويه { حِكْمَةُ } بدل من " ما " أو على " هو حكمة " { بَـالِغَةٌ } نهاية الصواب أو بالغة من الله إليهم { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } " ما " نفي و { النُّذُرُ } جمع نذير وهم الرسل أو المنذر به أو النذر مصدر بمعنى الإنذار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } [الصافات : 174] لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم.
نصب { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } بـ { يَخْرُجُونَ } أو بإضمار اذكر.
{ الدَّاعِىَ } ، { يَوْمَـاـاِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لا عِوَجَ لَهُا وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } سهل ويعقوب ومكي فيهما ، وافق مدني وأبو عمرو في الوصل ، ومن أسقط الياء اكتفى بالكسرة عنها.
وحذف الواو من { يَدْعُ } في الكتابة لمتابعة اللفظ ، والداعي إسرافيل عليه السلام { إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ } [القمر : 6] منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثلة وهو هول القيامة { نُّكُرٍ } بالتخفيف : مكي { خُشَّعًا أَبْصَـارُهُمْ } [القمر : 7] { خُشَّعًا } عراقي غير عاصمٍ وهو حال من الخارجين وهو فعل للأبصار ، وذكر كما تقول يخشع أبصارهم غيرهم خشعاً على يخشعن أبصارهم وهي لغة من يقول " أكلوني البراغيث " .
ويجوز أن يكون في { خُشَّعًا } ضميرهم وتقع { أَبْصَـارُهُمْ } بدلاً عنه ، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة لأن ذلة الذليل وعزة العزيز
297
تظهران في عيونهما { يَخْرُجُونَ مِنَ الاجْدَاثِ } [المعارج : 43] من القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [القمر : 7] في كثرتهم وتفرقهم في كل جهة.
والجراد مثل في الكثرة والتموج يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض جاءوا كالجراد { مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } [القمر : 8] مسرعين مادي أعناقهم إليه { يَقُولُ الْكَـافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8] صعب شديد.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296(4/159)
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } [القمر : 9] قبل أهل مكة { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا } [القمر : 9] نوحاً عليه السلام.
ومعنى تكرار التكذيب أنهم كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأساً كذبوا نوحاً لأنه من جملة الرسل { وَقَالُوا مَجْنُونٌ } [القمر : 9] أي هو مجنون { وَازْدُجِرَ } زجر عن أداء الرسالة بالشتم وهدد بالشتم وهدد بالقتل ، أو هو من جملة قيلهم أي قالوا هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه { فَدَعَا رَبَّهُا أَنِّى } [القمر : 10] أي بأني { مَغْلُوبٌ } غلبني قومي فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي { فَانتَصِرْ } فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ } [القمر : 11] { فَفَتَحْنَآ } شامي ويزيد وسهل ويعقوب { بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [القمر : 11] منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً { وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا } [القمر : 12] وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر وهو أبلغ من قولك " وفجرنا عيون الأرض " { فَالْتَقَى الْمَآءُ } [القمر : 12] أي مياه السماء والأرض وقرىء أي النوعان من الماء السماوي والأرضي { الْمَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر : 12] على حال قدرها الله كيف شاء أو على أمر قد قدر في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 296
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
{ وَحَمَلْنَـاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر : 13] أراد السفينة وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتؤدي مؤداها بحيث لا يفصل بينها وبينها ونحوه " ولكنّ قميصي مسرودة من حديدً أراد ولكن قميصي درع ، ألا ترى أنك لو جمعت
298
بين السفينة وبين هذه الصفة لم يصح ، وهذا من فصيح الكلام وبديعه ، والدسر جمع دسار وهو المسمار فعال من دسره إذا دفعه لأنه يدسر به منفذه { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } [القمر : 14] بمرأى منا أو بحفظنا أو { بِأَعْيُنِنَا } حال من الضمير في { تَجْرِى } أي محفوظة بنا { جَزَآءً } مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده أي فعلنا ذلك جزاء { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } [القمر : 14] وهو نوح عليه السلام وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ } [الأنبياء : 107].
(الأنبياء : 701) فكان نوح نعمة مكفورة { وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ } [القمر : 15] أي السفينة أو الفعلة أي جعلناها { ءَايَةً } يعتبر بها.
وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة.
وقيل : على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر : 15] متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله مذتكر بالذال والتاء ولكن التاء أبدلت منها الدال والدال والذال من موضع فأدغمت الذال في الدال { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } [القمر : 16] جمع نذير وهو الإنذار يعقوب فيهما ، وافقه سهل في الوصل.
غيرهما بغير ياء وعلى هذا الاختلاف ما بعده إلى آخر السورة { وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ } [القمر : 17] سهلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر : 15] متعظ يتعظ.
وقيل : ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ويروى أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن.
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
{ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } [القمر : 18] أي وإنذاراتي لهم بالعذاب قبل
299
(4/160)
نزوله أو وإنذاراتي في تعذيبهم لمن بعدهم { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } [القمر : 19] باردة أو شديدة الصوت { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } [القمر : 19] شؤم { مُّسْتَمِرٌّ } دائم الشر فقد استمر عليهم حتى أهلكهم وكان في أربعاء في آخر الشهر { تَنزِعُ النَّاسَ } [القمر : 20] تقلعهم عن أماكنهم وكانوا يصطفون آخذاً بعضهم بأيدي بعض ويتداخلون في الشعاب ويحفرون الحفر فيندسون فيها فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم { كَأَنَّهُمْ } حال { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر : 20] أصول نخل منقلع عن مغارسه ، وشبهوا بأعجاز النخل لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقى أجساداً بلا رءوس فيتساقطون على الأرض أمواتاً وهم جثث طوال كأنهم أعجاز نخل ، وهي أصولها بلا فروع ، وذكر صفة نخل على اللفظ ولو حملها على المعنى لأنث كما قال { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة : 7] (الحاقة : 7) { مُّدَّكِرٍ } .
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ } [القمر : 23].
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
{ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا } [القمر : 24] انتصب { بَشَرًا } بفعل يفسره { نَّتَّبِعُهُ } تقديره أنتبع بشراً منا واحداً { إِنَّآ إِذًا لَّفِى ضَلَـالٍ وَسُعُرٍ } [القمر : 24] كأن يقول إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق.
وسعر ونيران جمع سعير فعكسوا عليه فقالوا : إن اتبعناك كنا إذا كما تقول.
وقيل : الضلال الخطأ والبعد عن الصواب ، والسعر الجنون ، وقولهم { أَبَشَرًا } إنكار لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية وطلبوا أن يكون من الملائكة وقالوا منا ، لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى ، وقالوا { وَاحِدًا } إنكاراً لأن تتبع الأمة رجلاً واحداً ، أو أرادوا واحداً من أفنائهم ليس من أشرفهم وأفضلهم ، ويدل عليه قوله
300
{ أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [القمر : 25] بطر متكبر حمله بطره وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك { سَيَعْلَمُونَ غَدًا } [القمر : 26] عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة { مَّنِ الْكَذَّابُ الاشِرُ } [القمر : 26] أصالح أم من كذبه.
: شامي وحمزة على حكاية ما قال لهم صالح مجيباً لهم أو هو كلام الله على سبيل الالتفات { الاشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ } [القمر : 27] باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا { فِتْنَةً لَّهُمْ } [القمر : 27] امتحاناً لهم وابتلاء وهو مفعول له أو حال { فَارْتَقِبْهُمْ } فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون { وَاصْطَبِرْ } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةُ بَيْنَهُمْ } [القمر : 28] مقسوم بينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم وقال { بَيْنَهُمْ } تغليباً للعقلاء { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } [القمر : 28] محضور يحضر القوم الشرب يوماً وتحضر الناقة يوماً { فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
القمر : 29] قدار بن سالف أحيمر ثمود { فَتَعَاطَى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له { فَعَقَرَ } الناقة أو فتعاطى الناقة فعقرها أو فتعاطى السيف.
وإنما قال { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } [الأعراف : 77] (الأعراف : 77) في آية أخرى لرضاهم به أو لأنه عقر بمعونتهم { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } في اليوم الرابع من عقرها { صَيْحَةً وَاحِدَةً } [يس : 49] صاح بهم جبريل عليه السلام { فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } [القمر : 31] والهشيم الشجر اليابس المتهشم المتكسر ، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم ، وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار أي الحظيرة
301
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر : 17].
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوط بِالنُّذُرِ } [القمر : 33].
(4/161)
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ } [القمر : 34] يعني على قوم لوط { حَاصِبًا } ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم { إِلا ءَالَ لُوطٍ } [الحجر : 59] ابنتيه ومن آمن معه { نَّجَّيْنَـاهُم بِسَحَرٍ } [القمر : 34] من الأسحار ولذا صرفه ـ ويقال : لقيته بسحر إذا لقيته في سحر يومه.
وقيل : هما سحران : فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر ، والآخر عند انصداعه { نِعْمَتَ } مفعول له أي إنعاماً { مِّنْ عِندِنَا كَذَالِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } [القمر : 35] نعمة الله بإيمانه وطاعته { وَلَقَدْ أَنذَرَهُم } [القمر : 36] لوط عليه السلام { بَطْشَتَنَا } أخذتنا بالعذاب { فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ } [القمر : 36] فكذبوا بالنذر متشاكين { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } [القمر : 37] طلبوا الفاحشة من أضيافه { فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } [القمر : 37] أعميناهم.
وقيل : مسحناها وجلناها كسائر الوجه لا يرى لها شق.
روي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا قالت الملائكة : خلهم يدخلوا إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ، فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة فتركهم يترددون ولا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
{ فَذُوقُوا } فقلت لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة { عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } أول النهار { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } [القمر : 38] ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.
وفائدة تكرير { فَذُوقُوا عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ } أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكاراً واتعاظاً ، وأن يستأنفوا تنبهاً
302
واستيقاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وهذا حكم التكرير في قوله { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 13] (الرحمن : 31) عند كل نعمة عدها ، وقوله { وَيْلٌ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات : 15] (المرسلات : 52) عند كل آية أوردها ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في كل أوان.
{ وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } [القمر : 41] موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء أو هو جمع نذير وهو الإنذار { كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا كُلِّهَا } بالآيات التسع { فَأَخَذْنَـاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ } [القمر : 42] لا يغالب { مُّقْتَدِرٍ } لا يعجزه شيء { أَكُفَّارُكُمْ } يا أهل مكة { خَيْرٌ مِّنْ أُوالَـائكُمْ } [القمر : 43] الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا أو أقل كفراً وعناداً يعني أن كفاركم مثل أولئك بل شر منهم { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ } [القمر : 43] أم أنزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمناً من عذاب الله فأمنتم بتلك البراءة؟ { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ } [القمر : 44] جماعة أمرنا مجتمع { مُّنتَصِرٌ } ممتنع لا نرام ولا نضام { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } [القمر : 45] جمع أهل مكة { وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر : 45] أي الأدبار كما قال :
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا
أي ينصرفون منهزمين يعني يوم بدر وهذه من علامات النبوة.
{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } [القمر : 46] موعد عذابهم بعد بدر { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى } [القمر : 46] أشد من موقف بدر والداهية الأمر المنكر الذي لا يهتدى لدوائه { وَأَمَرُّ } مذاقاً من عذاب الدنيا أو أشد من المرة.
303
جزء : 4 رقم الصفحة : 298
(4/162)
{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَـالٍ } [القمر : 47] عن الحق في الدنيا { وَسُعُرٍ } ونيران في الآخرة أو في هلاك ونيران { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ } [القمر : 48] يجرون فيها { عَلَى وُجُوهِهِمْ } [القمر : 48] ويقال لهم { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } [القمر : 48] كقولك " وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب " لأن النار إذا أصابتهم بحرها فكأنها تمسهم مساً بذلك.
و { سَقَرَ } غير منصرف للتأنيث والتعريف لأنها علم لجهنم من سقرته النار إذا لوحته { إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ } [القمر : 49] كل منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر ، وقرىء بالرفع شاذاً والنصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون { خَلَقْنَـاهُ } في موضع الجبر وصفاً لـ { شَىْءٍ } ويكون الخبر { بِقَدَرٍ } وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا كائن بقدر ، ويحتمل أن يكون { خَلَقْنَـاهُ } هو الخبر وتقديره : إنا كل شيء مخلوق لنا بقدر ، فلما تردد الأمر في الرفع عدل إلى النصب وتقديره.
إنا خلقنا كل شيء بقدر فيكون الخلق عاماً لكل شيء وهو المراد بالآية.
ولا يجوز في النصب أن يكون { خَلَقْنَـاهُ } صفة لـ { شَىْءٍ } لأنه تفسير الناصب والصفة لا تعمل في الموصوف.
والقدر والقدر التقدير أي بتقدير سابق أو خلقنا كل شيء مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه.
قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ } [القمر : 50] إلا كلمة واحدة أي وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلا أن نقول له كن فيكون { كَلَمْح بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] على قدر ما يلمح أحدكم ببصره.
وقيل : المراد بأمرنا القيامة كقوله { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [النحل : 77] (النمل : 77).
جزء : 4 رقم الصفحة : 304
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } [القمر : 51] أشباهكم في الكفر من الأمم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر : 15] متعظ
304
{ وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ } [القمر : 52] أي أولئك الكفار أي وكل شيء مفعول لهم ثابت { فِى الزُّبُرِ } [القمر : 43] في دواوين الحفظة فـ { فَعَلُوهُ } في موضع جر نعت لـ { شَىْءٍ } و { فِى الزُّبُرِ } [القمر : 43]خبر لـ { كُلُّ } { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } [القمر : 53] من الأعمال ومن كل ما هو كائن { مُّسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَهَرٍ } [القمر : 54] وأنهار اكتفى باسم الجنس وقيل : هو السعة والضياء ومنه النهار { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } [القمر : 55] في مكان مرضي { عِندَ مَلِيكٍ } [القمر : 55] عندية منزلة وكرامة لا مسافة ومماسة { مُّقْتَدِرٍ } قادر.
وفائدة التنكير فيهما أن يعلم أن لا شيء إلا هو تحت ملكه وقدرته
305
سورة الرحمن
مكية وهي ست وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْءَانَ * خَلَقَ الانسَـانَ } أي الجنس أو آدم أو محمداً عليهما السلام { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } [الرحمن : 4] عدّد الله عز وجل آلاءه فأراد أن يقدم أول شيء ما هو أسبق قدماً من ضروب آلائه وصنوف نعمائه وهي نعمة الدين ، فقدّم من نعمة الدين ما هو سنام في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه لأنه أعظم وحي الله رتبة وأعلاه منزلة وأحسنه في أبواب الدين أثراً ، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها ، وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره ، ثم أتبعه إياه ليعلم أنه إنما خلقه للدين وليحيط علماً بوحيه وكتبه ، وقدم ما خلق الإنسان من أجله عليه ، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان وهو المنطق الفصيح
306
المعرب عما في الضمير.
و { الرَّحْمَـانُ } مبتدأ وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة ، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد كما تقول : زيد أغناك بعد فقر أعزك بعد ذل كثرك بعد قلة فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه؟.(4/163)
{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [الرحمن : 5] بحساب معلوم وتقدير سوىٍ يجريان في بروجهما ومنازلهما وفي ذلك منافع للناس منها علم السنين والحساب { وَالنَّجْمُ } النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { وَالشَّجَرُ } الذي له ساق.
وقيل : النجم نجوم السماء { يَسْجُدَانِ } ينقادان لله تعالى فيما خلقا له تشبيهاً بالساجد من المكلفين في انقياده ، واتصلت هاتان الجملتان بـ { الرَّحْمَـانُ } بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا لغيره كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له.
ولم يذكر العاطف في الجمل الأولى ثم جيء به بعد ، لأن الأولى وردت على سبيل التعديد تبكيتاً لمن أنكر آلاءه كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال المذكور ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعطف.
وبيان التناسب أن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان ، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل.
وإن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر.
جزء : 4 رقم الصفحة : 306
{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [الرحمن : 7] خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه { وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [الرحمن : 7] أي كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس أي خلقه موضوعاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم { أَلا تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ } [الرحمن : 8] لئلا تطغوا أو هي " أن " المفسرة
307
{ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } [الرحمن : 9] وقوموا وزنكم بالعدل { وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن : 9] ولا تنقصوه أمر بالتسوية ونهى عن الطيغان الذي هو اعتداء وزيادة ، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان ، وكرر لفظ الميزان تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه { وَالارْضَ وَضَعَهَا } [الرحمن : 10] حفضها مدحوّة على الماء { لِلانَامِ } للخلق وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة.
وعن الحسن : الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها { فِيهَا فَـاكِهَةٌ } [الزخرف : 73] ضروب مما يتفكه به { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاكْمَامِ } [الرحمن : 11] هي أوعية الثمر الواحد " كم " بكسر الكاف أو كل ما يكم أي يغطى من ليفه وسعفه وكفراه ، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ } [الرحمن : 12] هو ورق الزرع أو التبن { وَالرَّيْحَانُ } الرزق وهو اللب أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه ، والجامع بين التلذذ والتغذي هو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب.
{ وَالرَّيْحَانُ } بالجر : حمزة وعلي أي والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام والريحان الذي هو مطعم الأنام ، والرفع على و " ذو الريحان " فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقيل : معناه وفيها الريحان الذي يشم { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } شامي أي وخلق الحب والريحان أو وأخص الحب والريحان { فَبِأَىِّ ءَالاءِ } [النجم : 55] أي النعم مما عدد من أول السورة جمع ألى وإلى { رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 13] الخطاب للثقلين بدلالة الأنام عليهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 306
{ خَلَقَ الانسَـانَ مِن صَلْصَـالٍ } [الرحمن : 14] طين يابس له صلصلة { كَالْفَخَّارِ } أي الطين المطبوخ بالنار وهو الخذف.
ولا اختلاف في هذا وفي قوله
308
(4/164)
{ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [الحجر : 26] (الحجر : 62) { مِّن طِينٍ لازِب } [الصافات : 11] (الصافات : 11) { مِّن تُرَابٍ } [الروم : 20] (غافر : 76) لاتفاقها معنى لأنه يفيد أنه خلقه من تراب ثم جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً { وَخَلَقَ الْجَآنَّ } [الرحمن : 15] أبا الجن قيل : هو إبليس { مِن مَّارِجٍ } [الرحمن : 15] هو اللهب الصافي الذي لا دخان فيه.
وقيل : المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط { مِّن نَّارٍ } [الرحمن : 15] هو بيان لما رج كأنه قيل : من صاف من نار أو مختلط من نار ، أو أراد من نار مخصوصة كقوله { فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } [الليل : 14] (الليل : 41) { الْمَغْرِبَيْنِ } أراد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ومغربيهما.
جزء : 4 رقم الصفحة : 308
{ يَلْتَقِيَانِ } أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا فصل بين الماءين في مرأى العين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } [الرحمن : 20] حاجز من قدرة الله تعالى { لا يَبْغِيَانِ } [الرحمن : 20] لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ } { يَخْرُجُ } مدني وبصري { مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ } [الرحمن : 22] بلا همز : أبو بكر ويزيد وهو كبار الدر { وَالْمَرْجَانُ } صغاره.
وإنما قال { مِنْهُمَا } وهما يخرجان من الملح لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه وتقول : خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله.
وقيل : لا يخرجان إلا من ملتقى الملح
309
والعذب { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
{ وَلَهُ } ولله { الْجَوَارِ } السفن جمع جارية.
قال الزجاج : الوقف عليها بالياء والاختيار وصلها ، وإن وقف عليها واقف بغير ياء فذا جائز على بعد ولكن يروم الكسر في الراء ليدل على حذف الياء المرفوعات الشرع بكسر الشين ، حمزة ويحيى الرافعات الشرع أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن { الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاعْلَامِ } [الشورى : 32] جمع علم وهو الجبل الطويل { عَلَيْهَا } على الأرض { فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } ذاته { ذُو الْجَلَالِ } [الرحمن : 27] ذو العظمة والسلطان وهو صفة الوجه { وَالاكْرَامِ } بالتجاوز والإحسان ، وهذه الصفة من عظيم صفات الله وفي الحديث " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " وروي أنه عليه السلام مر برجل وهو يصلي ويقول يا ذا الجلال والإكرام فقال : قد استجيب لك.
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 13] والنعمة في الفناء باعتبار أن المؤمنين به يصلون إلى النعيم السرمد.
وقال يحيى بن معاذ : حبذا الموت فهو الذي يقرب الحبيب إلى الحبيب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 308
{ يَسْاَلُهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } [الرحمن : 29] وقف عليها نافع كل من أهل السماوات والأرض مفتقرون إليه فيسأله أهل السماوات ما يتعلق بدينهم وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم ، وينتصب { كُلَّ يَوْمٍ } [الرحمن : 29] ظرفاً بما دل عليه { هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمن : 29] أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدد أحوالاً كما روي أنه عليه السلام تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين.
وعن ابن عيينة : الدهر عند الله يومان : أحدهما اليوم الذي هو
310
مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع ، والآخر يوم القيامة فشأنه فيه الجزاء والحساب.
وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً.
وسأل بعض الملوك وزيره عن الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها فقال غلام له أسود : يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي فأخبره فقال : أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال : أيها الملك شأن الله أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلي معافى ويعافي مبتلي ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ، ويفقر غنياً ويغني فقيراً.
فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله.
وقيل : سوق المقادير إلى المواقيت.(4/165)
وقيل : إن عبد الله بن طاهر دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي : قوله { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ } [المائدة : 31] وقد صح أن الندم توبة ، وقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمن : 29] وقد صح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وقوله { وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى } [النجم : 39] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة ، وقيل : إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله.
وكذا قيل : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى مخصوص بقوم إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وأما قوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمن : 29] فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها.
فقام عبد الله وقبل رأسه وسوع خراجه { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده " سأفرغ لك " يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه ، والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه.
ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } [الرحمن : 29] فلا يبقى إلي شأن واحد وهو
311
جزاؤكم فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل.
حمزة وعلي أي الله تعالى { سُواءٍ ءَايَةً أُخْرَى } الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.
جزء : 4 رقم الصفحة : 308
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن : 13].
{ يَـامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ } [الأنعام : 130] هو كالترجمة لقوله { أَيُّهَ الثَّقَلانِ } [الرحمن : 31] { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ فَانفُذُوا } [الرحمن : 33] أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هرباً من قضائي فاخرجوا ، ثم قال { لا تَنفُذُونَ } [الرحمن : 33] لا تقدرون على النفوذ { إِلا بِسُلْطَـانٍ } [الرحمن : 33] بقوة وقهر وغلبة وأنى لكم ذلك؟ وقيل : دلهم على العجز عن قوتهم للحساب غداً بالعجز عن نفوذ الأقطار اليوم.
وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة حين تحدق بهم الملائكة فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة احتاطت به { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَىِّ } وبكسر الشين : مكي وكلاهما اللهب الخالص { وَنُحَاسٌ } أي دخان { وَنُحَاسٌ } مكي وأبو عمرو فالرفع عطف على شواظ ، والجر على نار ، والمعنى إذا خرجتم من قبوركم يرسل عليكما لهب خالص من النار ودخان يسوقكم إلى المحشر { فَلا تَنتَصِرَانِ } [الرحمن : 35] فلا تمتنعان منهما { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } انفك بعضها من بعض لقيام الساعة { فَكَانَتْ وَرْدَةً } [الرحمن : 37] فصارت كلون الورد الأحمر.
وقيل : أصل لون السماء الحمرة ولكن من بعدها ترى زرقاء { كَالدِّهَانِ } كدهن الزيت كما قال { كَالْمُهْلِ } (المعارج : 8) وهو دردي الزيت وهو جمع دهن وقيل : الدهان الأديم الأحمر { كَالدِّهَانِ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِهِ إِنسٌ } أي فيوم تنشق السماء
312
{ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِهِ إِنسٌ وَلا جَآنٌّ } [الرحمن : 39] أي ولا جن فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن كما يقال : هاشم ويراد ولده والتقدير : لا يسئل إنس ولا جان عن ذنبه.
والتوفيق بين هذه الآية وبين قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر : 92] (الحجر : 29) وقوله { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْـاُولُونَ } [الصافات : 24] (الصافات : 42) أن ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر.
وقال قتادة : قد كانت مسئلة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
وقيل : لا يسئل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسئل للتوبيخ.
جزء : 4 رقم الصفحة : 308
(4/166)
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } بسواد وجوههم وزرقة عيونهم { بِسِيمَـاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ } [الرحمن : 41] أي يؤخذ تارة بالنواصي وتارة بالأقدام.
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 308
{ هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ } ماء حار قد انتهى حره أي يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } والنعمة في هذا نجاة الناجي منه بفضله ورحمته وما في الإنذار به من التنبيه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [الرحمن : 46] موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة فترك المعاصي أو فأدى الفرائض.
وقيل : هو مقحم كقوله : ونفيت عنه مقام الذئب أي نفيت عنه الذئب
جزء : 4 رقم الصفحة : 313
{ جَنَّتَانِ } جنة الإنس وجنة الجن لأن الخطاب للثقلين وكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } أغصان جمع فنن وخص الأفنان لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار ، أو ألوان جمع فن أي له فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال :
313
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا
لهوت به والعيش أخضر ناضر
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا } في الجنتين { عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [الرحمن : 50] حيث شاءوا في الأعالي والأسافل.
وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ } صنفان : صنف معروف وصنف غريب { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِـاِينَ } نصب على المدح للخائفين أو حال منهم لأن من خاف في معنى الجمع { عَلَى فُرُشٍ } [الرحمن : 54] جمع فراش { بَطَآ ـاِنُهَا } جمع بطانة { مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن : 54] ديباج ثخين وهو معرب.
قيل : ظهائرها من سندس.
وقيل : لا يعلمها إلا الله { وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } [الرحمن : 54] وثمرها قريب يناله القائم والقاعد والمتكيء.
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
{ فِيهِنَّ } في الجنتين لاشتمالهما على أماكن وقصور ومجالس أو في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجني { قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ } [ص : 52] نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } [الرحمن : 56] بكسر الميم : الدوري وعلي بضم الميم والطمث الجماع بالتدمية { إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ } [الرحمن : 56] وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس { تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } صفاء { وَالْمَرْجَانُ } بياضاً فهو أبيض من اللؤلؤ { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ إِلا الاحْسَـانُ } في العمل { إِلا الاحْسَـانُ } [الرحمن : 60] في الثواب
314
وقيل : ما جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة.
وعن إبراهيم الخواص فيه : هل جزاء الإسلام إلا دار السلام.
جزء : 4 رقم الصفحة : 313
{ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِن دُونِهِمَا } ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين { جَنَّتَانِ } لمن دونهم من أصحاب اليمين { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } سوداوان من شدة الخضرة قال الخليل الدهمة السواد { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } فوارتان بالماء لا تنقطعان { ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَـاكِهَةٌ } ألوان الفواكه { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [الرحمن : 68] والرمان والتمر ليسا من الفواكه عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه للعطف ، ولأن التمر فاكهة وغذاء والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ، وهما قالا : إنما عطفا على الفاكهة لفضلهما كأنهما جنسان آخران لما لهما من المزية كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ } [البقرة : 98] (البقرة : 89).
(4/167)
{ فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } أي خيرات فخفقت وقرىء خيّرات على الأصل ، والمعنى فاضلات الأخلاق حسان الخلق { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِى الْخِيَامِ } أي مخدرات يقال : امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة.
قيل : الخيام من الدر المجوف { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَآنٌّ * فَبِأَىِّ } قبل أصحاب الجنتين ودل عليهم ذكر الجنتين { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِـاِينَ } نصب على الاختصاص { عَلَى رَفْرَفٍ } [الرحمن : 76] هو كل ثوب عريض وقيل الوسائد { خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ } [الرحمن : 76] ديباج أو طنافس { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل { وَمِن دُونِهِمَا } [الرحمن : 62] لأن { مُدْهَآمَّتَانِ } دون { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } [الرحمن : 48] و { نَضَّاخَتَانِ } دون { تَجْرِيَانِ } و { فَـاكِهَةٍ } دون كل فاكهة وكذلك صفة الحور والمتكأ { تَبَـارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِى الْجَلَـالِ } [الرحمن : 78] ذي العظمة.
{ ذُو الْجَلَـالِ } [الرحمن : 27]شامي صفة للاسم { وَالاكْرَامِ } لأوليائه بالإنعام.
315
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم قرأ سورة الرحمن فقال : مالي أراكم سكوتاً ، الجن كانوا أحسن منكم رداً ما أتيت على قول الله { فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ولك الشكر.
وكررت هذه الآية في هذه السورة إحدى وثلاثين مرة ، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم ، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها على عدد أبواب جهنم ، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما ، فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب جهنم.
316
سورة الواقعة
سبع وتسعون آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [الواقعة : 1] قامت القيامة.
وقيل : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة فكأنه قيل : إذا وقعت الواقعة التي لا بد من وقوعها.
ووقوع الأمر نزوله يقال : وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله.
وانتصاب { إِذَا } بإضمار " اذكر " { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [الواقعة : 2] نفس كاذبة أي لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات.
واللام مثلها في قوله تعالى : { يَقُولُ يَـالَيْتَنِ قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } (الفجر : 82) { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [الواقعة : 3] أي هي خافضة رافعة ترفع أقواماً وتضع آخرين { إِذَا رُجَّتِ الارْضُ رَجًّا } [الواقعة : 4] حركت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء ، وهو بدل من { إِذَا وَقَعَتِ } [الواقعة : 1] ، ويجوز أن ينتصب بـ { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } [الواقعة : 3] أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا } [الواقعة : 5] وفتتت حتى تعود كالسويق أو سيقت من بس الغنم
317
إذا ساقها كقوله : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ } [النبأ : 20] (النبأ : 02) { فَكَانَتْ هَبَآءً } [الواقعة : 6] غباراً { مُّنابَثًّا } متفرقاً { وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا } [الواقعة : 7] أصنافاً يقال للأصناف التي بعضها من بعض أو يذكر بعضها من بعض أزواج { ثَلَـاثَةً } صنفان في الجنة وصنف في النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 317(4/168)
ثم فسر الأزواج فقال { فَأَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ } [الواقعة : 8] مبتدأ وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم { مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ } [الواقعة : 8] مبتدأ وخبر وهما خبر المبتدأ الأول ، وهو تعجيب من حالهم في السعادة وتعظيم لشأنهم كأنه قال : ما هم وأي شيء هم؟ { وَأَصْحَـابُ الْمَشْـاَمَةِ } [الواقعة : 9] أي الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة من قولك : فلان مني باليمين وفلان مني بالشمال إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة ، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل.
وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال { مَآ أَصْحَـابُ الْمَشْئَمَةِ } [الواقعة : 9] أي أيّ شيء هم؟ وهو تعجيب من حالهم بالشقاء { وَالسَّـابِقُونَ } مبتدأ { السَّـابِقُونَ } خبره تقديره السابقون إلى الخيرات السابقون إلى الجنات.
وقيل : الثاني تأكيد للأول والخبر { أؤلئك الْمُقَرَّبُونَ } [الواقعة : 11] والأول أوجه { فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [يونس : 9] أي هم في جنات النعيم { ثُلَّةٌ مِّنَ الاوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الاخِرِينَ } أي هم ثلة ، والثلة الأمة من الناس الكثيرة ، والمعنى أن السابقين كثير من الأولين وهم الأمم من لدن آدم إلى نبينا محمد عليهما السلام ، وقليل من الآخرين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : من الأولين من متقدمي هذه الأمة ، ومن الآخرين من متأخريها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : " الثلتان جميعاً من أمتي " .
318
{ عَلَى سُرُرٍ } [الحجر : 47] جمع سرير ككثيب وكثب { مَّوْضُونَةٍ } مرمولة ومنسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت { مُّتَّكِـاِينَ } حال من الضمير في { عَلَى } وهو العامل فيها أي استقروا عليها متكئين { عَلَيْهَا مُتَقَـابِلِينَ } [الواقعة : 16] ينظر بعضهم في وجوه بعض ولا ينظر بعضهم في أقفاء بعض ، وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء المودة و { مُتَقَـابِلِينَ } حال أيضاً { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } [الواقعة : 17] يخدمهم { وِلْدَانٌ } غلمان جمع وليد { مُّخَلَّدُونَ } مبقّون أبداً على شكل الولدان لا يتحولون عنه.
وقيل : مقرّطون والخلدة القرط.
قيل : هم أولاد أهل الدنيا لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها ، وفي الحديث : " أولاد الكفار خدام أهل الجنة " .
جزء : 4 رقم الصفحة : 317
{ بِأَكْوَابٍ } جمع كوب وهي آنية لا عروة لها ولا خرطوم { وَأَبَارِيقَ } جمع إبريق وهو ماله خرطوم وعروة { وَكَأْسٍ } وقدح فيه شراب وإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس { مِّن مَّعِينٍ } [الصافات : 45] من خمر تجري من العيون { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } [الواقعة : 19] أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها أو لا يفرقون عنها { وَلا يُنزِفُونَ } [الواقعة : 19] ولا يسكرون.
نزف الرجل ذهب عقله بالسكر.
{ وَلا يُنزِفُونَ } [الواقعة : 19] بكسر الزاي : كوفي أي لا ينفد شرابهم.
يقال : أنزف القوم إذا فني شرابهم { وَفَـاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } [الواقعة : 20] يأخذون خيره وأفضله .
{ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } [الواقعة : 21] يتمنون { وَحُورٌ } جمع حوراء { عِينٌ } جمع عيناء أي وفيها حور عين أو ولهم حور عين ، ويجوز أن يكون عطفاً على { وِلْدَانٌ } { وَحُورٌ } : يزيد وحمزة وعلي عطفاً على { جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [المائدة : 65] كأنه قال : هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم وحورٍ
319
{ كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ } [الواقعة : 23] في الصفاء والنقاء { الْمَكْنُونِ } المصون.
وقال الزجاج : كأمثال الدر حين يخرج من صدفه لم يغيره الزمان واختلاف أحوال الاستعمال { جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة : 17] جزاء مفعول له أي يفعل بهم ذلك كله لجزاء أعمالهم أو مصدر أي يجزون جزاء.
{ لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } [مريم : 62] في الجنة { لَغْوًا } باطلاً { وَلا تَأْثِيمًا } [الواقعة : 25] هذياناً { إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا } [الواقعة : 26] إلا قولاً ذا سلامة.
والاستثناء منقطع و { سَلَـامًا } بدل من { قِيلا } أو مفعول به لـ { قِيلا } أي لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً.
والمعنى أنهم يفشون السلام بينهم فيسلمون سلاماً بعد سلام
جزء : 4 رقم الصفحة : 317
(4/169)
{ مَّخْضُودٍ } السدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنما خضد شوكه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [الواقعة : 29] الطلح شجر الموز والمنضود الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق بارزة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [الواقعة : 30] ممتد منبسط كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } جار بلا حد ولا خد أي يجري على الأرض في غير أخدود { وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } [الواقعة : 32] أي كثيرة الأجناس { لا مَقْطُوعَةٍ } [الواقعة : 33] لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا بل هي دائمة { وَلا مَمْنُوعَةٍ } [الواقعة : 33] لا تمنع عن متناولها بوجه.
وقيل : لا مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } [الواقعة : 34] رفيعة القدر أو نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة.
وقيل : هي النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك قال الله تعالى : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَـالٍ عَلَى الارَآ ـاِكِ مُتَّكِـاُونَ } [يس : 56] (يس : 65).
ويدل عليه قوله.
جزء : 4 رقم الصفحة : 317
{ إِنَّآ أَنشَأْنَـاهُنَّ إِنشَآءً } [الواقعة : 35] ابتدأنا خلقهن ابتداء من غير ولادة ، فإما أن يراد اللاتي
320
ابتدىء انشاؤهن أو اللاتي أعيد انشاؤهن ، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهن لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن { فَجَعَلْنَـاهُنَّ أَبْكَارًا } [الواقعة : 36] عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً { عُرُبًا } { عُرُبًا } حمزة وخلف ويحيى وحماد جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَابًا } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين وأزواجهن كذلك ، واللام في { لِّأَصْحَـابِ الْيَمِينِ } [الواقعة : 38] من صلة { أَنشَأْنَا } { ثُلَّةٌ } أي أصحاب اليمين ثلة { مِّنَ الاوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ } فإن قلت : كيف قال قبل هذا { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ } ثم قال هنا { وَثُلَّةٌ مِّنَ الاخِرِينَ } [الواقعة : 40]؟ قلت : ذاك في السابقين وهذا في أصحاب اليمين ، وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً.
وعن الحسن : سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا ، وتابعوا الأمم مثل تابعي هذه الأمة.
جزء : 4 رقم الصفحة : 320
{ وَأَصْحَـابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَـابُ الشِّمَالِ } [الواقعة : 41] الشمال والمشأمة واحدة { فِى سَمُومٍ } [الواقعة : 42] في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناهي الحرارة { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } [الواقعة : 43] من دخان أسود { لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [الواقعة : 44] نفي لصفتي الظل عنه يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال سماه ظلا ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه ، والمعنى أنه ظل حار ضار { إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ } [الواقعة : 45] أي في الدنيا { مُتْرَفِينَ } منعمين فمنعهم ذلك من الانزجار وشغلهم عن الاعتبار { وَكَانُوا يُصِرُّونَ } [الواقعة : 46] يداومون { عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } [الواقعة : 46] أي على الذنب العظيم أو على الشرك لأنه نقض عهد الميثاق ، والحنث نقض العهد المؤكد باليمين أو الكفر بالبعث بدليل قوله { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل : 38] (النحل : 83) { وَكَانُوا يَقُولُونَ أَاـاِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } تقديره :
321
أنبعث إذا متنا؟ وهو العامل في الظرف ، وجاز حذفه إذ { مَّبْعُوثُونَ } يدل عليه ، ولا يعمل فيه { مَّبْعُوثُونَ } لأن " إن " والاستفهام يمنعان أن يعمل ما بعدهما فيما قبلهما { أَوَ ءَابَآؤُنَا الاوَّلُونَ } [الصافات : 17] دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف وحسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير توكيد بـ " نحن " للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ } [الأنعام : 148] (الأنعام : 841) لفصل لا المؤكدة للنفي.
{ أَوَ ءَابَآؤُنَا } [الصافات : 17]مدني وشامي.
(4/170)
{ قُلْ إِنَّ الاوَّلِينَ وَالاخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَـاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم ، والإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة ، والميقات ما وقت به الشيء أي حد ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ } [الواقعة : 51] عن الهدى { الْمُكَذِّبُونَ } بالبعث وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { لاكِلُونَ مِن شَجَرٍ } [الواقعة : 52] " من " لابتداء الغاية { مِّن زَقُّومٍ } [الواقعة : 52] " من " لبيان الشجر { فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَـارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ } أنث ضمير الشجر على المعنى وذكره على اللفظ في منها وعليه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 320
{ فَشَـارِبُونَ شُرْبَ } [الواقعة : 55] بضم الشين : مدني وعاصم وحمزة وسهل ، وبفتح الشين : غيرهم وهما مصدران { الْهِيمِ } هي إبل عطاش لا تروى جمع أهيم وهيماء ، والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل ، فإذا ملئوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.
وإنما صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان لأن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة ، وقطع الأمعاء أمر عجيب وشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً فكانتا صفتين مختلفتين { هَـاذَا نُزُلُهُمْ } [الواقعة : 56] هو الرزق الذي يعد للناس تكرمة له { يَوْمَ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] يوم الجزاء
322
{ نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ فَلَوْلا } [الواقعة : 57] فهلا { تُصَدِّقُونَ } تحضيض على التصديق فكأنهم مكذبون به ، وإما بالبعث لأن من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً.
{ أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } [الواقعة : 58] ما تمنونه أي تقذفونه في الأرحام من النطف { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه وتصورونه وتجعلونه بشراً سوياً { أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } تقديراً قسمناه عليكم قسمة الأرزاق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط { قَدَّرْنَا } بالتخفيف : مكي سبقته بالشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ، فمعنى قوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ } إنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه.
و { أَمْثَـالَكُمْ } جمع مثل أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق { وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ } [الواقعة : 61] وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها يعني أنا نقدر على الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ويجوز أن يكون { أَمْثَـالَكُمْ } جمع مثل أي على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاولَى } [الواقعة : 62] مكي وأبو عمرو { الاولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ } [الواقعة : 62] أن من قدر على شيء مرة لم يمتنع عليه ثانياً ، وفيه دليل صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.
جزء : 4 رقم الصفحة : 320
{ أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [الواقعة : 63] ما تحرثونه من الطعام أي تثيرون الأرض
323
وتلقون فيها البذر { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً { أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ } [الواقعة : 64] المنبتون وفي الحديث : " لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت " { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَـاهُ حُطَـامًا } هشيماً متكسراً قبل إدراكه { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [الواقعة : 65] تعجبون أو تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه ، أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها { إِنَّآ } أي تقولون إنا أبو بكر { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } [الواقعة : 66] لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } [الحجر : 15] قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون لا مجدودون لا حظ لنا ولا بخت لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا هذا.
جزء : 4 رقم الصفحة : 320
(4/171)
{ أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ } أي الماء العذب الصالح للشرب { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } السحاب الأبيض وهو أعذب ماء { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } [الواقعة : 69] بقدرتنا { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا } [الواقعة : 70] ملحاً أو مراً لا يقدر على شربه { فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } [الواقعة : 70] فهلا تشكرون.
ودخلت اللام على جواب لو في قوله { لَجَعَلْنَـاهُ حُطَـامًا } [الواقعة : 65] ونزعت منه هنا ، لأن " لو " لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة الشرط كـ " إن " ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها ، أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، ولما شهر موقعه لم يبال بإسقاطه عن اللفظ لعلم كل أحد به وتساوي حالي حذفه وإثباته ، على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغنٍ عن ذكرها ثانية ، ولأن هذه اللام تفيد معنى التأكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن المطعوم مقدم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم ، ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.
جزء : 4 رقم الصفحة : 324
{ أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ } تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ،
324
والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ويسمون الأعلى الزند والأسفل الزندة شبهوهما بالفحل والطروقة { ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ } التي منها الزناد { أَمْ نَحْنُ } الخالقون لها ابتداء { الْمُنشِـاُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَـاهَا } [الواقعة : 73] أي النار { تَذْكِرَةً } تذكيراً لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به { وَمَتَـاعًا } ومنفعة { لِّلْمُقْوِينَ } للمسافرين النازلين في القواء وهي القفر ، أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام من قولهم " أقوت الدار " إذا خلت من ساكنيها.
بدأ بذكر خلق الإنسان فقال { أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ } [الواقعة : 58] لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم ، ثم بما فيه قوامه وهو الحب فقال { أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [الواقعة : 63] ثم بما يعجن به ويشرب عليه وهو الماء ، ثم بما يخبز به وهو النار ، فحصول الطعام بمجموع الثلاثة ولا يستغني عنه الجسد ما دام حياً { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [الواقعة : 74] فنزه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل ، أو أراد بالاسم الذكر أي فسبح بذكر ربك { الْعَظِيمِ } صفة للمضاف أو للمضاف إليه.
وقيل : قل سبحان ربي العظيم وجاء مرفوعاً أنه لما نزلت هذه الآية قال : اجعلوها في ركوعكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 324
{ فَلا أُقْسِمُ } [التكوير : 15] أي فأقسم و " لا " مزيدة مؤكدة مثلها قوله { لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ } [الحديد : 29] (الحديد : 92) وقرىء ومعناه فلأنا أقسم ، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي " أنا أقسم " ، ثم حذف المبتدأ.
ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تكون اللام لام القسم لأن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة { أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } [الواقعة : 75] بمساقطها ومغاربها { بِمَوَاقِعِ } حمزة وعلي ، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين ونزول الرحمة والرضوان عليهم فلذلك أقسم بمواقعها واستعظم ذلك بقوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة : 76] وهو اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين القسم والمقسم عليه وهو قوله { إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ } [الواقعة : 77] حسن مرضي أو نفاع جم المنافع أو كريم على الله ، واعترض بـ { لَّوْ تَعْلَمُونَ } [الواقعة : 76] بين الموصوف وصفته
325
(4/172)
{ فِي كِتَـابِ } [الانفال : 75] أي اللوح المحفوظ { مَّكْنُونٍ } مصون عن أن يأتيه الباطل أو من غير المقربين من الملائكة لا يطلع عليه من سواهم { لا يَمَسُّهُا إِلا الْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة : 79] من جميع الأدناس أدناس الذنوب وغيرها إن جعلت الجملة صفة لـ { كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعة : 78] وهو اللوح ، وإن جعلتها صفة للقرآن فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس والمراد مس المكتوب منه { تَنزِيلٌ } صفة رابعة للقرآن أي منزل { مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 61] أو وصف بالمصدر لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه فقيل : جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل ، أو هو تنزيل على حذف المبتدأ.
{ أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ } [الواقعة : 81] أي القرآن { أَنتُم مُّدْهِنُونَ } [الواقعة : 81] متهاونون به كمن يدهن في بعض الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [الواقعة : 82] أي تجعلون شكر رزقكم التكذيب أي وضعتم التكذيب موضع الشكر.
وفي قراءة علي رضي الله عنه وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أي تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به.
وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليهم والرزق المطر أي وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله حيث تنسبونه إلى النجوم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 324
{ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ } [الواقعة : 83] النفس أي الروح عند الموت { الْحُلْقُومَ } ممر الطعام والشراب { وَأَنتُمْ حِينَـاـاِذٍ تَنظُرُونَ } [الواقعة : 84] الخطاب لمن حضر الميت تلك الساعة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } [ق : 16] إلى المحتضر { مِنكُمْ وَلَـاكِن لا تُبْصِرُونَ } [الواقعة : 85] لا تعقلون ولا تعلمون { فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } [الواقعة : 86] مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم { تَرْجِعُونَهَآ } تردون النفس وهي الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أنكم غير مربوبين مقهورين.
{ فَلَوْلا } في الآيتين للتحضيض يستدعي فعلاً وذا قوله { تَرْجِعُونَهَآ } واكتفى بذكره مرة ، وترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، و { فَلَوْلا } الثانية مكررة للتأكيد ونحن أقرب إليه منكم يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا أو بملائكة الموت ، والمعنى أنكم في جحودكم آيات الله في كل شيء ، إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم سحر وافتراء ، وإن أرسل إليكم رسولاً
326
صادقاً قلتم ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم صدق نوء كذا على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل ، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمة قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد؟.
(4/173)
{ فَأَمَّآ إِن كَانَ } [الواقعة : 88] المتوفى { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [الواقعة : 88] من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة { فَرَوْحٌ } فله استراحة { وَرَيْحَانٌ } ورزق { وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله { إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا } [الواقعة : 26] { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ } [الواقعة : 92] هم الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة وهم الذين قيل لهم في هذه السورة { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ } [الواقعة : 51] { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي إدخال فيها.
وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ، وأن أصحاب الكبائر من أصحاب اليمين لأنهم غير مكذبين { إِنَّ هَـاذَا } [ص : 23] الذي أنزل في هذه السورة { لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } [الواقعة : 95] أي الحق الثابت من اليقين { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة : 74] روي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته فقال له : ما تشتكي؟ فقال : ذنوبي.
فقال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي.
قال : أفلا تدعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني.
فقال : ألا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه.
قال : ندفعه إلى بناتك.
قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً " وليس في هذه السور الثلاث ذكر الله : اقتربت ، الرحمن ، الواقعة.
327
سورة الحديد
مكية وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ } [الحديد : 1] جاء في بعض الفواتح " سبح " بلفظ الماضي ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي " بني إسرائيل " بلفظ المصدر ، وفي " الأعلى " بلفظ الأمر استيعاداً لهذه الكلمة من جميع جهاتها وهي أربع : المصدر والماضي والمضارع والأمر.
وهذا الفعل قد عدي باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
{ وَتُسَبِّحُوهُ } (الفتح : 9) وأصله التعدي بنفسه لأن معنى سبحته بعدته من السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد بسبح الله اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً { مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يونس : 55] ما يتأتى منه التسبيح ويصح { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] المنتقم من مكلف لم يسبح له عناداً { الْحَكِيمُ } في مجازاة من سبح له انقياداً { لَّهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 44] لا لغيره وموضع { يُحْىِ } رفع أي هو يحيي الموتى { وَيُمِيتُ } الأحياء أو نصب أي له ملك السماوات والأرض محيياً ومميتاً
328
{ الاوَّلُ } هو القديم الذي كان قبل كل شيء { وَالاخِرُ } الذي يبقي بعد هلاك كل شيء { وَالظَّـاهِرُ } بالأدلة الدالة عليه لكونه غير مدرك بالحواس وإن كان مرئياً.
والواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن.
وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه { وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 29].(4/174)
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الحديد : 4] عن الحسن : من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار { ثُمَّ اسْتَوَى } [الفرقان : 59] استولى { عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارْضِ } [الحديد : 4] ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } [سبأ : 2] من النبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ } [سبأ : 2] من الملائكة والأمطار { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [سبأ : 2] من الأعمال والدعوات { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [الحديد : 4] بالعلم والقدرة عموماً وبالفضل والرحمة خصوصاً { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] فيجازيكم على حسب أعمالكم { لَّهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ * يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ } يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار { وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } .
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
{ ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا } [الحديد : 7] يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله
329
{ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد : 7] يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة ، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه ، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به { فَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [الأعراف : 157] بالله ورسله { مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } هو حال من معنى الفعل في { مَالَكُمْ } كما تقول : مالك قائماً؟ بمعنى ما تصنع قائماً أي ومالكم كافرين بالله.
والواو في { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ } [آل عمران : 153] واو الحال فهما حالان متداخلتان ، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم { لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ } [الحديد : 8] وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف : 172] (الأعراف : 271) أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة ، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون؟ { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه { أَخَذَ مِيثَـاقَكُمْ } [الحديد : 8] أبو عمرو.
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
{ هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ } [الحديد : 9] محمد صلى الله عليه وسلّم { ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } [الإسراء : 101] يعني القرآن { لِّيُخْرِجَكُم } الله تعالى أو محمد بدعوته { مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ } [الحديد : 9] بالمد والهمزة : حجازي وشامي وحفص { رَّحِيمٌ } الرأفة أشد الرحمة { وَمَا لَكُمْ أَلا تُنفِقُوا } [الحديد : 10] في أن لا تنفقوا { فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الحديد : 10] يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض
330
(4/175)
لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم؟ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله.
ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال { لا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَـاتَلَ } [الحديد : 10] أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله { مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ } [الحديد : 10] يدل عليه { أؤلئك } الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلّم : " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
{ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَـاتَلُوا وَكُلا } [الحديد : 10] أي كل واحد من الفريقين { وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [الحديد : 10] أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات.
{ وَكُلا } مفعول أول لـ { وَعَدَ } و { الْحُسْنَى } مفعول ثانٍ.
{ وَكُلٌّ } : شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] فيجازيكم على قدر أعمالكم.
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
{ مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة : 245] بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء { فَيُضَـاعِفَهُ لَهُ } [البقرة : 245] أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد : 11] أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه.
ف { يُضَـاعِفْهُ } مكي ف { يُضَـاعِفْهُ } شامي { فَيُضَـاعِفَهُ } : عاصم وسهل { فَيُضَـاعِفَهُ } غيرهم.
فالنصب على جواب الاستفهام ، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على { يُقْرِضُ } { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ } [الحديد : 12] ظرف لقوله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد : 11] أو منصوب بإضمار " اذكر " تعظيماً لذلك اليوم { يَسْعَى } يمضي { نُورُهُم } نور التوحيد والطاعات.
وإنما قال { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم } [الحديد : 12] لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين
331
الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم ، فيجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة { بُشْرَاـاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّـاتٌ } [الحديد : 12] أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [الحديد : 12].
جزء : 4 رقم الصفحة : 328
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
(4/176)
{ يَوْمَ يَقُولُ } [الحديد : 13] هو بدل من { يَوْمَ تَرَى } [الحديد : 12] { الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا انظُرُونَا } [الحديد : 13] أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة.
{ انظُرُونَا } حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظاراً لهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [الحديد : 13] نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به { قِيلَ ارْجِعُوا وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } [الحديد : 13] طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة ، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان { فَضُرِبَ بَيْنَهُم } [الحديد : 13] بين المؤمنين والمنافقين { بِسُورٍ } بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار.
قيل : هو الأعراف { لَّهُ } لذلك السور { بَابُ } لأهل الجنة يدخلون منه { بَاطِنُهُ } باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة { فِيهِ الرَّحْمَةُ } [الحديد : 13] أي النور أو الجنة { وَظَـاهِرُهُ } ما ظهر لأهل النار { مِن قِبَلِهِ } [الإسراء : 107] من عنده ومن جهته { الْعَذَابُ } أي الظلمة أو النار أي ينادي المنافقون المؤمنين { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } [الحديد : 14] يريدون مرافقتهم في الظاهر { قَالُوا } أي المؤمنون { بَلَى وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } [الحديد : 14] محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر { وَارْتَبْتُمْ } وشككتم في التوحيد { وَغرَّتْكُمُ الامَانِىُّ } [الحديد : 14] طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار { حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ } [الحديد : 14] أي الموت { وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } [الحديد : 14] وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب.
332
{ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ } [الحديد : 15] وبالتاء : شامي { مِنكُمْ } أيها المنافقون { فِدْيَةٌ } ما يفتدى به { وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاـاكُمُ النَّارُ } [الحديد : 15] مرجعكم { هِىَ مَوْلَـاـاكُمْ } [الحديد : 15] هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال : هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 126] النار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
{ أَلَمْ يَأْنِ } [الحديد : 16] من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه أي وقته.
قيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.
وعن ابن أبي بكر رضي الله عنه : إن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } [الحديد : 16] بالتخفيف : نافع وحفص.
الباقون { نَزَلَ } و " ما " بمعنى " الذي " ، والمراد بالذكر وما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء { وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلُ } [الحديد : 16] القراءة بالياء عطف على { تَخْشَعَ } وبالتاء : ورش على الالتفاف ، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ } [الحديد : 16] الأجل أو الزمان { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحديد : 16] باتباع الشهوات { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ } [الحديد : 16] خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين أي وقليل منهم مؤمنون { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.
333
(4/177)
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ } [الحديد : 18] بتشديد الدال وحده : مكي وأبو بكر وهو اسم فاعل من " صدق " وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين.
الباقون بتشديد الصاد والدال وهو اسم فاعل من " تصدق " فأدغمت التاء في الصاد وقرىء على الأصل { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
المزمل : 20] هو عطف على معنى الفعل في { الْمُصَّدِّقِينَ } لأن اللام بمعنى " الذين " واسم الفاعل بمعنى الفعل وهو اصدقوا كأنه قيل : إن الذين اصدقوا وأقرضوا والقرض الحسن أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة { يُضَـاعَفُ لَهُمْ } [هود : 20] { يُضَـاعَفُ } مكي وشامي { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } [الحديد : 18] أي الجنة { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أؤلئك هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } [الحديد : 19] يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } [الحديد : 19] أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ، ويجوز أن يكون { وَالشُّهَدَآءُ } مبتدأ و { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } [آل عمران : 199] خبره { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ } [المائدة : 10].
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ } [الحديد : 20] كلعب الصبيان { وَلَهْوٌ } كلهو الفتيان { وَزِينَةٌ } كزينة النسوان { وَتَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ } [الحديد : 20] كتفاخر الأقران { وَتَكَاثُرٌ } كتكاثر الدهقان { فِى الامْوَالِ وَالاوْلْـادِ } [الحديد : 20] أي مباهاة بهما والتكاثر ادعاء الاستكثار { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاـاهُ مُصْفَرًّا } [الحديد : 20] بعد خضرته { ثُمَّ يَكُونُ حُطَـامًا } [الحديد : 20] متفتتاً ، شبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه
334
العاهة فهاج واصفر وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين.
وقيل : الكفار الزراع { وَفِى الاخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } [الحديد : 20] للكفار { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } [الحديد : 20] للمؤمنين يعني أن الدنيا وما فيها ليست إلا من محقرات الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ، وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام وهي العذاب الشديد والمغفرة والرضوان من الله الحميد.
والكاف في { كَمَثَلِ غَيْثٍ } [الحديد : 20] في محل رفع على أنه خبر بعد خبر أي الحياة الدنيا مثل غيث { وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران : 185] لمن ركن إليها واعتمد عليها.
قال ذو النون : يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها فإن الزاد منها والمقيل في غيرها.
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
ولما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة بقوله { سَابِقُوا } أي بالأعمال الصالحة { إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران : 133] وقيل : سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الحديد : 21] قال السدي : كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين.
وذكر العرض دون الطول لأن كل ماله عرض وطول فإن عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة عرف أن طوله أبسط ، أو أريد بالعرض البسطة وهذا ينفي قول من يقول : إن الجنة في السماء الرابعة ، لأن التي في إحدى السماوات لا تكون في عرض السماوات والأرض { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } [الحديد : 21] وهذا دليل على أنها مخلوقة { ذَالِكَ } الموعود من المغفرة والجنة { فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [المائدة : 54] وهم المؤمنون ، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105].
(4/178)
ثم بين أن كل كائن بقضاء الله وقدره بقوله { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارْضِ } [الحديد : 22] من الجدب وآفات الزروع والثمار.
وقوله { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في موضع الجر أي ما أصاب من مصيبة ثابتة في الأرض
335
{ وَلا فِى أَنفُسِكُمْ } [الحديد : 22] من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد { إِلا فِى كِتَـابٍ } [فاطر : 11] في اللوح وهو في موضع الحال أي إلا مكتوباً في اللوح { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [الحديد : 22] من قبل أن نخلق الأنفس { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] وإن كان عسيراً على العباد.
ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه بقوله :
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
{ لِّكَيْلا تَأْسَوْا } [الحديد : 23] تحزنوا حزناً يطغيكم { عَلَى مَا فَاتَكُمْ } [الحديد : 23] من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها { وَلا تَفْرَحُوا } [الحديد : 23] فرح المختال الفخور { بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ } [الحديد : 23] أعطاكم من الإيتاء.
أبو عمرو وأتاكم أي جاءكم من الإتيان يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله ، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي ، لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة لم يتفاقم جزعه عند فقده لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه وأن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله ، وليس أحد إلا وهو يفرح عند منفعة تصيبه ويحزن عند مضرة تنزل به ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً والحزن صبراً ، وإنما يذم من الحزن الجزع المنافي للصبر ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد : 23] لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه اختال وافتخر به وتكبر على الناس { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } [آل عمران : 180] خبر مبتدأ محذوف أو بدل من كل مختال فخور كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا ، فلحبهم له وعزته عندهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [الحديد : 24] ويحضون غيرهم على البخل ويرغبونهم في الإمساك { وَمَن يَتَوَلَّ } [المائدة : 56] يعرض عن الإنفاق أو عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ } [الحديد : 24] عن جميع المخلوقات فكيف عنه؟ { الْحَمِيدُ } في أفعاله.
{ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ } بترك " هو " : مدني وشامي.
جزء : 4 رقم الصفحة : 332
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } [الحديد : 25] يعني أرسلنا الملائكة إلى الأنبياء { بِالْبَيِّنَـاتِ }
336
بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ } [الحديد : 25] أي الوحي.
وقيل : الرسل الأنبياء.
والأول أولى لقوله { مَعَهُمُ } لأن الأنبياء ينزل عليهم الكتاب { وَالْمِيزَانَ } روي أن جبريل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به { لِيَقُومَ النَّاسُ } [الحديد : 25] ليتعاملوا بينهم إيفاء واستيفاء { بِالْقِسْطِ } بالعدل ولا يظلم أحد أحداً { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } [الحديد : 25] قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة.
وروي ومعه المرّ والمسحاة.
وعن الحسن : وأنزلنا الحديد خلقناه
جزء : 4 رقم الصفحة : 336
(4/179)
{ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد : 25] وهو القتال به { وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة : 219] في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } [الحديد : 25] باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين.
وقال الزجاج : ليعلم الله من يقاتل مع رسوله في سبيله { بِالْغَيْبِ } غائباً عنهم { إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ } [الانفال : 52] يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته { عَزِيزٌ } يربط بعزته جأش من يتعرض لنصرته.
والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة أن الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد والعهود ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، ويأمر بالعدل والإحسان وينهي عن البغي والطغيان ، واستعمال العدل والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة يقع بها التعامل ويحصل بها التساوي والتعادل وهي الميزان.
ومن المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية والآلة الموضوعة للتعامل بالسوية إنما تحض العامة على اتباعهما بالسيف الذي هو حجة الله على من جحد وعند ، ونزع عن صفقة الجماعة اليد.
وهو الحديد الذي وصف بالبأس الشديد.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ } [الحديد : 26] خصا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا } [الحديد : 26] أولادهما { النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ } [الحديد : 26] الوحي.
وعن ابن عباس رضي
337
الله عنهما : الخط بالقلم.
يقال : كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُم } فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين { مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ } [الحديد : 26] هذا تفصيل لحالهم أي فمنهم من اهتدى باتباع الرسل ، ومنهم من فسق أي خرج عن الطاعة والغلبة للفساق.
جزء : 4 رقم الصفحة : 336
{ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم } [الحديد : 27] أي نوح وإبراهيم ومن مضى من الأنبياء { رَأْفَةً } مودة وليناً { وَرَحْمَةً } تعطفاً على إخوانهم كما قال في صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح : 29] (الفتح : 92) { وَرَهْبَانِيَّةً } هي ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين مخلصين أنفسهم للعبادة وهي الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف.
فعلان من رهب كخشيان من خشي.
وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية { ابتَدَعُوهَا } أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها { مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ } [الحديد : 27] لم نفرضها نحن عليهم { إِلا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } [الحديد : 27] استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [الحديد : 27] كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا } [الحديد : 27] أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام و الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ } [الحديد : 16] الكافرون.
(4/180)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 278] الخطاب لأهل الكتاب { اتَّقُوا اللَّهَ وَءَامِنُوا بِرَسُولِهِ } [الحديد : 28] محمد صلى الله عليه وسلّم { يُؤْتِكُمْ } الله { كِفْلَيْنِ } نصيبين { مِن رَّحْمَتِهِ } [الروم : 46] لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلّم وإيمانكم بمن قبله { وَيَجْعَل لَّكُمْ } [نوح : 12] يوم القيامة { نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد : 28] وهو النور المذكور في قوله { يَسْعَى نُورُهُم } [الحديد : 12] الآية { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [آل عمران : 31] ذنوبكم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لِّئَلا يَعْلَمَ } ليعلم { أَهْلُ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 72] الذين لم يسلموا و " لا " مزيدة { أَلا يَقْدِرُونَ } [الحديد : 29] " أن " مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون { عَلَى شَىْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ } [الحديد : 29] أي لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلاً قط { وَأَنَّ الْفَضْلَ } [الحديد : 29] عطف على { أَلا يَقْدِرُونَ } { بِيَدِ اللَّهِ } [آل عمران : 73] أي في ملكه وتصرفه { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } [الحديد : 21] من عباده { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105] والله أعلم.
339
سورة المجادلة
مدنية وهي اثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـادِلُكَ } [المجادلة : 1] تحاورك وقريء بها ، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما خلا سني ونثرت بطني ـ أي كثر ولدي ـ جعلني عليه كأمه.
وروي أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا.
فقال صلى الله عليه وسلّم : " ما عندي في أمرك شيء " .
وروي أنه قال لها : حرمت عليه.
فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ.
فقال : حرمت عليه فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فكلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حرمت عليه هتفت وشكت فنزلت
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
{ فِى زَوْجِهَا } [المجادلة : 1] في شأنه ومعناه { وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ } [المجادلة : 1] تظهر ما بها من المكروه { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ } [المجادلة : 1] مراجعتكما الكلام من حار إذا رجع { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ } [الحج : 75] يسمع شكوى المضطر { بَصِيرٌ } بحاله
340
{ الَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ } [المجادلة : 2] عاصم { يُظَـاهِرُونَ } : حجازي وبصري غيرهم { يُظَـاهِرُونَ } وفي { مِنكُم } توبيخ للعرب لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم { مِن نِّسَآ ـاِهِمْ } [البقرة : 226] زوجاتهم { مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِمْ } [المجادلة : 2] أمهاتهم المفضل ، الأول حجازي والثاني تميمي { إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـائِى وَلَدْنَهُمْ } يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع ، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لزيادة حرمتهن ، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا قال { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ } [المجادلة : 2] تنكره الحقيقة والأحكام الشرعية { وَزُورًا } وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } [المجادلة : 2] لما سلف منهم.(4/181)
{ وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ مِن نِّسَآ ـاِهِمْ } [المجادلة : 3] بين في الآية الأولى أن ذلك من قائله منكر وزور ، وبين في الثانية حكم الظهار { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } [المجادلة : 3] العود الصيرورة ابتداء أو بناء فمن الأول قوله تعالى : { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [يس : 39] (يس : 93).
ومن الثاني : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [الإسراء : 8] (الإسراء : 8) ويعدى بنفسه كقولك : عدته إذا أتيته وصرت إليه ، وبحرف الجر بـ " إلى " وعلى وفي واللام كقوله { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [الأنعام : 28] (الأنعام : 82) ومنه { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } [المجادلة : 3] أي يعودون لنقض ما قالوا أو لتداركه على حذف المضاف ، وعن ثعلبة : يعودون لتحليل ما حرموا على حذف المضاف أيضاً غير أنه أراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه كقوله { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [مريم : 80] (مريم : 08) أراد المقول فيه وهو المال والولد.
ثم اختلفوا أن النقض بماذا يحصل؟ فعندنا بالعزم على الوطء وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ، وعند الشافعي بمجرد الإمساك وهو أن لا يطلقها عقيب الظهار.
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [النساء : 92] فعليه اعتاق رقبة مؤمنة أو كافرة ولم يجز المدبر وأم الولد والمكاتب الذي أدى شيئاً { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [المجادلة : 3] الضمير يرجع إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها.
والمماسة الاستمتاع
341
بها من جماع أو لمس بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة { ذَالِكُمْ } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } [المجادلة : 3] لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] والظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي.
وإذا وضع موضع أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ ، أو مكان الأم ذات رحم محرم منه بنسب أو رضاع أو صهر أو جماع نحو أن يقول : أنت عليّ كظهر أختي من الرضاع ، أو عمتي من النسب ، أو امرأة ابني ، أو أبي أو أم امرأتي أو ابنتها فهو مظاهر ، وإذا امتنع المظاهر من الكفارة للمرأة أن ترافعه ، وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه ، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأنه يضر بها في ترك التكفير.
والامتناع من الاستمتاع فإن مس قبل أن يكفر استغفر الله ولا يعود حتى يكفر ، وإن أعتق بعض الرقبة ثم مس عليه أن يستأنف عند أبي حنيفة رضي الله عنه.
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [البقرة : 196] الرقبة { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [النساء : 92] فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } [المجادلة : 4] الصيام { فَإِطْعَامُ } فعليه إطعام { سِتِّينَ مِسْكِينًا } [المجادلة : 4] لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، ويجب أن يقدمه على المسيس ولكن لا يستأنف إن جامع في خلال الإطعام { ذَالِكَ } البيان والتعليم للأحكام { لِتُؤْمِنُوا } لتصدقوا { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات : 15] في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم { وَتِلْكَ } أي الأحكام التي وصفنا في الظهار والكفارة { حُدُودُ اللَّهِ } [البقرة : 229] التي لا يجوز تعديها { وَلِلْكَـافِرِينَ } الذين لا يتبعونها { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 104] مؤلم { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [المجادلة : 5] يعادون ويشاقون { كُبِتُوا } أخزوا وأهلكوا { كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [المجادلة : 5] من أعداء الرسل { وَقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـات بَيِّنَـاتٍ } [المجادلة : 5] تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وَلِلْكَـافِرِينَ } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة : 90] يذهب بعزهم وكبرهم
342
(4/182)
{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } [المجادلة : 18] منصوب بـ { مُّهِينٌ } أو بإضمار " اذكر " تعظيماً لليوم { اللَّهُ جَمِيعًا } [البقرة : 148] كلهم لا يترك منهم أحداً غير مبعوث أو مجتمعين في حال واحدة { فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا } [المجادلة : 6] تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد { أَحْصَـاـاهُ اللَّهُ } [المجادلة : 6] أحاط به عدداً لم يفته منه شيء { وَنَسُوهُ } لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظمات الأمور { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة : 6] لا يغيب عنه شيء.
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مَا يَكُونُ } [المجادلة : 7] من " كان " التامة أي ما يقع { مِن نَّجْوَى ثَلَـاثَةٍ } [المجادلة : 7] النجوى التناجي وقد أضيفت إلى ثلاثة أي من نجوى ثلاثة نفر { إِلا هُوَ } [هود : 56] أي الله { رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى } [المجادلة : 7] ولا أقل { مِن ذَالِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ } [المجادلة : 7] يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه وقد تعالى عن المكان علواً كبيراً وتخصيص الثلاثة والخمسة لأنها نزلت في المنافقين وكانوا يتحلقون للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين.
وقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عدديهم ولا أكثر إلا والله معهم يسمع ما يقولون ، ولأن أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : { وَلا أَدْنَى مِن ذَالِكَ } [المجادلة : 7] فدل على الاثنين والأربعة ، وقال { وَلا أَكْثَرَ } [المجادلة : 7] فدل على ما يقارب هذا العدد { أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [المجادلة : 7] فيجازيهم عليه { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 231].
جزء : 4 رقم الصفحة : 340
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَـاجَوْنَ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } [المجادلة : 8] كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ويريدون أن يغيظوهم ويوهموهم في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأن أقاربهم قتلوا ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعادوا لمثل فعلهم وكان
343
تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته ، حمزة وهو بمعنى الأول { الرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } [المجادلة : 8] يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد.
والسام الموت والله تعالى يقول { وَسَلَـامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل : 59] (النمل : 95) ، { اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } (المائدة : 76) ، { يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ } الأحزاب : 1) { وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } [المجادلة : 8] أي يقولون فيما بينهم لو كان نبياً لعاقبنا الله بما نقوله فقال الله تعالى { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } [المجادلة : 8] عذاباً { يَصْلَوْنَهَا } حال أي يدخلونها { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [المجادلة : 8] المرجع جهنم.
(4/183)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 278] بألسنتهم وهو خطاب للمنافقين والظاهر أنه خطاب للمؤمنين { إِذَا تَنَـاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَـاجَوْا بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي إذا تناجيتم فلا تشبهوا باليهود والمنافقين في تناجيهم بالشر { وَتَنَـاجَوْا بِالْبِرِّ } [المجادلة : 9] بأداء الفرائض والطاعات { وَالتَّقْوَى } وترك المعاصي { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المائدة : 96] للحساب فيجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر { إِنَّمَا النَّجْوَى } [المجادلة : 10] بالإثم والعدوان { مِنَ الشَّيْطَـانِ } [الأعراف : 201] من تزيينه { لِيَحْزُنَ } أي الشيطان وبضم الياء : نافع { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ } [المجادلة : 10] الشيطان أو الحزن { بِضَآرِّهِمْ شيئا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [المجادلة : 10] بعلمه وقضائه وقدره { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 122] أي يكلون أمرهم إلى الله ويستعيذون به من الشيطان.
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَـالِسِ } [المجادلة : 11] (في المجلس) توسعوا فيه ، { فِى الْمَجَـالِسِ } [المجادلة : 11]عاصم ونافع والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانوا يتضامون فيه تنافساً على
344
القرب منه وحرصاً على استماع كلامه.
وقيل : هو المجلس من مجالس القتال وهي مراكز الغزاة كقوله { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [آل عمران : 121] (آل عمران : 121).
مقاتل في صلاة الجمعة { فَافْسَحُوا } فوسعوا { يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } [المجادلة : 11] مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر غير ذلك { وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا } [المجادلة : 11] انهضوا للتوسعة على المقبلين ، أو انهضوا عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أمرتم بالنهوض عنه ، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير { فَانشُزُوا } بالضم فيهما : مدني وشامي وعاصم غير حماد { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } [المجادلة : 11] بامتثال أوامره وأوامر رسوله { وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [المجادلة : 11] والعالمين منهم خاصة { دَرَجَـاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة : 11] وفي الدرجات قولان : أحدهما في الدنيا في المرتبة والشرف ، والآخر في الآخرة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " .
وعنه صلى الله عليه وسلّم : " عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " .
وعنه صلى الله عليه وسلّم " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء " .
فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خير سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.
وقال صلى الله عليه وسلّم : " أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام يا إبراهيم إني عليم أحب كل عليم " وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم.
وعن الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال ، والعلوم أنواع فأشرها أشرفها معلوماً.
جزء : 4 رقم الصفحة : 343
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَـاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } [المجادلة : 12] إذا أردتم مناجاته
345
(4/184)