فيدخل في حيز الصلة أي الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم ، أو منقطع عن الصلة أي وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب ، وتقديم المفعول به للاختصاص أي وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعد إلى غيرها { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى } [الأعراف : 178] حمل على اللفظ { وَمَن يُضْلِلِ } [النساء : 88] أي ومن يضلله { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 121] حمل على المعنى ، ولو كان الهدي من الله البيان كما قالت المعتزلة ، لاستوى الكافر والمؤمن إذ البيان ثابت في حق الفريقين فدل أنه من الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة ، ولو كان ذلك للكافر لاهتدى كما اهتدى المؤمن.
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالانسِ } [الأعراف : 179] هم الكفار من الفريقين المعروضون عن تدبر آيات الله ، والله تعالى علم منهم اختيار الكفر فشاء منهم الكفر وخلق فيهم ذلك وجعل مصيرهم جهنم لذلك.
ولا تنافي بين هذا وبين قوله { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالانسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] (الذاريات : 65) لأنه إنما خلق منهم للعبادة من علم أنه يعبده ، وأما من علم أنه يكفر به فإنما خلقه لما علم أنه يكون منه.
فالحاصل أن من علم منه
125
في الأزل أنه يكون منه العبادة خلقه للعبادة ، ومن علم منه أن يكون منه الكفر خلقه لذلك ، وكم من عامٍ يراد به الخصوص وقول المعتزلة بأن هذه لام العاقبة أي لما كان عاقبتهم جهنم جعل كأنهم خلقوا لها فراراً عن إرادة المعاصي عدول عن الظاهر { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا } [الأعراف : 179] الحق ولا يتفكرون فيه { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا } [الأعراف : 179] الرشد { وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَآ } [الأعراف : 179] الوعظ { أؤلئك كَالانْعَـامِ } [الأعراف : 179] في عدم الفقه والنظر الاعتبار والاستماع للتفكر { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [الأعراف : 179] من الأنعام لأنهم كابروا العقول وعاندوا الرسول وارتكبوا الفضول ، فالأنعام تطلب منافعها وتهرب عن مضارها وهم لا يعلمون مضارهم حيث اختاروا النار ، وكيف يستوي المكلف المأمور والمخلى المعذور؟ فالآدمي روحاني شهواني سماوي أرضي ، فإن غلب روحه هواه فاق ملائكة السماوات ، وإن غلب هواه روحه فاقته بهائم الأرض { أؤلئك هُمُ الْغَـافِلُونَ } [الأعراف : 179] الكاملون في الغفلة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
{ وَلِلَّهِ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } [الأعراف : 180] التي هي أحسن الأسماء لأنها تدل على معانٍ حسنة ؛ فمنها ما يستحقه بحقائقه كالقديم قبل كل شيء ، والباقي بعد كل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعالم بكل شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومنها ما تستحسنه الأنفس لآثارها كالغفور والرحيم والشكور والحليم ، ومنها ما يوجب التخلق به كالفضل والعفو ، ومنها ما يوجب مراقبة الأحوال كالسميع والبصير والمقتدر ، ومنها ما يوجب الإجلال كالعظيم والجبار والمتكبر { فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف : 180] فسموه بتلك الأسماء { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـائهِ } [الأعراف : 180] واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى ، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه نحو أن يقولون : يا سخي يا رفيق ، لأنه لم يسم نفسه بذلك.
ومن الإلحاد تسميته بالجسم والجوهر والعقل والعلة { يُلْحِدُونَ } حمزة لحد وألحد مال { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 180].
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ } [الأعراف : 181] للجنة لأنه في مقابلة { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } [الأعراف : 179] { أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] في أحكامهم.
قيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين ، وفيه دلالة على أن إجماع كل عصر حجة
126
(2/78)
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم } [الأعراف : 182] سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم { مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 182] ما يراد بهم وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع إنهماكهم في الغي ، فكلما جدد الله عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن ترادف النعم أثره من الله تعالى وتقريب وإنما هو خذلان منه وتبعيد ، وهو استفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة { وَأَمْلَى لَهُمْ } [الأعراف : 183] عطف على { سَنَسْتَدْرِجُهُم } وهو غير داخل في حكم السين أي أمهلهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
الأعراف : 183] أخذي شديد.
سماه كيداً لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.
ولما نسبوا النبي صلى الله عليه وسلّم إلى الجنون نزل { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم } [الأعراف : 184] محمد عليه السلام و " ما " نافية بعد وقف أي أولم يتفكروا في قولهم ، ثم نفى عنه الجنون بقوله ما بصاحبهم { مِّن جِنَّةٍ } [الأعراف : 184] جنون { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [الأعراف : 184] منذر من الله موضع إنذاره { أَوَلَمْ يَنظُرُوا } [الأعراف : 185] نظر استدلال { فِى مَلَكُوتِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } الملكوت الملك العظيم { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ } [الأعراف : 185] وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد { وَأَنْ عَسَى } [الأعراف : 185] " أن " مخففة من الثقيلة وأصله " وأنه عسى " ، والضمير ضمير الشأن وهو في موضع الجر بالعطف على { مَلَكُوتَ } ، والمعنى أولم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى { أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } [الأعراف : 185] ولعلهم يموتون عما قريب فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مفاجأة الأجل وحلول العقاب { فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ } [الأعراف : 185] بعد القرآن { يُؤْمِنُونَ } إذا لم يؤمنوا به ، وهو متعلق بـ { عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } [الأعراف : 185] كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا؟
127
{ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف : 186] أي يضلله الله { وَيَذَرُهُمْ } بالياء : عراقي ، وبالجزم : حمزة وعلي عطفاً على محل { فَلا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف : 186] كأنه قيل : من يضلل الله لا يهده أحد { وَيَذَرُهُمْ } والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم.
الباقون : بالنون { فِي طُغْيَـانِهِمْ } [البقرة : 15] كفرهم { يَعْمَهُونَ } يتحيرون.
ولما سألت اليهود أو قريش عن الساعة متى تكون نزل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
(2/79)
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } [الأعراف : 187] وهي من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا.
وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها ، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق { أَيَّانَ } متى واشتقاقه من " أي " فعلان منه لأن معناه أي وقت { مُرْسَـاـاهَا } إرساؤها مصدر مثل المدخل بمعنى الإدخال ، أو وقت إرسائها أي إثباتها ، والمعنى متى يرسيها الله { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } [الأعراف : 187] أي علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحداً من ملك مقرب ولا نبي مرسل ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى الأجل الخاص وهو وقت الموت لذلك { لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ } [الأعراف : 187] لا يظهر أمرها لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده { ثَقُلَتْ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أي كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة ، ويتمنى أن يتجلى له علمها وشق عليه خفاؤها ، وثقل عليه أو ثقلت فيها لأن أهلها يخافون شدائدها وأهوالها { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [الأعراف : 187] فجأة على غفلة منكم يسئلونك كأنّك خفيٌّ عنها } كأنك عالم بها وحقيقته كأنك بليغ في السؤال عنها ، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه استحكم علمه فيه.
وأصل هذا التركيب المبالغة ، ومنه إحفاء الشارب ، أو { عَنْهَا } متعلق بـ { يَسْـاَلُونَكَ } أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ } [الأعراف : 187] وكرر { يَسْـاَلُونَكَ } و { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ } [الأعراف : 187] للتأكيد ولزيادة { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } [الأعراف : 187] وعلى هذا تكرير العلماء في كتبهم لا يخلون المكرر من فائدة ، منهم محمد بن الحسن رحمه الله { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] أنه المختص بالعلم بها { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
الأعراف : 188] هو إظهار للعبودية
128
وبراءة عما يختص بالربوبية من علم الغيب أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّواءُ } [الأعراف : 188] أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها ، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب.
وقيل : الغيب الأجل ، والخير العمل ، والسوء الوجل.
وقيل : لاستكثرت لاعتددت من الخصب للجدب.
والسوء الفقر وقد رد.
{ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [الأعراف : 188] إن أنا إلا عبد أرسلت نذيراً وبشيراً ، وما من شأني أن أعلم الغيب.
والسلام في { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] يتعلق بالنذير والبشير لأن النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم ، أو بالبشير وحده والمتعلق بالنذير محذوف أي إلا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون.
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } هي نفس آدم عليه السلام { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف : 189] حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [الأعراف : 189] ليطمئن ويميل لأن الجنس إلى الجنس أميل خصوصاً إذا كان بعضاً منه ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه.
وذكر { لِيَسْكُنَ } بعدما أنث في قوله { وَاحِدَةٌ } منها زوجها ذهاباً إلى معنى النفس ليبين أن المراد بها آدم { فَلَمَّا تَغَشَّـاـاهَا } [الأعراف : 189] جامعها { حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } [الأعراف : 189] خف عليها ولم تلق منه ما يلقي بعض الحبالي من حملهن من الكرب والأذى ولم تستثقله كما يستثقلنه { فَمَرَّتْ بِهِ } [الأعراف : 189] فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق ، أو حملت حملاً خفيفاً يعني النطفة فمرت به فقامت به وقعدت.
(2/80)
{ فَلَمَّآ أَثْقَلَت } [الأعراف : 189] حان وقت ثقل حملها { دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } [الأعراف : 189] دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعي وليتجأ إليه فقالا { لَـاـاِنْ ءَاتَيْتَنَا صَـالِحًا } [الأعراف : 189] لئن وهبت لنا ولداً سوياً قد صلح بدنه أو ولداً ذكراً لأن الذكورة من الصلاح
129
{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ } [الأنعام : 63] لك.
والضمير في { ءَاتَيْتَنَا } و { لَنَكُونَنَّ } لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما.
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
{ فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُمَا صَـالِحًا } [الأعراف : 190] أعطاهما ما طلباه من الولد الصالح السوي { جَعَلا لَهُ شُرَكَآءَ } [الأعراف : 190] أي آتى أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك { فِيمَآ ءَاتَـاـاهُمَا } [الأعراف : 190] أي آتى أولادهما دليله { فَتَعَـالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأعراف : 190] حيث جمع الضمير ، وآدم وحواء بريئان من الشرك ، ومعنى إشراكهم فيما آتاهم الله تسميتهم أولادهم بعبد العزي وعبد مناف وعبد شمس ونحو ذلك ، مكان عبد الله وعبد الرحمن وعبد الرحيم ، أو يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم آل قصي أي هو الذي خلقكم من نفس واحدة قصي ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزي وعبد قصي وعبد الدار.
والضمير في { أَيُشْرِكُونَ } لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
مدني وأبو بكر أي ذوي شرك وهم الشركاء.
{ يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شيئا } [الأعراف : 191] يعني الأصنام { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف : 191] أجريت الأصنام مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة ، والمعنى أيشركون مالاً يقدر على خلق شيء وهم يخلقون لأن الله خالقهم ، أو الضمير في { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف : 191] للعابدين أي أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم مخلوقو الله فليعبدوا خالقهم ، أو للعابدين والمعبودين وجمعهم كأولي العلم تغليباً للعابدين { وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } [الأعراف : 192] لعبدتهم { نَصْرًا وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } [الأعراف : 192] فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث كالكسر وغيره بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم { وَإِن تَدْعُوهُمْ } [الأعراف : 193] وإن تدعوا هذه الأصنام { إِلَى الْهُدَى } [الأنعام : 71] إلى ما هو هدى ورشاد أو إلى أن يهدوكم أي وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى { لا يَتَّبِعُوكُمْ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
الأعراف : 193] إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله.
{ لا يَتَّبِعُوكُمْ } [الأعراف : 193] نافع
130
(2/81)
{ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَـامِتُونَ } [الأعراف : 193] عن دعائهم في أنه لا فلاح معهم ولا يجيبونكم ، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية لرؤوس الآي { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأعراف : 194] أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأعراف : 194] أي مخلوقون مملوكون أمثالكم { فَادْعُوهُمْ } لجلب نفع أو دفع ضر { فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } [الأعراف : 194] فليجيبوا { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في أنهم آلهة.
ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [الأعراف : 195] مشيكم { أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ } [الأعراف : 195] يتناولون بها { أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الأعراف : 195] أي فلم تعبدون ما هو دونكم { قُلِ ادْعُوا شُرَكَآءَكُمْ } [الأعراف : 195] واستعينوا بهم في عدواتي { ثُمَّ كِيدُونِ } [الأعراف : 195] جميعاً أنتم وشركاؤكم.
وبالياء : يعقوب وافقه أبو عمرو في الوصل { فَلا تُنظِرُونِ } [الأعراف : 195] فإني لا أبالي بكم وكانوا قد خافوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك.
وبالياء يعقوب { إِنَّ وَلِـاِّىَ } [الأعراف : 196] ناصري عليكم { اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَـابَ } [الأعراف : 196] أوحى إليّ وأعزني برسالته { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّـالِحِينَ } [الأعراف : 196] ومن سنته أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 126
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } [الأعراف : 197] من دون الله { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاـاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه { وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [الأعراف : 198] المرئي.
{ خُذِ الْعَفْوَ } [الأعراف : 199] هو ضد الجهد أي ما عفا لك من أخلاق الناس وأفعالهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا كقوله عليه السلام
131
" يسروا ولا تعسروا " { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } [الأعراف : 199] بالمعروف والجميل من الأفعال ، أو هو كل خصلة يرتضيها العقل ويقبلها الشرع { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَـاهِلِينَ } [الأعراف : 199] ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم ، وفسرها جبريل عليه السلام بقوله : صل من قطعك وأعط من حرمك واعف عمن ظلمك.
وعن الصادق أمر الله نبيه عليه السلام بمكارم الأخلاق ، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها
جزء : 2 رقم الصفحة : 131
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَـانِ نَزْغٌ } [الأعراف : 200] وإما ينخسنك منه نخس أي بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف : 200] ولا تطعه.
والنزغ : والنخس كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي.
وجعل النزع نازغاً كما قيل جد جده ، أو أريد بنزغ الشيطان اعتراء الغضب كقول أبي بكر رضي الله عنه : إن لي شيطاناً يعتريني إنّه سميعٌ } لنزغه { عَلِيمٌ } بدفعه { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَـائفٌ مِّنَ الشَّيْطَـانِ } [الأعراف : 201] مكي وبصري وعليّ أي لمة منه مصدر من قولهم " طاف به الخيال يطيف طيفاً " .
وعن أبي عمرو : هما واحد وهي الوسوسة.
وهذا تأكيد لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان ، وأن عادة المتقين إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته { الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُوا } [الأعراف : 201] ما أمر الله به ونهى عنه { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف : 201] فأبصروا السداد ودفعوا وسوسته.
وحقيقته أن يفروا منه إلى الله فيزدادوا بصيرة من الله بالله { وَإِخْوَانِهِمْ } وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس فإن الشياطين { يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىِّ } [الأعراف : 202] أي يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم { يَمُدُّونَهُمْ } من الإمداد : مدني { ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } [الأعراف : 202] ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا ، وجاز
132
(2/82)
أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين والأول أوجه ، لأن إخوانهم في مقابلة الذين اتقوا.
وإنما جمع الضمير في { إِخْوَانَهُمْ } والشيطان مفرد لأن المراد به الجنس.
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِـاَايَةٍ } [الأعراف : 203] مقترحة { قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } [الأعراف : 203] هلا اخترتها أي اختلقتها كما اختلقت ما قبلها { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبِّى } [الأعراف : 203] ولست بمقترح لها { هَـاذَا بَصَآ ـاِرُ مِن رَّبِّكُمْ } [الأعراف : 203] هذا القرآن دلائل تبصركم وجوه الحق { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأعراف : 203] به.
{ وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف : 204] ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في الصلاة وغيرها.
وقيل : معناه إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له.
وجمهور الصحابة رضي الله عنهم على أنه في استماع المؤتم.
وقيل : في استماع الخطبة.
وقيل : فيهما وهو الأصح { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [الأعراف : 205] هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } [الأعراف : 205] متضرعاً وخائفاً { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } [الأعراف : 205] ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر { بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } [الرعد : 15] لفضل هذين الوقتين.
وقيل : المراد إدامة الذكر باستقامة الفكر.
ومعنى بالغدو بأوقات الغدو وهي الغدوات ، والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل وهو العشي { وَلا تَكُن مِّنَ الْغَـافِلِينَ } [الأعراف : 205] من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } [الأعراف : 206] مكانة ومنزلة لا مكاناً ومنزلاً يعني الملائكة { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } [الأنبياء : 19] لا يتعظمون عنها { وَيُسَبِّحُونَهُ } وينزهونه عما لا يليق به { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [الأعراف : 206] ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره .
133
سورة الأنفال
مدنية وهي خمس أو ست أو سبع وسبعون آية
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } النفل الغنيمة لأنها من فضل الله وعطائه ، والأنفال الغنائم.
ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله كيف تقسم ولمن الحكم في قسمتها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعاً؟ فقيل له : قل لهم هي لرسول الله وهو الحاكم فيها خاصة يحكم ما يشاء ليس لأحد غيره فيها حكم.
ومعنى الجمع بين ذكر الله والرسول أن حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ، ويمتثل الرسول أمر الله فيها ، وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد { فَاتَّقُوا اللَّهَ } [آل عمران : 123] في الاختلاف والتخاصم وكونوا متآخين في الله { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الانفال : 1] أحوال بينكم يعني ما بينكم من الأحوال التي تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق ، وقال الزجاج : معنى { ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الانفال : 1] حقيقة وصلكم.
والبين الوصل أي فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله به.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله
134(2/83)
لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فقسمه بين المسلمين على السواء { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الانفال : 1] فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] كاملي الإيمان { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } [الحجرات : 10] إنما الكاملو الإيمان { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الانفال : 2] فزعت لذكره استعظاماً له وتهيباً من جلاله وعزه وسلطانه { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُهُ } [الانفال : 2] أي القرآن { زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا } [الانفال : 2] ازدادوا بها يقيناً وطمأنينة ، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه ، أو زادتهم إيماناً بتلك الآيات لأنهم لم يؤمنوا بأحكامها قبل { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الانفال : 2] يعتمدون ولا يفوضون أمورهم إلى غير ربهم لا يخشون ولا يرجون إلا إياه { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } جمع بين أعمال القلوب من الوجل والإخلاص والتوكل ، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة { أؤلئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [الانفال : 4] هو صفة مصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي { أؤلئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ } [الانفال : 4] كقولك " هو عبد الله حقاً " أي حق ذلك حقاً.
وعن الحسن رحمه الله أن رجلاً سأله أمؤمن أنت؟ قال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } [الحجرات : 10] الآية.
فلا أدري أنا منهم أم لا.
وعن الثوري : من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ، أي كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقاً فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً ، وبهذا يتشبث من يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يقول ذلك.
وقال لقتادة : لم تستثني في إيمانك؟ قال : اتباعاً لإبراهيم في قوله { وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيائَتِى يَوْمَ الدِّينِ } [الشعراء : 82] (الشعراء : 28) فقال له : هلا
135
اقتديت به في قوله { أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى } [البقرة : 260] (البقرة : 62) ، وعن إبراهيم التيمي : قل أنا مؤمن حقاً فإن صدقت أثبت عليه ، وإن كذبت فكفرك أشد من كذبك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يكن منافقاً فهو مؤمن حقاً.
وقد احتج عبد الله على أحمد فقال : إيش اسمك؟ فقال : أحمد ، فقال : أتقول أنا أحمد حقاً أو أنا أحمد إن شاء الله؟ فقال : أنا أحمد حقاً.
فقال : حيث سماك والداك لا تستثني وقد سماك الله في القرآن مؤمناً تستثني.
{ لَّهُمْ دَرَجَـاتٌ } [الانفال : 4] مراتب بعضها فوق بعض على قدر الأعمال { عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ } [الانفال : 4] وتجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الانفال : 4] صافٍ عن كد الاكتساب وخوف الحساب.
الكاف في { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } [الانفال : 5] في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر ، والتقدير : قل الأنفال استقرت لله والرسول وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون { مِن بَيْتِكَ } [الانفال : 5] يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها لأنها مهاجرة ومسكنة فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه { بِالْحَقِّ } إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ } [الانفال : 5] في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم.
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان ، فأخبر جبريل النبي عليه السلام فأخبر أصحابه فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم ، فلما خرجوا علمت قريش بذلك فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهو النفير في المثل السائر : لا في العير ولا في النفير.
فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فأبى وسار بمن
136
(2/84)
معه إلى بدر ـ وهو ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة ـ ونزل جبريل عليه اللام فقال : يا محمد ، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين ، إما العير وإما قريشاً.
فاستشار النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه وقال العير أحب إليكم أم النفير " ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو.
فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم ردّد عليهم فقال : " إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل " فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو.
فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلّم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض ، فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار.
ثم قال المقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فإنا معك حيث أحببت ، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـاتِلا إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ } (المائدة : 42).
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ما دامت عين منا تطرف ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقال سعد بن معاذ : امض يا رسول الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، فسر بنا على بركة الله.
ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونشطه قول سعد ثم قال : " سيروا على بركة الله أبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " وكانت الكراهة من بعضهم لقوله { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَـارِهُونَ } [الانفال : 5] قال الشيخ أبومنصور رحمه الله : يحتمل أنهم منافقون كرهوا ذلك اعتقاداً ، ويحتمل أن يكونوا مخلصين ، وأن يكون ذلك كراهة طبع لأنهم غير متأهبين له.
137
جزء : 2 رقم الصفحة : 134
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{ يُجَـادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } [الانفال : 6] الحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلقي النفير لإيثارهم عليه تلقي العير { بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } [الانفال : 6] بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير ، وهلا قلت لنا لنستعد وذلك لكراهتهم القتال { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } [الانفال : 6] شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بحال من يعتل إلى القتل ويساق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها.
وقيل : كان خوفهم لقلة العدد وإنهم كانوا رجالة وماكان فيهم إلا فارسان { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّآ ـاِفَتَيْنِ } " إذ " منصوب بـ " اذكر " و { إِحْدَى } مفعول ثانٍ { أَنَّهَا لَكُمْ } [الانفال : 7] بدل من { إِحْدَى الطَّآ ـاِفَتَيْنِ } [الانفال : 7] وهما العير والنفير والتقدير : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الانفال : 7] أي العير وذات الشوكة ذات السلاح ، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم أي تتمنون أن تكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا سلاح لها ولا تريدون الطائفة الأخرى { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ } [الانفال : 7] أي يثبته ويعليه { بِكَلِمَـاتِهِ } بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة ، وبما قضى من قتلهم وطرحهم في قليب بدر { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَـافِرِينَ } [الانفال : 7] آخرهم والدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر.
وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة ، وسفساف الأمور ، والله تعالى يريد معالي الأمور ، ونصرة الحق ، وعلو الكلمة ، وشتان ما بين المرادين ، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم وأعزكم وأذلهم { لِيُحِقَّ الْحَقَّ } [الانفال : 8] متعلق بـ أو بمحذوف تقديره ليحق الحق { الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ } [الانفال : 8] فعل ذلك والمقدر متأخر ليفيد الاختصاص أي ما فعله إلا لهما ، وهو إثبات الإسلام وإظهاره ، وإبطال الكفر ، ومحقه ، وليس هذا بتكرار لأن الأول تمييز بين
138
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
(2/85)
الإرادتين ، وهذا بيان لمراده فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الانفال : 8] المشركون ذلك { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [الانفال : 9] بدل من { يَعِدُكُمُ } أو متعلق بقوله { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَـاطِلَ } [الانفال : 8] واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون أي ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا.
وهي طلب الغوث وهو التخليص من المكروه { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } [الانفال : 9] فأجاب.
وأصل { أَنِّي مُمِدُّكُم } [الانفال : 9] " بأني ممدكم " فحذف الجار وسلط عليه فنصب محله { مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَـائكَةِ مُرْدِفِينَ } [الانفال : 9] ـ { مُرْدِفِينَ } ـ مدني.
غيره بكسر الدال.
فالكسر على أنهم أردفوا غيرهم ، والفتح على أنه أردف كل ملك ملكاً آخر.
يقال : ردفه إذا تبعه ، وأردفته إياه إذا اتبعه { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ } [آل عمران : 126] أي الإمداد الذي دل عليه ممدكم { إِلا بُشْرَى } [آل عمران : 126] إلا بشارة لكم بالنصر { وَلِتَطْمَـاـاِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } [الانفال : 10] يعني أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر وتسكيناً منكم وربطاً على قلوبكم { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 126] أي ولا تحسبوا النصر من الملائكة فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة ، أو وما النصر من الملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله ، والمنصور من نصره الله.
واختلف في قتال الملائكة يوم بدر فقيل : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، وميكائل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي رضي الله عنه في صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت حتى قال أبو جهل لابن مسعود : من أين كان يأتينا الضرب ، ولا نرى الشخص ، قال : من قبل الملائكة.
قال : فهم غلبونا لا أنتم.
وقيل : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] بنصر أوليائه { حَكِيمٌ } بقهر أعدائه.
139
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ } [الانفال : 11] بدل ثانٍ من { يَعِدُكُمُ } أو منصوب بالنصر أو بإضمار اذكر.
{ يُغَشِّيكُمُ } مدني { النُّعَاسَ } النوم والفاعل هو الله على القراءتين.
{ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ } مكي ، وأبو عمرو { ءَامِنَةً } مفعول له أي إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً أي لأمنكم ، أو مصدر أي فأمنتم أمنة فالنوم يزيح الرعب ويريح النفس { مِنْهُ } صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من الله { وَيُنَزِّلُ } بالتخفيف : مكي وبصري ، وبالتشديد : وغيرهم { عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً } [الانفال : 11] مطراً { لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } [الانفال : 11] بالماء من الحدث والجنابة { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَـانِ } [الانفال : 11] وسوسته إليهم وتخويفه إياهم من العطش ، أو الجنابة من الاحتلام ، لأنه من الشيطان وقد وسوس إليهم أن لا نصرة مع الجنابة { وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } [الانفال : 11] بالصبر { وَيُثَبِّتَ بِهِ الاقْدَامَ } [الانفال : 11] أي بالماء إذ الأقدام كانت تسوخ في الرمل ، أو بالربط لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر يثبت القدم في مواطن القتال { إِذْ يُوحِى } [الانفال : 12] بدل ثالث من { يَعِدُكُمُ } أو منصوب بـ { يُثَبِّتُ } { رَبُّكَ إِلَى الْمَلَـائكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } [الانفال : 12] بالنصر { فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [الانفال : 12] بالبشرى وكان الملك يسير أمام الصف في صورة رجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } [الانفال : 12] هو امتلاء القلب من الخوف و { الرُّعْبَ } شامي وعلي { فَاضْرِبُوا } أمر للمؤمنين أو الملائكة ، وفيه دليل على أنهم قاتلوا
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
(2/86)
{ فَوْقَ الاعْنَاقِ } [الانفال : 12] أي أعالي الأعناق التي هي المذابح تطييراً للرؤوس ، أو أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق يعني ضرب الهام { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الانفال : 12] هي الأصابع يريد الأطراف ، والمعنى فاضربوا المقاتل والشوي لأن الضرب إما أن يقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم أن يجمعوا عليهم النوعين { ذَالِكَ } إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل وهو
140
مبتدأ خبره { بِأَنَّهُمْ شَآقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الانفال : 13] أي ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم أي مخالفتهم وهي مشتقة من الشق لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه ، وكذا المعاداة والمخاصمة لأن هذا في عدوة وخصم أي جانب وذاك في عدوة وخصم { وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [الانفال : 13] والكاف في ذلك لخطاب الرسول أو لكل أحد ، وفي { ذَالِكُمْ } للكفرة على طريقة الالتفات ، ومحله الرفع على " ذلكم العقاب أو العقاب " { ذَالِكُمْ فَذُوقُوهُ } [الانفال : 14].
والواو في { وَأَنَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [الانفال : 14] بمعنى " مع " أي ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة فوضع الظاهر موضع الضمير.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } حال من { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67].
والزحف الجيش الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيباً من زحف الصبي إذا دب على استه قليلاً قليلاً سمي بالمصدر { فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ } [الانفال : 15] فلا تنصرفوا عنهم منهزمين أي إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير وأنتم قليل ، فلا تفروا فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم ، أو حال من المؤمنين أو من الفريقين أي إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَـاـاِذٍ دُبُرَهُا إِلا مُتَحَرِّفًا } [الانفال : 16] مائلاً { لِّقِتَالٍ } هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب { أَوْ مُتَحَيِّزًا } [الانفال : 16] منضماً { إِلَى فِئَةٍ } [الانفال : 16] إلى جماعة من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها وهما حالان من ضمير الفاعل في { يُوَلِّهِمْ } { الْمَصِيرُ } ووزن متحيز " متفيعل " لا " متفعل " ، لأنه من حاز يحوز ، فبناء متفعل منه متحوز.
141
ولما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا وكان القاتل منهم يقول تفاخراً قتلت وأسرت قيل لهم { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الانفال : 17] والفاء جواب لشرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.
ولما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلّم : خذ قبضة من تراب فارمهم بها فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قيل { وَمَا رَمَيْتَ } [الانفال : 17] يا محمد { إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الانفال : 17] يعني أن الرمية التي رميتها أنت لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، وفي الآية بيان أن فعل العبد مضاف إليه كسباً وإلى الله تعالى خلقاً لا كما تقول الجبرية والمعتزلة ، لأنه أثبت الفعل من العبد بقوله { إِذْ رَمَيْتَ } [الانفال : 17] ثم نفاه عنه وأثبته لله تعالى بقوله { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الانفال : 17] ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } [الانفال : 17] ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الانفال : 17] بتخفيف { لَـاكِنِ } شامي وحمزة وعلي { وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ } [الانفال : 17] وليعطيهم { مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } [الانفال : 17] عطاء جميلاً ، والمعنى وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل وما فعل إلا لذلك { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
(2/87)
الحج : 75] لدعائهم { عَلِيمٌ } بأحوالهم { ذَالِكُمْ } إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع أي الأمر ذلكم { وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَـافِرِينَ } [الانفال : 18] معطوف على { ذَالِكُمْ } أي المراد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين.
{ مُوهِنُ كَيْدِ } [الانفال : 18] شامي وكوفي غير حفص.
{ مُوهِنُ كَيْدِ } [الانفال : 18] حفص ، { مُوهِنُ } غيرهم.
{ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } [الانفال : 19] إن تستنصروا فقد جاءكم النصر عليكم وهو خطاب لأهل مكة ، لأنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة
142
قالوا : اللهم إن كان محمد على حق فانصره ، وإن كنا على الحق فانصرنا.
وقيل : { إِن تَسْتَفْتِحُوا } [الانفال : 19] خطاب للمؤمنين { ءَانٍ } للكافرين أي { وَإِن تَنتَهُوا } أي الانتهاء { تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] وأسلم { وَإِن تَعُودُوا } [الانفال : 19] لمحاربته { نَعُدْ } لنصرته عليكم { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } [الانفال : 19] جمعكم { شيئا وَلَوْ كَثُرَتْ } [الانفال : 19] عدداً { وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الانفال : 19] بالفتح مدني وشامي وحفص أي ولأن الله مع المؤمنين بالنصر كان ذلك ، وبالكسر غيرهم ويؤيده قراءة عبد الله و { اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [الانفال : 19] { الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ } عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، لأن المعنى أطيعوا رسول الله كقوله : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة : 62] (التوبة : 26) ولأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ } [النساء : 80] (النساء : 08) فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله " الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان " أو يرجع الضمير إلى الأمر بالطاعة أي ولا تولوا عن هذا الأمر وأمثاله ، وأصله ولا تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفاً { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } [الانفال : 20] أي وأنتم تسمعونه ، أو ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا تخالفوه وأنتم تسمعون أي تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصم المكذبين من الكفرة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 138
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا } [الانفال : 21] أي ادعوا السماع وهم المنافقون وأهل الكتاب { وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } [الانفال : 21] لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين ، والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم قال { إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } [الانفال : 22] أي إن شر من يدب على وجه الأرض البهائم ، وإن شر البهائم الذين هم صم عن الحق لا يعقلونه ، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم وكابروا بعد العقل
143
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
{ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ } [الانفال : 23] في هؤلاء الصم والبكم { خَيْرًا } صدقاً ورغبة { لاسْمَعَهُمْ } لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا } [الانفال : 23] عنه أي ولو أسمعهم وصدقوا لارتدوا بعد ذلك ولم يستقيموا { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [آل عمران : 23] عن الإيمان.
{ مُّعْرِضُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } وحد الضمير أيضاً كما وحده فيما قبله ، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم كاستجابته ، والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال وبالدعوة البعث والتحريض { لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الانفال : 24] من علوم الديانات والشرائع لأن العلم حياة كما أن الجهل موت قال الشاعر :
لا تعجبنّ الجهول حلته
فذاك ميت وثوبه كفن
(2/88)
أو لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم ، أو للشهادة لقوله تعالى { بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [آل عمران : 169] (آل عمران : 961) { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الانفال : 24] أي يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله ، أو بينه وبين ما تمناه بقلبه من طول الحياة فيفسخ عزائمه { وَأَنَّهُا إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الانفال : 24] واعلموا أنكم إليه تحشرون فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة { وَاتَّقُوا فِتْنَةً } [الانفال : 25] عذاباً { لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً } [الانفال : 25] هو جواب للأمر أي إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم ، وجاز أن تدخل النون المؤكدة في جواب الأمر لأن فيه معنى النهي كما إذا قلت " انزل عن الدابة لا تطرحك " وجاز " لا تطرحنك " .
و " من " في { مِّنكُم } للتبعيض { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] إذا عاقب.
144
{ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } [الانفال : 26] " إذ " مفعول به لا ظرف أي واذكروا وقت كونكم أقلة أذلة { مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الارْضِ } [الانفال : 26] أرض مكة قبل الهجرة : يستضعفكم قريش { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } [الانفال : 26] لأن الناس كانوا لهم أعداء مضادين إلى المدينة { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ } [الانفال : 26] بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } [النحل : 72] من الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] هذه النعم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ } [الانفال : 27] بأن تعطلوا فرائضه { وَالرَّسُولِ } بأن لا تستنوا به { وَتَخُونُوا } جزم عطف على { لا تَخُونُوا } [الانفال : 27] أي ولا تخونوا { أَمَـانَـاتِكُمْ } فيما بينكم بأن لا تحفظوها { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] تبعه ذلك ووباله ، أو وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو ، أو وأنتم علماء تعلمون حسن الحسن وقبح القبيح ، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الإيفاء التمام ، ومنه تخوّنه إذا انتقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه { وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَـادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم والعذاب ، أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده { وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [الانفال : 28] فعليكم أن تحرصوا على طلب ذلك وتزهدوا في الدنيا ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } نصراً لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الكفر بإذلال حزبه والإسلام بإعزاز أهله ، أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم " سطع الفرقان " أي طلع الفجر ، أو مخرجاً من الشبهات وشرحاً للصدور ، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [الانفال : 29] أي الصغائر
145
(2/89)
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [آل عمران : 31] ذنوبكم أي الكبائر { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105] على عباده.
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الانفال : 30] لما فتح الله عليه ذكّره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم.
والمعنى واذكر إذ يمكرون بك ، وذلك أن قريشاً لما أسلمت الأنصار فرقوا أن يتفاقم أمره فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال : أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون.
فقال إبليس : بئس الرأي ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم.
فقال إبليس : بئس الرأي ، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل لعنه الله : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حربٍ قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا.
فقال اللعين : صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً ، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن له الله في الهجرة ، فأمر علياً فنام في مضجعه وقال له : اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه.
وباتوا مترصدين ، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتفوا أثره فأبطل الله مكرهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
{ لِيُثْبِتُوكَ } ليحبسوك ويوثقوك { أَوْ يَقْتُلُوكَ } [الانفال : 30] بسيوفهم { أَوْ يُخْرِجُوكَ } [الانفال : 30] من مكة { وَيَمْكُرُونَ } ويخفون المكايد له { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } [الانفال : 30] ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة { وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ } [آل عمران : 54] أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً.
146
كان عليه السلام يقرأ القرآن ويذكر أخبار القرون الماضي في قراءته فقال النضر بن الحارث : لو شئت لقلت مثل هذا.
وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وأحاديث العجم فنزل { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا } [يونس : 15] أي القرآن { قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الانفال : 31] وهذا صلف منهم ووقاحة ، لأنهم دعوا إلى أن يأتوا بسورة واحدة من مثل هذا القرآن فلم يأتوا به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 143
{ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
(2/90)
الانفال : 32] أي القرآن { هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الانفال : 32] هذا اسم " كان و " هو " فصل و { الْحَقِّ } خبر " كان " .
روي أن النضر لما قال { إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الأنعام : 25] قال له النبي عليه الصلاة والسلام " ويلك هذا كلام الله " فرفع النضر رأسه إلى السماء وقال { إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الانفال : 32] { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [الانفال : 32] أي إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل { أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الانفال : 32] بنوع آخر من جنس العذاب الأليم فقتل يوم بدر صبراً.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة قال : أجهل من قومي قومك ، قالوا لرسول الله عليه السلام حين دعاهم إلى الحق { إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [الانفال : 32] ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الانفال : 33] اللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم لأنك بعثت رحمة للعالمين وسنته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الانفال : 33] هو في موضع الحال ومعناه نفي الاستغفار عنهم أي ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما
147
عذبهم ، أو معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المستضعفين.
{ وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ } [الانفال : 34] أي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم ، وما لهم ألا يعذبهم الله { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الانفال : 34] وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية ، وإخراجهم رسول الله والمؤمنين من الصد وكانوا يقولون : نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء فقيل
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
{ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُا } [الانفال : 34] وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمر الحرم { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُا إِلا الْمُتَّقُونَ } [الانفال : 34] من المسلمين.
وقيل : الضميران راجعان إلى الله { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] ذلك كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند أو أردا بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلا مُكَآءً } [الانفال : 35] صفيراً كصوت المكاء وهو طائر مليح الصوت ، وهو فعال من مكا يمكوا إذا صفر { وَتَصْدِيَةً } وتصفيقاً تفعلة من الصدى ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم ويصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صلاته يخلطون عليه { فَذُوقُوا الْعَذَابَ } [الأعراف : 39] عذاب القتل والأسر يوم بدر { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران : 106] بسبب كفركم.
ونزل في المطعين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً وكلهم من قريش ، وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [الانفال : 36] أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلّم وهو سبيل الله
148
{ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } [الانفال : 36] ثم تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة ، فكأن ذاتها تصير ندماً وتنقلب حسرة { ثُمَّ يُغْلَبُونَ } [الانفال : 36] آخر الأمر وهو من دلائل النبوة لأنه أخبر عنه قبل وقوعه فكان كما أخبر { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } [النور : 39] والكافرون منهم { إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الانفال : 36] لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
(2/91)
واللام في { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ } [الانفال : 37] الفريق الخبيث من الكفار { مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران : 179] أي من الفريق الطيب من المؤمنين ، متعلقة بـ { يُحْشَرُونَ } { لِيَمِيزَ } حمزة وعلي { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ } [الانفال : 37] الفريق الخبيث { بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا } [الانفال : 37] فيجمعه { فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ } [الانفال : 37] أي الفريق الخبيث { أؤلئك } إشارة إلى الفريق الخبيث { هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 27] أنفسهم وأموالهم.
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [الانفال : 38] أي أبي سفيان وأصحابه { إِن يَنتَهُوا } [الانفال : 38] عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقتاله بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [الانفال : 38] لهم من العداوة { وَإِن يَعُودُوا } [الانفال : 38] لقتاله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاوَّلِينَ } [الانفال : 38] بالإهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى ، أو معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله في أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة { وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة : 193] إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } [الانفال : 39] ويضمحل عنهم كل دين باطل ويبقى فيهم دين الإسلام وحده { فَإِنِ انتَهَوْا } [الانفال : 39] عن الكفر وأسلموا { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الانفال : 39] يثيبهم على إسلامهم { وَإِن تَوَلَّوْا } [الانفال : 40] أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَـاـاكُمْ } [الانفال : 40] ناصركم ومعينكم فثقوا بولايته ونصرته { نِعْمَ الْمَوْلَى } [الانفال : 40] لا يضيع من تولاه
149
{ وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الانفال : 40] لا يغلب من نصره.
والمخصوص بالمدح محذوف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم } [الانفال : 41] ما بمعنى الذي ، ولا يجوز أن يكتب إلا مفصولاً إذ لو كتب موصولاً لوجب أن تكون ما كافة و { غَنِمْتُمْ } صلته والعائد محذوف والتقدير : الذي غنمتموه { مِّن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] بيانه قيل حتى الخيط والمخيط { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } [الانفال : 41] والفاء إنما دخلت لما في " الذي " من معنى المجازاة و " أن " وما عملت فيه في موضع رفع على أنه خبر مبدأ تقديره : فالحكم أن لله خمسة { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] فالخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله ، وسهم لذي قرابته من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل استحقوه حينئذ بالنصرة لقصة عثمان وجبير بن مطعم ، وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسهمه ساقط بموته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة : لله والرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر رضي الله عنه الخمس على ثلاثة ، وكذا عمر ومن بعده من الخلفاء رضي الله عنهم ، ومعنى { لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } [الانفال : 24] لرسول الله كقوله { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة : 62] (التوبة : 26) { إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ } [يونس : 84] فاعملوا به وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب الرضا بالحكم والعمل بالعلم { وَمَآ أَنزَلْنَا } [الانفال : 41] معطوف على { بِاللَّهِ } أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل { عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [الانفال : 41] يوم بدر { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [آل عمران : 155] الفريقان من المسلمين والكافرين ، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وهو بدل من { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [الانفال : 41] { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
البقرة : 284] يقدر على أن ينصر القليل على الكثير كما فعل بكم يومئذ.
150
(2/92)
{ إِذْ أَنتُم } [الانفال : 42] بدل من { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } [الانفال : 41] والتقدير : اذكروا إذ أنتم { بِالْعُدْوَةِ } شط الوادي ، وبالكسر فيهما : مكي وأبو عمرو { الدُّنْيَا } القربى إلى جهة المدينة تأنيث الأدنى { وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } [الانفال : 42] البعدى عن المدينية تأنيث الأقصى ، وكلتاهما فعلى من بنات الواو ، والقياس قلب الواو ياء كالعليا تأنيث الأعلى ، وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل { وَالرَّكْبُ } أي العير وهو جمع راكب في المعنى { أَسْفَلَ مِنكُمْ } [الأحزاب : 10] نصب على الظرف أي مكاناً أسفل من مكانكم يعني في أسفل الوادي بثلاثة أميال ، وهو مرفوع المحل لأنه خبر المبتدأ { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } [الانفال : 42] أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال { اخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَـادِ } [الانفال : 42] لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له { وَلَـاكِنَّ } جمع بينكم بلا ميعاد { لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } [الانفال : 42] من إعزاز دينه وإعلاء كلمته ، أو اللام تتعلق بمحذوف أي ليقضي الله أمراً كان ينبغي أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : القضاء يحتمل الحكم أي ليحكم ما قد علم أنه يكون كائناً ، أو ليتم أمراً كان قد أراده ، وما أراد كونه فهو مفعول لا محالة وهو عز الإسلام وأهله وذل الكفر وحزبه ويتعلق بـ { يُقْضَى } { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَىَّ عَن بَيِّنَةٍ } [الانفال : 42] نافع وأبو عمرو ، فالإدغام لالتفاء المثلين ، والإظهار لأن حركة الثاني غير لازمة ، لأنك تقول في المستقبل " يحيا " والإدغام أكثر.
استعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة حتى لا يبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به ، وذلك أن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها ، ولهذا ذكر فيها مراكز الفريقين ، وأن العير كانت أسفل منهم مع أنهم قد علموا
151
ذلك كله مشاهدة ليعلم الخلق أن النصر والغلبة لا تكون بالكثرة والأسباب بل بالله تعالى ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكان العيروراء ظهور العدو مع كثرة عددهم وعدتهم وقلة المسلمين وضعفهم ثم كان ما كان { بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } [الانفال : 42] لأقوالهم { عَلِيمٌ } بكفر من كفر وعقابه وبإيمان من آمن وثوابه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 147
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ } [الانفال : 43] نصب بإضمار " اذكر " ، أو هو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الانفال : 42] أي بعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِى مَنَامِكَ قَلِيلا } [الانفال : 43] أي في رؤياك ، وذلك أن الله تعالى أراه إياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان ذلك تشجيعاً لهم على عدوهم { وَلَوْ أَرَاـاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ } [الانفال : 43] لجبنتم وهبتم الإقدام { وَلَتَنَـازَعْتُمْ فِى الامْرِ } [الانفال : 43] أمر القتال وترددتم بين الثبات والفرار { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } [الانفال : 43] عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
(2/93)
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } [الانفال : 44] الضميران مفعولان أي وإذ يبصركم إياهم { إِذِ الْتَقَيْتُمْ } [الانفال : 44] وقت اللقاء { فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا } [الانفال : 44] هو نصب على الحال.
وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدوا ويثبتوا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة وكانوا ألفاً { وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [الانفال : 44] حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور.
قيل : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ثم كثرهم فيما بعده ليجترئوا عليه قلة مبالاة بهم ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، ويجوز أن يبصروا
152
الكثير قليلاً بأن يستر الله بعضهم بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين ، قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } فيحكم فيها بما يريد { تُرْجَعُ } شامي وحمزة وعلي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } [الانفال : 45] إذا حاربتم جماعة من الكفار وترك وصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء اسم غالب للقتال { فَاثْبُتُوا } لقتالهم ولا تفروا { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } [الانفال : 45] في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستنصرين به داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة ، وفيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هماً ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الانفال : 1] في الأمر بالجهاد والثبات مع العدو وغيرهما { وَلا تَنَـازَعُوا فَتَفْشَلُوا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
الانفال : 46] فتجبنوا وهو منصوب بإضمار " أن " ويدل عليه { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [الانفال : 46] أي دولتكم يقال : " هبت رياح فلان " إذا دالت له الدولة ونفذ أمره ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح وهبوبها.
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله ، وفي الحديث " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { وَاصْبِرُوا } في القتال مع العدو وغيره { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 153] أي معينهم وحافظهم { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِم بَطَرًا وَرِئَآءَ النَّاسِ } [الانفال : 47] هم أهل مكة حين نفروا لحماية العير فأتاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبى
153
أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً ونشرب بها الخمور وننحر الجزور وتعزف علينا القيان ونطعم بها العرب ، فذلك بطرهم ورياؤهم الناس بإطعامهم فوافوها فسقوا كأس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيام ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله مخلصين أعمالهم لله.
والبطر أن تشغله كثرة النعمة عن شكرها.
{ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 34] دين الله { وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [الانفال : 47] عالم وهو وعيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
(2/94)
{ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ } [الانفال : 48] واذكر إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون.
وغالب مبني نحو " لا رجل " و { لَكُمُ } في موضع رفع خبر " لا " .
تقديره : لا غالب كائن لكم { وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [الانفال : 48] أي مجير لكم أوهمهم أن طاعة الشيطان مما يجيرهم { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ } [الانفال : 48] فلما تلاقى الفريقان { نَكَصَ } الشيطان هارباً { عَلَى عَقِبَيْهِ } [آل عمران : 144] أي رجع القهقري { وَقَالَ إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنكُمْ } [الانفال : 48] أي رجعت عما ضمنت لكم من الأمان.
روي أن إبليس تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم في جند من الشياطين معه راية ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص فقال له الحارث بن هشام : أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } [الانفال : 48] أي الملائكة وانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة.
فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم ، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان { إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ } [المائدة : 28] أي عقوبته { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [آل عمران : 11]
154
اذكروا { إِذْ يَقُولُ الْمُنَـافِقُونَ } [الانفال : 49] بالمدينة { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [الانفال : 49] هو من صفة المنافقين ، أو أريد والذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام { غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } [الانفال : 49] يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف.
ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 49] يكل إليه أمره { فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [الانفال : 49] غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي { حَكِيمٌ } لا يسوي بين وليه عدوه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
{ وَلَوْ تَرَى } [الأنعام : 93] ولو عاينت وشاهدت لأن " لو " ترد المضارع إلى معنى الماضي كما ترد " إن " الماضي إلى معنى الاستقبال { إِذِ } نصب على الظرف { يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا } [الانفال : 50] بقبض أرواحهم { الْمَلَـائكَةِ } فاعل { يَضْرِبُونَ } حال منهم { وُجُوهَهُمْ } إذا أقبلوا { وَأَدْبَـارَهُمْ } ظهورهم وأستاههم إذا أدبروا ، أو وجوههم عند الإقدام وأدبارهم عند الانهزام.
وقيل : في { يَتَوَفَّى } ضمير الله تعالى ، و { الْمَلَـائكَةِ } مرفوعة بالابتداء و { يَضْرِبُونَ } خبر والأول الوجه ، لأن الكفار لا يستحقون أن يكون الله متوفيهم بلا واسطة دليلة قراءة ابن عامر بالتاء { وَأَدْبَـارَهُمْ وَذُوقُوا } [الانفال : 50] ويقولون لهم ذوقوا معطوف على { يَضْرِبُونَ } { عَذَابَ الْحَرِيقِ } [آل عمران : 181] أي مقدمة عذاب النار ، أو ذوقوا عذاب الآخرة بشارة لهم به ، أو يقال لهم يوم القيامة : ذوقوا.
وجواب " لو " محذوف أي لرأيت أمراً فظيعاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
{ ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران : 182] أي كسبت وهو رد على الجبرية ، وهو من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة.
و { ذَالِكَ } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } [آل عمران : 182] خبره { وَأَنَّ اللَّهَ } [المائدة : 97] عطف عليه أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم ، وبأن الله { لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [آل عمران : 182] لأن تعذيب الكفار من العدل.
وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد ، أو لنفي أنواع الظلم.
155
(2/95)
الكاف في { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [آل عمران : 11] في محل الرفع أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، ودأبهم عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه أي داوموا عليه { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الدخان : 37] من قبل قريش أو من قبل آل فرعون { كَفَرُوا } تفسير لدأب آل فرعون { بِـاَايَـاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } والمعنى جروا على عادتهم في التكذيب فأجرى عليه مثل ما فعل بهم في التعذيب { ذَالِكَ } العذاب أو الانتقام { بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الانفال : 53] بسبب أن الله لم يصح في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حتى يغيروا مابهم من الحال ، نعم لم يكن لآل فرعون ومشركي مكة حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة ، لكن لما تغيرت الحال المرضية إلى المسخوطة تغيرت الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات فكذبوه وسعوا في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [الحج : 61] لما يقولوا مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [آل عمران : 11] تكرير للتأكيد ، أو لأن في الأولى الأخذ بالذنوب بلا بيان ذلك ، وهنا بين أن ذلك هو الإهلاك والاستئصال { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
وفي قوله { بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ } [الانفال : 54] زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق { فَأَهْلَكْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ } [الانفال : 54] بماء البحر { وَكُلٌّ } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش { كَانُوا ظَـالِمِينَ } [الانفال : 54] أنفسهم بالكفر والمعاصي.
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } [الانفال : 22] أي أصروا على الكفر فلا يتوقع منهم الإيمان { الَّذِينَ عَـاهَدتَّ مِنْهُمْ } [الانفال : 56] بدل من { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] أي الذين عاهدتهم من
156
الذين كفروا وجعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [الانفال : 56] في كل معاهدة { وَهُمْ لا يَتَّقُونَ } [الانفال : 56] لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 152
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ } [الانفال : 57] فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [الانفال : 57] ففرق من محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم من وراءهم من الكفرة حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم.
وقال الزجاج : افعل بهم ما تفرق به جمعهم وتطرد به من عداهم { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف : 26] لعل المشردين من ورائهم يتعظون
جزء : 2 رقم الصفحة : 157
(2/96)
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } [الانفال : 58] معاهدين { خِيَانَةً } نكثاً بأمارات تلوح لك { فَانابِذْ إِلَيْهِمْ } [الانفال : 58] فاطرح إليهم العهد { عَلَى سَوَآءٍ } [الانفال : 58] على استواء منك ومنهم في العلم بنقض العهد وهو حال من النابذ والمنبوذ إليهم أي حاصلين على استواء في العلم { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَا ـاِنِينَ } [الانفال : 58] الناقضين للعهود { وَلا يَحْسَبَنَّ } [آل عمران : 178] بالياء وفتح السين : شامي وحمزة ويزيد وحفص ، وبالتاء وفتح السين : أبو كبر ، وبالتاء وكسر السين : غيرهم { الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } [الانفال : 59] فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ } [الانفال : 59] إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم { إِنَّهُمْ } شامي أي لأنهم ، وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل غير أن المكسورة على طريقة الاستئناف ، والمفتوحة تعليل صريح ؛ فمن قرأ بالتاء فـ { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] مفعول أول والثاني { سَبَقُوا } ومن قرأ بالياء فـ { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] فاعل و { سَبَقُوا } مفعول تقديره أن سبقوا فحذف " أن " ، و " أن " مخففة من الثقيلة أي أنهم سبقوا فسد مسد المفعولين ، أو يكون الفاعل مضمراً أي ولا يحسبن محمد الكافرين سابقين ومن ادعى.
تفرد حمزة بالقراءة ، ففيه نظر لما بيناه من عدم تفرده بها.
وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
157
{ وَأَعِدُّوا } أيها المؤمنون { لَهُمْ } لناقضي العهد أو لجميع الكفار { مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } [الانفال : 60] من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها وفي الحديث " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً على المنبر.
وقيل : هي الحصون { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ } [الانفال : 60] هو اسم للخيل التي تربط سبيل سبيل الله ، أو هو جمع ربيط كفصيل وفصال ، وخص الخيل من بين ما يتقوى به كقوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 157
{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ } (البقرة : 89) { تُرْهِبُونَ بِهِ } [الانفال : 60] بما استطعتم { عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الانفال : 60] أي أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } [الانفال : 60] غيرهم وهم اليهود ، أو المنافقون ، أو أهل فارس ، أو كفرة الجن.
في الحديث " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق " .
وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن { لا تَعْلَمُونَهُمُ } [الانفال : 60] لا تعرفونهم بأعيانهم { اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [الانفال : 60] يوفر عليكم جزاؤه { وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ } [البقرة : 272] في الجزاء بل تعطون على التمام { وَإِن جَنَحُوا } [الانفال : 61] ما لوا جنح له وإليه مال { لِلسَّلْمِ } للصلح وبكسر السين : أبو بكر وهو مؤنث تأنيث ضدها وهو الحرب { فَاجْنَحْ لَهَا } [الانفال : 61] فمل إليها { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 61] ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لأقوالك { الْعَلِيمُ } بأحوالك { وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ } [الانفال : 62] يمكروا ويغدروا { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } [الانفال : 62] كافيك الله { هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ } [الانفال : 62] قواك { بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } [الانفال : 62] جميعاً أو بالأنصار.
158
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الانفال : 63] قلوب الأوس والخزرج بعد تعاديهم مائة وعشرين سنة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الانفال : 63] أي بلغت عداوتهم مبلغاً لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر عليه { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 157
(2/97)
الانفال : 63] بفضله ورحمته وجمع بين كلمتهم بقدرته ، فأحدث بينهم التوادّ والتحابّ وأماط عنهم التباغض والتماقت { إِنَّهُ عَزِيزٌ } يقهر من يخدعونك { حَكِيمٌ } ينصر من يتبعونك.
{ حَكِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الواو بمعنى " مع " وما بعده منصوب ، والمعنى كفاك وكفى المؤمنين الله ناصراً.
ويجوز أن يكون في محل الرفع أي كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين.
قيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلّم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت { الْمُؤْمِنِينَ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } التحريض المبالغة في الحث على الأمر من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفي على الموت { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـابِرُونَ يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّا ئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الانفال : 65] هذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله وتأييده { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } [الانفال : 65] بسبب أن الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ، بخلاف من يقاتل على بصيرة وهو يرجو النصر من الله.
قيل : كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة ، ثم ثقل عليهم ذلك فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين بقوله
159
{ الْـاَـانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } [الانفال : 66] { ضَعْفًا } عاصم وحمزة { فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّا ئَةٌ صَابِرَةٌ } [الانفال : 66] بالياء فيهما : كوفي ، وافقه البصري في الأولى والمراد الضعف في البدن { يَغْلِبُوا مِا ئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [الانفال : 66] وتكرير مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده ، للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة لا تتفاوت ، إذ الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 157
{ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ } [الانفال : 67] ما صح له ولا استقام { أَن يَكُونَ لَهُا أَسْرَى } [الانفال : 67] { أَن تَكُونَ } [النحل : 92] : بصري { حَتَّى يُثْخِنَ فِي الارْضِ } [الانفال : 67] الإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه من الثخانة وهي الغلظ والكثافة حتى يذل الكفر بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام بالاستيلاء والقهر ، ثم الأسر بعد ذلك.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بسبعين أسيراً ـ فيهم العباس عمه وعقيل ـ فاستشار النبي عليه السلام أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك ، استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك.
وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء ، مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب
160
جزء : 2 رقم الصفحة : 160
(2/98)
أعناقهم.
فقال عليه السلام : " مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم حيث قال { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم : 36] (إبراهيم : 63) ومثلك يا عمر كمثل نوح حيث قال { رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الارْضِ مِنَ الْكَـافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح : 26] (نوح : 62).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لهم : " إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم " فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد فلما أخذوا الفداء نزلت الآية { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } [الانفال : 67] متاعها يعني الفداء سماه عرضاً لقلة بقائه وسرعة فنائه { وَاللَّهُ يُرِيدُ الاخِرَةَ } [الانفال : 67] أي ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] يقهر الأعداء { حَكِيمٌ } في عتاب الأولياء.
{ لَّوْلا كِتَـابٌ مِّنَ اللَّهِ } [الانفال : 68] لولا حكم من الله { سَبَقَ } أن لا يعذب أحداً على العمل بالاجتهاد وكان هذا اجتهاداً منهم لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد ، وخفي عليهم إن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم ، أو ما كتب الله في اللوح أن لا يعذب أهل بدر ، أو ألا يؤاخذ قبل البيان والإعذار.
وفيما ذكر من الاستشارة دلالة على جواز الاجتهاد فيكون حجة على منكري القياس.
{ كِتَـابِ } مبتدأ و { مِّنَ اللَّهِ } [الجن : 22] صفته أي لولا كتاب ثابت من الله و { سَبَقَ } صفة أخرى له ، وخبر المبتدأ محذوف أي لولا كتاب بهذه الصفة في الوجود ، و { سَبَقَ } لا يجوز أن يكون خبراً لأن " لولا " أبداً { لَمَسَّكُمْ } لنالكم وأصابكم { فِيمَآ أَخَذْتُمْ } [الانفال : 68] من فداء الأسرى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] روي أن عمر رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت.
فقال : " أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة " لشجرة قريبة منه.
وروي أنه عليه السلام قال : " لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ
جزء : 2 رقم الصفحة : 160
{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ } [الانفال : 69] روي أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم
162
(2/99)
إليها فنزلت.
وقيل : هو إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم.
والفاء للتسبيب والسبب محذوف ، ومعناه قد أحللت لكم الغنائم فكلوا { حَلَـالا } مطلقاً عن العتاب والعقاب من حل العقال وهو نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً { طَيِّبًا } لذيذاً هنيئاً أو حلالاً بالشرع طيباً بالطبع { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] لما فعلتم من قبل { رَّحِيمٌ } بإحلال ما غنمتم.
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم } في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم { مِّنَ الاسْرَى } [الانفال : 70] جمع أسير من الأساري أبو عمرو جمع أسرى { إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا } [الانفال : 70] خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } [الانفال : 70] من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه أو يثيبكم في الآخرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الانفال : 70] روي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ منه ما قدر على حمله وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ، وكان له عشرون عبداً وإن أدناهم ليتجر في عشرين ألفاً وكان يقول : أنجز الله أحد الوعدين وأنا على ثقة من الآخر { وَإِن يُرِيدُوا } [الانفال : 62] أي الأسرى { خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة أو منع ما ضمنوه من الفداء { فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ } [الانفال : 71] في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } [الانفال : 71] فأمكنك منهم أي أظفرك بهم كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوالخيانة { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } [البقرة : 95] بالمال { حَكِيمٌ } فيما أمر في الحال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 160
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا } [الانفال : 72] من مكة حباً لله ورسوله { وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } هم المهاجرون { وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا } [الانفال : 72] أي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار { أؤلئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الانفال : 72] أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة وبالنصرة دون ذوي القرابات حتى نسخ ذلك بقوله { وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [الأحزاب : 6] وقيل : أراد به النصرة والمعاونة { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا } [الانفال : 72] من مكة { مَا لَكُم مِّن وَلَـايَتِهِم } [الانفال : 72] من توليهم في الميراث { وَلَـايَتِهِم } حمزة.
وقيل : هما واحد { مِّن شَىْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } [الانفال : 72] فكان لا يرث المؤمن الذي لم يهاجر ممن آمن وهاجر ، ولما أبقى للذين لم يهاجروا اسم الإيمان وكانت الهجرة فريضة فصاروا بتركها مرتكبين كبيرة ، دل على أن صاحب الكبيرة لا يخرج من الإيمان { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ } [الانفال : 72] أي من أسلم ولم يهاجر { فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [الانفال : 72] أي إن وقع بينهم وبين الكفار قتال وطلبوا معونة فواجب عليكم أن تنصروهم على الكافرين { إِلا عَلَى قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } [الانفال : 72] فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدئون بالقتال ، إذ الميثاق مانع من ذلك { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] تحذير عن تعدي حد الشرع.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الانفال : 73] ظاهره إثبات الموالاة بينهم ، ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً.
ثم قال { إِلا تَفْعَلُوهُ } [الانفال : 73] أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ، ولم تجعلوا قرابة الكفار كلا قرابة { تَكُن فِتْنَةٌ فِى الارْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الانفال : 73] تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأن المسلمين ما لم يصيروا
163
(2/100)
يداً واحدة على الشرك كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أؤلئك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [الانفال : 74] لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن والانسلاخ من المال والدنيا لأجل الدين والعقبى { لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الانفال : 74] لا منة فيه ولا تنغيص ولا تكرار ، لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم مع الوعد الكريم والأولى للأمر بالتواصل { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ } [الانفال : 75] يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة { وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوالَـائكَ مِنكُمْ } [الانفال : 75] جعلهم منهم تفضلاً وترغيباً { وَأُوْلُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } [الانفال : 75] وأولوا القرابات أولى بالتوارث وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِي كِتَـابِ اللَّهِ } [الانفال : 75] في حكمه وقسمته أوفى اللوح ، أو في القرآن وهو آية المواريث وهو دليل لنا على توريث ذوي الأرحام { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ } [البقرة : 231] فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه.
قسم الناس أربعة أقسام : قسم آمنوا وهاجروا ، وقسم آمنوا ونصروا ، وقسم آمنوا ولم يهاجروا ، وقسم كفروا ولم يؤمنوا.
164
سورة التوبة
مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي ومائة وثلاثون غيره
لها أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكلة ، المدمدمة ، لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها ، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم.
وفي ترك التسمية في ابتدائها أقوال ؛ فعن علي وابن عباس رضي الله عنهم ، أن بسم الله أمان وبراءة نزلت لرفع الأمان.
وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا نزلت عليه سورة أو آية قال : اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يبين لنا أين نضعها ، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال لأن فيها ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود ، فلذلك قرنت بينهما وكانتا تدعيان القرينتين وتعدان السابعة من الطوال وهي سبع.
وقيل : اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال بعضهم : الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ، وقال بعضهم : هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان ، وتركت بسم الله لقول من قال هما سورة واحدة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
{ بَرَآءَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة
165(2/101)
{ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 1] من لابتداء الغاية متعلق بمحذوف ، أي هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول " كتاب من فلان إلى فلان " ، أو مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر { إِلَى الَّذِينَ عَـاهَدتُّم } [التوبة : 1] كقولك " رجل من بني تمم في الدار " والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم { فَسِيحُوا فِى الارْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [التوبة : 2] فسيروا في الأرض كيف شئتم.
والسيح : السير على مهل.
روي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناساً منهم ـ وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ـ فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاءوا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله { فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5] وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها.
وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، وأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر.
فقال : لا يؤدّي عني إلا رجل مني.
فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور.
فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحثهم على مناسكهم وقال عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ، ثم قال : أمرت بأربع : أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ، فقالوا عند ذلك : يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه
166
ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف ؛ والأشهر الأربعة : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، أو عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر ، وكانت حرماً لأنهم أمنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم ، أو على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها.
والجمهور على إباحة القتال في الأشهر الحرم وأن ذلك قد نسخ
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
{ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } [التوبة : 2] لا تفوتونه وإن أمهلكم { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَـافِرِينَ } [التوبة : 2] مذلهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ } ارتفاعه كارتفاع { بَرَآءَةٌ } على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى إخبار بثبوت البراءة ، والثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.
وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الْحَجِّ الاكْبَرِ } [التوبة : 3] يوم عرفة لأن الوقوف بعرفة معظم أفعال الحج ، أو يوم النحر لأن فيه تمام الحج من الطواف ، والنحر ، والحلق ، والرمي ، ووصف الحج بالأكبر ، لأن العمرة تسمى الحج الأصغر { أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 3] أي بأن الله حذفت صلة الأذان تخفيفاً { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِى ءٌ } أو على الابتداء وحذف الخبر أي ورسوله بريء ، وقرىء بالنصب عطفاً على إسم " إن " ، وبالجر على الجوار ، أو على القسم كقولك " لعمرك " .
وحكي أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } [التوبة : 3] من الكفر والغدر { فَهُوَ } أي التوبة { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من الأصرار على الكفر
167
(2/102)
{ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } [التوبة : 3] عن التوبة أو تبتم على التولي والإعراض عن الإسلام { فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ } [التوبة : 3] غير سابقين الله ولا فائتين أخذه وعقابه { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
التوبة : 3] مكان بشارة المؤمنين بنعيم مقيم { إِلا الَّذِينَ عَـاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 4] استثناء من قوله { فَسِيحُوا فِى الارْضِ } [التوبة : 2] والمعنى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم { ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شيئا } [التوبة : 4] من شروط العهد أي وفوا بالعهد ولم ينقضوه.
وقرىء { لِمَ } أي عهدكم وهو أليق لكن المشهورة أبلغ لأنه في مقابلة التمام { شيئا وَلَمْ يُظَـاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا } [التوبة : 4] ولم يعاونوا عليكم عدواً { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } [التوبة : 4] فأدوه إليهم تاماً كملاً { إِلَى مُدَّتِهِمْ } [التوبة : 4] إلى تمام مدتهم ، والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين : لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة : 4] يعني أن قضية التقوى ألا يسوّي بين الفريقين فاتقوا الله في ذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
{ فَإِذَا انسَلَخَ } [التوبة : 5] مضى أو خرج { الاشْهُرُ الْحُرُمُ } [التوبة : 5] التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5] الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة : 5] من حل أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم ، والأخيذ : الأسير { وَاحْصُرُوهُمْ } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد { وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [التوبة : 5] كل ممر ومجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف.
{ فَإِن تَابُوا } [التوبة : 5] عن الكفر { فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر ، أو فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] بستر الكفر والغدر بالإسلام { رَّحِيمٌ } برفع القتل قبل الأداء بالإلتزام
168
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } [التوبة : 6] { أَحَدٍ } مرتفع بفعل شرط مضمر يفسره الظاهر أي وإن استجارك أحد استجارك ، والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه واستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمّنه { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَـامَ اللَّهِ } [التوبة : 6] ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر على أن المستأمن لا يؤذي وليس له الإقامة في دارنا ويمكن من العود { ذَالِكَ } أي الأمر بالإجارة في قوله { فَأَجِرْهُ } { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } [التوبة : 6] بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا أو يفهموا الحق { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } [التوبة : 7] { كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار أي مستنكر أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم.
ثم استدرك ذلك بقوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
(2/103)
{ إِلا الَّذِينَ عَـاهَدتُّمْ } [التوبة : 7] أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 191] ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا اسْتَقَـامُوا لَكُمْ } [التوبة : 7] ولم يظهر منهم نكث أي فما أقاموا على وفاء العهد { فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } [التوبة : 7] على الوفاء.
و " ما " شرطية أي فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة : 4] يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين.
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [التوبة : 8] تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق { لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا } [التوبة : 8] لا يراعوا حلفاً ولا قرابة { وَلا ذِمَّةً } [التوبة : 10] عهداً { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [التوبة : 8] بالوعد
169
بالإيمان والوفاء بالعهد وهو كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد { وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } [التوبة : 8] الإيمان والوفاء بالعهد { وَأَكْثَرُهُمْ فَـاسِقُونَ } [التوبة : 8] ناقضون العهد أو متمردون في الكفر ، لا مروة تزعهم عن الكذب ، ولا شمائل تردعهم عن النكث كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عنهما.
جزء : 2 رقم الصفحة : 165
{ اشْتَرَوْا } استبدلوا { بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [الزمر : 63] بالقرآن { ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] عرضاً يسيراً وهو إتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ } [التوبة : 9] فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة : 9] أي بئس الصنيع صنيعهم { لا يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } [التوبة : 10] ولا تكرار ، لأن الأول على الخصوص حيث قال
جزء : 2 رقم الصفحة : 170
{ فِيكُمْ } والثاني على العموم لأنه قال { فِى مُؤْمِنٍ } [التوبة : 10] { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [التوبة : 10] المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة { فَإِن تَابُوا } [التوبة : 5] عن الكفر { وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ { فِى الدِّينِ } [الانفال : 72] لا في النسب { وَنُفَصِّلُ الايَـاتِ } [التوبة : 11] ونبينها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] يفهمون فيتفكرون فيها وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمل تفصيلها فهو العالم تحريصاً على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها { وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } [التوبة : 12] أي نقضوا العهود المؤكد بالأيمان { وَطَعَنُوا فِى دِينِكُمْ } [التوبة : 12] وعابوه { فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } [التوبة : 12] فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم وهم رؤساء الشرك ، أو زعماء قريش الذين هموا بإخراج الرسول وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله لأن العهد معقود معه
170
على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة.
{ أَاـاِمَّةَ } بهمزتين : كوفي وشامي ، الباقون : بهمزة واحدة غير ممدودة بعدها ياء مكسرورة ، أصلها " أأممة " لأنها جمع إمام كعماد وأعمدة ، فنقلت حركة الميم الأولى إلى الهمزة الساكنة وأدغمت في الميم الأخرى.
فمن حقق الهمزتين أخرجهما على الأصل ، ومن قلب الثانية ياء فلكسرتها { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } وإنما أثبت لهم الإيمان في قوله { وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم } [التوبة : 12] لأنه أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال { لا أَيْمَـانَ لَهُمْ } [التوبة : 12] على الحقيقة وهو دليل لنا على أن يمين الكافر لا تكون يميناً ، ومعناه عند الشافعي رحمه الله أنهم لا يوفون بها لأن يمينهم يمين عنده حيث وصفها بالنكث.
{ لا أَيْمَـانَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 170(2/104)
التوبة : 12] شامي أي لا إسلام { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } [التوبة : 12] متعلق بـ { فَقَـاتِلُوا أَاـاِمَّةَ الْكُفْرِ } [التوبة : 12] وما بينها اعتراض أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم انتهاءهم عما هم عليه بعدما وجد منهم من العظائم ، وهذا من غاية كرمه على المسي.
ثم حرض على القتال فقال : { أَلا تُقَـاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَـانَهُمْ } [التوبة : 13] التي حلفوها في المعاهد { وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } [التوبة : 13] من مكة { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [التوبة : 13] بالقتال والبادىء أظلم فما يمنعكم من أن تقاتلوهم ، وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب { أَتَخْشَوْنَهُمْ } توبيخ على الخشية منهم { فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [التوبة : 13] بأن تخشوه فقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] فاخشوه أي إن قضية الإيمان الكامل أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه.
ولما وبخهم الله على ترك القتال جرد لهم الأمر به بقوله :
{ قَـاتِلُوهُمْ } ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم بقوله { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [التوبة : 14] قتلاً { وَيُخْزِهِمْ } أسراً { وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 14] يغلّبكم عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [التوبة : 14] طائفة منهم وهم خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم
171
{ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة : 15] لما لقوا منهم من المكروه وقد حصل الله هذه المواعيد كلها فكان دليلاً على صحة نبوته { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } [التوبة : 15] ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم كأبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ، وهي ترد على المعتزلة قولهم " إن الله تعالى شاء أن يتوب على جميع الكفرة لكنهم لا يتوبون باحتيارهم " .
{ وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } في قبول التوبة { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ } [التوبة : 16] " أم " منقطعة والهمزة فيها للتوبيخ على وجود الحسبان أي لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله { وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } [التوبة : 16] أي بطانة من الذين يضادون رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين ولما معناها التوقع ، وقد دلت على أن تبين ذلك متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين.
{ وَلَمْ يَتَّخِذُوا } [التوبة : 16] معطوف على { جَـاهَدُوا } داخل في حيز الصلة كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كقولك " ما علم الله مني ما قيل فيّ " .
تريد ما وجد ذلك مني ، والمعنى أحسبتم أن تتركوا بلا مجاهدة ولا براءة من المشركين { وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [آل عمران : 153] من خير أو شر فيجازيكم عليه.
172
(2/105)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 17] ما صح لهم وما استقام { أَن يَعْمُرُوا مَسَـاجِدَ اللَّهِ } [التوبة : 17] { مَسَـاجِدَ اللَّهِ } [البقرة : 114] مكي وبصري يعني المسجد الحرام ، وإنما جمع في القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد ، أو أريد جنس المساجد وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا يعمرو المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ، وهو آكد إذ طريقه طريق الكناية كما تقول : " فلان لا يقرأ كتب الله " فإنه أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك { شَـاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ } [التوبة : 17] باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في { يَعْمُرُوا } والمعنى ما استقام لهم أن يجموا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله وبعبادته { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَـالِدُونَ } [التوبة : 17] دائمون { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللَّهِ } [التوبة : 18] عمارتهارمّ ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، لأنها بنيت للعبادة والذكر ومن الذكر درس العلم { مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 62] ولم يذكر الإيمان بالرسول عليه السلام لما علم أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاقترانهما في الأذان والإقامة وكلمة الشهادة وغيرها ، أو دل عليه بقوله { وَأَقَامَ الصَّلَواةَ وَءَاتَى الزكاة } [البقرة : 177] وفي قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [التوبة : 18] تنبيه على الإخلاص ، والمراد الخشية في أبواب الدين بأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف ، إذ المؤمن قد يخشى المحاذير ولا يتمالك أن لا يخشاها.
وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها : فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فَعَسَى أؤلئك أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة : 18] تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم لأن { عَسَى } كلمة إطماع ، والمعنى إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها عند الله دون من سواهم.
173
جزء : 2 رقم الصفحة : 170
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَجَـاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [التوبة : 19] السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية ، ولا بد من مضاف محذوف تقديره : أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله.
وقيل : المصدر بمعنى الفاعل يصدقه قراءة ابن الزبير { أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوي بينهم ، وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر لأنهم وضعوا المدح والفخر في غير موضعهما.
نزلت جواباً لقول العباس حين أسر فطفق علي رضي الله عنه يوبخه بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقطيعة الرحم تذكر مساوينا وتدع محاسننا.
فقيل : أولكم محاسن؟ فقال : نعمر المسجد ونسقي الحاج ونفك العاني.
وقيل : افتخر العباس بالسقاية وشيبة بالعمارة ، وعلي رضي الله عنه بالإسلام والحهاد ، فصدق الله تعالى علياً { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَـاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } أولئك { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ } [التوبة : 20] من أهل السقاية والعمارة { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْفَآ ـاِزُونَ } [التوبة : 20] لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم } [التوبة : 21] { يُبَشِّرُهُمْ } حمزة { بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّـاتٍ } تنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرف { لَّهُمْ فِيهَا } [النساء : 57] في الجنات { نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } [التوبة : 21] دائم { خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُا أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التوبة : 22] لا ينقطع.
174(2/106)
لما أمر الله النبي عليه السلام بالهجرة جعل الرجل يقول لابنه ولأخيه ولقرابته : إنا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من تتعلق به زوجته أو ولده فيقول تدعنا بلا شيء فنضيع فيجلس معهم ويدع الهجرة فنزل { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الايمَـانِ } أي آثروه واختاروه { أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ } [المائدة : 51] أي ومن يتولى الكافرين { فَأُوالَـائكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 229].
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
{ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } [التوبة : 24] أقاربكم وعشيراتكم أبو بكر { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } [التوبة : 24] اكتسبتموها { وَتِجَـارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } [التوبة : 24] فوات وقت نفاقها { وَمَسَـاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [التوبة : 24] وهو عذاب عاجل أو عقاب آجل أو فتح مكة { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 108] والآية تنعي على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين ، إذ لا تجد عند أورع الناس ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والأموال والحظوظ.
{ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } [التوبة : 25] كوقعة بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة.
وقيل : إن المواطن التي نصر الله فيها النبي عليه السلام والمؤمنين ثمانون موطناً ، ومواطن الحرب مقاماتها ومواقفها { وَيَوْمَ } أي واذكروا يوم { حُنَيْنٍ } وادٍ بين مكة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب
175
اليوم من قلة ، فساءت رسول الله عليه الصلاة والسلام { إِذْ } بدل من { يَوْمٍ } { أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } [التوبة : 25] فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة وزل عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ، فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده وهو ثابت في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته ، وأبو سفيان ابن الحارث بن عمه آخذاً بركابه فقال للعباس : " صح بالناس " وكان صيّتاً ، فنادى : يا أصحاب الشجرة فاجتمعوا وهم يقولون : لبيك ، لبيك نزلت الملائكة عليهم الثياب البيض على خيول بلق ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كفأ من تراب فرماهم بن ثم قال : " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا وكان من دعائه عليه السلام يومئذ " اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان " وهذا دعاء موسى عليه السلام يوم انفلاق البحر { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شيئا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 25] " ما " مصدرية والباء بمعنى " مع " أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها على أن الجار والمجرور في موضع الحال كقولك " دخلت عليه بثياب السفر " أي متلبساً بها ، والمعنى لم تجدوا موضعاً لفراركم عن أعدائكم فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [التوبة : 25] ثم انهزمتم { ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ } [التوبة : 26] رحمته التي سكنوا بها وأمنوا { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } [التوبة : 26] يعني الملائكة وكانوا ثمانية آلاف أو خمسة أو ستة عشر ألفاً { وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [التوبة : 26] بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري.
{ وَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ } [التوبة : 26].
جزء : 2 رقم الصفحة : 174
{ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ } [التوبة : 27] وهم الذين أسلموا منهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ } [البقرة : 225] بستر كفر العدو بالإسلام { رَّحِيمٌ } بنصر الولي بعد الانهزام.
176
(2/107)
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } أي ذوو نجس وهو مصدر ، يقال نجس نجساً وقذر قذراً لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
{ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [التوبة : 28] فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا } [التوبة : 28] وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم ، وهو مذهبنا ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون منه ومن غيره.
وقيل : نهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [التوبة : 28] أي فقراً بسبب منع المشركين من الحج وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [التوبة : 28] من الغنائم أو المطر والنبات أو من متاجر حجيج الإسلام { إِن شَآءَ } [يوسف : 99] هو تعليم لتعليق الأمور بمشيئة الله تعالى لتنقطع الآمال إليه { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } [آل عمران : 119] بأحوالكم { حَكِيمٌ } في تحقيق آمالكم ، أو عليم بمصالح العباد حكيم فيما حكم وأراد ونزل في أهل الكتاب { قَـاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [التوبة : 29] لأن اليهود مثنيّة والنصارى مثلثة { وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ } [التوبة : 29] لأنهم فيه على خلاف ما يجب حيث يزعمون أن لا أكل في الجنة ولا شرب { وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [التوبة : 29] لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة ، أو لا يعملون بما في التوراة والإنجيل { وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } [التوبة : 29] ولا يعتقدون دين الإسلام الذي هو الحق.
يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده
177
{ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [التوبة : 29] بيان للذين قبله ، وأما المجوس فملحقون بأهل الكتاب في قبول الجزية ، وكذا الترك والهنود وغيرهما بخلاف مشركي العرب لما روي الزهري أن النبي عليه السلام صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } [التوبة : 29] إلى أن يقبلوها ، وسميت جزية لأنه مما يجب على أهلها أن يجزوه أي يقضوه ، أو هي جزاء على الكفر على التحميل في تذليل
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
{ عَن يَدٍ } [التوبة : 29] أي عن يدٍ مواتية غير ممتنعة ولذا قالوا : أعطى بيده إذا انقاد ، وقالوا : نزع يده عن الطاعة.
أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً على يدٍ أحد ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ { وَهُمْ صَـاغِرُونَ } [التوبة : 29] أي تؤخذ منهم على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم ، والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أدّ الجزية يا ذمي وإن كان يؤديها ويزخ في قفاه وتسقط بالإسلام.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ } [التوبة : 30] كلهم أو بعضهم { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] مبتدأ وخبر كقوله { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] وعزير اسم أعجمي ، ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه ، ومن نون.
وهم عاصم وعلي ـ فقد جعله عربياً { وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أي قول لا يعضده برهان ولا يستند إلى بيان ، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ عن معنى تحته كالألفاظ المهملة { يُضَـاهِ ُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ } [التوبة : 30] لا بد فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعاً يعني أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم
178
(2/108)
من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث ، أو الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] قول اليهود { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] لأنهم أقدم منهم { يُضَـاهِ ُونَ } : عاصم.
وأصل المضاهاة المشابهة ، والأكثر ترك الهمز واشتقاقه من قولهم " امرأة ضهياء " وهي التي أشبهت الرجال بأنها لا تحيض كذا قاله الزجاج ، { قَـاتَلَهُمُ اللَّهُ } [التوبة : 30] أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المائدة : 75] كيف يصرفون عن الحق بعد قيام البرهان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
{ اتَّخَذُوا } أي أهل الكتاب { أَحْبَارَهُمْ } علماءهم { وَرُهْبَـانَهُمْ } نساكهم { أَرْبَابًا } آلهة { مِّن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله كما يطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم { وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } [التوبة : 31] عطف على { أَحْبَارَهُمْ } أي اتخذوه رباً حيث جعلوه ابن الله { وَمَآ أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَـاهًا وَاحِدًا } [التوبة : 31] يجوز الوقف عليه لأن ما بعده يصلح ابتداء يصلح وصفاً لواحداً { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ سُبْحَـانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة : 31] تنزيه له عن الإشراك { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِـاُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـافِرُونَ } [التوبة : 32] مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى من الإشراق ليطفئه بنفخه.
أجرى { وَيَأْبَى اللَّهُ } [التوبة : 32] مجرى { لا يُرِيدُونَ } ولذا وقع في مقابله { يُرِيدُونَ } وإلا فلا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً.
{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } [التوبة : 33] محمداً عليه السلام { بِالْهُدَى } بالقرآن { وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة : 33] الإسلام { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [الفتح : 28] على أهل الأديان كلهم ، أو
179
ليظهر دين الحق على كل دين { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } استعار الأكل للأخذ { أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ } [النساء : 29] أي بالرشا في الأحكام { وَيَصُدُّونَ } سفلتهم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] دينه { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } [التوبة : 34] يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان للدلالة على اجتماع خصلتين ذميمتين فيهم : أخذ الرشا وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير.
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من أهل الكتاب تغليظاً.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم " ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً " ولقد كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأن الإعراض اختيار للأفضل والاقتناء مباح لا يذم صاحبه { وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 34] الضمير راجع إلى المعنى لأن كل واحد منهما دنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَآ ـاِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [الحجرات : 9] (الحجرات : 9).
أو أريد الكنوز واوموال ، أو معناه ولا ينفقونها والذهب كما أن معنى قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
فإني وقيار بها لغريب وقيار كذلك.
وخصا بالذكر من بين سائر الأموال لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء.
وذكر كنزهما دليل على ما سواهما { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران : 21].
جزء : 2 رقم الصفحة : 176
ومعنى قوله { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ } [التوبة : 35] أن النار تحمي عليها أي توقد ، وإنما ذكر الفعل لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله يوم تحمي النار عليها ،
180
(2/109)
فلما حذفت النار قيل { يُحْمَى } لانتقاد الإسناد عن النار إلى عليها كما تقول " رفعت القصة إلى الأمير " فإن لم تذكر القصة قلت " رفع إلى الأمير " { فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُم } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 180
التوبة : 35] وخصت هذه الأعضاء لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم ، أو معناه يكوون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ } [التوبة : 35] يقال لهم هذا ما كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وهو توبيخ { فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة : 35] أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه ، أو وبال كونكم كانزين.
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } [التوبة : 36] من غير زيادة ، والمراد بيان أن أحكام الشرع تبتني على الشهور القمري المحسوبة بالأهلة دون الشمسية { فِي كِتَـابِ اللَّهِ } [الانفال : 75] فيما أثبته وأوجبه من حكمته أو في اللوح { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة : 36] ثلاثة سرد : ذو القعدة للقعود عن القتال ، وذو الحجة للحج ، والمحرم لتحريم القتال فيه ، وواحد فرد وهو رجب لترجيب العرب إياه أي لتعظيمه { ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [التوبة : 36] أي الدين المستقيم لا ما يفعله أهل الجاهلية يعني أن تحريم الأربعة الأشهر هو الدين المستقيم ودين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب تمسكت به فكانوا يعظمونها ويحرمون القتال فيها حتى أحدثت النسيء فغيروا { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ } [التوبة : 36] في الحرم أو في الاثني عشر { أَنفُسِكُمْ } بارتكاب المعاصي { وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة : 36] حال من الفاعل أو المفعول { كَمَا يُقَـاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [التوبة : 36] جميعاً { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 194] أي ناصر لهم حثهم على التقوى بضمان النصرة لأهلها { إِنَّمَا النَّسِى ءُ } [التوبة : 37] بالهمزة مصدر نسأه إذا أخره ، وهو تأخير حرمة الشهر إلى
181
شهر آخر.
وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من بين شهور العام أربعة أشهر
جزء : 2 رقم الصفحة : 180
{ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ } [التوبة : 37] أي هذا الفعل منهم زيادة في كفرهم { يُضَلُّ } كوفي غير أبي بكر { بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } [التوبة : 37] بالنسيء.
والضمير في { يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا } [التوبة : 37] للنسيء أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً رجعوا فحرموه في العام القابل { لِّيُوَاطِـاُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } [التوبة : 37] ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين.
واللام تتعلق بـ { يُحِلُّونَهُ } و أو بـ فحسب وهو الظاهر { اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } [التوبة : 37] أي فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَـالِهِمْ } [التوبة : 37] زين الشيطان لهم ذلك فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 264] حال اختيارهم الثبات على الباطل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 180
(2/110)
{ الْكَـافِرِينَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا } اخرجوا { فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ } [التوبة : 38] تثاقلتم وهو أصله إلا أن التاء أدغمت في الثاء فصارت التاء ساكنة ، فدخلت ألف الوصل لئلا يبتدأ بالساكن أي تباطأتم { إِلَى الارْضِ } [التوبة : 38] ضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بـ " إلى " أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك.
وقيل : ماخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة إلاّ ورّي عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة { أَرَضِيتُم بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا مِنَ الاخِرَةِ } [التوبة : 38] بدل الآخرة { فَمَا مَتَـاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فِى الاخِرَةِ } في جنب الآخر { إِلا قَلِيلٌ * إِلا تَنفِرُوا } إلى الحرب { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شيئا } [التوبة : 39] سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم
182
وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً.
وقيل : الضمير في { وَلا تَضُرُّوهُ } [التوبة : 39] للرسول عليه السلام لأن الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ووعده كائن لا محالة { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [المجادلة : 6] من التبديل والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ * إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد ، فدل بقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ } [التوبة : 40] على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [التوبة : 40] أسند الإخراج إلى الكفار لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه
جزء : 2 رقم الصفحة : 180
{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } [التوبة : 40] أحد اثنين كقوله " ثالث ثلاثة " وهما رسول الله وأبو بكر ، وانتصابه على الحال { إِذْ هُمَا } [التوبة : 40] بدل من { إِذْ أَخْرَجَهُ } [التوبة : 40] { فِى الْغَارِ } [التوبة : 40] هو نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } [طه : 104] بدل ثانٍ { لِصَـاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة : 40] بالنصرة والحفظ.
قيل : طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه السلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .
وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " اللهم أعم أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله بأبصارهم عنه وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله وليس ذلك لسائر الصحابة { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ } [الفتح : 26] ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه { عَلَيْهِ } على النبي صلى الله عليه وسلّم أو على أبي بكر لأنه كان يخاف وكان عليه السلام ساكن القلب { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } [التوبة : 40] هم الملائكة صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه ، أو أيده بالملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين
183
{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [التوبة : 40] أي دعوتهم إلى الكفر { السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ } [التوبة : 40] دعوته إلى الإسلام { هِىَ } فصل { الْعُلْيَا } { وَكَلِمَةُ اللَّهِ } [التوبة : 40] بالنصب : يعقوب بالعطف ، والرفع على الاستئناف أوجه إذ هي كانت ولم تزل عالية { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] يعز بنصره أهل كلمته { حَكِيمٌ } يذل أهل الشرك بحكمته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 180
(2/111)
{ انْفِرُوا خِفَافًا } [التوبة : 41] في النفور لنشاطكم له { وَثِقَالا } عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وثقالاً لكثرتها ، أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه ، أو ركباناً ومشاة أو شباباً وشيوخاً ، أو مهازيل وسماناً ، أو صحاحاً ومراضاً { وَجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن إمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة { فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذَالِكُمْ } [التوبة : 41] الجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من تركه { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] كون ذلك خيراً فبادروا إليه.
ونزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين { لَوْ كَانَ عَرَضًا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
التوبة : 42] هو ما عرض لك من منافع الدنيا ، يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر أي لو كان ما دعوا إليه مغنماً { قَرِيبًا } سهل المأخذ { وَسَفَرًا قَاصِدًا } [التوبة : 42] وسطاً مقارباً ، والقاصد والقصد المعتدل { اتَّبَعُوكَ } لوافقوك في الخروج { وَلَـاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } [التوبة : 42] المسافة الشاطة الشاقة { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [التوبة : 42].
من دلائل النبوة لأنه أخبر بما سيكون بعد القفول فقالوا كما أخبر ، و { بِاللَّهِ } متعلق بـ { سَيَحْلِفُونَ } ، أو هو من جملة كلامهم ، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون ـ يعني المتخلفين ـ عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ، أو سيحلفون بالله يقولون لو استطعنا.
وقوله سد مسد جوابي القسم و { عَلَيْهِمْ لَوْ } [النساء : 39] جميعاً.
ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } [التوبة : 42] بدل من { سَيَحْلِفُونَ } أو حال منه أي مهلكين ، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب ، أو حال من { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا
184
أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [التوبة : 42] فيما يقولون.
{ عَفَا اللَّهُ عَنكَ } [التوبة : 43] كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب ، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [التوبة : 43] بيان لما كنى عنه بالعفو ، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـاذِبِينَ } [التوبة : 43] يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه.
وقيل : شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين ، وأخذه الفدية من الأساري ، فعاتبه الله.
وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد ، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل { لا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ أَن يُجَـاهِدُوا } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ } [التوبة : 44] عدة لهم بأجزل الثواب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
{ إِنَّمَا يَسْتَـاْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } [التوبة : 45] شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم { فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [التوبة : 45] يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاعَدُّوا لَهُ } [التوبة : 46] للخروج أو للجهاد { عِدَّةَ } أهبة لأنهم كانوا مياسير ، ولما كان { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ } [التوبة : 46] معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : { وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انابِعَاثَهُمْ } [التوبة : 46] نهوضهم للخروج كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وضعف
185
(2/112)
رغبتهم في الانبعاث والتثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه { وَقِيلَ اقْعُدُوا } [التوبة : 46] أي قال بعضهم لبعض ، أو قاله الرسول عليه السلام غضباً عليهم ، أو قاله الشيطان بالوسوسة { مَعَ الْقَـاعِدِينَ } [التوبة : 46] هو ذم لهم وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود في البيوت.
{ لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ } [التوبة : 47] بخروجهم معكم { إِلا خَبَالا } [التوبة : 47] إلا فساداً وشراً ، والاستثناء متصل لأن المعنى ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً ، والاستثناء المنقطع أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه كقولك " ما زداوكم خيراً إلا خبالاً والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الشيء فكان استثناء متصلاً لأن الخبال بعضه { وَلاوْضَعُوا خِلَـالَكُمْ } [التوبة : 47] ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين.
يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع.
وأوضعته أنا.
والمعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي.
وخط في المصحف { وَلا } بزيادة الألف لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من تلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحها ألفاً أخرى ونحوه { أَوْ لا } (النمل : 12) { خِلَـالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ } [التوبة : 47] حال من الضمير في { إِلَى الْفِتْنَةِ } [النساء : 91] أي يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سَمَّـاعُونَ لَهُمْ } [التوبة : 47] أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] بالمنافقين { لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ } [التوبة : 48] بصد الناس أو بأن يفتكوا به عليه السلام ليلة العقبة ، أو بالرجوع يوم أحد { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ } [التوبة : 48] ودبروا لك الحيل والمكايد ودوّروا الآراء في إبطال أمرك { حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ } [التوبة : 48] وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } [التوبة : 48] وغلب دينه وعلا شرعه { وَهُمْ كَـارِهُونَ } [التوبة : 48] أي على رغم منهم.
186
جزء : 2 رقم الصفحة : 184
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
(2/113)
{ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلا تَفْتِنِّى } [التوبة : 49] ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت ، أولا تلقني في الهلكة فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي.
وقيل : قال الجد بن قيس المنافق : قد علمت الأنصار إني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر ـ يعني نساء الروم ـ ولكني أعينك بمالي فاتركني { أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } [التوبة : 49] يعني أن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةُ بِالْكَـافِرِينَ } [التوبة : 49] الآن لأن أسباب الإحاطة معهم أو هي تحيط بهم يوم القيامة { إِن تُصِبْكَ } [التوبة : 50] في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [التوبة : 50] نكبة وشدة في بعضها نحو ما جرى يوم أحد { يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا } [التوبة : 50] الذي نحن متسمون به من الحذ والتيقط والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل ما وقع { وَيَتَوَلَّوا } عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } [التوبة : 50] مسرورون { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [التوبة : 51] أي قضي من خير أو شر { هُوَ مَوْلَـانَا } [التوبة : 51] أي الذي يتولانا ونتولاه { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 122] وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ } [التوبة : 52] تنتظرون بنا { إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } [التوبة : 52] وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } [التوبة : 52] إحدى السوءيين إما { أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } [التوبة : 52] وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُوا } بنا ما ذكرنا { إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ } [التوبة : 52] ما هو عاقبتكم
187
{ قُلْ أَنفِقُوا } [التوبة : 53] في وجوه البر { طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } [فصلت : 11] طائعين أو مكرهين نصب على الحال.
{ كَرْهًا } حمزة وعلي وهو أمر في معنى الخبر ومعناه { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } [التوبة : 53] أنفقتم طوعاً أو كرهاً ونحوه { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [التوبة : 80] (التوبة : 08) وقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت ، وقد جاز عكسه في قولك " رحم الله زيداً " ، ومعنى عدم القبول أنه عليه السلام يردها عليهم ولا يقبلها أو لا يثيبها الله.
وقوله { طَوْعًا } أي من غير إلزام من الله ورسوله و { كَرْهًا } أي ملزمين ، وسمي الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه { إِنَّكُمْ } تعليل لرد إنفاقهم { كُنتُمْ قَوْمًا فَـاسِقِينَ } [التوبة : 53] متمردين عاتين.
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـاتُهُمْ } [التوبة : 54] وبالياء : حمزة وعلي { إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا } [التوبة : 54] أنهم فاعل " منع " وهم و { أَن تُقْبَلَ } [التوبة : 54] مفعولاه أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم { بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلَواةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } [التوبة : 54] جمع كسلان { وَلا يُنفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَـارِهُونَ } [التوبة : 54] لأنهم لا يريدون بها وجه الله تعالى ، وصفهم بالطوع في قوله { طَوْعًا } وسلبه عنهم ههنا لأن المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذلك إلا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختبار.
{ فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا } الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راضٍ به متعجب من حسنه ، والمعنى فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم ليعذبهم بالمصائب فيها ، أو بالإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له ، أو بنهب أموالهم وسبي
188
(2/114)
أولادهم ، أو بجمعها وحفظها وحبها والبخل بها والخوف عليها وكل هذا عذاب { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ } [التوبة : 55] وتخرج أرواحهم ، وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ، ودلت الآية على بطلان القول بالأصلح لأنه أخبر أن إعطاء الأموال والأولاد لهم للتعذيب والإماتة على الكفر وعلى إرادة الله تعالى المعاصي ، لأن إرادة العذاب بإرادة ما يعذب عليه ، وكذا إرادة الإماتة على الكفر
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [التوبة : 56] لمن جملة المسلمين { وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [التوبة : 56] يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَـاًا } [التوبة : 57] مكاناً يلجئون إليه متحصنين من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مَغَـارَاتٍ } [التوبة : 57] أو غيراناً { أَوْ مُدَّخَلا } [التوبة : 57] أو نفقاً يندسون فيه وهو مفتعل من الدخول { ءَاوَى إِلَيْهِ } لأقبلوا نحوه { وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [التوبة : 57] يسرعون إسراعاً لا يردهم شيء من الفرس الجموح { وَمِنْهُمُ } ومن المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَـاتِ } [التوبة : 58] يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } [التوبة : 58] " إذا " للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجئوا السخط ، وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأنه عليه السلام استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُا إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } [التوبة : 59] جواب " لو " محذوف تقديره : ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم ، والمعنى ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر مما آتانا اليوم إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون ثم بين مواضعها التي توضع فيها فقال :
189
{ إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ } [التوبة : 60] قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة أي هي مختصة بهم لا تتجاوز إلى غيرهم كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم كقولك " إنما الخلافة لقريش " تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم ، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها ، وأن تصرف إلى بعضها كما هو مذهبنا ، وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزأك.
وعند الشافعي رحمه الله : لا بد من صرفها إلى الأصناف وهو المروي عن عكرمة.
ثم الفقير الذي لا يسأل لأن عنده ما يكفيه للحال والمسكين الذي يسأل لأنه لا يجد شيئاً فهو أضعف حالاً منه ، وعند الشافعي رحمه الله على العكس { وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا } [التوبة : 60] هم السعادة الذين يقبضونها { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } [التوبة : 60] على الإسلام أشراف من العرب ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتألفهم على أن يسلموا وقوم منهم أسلموا فيعطيهم تقريراً لهم على الإسلام { وَفِى الرِّقَابِ } [البقرة : 177] هم المكاتبون يعانون منها { وَالْغَـارِمِينَ } الذين ركبتهم الديون { وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 60] فقراء الغزاة أو الحجيج المنقطع بهم { وَابْنِ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] المسافر المنقطع عن ماله ، وعدل عن اللام إلى " في " في الأربعة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن " في " للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها.
وتكرير " في " في قوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
(2/115)
{ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [التوبة : 60] فيه فضل وترجيح لهذين على الرقاب والغارمين.
وإنما وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ليدل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات حاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً بأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها ، وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها وسهم المؤلفة قلوبهم سقط بإجماع الصحابة في صدر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لأن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم ، والحكم متى ثبت معقولاً لمعنى خاص يرتفع وينتهي بذهاب ذلك المعنى { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ } [النساء : 11] في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [التوبة : 60] معناه فرض الله الصدقات لهم { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بالمصلحة { حَكِيمٌ } في القسمة.
190
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } [التوبة : 61] الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ، وإيذاؤهم له هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } [التوبة : 61] قصدوا به المذمة وأنه من أهل سلامة القلوب والعزة ، ففسره الله تعالى بما هو مدح له وثناء عليه فقال { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } [التوبة : 61] كقولك " رجل صدق " تريد الجودة والصلاح كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ، ويجوز أن يريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك.
ثم فسر كونه أذن خير بأنه { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [الحاقة : 33] أي يصدق بالله لما قام عنده من الأدلة { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة : 61] ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وعدي فعل الإيمان بالباء إلى الله ، لأنه قصد به التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، وإلى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقه لكونهم صادقين عنده ، ألا ترى إلى قوله { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف : 17] (يوسف : 71) كيف ينبو عن الباء { وَرَحْمَةٌ } بالعطف على { أُذُنٌ } { وَرَحْمَةٌ } : حمزة عطف على { خَيْرٌ } أي هو أذن خير وأذن رحمة لا يسمع غيرها ولا يقبله { لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ } [التوبة : 61] أي وهو رحمة الذين آمنوا منكم أي أظهروا الإيمان أيها المنافقون حيث يقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، أو هو رحمة للمؤمنين حيث استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ويشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [التوبة : 61] في الدارين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 187
جزء : 2 رقم الصفحة : 191
{ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } [التوبة : 62] الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم فقيل لهم { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُا أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [التوبة : 62] أي إن كنتم مؤمنين كما تزعمون ، فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق.
وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسول الله
191
(2/116)
فكانا في حكم شيء واحد كقولك " إحسان زيد وإجماله رفعني " أو والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ } [التوبة : 63] أن الأمر والشأن { مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [التوبة : 63] يجاوز الحد بالخلاف وهي مفاعلة من الحد كالمشاقة من الشق { فَأَنَّ لَهُ } [طه : 74] على حذف الخبر أي فحق أن له { نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدًا فِيهَا ذَالِكَ الْخِزْىُ الْعَظِيمُ * يَحْذَرُ الْمُنَـافِقُونَ } خبر بمعنى الأمر أي ليحذر المنافقون { أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } [التوبة : 64] { تُنَزَّلَ } بالتخفيف : مكي وبصري { تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة : 64] من الكفر والنفاق ، والضمائر للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم دليله { قُلِ اسْتَهْزِءُوا } [التوبة : 64] ، أو الأولان للمؤمنين ، والثالث للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه { قُلِ اسْتَهْزِءُوا } [التوبة : 64] أمر تهديد { إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } [التوبة : 64] مظهر ما كنتم تحذرونه أي تحذرون إظهاره من نفاقكم ، وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم وفي استهزائهم بالإسلام وأهله حتى قال بعضهم : وددت أنى قدّمت فجلدت مائة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا { وَلَـاـاِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [التوبة : 65] بينا رسول الله يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات.
فأطلع الله نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا.
فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر ، أي ولئن سألتهم وقلت لهم لم قلتم ذلك؟ لقالوا : إنما كنا نخوض ونلعب
جزء : 2 رقم الصفحة : 191
{ قُلْ } يا محمد
192
{ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَـاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون ، باستهزائهم وبأنه موجود فيهم حتى وبخوا بإخطائهم موقع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد ثبوت الاستهزاء { لا تَعْتَذِرُوا } [التوبة : 66] لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُم } [التوبة : 66] قد أظهرتم كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ } [التوبة : 66] بعد إظهاركم الإيمان { إِن نَّعْفُ عَن طَآ ـاِفَةٍ مِّنكُمْ } بتوبتهم وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذِّبْ طَآ ـاِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } [التوبة : 66] مصرين على النفاق غير تائبين منه { أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } غير عاصم.
{ الْمُنَـافِقُونَ وَالْمُنَـافِقَـاتُ } [التوبة : 67] الرجال المنافقون كانوا ثلثمائة والنساء المنافقات مائة وسبعين { بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ } [التوبة : 67] أي كأنهم نفس واحدة ، وفيه نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [التوبة : 56] وتقرير لقوله { وَمَا هُم مِّنكُمْ } [التوبة : 56] ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين فقال { يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ } [التوبة : 67] بالكفر والعصيان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } [التوبة : 67] عن الطاعة والإيمان { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [التوبة : 67] شحاً بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُوا اللَّهَ } [الحشر : 19] تركوا أمره أو أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [التوبة : 67] هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف به المنافقون حين بالغ في ذمهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 191
(2/117)
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْمُنَـافِقَـاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا } [التوبة : 68] مقدرين الخلود فيها { هِىَ } أي النار { حَسْبُهُمْ } فيه دلالة على عظم عذابها وأنه بحيث لا يزاد عليه { وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ } [التوبة : 68] وأهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [المائدة : 37] دائم معهم في العاجل لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
193
الكاف في { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَـاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَـاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَـاقِهِمْ } محلها رفع أي أنتم مثل الذين من قبلكم ، أو نصب على فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم أي تلذذوا بملاذ الدنيا.
والخلاق النصيب مشتق من الخلق وهو التقدير أي ما خلق للإنسان بمعنى قدر من خير { وَخُضْتُمْ } في الباطل { كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة : 69] كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوا.
والخوض الدخول في الباطل واللهو ، وإنما قدم { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَـاقِهِمْ } [التوبة : 69] وقوله (كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مغن عنه ليذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم { أُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالاخِرَةِ } [التوبة : 69] في مقابلة قوله { وَوَهَبْنَا لَهُا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَـابَ } [العنكبوت : 27] { وَأُوالَـائِكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [التوبة : 69] ثم ذكر نبأ من قبلهم فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 191
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ } [التوبة : 70] هو بدل من { الَّذِينَ } { وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَـابِ مَدْيَنَ } [التوبة : 70] وأهل مدين وهم قوم شعيب { وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ } مدائن قوم لوط ، وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } [التوبة : 70] فما صح منه أن يظلمهم بإهلاكهم لأنه حكيم فلا يعاقبهم بغير جرم { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] بالكفر وتكذيب الرسل { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة : 71] في التناصر والتراحم
194
{ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [التوبة : 71] بالطاعة والإيمان { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } [آل عمران : 104] عن الشرك والعصيان { وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُا أُوالَـائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } [التوبة : 71] السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في " سأنتقم منك يوماً " { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَمَسَـاكِنَ طَيِّبَةً } [التوبة : 72] يطيب فيها العيش وعن الحسن رحمه الله : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد { فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ } [الصف : 12] هو علم بدليل قوله { جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ } [مريم : 61] (مريم : 16) وقد عرفت أن " الذي " و " التي " وضعا لوصف المعارف بالجمل وهي مدينة في الجنة { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ } [التوبة : 72] وشيء من رضوان الله { أَكْبَرُ } من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة { ذَالِكَ } إشارة إلى ما وعد أو إلى الرضوان { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 72] وحده دون ما يعده الناس فوزاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 191
(2/118)
{ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلَـادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَـاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَـاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَـاقِهِمْ } بالسيف { وَالْمُنَـافِقِينَ } بالحجة { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 73] في الجهادين جميعاً ولا تحابهم ، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه يجاهد بالحجة وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها
جزء : 2 رقم الصفحة : 195
{ وَمَأْوَاـاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } جهنم.
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه.
منهم الجلاس بن سويد فقال : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لأخواننا الذين خلّفناهم وهم سادتنا فنحن شر من الحمير.
فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار.
195
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزل { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } [التوبة : 74] يعني إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير ، أو هي استهزاؤهم فقال الجلاس : يا رسول الله والله لقد قلته وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ } [التوبة : 74] وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام ، وفيه دلالة على أن الإيمان والإسلام واحد لأنه قال { وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَـامِهِمْ } [التوبة : 74] { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [التوبة : 74] من قتل محمد عليه السلام أو قتل عامر لرده على الجلاس.
وقيل : أرادوا أن يتوجوا ابن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَمَا نَقَمُوا } [التوبة : 74] وما أنكروا وما عابوا { إِلا أَنْ أَغْنَـاـاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } [التوبة : 74] وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة ، فآثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُوا } [التوبة : 74] عن النفاق { يَكُ } التوب { خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] وهي الآية التي تاب عندها الجلاس { وَإِن يَتَوَلَّوْا } [التوبة : 74] يصروا على النفاق { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [التوبة : 74] بالقتل والنار
جزء : 2 رقم الصفحة : 195
{ وَمَا لَهُمْ فِى الارْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [التوبة : 74] ينجيهم من العذاب.
{ وَمِنْهُم مَّنْ عَـاهَدَ اللَّهَ } [التوبة : 75] روي أن ثعلبة بن حاطب قال : يا رسول الله ادع الله يرزقني مالاً فقال عليه السلام : " يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " فراجعه وقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالاً لأعطين كل حق حقه.
فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً
196
(2/119)
وانقطع عن الجمعة والجماعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ فقال : " يا ويح ثعلبة " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصدّقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال : ما هذه إلا جزية وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يكلماه : " يا ويح ثعلبة " مرتين ، فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال : إن الله منعني أن أقبل منك فجعل التراب على رأسه ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه { لَـاـاِنْ ءَاتَـاـنَا مِن فَضْلِهِ } [التوبة : 75] أي المال { لَنَصَّدَّقَنَّ } لنخرجن الصدقة والأصل " لنتصدقن " ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّـالِحِينَ } [التوبة : 75] بإخراج الصدقة { فَلَمَّآ ءَاتَـاـاهُم مِّن فَضْلِهِ } [التوبة : 76] أعطاهم الله المال ونالوا مناهم { بَخِلُوا بِهِ } [التوبة : 76] منعوا حق الله ولم يفوا بالعهد { وَتَوَلَّوا } عن طاعة الله { وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [آل عمران : 23] مصرون على الإعراض.
{ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ } [التوبة : 77] فأورثهم البخل نفاقاً متمكناً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه { إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [التوبة : 77] أي جزاء فعلهم وهو يوم القيامة { بِمَآ أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [التوبة : 77] بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين ، ومنه جعل خلف الوعد ثلث النفاق.
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا } [التوبة : 104] يعني المنافقين { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ } [التوبة : 78] ما أسروه من النفاق بالعزم على إخلاف ما وعدوه { وَنَجْوَاـاهُم } وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها { وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ } [التوبة : 78] فلا يخفى عليه شيء
197
{ الَّذِينَ } محله النصب أو الرفع على الذم ، أو الجر على البدل من الضمير في { سِرَّهُمْ وَنَجْوَاـاهُم } [الزخرف : 80] { يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ } [التوبة : 79] يعيبون المطوعين المتبرعين { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَـاتِ } [التوبة : 79] متعلق بـ { يَلْمِزُونَ } .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي فقال عليه السلام : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً ، وتصدق عاصم بمائة وسق من تمر { وَالَّذِينَ } عطف على { الْمُطَّوِّعِينَ } { لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ } [التوبة : 79] طاقتهم.
وعن نافع { جُهْدَهُمْ } وهما واحد.
وقيل : الجهد الطاقة والجهد المشقة وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال : بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فالله غني عنه { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } [التوبة : 79] فيهزءون { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } [التوبة : 79] جازاهم على سخريتهم وهو خبر غير دعاء { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مؤلم.
ولما سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يستغفر لأبيه في مرضه نزل { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [التوبة : 80] وقد مر أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
198
(2/120)
{ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة : 80] والسبعون جارٍ مجرى المثل في كلامهم للتكثير وليس على التحديد والغاية ، إذ لو استغفر لهم مدة حياته لن يغفر لهم لأنهم كفار والله لا يغفر لمن كفر به ، والمعنى وإن بالغت في الاستغفار فلن يغفر الله لهم.
وقد وردت الأخبار بذكر السبعين وكلها تدل على الكثرة لا على التحديد والغاية ، ووجه تخصيص السبعين من بين سائر الأعداد أن العدد قليل وكثير ، فالقليل ما دون الثلاث ، والكثير الثلاث فما فوقها ، وأدنى الكثير الثلاث وليس لأقصاه غاية.
والعدد أيضاً نوعان : شفع ووتر ، وأول الإشفاع اثنان ، وأول الأوتار ثلاثة ، والواحد ليس بعدد ، والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لأن فيها أوتاراً ثلاثة وأشفاعاً ثلاثة ، والعشرة كمال الحساب لأن ما جاوز العشرة فهو إضافة الآحاد إلى العشرة كقولك " اثنا عشر وثلاثة عشرة " إلى " عشرين " ، والعشرون تكرير العشرة مرتين ، والثلاثون تكريرها ثلاث مرات وكذلك إلى مائة ، فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه ، وكمال الحساب والكثرة منه ، فصار السبعون أدنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لأقصاه فجاز أن يكون تخصيص السبعين لهذا المعنى والله أعلم { ذَالِكَ } إشارة إلى اليأس من المغفرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة : 80] ولا غفران لكافرين { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 108] الخارجين عن الإيمان ما داموا مختارين للكفر والطغيان { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ } [التوبة : 81] المنافقون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأدن لهم وخلّفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خِلَـافَ رَسُولِ اللَّهِ } [التوبة : 81] مخالفة له وهو مفعول له ، أو حال أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { وَكَرِهُوا أَن يُجَـاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } أي لم يفعلوا ما فعله المؤمنون من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله ، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِى الْحَرِّ } [التوبة : 81] قال بعضهم لبعض أو قالوا للمؤمنين تثبيطاً { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } [التوبة : 81] استجهال لهم لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.
199
جزء : 2 رقم الصفحة : 195
{ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } [التوبة : 82] أي فيضحكون قليلاً على فرحهم بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيراً جزاء في العقبى ، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره.
أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم
جزء : 2 رقم الصفحة : 200
(2/121)
{ جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [التوبة : 82] من النفاق { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ } [التوبة : 83] أي ردك من تبوك.
وإنما قال { إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } [التوبة : 83] لأن منهم من تاب من النفاق ومنهم من هلك { فَاسْتَـاْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } إلى غزوة بدر غزوة تبوك { فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِىَ أَبَدًا } [التوبة : 83] وبسكون الياء : حمزة وعلي وأبو بكر { وَلَن تُقَـاتِلُوا مَعِىَ عَدُوًّا } [التوبة : 83] { مَعِىَ } حفص { إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [التوبة : 83] أول ما دعيتم إلى غزوة تبوك { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَـالِفِينَ } [التوبة : 83] مع من تخلف بعد.
وسأل ابن عبد الله بن أبي وكان مؤمناً أن يكفن النبي صلى الله عليه وسلّم أباه في قميصه ويصلي عليه فقبل ، فاعترض عمر رضي الله عنه في ذلك فقال عليه السلام : " ذلك لا لا ينفعه وإني أرجو أن يؤمن به ألف من قومه " فنزل { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم } [التوبة : 84] من المنافقين يعني صلاة الجنازة.
روي أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب التبرك بثوب النبي صلى الله عليه وسلّم { مَّاتَ } صفة لـ { أَحَدٍ } { أَبَدًا } ظرف لـ { تُصَلِّ } وكان عليه السلام إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فقيل : { وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَـاسِقُونَ } [التوبة : 84] تعليل للنهي أي أنهم ليسوا بأهل للصلاة عليهم لأنهم كفروا بالله ورسوله { وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـافِرُونَ } التكرير للمبالغة والتأكيد وأن يكون على بال من المخاطب لا ينساه وأن يعتقد أنه مهم ، ولأن كل آية في فرقة غير الفرقة الأخرى.
200
{ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } [التوبة : 86] يجوز أن يراد سورة بتمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه
جزء : 2 رقم الصفحة : 200
{ أَنْ ءَامِنُوا بِاللَّهِ } [التوبة : 86] بأن آمنوا أو هي " أن " المفسرة { وَجَـاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَـاْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ } ذوو الفضل والسعة { وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَـاعِدِينَ } [التوبة : 86] مع الذين لهم عذر في التخلف كالمرضى والزمنى { رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } [التوبة : 87] أي النساء جمع " خالفة " { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [التوبة : 87] ختم عليها لاختيارهم الكفر والنفاق { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } [التوبة : 87] ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الهلاك والشقاوة { لَـاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو من هو خير منهم { وَأُوالَـائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } [التوبة : 88] تناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ.
وقيل : الحور لقوله { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } [الرحمن : 70] (الرحمن : 07) { وَأُوالَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] الفائزون بكل مطلوب { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 89] قوله { أَعَدَّ } دليل على أنها مخلوقة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 200
{ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } [التوبة : 90] هو من عذّر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ، وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما فعل ولا عذر له ، أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم الذين يعتذرون بالباطل قيل : هم أسد وغطفان قالوا : إن لنا عيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [التوبة : 90] هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } [التوبة : 90] من الأعراب
201
(2/122)
{ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 104] في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ } [التوبة : 91] الهرمى والزمنى { وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } [التوبة : 91] هم الفقراء من مزينة وجهينة وبني عذرة { حَرَجٌ } إثم وضيق في التأخر { إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } بأن آمنوا في السر والعلن وأطاعوا كما يفعل الناصح بصاحبه { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [التوبة : 91] المعذورين النّاصحين { مِن سَبِيلٍ } [غافر : 11] أي لا جناح عليهم ولا طريق للعتاب عليهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ } [البقرة : 225] يغفر تخلفهم { رَّحِيمٌ } بهم { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } لتعطيهم الحمولة { قُلْتَ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } و " قد " قبله مضمرة أي إذا ما أتوك قائلاً { لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا } [التوبة : 92] هو جواب " إذا " { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } [التوبة : 92] أي تسيل كقولك " تفيض دمعاً " وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض و " من " للبيان كقولك " أفديك من رجل " ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز ، ويجوز أن يكون { قُلْتَ لا أَجِدُ } [التوبة : 92] استئنافاً كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : { قُلْتَ لا أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } [التوبة : 92] إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { حَزَنًا } مفعول له { أَلا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ } [التوبة : 92] لئلا يجدوا ما ينفقون ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبة { حَزَنًا } والمستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه ، أو البكاؤن وهم ستة نفر من الأنصار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 200
{ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ } في التخلف { يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ } [التوبة : 93] وقوله { رَضُوا } استئناف كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا
202
{ بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ } [التوبة : 87] أي بالانتظام في جملة الخوالف { إِلَيْكُمْ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 202
يقيمون لأنفسهم عذراً باطلاً { إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } [التوبة : 94] من هذه السفرة { قُل لا تَعْتَذِرُوا } [التوبة : 94] بالباطل { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } [التوبة : 94] لن نصدقكم وهو علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [التوبة : 94] علة لانتفاء تصديقهم لأنه تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } [التوبة : 94] أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ } [التوبة : 94] أي تردون إليه وهو عالم كل سر وعلانية { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] فيجازيكم على حسب ذلك.
{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ } [التوبة : 95] لتتركوهم ولا توبخوهم { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } [التوبة : 95] فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } [التوبة : 95] تعليل لترك معاتبتهم أي أن المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم لأنهم أرجاسٍ لا سبيل إلى تطهيرهم { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } ومصيرهم النار يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا عتابهم { جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [التوبة : 82] أي يجزون جزاء كسبهم { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } [التوبة : 96] أي غرضهم بالحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ } [التوبة : 96] أي فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها ، وإنما قيل ذلك لئلا يتوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 202
{ الاعْرَابُ } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } [التوبة : 97] من أهل الحضر لجفائهم
203
(2/123)
وقسوتهم وبعدهم عن العلم والعلماء { وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا } [التوبة : 97] وأحق بأن لا يعلموا { حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [التوبة : 97] يعني حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام ومنه قوله عليه السلام : " إن الجفاء والقسوة في الفدادين " يعني الأكرة لأنهم يفدون أي يصيحون في حروثهم والفديد الصياح { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بأحوالهم { حَكِيمٌ } في إمهالهم { وَمِنَ الاعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } [التوبة : 98] أي يتصدق { مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً لأنه لا ينفق إلا تقيّة من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَآ ـاِرَ } [التوبة : 98] أي دوائر الزمان وتبدل الأحوال بدور الأيام لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَآ ـاِرَةُ السَّوْءِ } [التوبة : 98] أي عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعون وقوعها في المسلمين.
{ السَّوْءِ } مكي وأبو عمرو وهو العذاب ، و { السَّوْءِ } بالفتح ذم للدائرة كقولك " رجل سوء " في مقابلة قولك " رجل صدق " { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [البقرة : 224] لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرون.
{ وَمِنَ الاعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } [التوبة : 99] في الجهاد والصدقات { قُرُبَـاتٍ } أسباباً للقبة { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] وهو مفعول ثان لـ { يَتَّخِذُ } { وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } [التوبة : 99] أي دعاءه لأنه عليه السلام كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله " اللهم صل على آل أبي أوفى " { أَلا إِنَّهَا } [التوبة : 99] أي النفقة أو صلوات الرسول
جزء : 2 رقم الصفحة : 202
{ قُرْبَةٌ لَّهُمْ } [التوبة : 99] { قُرْبَةٌ } نافع.
وهذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه ، والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ } [التوبة : 99] أي جنته وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله من المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها
204
{ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] يستر عيب المخل { رَّحِيمٌ } يقبل جهد المقل { وَالسَّـابِقُونَ } مبتدأ { الاوَّلُونَ } صفة لهم { مِنَ الْمُهَـاجِرِينَ } [التوبة : 100] تبيين لهم وهم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين شهدوا بدراً أو بيعة الرضوان { وَالانصَارِ } عطف على { الْمُهَـاجِرِينَ } أي ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَـانٍ } [التوبة : 100] من المهاجرين والأنصار فكانوا سائر الصحابة.
وقيل : هم الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة والخبر { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [المائدة : 119] بأعمالهم الحسنة { وَرَضُوا عَنْهُ } [المجادلة : 22] بما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية { وَأَعَدَّ لَهُمْ } [الأحزاب : 44] عطف على { رَّضِىَ } { جَنَّـاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَـارُ } [التوبة : 100] { مِن تَحْتِهَا } [مريم : 24] : مكي { خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
جزء : 2 رقم الصفحة : 202
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } [التوبة : 101] يعني حول بلدتكم وهي المدينة { مِّنَ الاعْرَابِ مُنَـافِقُونَ } [التوبة : 101] وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } [التوبة : 101] عطف على خبر المبتدأ الذي هو { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } والمبتدأ { مُنَـافِقُونَ } ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت " ومن أهل المدينة قوم " { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } [التوبة : 101] أي تمهروا فيه على أن مردوا صفة موصوف محذوف ، وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ ، أو صفة لـ
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
(2/124)
{ مُنَـافِقُونَ } فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره ، ودل على مهارتهم فيه بقوله { لا تَعْلَمُهُمْ } [التوبة : 101] أي يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم في تحامي ما يشككك في أمرهم.
ثم قال { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة : 101] أي لا يعلمهم إلا الله ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } [التوبة : 101] هما القتل وعذاب القبر ، أو الفضيحة وعذاب القبر ، أو أخذ الصدقات من أموالهم ونهك أبدانهم { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة : 101] أي عذاب النار.
205
{ وَءَاخَرُونَ } أي قوم آخرون سوى المذكورين { اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } [التوبة : 102] أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين وكانوا عشرة ، فسبعة منهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فدخل المسجد فصلى ركعتين ، كانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم ، ففذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يحلهم فقال : وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت ، فأطلقهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، فنزل { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة : 103] { خَلَطُوا عَمَلا صَـالِحًا } [التوبة : 102] خروجاً إلى الجهاد { وَءَاخَرَ سَيِّئًا } [التوبة : 102] تخلفاً عنه ، أو التوبة والإثم وهو من قولهم " بعت الشاء شاة ودرهما " أي شاة بدرهم ، فالواو بمعنى الباء لأن الواو للجمع والباء للإلصاق فيتناسبان ، أو المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر فكل واحد منهما مخلوط ومخلوط به كقولك " خلطت الماء واللبن " تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه بخلاف قولك " خلطت الماء باللبن " لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به.
وإذا قلته بالواو فقد جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما كأنك قلت " خلطت الماء باللبن واللبن بالماء "
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{ عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ولم يذكر توبتهم لأنه ذكر اعترافهم بذنوبهم وهو دليل على التوبة { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة : 103] كفارة لذنوبهم.
وقيل : هي الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ } عن الذنوب وهو صفة لـ { صَدَقَةً } والتاء للخطاب أو لغيبة المؤنث.
والتاء في { وَتُزَكِّيهِم } للخطاب لا محالة { بِهَا } بالصدقة والتزكية مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 103] واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخدها { إِنَّ صَلَواتَكَ } [التوبة : 103] كوفي غير أبي بكر.
قيل : الصلاة أكثر من الصلوات لأنها للجنس { صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } [التوبة : 103]
206
يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [البقرة : 224] لدعائك أو سميع لاعترافهم بذنوبهم ودعائهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم.
{ أَلَمْ يَعْلَمُوا } [التوبة : 104] المراد المتوب عليهم أي ألم يعلموا قيل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة : 104] إذا صحت { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَـاتِ } [التوبة : 104] ويقبلها إذا صدرت على خلوص النية وهو للتخصيص أي إن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليها { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } [التوبة : 104] كثير قبول التوبة { الرَّحِيمُ } يعفو الحوبة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
(2/125)
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة : 105] أي فإن عملكم لا يخفى ـ خيراً كان أو شراً ـ على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم ، أو غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد روي أنه لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت.
وقوله تعالى { فَسَيَرَى اللَّهُ } [التوبة : 105].
وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة { وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَـالِمِ الْغَيْبِ } [التوبة : 105] ما يغيب عن الناس { وَالشَّهَـادَةِ } ما يشاهدونه { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] تنبئة تذكير ومجازاة عليه { وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لامْرِ اللَّهِ } [التوبة : 106] بغير همز : مدني وكوفي غير أبي بكر.
غيرهم من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ، ومنه المرجئة أي وآخرون من المتخلفين موقوفون إلى أن يظهر أمر الله فيهم { اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } [التوبة : 106] إن أصروا ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 106] إن تابوا وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ومرارة
207
بن الربيع ، تخلفوا عن غزوة تبوك وهم الذين ذكروا في قوله : { وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } [التوبة : 118] { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] برجائهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم ، وإما للشك وهو راجع إلى العباد أي خافوا عليهم العذاب وارجو لهم الرحمة.
وروي أنه عليه السلام أمر أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل ذلك الفريق من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أحداً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله.
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا } [التوبة : 107] تقديره : ومنهم الذين اتخذوا.
{ الَّذِينَ } بغير واو.
مدني وشامي ، وهو مبتدأ خبره محذوف أي جازيناهم.
روي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم ، فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم ـ بنو غنم بن عوف ـ وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام وهو الذي قال لرسول الله عليه السلام يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه فقال : " إني على جناح سفر وإذا قدمنا من تبوك إن شاء الله صلينا فيه " .
فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فقال لوحشي ـ حمزة ـ ومعن بن عدي وغيرهما : " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه " ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{ ضِرَارًا } مفعول له وكذا ما بعد أي مضارة
208
(2/126)
لإخوانهم أصحاب مسجد قباء { وَكُفْرًا } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة : 107] لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا لِّمَنْ } [التوبة : 107] وإعداداً لأجل من { حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } [التوبة : 107] وهو الراهب أعدوه له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله ، أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] متعلق بـ { حَارَبَ } أي من قبل بناء هذا المسجد يعني يوم الخندق { وَلَيَحْلِفُنَّ } كاذبين { إِنْ أَرَدْنَآ إِلا الْحُسْنَى } [التوبة : 107] ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [التوبة : 107] في حلفهم { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } [التوبة : 108] للصلاة { لَّمَسْجِدٌ أُسِّـاسَ عَلَى التَّقْوَى } [التوبة : 108] اللام للابتداء و { أَسَّـاسَ } نعت له وهو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى فيه أيام مقامه بقباء أو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [التوبة : 108] من أيام وجوده.
قيل : القياس فيه منذ لأنه لابتداء الغاية في الزمان ، و " من " لابتداء الغاية في المكان ، والجواب إن من عام في الزمان والمكان { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } [التوبة : 108] مصلياً { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة : 108] قيل : لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه المهاجرون حتى وقفوا على باب مسجد قباء ، فإذا لأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم.
ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم ، فقال عليه السلام : " أترضون بالقضاء " ؟ قالوا : نعم.
قال : " أتصبرون على البلاء " ؟ قالوا : نعم.
قال : " أتشكرون في الرخاء " ؟ قالوا : نعم.
قال عليه السلام : " مؤمنون أنتم ورب الكعبة " .
فجلس ثم قال : " يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط " ؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي عليه السلام : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا } [التوبة : 108].
قيل : هو عام في التطهر عن النجاسات كلها.
وقيل : هو التطهر من الذنوب بالتوبة.
209
ومعنى محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب للشيء ، ومعنى محبة الله إياهم أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 205
{ أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ } [التوبة : 109] وضع أساس ما يبنيه { أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } هذا سؤال تقرير وجوابه مسكوت عنه لوضوحه ، والمعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي تقوى الله ورضوانه ، خير أم من أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق الذي مثله شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى.
والشفا : الحرف والشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً ، والهار الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط ، ووزنه فعل قصر عن فاعل كخلف من خالف ، وألفه ليس فاعل إنما هي عينه وأصله " هور " فقلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل وكنه أمره
جزء : 2 رقم الصفحة : 210
(2/127)
{ أَفَمَنْ أَسَّـاسَ بُنْيَـانَهُ } [التوبة : 109] شامي ونافع { جُرُفٍ } شامي وحمزة ويحيى بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ويحيى { هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } [التوبة : 109] فطاح به الباطل في نار جهنم.
ولما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أن المبطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها.
قال جابر : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] لا يوفقهم للخير عقوبة لهم على نفاقهم { لا يَزَالُ بُنْيَـانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } [التوبة : 110] لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم { إِلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } [التوبة : 110] شامي وحمزة وحفص أي تتقطع.
غيرهم { تَقَطَّعَ } أي إلا أن تقطع قلوبهم
210
قطعاً وتفر أجزاء فحينئذ يسلون عنه ، وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، ثم يجوز أن يكون ذكر التقطع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار ، أو معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بعزائمهم { حَكِيمٌ } في جزاء جرائمهم.
{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة : 111] مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء.
وروي : تاجرهم ، فأغلى لهم الثمن.
وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها.
ومر برسول الله صلى الله عليه وسلّم أعرابي وهو يقرؤها فقال : بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد { يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [المزمل : 20] بيان محل التسليم { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [التوبة : 111] أي تارة يقتلون العدو وطوراً يقتلهم العدو.
{ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [التوبة : 111] حمزة وعلي { وَعْدًا عَلَيْهِ } [التوبة : 111] مصدر أي وعدهم بذلك وعداً { حَقًّا } صفته ، أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ وَالْقُرْءَانِ } [التوبة : 111] وهو دليل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه.
ثم قال { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [التوبة : 111] لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكريم منا فكيف بأكرم الأكرمين ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ } [التوبة : 111] فافرحوا غاية الفرح فإنكم تبيعون فانياً بباقٍ { وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 111] قال الصادق : ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 210
{ التَّـائِبُونَ } رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين ، أو هو مبتدأ خبره { الْعَـابِدُونَ } أي الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة ، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال.
وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرءوا من النفاق { الْحَـامِدُونَ }
211
(2/128)
على نعمة الإسلام { السَّـائحُونَ } الصائمون لقوله عليه السلام " سياحة أمتي الصيام " ، أو طلبة العلم لأنهم يسيحيون في الأرض يطلبونه في مظانه ، أو السائرون في الأرض للاعتبار { الراَّكِعُونَ السَّـاجِدُونَ } [التوبة : 112] المحافظون على الصلوات { الامِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [التوبة : 112] بالإيمان والطاعة { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ } [التوبة : 112] عن الشرك والمعاصي ودخلت الواو للإشعار بأن السبعة عقد تام ، أو للتضاد بين الأمر والنهي كما في قوله : { ثَيِّبَـاتٍ وَأَبْكَارًا } [التحريم : 5] (التحريم : 5) { وَالْحَـافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } [التوبة : 112] أوامره ونواهيه ، أو معالم الشرع { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] المتصفين بهذه الصفات.
وهمّ عليه السلام أن يستغفر لأبي طالب فنزل { مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ } أي ما صح له الاستعفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ } [التوبة : 113] من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا على الشرك ، ثم ذكر عذر إبراهيم فقال { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [التوبة : 114] أي وعد أبوه إياه أن يسلم أو هو وعد أباه أن يستغفر وهو قوله { لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [الممتحنة : 4] (الممتحنة : 4) دليله قراءة الحسن { وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } ومعنى استغفاره سؤاله المغفرة له بعد ما أسلم أو سؤاله إعطاء الإسلام الذي به يغفر له { فَلَمَّا تَبَيَّنَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 210
التوبة : 114] من جهة الوحي { لَهُ } لإبرهيم { إِنَّهُ } أن أباه { عَدُوٌّ لِّلَّهِ } [التوبة : 114] بأن يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه { تَبَرَّأَ مِنْهُ } [التوبة : 114] وقطع استغفاره { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ } هو المتأوه شفقاً وفرقاً ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته كان يتعطف على أبيه الكافر { غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 225] هو الصبور على البلاء الصفوح عن الأذى ، لأنه كان يستغفر لأبيه وهو يقول لأرجمنك
212
{ يَتَّقُونَ } أي ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور ، لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يخذلهم إلا إذا قدموا عليه بعد بيان حظره وعلمهم بأنه واجب الإمتثال ، وأما قبل العلم والبيان فلا ، وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين ، والمراد بـ { مَّا يَتَّقُونَ } [التوبة : 115] ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل فغير موقوف على التوقيف { أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 231].
جزء : 2 رقم الصفحة : 210
جزء : 2 رقم الصفحة : 213
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107].
{ لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ } [التوبة : 117] أي تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه كقوله { عَفَا اللَّهُ عَنكَ } [التوبة : 43] (التوبة : 34) { وَالْمُهَـاجِرِينَ وَالانصَارِ } [التوبة : 117] فيه بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي صلى الله عليه وسلّم والمهاجرين والأنصار { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } [التوبة : 117] في غزوة تبوك ومعناه في وقتها.
والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق وكانوا في عسرة من الظهر يتعاقب العشرة على بعير واحد ، ومن الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدة حتى اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، ومن الماء حتى نحروا الإبل وعصروا كرشها وشربوه ، وفي شدة زمان من حارّة القيظ ومن الجدب والقحط
213
(2/129)
{ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } [التوبة : 117] عن الثبات على الإيمان أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه.
وفي { كَادَ } ضمير الشأن والجملة بعده في موضع النصب وهو كقولهم " ليس خلق الله مثله " أي ليس الشأن خلق الله مثله { يَزِيغُ } حمزة وحفص { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 117] تكرير للتوكيد { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَـاثَةِ } أي وتاب على الثلاثة وهم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، وهو عطف على { النَّبِىُّ } { الَّذِينَ خُلِّفُوا } [التوبة : 118] عن الغزو { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 118] برحبها أي مع سعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرون فيه قلقاً وجزعاً { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } [التوبة : 118] أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور لأنها حرجت من فرط الوحشة والغم { وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ } [التوبة : 118] وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 117] بعد خمسين يوماً { لِيَتُوبُوا } ليكونوا من جملة التوابين { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [التوبة : 118] عن أبي بكر الوراق أنه قال : التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 213
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّـادِقِينَ } في إيمانهم دون المنافقين ، أو مع الذين لم يتخلفوا ، أو مع الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً.
والآية تدل على أن الاجماع حجة لأنه أمر بالكون مع الصادقين فلزم قبول قولهم { مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الاعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ } [التوبة : 120] المراد بهذا النفي النهي وخص هؤلاء بالذكر وإن استوى كل الناس في ذلك ،
214
لقربهم منه ولا يخفى عليه خروجه { وَلا يَرْغَبُوا } [التوبة : 120] ولا أن يضنوا { بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } [التوبة : 120] عما يصيب نفسه أي لا يختاروا إبقاء أنفسهم على نفسه في الشدائد بل أمروا بأن يصحبوه في البأساء والضراء ويلقوا أنفسهم بين يديه في كل شدة { ذَالِكَ } النهي عن التخلف { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } [التوبة : 120] عطش { وَلا نَصَبٌ } [التوبة : 120] تعب { وَلا مَخْمَصَةٌ } [التوبة : 120] مجاعة { فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 38] في الجهاد { مَا كَانَ } ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم { يَغِيظُ الْكُفَّارَ } [التوبة : 120] يغضبهم ويضيق صدورهم { وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا } [التوبة : 120] ولا يصيبون منهم إصابة بقتل أو أسر أو جرح أو كسر أو هزيمة { إِلا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَـالِحٌ } [التوبة : 120] عن ابن عباس رضي الله عنهما : لكل روعة سبعون ألف حسنة.
يقال : نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوؤهم.
وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم ، وقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلّم لا بني عامر وقد قدما بعد تقضي الحرب.
والموطىء إما مصدر كالمورد ، وإما مكان.
فإن كان مكاناً فمعنى
جزء : 2 رقم الصفحة : 213
(2/130)
{ يَغِيظُ الْكُفَّارَ } [التوبة : 120] يغيظهم وطؤه { إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [التوبة : 120] أي أنهم محسنون والله لا يبطل ثوابهم { وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً } [التوبة : 121] في سبيل الله { صَغِيرَةً } ولو تمرة { وَلا كَبِيرَةً } [الكهف : 49] مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا } [التوبة : 121] أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهو كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل فاعل من " ودى " إذا سال ومنه الودي ، وقد شاع في الاستعمال بمعنى الأرض { إِلا كُتِبَ لَهُم } [التوبة : 120] من الإنفاق وقطع الوادي { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ } [النور : 38] متعلق بـ { كَتَبَ } أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء { أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة : 121] أي يجزيهم على كل واحد جزاء أحسن عمل كان لهم فيلحق ما دونه به توفيراً لأجرهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 213
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّةً } [التوبة : 122] اللام لتأكيد النفي أي أن نفير
215
الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح للإفضاء إلى المفسدة { فَلَوْلا نَفَرَ } [التوبة : 122] فحين لم يكن نفير الكافة فهلا نفر { مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } [التوبة : 122] أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ } [التوبة : 122] ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا المشاق في تحصيلها { وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ } [التوبة : 122] وليجعلوا مرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم { إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ } [التوبة : 122] دون الأغراض الخسيسة من التصدر والترؤس والتشبه بالظلمة في المراكب والملابس { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [التوبة : 122] ما يجب اجتنابه.
وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا بعث بعثاً بعد غزوة تبوك بعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن التفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ، ويبقى سائرهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، إذ الجهاد بالحجاج أعظم أثراً من الجهاد بالنصال.
والضمير في { لِّيَتَفَقَّهُوا } للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ } [التوبة : 122] ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيام غيبتهم من العلوم.
وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه { يَحْذَرُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَـاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم } يقربون منكم { مِّنَ الْكُفَّارِ } [التوبة : 123].
القتال واجب مع جميع الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب.
وقد حارب النبي صلى الله عليه وسلّم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [التوبة : 123] شدة وعنفاً في المقال قبل القتال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 194] بالنصرة والغلبة.
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } [التوبة : 124] " ما " صلة مؤكدة { فَمِنْهُم } فمن المنافقين { مَّن يَقُولُ } [العنكبوت : 10] بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِهِ } [التوبة : 124] السورة { إِيمَـانًا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين و { أَيُّكُمْ } مرفوع بالابتداء وقيل : هو قول المؤمنين للحث والتنبيه { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَـانًا } [التوبة : 124] يقيناً وثباتاً أو خشية أ و إيماناً بالسورة لأنهم لم يكونوا
216
آمنوا بها تفصيلاً { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [التوبة : 124] يعدون زيادة التكليف بشارة التشريف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 213
(2/131)
{ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [التوبة : 125] شك ونفاق فهو فساد يحتاج إلى علاج كالفساد في البدن { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة : 125] كفراً مضموماً إلى كفرهم { وَمَاتُوا وَهُمْ كَـافِرُونَ } [التوبة : 125] هو إخبار عن إصرارهم عليه إلى الموت { أَوَلا يَرَوْنَ } يعني المنافقين وبالتاء : حمزة خطاب للمؤمنين { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } [التوبة : 126] يبتلون بالقحط والمرض وغيرهما { فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ } [التوبة : 126] عن نفاقهم { وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } [التوبة : 126] لا يعتبرون.
أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يتوبون بما يرون من دولة الإسلام ، ولا هم يذكرون بما يقع بهم من الاستسلام { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاـاكُم مِّنْ أَحَدٍ } [التوبة : 127] من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم ، أو إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين أشار بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد إن قمتم من حضرته عليه السلام { ثُمَّ انصَرَفُوا } [التوبة : 127] عن حضرة النبي عليه السلام مخافة الفضيحة { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم } [التوبة : 127] عن فهم القرآن { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } [الانفال : 65] لا يتدبرون حتى يفقهوا { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } [التوبة : 128] محمد عليه السلام { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [الروم : 21] من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه شاق ـ لكونه بعضاً منكم ـ عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم الوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُم } [التوبة : 128] على إيمانكم { بِالْمُؤْمِنِينَ } منكم ومن غيركم
217
{ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 117] قيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلّم { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك { فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ } [التوبة : 129] فاستعن بالله وفوض إليه أمورك فهو كافيك معرتهم وناصرك عليهم { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [التوبة : 129] فوضت أمري إليه { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ } [التوبة : 129] هو أعظم ، خلق الله مطافاً لأهل السماء وقبلة للدعاء { الْعَظِيمُ } بالجر وقرىء بالرفع على نعت الرب جل وعز.
عن أبيّ : آخر آية نزلت { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة : 128] الآية.
218
سورة يونس
عليه السلام مائة وتسع آيات مكية
(وكذا ما بعدها إلى سورة النور)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{ الار } ونحوه ممال حمزة وعلي وأبو عمرو وهو تعديد للحروف على طريق التحدي { تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ } [يونس : 1] إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة { الْحَكِيمِ } ذي الحكمة لاشتماله عليها أن المحكم عن الكذب والافتراء والهمزة في { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } [يونس : 2] لأنكار التعجب والتعجب منه { أَنْ أَوْحَيْنَآ } [يونس : 2] اسم كان وعجباً خبره واللام في للناس متعلق بمحذوف هو صفة لعجباً فلما تقدم صار حالاً { إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ } [يونس : 2] بأن أنذر أو هي مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول { وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ } [يونس : 2] بأن لهم ومعنى اللام في للناس أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منه والذي تعجبوا منه أن يوحي إلى بشر وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم فقد كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب وأن يذكر لهم العبث وينذر بالنيران ويبشر بالجنان وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب لأن الرسل المبعوثين
219(2/132)
إلى الأمم لم يكونوا إلابشراً مثلهم وإرسال اليتيم أو الفقير ليس بعجب أيضاً لأن الله تعالى إنما يختار للنبوة من جمع أسبابها والغنى والتقدم في الدنيا ليس من أسبابها والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجباً إنما العجب والنكر في العقول تعطيل الجزاء { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس : 2] أي سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة ولما كان السعي ولالسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان قدم في الخبر وإضافتها إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة أو مقام صدق أو سبق السعادة { قَالَ الْكَـافِرُونَ إِنَّ هَـاذَا } [يونس : 2] الكتاب لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ مدني وبصري وشامي.
ومن قرأ لساحر فهذه إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً
جزء : 2 رقم الصفحة : 219
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف : 54] أي استولى فقد يقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود { يُدَبِّرُ } يقضي ويقدر على مقتضى المحكمة { الامْرَ } أي أمر الخلق كله وأمر ملكوت السماوات والأرض والعرش.
ولما ذكر ما يدل على عظمته وملكه من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة عل العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور عن قضائه وتقديره وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس : 3] دليل على عزته وكبريائه { ذَالِكُمُ } العظيم الموصوف بما وصف به { اللَّهُ رَبُّكُمُ } [يونس : 32] وهو الذي يستحق العبادة { فَاعْبُدُوهُ } وحدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من إنسان أو ملك فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] أفلا تتدبرون فتستدلون بوجوب المصالح والمنافع على وجود المصلح النافع { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [يونس : 4] حال أي لا ترجعون لي العاقبة إلا إليه فاستعدوا
220
للقائه والمرجع الرجوع أو مكان الرجوع { وَعْدَ اللَّهِ } [النور : 55] مصدر مؤكد لقوله إليه مرجعكم { حَقًّا } مصدر مؤكد لقوله : وعد الله { إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس : 4] استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ } [يونس : 4] أي الحكمة بإبداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم { بِالْقِسْطِ } بالعدل وهو متعلق بيجزي أي ليجزيهم يقسطه ويوفيهم أجورهم أو بقسطهم أي بما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا إذ الشرك ظلم { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] وهذا أوجه لمقابلة قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 4] ولوجه كلامي
جزء : 2 رقم الصفحة : 220
{ هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً } [يونس : 5] الياء فيه منقلبة عن واو ضواء لكسرة ما قبلها وقلبها قنبل همزة لأنها للحركة أجمل { وَالْقَمَرَ نُورًا } [يونس : 5] والضياء أقوى من النور فلذا جعله للشمس { وَقَدَّرَهُ } وقدر القمر أي وقدر مسيره { مَنَازِلَ } أو وقدره ذا منازل كقوله والقمر قدرناه منازل من
{ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ } [يونس : 5] أي عدد السنين والشهور فاكتفى بالسنين لاشتمالها على الشهور { وَالْحِسَابَ } وحساب الآجال والمواقيت المقدرة بالسنين والشهور { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَالِكَ } [يونس : 5] المذكور ملتبساً { ءَادَمَ بِالْحَقِّ } [المائدة : 27] الذي هو الحكمة البالغة لم يخلقه عبثاً { يُفَصِّلُ الايَـاتِ } [الرعد : 2] مكي وبصري وحفص وبالنون غيرهم { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] فينتفعون بالتأمل فيها { إِنَّ فِى اخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [يونس : 6] في مجيء كل واحد منهما خلف الآخر أو في اختلاف لونيهما { وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يونس : 6] من الخلائف { لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس : 6] خصهم بالذكر لأنهم يحذرون الآخر فيدعوهم الحذر إلى النظر
221
(2/133)
جزء : 2 رقم الصفحة : 221
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [يونس : 7] لا يتوقعونه أصلاً ولا يخطرونه ببالهم لغفلهم عن التفطن للحقائق أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [يونس : 7] من الآخرة وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي { وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } [يونس : 7] وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها فبنوا شديداً وأملوا بعيداً { وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَـاتِنَا غَـافِلُونَ } [يونس : 7] لا يتفكرون فيها ولا وقف عليه لأن خبر إن { أؤلئك مَأْوَاـاهُمُ النَّارُ } [يونس : 8] فأولئك مبتدأ ومأواهم مبتدأ ثان والنار خبره والجملة خبر أولئك والباء في { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام : 129] يتعلق بمحذوف دل عليه الكلام وهو جوزوا { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَـانِهِمْ } [يونس : 9] يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق السديد المؤدي إلى الثواب ولذا جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ } [يونس : 9] بياناً له وتفسيراً إذ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها أو يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ومنه الحديث " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له : أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " وهذا دليل على أن الإيمان المجرد منج حيث قال : بإيمانهم ولم يضم إليه العمل الصالح { فِي جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [يونس : 9] متعلق بتجري أو حال من الأنهار { دَعْوَاـاهُمْ فِيهَا سُبْحَـاـنَكَ اللَّهُمَّ } [يونس : 10] أي دعاؤهم لأن اللهم نداء لله ومعناه : اللهم إنا نسبحك أي يدعون الله بقولهم سبحانك اللهم تلذذا بذكره لا عبادة { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } [يونس : 10] أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام أو هي تحية الملائكة إياهم وأضيف
222
المصدر إلى المفعول أو تحية الله لهم { وَءَاخِرُ دَعْوَاـاهُمْ } [يونس : 10] وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [يونس : 10] أن يقولوا الحمد الله رب العالمين أن مخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لله رب العالمين والضمير للشأن قيل أو كلامهم التسبيح وآخره التحميد فيبتدئون بتنظيم الله وتنزيهه ويختمون بالشكر والثناء عليه ويتكلمون بينهما بما أرادوا
جزء : 2 رقم الصفحة : 222(2/134)
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ } [يونس : 11] أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم والمراد أهل مكة وقولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [الانفال : 32] أي ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [يونس : 11] لأميتوا وأهلكوا.
لقضى إليهم أجلهم شامي على البناء للفاعل وهو الله عز وجل { فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَـانِهِمْ } [يونس : 11] شركهم وضلالهم { يَعْمَهُونَ } يترددون ووجه اتصاله بما قبله أن قوله ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم في طغيانهم أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاماً للحجة عليهم { وَإِذَا مَسَّ الانسَـانَ } [الزمر : 8] أصابه والمراد به الكافر { الضُّرُّ دَعَانَا } [يونس : 12] أي دعا الله لإزالته { لِجَنابِهِ } في موضع الحال بدليل عطف الحالين أي { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا } [يونس : 12] عليه أي دعانا مضطجعاً وفائدة ذكر هذه الأحوال أن معناه أن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى تزول عنه الضر فهو يدعونا في حالاته كلها سواء كان مضطجعاً عاجزاً عن النهوض أو قاعداً لا يقدر على القيام أو قائماً لا يطيق المشي { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } [يونس : 12] أزلنا ما به { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } [يونس : 12] أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسى حال الجهد أو مر عن موقف الابتهال
223
والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به والأصل كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن { كَذَالِكَ } مثل ذلك التزيين { زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } [يونس : 12] للمجاوزين الحد في الكفر زين الشيطان بوسوسته { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المائدة : 62] من الإعراض عن الذكر واتباع الكفر
جزء : 2 رقم الصفحة : 223
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ } [يونس : 13] يا أهل مكة { لَمَّا ظَلَمُوا } [يونس : 13] أشركوا وهو ظرف لأهلكنا والواو في { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } [الروم : 9] للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم { بِالْبَيِّنَـاتِ } بالمعجزات { وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } [يونس : 13] إن بقوا ولم يهلكوا لأن الله علم منهم أنهم يصرون على كفرهم وهو عطف على ظلموا أو اعتراض واللام لتأكيد النفي يعني أن السبب في إِهلاكهم تكذيبهم للرسل وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل { كَذَالِكَ } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [يونس : 13] وهو عيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم { ثُمَّ جَعَلْنَـاكُمْ خلائف فِى الارْضِ مِن بَعْدِهِمْ } [يونس : 14] الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلّم أي استخلفنا كم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [يونس : 14] أي لننظر أتعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم وكيف في محل النصب بتعملون لا بننظر لأن معنى الاستفهام فيه يمنع أن يتقدم عليه عامله والمعنى أنتم بمنظر منا فانظروا كيف تعلمون أبالاعتبار بماضيكم أم الاغترار بما فيكم؟ قال عليه السلام : " الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون " { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 224
يونس : 15] حال { قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ } لما غاظهم ما في القرآن من ذم عبارة الأوثان والوعيد لأهل الطغيان { لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـاذَآ } [يونس : 15] ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدِّلْهُ } [يونس : 15] بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنه داخل تحت
224(2/135)
قدرة الإنسان وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة وأن يسقط ذكر الآلهة بقوله : { قُلْ مَا يَكُونُ لِى } [يونس : 15] ما يحل لي { أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآى ِ نَفْسِى } [يونس : 15] من قبل نفسي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ } [الأنعام : 50] لا أتبع إلا وحي الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تبديل لأن الذي أتيت به من عند الله لا من عندي فأبدله { إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى } [الأنعام : 15] بالتبديل من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأنعام : 15] أي يوم القيامة وأما الإتيان بقرآن آخر فلا يقدر عليه الإنسان وقد ظهر لهم العجز عنه إلا أنهم كانو لا يعترفون بالعجز ويقولون { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَآ } [الانفال : 31] ولا يحتمل أن يريدوا بقوله أئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم وغرضهم في هذا الاقتراح الكيد أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله فأبدل مكانه آخر وأما اقتراح التبديل فلاختبار الحال وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجوا منه أولا يهلكه فيسخروا منه فيجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لإفترائه على الله
جزء : 2 رقم الصفحة : 224
{ قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } [يونس : 16] يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإظهاره أمراً عجيباً خارجاً عن العادات وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يشاهد العلماء فيقرأ عليكم كتاباً فصيحاً يغلب كل كلام فصيح ويعلو على كل منثور ومنظوم مشحوناً بعلوم الأصول والفروع والإخبار عن الغيوب التي لا يعلمها إلا الله { وَلا أَدْرَاـاكُم بِهِ } [يونس : 16] ولا أعلمكم الله بالقرآن على لساني { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ } [يونس : 16] من قبل نزول القرآن أي فقد أقمت فيما بينكم أربعين سنة ولم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ولا كنت موصوفاً بعلم وبيان فتتهموني بإختراعه { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] فتعلموا أنه ليس إلا من عند الله لا من مثلي وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم أئت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام : 144] يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في أنه ذو شريك وذو ولد وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء
225
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ } [الأنعام : 21] بالقرآن فيه بيان أن الكاذب على الله والمكذب بآياته في الكفر سواء { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 225
(2/136)
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ } إن تركوا عبادتها { وَلا يَنفَعُهُمْ } [البقرة : 102] إن عبدوها { وَيَقُولُونَ هؤلاء } [يونس : 18] أي الأصنام { شُفَعَـاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [يونس : 18] أي في أمر الدنيا ومعيشتها لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت أو يوم القيامة أن يكن بعث ونشور { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ } [يونس : 18] أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو أنباء بما ليس بمعلوم لله وإذا لم يكن معلوماً له وهو عالم بجميع المعلومات لم يكن شيئاً وقوله { فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ } [يونس : 18] تأكيد لنفيه لأن ما لم يوجد فيها فهو معدوم { سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس : 18] نزَّه ذاته عن أن يكون له شريك وبالتاء حمزة وعلي ما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذي يشركونهم به أو عن إشراكهم { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً } [يونس : 19] حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { فَاخْتَلَفُوا } فصاروا مللاً { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } [يونس : 19] وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 19]عاجلاً { فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [يونس : 19] فيما اختلفوا فيه وليميز المحق من المبطل وسبق كلمته لحكمة وهي أن هذه الدار دار تكليف وتلك الدار دار ثواب وعقاب { وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [يونس : 20] أي آية من الآيات التي اقترحوها { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ } [يونس : 20] أي هو المختص بعلم الغيب فهو العالم بالمصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير { فَانتَظِرُوا } نزول ما اقترحتموه { إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات
226
جزء : 2 رقم الصفحة : 226
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ } [الروم : 36] أهل مكة { رَحْمَةً } خصباً وسعة { مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ } [يونس : 21] يعني القحط والجوع { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن } [يونس : 21] أي مكروا بآياتنا بدفعها وإنكارها.
روى أنه تعالى سلط القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحياة فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويكيدونه فإذا الأولى للشرط والثانية جوابها وهي للمفاجأة وهو كقوله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم : 36] أي وإن تصبهم سيئة قنطوا وإذا أذقنا الناس رحمة مكروا والمكر إخفاء الكيد وطيه من الجارية الممكورة المطوية الخلق ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإنما قال : { قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } [يونس : 21] ولم يصفهم بسرعة المكر لأن كلمة المفاجأة دلت على ذلك كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء { إِنَّ رُسُلَنَا } [يونس : 21] يعني الحفظة { يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } [يونس : 21] إعلام بأن ما تظنونه خافياً لا يخفى على الله وهو منتقم منكم وبالياء سهل { هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [يونس : 22] يجعلكم قادرين على قطع المسافات بالأرجل والدواب والفلك الجارية في البحار أو يخلق فيكم السير ينشرُكم شامي
جزء : 2 رقم الصفحة : 227
{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ } [يونس : 22] أي السفن { وَجَرَيْنَ } أي السفن { بِهِم } بمن فيها رجوع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة { بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس : 22] لينة الهبوب لا عاصفة ولا ضعيفة { وَفَرِحُوا بِهَا } [يونس : 22] بتلك الريح للينها واستقامتها { جَآءَتْهَا } أي الفلك أو الريح الطيبة أي تلقتها { رِيحٌ عَاصِفٌ } [يونس : 22] ذات عصف أي شديدة الهبوب { وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ } [يونس : 22] هو ماعلى على الماء { مِن كُلِّ مَكَانٍ } [النحل : 112] من البحر أو من جميع أمكنة الموج
227
(2/137)
{ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } [يونس : 22] أهلكوا جعل إحاطة العدو بالحي مثلاً في الإهلاك { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [يونس : 22] من غير إشراك به لأنهم لا يدعونه حينئذ معه غيره يقولون : { لَـاـاِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ } [يونس : 22] الأهوال أو من هذه الريح { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ } [الأنعام : 63] لنعمتك مؤمنين بك متمسكين بطاعتك ولم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالإنجاء وجواب إذا جاءتها ودعوا بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم للهلاك فهو ملتبس به
جزء : 2 رقم الصفحة : 227
{ فَلَمَّآ أَنجَـاـاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } [يونس : 23] يفسدون فيها { بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الشورى : 42] باطلاً أي مبطلين { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } [يونس : 23] أي ظلمكم يرجع إليكم كقوله { مَّنْ عَمِلَ صَـالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [فصلت : 46] { مَتَـاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [القصص : 61] حفص أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر لبغيكم.
غيره بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته كقوله فبغى عليهم ومعناه إنما بغيكم على أمثالكم أو هو خبر ومتاع خبر بعد خبر أو متاع خبر مبتدأ مضمر أي هو متاع الحياة الدنيا وفي الحديث " أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة " وروى " ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين " وعن ابن عباس رضي الله عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغين وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث المكر.
قال الله تعالى :
228
{ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم } [يونس : 23] { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [فاطر : 43] { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [الأنعام : 87-10] { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 228
يونس : 23] فنخبركم به ونجازيكم عليه { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ } [يونس : 24] من السحاب { فَاخْتَلَطَ بِهِ } [الكهف : 45] بالماء { نَبَاتُ الارْضِ } [الكهف : 45] أي فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ } [يونس : 24] يعني الحبوبِ والثمار والبقول { وَالانْعَـامُ } يعني الحشيش { حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الارْضُ زُخْرُفَهَا } [يونس : 24] زينتها بالنبات واختلاف ألوانه { وَازَّيَّنَتْ } وتزينت به وهو أصله فأدغمت التاء في الزاي وهو كلام فصيح جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينب بغيرها من ألوان الزين { وَظَنَّ أَهْلُهَآ } [يونس : 24] أهل الأرض { أَنَّهُمْ قَـادِرُونَ عَلَيْهَآ } [يونس : 24] متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها { أَتَـاـاهَآ أَمْرُنَا } [يونس : 24] عذابنا وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَـاهَا } [يونس : 24] فجعلنا زرعاً { حَصِيدًا } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } [يونس : 24] كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث حذف المضاف في هذه المواضع لا بد منه ليستقيم المعنى { بِالامْسِ } هو مثل في الوقت القريب كأنه قيل كأن لم تغن آنفاً { كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس : 24] فينتفعون بضرب الأمثال وهذا من التشبه المركب شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه والتنبيه على حكمة التشبيه أن الحياة صفوها شبيبتها وكدرها شيبتها كما أن صفو الماء في أعلى الإناء قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 228
ألم تر أن العمر كأس سلافة
فأوله صفو وآخره كدْر
229
(2/138)
وحقيقته تزيين جثة الطين بمصالح الدنيا والدين كاختلاط النبات على اختلاف التلوين فالطينة الطيبة تنبت بساتين الأنس ورياحين الروح وزهرة الزهد وكروم الكرم وحبوب الحب وحدائق الحقيقة وشقائق الطريقة والخبيثة تخرج خلاف الخلف وثمام الإثم وشوك الشرك وشيح الشح وحطب العطب ولعاع اللعب ثم يدعوه معاده كما يحين للحرث حصاده فتزايله الحياة مغتراً كما يهيج النبات مصفراً فتغيب جثة في الرمس كأن لم تغن بالأمس إلى أن يعود ربيع البعث وموعد العرض والبحث ، وكذلك حال الدنيا كالماء ينفع قليله ويهلك كثيره ولا بد من ترك ما زاد كما لا بد من أخذ الزاد وآخذ المال لا يصيفو من زلة ، كما أن خائض الماء لا ينجو من بلة وجمعه وإمساكه تلف صاحبه وإهلاكه فما دون النصاب كضحضاح ماء يجاوز بلا احتماء والنصاب كنهر حائل بين المجتاز.
والجواز إلى المفاز لا يمكن إلا بقنطرة وهي الزكاة وعمارتها بذل الصلات فمتى اختلت القنطرة غرّقته أمواج القناطير المقنطرة وعن هذا قال عليه السلام : " الزكاة قنطرة الإسلام " وكذا المال يساعد الأوغاد دون الأمجاد كما أن الماء يجتمع في الوهاد دون النجاد وكذلك الماء لا يجتمع إلا بكد البخيل كما أن الماء لا يجتمع إلا بسد المسيل ثم يفنى ويتلف ولا يبقى كالماء في الكف
جزء : 2 رقم الصفحة : 228
{ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَـامِ } هي الجنة أضافها إلى اسمه تعظيماً لها أو السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه وقيل لفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم إلا قيلا سلاماً سلاماً { وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] ويوفق من يشاء { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] إلى الإسلام أو طريق السنة فالدعوة عامة على لسان رسول الله بالدلالة والهداية خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية والمعنى يدعو العباد كلهم إلى دار الإسلام ولا يدخلها إلا المهديون
230
جزء : 2 رقم الصفحة : 230
{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا } [يونس : 26] آمنوا بالله ورسله { الْحُسْنَى } المثوبة الحسنى وهي الجنة { وَزِيَادَةٌ } رؤية الرب عز وجل كذا عن أبي بكر وحذيفة وابن عباس وأبي موسى الأشعري وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم وفي بعض التفاسير أجمع المفسرون على أن الزيادة النظر إلى الله تعالى وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : " إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك وتعالى : أتريدون شيئاً أزيدكم فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار ــــ قال : ــــ فيرفع الحجاب فينظرون إلى الله تعالى فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم " ثم تلا للذين أحسنوا الحسنى وزيادة والعجب من صاحب الكشف أنه ذكر هذا الحديث لا بهذه العبارة وقال : إنه حديث مدفوع مع أنه مرفوع قد أورده صاحب المصابيح في الصحاح وقيل الزيادة المحبة في قلوب العباد وقيل : الزيادة مغفرة من الله ورضوان { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } [يونس : 26] ولا يغشى وجوههم { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلا ذِلَّةٌ } [يونس : 26] ولا أثر هوان والمعنى ولا يرهقهم ما يرهق أهل النار { أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 82] { وَالَّذِينَ كَسَبُوا } [يونس : 27] عطف على للذين أحسنوا أي وللذين كسبوا { السَّيِّئَاتِ } فنون الشرك { جَزَآءُ سَيِّئَة بِمِثْلِهَا } [يونس : 27] الباء زائدة كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها أو التقدير جزاء سيئة مقدر بمثلها { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [يونس : 27] ذل وهوان
231
{ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ } [الجن : 22] من عقابه { مِنْ عَاصِمٍ } [يونس : 27] أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعقابه { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَة بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ } [يونس : 27] أي جعل عليها غطاء من سواد الليل أي هم سود الوجوه وقطعاً جمع قطعة وهو مفعول ثان لأغشيت.
قِطْعاً مكي وعلى من قوله { بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } [الحجر : 65] وعلى هذه القراءة مظلماً صفة لقطع وعلى الأول حال من الليل والعامل فيه أغشيت لأن من الليل صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة أو معنى الفعل من الليل { أؤلئك أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39]
(2/139)
جزء : 2 رقم الصفحة : 231
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } [الأنعام : 22] أي الكفار وغيرهم { جَمِيعًا } حال { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ } [يونس : 28] أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم { أَنتُم } أكد به الضمير في مكانكم لسد مسد قوله الزموا { وَشُرَكَآؤُكُمْ } عطف عليه { فَزَيَّلْنَا } ففرَّقنا { بَيْنَهُم } وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم } [يونس : 28] من عبدوه من دون الله من أولي العقل أو الأصنام ينطقها الله عز وجل { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [يونس : 28] إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا الله أنداداً فأطعتموهم وهو قوله : { إِيَّاكُمْ } إلى قوله : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ } [سبأ : 41]
{ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [يونس : 29] أي كفى الله شهيداً وهو تمييز { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَـافِلِينَ } [يونس : 29] إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية { هُنَالِكَ } في ذلك المكان أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ } [يونس : 30] تختبر وتذوق { مَّآ أَسْلَفَتْ } [يونس : 30] من العمل فتعرف كيف هو أقبح أم حسن أنافع أم ضار أمقبول أم مردود وقال الزجاج : تعلم كل نفس ما
232
قدمت.
تتلو حمزة وعلي أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو النار أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر كذا على الأخفش { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاهُمُ الْحَقِّ } [يونس : 30] ربهم الصادق في ربوبيته لأنهم كانوا يتلون ما ليس لربوبيته حقيقة أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم العدل الذي لا يظلم { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام : 24] وضاع عنهم ما كانوا يدّعون أنهم شركاء لله أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة
جزء : 2 رقم الصفحة : 232
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ } [يونس : 31] بالمطر { وَالارْضِ } بالنبات { أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ } [يونس : 31] من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة أومن يحميها من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء { وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } [يونس : 31] أي الحيوان والفرخ والزرع والمؤمن والعالم من النطفة والبيضة والحب والكافر والجاهل وعكسها { وَمَن يُدَبِّرُ الامْرَ } [يونس : 31] ومن يلي تدبير أمر العالم كله جاء بالعموم بعد الخصوص { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } [يونس : 31] فسيجيبونك عند سؤالك إن القادر على هذه هو الله { فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [يونس : 31] الشرك في العبودية إذ اعترفتم بالربوبية { فَذَالِكُمُ اللَّهُ } [يونس : 32] أي من هذه قدرته هو الله { رَبُّكُمُ الْحَقُّ } [يونس : 32] الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلـالُ } أي لا واسطة بين الحق والضلال فمن تخطى الحق وقع في الضلال { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } [يونس : 32] عن الحق إلى الضلال وعن التوحيد إلى الشرك { كَذَالِكَ } مثل ذلك الحق { حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } كلمات شامي ومدني أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق
233
فكذلك حقت كلمة ربك { عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا } [يونس : 33] تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه { أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [يونس : 33] بدل من الكلمة أي حق عليهم انتفاء الإيمان أو حق عليهم كلمة الله أن إيمانم غير كائن أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل أي لأنهم لا يؤمنون
جزء : 2 رقم الصفحة : 233
(2/140)
{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآ ـاِكُم مَّن يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس : 34] إنما ذكر ثم يعيده وهم غير مقرين بالإعادة لأنه لظهور برهانها جعل أمراً مسلماً على أن فيهم من يقر بالإعادة أو يحتمل إعادة غير البشر كإعادة الليل والنهار وإعادة الإنزال والنبات { قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس : 34] أمر نبيه بأن ينوب عنهم في الجواب يعني أنهم لا تدعهم مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلهم عنهم { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [الأنعام : 95] فكيف تصرفون عن قصد السبيل { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآ ـاِكُم مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ } [يونس : 35] يرشد إليه { قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّى إِلا أَن يُهْدَى } [يونس : 35] يقال هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين ويقال هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قراءة حمزة وعلي أمن لا يهدي بمعنى يهتدي لا يهتدى بفتح الياء والهاء وتشديد الدال مكي وشامي وورش وبإشمام الهاء فتحة أبو عمرو ، وبكسر الهاء وفتح الياء عاصم غير يحيى والأصل يهتدي وهي قراءة عبد الله فأدغمت التاء في الدال وفتحت الهاء بحركة التاء وكسرت لالتقاء الساكنين وبكسر الياء والهاء وتشديد الدال يحيى لأتباع ما بعدها وبسكون الهاء وتشديد الدال مدني غير ورش والمعنى أن الله وحده هو الذي يهدي للحق بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم وبما وفقهم وألهمهم ووقفهم على الشرائع بإرسال الرسل فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد يهدي إلى الحق مثل هداية الله ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه أولا يهدي غيره إلا أن يهديه الله وقيل معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن يهدي إلا أن ينقل أولا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حياً ناطقاً فيهديه { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [يونس : 35] بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد الله
234
جزء : 2 رقم الصفحة : 234
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } [يونس : 36] في قولهم للأصنام إنها آلهة وإنها شفعاء عند الله والمراد بالأكثر الجميع { إِلا ظَنًّا } [يونس : 36] بغير دليل وهو اقتداؤهم بأسلافهم ظناً منهم إنهم مصيبون { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ } [يونس : 36] وهو العلم { شيئا } في موضع المصدر أي إغناء { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [يونس : 36] من أتباع الظن وترك الحق { وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ } أي افتراء من دون الله والمعنى وما صح وما استقام أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى { وَلَـاكِنْ } كان { تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } [يونس : 37] وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة { وَتَفْصِيلَ الْكِتَـابِ } [يونس : 37] وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع من قوله كتاب الله عليكم { لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [يونس : 37] داخل في حيز الاستدراك كأنه قال ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل ويكون لا ريب فيه اعتراضًاً كما تقول زيد لا شك فيه كريم { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 235
(2/141)
السجدة : 3] بل أيقولون اختلقه { قُلْ } إن كان الأمر كما تزعمون { فَأْتُوا } أنتم على وجه الافتراء { بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس : 38] أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلى في العربية { وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [يونس : 38] أي وادعوا من دون الله من استطعتم من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أنه افتراء { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } [يونس : 39] بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين
235
آبائهم ومعنى التوقع في ولما يأتهم تأويله أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء وكذبوه بعد التدبر تمرداً وعناداً فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به وجاء بكلمة التوقع (ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي وجربوا قواهم في المعارضة وعرفوا عجزهم عن مثله فكذبوا به بغياً وحسداً { كَذَالِكَ } مثل ذلك التكذيب { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [فاطر : 25] بعني الكفار الأمم الماضية كذبوا رسلهم قبل النظر في معجزاتهم وقبل تدبرها عناداً وتقليداً للآباء ويجوز أن يكون معنى ولما يأتهم تأويله ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق يعني أنه كتاب معجز من جهتين من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز وقبل أن يجربوا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 39]
جزء : 2 رقم الصفحة : 235
وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } بالنبي أو بالقرآن أي يصدق به فيه نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند بالتكذيب { وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِهِ } [يونس : 40] لا يصدق به ويشك فيه أو يكون للاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به منهم من سيصر { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [يونس : 40] بالمعاندين أو المصرين { وَإِن كَذَّبُوكَ } [يونس : 41] وإن تمّوا على تكذيبك ويئست من إجابتهم { فَقُل لِّى عَمَلِى } [يونس : 41] جزاء عملي { وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } [يونس : 41] جزاء أعمالكم { أَنتُم بَرِياـاُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } فكل مؤاخد بعمله { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [يونس : 42] ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعملت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون فهم كالصم { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ } [يونس : 42] أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدال إذا وقع في صماخه دوي الصوت فإذا اجتمع
236
سلب العقل والسمع فقد تم الأمر
جزء : 2 رقم الصفحة : 236
(2/142)
{ وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } [يونس : 43] ومنهم ناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون { أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ } [يونس : 43] أتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلىّ فقد البصر فقد البصيرة لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شيئا وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [يونس : 44] ولكنِ الناس حمزة وعلي.
أي لم يظلمهم بسلب آلة الاستدلال ولكنهم ظلموا أنفسهم بترك الاستدلال حيث عبدوا جمادا وهم أحياء { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } [سبأ : 40] وبالياء حفص { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ } [يونس : 45] استقصروا مدة لبثهم في الدنيا أو في قبورهم لهول ما يرون { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 45] يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم كان لم يلبثوا حال من هم أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبثوا إلا ساعة وكأن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنهم.
ويتعارفون بينهم حال بعد حال أو مستأنف على تقديرهم يتعارفون بينهم { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ } [الأنعام : 31] على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك أو هي شهادة من الله على خسرانهم والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [البقرة : 16] للتجارة عارفين بها وهو استئناف فهي معنى التعجب كأنه قيل ما أخسرهم { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ } [يونس : 46] من العذاب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } [يونس : 46] قبل عذابهم
237
{ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } [يونس : 46] جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف أي وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [يونس : 46] ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب كأنه قيل ثم الله معاقب على ما يفعلون وقيل ثم هنا بمعنى الواو
جزء : 2 رقم الصفحة : 237
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } [يونس : 47] يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق { فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ } [يونس : 47] بالبينات فكذبوه ولم يتبعوه { قُضِىَ بَيْنَهُم } [يونس : 47] بين النبي ومكذبيه { بِالْقِسْطِ } بالعدل فأنجي الرسول وعذب المكذبون أو لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضى بينهم بالقسط { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] لا يعذب أحد بغير ذنبه ولما قال وإما نرينك بعض الذي نعدهم أي من العذاب استعجلوا لما وعدوا من العذاب نزل { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [يونس : 48] أي وعد العذاب { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أن العذاب نازل وهو خطاب منهم للنبي والمؤمنين { قُلْ } يا محمد { لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا } [يونس : 49] من مرض أو فقر { وَلا نَفْعًا } [طه : 89] من صحة أو غنى { إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } [الأنعام : 128] استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس : 49] لكل أمة وقت معلوم للعذاب مكتوب في اللوح فإذا جاء وقت عذابهم لا يتقدمون ساعة ولا يتأخرون فلا تستعجلوا { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَـاـاكُمْ عَذَابُهُ } [يونس : 50] الذي تستعجلونه { بَيَـاتًا } نصب على الظرف أي وقت بيات وهو الليل وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون { أَوْ نَهَارًا } [يونس : 24] وأنتم مشتغلون بطلب المعاش والكسب { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } [يونس : 50] أي من العذاب
238
(2/143)
والمعنى أن العذاب كله مكروه موجب للنفور فأي شيء تستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال والاستفهام في ماذا يتعلق بأرأيتم لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه ولم يقل ماذا يستعجلون منه لأنه أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام أو ماذا يستعجل منه المجرمون جواب الشرط نحو إن أتيتك ماذا تطعمني ثم تتعلق الجملة بأرأيتم أو
جزء : 2 رقم الصفحة : 238
{ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [يونس : 51] العذاب { بِهِ ا ءَآلَاـانَ } [يونس : 51] جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراض والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ودخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في أفأمن أهل القرى أو أمن أهل القرى { ءَآلَْاـانَ } على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } [يونس : 51] َأي بالعذاب تكذيباً واستهزاء.
آلان بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام نافع { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } [يونس : 52] عطف على قيل المضمر قبل الآن { ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } [يونس : 52] أي الدوام { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [يونس : 52] من الشرك والتكذيب { وَيَسْتَنابِئُونَكَ } ويستخبرونك فيقولون { أَحَقٌّ هُوَ } [يونس : 53] وهو استفهام على جهة الأنكار والاستهزاء والضمير للعذاب الموعود { قُلْ } يا محمد { إِى وَرَبِّى } [يونس : 53] نعم والله { إِنَّهُ لَحَقٌّ } [الذاريات : 23] إن العذاب كائن لا محالة { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [الأنعام : 134] بفائتين العذاب وهو لاحق بكم لا محالة { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ } [يونس : 54] كفرت وأشركت وهو صفة لنفس أي ولو أن لكل نفس ظالمة { مَا فِى الارْضِ } [البقرة : 29] في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها
239
{ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الارْضِ افْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } وأظهروها من قولهم أسر الشيء إذا أظهره أو أخفوها عجزاً عن النطق لشدة الأمر فأسر من الأضداد { وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ } [يونس : 54] بين الظالمين والمظلومين دل عل ذلك ذكر الظلم { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] ثم أتبع ذلك الإعلام بأن له الملك كله بقوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 239
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يونس : 55] فكيف يقبل الفداء وأنه المثيب المعاقب وما وعده من الثواب أو العقاب فهو حق لقوله : { أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [يونس : 55] بالثواب أو بالعذاب { حَقٌّ } كائن { وَيُمِيتُ } هو القادر على الأحياء والإماتة لا يقدر عليهما غيره { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] وإلى حسابه وجزائه المرجع فيخاف ويرجى { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [يونس : 57] أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد والموعظة التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب فما في القرآن من الأوامر والنواهي داع إلى كل مرغوب وزاجر عن كل مرهوب إذ الأمر يقتضي حسن المأمور به فيكون مرغوباً هو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح وعلى هذا النهي { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ } [يونس : 57] أي صدوركم من العقائد الفاسدة وهدى من الضلالة { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس : 57] لمن آمن به منكم { قُلْ } { بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَالِكَ فَلْيَفْرَحُوا } [يونس : 58] أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك فليفرحوا والتكرير للتأكيد والتقدير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة
240
(2/144)
المذكور عليه والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح أو بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا وهما كتاب الله والإسلام في الحديث " من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقه كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه " وقرأ الآية { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس : 58] وبالتاء شامي ، فلتفرحوا يعقوب
جزء : 2 رقم الصفحة : 240
{ قُلْ أَرَءَيْتُمْ } [يونس : 50] أخبروني { مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ } [يونس : 59] ما منصوب بأنزل أو بأرأيتم أي أخبرونيه { فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلَـالا } [يونس : 59] فبعضتموه وقلتم هذا حلال وهذا حرام كقوله ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا نعم الأرزاق تخرج من الأرض ولكن لما نيطت أسبابها بالسماء نحو المطر الذي به تنبت الأرض النبات والشمس التي بها النضج وينع الثمار أضيف إنزالها إلى السماء { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } [يونس : 21-59] متعلق بأرأيتم وقل تكرير للتوكيد والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه { أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس : 59] أم أنتم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه أو الهمزة للإنكار وأم منقطعة بمعنى بل أتفترون على الله تقريراً للإفتراء والآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل من الأحكام وباعثة على وجوب الاحتياط فيه وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان وإلا فهو مفتر على الديان { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [يونس : 60] ينسبون ذلك إليه { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] منصوب بالظن وهو ظن واقع فيه أي أي شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة هو وعيد عظيم حيث أبهم أمره { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } [البقرة : 243] حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال
241
والحرام { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } [يونس : 60] هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه
جزء : 2 رقم الصفحة : 241
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } [يونس : 61] ما نافية والخطاب للنيي صلى الله عليه وسلّم والشأن الأمر { وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ } [يونس : 61] من التنزيل كأنه قيل وما تتلو من التنزيل { مِن قُرْءَانٍ } [يونس : 61] لأن كل جزء منه قرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له أو من الله عز وجل { وَلا تَعْمَلُونَ } [يونس : 61] أنتم جميعاً { مِنْ عَمَلٍ } [يونس : 61] أي عمل { إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } [يونس : 61] شاهدين رقباء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 242
نحصي عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس : 61] تخوضون من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } [يونس : 61] وما يبعد وما يغيب وبكسر الزاي على حيث كان { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } [يونس : 61] وزن نملة صغيرة { فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران : 5 ، 6] رفعهما حمزة على الابتداء والخبر { إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام : 59] يعني اللوح المحفوظ ونصبهما غيره على نفي الجنس وقدمت الأرض على السماء هنا وفي سبأ قدمت السماوات لأن العطف بالواو وحكمه حكم التثنية { أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ } [يونس : 62] هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة أو هم الذين تولى الله هداهم بالبرهان الذي آتاهم فتولوا القيام بحقه والرحمة لخلقه أو هم المتحابون في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها أوهم المؤمنون المتقون بدليل الآية الثانية { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [يونس : 62] إذا خاف الناس { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] إذا حزن الناس { الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] منصوب بإضمار أعني أو لأنه صفة لأولياء أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا { وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس : 63] الشرك والمعاصي { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَواةِ } ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير موضع من كتابه وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : " هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له "
242
(2/145)
وعنه عليه السلام : " ذهبت النبوة وبقيت المبشرات والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة " وهذا لأن مدة الوحي ثلاث وعشرون سنة وكان في ستة أشهر منها يؤمر في النوم بالإنذار وستة أشهر من ثلاث وعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءاً أو هي محبة الناس له والذكر الحسن أولهم البشرى عند النزع بأن يرى مكانه في الجنة { وَفِى الاخِرَةِ } [الأعراف : 156] هي الجنة { لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّهِ } [يونس : 64] تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده { ذَالِكَ } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين { هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة : 72] وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام كما تقول فلان ينطق بالحق والحق أبلج وتسكت
جزء : 2 رقم الصفحة : 242
{ وَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [يونس : 65] تكذيبهم وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك { إِنَّ الْعِزَّةَ } [يونس : 65] استئناف بمعنى التعليل كأنه قيل مالي لا أحزن فقيل إن العزة { لِلَّهِ } إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً لا يملك أحد شيئاً منهما لا هم ولا غيرهم فهو يغلبهم وينصرك عليهم { كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } [المجادلة : 21] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر : 51] أو به يتعزز كل عزيز فهو يعزك ودينك وأهلك والوقف لازم على قولهم لئلا يصير إن العزة مقول الكفار { جَمِيعًا } حال { هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] لما يقولون { الْعَلِيمُ } بما يدبرون ويعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك { أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ } [يونس : 66] يعني العقلاء وهم الملائكة والثقلان وخصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي مَلكَته ولا يصلح أحد منهم للربوبية ولا أن يكون شريكاً له فيها فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكاً { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ } [يونس : 66] ما نافية أي وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء لأن شركة الله في الربوبية محال
243
{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } [الأنعام : 116] إلا ظنهم أنهم شركاء الله { وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } [الأنعام : 116] يحزرون ويقدّرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً أو استفهامية أي وأي شيء يتبعون وشركاء على هذا نصب بيدعون وعلى الأول بيتبع وكان حقه وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة والمحذوف مفعول يدعون أو موصولة معطوفة على من كأنه قيل ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم ثم نبه على عظيم قدرته وشمول نعمته على عباده بقوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 243
{ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } [يونس : 67] أي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب التردد في النهار { وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } [غافر : 61] مضيئاً لتبصروا فيه مطالب أرزاقكم { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [يونس : 67] سماع مذكر معتبر { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَـانَهُ } [يونس : 68] تنزيه له عن اتخاذ الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الْغَنِىُّ } [لقمان : 26] علة لنفي الولد لأنه إنما يطلب الولد ضعيف ليتقوى به أو فقير ليستعين به أو ذليل ليتشرف به والكل أمارة الحاجة فمن كان غنياً غير محتاج كان الولد عنه منفياً ولأن الولد بعض الوالد فيستدعي أن يكون مركباً وكل مركب ممكن وكل ممكن يحتاج إلى الغير فكان حادثاً فاستحال القديم أن يكون له ولد { لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] ملكاً ولا تجتمع النبوة معه { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَـان بِهَـاذَآ } [يونس : 68] ما عندكم من حجة بهذا القول ولما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين فقال : { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 28] { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [يونس : 69] بإضافة الولد إليه
244
{ لا يُفْلِحُونَ } [يونس : 69] لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة
جزء : 2 رقم الصفحة : 244
(2/146)
{ مَتَـاعٌ فِى الدُّنْيَا } [يونس : 70] أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا حيث يقيمون به رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلّم بالتظاهر به { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } [يونس : 70]
{ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [الأنعام : 70] بكفرهم { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } [الشعراء : 69] واقرأ عليهم { نَبَأَ نُوحٍ } [يونس : 71] خبره مع قومه والوقف عليه لازم إذا لو وصل لصار إذ ظرفا لقوله واتل بل التقدير واذكر { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَـاقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم } عظم ويقل كقوله { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ } [البقرة : 45] { مَّقَامِى } مكاني يعني نفسه كقوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن : 46] أي خاف ربه أوقيامي ومكثي بين أظهركم ألف سنة إلا خمسين عاماً أو مقامي { وَتَذْكِيرِى بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [يونس : 71] هم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بينًا وكلامهم مسموعاً { فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ } [يونس : 71] أي فوضت أمري إليه { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } [يونس : 71] من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه { وَشُرَكَآءَكُمْ } الواو بمعنى مع أي فأجمعوا أمركم مع شركائكم { ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 245
يونس : 71] أي غما عليكم وهما والغم والغمة كالكرب والكربة أو ملتبساً في خفية والغمة السترة من غمه إذا ستره ومنه الحديث " لاغمة في فرائض الله " أي لا تستر ولكن يجاهر بها والمعنى ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به { ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ } [يونس : 71] ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إلى ما هو حق عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه أو أصنعوا ما أمكنكم { وَلا تُنظِرُونِ } [يونس : 71] ولا تمهلوني { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } [المائدة : 92] فإن أعرضتم عن تذكيري ونصحي
245
{ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ } [يونس : 72] فأوجب الولي أو فما سألتكم من أجر ففاتني ذلك بتوليكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى اللَّهِ } [يونس : 72] وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي ما نصحتكم إلا الله لا لغرض من أغراض الدنيا وفيه دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم الديني { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 72] من المستسلمين لأوامره ونواهيه إن أجري بالفتح مدني وشامي وأبو عمرو وحفص
جزء : 2 رقم الصفحة : 245
(2/147)
{ فَكَذَّبُوهُ } فداموا على تكذيبه { فَنَجِّيْنَـاهُ } من الغرق { وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ } [الشعراء : 119] في السفينة { وَجَعَلْنَـاهُمْ خَلـائفَ } [يونس : 73] يخلفون الهالكين بالغرق { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } [يونس : 73] هو تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن مثلة وتسلية له { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } [يونس : 74] من بعد نوح عليه السلام { رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ } [يونس : 74] أي هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعباً { مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ } بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } [الأعراف : 101] فأصروا على الكفر بعد المجيء { بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ } [يونس : 74] من قبل مجيئهم يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد { كَذَالِكَ نَطْبَعُ } [يونس : 74] من ذلك الطبع نختم { عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ } [يونس : 74] المجاوزين الحد في التكذيب { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } [الأعراف : 103] من بعد الرسل { مُّوسَى وَهَـارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ بِـاَايَـاتِنَا } بالآيات التسع { فَاسْتَكْبَرُوا } عن قبولها وأعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ريهم بعد تبينها ويتعظمون عن قبولها { وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ } [الأعراف : 133] كفاراً ذوي آثام عظام فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا على ردها { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } [يونس : 76] فلما عرفوا أنه هو الحق وأنه من عند الله
246
{ قَالُوا } لحبهم الشهوات { إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [يونس : 76] وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر
جزء : 2 رقم الصفحة : 246
{ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } [يونس : 77] هو إنكار ومقولهم محذوف أي هذا سحر ثم استأنف إنكاراً آخر فقال : { أَسِحْرٌ هَـاذَا } [يونس : 77] خبر ومبتدأ { وَلا يُفْلِحُ السَّـاحِرُونَ } [يونس : 77] أي لا يظفر { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } [يونس : 78] لتصرفنا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا } [يونس : 78] من عبادة الأصنام أو عبادة فرعون { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ } [يونس : 78] أي الملك لأن الملوك موصوفون بالكبرياء والعظمة والعلو { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أرض مصر { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } [يونس : 78] بمصدقين فيما جئتما به ويكن حماد ويحيى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ } [يونس : 79] سحار حمزة وعلى { السِّحْرُ } ما موصولة واقعة مبتدأ أو جئتم به صلتها والسحر خبر أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله.
آلسحر بعد وقف أبو عمرو على الاستفهام فعلى هذه القراءة ما استفهامية أيْ أيّ شيء جئتم به أهو السحر { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 247
يونس : 81] يظهر بطلانه { إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس : 81] لايثبته بل يدمره { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ } [يونس : 82] ويثبّته { بِكَلِمَـاتِهِ } بأوامره وقضاياه أو يظهر الإسلام بعداته بالنصرة { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } [الانفال : 8] ذلك { فَمَآ ءَامَنَ لِمُوسَى } [يونس : 83] في أولى أوامره
247
(2/148)
{ إِلا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ } [يونس : 83] إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل كأنه قيل إلا أولاد من أولاد قومه وذلك قومه وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف أو الضمير في قومه لفرعون والذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنة وما شطته والضمير في يرجع إلى فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له أو إلى الذرية أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم دليله قوله ؛ { وَمَلايْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [يونس : 83] يريد أن يعذبهم فرعون { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارْضِ } [يونس : 83] لغالب فيها قاهر { وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } [يونس : 83] في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو بإدعائه الربوبية
جزء : 2 رقم الصفحة : 247
{ وَقَالَ مُوسَى يَـافِرْعَوْنُ إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا } [يونس : 84] فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [يونس : 84] شرط في التوكل الإسلام وهو أن يسلموا نفوسهم صلى الله عليه وسلّم أي يجعلوها له سالمة خالصة لاحظ للشيطان فيها لأنه التوكل لا يكون مع التخليط { فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [يونس : 85] إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين لاجرم أن الله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفاء في أرضه فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 85] موضع فتنة لهم أي عذاب يعذبوننا أو يفتنوننا عن ديننا أي يضلوننا والفاتن المضل عن الحق { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [يونس : 86] أي من تعذيبهم وتسخيرهم { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } [يونس : 87] تبوأ المكان اتخذه مباءة كقوله توطنه إذا اتخذه وطناً والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } [يونس : 87] أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة
248
وكانوا في أول الأمر مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المسلمون على ذلك في أول الإسلام بمكة { وَإِذْ أَخَذْنَا } [البقرة : 83] في بيوتكم حتى تأمنوا { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] يا موسى ثنى الخطاب أولاً ثم جمع ثم وحد آخراً لأن اختيار مواضع العبادة مما يفرض إلى الأنبياء ثم جمع لأن اتخاذ المساجد والصلاة فيها واجب على الجمهور وخص موسى عليه السلام بالبشارة تعظيماً لها وللمبشر بها
جزء : 2 رقم الصفحة : 248
(2/149)
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاهُ زِينَةً } [يونس : 88] هو ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك { وَأَمْوَالا } أي نقداً ونعماً وضيعة { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاهُ } [يونس : 88] ليضلوا الناس عن طاعتك كوفي ولا وقف على الدنيا لأن قوله ليضلوا متعلق بآتيت وربنا تكرار.
الأول للإلحاح في التضرع قال الشيخ أبو منصور رحمه الله إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا عن سبيله وهو كقوله { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [آل عمران : 178] فتكون الآية حجة على المعتزلة { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } [يونس : 88] أي أهلكها وأذهب آثارها لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك والطمس المحو والهلاك قيل صارت دارهمهم ودنانيرهم حجارة كهيئاتها منقوشة وقيل وسائر أموالهم كذلك { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [يونس : 88] أطبع على قلوبهم واجعلها قاسية { فَلا يُؤْمِنُوا } [يونس : 88] جواب الدعاء الذي هو أشدد { حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ } [يونس : 88] إلى أن يروا العذاب الأليم وكان كذلك فإنهم لم يؤمنوا إلى الغرق ، وكان ذلك إيمان يأس فلم يقبل وإنما دعا عليهم بهذا لما أيس من إيمانهم وعلم بالوحي أنهم لا يؤمنون فأما قبل أن يعلم بأنهم لا يؤمنون فلا يسع له أن يدعو بهذا الدعاء لأنه أرسل إليهم ليدعوهم إلى الإيمان وهو يدل على أن الدعاء على الغير بالموت على الكفر لا يكون كفراً { قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا } [يونس : 89] قيل كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمّن
249
فثبت أن التأمين دعاء فكان اخفاؤه أول أو المعنى أن دعاء كما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فَاسْتَقِيمَا } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والتبليغ { وَلا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [يونس : 89] ولا تتبعان طريق الجهلة الذين لا يعلمون صدق الإجابة وحكمة الإمهال فقد كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة.
لا تتبعان بتخفيف النون وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية شامي وخطأه بعضهم لأن النون الخفيفة واجبة السكون وقيل هو إخبار عما يكونان عليه وليس بنهي أو هو حال وتقديره فاستقيما غير متبعين
جزء : 2 رقم الصفحة : 249
{ وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ } [يونس : 90] هو دليل لنا على خلف الأفعال { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } [يونس : 90] فلحقهم يقال تبعته حتى أتبعته { بَغْيًا } تطاولاً { وَعَدْوًا } ظلماً وانتصباً على الحال أو على المفعول له { حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } [يونس : 90] ولا وقف عليه لأن { قَالَ ءَامَنتُ } [يونس : 90] جواب إذا { أَنَّهُ } إنه حمزة وعلى على الاستئناف بدل من آمنت وبالفتح غيرهما على حذف الباء التي هي صلة الإيمان { لا إِلَـاهَ إِلا الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 90] وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد حيث قال : آمنت ثم قال : وأنا من المسلمين كرر فرعون المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته وكانت المرأة الواحدة تكفي في حالة الاختيار { ءَآلَْاـانَ } أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك قيل قال ذلك حين ألجمه الغرق والعامل فيه أتؤمن { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } [يونس : 91] من الضالين المضلين عن الإيمان روى أن جبريل عليه السلام أتاه بفتيا ما قول الأميرفي عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه فكتب فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه
250
جزء : 2 رقم الصفحة : 250
(2/150)
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } [يونس : 92] نلقيك بنجوة من الأرض فرماه الماء إلى السلاحل كأنه ثور { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال أي الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير أو عرياناً لست إلا بدنا من غير لباس أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه بأبدانك وهو مثل قولهم هو بأجرامه أي ببدنك كله وافياً بأجزائه أو بدروعك لأنه ظاهر بينها { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً } [يونس : 92] لمن وراءك من الناس علامة وهم بنو إسرائيل وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق وقيل أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدقوه فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه وقيل لمن خلفك لمن يأتي بعدك من القرون ومعنى كونه آية أن يظهر للناس عبوديته وأن ما كان يدعيه من الربوبية محال وأنه مع ما كان عليه من عظم الملك آل أمره إلى ما ترون للعصيانه ربه فما الظن بغيره { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً } [يونس : 92] { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } [يونس : 93] منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام { وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا } [يونس : 93] في دينهم { حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } [يونس : 93] أي التوراة وهم اختلفوا في تأويلها كما اختلف أمة محمد صلى الله عليه وسلّم في تأويل الآيات من القرآن أو المراد العلم بمحمد واختلاف بني إسرائيل وهم أهل الكتاب اختلافهم في صفته أنه هو أم ليس هو بعد ما جاءهم العلم أنه هو
جزء : 2 رقم الصفحة : 251
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [يونس : 93] يميز الحق من المبطل ويجزي كلا جزاءه { قَبْلِكَ } لما قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراء الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكتوب في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، أراد أن
251
يؤكد علمهم بصحة القرآن وبصحة نبوته صلى الله عليه وسلّم ويبالغ في ذلك فقال : فإن وقع لك شك فرضاً وتقديراً ــــ وسبيل من خالجته شبة أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته أو بمباحثة العلماء ــــ فسل علماء أهل الكتاب فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك فالمراد وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالشك فيه ثم قال : { لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [يونس : 94] أي ثبت عندك بالآيات الواضحة والبراهين اللائحة أن ما أتاك هو الحق الذي لا مجال فيه للشك { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147] الشاكين ولا وقف عليه للعطف
جزء : 2 رقم الصفحة : 251
{ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَـاسِرِينَ } [يونس : 95] أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بايات الله أو هو على طريقة التهييج والإلهاب كقوله { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـافِرِينَ } [القصص : 86] { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [القصص : 87] ولزيادة التثبيت والعصمة ولذلك قال عليه السلام عند نزوله : " لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " أوخوطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمراد أمته أي وإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم كقوله وأنزلنا إليكم نورامبينا أو الخطاب لكل سامع يجوز عليه الشك كقول العرب إذا عز أخوك فهن أو إن للنفي أي فما كنت في شك فأسأل أي لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى.
فإن قلت إنما يجيء إن للنفي إذا كان بعده إلا كقوله : { إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ } [الملك : 20].
قلت ذاك غير لازم ألا ترى إلى قوله إن أمسكهما من أحد من بعده فإن للنفي وليس بعده إلا { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [يونس : 96-137] ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً أو قوله لأملأن جهنم الآية
(2/151)
252
ولا وقف على { لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] لأن
جزء : 2 رقم الصفحة : 252
{ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَةٍ } [يونس : 97] تتعلق بما قبلها { حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الالِيمَ } [يونس : 88] أي عند اليأس فيؤمنون ولا ينفعهم أو عند القيامة ولا يقبل منهم { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ } [يونس : 98] فهلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة ولم يؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بخنقه { فَنَفَعَهَآ إِيمَـانُهَآ } [يونس : 98] بأن يقبل الله منها بوقوعه في وقت الاختيار { إِلا قَوْمَ يُونُسَ } [يونس : 98] استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس أو متصل والجملة في معنى النفي كأنه قيل ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس وانتصابه على الاستثناء { لَمَّآ ءَامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَـاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98] إلى آجالهم.
روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح كلهم وعجوا أربعين ليلة وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان والدواب وأولادها فحن بعضهم إلى بعض وأظهروا الإيمان والتوبة فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة وبلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده وقيل خرجوا لما نزل بهم العذاب إلى شيخ من بقية علمائهم فقال لهم : قولوا وياحي حين لا حي وياحي محيي الموتى وياحي لا إِله إلا أنت فقالوها
253
فكشف الله عنهم.
وعن الفضيل قدس الله روحه قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منهم وأحل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
جزء : 2 رقم الصفحة : 253
{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لامَنَ مَن فِى الارْضِ كُلُّهُمْ } [يونس : 99] على وجه الإحاطة والشمول { جَمِيعًا } حال مجتمعين على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه أخبر عن كمال قدرته ونفوذ مشيئته أنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم ولكنه شاء أن يؤمن به من علم منه اختيار الإيمان به ، وشاء الكفر ممن علم أنه يحتار الكفر ولا يؤمن به وقول المعتزلة المراد بالمشيئة مشيئة القسر والإلجاء أي لو خلق فيهم الإيمان جبراً لآمنوا لكن قد شاء أن يؤمنوا اختياراً فلم يؤمنوا دليله { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [يونس : 99] أي ليس إليك مشيئة إلا كراه والجبر في الإيمان إنما ذلك إليّ فاسد لأن الإيمان فعل العبد وفعله ما يحصل بقدرته ولا يتحقق ذلك بدون الاختيار وتأويله عندنا أن الله تعالى لطفاً لو أعطاهم لآمنوا كلهم عن اختيار ولكن علم منهم أنهم لا يؤمنون فلم بعطهم ذلك وهو التوفيق والاستفهام في أفأنت بمعنى النفي أي لا تملك أنت يا محمد أن تكرههم على الإيمان لأنه يكون بالتصديق والإقرار ولا يمكن الاكراه على التصديق { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [يونس : 100] بمشيئته أو بقضائه أو بتوفيقه وتسهيله أو بعلمه { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } [يونس : 100] أي العذاب أو السخط أو الشيطان أي ويسلط الشيطان { عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } [يونس : 100] لا ينتفعون بعقولهم ، ونجعل حماد ويحيى { قُلِ انظُرُوا } [يونس : 101] نظر استدلال واعتبار { مَاذَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يونس : 101]من الآيات والعبر باختلاف الليل والنهار وخروج الزروع والثمار { وَمَا تُغْنِى الايَـاتُ } [يونس : 101] ما
254
نافيه { وَالنُّذُرُ } والرسل المنذورون أو الانذارات { عَن قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [يونس : 101] لا يتوقع إيمانهم وهم الذين لا يعقلون
جزء : 2 رقم الصفحة : 254
(2/152)
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ } [يونس : 102] يعني وقائع الله فيهم كما يقال أيام العرب لوقائعها { قُلْ فَانتَظِرُوا إِنَّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [يونس : 102] { ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا } معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم كأنه قيل نهلك الأمم ثم ننجى رسلنا على حكاية الأحوال الماضية { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 165] ومن آمن معهم { كَذَالِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين وحقاً علينا اعتراض أي حق ذلك علينا حقاً.
ننجي بالتخفيف على وحفص { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ } يا أهل مكة { إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى } [يونس : 104] وصحته وسداده فهذا ديني فاستمعوا وصفه ثم وصف دينه قال : { فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [يونس : 104] أي الأصنام { وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُمْ } [يونس : 104] يميتكم وصفه بالتوفي ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى ويعبدون دون ما لا يقدر على شيء { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [يونس : 104] أي بأن أكون يعني أن الله أمرني بذلك بما ركب فيّ من العقل وبما أوحى إليّ في كتابه { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } [يونس : 105] أي وأوحي إلى أن أقم ليشاكل قوله أي استقم مقبلا بوجهك على ما أمرك الله أو استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا
255
{ حَنِيفًا } حال من الدين أو الوجه { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 14]
جزء : 2 رقم الصفحة : 255
{ يَنفَعُكَ } إن دعوته { وَلا يَضُرُّكَ } [يونس : 106] إن خذلته { فَإِن فَعَلْتَ } [يونس : 106] فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فكنى عنه بالفعل إيجازاً { فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 106] إذا جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك.
{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ } [الأنعام : 17] يصبك { بِضُرٍّ } مرض { فَلا كَاشِفَ لَهُ } [الأنعام : 17] لذلك الضر { إِلا هُوَ } [هود : 56] إلاَّ الله { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } [يونس : 107] عافية { فَلا رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [يونس : 107] فلا رادَّ لمراده { يُصِيبُ بِهِ } [يونس : 107] بالخير { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [الروم : 48] قطع بهذه الآية على عباده طريق الرغبة والرهبة إلا إليه والاعتماد إلا عليه { وَهُوَ الْغَفُورُ } [يونس : 107] المكفر بالبلاء { الرَّحِيمُ } المعافي بالعطاء أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر أن الله هو الضار النافع الذي إن أصابك بضر لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد فكيف بالجماد الذي لا شعور له وكذا إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من الفضل والإحسان فكيف بالأوثان وهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها وهو أبلغ من قوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 256
{ إِنْ أَرَادَنِىَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَـاشِفَـاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـاتُ رَحْمَتِهِ } [الزمر : 38] وإنما ذكر المس في أحدهما والإرادة في الآخر كأنه أراد أن يذكر الأمرين الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير وأنه لاراد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما والإرادة في الآخر ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله يصيب به من يشاء من عباده { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ } يا أهل مكة { قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ } [يونس : 108] القرآن أو
256
الرسول { مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى } [يونس : 108] اختار الهدى واتبع الحق { فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ } [يونس : 108] فما نفع باختياره إلا لنفسه { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [يونس : 108] ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه ودل اللام وعلى على معنى النفع والضرر { وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [يونس : 108] بحفيظ موكول إلى أمركم إنما أنا بشير ونذير
جزء : 2 رقم الصفحة : 256
(2/153)
{ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ } [يونس : 109] على تكذيبهم وإيذائهم { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } [الأعراف : 87] لك بالنصر عليهم والغلبة { وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ } [الأعراف : 87] لأنه المطلع على السرائر فلا يحتاج إلى بينة وشهود.
257
سورة هود
عليه السلام مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
{ الار كِتَـابٌ } [هود : 1] أي هذا كتاب فهو خير مبتدإ محذوف { الار كِتَـابٌ } [هود : 1] صفة له أي نظمت نظماً رصيناً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم { ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود : 1] كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة أو فصل فيها ما يحتاج إليه العباد أي بين ولخص وليس معنى ثم التراخي في الوقت ولكن في الحال { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود : 1] صفة أخرى لكتاب أو خبر بعد خبر أوصلة لأحكمت وفصلت أي من عنده أحكامها وتفصيلها { أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } [هود : 2] مفعول له أي لئلا تعبدوا أو أن مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل قال : لا تعبدوا إلا الله أو أمركم أن لا تعبدوا إلا الله { إِنَّنِى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } [هود : 2] أي من الله { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } [هود : 3] أي أمركم بالتوحيد والاستغفار { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [هود : 61] أي استغفروه من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة { يُمَتِّعْكُم مَّتَـاعًا حَسَنًا } [هود : 3] يطوّل نفعكم في
258
الدنيا بمنافع حسنة مرضية من عيشة واسعة ونعمة متتابعة { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] إلى أن يتوفاكم { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود : 3] ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس منه شيئاً { وَإِن تَوَلَّوْا } [الانفال : 40] وإن تتولوا { فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } [هود : 3] هو يوم القيامة
جزء : 2 رقم الصفحة : 258
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } [المائدة : 48] رجوعكم { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [المائدة : 120] فكان قادراً على إعادتكم { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } [هود : 5] يزورّون عن الحق وينحرفون عنه لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ومن أزورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه { لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ } [هود : 5] ليطلبوا الخفاء من الله فلا يطلع رسوله والمؤمنون على أوزارهم { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } [هود : 5] يتغطون بها أي يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام { جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ } [نوح : 7] { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] أي لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم فلا وجه لتوصلهم لي ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم واستغشائهم ثيابهم ونفاقهم غير نافق عنده قيل نزلت في المنافقين { إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [الانفال : 43] بما فيها { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
هود : 6] تفضلاً لا وجوباً { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } [هود : 6] مكانه من الأرض ومسكنه { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث كان مودعاً قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة { كُلٌّ فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [هود : 6] كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها في اللوح يعني ذكرها مكتوب فيه مبين
259(2/154)
{ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [الأنعام : 73] وما بينهما { فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } [الأعراف : 54] من الأحد إلى الجمعة تعليماً للتأني { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ } [هود : 7] أي فوقه يعني ما كان تحته خلق قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض قيل بدأه بخلق يا قوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء ثم خلق ريحاً فأقر الماء على متنه ثم وضع عرشه على الماء وفي وقوف العرش على الماء أعظم اعتبار لأهل الأفكار { لِيَبْلُوَكُمْ } أي خلق السماوات والأرض وما بينهما للمتحن فيهما ولم يخلق هذه الأشياء لأنفسها { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [هود : 7] أكثر شكراً وعنه عليه السلام " أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فمن شكر وأطاع أثابه ومن كفر وعصى عاقبه " ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال : ليبلوكم أي ليفعل بكم ما يفعل المبتلى لأحوالكم كيف تعلمون { وَلَـاـاِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [هود : 7] أشار بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث فإذا جعلوا سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره ساحر حمزة وعلي يريدون الرسول والساحر كاذب مبطل { وَلَـاـاِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ } [هود : 8] الآخرة أو عذاب يوم بدر { إِلَى أُمَّةٍ } [هود : 8] إلى جماعة من الأوقات { مَّعْدُودَةٍ } معلومة أو قلائل والمعنى إلى حين معلوم { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُا } [هود : 8] ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء { أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } [هود : 8] العذاب { لَيْسَ } العذاب { مَصْرُوفًا عَنْهُمْ } [هود : 8] ويوم منصوب بمصروفاً أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم { وَحَاقَ بِهِم } [هود : 8] وأحاط بهم { مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [النحل : 34] العذاب الذي كانوا به يستعجلون وإنما وضع يستهزئون
260
موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان على وجه الاستهزاء
جزء : 2 رقم الصفحة : 259
{ وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَا الانسَـانَ } [هود : 9] هو للجنس { مِنَّا رَحْمَةً } [هود : 9] نعمة من صحة وأمن وجدة واللام في لئن لتوطئة القسم { ثُمَّ نَزَعْنَـاهَا مِنْهُ } [هود : 9] ثم سلبناه تلك النعمة وجواب القسم { إِنَّهُ } شديد اليأس من أن يعود إلى مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه { لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود : 9] عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نسّاء له { وَلَـاـاِنْ أَذَقْنَـاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } [هود : 10] وسعنا عليه النعمة بعد الفقر الذي ناله { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } [هود : 10] أي المصائب التي ساءتني { إِنَّهُ لَفَرِحٌ } [هود : 10] أشر بطر { فَخُورٌ } على الناس بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن الشكر { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } [هود : 11] في المحنة والبلاء { وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 25] وشكروا في النعمة والرخاء { أُوالَـائِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [هود : 11] لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [هود : 11] يعني الجنة كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشاداً لأنهم لو كانوا مشترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم ومن اقتراحاتهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر رسول صلى الله عليه وسلّم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 261
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ } [هود : 12] أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به { وَضَآئِقُ بِهِ صَدْرُكَ } [هود : 12] بأن تتلوه عليهم ولم يقل ضيق ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت لأنه عليه السلام وكان أفسح الناس صدراً
261
(2/155)
ولأنه أشكل بتارك { أَن يَقُولُوا } [العنكبوت : 2] مخافة أن يقولوا { لَوْلا أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } [هود : 12] هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه والملائكة لنصدقه ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [هود : 12] أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه ولا عليك أن ردوا أو تهاونوا { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ } [هود : 12] يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل فتوكل عليه وكل أمرك إليه وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 261
{ أَمْ يَقُولُونَ } [السجدة : 3] أم منقطعة { افْتَرَاـاهُ } الضمير لما يوحى إليك { قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ } [هود : 13] تحداهم أولا بعشر سور ثم بسورة واحدة كما يقول المخابر في الخط لصاحبه اكتب عشر أسطر نحو ما أكتب فإذا تبين له العجز عن ذلك قال : اقتصرت منك على سطر واحد { مِّثْلِهِ } في الحسن والجزالة ومعنى مثله أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له { مُفْتَرَيَـاتٍ } صفة لعشر سور لما قالوا افتريت القرآن واختلفته من عندك وليس من عند الله أرضى معهم العفاف وقال : هبوا.
أني اختلقته من عند نفسي فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي { وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ } [يونس : 38] إلى المعاونة على المعارضة { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] أنه مفترى { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [هود : 14] أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم وإنما جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله لكم فاعلموا بعد قوله قل لأن الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين كانوا يحدونهم أو لأن الخطاب للمشركين والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن
262
لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على المعارضة لعلهم بالعجز عنه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي بإذنه أو بأمره { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [هود : 14] متبعون للإسلام بعد هذه الحجة القاطعة ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد فهل أنتم مسلمون مخلصون
جزء : 2 رقم الصفحة : 262
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ } [هود : 15] نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيه كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق وهم الكفار أو المنافقون { أُوالَـاـاـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا } [هود : 16] وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم أي لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يزيدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفي إليهم ما أرادوا { وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 139] أي كان عملهم في نفسه باطلاً لأنه لم يعمل لغرض صحيح والعمل الباطل لا ثواب له { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ } [هود : 17] أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على بينة من ربه أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم يعني أن بين الفريقين تبايناً بينا وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة من ربه أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام وهو دليل العقل
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{ وَيَتْلُوهُ } ويتبع ذلك البرهان { شَاهِدٌ } يشهد بصحته وهو القرآن { مِنْهُ } من الله أو من القرآن فقد مر ذكره آنفاً { وَمِن قَبْلِهِ } [هود : 17] ومن قبل القرآن { كِتَـابُ مُوسَى } [هود : 17] وهو التوراة أي ويتلو ذلك
263
(2/156)
البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام { إِمَامًا } كتاباً مؤتماً به في الدين قدوة فيه { وَرَحْمَةً } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم وهما حالان { أؤلئك } أي من كان على بينة { يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الشعراء : 201] بالقرآن { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ } [البقرة : 121] بالقرآن { مِنَ الاحْزَابِ } [ص : 11] يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلّم { فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17] مصيره ومورده { فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ } [هود : 109] شك { مِنْهُ } من القرآن أو من الموعد { إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أؤلئك يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ } يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم { وَيَقُولُ الاشْهَـادُ هؤلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } [هود : 18] ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً { أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ } [هود : 18] الكاذبين على ربهم والأشهاد جمع شاهد كأصحاب وصاحب أو شهيد كشريف وأشراف { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [الأعراف : 45] يصرفون الناس عن دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } [إبراهيم : 3] يصفونها بالإعوجاج وهي مستقيمة أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد { وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ } [هود : 19] هم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
{ أؤلئك لَمْ يَكُونُوا } [هود : 20] أي ما كانوا { مُعْجِزِينَ فِى الارْضِ } [هود : 20] بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم { وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [هود : 20] من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم وهو من كلام الأشهاد { يُضَـاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } [هود : 20] لأنهم أضلوا الناس عن دين الله يضعّف مكي وشامي { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } [هود : 20] أي استماع الحق { وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } [هود : 20] الحق { أؤلئك الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ } [هود : 21] حيث اشتروا عبادة الآلهة بعباده الله
264
{ وَضَلَّ عَنْهُم } [فصلت : 48] وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [آل عمران : 24] من الآلهة وشفاعتها
جزء : 2 رقم الصفحة : 263
(2/157)
{ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الاخْسَرُونَ } [هود : 22] بالصد والصدود وفي لا جرم أقوال أحدها أن لا رد لكلام سابق أي ليس الأمر كما زعموا ومعنى جرم كسب وفاعله مضمر وأنهم في الآخرة في محل النصفب والتقدير كسب قولهم خسرانهم في الآخرة وثانيها أن لا جرم كلمتان ركبتا فصار معناهما حقاً وأن في موضع رفع بأنه فاعل لحق أي حق خسرانهم وثالثها أن معناه لا محالة { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [هود : 23] واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة { أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 82] { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاعْمَى وَالاصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } [هود : 24] شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسميع { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } [هود : 24] يعني الفريقين { مَثَلا } تشبيها وهو نصب على التمييز { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] فتنتفعون بضرب المثل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [هود : 25] أي بأني والمعنى أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله إني لكم نذير مبين بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح في كأن والمعنى على الكسر وبكسر الألف شامي ونافع وعاصم وحمزة على إرادة القول { أَن لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } [هود : 26] أن مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير { إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود : 26] وصف اليوم بأليم من الاسناد المجازي لوقوع الألم فيه { فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ } [هود : 27] يريد الأشراف لأنهم يملؤون
265
القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة
جزء : 2 رقم الصفحة : 265
{ مَا نَرَاـاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا } [هود : 27] أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً أو ملكاً { وَمَا نَرَاـاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } [هود : 27] أخساؤنا جمع الأرذل { بَادِىَ } وبالهمزة أبو عمرو { الرَّأْىِ } وبغير همز أبو عمرو أي اتبعوك ظاهر الرأي أو أول الرأي من بدا يبدو إذا أظهر أو بدأ يبدأ إذا فعل الشيء أو لا وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث ظاهر رأيهم أو أول رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه أرادوا أن إتباعهم لك شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر ولو تفكروا ما اتبعوك وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال كما ترى أكثر المتشبهيْن بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده ولا يرفعه بل يضعه { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل } [هود : 27] في مال ورأى يعنون نوحاً وأتباعه { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَـاذِبِينَ } [هود : 27]أي نوحاً في الدعوة ومتبعيه في الإجابة والتصديق يعني تواطأتم على الدعوة والإجابة تسبيباً للرياسة
جزء : 2 رقم الصفحة : 265
{ قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ } أخبروني { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ } [هود : 28] برهان { مِّن رَّبِّى } [الكهف : 98] وشاهد منه يشهد لصحة دعواى { قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن } [هود : 28] يعني النبوة { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } [هود : 28] أي خفيت.
فعُمِّيت حمزة وعلي وحفص أي أخفيت أي فعميت عليكم البينة فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها وحقيقته أو الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي الرحمة { وَأَنتُمْ لَهَا كَـارِهُونَ } [هود : 28] لا تريدونها والواو دخلت هنا تتمة للميم وعن أبي عمرو إسكان الميم ووجهه أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة فظنها الراوي سكوناً وهو لحن لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر
266
جزء : 2 رقم الصفحة : 266
(2/158)
{ الصَّـالِحَـاتِ قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ } على تبليغ الرسالة لأنه مدلول قوله إني لكم نذير { مَالا } أجراً يثقل عليكم إن أديتم أو عليّ أن أبيتم { إِنْ أَجْرِىَ } [هود : 51] مدني وشامي وأبو عمرو وحفص { إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [هود : 29] جواب لهم حين سألوا طردهم ليؤمنوا به أنفة من المجالسة معهم { أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ } [البقرة : 46] فيشكونني إليه إن طردتهم { وَلَـاكِنِّى أَرَاـاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } [هود : 29] تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل أو تجهلون لقاء ربكم أو أنهم خير منكم { وَيَـاقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ } [هود : 30] من يمنعني من انتقامه { إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [هود : 30] تتعظون { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآ ـاِنُ اللَّهِ } [هود : 31] فأدعى فضلاً عليكم بالغني حتى تجحدوا فضلى بقولكم وما نرى لكم علينا من فضل { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [الأنعام : 50] حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم وهو معطوف على عندي خزائن الله أي لا أقول عندي خزائن الله ولا أقول أنا أعلم الغيب { وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ } [هود : 31] حتى تقولوا إلى ما أنت إلا بشر مثلنا { وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } [هود : 31] ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم { لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا } [هود : 31] في الدنيا والآخرة لهوانه عليه مساعدة لكم ونزولاً على هواكم { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } [هود : 31] من صدق الاعتقاد وإنما على قبول ظاهر إقرارهم إذ لا أطلع على خفي أسرارهم { إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ } [هود : 31] إن قلت شيئاً من ذلك.
والازدراء افتعال من زري عليه إذا عابه وأصله تزترى فأبدلت التاء دالاً { قَالُوا يَـانُوحُ قَدْ جَـادَلْتَنَا } خاصمتنا { فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [هود : 32] من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] في وعيدك
267
جزء : 2 رقم الصفحة : 267
{ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ } [هود : 33] أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ وإنما هو إلى من كفرتم به { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [الأنعام : 134] أي لم تقدروا على الهرب منه { وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } [هود : 34] هو إعلام موضع الغي ليتقى والرشد ليقتفى ولكني إني نصحَي مدني وأبو عمرو { إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [هود : 34] أي يضلكم وهذا شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدماً في الحكم لما عرف.
تقديره إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم وهو دليل بين لنا في إرادة المعاصي { هُوَ رَبُّكُمْ } [هود : 34] فيتصرف فيكم على قضية إرادته { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 245] فيجازيكم على أعمالكم { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاـاهُ } [السجدة : 3] بل أيقولون افتراه { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } [هود : 35] أي إن صح أني افتريته فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي يقال أجرم الرجل إذا أذنب { وَأَنَا بَرِى ءٌ } [هود : 35] أي ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه ومعنى { مِّمَّا تُجْرِمُونَ } [هود : 35] من إجرامكم في إسناد الافتراء إلى فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم { وَأُوحِىَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلا مَن قَدْ ءَامَنَ } [هود : 36]
إقناط من إيمانهم وأنه غير متوقع وفيه دليل على أن للإيمان حكم التجدد كأنه قال إن الذي آمن يؤمن في حادث الوقت وعلى ذلك يخرج الزيادة التي ذكرت في الإيمان بالقرآن { فَلا تَبْتَـاـاِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [هود : 36] فلا تحزن حزن بائس مستكين والابتئاس افتعال من البؤس وهو الحزن والفقر والمعنى فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام من أعدائك
268
جزء : 2 رقم الصفحة : 268
(2/159)
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [هود : 37] هو في موضع الحال أي اصنعها محفوظاً وحقيقته ملتبساً بأعيننا كأن لله معه أعينا تكلؤه من أن يزيغ في صنعته عن الصواب (وَوَحينَا) وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطير { وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [هود : 37] ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك { إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [هود : 37] محكوم عليهم بالإغراق وقد قضي به وجف القلم فلا سبيل إلى كفه { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } [هود : 38] حكاية حال ماضية { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلا مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ } [هود : 38] من عمله السفينة وكان يعملها في برية في أبعد موضع من الماء فكانوا يتضاحكون منه ويقولون له يا نوح صرت نجاراً بعدما كنت نبياً { قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } [هود : 38] عند رؤية الهلاك { كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود : 38] منا عند رؤية الفلك روى أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة من خشب الساج في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع أو ألفاً ومائتي ذراع وعرضها خمسون ذراعاً أو ستمائة ذراع وطولها في السماء ثلاثون ذراعا وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب نوح ومن معه من في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله حاجزاً بين الرجال والنساء { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ } [هود : 39] من في محل النصب بتعلمون أي فسوف تعلمون الذي يتأتى { عَذَابٌ يُخْزِيهِ } [هود : 93] ويعني به إياهم ويريد بالعذاب عذاب الدنيا وهو الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } [هود : 39] وينزل عليه { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [المائدة : 37] وهو عذاب الآخرة
269
جزء : 2 رقم الصفحة : 269
{ حَتَّى } هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء وهي غاية لقوله ويصنع الفلك أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد وما بينهما من الكلام حال من يصنع أي يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه وجواب كلما سخروا وقال استئناف على تقدير سؤال سائل أو قال جواب وسخروا بدل من مر أو صفة لملأ { إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود : 40] عذابنا { وَفَارَ التَّنُّور } [المؤمنون : 27] هو كناية عن اشتداء الأمر وصعوبته وقيل معناه جاش الماء من تنور الخبز وكان من حجر لحواء فصار إلى نوح عليه السلام وقيل التنور وجه الأرض { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا } [هود : 40] في السفينة { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [هود : 40] تفسيره في سورة المؤمنين { وَأَهْلَكَ إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [هود : 40] عطف على اثنين وكذا { وَمَنْ ءَامَنَ } [هود : 40] أي واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم واستثنى من أهله من سبق عليه القول أنه من أهل النار وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر بتقديره وإرادته جل خالق العباد عن أن يقع في الكون خلاف ما أراد { وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُا إِلا قَلِيلٌ } [هود : 40] قال عليه السلام : " كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم " وقيل كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة وقيل كانوا اثنين وسبعين رجالاً ونساء وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْاراـاهَا وَمُرْسَـاـاهَآ } [هود : 41] بسم الله متصل باركبوا حالاً من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها إما لأن المجرى والمرسى للوقت وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم خفوق النجم ويجوز أن يكون بسم الله
270
(2/160)
مجرها ومرساها جملة برأسها غير متعلقة بما قبلها وهي مبتدأ وخبر يعني أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها وكان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست.
مجريها بفتح الميم وكسر الراء من جرى إما مصدر أو وقت حمزة وعلي وحفص وبضم الله الميم وكسر الراء أبو عمرو والباقون بضم الميم وفتح الراء { إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ } [هود : 41] لمن آمن منهم { رَّحِيمٌ } حيث خلصهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 270
{ وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ } [هود : 42] متصل بمحذوف دل عليه اركبوا فيها بسم الله كأنه قيل فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم أي السفينة تجري وهم فيها { فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } [هود : 42] يريد موج الطوفان وهو جمع موجة كتمر وتمرة وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه بدخول الرياح الشديدة في خلاله شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } [هود : 42] كنعان وقيل يام والجمهور على أنه ابنه الصلبي وقيل كان ابن امرأته { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } [هود : 42] عن أبيه السفينة مفعل من عزله عنه إذانحاه وأبعده أو في معزل عن دين أبيه { يَـابُنَىَّ } بفتح الياء عاصم اقتصاراً عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة من قولك يا بنيا.
غيره بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة { ارْكَب مَّعَنَا } [هود : 42] في السفينة أي أسلم واركب { وَلا تَكُن مَّعَ الْكَـافِرِينَ } [هود : 42] { قَالَ سَـاَاوِى } [هود : 43] ألجأ { إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ } [هود : 43] يمنعني من الغرق { قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ } [هود : 43] إلا الراحم وهو الله تعالى أولاً عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين وذلك أنه لما جعل الجبل عاصماً من الماء قال له لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحم الله ونجاهم يعني السفينة
271
أو هو استثناء منقطع كأنه قيل ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله مالهم به من علم إلا اتباع الظن { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } [هود : 43] بين ابنه والجبل أو بين نوح وابنه { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43] فصار أو فكان في علم الله
جزء : 2 رقم الصفحة : 271
{ وَقِيلَ يَـا أَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ } انشفى وتشربي ، والبلع : النشف { وَيَـاسَمَآءُ أَقْلِعِى } [هود : 44] أمسكي { وَغِيضَ الْمَآءُ } [هود : 44] نقص من غاصه إذا نقصه وهو لازم ومتعد { وَقُضِىَ الامْرُ } [هود : 44] وأنجز ما وعد الله نوحاً من إهلاك قومه { وَاسْتَوَتْ } واستقرت السفينة بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر { عَلَى الْجُودِىِّ } [هود : 44] وهو جبل بالموصل { وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } أي سحقاً لقوم نوح الذين غرقوا يقال بعد بعداً وبَعَداً إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ولذلك اختص بدعاء السوء والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول تعالى لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد وأن نقطع طوفان المساء فانقطع وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يأتي منه لكمال هيبته العصيان وتشبيه تكون المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويراً لاقتداره العظيم وأن السماوات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته فيها تغييراً وتبديلاً كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته وأحاطوا علماً بوجوب الإنقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عز وجل { وَقِيلَ } على سبيل المجاز على الإرادة الواقع بسببها قول القائل وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو يا أرض ويا سماء ثم قال مخاطباً لهما يا
272
(2/161)
أرض ويا سماء على سبيل الاستعارة للشبه المذكور ثم استعار لعور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي ثم استعار الماء للغذاء تشبيهاً له بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات كتقوى الآكل بالطعام ثم قال ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لا تصال المال بالأرض كاتصال الملك بالمالك ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم التأني ثم قال وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا ولم يصرح بمن أغاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعداً كما لم يصرح بقائل يا أرض ويا سماء سلوكافي كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهاً لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلماً لأنفسهم إظهاراً لمكان السخط وأن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا لظلمهم ومن جهة علم المعان وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها وذلك أنه اختير يا دون أخواتها لكونها أكثر استعمالاً ولدلالتها على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة والملكوت وإبداء العزة والجبروت وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أرضي لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعي القرب ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار واختير لفظ الأرض والسماء لكونهما أخف وأدور واختير ابلعي على ابتلعي لكونه أخصر وللتجانس بينه وبين أقلعي وقيل أقلعي ولم يقل عن المطر وكذا لم يقل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعي أقلعت اختصاراً واختير غيض على غيّض وقيل الماء دون أن يقول ماء الطوفان والأمر ولم يقل أمر نوح وقومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف العهد عن ذلك ولم يقل وسويت على الجودي أي أقرت على نحو قيل وغيض اعتباراً لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وهي تجري بهم إرادة للمطابقة ثم قيل بعداً للقوم ولم يقل ليبعد القوم طلباً للتأكيد مع الاختصار هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي ولم يقل ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء جرياً
273
جزء : 2 رقم الصفحة : 272
على مقتضى اللازم فيمن كان مأموراً حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي قصداً بذلك لمعنى الترسيخ ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدىء به لابتداء الطوفان منها ثم اتبع وغيض الماء لإتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها ثم ذكر ما هو المقصود القصة وهو قوله وقضي الأمر أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في الفلك وعلى هذا فاعتبر ومن جهة الفصاحة المعنوية وهي كما ترى نظم للمعاني لطيف وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المزاد ولا التواء يشبك الطريق إلى المرتاد ومن جهة الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الأسَلات كل منها كالماء في السلاسة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة ومن ثم أطبق المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور فلعل المتروك أكثر من المسطور
جزء : 2 رقم الصفحة : 272
(2/162)
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ } [هود : 45] نداؤه ربه دعاؤه له وهو قوله رب مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله { إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى } [هود : 45] أي بعض أهلي لأنه كان ابنه من صلبه أو كان ربيباً له فهو بعض أهله و { إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى } [هود : 45] أي بعض أهلي لأنه كان ابنه من صلبه أو كان ربيباً له فهو بعض أهله { وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } [هود : 45] وإن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به وقد وعدتني أن تنجي أهلي فما بال ولدي { وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَـاكِمِينَ } [هود : 45] أي أعلم الحكام وأعدلهم إذ لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر { قَالَ يَـانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ثم علل لانتفاء كونه من أهله بقوله
274
{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـالِحٍ } [هود : 46] وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن نسيبك في دينك وإن كان حبشياً وكنت قرشياً لصيقك ومن لم يكن على دينك وإن كان أمسّ أقاربك رحماً فهو أبعد بعيد منك وجعلت ذاته عملاً غير صالح مبالغة في ذمة كقولها : فإنما هي إقبال وإدبار أو التقدير إنه ذو عمل وفيه إشعار بأنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم لا لأنهم أهله وهذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوته.
عمِل غير صالح علي قال الشيخ أبو منصور رحمه الله كان عند نوح عليه السلام أن ابنه كان على دينه لأنه كان ينافق وإلا لا يحتمل أن يقول ابني من أهلي ويسأله نجاته وقد سبق منه النهي عن سؤال مثله بقوله ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون فكان يسأله على الظاهر الذي عنده كما كان أهل النفاق يظهرون الموافقة لنبينا عليه السلام ويضمرون الخلاف له ولم يعلم بذلك حتى أطلعه الله عليه وقوله ليس من أهلك أي من الذين وعدت النجاة لهم وهم المؤمنون حقيقة في السر والظاهر
جزء : 2 رقم الصفحة : 274
{ فَلا تَسْـاَلْنِ } [الكهف : 70] اجتزاء بالكسر عن الياء كوفي تسألْني بصري تسألّني مدني تسألَنِّ شامي فحذف الياء واجتزأ بالكسرة والنون نون التأكيد تسألنَّ مكي { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [هود : 46] بجواز مسألته { إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ } [هود : 46] هو كما نهى رسولنا بقوله فلا تكونن من الجاهلين { قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } [هود : 47] أي من أن أطلب منك من المستقبل ما لا علم لي بصحته تأدباً بأدبك واتعاظاً بموعظتك { وَإِلا تَغْفِرْ لِى } [هود : 47] ما فرط مني { وَتَرْحَمْنِى } بالعصمة عن العود إلى مثله { أَكُن مِّنَ الْخَـاسِرِينَ * قِيلَ يَـانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَـامٍ مِّنَّا } بتحية منا أو بسلامة من الغرق { وَبَرَكَـاتٍ عَلَيْكَ } [هود : 48] هي الخيرات النامية وهي في حقه بكثرة ذريته وأتباعه فقد جعل أكثر الأنبياء من ذريته وأئمة الدين في القرون الباقية من نسله { وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [هود : 48] من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم
275
لأن الأمم تتشعب منهم أو لابتداء الغاية أي على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه { وَأُمَمٌ } رفع بالابتداء { سَنُمَتِّعُهُمْ } في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش صفة والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم وإنما حذف لأن ممن معك يدل عليه { ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [هود : 48] أي في الآخرة والمعنى أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤن ممن معك.
وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة وعن محمد ابن كعب دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إِلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر
جزء : 2 رقم الصفحة : 274
(2/163)
{ تِلْكَ } إشارة إلى قصة نوح عليه السلام ومحلها الرفع على الابتداء والجمل بعدها وهي { مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلا قَوْمُكَ } [هود : 49] أخبار أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك مجهولة وعند قومك { مِن قَبْلِ هَـاذَا } [الأحقاف : 4] الوقت أو من قبل إيحائي إليك وإخبارك بها { فَاصْبِرْ } على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما كان لنوح وقومه { إِنَّ الْعَـاقِبَةَ } [هود : 49] في الفوز والنصر والغلبة { لِلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ } [الأعراف : 65] واحداً منهم وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحاً أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم { هُودًا } عطف بيان { قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } وحدوه { مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا } [الأعراف : 59] بالرفع نافع صفة على محل الجار والمجرور وبالجر عليّ على اللفظ { إِنْ أَنتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ } [هود : 50] تفترون على الله الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء { يَـاقَوْمِ لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلا تَعْقِلُونَ } ما من
276
رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم النصيحة والنصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع { تَتْلُونَ الْكِتَـابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] إذ تردون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله وهو ثواب الآخرة ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 276
{ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } آمنوا به { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [هود : 61] من عبادة غيره { يُرْسِلِ السَّمَآءَ } [نوح : 11] أي المطر { عَلَيْكُم مِّدْرَارًا } [نوح : 11] حال أي كثير الدرر { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } [هود : 52] إنما قصد استمالتهم إلى الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين فكانوا أحوج شيء إلى الماء وكانوا مدلين بما أوتوا من شدة البطش والقوة وقيل أراد القوة بالمال أو على النكاح وقيل حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم فوعدهم هود عليه السلام المطر والأولاد على الإيمان والاستغفار وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية فلما خرج قال له بعض حجابه إني رجل ذو مال ولا يولد لي علمني شيئاً لعل الله يرزقني ولدا فقال الحسن عليك بالاستغفار فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال ألم تسمع قول هود : ويزدكم قوة إلى قوتكم ، وقول نوح : ويمددكم بأموال وبنين { وَلا تَتَوَلَّوْا } [هود : 52] ولا تعرضوا عني وعما أدعو إليه { مُجْرِمِينَ } مصرين على إجرامكم وآثامكم { قَالُوا يَـاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } كذب منهم وجحود كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [يونس : 20] مع فوت آياته الحصر { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } [هود : 53] هو حال من من الضمير في تاركي آلهتنا كأنه قيل وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [هود : 53] وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه أقناطاً له من الإجابة { إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَاـاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُواءٍ } [هود : 54] إن حرف نفي فنفى جميع القول
277
إلا قولاً واحداً وهو قولهم اعتراك أصابك بعض آلهتنا بسوء بجنون وخبل وتقدير ما نقول قولا إل هذه المقالة أي قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء { قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [هود : 54]
جزء : 2 رقم الصفحة : 277
(2/164)
{ مِن دُونِهِ } أي من إشراككم آلهة من دونه والمعنى إني أشهد الله أني برىء مما تشركون واشهدوا أنتم أيضاً إني برىء من ذلك وجىء به على لفظ الأمر بالشهادة كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه أشهد على أني لا أحبك تهكما به واستهانة بحاله { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } [هود : 55] أنتم وآلهتكم { ثُمَّ لا تُنظِرُونِ } [هود : 55] لا تمهلون فإني لا أبالي بكم وبكيدكم ولا أخاف معرتكم وإن تعاونتم على وكيف تضرني آلهتكم وما هي إلا جماد لا يضر ولا ينفع وكيف تنتقم مني إذا نلت منها وصددت عن عبادتها بأن تخبلني وتذهب بعقلي { إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُ بِنَاصِيَتِهَآ } [هود : 56] أي مالكها ، ولما ذكر توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ومن كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه والأخذ بالناصية تمثيل لذلك { إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [هود : 56] إن ربي على الحق لا يعدل عنه أو إن ربي يدل على صراط مستقيم { فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } [هود : 57] هو في موضع فقد ثبتت الحجة عليكم { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ } [هود : 57] كلام مستأنف أي ويهلككم الله ويجىء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم { وَلا تَضُرُّونَهُ } [هود : 57] بتوليكم { شيئا } من ضرر قط إذ لا يجوز علي المضار وإنما تضرون أنفسكم { إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ } [هود : 57] رقيب عليه مهيمن فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم أو من كان رقيباً على الأشياء كلها حافظاً لها وكانت الأشياء مفتقرة إلى حفظه عن المضار لم يضر مثله مثلكم
278
جزء : 2 رقم الصفحة : 278
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [هود : 58] وكانوا أربعة آلاف { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } [هود : 94] أي بفضل منا لا بعملهم أو بالإيمان الذي أنعمنا عليهم { وَنَجَّيْنَـاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود : 58] وتكرار نجينا للتأكيد أو الثانية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه { عَادٌ جَحَدُوا } [هود : 59] إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ثم استأنف وصف أحوالهم فقال : { جَحَدُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ } [هود : 59] لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله لا نفرق بين أحد من رسله { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } [هود : 59] يريد رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل لأنهم الذين يجبرون الناس على الأمور ويعاندون ربهم ومعنى اتباع أمرهم طاعتهم { وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [هود : 60] لما كانوا تابعين لهم دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِّعَادٍ } [هود : 60] تكرار ألا مع النداء على كفرهم والدعاء عليهم تهويل لأمرهم وبعث على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم والدعاء ببعداً بعد هلاكهم وهو دعاء بالهلاك للدلالة على أنهم كانوا مستأهلين له { قَوْمِ هُودٍ } [هود : 60] عطف بيان لعاد وفيه فائدة لأن عادا عادان الأولى القديمة التي هي قوم هود والقصة فيهم والأخرى إرم { الارْضِ } لم ينشئكم منها إلا هو وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ثم خلقهم من آدم { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود : 61] وجعلكم عمارها وأراد منكم عمارتها أو استعمركم من العمر أي أطال أعماركم فيها وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من الظلم فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى
279
إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي { فَاسْتَغْفِرُوهُ } فاسألوا مغفرته بالإيمان { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ } [هود : 61] داني الرحمة { مُّجِيبٌ } لمن دعاه
جزء : 2 رقم الصفحة : 279
(2/165)
{ قَالُوا يَـاصَـالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا } فيما بيننا { مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـاذَآ } [هود : 62] للسيادة والمشاورة في الأمور أو كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه { أَتَنْهَـاـانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا } [هود : 62] حكاية حال ماضية { وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ } [هود : 62] من التوحيد { مُرِيبٍ } موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة { قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَءَاتَـاـانِى } نبوة أتى بحرف الشك مع أنه على يقين أنه على بينة لأن خطابه للجاحدين فكأنه قال قدروا أنى على بينة من ربي وأنني نبي على الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ } [هود : 63] فمن يمنعني من عذاب الله { إِنْ عَصَيْتُهُ } [هود : 63] في تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان { فَمَا تَزِيدُونَنِى } [هود : 63] بقولكم : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } [هود : 63] بنسبتكم إياي إلى الخسار أو بنسبتي إياكم إلى الخسران { مِّن رَّبِّكُمْ هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } نصب على الحال قد عمل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل ولكم متعلق بآية حالاً منها متقدمة لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدمت انتصبت على الحال { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ } [الأعراف : 73] أي ليس عليكم رزقها مع أن لكم نفعها { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ } [الأعراف : 73] عقر أو نحر { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } [هود : 64] عاجل { فَعَقَرُوهَا } يوم الأربعاء { فَقَالَ } صالح { تَمَتَّعُوا } استمتعوا بالعيش { فِى دَارِكُمْ } [هود : 65] في بلدكم وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي يتصرف أو في
280
دار الدنيا { ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ } [آل عمران : 41] ثم تهلكون فهلكوا يوم السبت { ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود : 65] أي غير مكذوب فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به أو وعد غير كذب على أن المكذوب مصدر كالمعقول
جزء : 2 رقم الصفحة : 280
{ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } [هود : 82] بالعذاب أو عذابنا { نَجَّيْنَا صَـالِحًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } [هود : 66] قال الشيخ رحمه الله : هذا يدل على أن من نجى إنما نجى برحمة الله تعالى لا بعمله كما قال عليه السلام : " لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله " { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِـاـاِذٍ } [هود : 66] بإضافة الخزي إلى اليوم وإنجرار اليوم بالإضافة.
وبفتحها مدني وعلي لأنه مضاف إلي إذ وهو مبني وظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأسماء المبهمة والأفعال الماضية بنيت واكتسبت البناء من المضاف إليه كقوله على حين عاتبت المشيب على الصبا والواو للعطف وتقديره ونجيناهم من خزي يومئذ أي من ذله وفضيحته ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه وجاز أن يريد بيومئذ يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِىُّ } [هود : 66] القادر على تنجية أوليائه { الْعَزِيزُ } الغالب بإهلاك أعدائه { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } أي صيحة جبريل عليه السلام { فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـارِهِمْ } [هود : 67] منازلهم { جَـاثِمِينَ } ميتين { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } [هود : 68] لم يقيموا فيها { أَلا إِنَّ ثَمُودَا كَفرُوا رَبَّهُمْ } ثمودَ حمزة وحفص { أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ } [هود : 68] لِثَمُودٍ علي فالصرف للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة
281
جزء : 2 رقم الصفحة : 281
(2/166)
{ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ } [هود : 69] جبريل وميكائيل وإسرافيل أو جبريل مع أحد عشر ملكاً { إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } [العنكبوت : 31] هي البشارة بالولد أو بهلاك قوم لوط والأول أظهر { قَالُوا سَلَـامًا } [الفرقان : 63] سلمنا عليك سلاماً { قَالَ سَلَـامٌ } [مريم : 47] أمركم سلام.
سِلم حمزة وعلي بمعنى السلام { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ } [هود : 69] فما لبث في المجيء به بل عجل فيه أو فما لبث مجيئه ، والعجل ولد البقرة وكان مال إبراهيم البقر { حَنِيذٍ } مشوي بالحجارة المحماة { فَلَمَّا رَءَآ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } نكر وأنكر بمعنى وكانت عادتهم أنه إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه والظاهرة أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه أو لتعذيب قومه دليله قوله { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [هود : 70] أي أضمر منم خوفاً { قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } [هود : 70] بالعذاب وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيم أرسلوا وإنما قالوا لا تخف لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ } [هود : 71] وراء الستر تسمع تحاورهم أو على رؤوسهم تخدمهم { فَضَحِكَتْ } سروراً بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث أو من غفلة قوم لوط مع قرب العذاب أو فحاضت { فَبَشَّرْنَـاهَا بِإِسْحَـاقَ } [هود : 71] وخصت بالبشارة لأن النساء أعظم سروراً بالولد من الرجال ولأنه لم يكن لها ولد وكان لإبراهيم ولد وهو إسماعيل { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَـاقَ } [هود : 71] ومن بعده { يَعْقُوبَ } بالنصب شامي وحمزة وحفص بفعل مضمر دل عليه فبشرناها أي فبشرناها بإسحاق ووهبنا لها يعقوب من وراء إسحاق وبالرفع غيرهم على الابتداء والظرف قبله خبر كما تقول في الدار زيد { قَالَتْ يَـا أَيُّهَا } الألف مبدلة من ياء الإضافة وقرأ الحسن يا ويلتي بالياء على الأصل { ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَـاذَا } [هود : 72] ابنة تسعين سنة { وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } [هود : 72] ابن مائة وعشرين
282
سنة ، هذا مبتدأ وبعلي خبره وشيخاً حال والعامل معنى الإشارة التي دلت عليه ذا أو معنى التنبيه الذي دل عليه هذا { إِنَّ هَـاذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ } [هود : 72] أن يولد ولد من هرمين وهو استبعاد من حيث العادة
جزء : 2 رقم الصفحة : 282
{ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [هود : 73] قدرته وحكمته وإنما أنكرت الملائكة تعجبها لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان عليها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء الناشئات في غير بيت النبوة وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب وإلى ذلك أشارت الملائكة حيث قالوا { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ } [هود : 73] أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة فليست بمكان عجيب وهو كلام مستأنف علل به إنكار التعجب كأنه قيل إياك والتعجب لأن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم.
وقيل الرحمة : النبوة ، والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم وأهل البيت نصب على النداء أو على الاختصاص { إِنَّهُ حَمِيدٌ } [هود : 73] محمود بتعجيل النعم { مَّجِيدٌ } ظاهر الكرم بتأجيل النقم { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } [هود : 74] الفزع وهو ما أوجس من الخيفة حين نكر أضيافه { وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى } [هود : 74] بالولد { يُجَـادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ } [هود : 74] أي لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملىء سروراً بسبب البشرى فرغ للمجادلة.
وجواب لما محذوف تقديره أقبل يجادلنا أو يجادلنا جواب لما وإنما جيء به مضارعاً لحكاية الحال والمعنى يجادل رسلنا ومجادلته إياهم أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال أرأيتم لو كان فيها خمسون مؤمناً أتهلكونها قالوا : لا ، قال فأربعون قالوا : لا ، قال فثلاثون قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا : لا ، قال أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } [هود : 75] غير عجول على كل من أساء إليه أو كثير الاحتمال
283
(2/167)
ممن آذاه ، صفوح عمن عصاه { أَوَّاهٌ } كثير التأوه من خوف الله { مُّنِيبٌ } تائب راجع إلى الله وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة فبين أن ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة كما حمله على الاستغفار لأبيه فقالت الملائكة
جزء : 2 رقم الصفحة : 283
{ مُّنِيبٌ * يَـاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ } الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } [هود : 76] قضاؤه وحكمه { وَإِنَّهُمْ ءَاتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود : 76] لا يرد بجدال وغير ذلك عذاب مرتفع باسم الفاعل وهو آتيهم تقديره وإنهم يأتيهم ثم خرجوا من عند إبراهيم متوجهين نحو قوم لوط وكان بين قرية إبراهيم وقوم لوط أربعة فراسخ { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا } [هود : 77] لما أتوه ورأى هيئاتهم وجمالهم { سِى ءَ بِهِمْ } [هود : 77] أحزن لأنه حسب أنهم إِنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } [هود : 77] تمييز أي وضاق بمكانهم صدره { وَقَالَ هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } [هود : 77] شديد روى أن الله تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرهم قال أشهد الله إنها لشر قرية في الأرض عملاً قال ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } [هود : 78] يسرعون كأنما يدفعون دفعاً { وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ } [هود : 78] ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش حتى مرنوا عليها وقل عندهم استقباحها فلذلك جاؤوا يهرعون مجاهرين لا يكفهم حياء { قَالَ يَـاقَوْمِ هؤلاء بَنَاتِى } فتزوجوهن أراد أن يقي أضيافه ببناته وذلك غاية الكرم وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزاً في ذلك الوقت كما جاز في الابتداء في هذه الأمة فقد
284
زوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابنتيه من عتبه بن أبي لهب وأبي العاص وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد لوط أن يزوجهما ابنتيه { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [هود : 78] أحل هؤلاء مبتدأ وبناتي عطف بيان وهن فصل وأطهر خبر المبتدأ أو بناتي خبر وهن أطهر مبتدأ وخبر { فَاتَّقُوا اللَّهَ } [آل عمران : 123] بإيثارهن عليهم { وَلا تُخْزُونِ } [الحجر : 69] ولا تهينوني ولا تفضحوني من الخزي أو ولا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء وبالياء أبو عمرو في الوصل { فِى ضَيْفِى } [هود : 78] في حق ضيوفي فإنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزى الرجل وذلك من عراقة الكرم وأصالة المروءة { أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } [هود : 78] أي رجل واحد يهتدي إلى طريق الحق وفعل الجميل والكف عن السوء
جزء : 2 رقم الصفحة : 284
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } [هود : 79] حاجة لأن نكاح الإناث أمر خارج عن مذهبنا إتيان الذكران { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [هود : 79] عنوا إتيان الذكور وما لهم فيه من الشهوة { قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [هود : 80] جواب لو محذوف أي لفعلت بكم ولصنعت والمعنى لو قويت عليكم بنفسي أو أويت إلى قوي أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم فشبه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته.
روى أنه أغلق بابه حين جاؤوا وجعل ترادّهم ما حكى الله عنه وتجادلهم فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقى لوط من الكرب
285
جزء : 2 رقم الصفحة : 285
(2/168)
{ قَالُوا يَـا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ } [يوسف : 97-70] إن ركنك لشديد { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ } [هود : 81] فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه في عقوبتهم فأذن له فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم كما قال الله تعالى فطمسنا أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون : النجاء ، النجاء فإن في بيت لوط قوماً سحرة { لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ } [هود : 81] جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره { فَأَسْرِ } فأسر بالوصل حجازي من سرى { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ } [الحجر : 65] طائفة منه أو نصفه { وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } [هود : 81] بقلبه إلى ما خلف أو لا ينظر إلى ما وراءه أو لا يتخلف منكم أحد { إِلا امْرَأَتَكَ } [هود : 81] مستثنى من فأسر بأهلك.
وبالرفع مكي وأبو عمرو على البدل من أحد وفي إخراجها مع أهله روايتان روى أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها وروى أنه أمر بأن يخلفها مع قومها فإنّ هواها إليهم فلم يسر بها واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين
{ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ } [هود : 81] أي إن الأمر وروي أنه قال لهم متى موعد هلاكهم قالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ } [هود : 81] فقال : أريد أسرع من ذلك فقالوا : { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [هود : 81] { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا } [هود : 82] جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها أي أسفل قراها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم وأتبعوا الحجارة من فوقهم وذلك قوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [هود : 82] هي كلمة معربة من سنك كل بدليل قوله حجارة من طين { مَّنضُودٍ } نعت لسجيل أي متتابع أو مجموع معد للعذاب
286
جزء : 2 رقم الصفحة : 286
{ مُّسَوَّمَةً } نعت لحجارة أي معلمة للعذاب قيل مكتوب على كل واحد اسم من يرمي به { عِندَ رَبِّكَ } [الكهف : 46] في خزائنه أو في حكمه { وَمَا هِىَ مِنَ الظَّـالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود : 83] بشيء بعيد وفيه وعيد لأهل مكة فإن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهي بعرَض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة أو الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } [العنكبوت : 36] هو اسم مدينتهم أو اسم جدهم مدين بن إبراهيم أي وأرسلنا شعيباً إلى ساكني مدين أو إلى بني مدين { قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ } أي المكيل بالمكيال { وَالْمِيزَانَ } والموزون بالميزان { إِنِّى أَرَاـاكُم بِخَيْرٍ } [هود : 84] بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون { وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [هود : 84] مهلك من قوله وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو والمراد عذاب الاستئصال في الدنيا أو عذاب الآخرة { مُّحِيطٍ * وَيَـاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } اتموهما { بِالْقِسْطِ } بالعدل نهوا أولاً عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول لزيادة الترغيب فيه وجيء به مقيداً بالقسط أي ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان
جزء : 2 رقم الصفحة : 287
{ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [الأعراف : 85] البخس : النقص كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء فنهوا عن ذلك { وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ } [البقرة : 60] العثي والعيث أشد الفساد نحو السرقة والغارة وقطع السبيل ويجوز أن يجعل البخس والتطفيف عثيا منهم في الأرض { بَقِيَّتُ اللَّهِ } [هود : 86] ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم
287
(2/169)
{ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [الأعراف : 85] بشرط أن تؤمنوا.
نعم بقية الله خير للكفرة أيضاً لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف إلا أن فائدتها تظهر مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ولا تظهر مع عدمه لإنغماس صاحبها في غمرات الكفر وفي ذلك تعظيم للإيمان وتنبيه على جلالة شأنه أو المراد إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم { وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [الأنعام : 104] لنعمة عليكم فاحفظوها بترك البخس
جزء : 2 رقم الصفحة : 287
{ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ } [يوسف : 97-177] وبالتوحيد كوفي غير أبي بكر { قَالُوا يَـاشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى } [هود : 87] كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات وكان قومه يقولون له ما تستفيد بهذا فكان يقول : إنها تأمر بالمحاسن وتنهى عن القبائح فقالوا على وجه الاستهزاء أصلواتك تأمرك أن تأمرنا بترك عبادة ما كان يعبد آباؤنا أو أن نترك التبسط في أموالنا ما نشاء من إيفاء ونقص جاز أن تكون الصلوات آمرة مجازاً كما سماها الله تعالى ناهية مجازاً { إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود : 87] أي السفية الضال وهذه تسمية على القلب استهزاء أو إنك حليم رشيد عندنا ولست تفعل بنا ما يقتضيه حالك { قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ } [هود : 88] من لدنه { رِزْقًا حَسَنًا } [النحل : 75] يعني النبوة والرسالة أو مالاً حلالاً من غير بخس وتطفيف وجواب أرأيتم محذوف أي أخبروني إن كنت على حجة واضحة من ربي وكنت نبياً على الحقيقة أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك.
يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى لماء يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً ومنه قوله : { عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد
288
بها دونكم { إِنْ أُرِيدُ إِلا الاصْلَـاحَ } [هود : 88] ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر { مَا اسْتَطَعْتُ } [هود : 88] ظرف أي مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً { وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللَّهِ } [هود : 88] وما كوني موفقاً لإصابة الحق فيما آتى وآذر إلا بمعونته وتأييده { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [هود : 88] اعتمدت { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود : 88] أرجع في السراء والضرآء.
جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين ومنه قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 288
(2/170)
{ أُنِيبُ * وَيَـاقَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم } أي لا يكسبنكم خلافي إصابة العذاب { مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَـالِحٍ } [هود : 89] وهو الغرق والريح والرجفة { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [هود : 89] في الزمان فهم أقرب الهالكين منكم أو في المكان فمنازلهم قريبة منكم أو فيما يستحق به الهلاك وهو الكفر والمساوىء.
وسُوِّي في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوها { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ } [هود : 90] يغفر لأهل الجفاء من المؤمنين { وَدُودٌ } يحب أهل الوفاء من الصالحين { قَالُوا يَـاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ } أي لا نفهم صحة ما تقول وإلا فكيف لا يفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء { وَإِنَّا لَنَرَاـاكَ فِينَا ضَعِيفًا } [هود : 91] لا قوة لك ولا عز فيما بيننا فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً { وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـاكَ } [هود : 91] ولولا عشيرتك لقتلناك بالرجم وهو شر قتلة وكان رهطه من أهل ملتهم فلذلك أظهروا الميل إليهم والإكرام لهم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } [هود : 91] أي لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك على الرجم وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل لا في
289
الفعل كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا ولذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 289
{ قَالَ } في جوابهم { قَالَ يَـاقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ } [هود : 92] ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب وإنما قال : أرهطي أعز عليكم من الله والكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه لأن تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله وحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله ألا ترى أن قوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيًّا } [هود : 92] ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المبنوذ وراء الظهر لا يعبأ به والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبة إلى الأمس أمسى { إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [هود : 92] قد أحاط بأعمالكم علماً فلا يخفى عليه شيء منها { لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [هود : 121] هي بمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة أو مصدر من مكن مكانة فهومكين إذا تمكن من الشيء يعني اعملوا قارين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك ، والشنآن لي أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها { إِنِّى عَـامِلٌ } [هود : 93] على حسب ما يؤتيني الله من النصرة والتأييد ويمكنني { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَـاذِبٌ } [هود : 93] من استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها كأنه سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه أي يفضحه وأينا هو كاذب أو موصولة قد عمل فيها كأنه قيل سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب في زعمكم ودعواكم وإدخال الفاء في سوف وصل ظاهر بحرف وضع للوصل ونزعها وصل تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال سوف تعلمون والإتيان بالوجهين للتفنن في البلاغة وأبلغهما الاستئناف { وَارْتَقِبُوا } وانتظروا العاقبة وما أقول لكم { إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [هود : 93] منتظر ، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب بمعنى الضارب أو بمعنى المراقب كالعشير بمعنى المعاشر أو بمعنى المرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع
290
جزء : 2 رقم الصفحة : 290
(2/171)
{ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [هود : 94] صاح بهم جبريل صيحة فهلكوا وإنما ذكر في آخر قصة عاد ومدين ولما جاء وفي آخر قصة ثمود ولوط فلما جاء لأنهما وقعا بعد ذكر الموعد وذلك قوله : إن موعدهم الصبح.
ذلك وعد غير مكذوب ، فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب كقولك وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت وأما الأخريان فقد وقعتا مبتدأتين فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة { فَأَصْبَحُوا فِى دِيَـارِهِمْ جَـاثِمِينَ } [هود : 67] الجاثم اللازم لمكانه لا يريم يعني أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو بغتة { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } [هود : 68] كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين { أَلا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ } [هود : 95] البعد بمعنى البعد وهو الهلاك كالرشد بمعنى الرشد ألا ترى إلى قوله : { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } [هود : 95] وَقرى كما بعُدت والمعنى في البناءين واحد وهو نقيض القرب إلا أنهم فرقوا بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا : وعد وأوعد { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَا وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [هود : 96] المراد به العصا لأنها أبهرها { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ فَاتَّبَعُوا } [هود : 97] أي الملأ { أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود : 97] هو تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره وهو ضلال مبين وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم وجاهر بالظلم والشر الذي لا يأتي إلا من شيطان ومثله بمعزل عن الألوهية وفيه أنهم عاينوا الآيات والسلطان المبين وعلموا أن مع موسى الرشد والحق ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في أمره رشد قط أو المراد وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله
291
جزء : 2 رقم الصفحة : 291
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [هود : 98] أي يتقدمهم وهم على عقبه تفسيراً له وإيضاحاً أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى كما استعمل الغي في كل ما يذم ويقال قدَمه بمعنى تقدمه { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [هود : 98] أدخلهم وجيء بلفظ الماضي لأن الماضي يدل على أمر موجود مقطوع به فكأنه قيل يقدمهم فيوردهم النار لا محالة يعني كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه { وَبِئْسَ الْوِرْدُ } [هود : 98] المورد و { الْمَوْرُودُ } الذي وردوه شبه بألفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردة ثم قال : وبئس الورد المورود الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش والنار ضده { وَأُتْبِعُوا فِى هَـاذِهِ } [هود : 60] أي الدنيا { لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [هود : 60] أي يلعنون في الدنيا ويلعنون في الآخرة { بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود : 99] رفدهم أي بئس العون المعان أو بئس العطاء المعطي { ذَالِكَ } مبتدأ { مِنْ أَنابَآءِ الْقُرَى } [هود : 100] خبر { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } [هود : 100] خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أبناء القرى المهلكة مقصوص عليك { مِنْهَا } من القرى { قَآ ـاِمٌ وَحَصِيدٌ } [هود : 100] أي بعضها باق وبعضها عافي الأثر كالزرع القائم على ساقه والذي حصد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب { وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ } [هود : 101] بإهلاكنا إياهم { وَلَـاكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [هود : 101] بارتكاب ما به أهلكوا { فَمَآ أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتُهُمُ } [هود : 101] فما قدرت أن ترد عنهم بأس الله { الَّتِى يَدْعُونَ } [هود : 101] يعبدون وهي حكاية حال ماضية { مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } [هود : 101] عذابه ولما منصوب بما أغنت { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [هود : 101] تخسير يقال تب إذا خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران يعني وما أفادتهم عبادة غير الله شيئاً بل أهلكتهم
292
جزء : 2 رقم الصفحة : 292
(2/172)
{ وَكَذالِكَ } محل الكاف الرفع أي ومثل ذلك الأخذ { أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ الْقُرَى } [هود : 102] أي أهلها { وَهِىَ ظَـالِمَةٌ } [هود : 102] حال من القرى { إِنَّ أَخْذَهُا أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102] مؤلم شديد صعب على المأخوذ وهذا تحذير لكل قرية ظالمة من كفار مكة وغيرها فعلى كل ظالم أن يبادر التوبة ولا يغتر بالإمهال { إِنَّ فِى ذالِكَ } [السجدة : 26] فيما قص الله من قصص الأمم الهالكة { لايَةً } لعبرة { لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخِرَةِ } [هود : 103] أي اعتقد صحته ووجوده { ذَالِكَ } إشارة إلى يوم القيامة لأن عذاب الآخرة دل عليه { يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ } [هود : 103] وهو مرفوع بمجموع كما يرفع فعله إذا قلت يجمع له الناس وإنما أوثر اسم المفعول على فعله لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم.
وإنه أثبت أيضاً الإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه يجمعون للحساب والثواب والعقاب { وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود : 103] أي مشهود فيه فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد
{ وَمَآ } أي اليوم المذكور.
الأجل يطلق على مدة التأجيل كلها وعلى منتهاها ، والعد إنما هو للمدة لا لغايتها ومنتهاها ، فمعنى قوله وما نؤخره { نُؤَخِّرُهُا إِلا لاجَلٍ مَّعْدُودٍ } [هود : 104] إلا لانتهاء مدة معدودة بحذف المضاف أو ما نؤخر هذا اليوم إلا لتنتهي المدة التي ضربناها لبقاء الدنيا { يَوْمَ يَأْتِ } [هود : 105] وبالياء مكي وافقه أبو عمرو ونافع وعلى في الوصل وإثبات الياء هو الأصل إذ لا علة توجب حذفها وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونظيره { مَا كُنَّا نَبْغِ } [الكهف : 64] وفاعل يأت ضمير يرجع إلى قوله يوم مجموع له الناس لا اليوم المضاف إلى يأت ويوم منصوب باذكر أو بقوله { لا تَكَلَّمُ } [هود : 105] أي لا تتكلم { نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105] أي لا يشفع أحد أحدا إلا بإذن الله ،
293
{ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُا إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] { فَمِنْهُمْ } الضمير لأهل الموقف لدلالة لأتكلم نفس عليه وقد مر ذكر الناس في قوله مجموع له الناس { شَقِىٌّ } معذب { وَسَعِيدٌ } أي ومنهم سعيد أي منعم
جزء : 2 رقم الصفحة : 293
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } [هود : 106] هو أول نهيق الحمار { وَشَهِيقٌ } هو آخره أو هما إخراج النفس ورده والجملة في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار الذي في النار { خَـالِدِينَ فِيهَا } [الجن : 23] حال مقدرة { مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ } [هود : 107] في موضع النصب أي مدة دام السماوات والأرض والمراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد والدليل على أن لها سماوات وأرضاً قوله { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ وَالسَّمَـاوَاتُ } [إبراهيم : 48] وقيل ما دام فوق وتحت ولأنه لا بد لأهله الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء أو عرش وكل ما أظلك فهو سماء أو هو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب : ما لاح كوكب ، وغير ذلك من كلمات التأبيد { إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } [هود : 107] هو استثناء من الخلود في عذاب النار وذلك لأن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وأنواع من العذاب سوى عذاب النار أو بما شاء بمعنى من شاء وهم قوم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيقال لهم الجهنميون وهم المستثنون من أهل الجنة أيضاً لمفارقتهم إياها بكونهم في النار أياماً فهؤلاء لم يشقوا شقاوة من يدخل النار على التأبيد ولا سعدوا سعادة من لا تمسه النار وهو مروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة رضي الله عنهم { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود : 107] بالشقي والسعيد { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا } [هود : 108] سُعدوا حمزة وعلي وحفص.
سَعد لازم
294
وسعَده يسعَده متعد { فَفِى الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ إِلا مَا شَآءَ رَبُّكَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 294
(2/173)
هود : 108] هو استثناء من الخلود في نعيم الجنة وذلك أن لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وهو رؤية الله تعالى ورضوانه أو معناه إلا من شاء أن يعذبه بقدر ذنبه قبل أن يدخله الجنة وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال الاستثناء في الآيتين لأهل الجنة ومعناه ما ذكرنا أنه لا يكون للمسلم العاصي الذي دخل النار خلود في النار حيث يخرج منها ولا يكون له أيضاً خلود في الجنة لأنه لم يدخل الجنة ابتداء ، والمعتزلة لما لم يروا خروج العصاة من النار ردوا الأحاديث المروية في هذا الباب وكفى به إثماً مبيناً { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود : 108] غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية كقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [فصلت : 8] وهو نصب على المصدر أي أطعوا عطاء قيل كفرت الجهمية بأربع آيات { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود : 108].
{ أُكُلُهَا دَآ ـاِمٌ } [الرعد : 35].
{ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ } [النحل : 96].
{ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ } [الواقعة : 33].
لما قص الله قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحل بهم من نقمه وما أعد لهم من عذابه قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 294
{ فَلا تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء } [هود : 109] أي فلان تشك بعدما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وعدة بالانتقام منهم ووعيداً لهم ثم قال : { هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبْلُ } يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزل بهم مثله وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية وما في مما وكما مصدرية أو
295
موصولة أي من عبادتهم وكعبادتهم أو مما يعبدون من الأوثان ومثل ما يعبدون منها { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [هود : 109] حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم { غَيْرَ مَنقُوصٍ } [هود : 109] حال عند نصيبهم أي كاملاً
جزء : 2 رقم الصفحة : 295
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة { فَاخْتُلِفَ فِيهِ } [هود : 110] آمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف في القرآن وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } [يونس : 19] أنه لا يعاجلهم بالعذاب { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } [يونس : 19] بين قوم موسى أو قومك بالعذاب المستأصل { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ } [هود : 110] من القرآن أو من العذاب { مُرِيبٍ } من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي { وَإِنَّ كُلا } [هود : 111] التنوين عوض عن المضاف إليه يعني وإن كلهم أي وإن جميع المختلفين فيه وإن مشددة { لَّمَّا } مخفف بصري وعلى ، ما مزيدة جيء بها ليفصل بها بين لام إن ولام { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } وهو جواب قسم محذوف واللام في لما موطئة للقسم والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم { رَبُّكَ أَعْمَـالَهُمْ } [هود : 111] أي جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح.
بعكس الأولى أبو بكر ، مخففان مكي ونافع على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتباراً لأصلها الذي هو التثقيل ولأن إن تشبه الفعل والفعل يعمل قبل الحذف وبعده نحو لم يكن ولم يك فكذا المشبه به مشددتان غيرهم وهو مشكل وأحسن ما قيل فيه أنه من لممت الشيء جمعته لمَّا ثم وقف فصار لما ثم أجرى الوصل مجرى الوقوف وجاز أن يكون مثل الدعوى والشروى وما فيه ألف التأنيث من المصادر وقرأ الزهري وإن كلا لما بالتنوين كقوله : { أَكْلا لَّمًّا } [الفجر : 19].
وهو يؤيد ما ذكرنا والمعنى وإن كلا ملمومين أي مجموعين كأنه قيل وإن كلا جميعاً كقوله { فَسَجَدَ الْمَلَـائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر : 30] وقال صاحب الإيجاز لما فيه معنى الظرف وقد دخل في الكلام اختصار كأنه قيل وإن
296
كلا لما بعثوا ليوفينهم ربك أعمالهم وقال الكسائي ليس لي بتشديد لما علم { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [هود : 111]
جزء : 2 رقم الصفحة : 296
(2/174)
{ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [هود : 112] فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها { وَمَن تَابَ مَعَكَ } [هود : 112] معطوف على المستتر في استقم وجاز للفاصل يعني فاستقم أنت وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصاً { وَلا تَطْغَوْا } [هود : 112] ولا تخرجوا عن حدود الله { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [هود : 112] فهو مجازيكم فاتقوه قيل ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم آية كانت أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال : " شيبتني هود " { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } [هود : 113] ولا تميلوا قال الشيخ رحمه الله هذا خطاب لأتباع الكفرة أي لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [هود : 113] وقيل الركون إليهم الرضا بكفرهم وقال قتادة ولا تلحقوا بالمشركين وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه فلما أفاق قيل له فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم وعن الحسن جعل الله الدين بين لاءين ولا تطغوا ولا تركنوا وقال سفيان في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه " ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّية هل يسقي شربة ماء فقال :
297
لا ، فقيل له يموت قال دعه يموت { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [هود : 113] حال من قوله فتمسكم النار أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة ومعناه وما لكم من دون الله من أولياء يقدرون على منعكم من عذاب ولا يقدر على منعكم منه غيرها { ثُمَّ } ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم ومعنى ثم الاستبعاد أي النصرة من الله مستبعدة
جزء : 2 رقم الصفحة : 297
{ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ } [هود : 114] غدوة وعشية { وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ } [هود : 114] وساعات من الليل جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وصلاة الغدوة الفجر وصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء وانتصاب طرفي النهار على الظرف لأنهما مضافان إلى الوقت كقولك أقمت عنده جميع النهار وأتيته نصف النهار وأوله وآخره.
تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه { إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ } [هود : 114-84] إن الصلوات الخمس يذهبن الذنوب وفي الحديث " إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب " أو الطاعات.
قال عليه السلام : " أتبع السيئة الحسنة تمحها " أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { ذَالِكَ } إشارة إلى فاستقم فما بعده أو القرآن { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود : 114] عظة للمتعظين نزلت في عمرو ابن غزية الأنصاري بائع التمر قال لامرأة في البيت تمر أجود فدخلت فقبلها فندم فجاءه حاكياً باكياً فنزلت فقال عليه السلام : " هل شهدت معنا العصر " قال : نعم.
قال : " هي كفارة لك " فقيل أله خاصة قال : " بل للناس عامة " { وَاصْبِرْ } على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [هود : 115] جاء بما هو مشتمل على جميع الأوامر والنواهي من قوله فاستقم إلى قوله واصبر وغير ذلك من الحسنات
298
جزء : 2 رقم الصفحة : 298
(2/175)
{ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ } [هود : 116] فهلا كان وهو موضوع للتحضيض ومخصوص بالفعل { أُوْلُوا بَقِيَّةٍ } [هود : 116] أولوا فضل وخير وسمى الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلاً في الجودة والفضل ويقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم ، ومنه قولهم : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا { يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الارْضِ } [هود : 116] عجب محمداً عليه السلام وأمته أن لم يكن في الأمم التي ذكر الله إهلاكهم في هذه السورة جماعة من أولى العقل والدين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي { إِلا قَلِيلا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } [هود : 116] استثناء منقطع أي ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي ومن في ممن أنجينا للبيان لا للتبعيض لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله : { أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّواءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } [الأعراف : 165].
{ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [هود : 116] أي التاركون للنهي عن المنكر وهو عطف على مضمر أي إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا { مَآ أُتْرِفُوا فِيهِ } [هود : 116] أي أتبعوا ما عرفوا فيه التنعيم والترفه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونبذوه وراء ظهورهم { وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } [هود : 116] اعتراض وحكم عليهم بأنهم قوم مجرمون { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى } [هود : 117] اللام لتأكيد النفي { بِظُلْمٍ } حال من الفاعل أي لا يصح أن يهلك الله القرى ظالماً لها { وَأَهْلُهَا } قوم { مُصْلِحُونَ } تنزيها لذاته عن الظلم وقيل الظلم الشرك أي لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فساداً آخر { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } [هود : 118] أي متفقين على الإيمان والطاعات عن اختيار ولكن لم يشأ ذلك وقالت المعتزلة.
وهي مشيئة قسر ، وذلك
299
رافع للابتداء فلا يجوز { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } [هود : 118] في الكفر والإيمان أي ولكن شاء أن يكونوا مختلفين لما علم منهم اختيار ذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 299
{ إِلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } [هود : 119] إلا ناساً عصمهم الله عن الاختلاف فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه { وَلِذَالِكَ خَلَقَهُمْ } [هود : 119] أي ولما هم عليه من الاختلاف فعندنا خلقهم للذي علم أنهم يصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه كذا في شرح التأويلات { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [الأعراف : 137] وهي قوله للملائكة لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } لعلمه بكثرة من يختار الباطل { وَكُلا } التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل وكل نبأ وهو منصوب بقوله { نَّقُصُّ عَلَيْكَ } [يوسف : 3] وقوله : { مِنْ أَنابَآءِ الرُّسُلِ } [هود : 120] بيان لكل وقوله : { مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } [هود : 120] بدل من كلا { وَجَآءَكَ فِى هَـاذِهِ الْحَقُّ } [هود : 120] أي في هذه السورة أو في هذه الأنباء المقتصة ما هو حق { وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود : 120] ومعنى تثبيت فؤاده زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب { وَقُل لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [هود : 121] من أهل مكة وغيرهم { اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [هود : 121] على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها { إِنَّا عَـامِلُونَ } [هود : 121] على مكانتنا { وَانتَظِرُوا } بنا الدوائر { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [الأنعام : 158] أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله تعالى من النقم النازلة بأشباهكم { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [هود : 123] لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما فلا تخفي عليه أعمالكم { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامْرُ كُلُّهُ } [هود : 123] فلا بد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك فينتقم لك منهم.
يُرجع نافع وحفص { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود : 123] فإنه كافيك
300
(2/176)
وكافلك { وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [هود : 123] وبالتاء مدني وشامي وحفص أي أنت وهم على تغليب المخاطب قيل خاتمة التوراة هذه الآية وفي الحديث " من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى " .
301
سورة يوسف عليه السلام
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية شامي ، واثنتا عشر مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الار تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ الْمُبِينِ } [يوسف : 1] تلك إشارة إلى آيات هذه السورة ، والكتاب المبين السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب أو التي تبين لمن تدبَّرها أنها من عند الله لا من عندالبشر أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم أو قد أبيِّن فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف عليه السلام فقد روى أن علماء اليهود قالوا للمشركين سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام { إِنَّآ أَنْزَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا } [يوسف : 2] أي أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه السلام في حال كونه قرآناً عربياً وسمى بعض القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على كله وبعضه { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 73] لكي تفهموا معانيه ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [يوسف : 3] نبين لك أحسن البيان والقاص الذي
302
يأتي بالقصة على حقيقتها عن الزجاج ، وقيل القصص يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص نقول : قص الحديث يقصه قصصاً ويكون فعلاً بمعنى مفعول كالنفض والحسب فعلى الأول معناه نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْءَانَ } [يوسف : 3] أي بإيحائنا إليك هذه السورة على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر لإضافته إليه والمقصوص محذوف لأن بما أوحينا إليك هذا القرآن مغن عنه والمراد بأحسن الاقتصاص أنه اقتص على أبدع طريقة وأعجب أسلوب فإنك لا ترى اقتصاصه في كتب الأولين مقارباً لاقتصاصه في القرآن وإن أريد بالقصص المقصوص فمعناه نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث إنما كان أحسن لما يتضمن من العبر والحكم والعجائب التي ليس في غيره والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه كما يقال فلان أعلم الناس أي في فنه واشتقاق القصص من قص أثره إذا تبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ } [يوسف : 3] الضمير يرجع إلى ما أوحينا { لَمِنَ الْغَـافِلِينَ } [يوسف : 3] عنه إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية يعني وإن الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الجاهلين به
جزء : 2 رقم الصفحة : 302
{ إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص أو التقدير أذكر إذ قال { يُوسُفَ } اسم عبراني لا عربي إذ لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف { لابِيهِ } يعقوب أبتَ شامي وهي تاء تأنيث عوضت عن ياء الإضافة لتناسبهما لأن كل واحدة منهما زائدة في آخر الاسم ولهذا قلبت هاء في الوقف وجاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر كما في رجل ربعة وكسرت التاء لتدل على الياء المحذوفة ومن فتح التاء فقد حذف الألف من يا أبتا واستبقى الفتحة قبلها كما فعل من حذف الياء في يا غلام { يَـا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ } [يوسف : 4] من الرؤيا لا من الرؤية { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } [يوسف : 4] أسماؤها ببيان النبي عليه السلام جريان والذيال والطارق وقابس وعمودان والفليق والمصبح والصروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [الأنعام : 96] هما أبواه أو أبوه وحالته والكواكب إخوته قيل الواو
303(2/177)
بمعنى مع أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر وأجريت مجرى العقلاء في { رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ } [يوسف : 4] لأنه وصفها بما هو المختص بالعقلاء وهو السجود وكررت الرؤيا لأن الأولى تتعلق بالذات والثانية بالحال أو الثانية كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له كأن أباه قال له كيف رأيتها فقال : رأيتهم لي ساجدين أي متواضعين وهو حال وكان ابن ثنتي عشرة سنة يومئذ وكان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة أو ثمانون
جزء : 2 رقم الصفحة : 303
{ إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ } [البقرة : 33-31] بالفتح حيث كان حفص { لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ } [يوسف : 5] هي بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة وفرق بينهما بحر في التأنيث كما في القربة والقربى { عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ } [يوسف : 5] جواب النهي أي أن قصصتها عليهم كادوك عرف يعقوب عليه السلام إن الله يصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة وإنما لم يقل فيكيدوك كما قال فيكدوني لأنه ضمن معنى فعل يتعدى باللام ليفيد معنى فعل الكيد مع إفادة معنى الفعل المضمن فيكون آكد وأبلغ في التخويف وذلك نحو فيحتالوا لك ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر وهو { كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَـانَ لِلانسَـانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [يوسف : 5] ظاهر العداوة فيحملهم على الحسد والكيد { وَكَذالِكَ } ومثل ذلك الاجتباء الذي دلت عليه رؤياك { يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } [يوسف : 6] يصطفيك والاجتباء الاصطفاء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وجبيت الماء في الحوض جمعته { وَيُعَلِّمُكَ } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل وهو يعلمك { مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } [يوسف : 101] أي تأويل الرؤيا وتأويلها عبارتها وتفسيرها وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا أو تأويل أحاديث الأنبياء وكتب الله وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ } [يوسف : 6] بأن وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة أي جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة وآل يعقوب أهله وهم نسله وغيرهم وأصل آل أهل بدليل تصغيره على أهيل إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر يقال آل النبي وآل الملك ولا يقال آل الحجام ولكن أهله وإنما علم يعقوب أن يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالاً
304
بضوء الكواكب فلذا قال وعلي آل يعقوب { كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] أراد الجد وأبا الجد { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ } [يوسف : 6] عطف بيان لأبويك { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } [يوسف : 6] يعلم من يحق له الاجتباء { حَكِيمٌ } يضع الأشياء في مواضعها
جزء : 2 رقم الصفحة : 304
(2/178)
{ لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } [يوسف : 7] أي في قصتهم وحديثهم { ءايَـاتٌ } علامات ودلالات على قدرة الله وحكمته في كل شيء.
آية مكي { لِّلسَّآئِلِينَ } لمن سأل عن قصتهم وعرفها أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب ، وأسماؤهم : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى ويالون ويشجر وأمهم ليا ودان ويغتالي وجاد وآشر من سريتين زلفة وبلهة فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف { إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أرادوا أن زيادة محتبه لهما أمر ثابت لاشبهة فيه وإنما قالوا وأخوه وهم إخوته أيضاً لأن أمهما كانت واحدة وإنما قيل أحب في الاثنين لأن فعل من لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث ولا بد من الفرق مع لام التعريف وإذا أضيف ساغ الأمران والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] للحال أي أنه يفضلهما في المحبة علينا وهما صغيران لا كفاية فيهما ونحن عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [يوسف : 8] غلط في تدبير أمر الدنيا ولو وصفوه بالضلالة في الدين لكفروا.
والعصبة العشرة فصاعدا { اقْتُلُوا يُوسُفَ } [يوسف : 9] من جملة ما حكى بعد قوله إذ قالوا كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال : لا تقتلوا يسوف وقيل الآمر بالقتل شمعون والباقون كانوا راضين فجعلوا آمرين { أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا } [يوسف : 9] منكورة مجهولة بعيدة عن العمران وهو معنى تنكيرها
305
وإخلائها عن الوصف ولهذا الإبهام نصبت نصب الظروف المبهمة { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } [يوسف : 9] يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم لأن الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه وجاز أن يراد بالوجه الذات كما قال ويبقى وجه ربك { وَتَكُونُوا } مجزوم عطفاً على يخل لكم { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد يوسف أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب أو من بعد قتله أو طرحه فيرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا { قَوْمًا صَـالِحِينَ } [يوسف : 9] تائبين إلى الله مما جنيتم عليه أو يصلح حالكم عند أبيكم
جزء : 2 رقم الصفحة : 305
{ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ } [الصافات : 51] هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ } [يوسف : 10] فإن القتل عظيم { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَـابَتِ الْجُبِّ } في قعر البئر وما غاب منه عن عين الناظر.
غيابات وكذا ما بعده مدني { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } [يوسف : 10] بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق { إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ } [يوسف : 10] به شيئاً { قَالُوا يَـا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَانَّا } بالإشفاق { عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَـاصِحُونَ } [يوسف : 11] أي لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونشفق عليه وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم وفيه دليل على أنه أحسن منهم بما أوجب أن يأمنهم عليه { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ } [يوسف : 12] نرتع نتسع في أكل الفواكه وغيرها والرتعة السعة { وَيَلْعَبْ } ونلعب نتفرج بما يباح كالصيد والرمي والركض.
بالياء فيهما مدني وكوفي وبالنون فيهما مكي وشامي وأبو عمرو وبكسر العين حجازي من ارتعى افتعال من الرعي { وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [يوسف : 12] من أن يناله مكروه }
306
جزء : 2 رقم الصفحة : 306
(2/179)
{ قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُوا بِهِ } [يوسف : 13] أي يحزنني ذهابكم به واللام لام الابتداء { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَـافِلُونَ } [يوسف : 13] اعتذر إليهم بأن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة وأنه يخاف عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم { قَالُوا لَـاـاِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ } [يوسف : 14] اللام موطئة للقسم والقسم محذوف تقديره والله لئن أكله الذئب والواو في { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } [يوسف : 8] أي فرقة مجتمعة مقتدرة على الدفع للحال { إِنَّآ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ } [يوسف : 14] جواب للقسم مجزىء عن جزاء الشرط أي إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا إذا وخسرناها وأجابوا عن عذره الثاني دون الأول لأن ذلك كان يغيظهم { الْجُبِّ } أي عزموا على إلقائه في البئر وهي بئر على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام وجواب لما محذوف تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى فقد روى أنهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة وضربوه وكادوا يقتلونه فمنعهم يهوذا أرداوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم فيحتالوا به على أبيهم ودلوه في البئر وكان فيها ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي وكان يهوذا يأتيه بالطعام ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فأخرجه جبريل وألبسه إياه { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } [يوسف : 15] قيل أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى يحيى وعيسى عليهما السلام وقيل كان إذا ذاك مدركاً { لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا } [يوسف : 15] أي لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] أنك يوسف لعلو شأنك وكبرياء سلطانك وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع
307
فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وأنكم ألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس أو يتعلق وهم لا يشعرون بأوحينا أي آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة ولا يشعرون ذلك }
جزء : 2 رقم الصفحة : 307
{ وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً } للاستتار والتجسر على الاعتذار { يَبْكُونَ } حال عن الأعمش لا تصدق باكية بعد إخوة يوسف فلما سمع صوتهم فزع وقال ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا لا قال : فما بالكم وأين يوسف { قَالُوا يَـا أَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق في العدو أو في الرمي والافتعال والتفاعل يشتركان كالإرتماء والترامي وغير ذلك { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف : 17] بمصدق لنا { وَلَوْ كُنَّا صَـادِقِينَ } [يوسف : 17] ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا { وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب هو الكذب بعينه والزور بذاته روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوا القميص بدمها وزل عنهم أن يمزقوه وروى أن يعقوب عليه السلام لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال أين القيمص فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات كان دليلاً ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيراً دليلاً على براءة يوسف حين قد من دبره ومحل على قميصه النصب على الظرف كأنه قيل وجاؤا فوق قميصه بدم { قَالَ } يعقوب عليه السلام { بَلْ سَوَّلَتْ } [يوسف : 18] زينت أو سهلت { لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } [يوسف : 18] عظيماً ارتكبتموه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [يوسف : 83] خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي
308
(2/180)
فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل وهو ما لا شكوى فيه إلى الخلق { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ } [يوسف : 18] أي استعينه { عَلَى } احتمال { مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه
جزء : 2 رقم الصفحة : 308
{ وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ } [يوسف : 19] رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطأوا الطريق فنزلوا قريباً منه وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران وكان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقى فيه يوسف { فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ } [يوسف : 19] هو الذي يرد الماء ليستقي للقوم اسمه مالك بن ذعر الخزاعي { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } [يوسف : 19] أرسل الدلو ليملأَها فتشبث يوسف بالدلو فنزعوه { قَالَ يَـا ءادَمُ أَنابِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة : 33-57] كوفي نادى البشرى كأنه يقول تعالي فهذا أوانك غيرهم بشراى على إضافتها لنفسه أو هو اسم غلامه فناداه مضافاً إلى نفسه { هَـاذَا غُلَـامٌ } [يوسف : 19] قيل ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به { وَأَسَرُّوهُ } الضمير للوارد وأصحابه أخفوه من الرفقة أو لأخوة يوسف فإنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه { بِضَـاعَةً } حال أي أخفوه متاعاً للتجارة والبضاعة ما بضع من المال للتجارة أي قطع { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ } [يوسف : 19] بما يعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع { وَشَرَوْهُ } وباعوه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [يوسف : 20] مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً أو زيف { دَرَاهِمَ } بدل من ثمن { مَعْدُودَةٍ } قليلة تعد عداً ولا توزن لأنهم كانوا يعدون ما دون الأربعين ويزنون الأربعين وما فوقها وكانت عشرين درهماً { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاَّهِدِينَ } [يوسف : 20] ممن يرغب عما في يده فيبيعه بالثمن الطفيف أو معنى وشروه واشتروه يعني الرفقة من إخوته وكانوا فيه من الزاهدين أي غير راغبين لأنهم اعتقدوا أنه آبق ويروى أن إخوته اتبعوهم وقالوا استوثقوا منه لا يأبق وفيه ليس من صلة الزاهدين أي غير راغبين لأن الصلة لا تتقدم على الموصول وإنما هو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا فقال زهدوا فيه
309
جزء : 2 رقم الصفحة : 309
{ وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاـاهُ مِن مِّصْرَ } [يوسف : 21] هو قطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد وقد آمن بيوسف ومات في حياته واشتراه العزيز بزنته ورقاً وحريراً ومسكاً وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام سنة في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة { لامْرَأَتِهِ } راعيل أو زليخاً واللام متعلقة بقال لا باشتراه { أَكْرِمِى مَثْوَاـاهُ } [يوسف : 21] اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسنا مرضياً بدليل قوله إنه ربي أحسن مثواي وعن الضحاك بطيب معاشه ولين لباسه ووطىء فراشه { عَسَى أَن يَنفَعَنَآ } [يوسف : 21] عله إذا تدرب وراض الأمور وفهم مجاريها نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } [يوسف : 21] أو نتبناه ونقيمه مقام الولد وكان قطفير عقيماً وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك { وَكَذالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من أنجائه وعطف قلب العزيز عليه والكاف منصوب تقديره ومثل ذلك الانجاء والعطف { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [يوسف : 21] أي كما أنجيناه وعطَّفنا عليه العزيز كذلك مكنا له { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أي أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } [يوسف : 21] كان ذلك الإنجاء والتمكين { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } [يوسف : 21] لا يمنع عما شاء أو على أمر يوسف بتبليغه ما أراد له دون ما أراد إخوته { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] ذلك { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } [يوسف : 22] منتهى اشتداد قوته وهو ثمان عشرة سنة أو إحدى وعشرون { حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ } [يوسف : 22] حكمة وهو العلم مع العمل واجتناب ما يجهل فيه أو حكماً بين الناس وفقهاً { وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الأنعام : 84] تنبيه على أنه كان محسناً في عمله
310
(2/181)
متقياً في عنفوان أمره
جزء : 2 رقم الصفحة : 310
{ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } [يوسف : 23] أي طلبت يوسف أن يواقعها والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كأن المعنى خادعته عن نفسه أي فعلت فعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها { وَغَلَّقَتِ الابْوَابَ } [يوسف : 23] وكانت سبعة { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23] هو اسم لتعال وأقبل وهو مبنى على الفتح هيتُ مكي بناه على الضم هِيتَ مدني وشامي واللام للبيان كأنه قيل لك أقول هذا كما تقول هلم لك { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } [يوسف : 79] أعوذ بالله معاذاً { إِنَّهُ } أي إن الشأن والحديث { رَبِّى } سيدي ومالكي يريد قطفير { أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } [يوسف : 23] حين قال لك أكرمي مثواه فما جزاؤه أن أخوته في أهله { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ } [الأنعام : 21] الخائبون أو الزناة أو أراد بقوله إنه ربي الله تعالى لأنه مسبب الأسباب { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } [يوسف : 24] هم عزم { وَهَمَّ بِهَا } [يوسف : 24] هم الطباع مع الامتناع قاله الحسن وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله وهم بها هم خْطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه ولو كان همه كهمها لما مدحه الله تعالى بأنه من عباده المخلصين وقيل همَّ بها وشارف أن يهم بها يقال هم بالأمر إذا قصده وعزم عليه وجواب { لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَـانَ رَبِّهِ } [يوسف : 24] محذوف أي لكان ما كان وقيل وهمّ بها جوابه ولا يصح لأن جواب لولا لا يتقدم عليها لأنه في حكم الشرط وله صدر الكلام والبرهان الحجة ويجوز أن يكون وهم بها داخلاً في حكم القسم في قوله ولقد همت به ويجوز أن يكون خارجاً ومن حق القارىء إذا قدر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على به ويبتدىء بقوله وهم بها وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين وفسر همَّ يوسف بأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً إياك وإياها مرتين فسمع ثالثاً
311
جزء : 2 رقم الصفحة : 311
أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته وهو باطل ويدل على بطلانه قوله هي روادتني عن نفسي ولو كان ذلك منه أيضاً لما برأ نفسه من ذلك وقوله كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ولو كان كذلك لم يكن السوء مصروفاً عنه وقوله ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ولو كان كذلك لخانه بالغيب وقوله { عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الَْاـانَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّـادِقِينَ } ولأنه لو وجد منه ذلك لذكرت توبته واستغفاره كما كان لآدم ونوح وذي النون وداود عليهم السلام وقد سماه الله مخلصاً فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام وجاهد نفسه مجاهدة أولى العزم ناظراً في دلائل التحريم حتى استحق من الله الثناء ومحل الكاف في { كَذَالِكَ } نصب أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو رفع أي الأمر مثل ذلك { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّواءَ } [يوسف : 24] خيانة السيد
{ وَالْفَحْشَآءَ } الزنا { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف : 24] بفتح اللام حيث كان مدني وكوفي أي الذين أخلصهم الله لطاعته وبكسرها غيرهم أي الذين أخلصوا دينهم لله ومعنى من عبادنا بعض عبادنا أي هومخلص من جملة المخلصين
جزء : 2 رقم الصفحة : 311
(2/182)
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } [يوسف : 25] وتسابقا إلى الباب هي للطلب وهو للهرب على حذف الجار وإيصال الفعل كقوله { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف : 155] أو على تضمين استبقا معنى ابتدارا ففر منها يوسف فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج ووحد الباب وإن كان جمعه في قوله وغلقت الأبواب لأنه أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار ولما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } [يوسف : 25] اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ } وصادفا بعلها قطفير مقبلاً يريد أن يدخل فلما رأته احتالت لتبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة ولتخويف يوسف طمعاً في أن يواطئها خيفة منها ومن مكرها حيث { قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُواءًا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف : 25] ما نافيه أي ليس جزاؤه إلا السجن أو عذاب أليم وهو الضرب
312
بالسياط ولم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءً لأنها قصدت العموم أي كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب لأن ذلك أبلغ فيما قصدت من تخويف يوسف ولما عرضته للسجن والعذاب ووجب عليه الدفع عن نفسه
جزء : 2 رقم الصفحة : 312
{ قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } [يوسف : 26] لولا ذلك لكتم عليها ولم يفضحها { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [يوسف : 26] هو ابن عم لها وإنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها لتكون أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف وقيل كان ابن خال لها وكان صبياً في المهد وسمى قوله شهادة لأنه أدى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } والتقدير وشهد شاهد فقال إن كان قميصه وإنما دل قدّ قميص من قبل على أنها صادقة لأنه يسرع خلفها ليلحقها فيعثر في مقادم قميصه فيشقه ولأنه يقبل عليها وهي تدفعه عن نفسه فيتخرق قميصه من قبل وأما تنكير قبل ودبر فمعناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر وإنما جمع بين إن التي للاستقبال وبين كان لأن المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قد { فَلَمَّا رَءَا } [هود : 70] قطفير { قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } [يوسف : 27] وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها { قَالَ إِنَّهُ } [النمل : 44] إن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوء أو إن هذا الأمر وهو الاحتيال لنيل الرجال
جزء : 2 رقم الصفحة : 313
{ مِن كَيْدِكُنَّ } [يوسف : 28] الخطاب لها ولأمتها { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف : 28] لأنهن ألطف كيداً وأعظم حيلة وبذلك يغلبن الرجال والقصريات منهن معهن ما ليس مع غيرهن من البوائق وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان لأن الله تعالى قال : { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ كَانَ ضَعِيفًا } ، وقال لهن { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف : 28]
313
(2/183)
{ يُوسُفَ } حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله { أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا } [هود : 76] الأمر واكتمه ولا تتحدث به ثم قال لراعيل { وَاسْتَغْفِرِى لِذَنابِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِـاِينَ } [يوسف : 29] من جملة القوم المعتمدين للذنب.
يقال خطىء إذا أذنب متعمداً وإنما قال بلفظ التذكير تغليباً للذكر على الإناث وكان العزيز رجلاً حليماً قليل الغيرة حيث اقتصر على هذا القول { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [يوسف : 30] جماعة من النساء وكن خمساً : امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثها غير حقيقي ولذا لم يقل قالت وفيه لغتان كسر النون وضمها { فِى الْمَدِينَةِ } [يوسف : 30] في مصر { قَالَ مَا } [يوسف : 51] يردن قطفير والعزيز الملك بلسان العرب { تُرَاوِدُ فَتَـاـاهَا } [يوسف : 30] غلامها يقال فتاى وفتاتي أي غلامي وجاريتي { عَن نَّفْسِهِ } [التوبة : 120] لتنال شهوتها منه { قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } [يوسف : 30] تمييز أي قد شغفها حبه يعني خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد والشغاف حجاب القلب أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب { إِنَّا لَنَرَاـاهَا فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [يوسف : 30] في خطأ وبعد عن طريق الصواب { فَلَمَّا سَمِعَتْ } [يوسف : 31] راعيل { بِمَكْرِهِنَّ } باغتيابهن وقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها وسمى الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفى الماكر مكره وقيل كانت استكتمتهن سرها فافشينه عليها
جزء : 2 رقم الصفحة : 313
{ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } [يوسف : 31] دعتهن قيل دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات { وَأَعْتَدَتْ } وهيأت افتعلت من العتاد { لَهُنَّ } ما يتكئن عليه من نمارق قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن أن يدهشن عند رؤيته ويشغلن عن نفوسهن فتقع
314
أيديهن على أيديهن فيقطعنها لأن المتكىء إذا بهت لشيء وقعت يده على يده { مُتَّكَـاًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا } [يوسف : 31] وكانوا لا يأكلون في ذلك الزمان إلا بالسكاكين كفعل الأعاجم { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } [يوسف : 31] بكسر التاء بصري وعاصم وحمزة وبضمها غيرهم { فَلَمَّا رَأَيْنَهُا أَكْبَرْنَهُ } [يوسف : 31] أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق وكان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء وكان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران وكان يشبه آدم يوم خلقه ربه وقيل ورث الجمال من جدته سارة وقيل أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت ، إذ لا يقال النساء قد حضنه لأنه لا يتعدى إلى مفعول ، يقال أكبرت المرأة حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف : 31] وجرحنها كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي تريد جرحتها أي أردن أن يقطعن الطعام الذي في أيديهن فدهشن لما رأينه فخدشن أيديهن { وَقُلْنَ حَـاشَ لِلَّهِ مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ } حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول أساء القوم حاشا زيد وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة ، فمعنى حاشا لله يراءة الله وتنزيه الله وقراءة ابي عمرو حاشا لله نحو قولك سقيا لك ، كأنه قال براءة ثم قال الله لبيان من يبرء وينزه وغيره حاش بحذف الألف الأخيرة والمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله { مَا هَـاذَا بَشَرًا إِنْ هَـاذَآ إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [يوسف : 31] نفين عنه البشرية لغرابة جماله وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم لما ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان
315
جزء : 2 رقم الصفحة : 313
(2/184)
{ قَالَتْ فَذَالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } [يوسف : 32] تقول هو ذلك العبد الكنعناني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه تعني إنكن لم تصوّرنه حتى صورته وإلا لعذرتي في الإفتتان به { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } [يوسف : 32] والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها وهذا بيان جلي على أن يوسف عليه السلام بريء مما فسر به أولئك الفريق الهم والبرهان ثم قلن له أطع مولاتك ، فقالت راعيل { وَلَـاـاِن لَّمْ يَفْعَلْ } [يوسف : 32] الضمير راجع إلى ما هي موصولة والمعنى ما آمره به فحذف الجار كما في قوله أمرتك الخير أو ما مصدرية والضمير يرجع إلى يوسف أي ولئن لم يفعل أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ } [يوسف : 32] ليحبسن والألف في { وَلَيَكُونًا } بدل من النون التأكيد الخفيفة { مِّنَ الصَّـاغِرِينَ } [الأعراف : 13] مع السراق والسفاك والأباق كما سرق قلبي وأبق مني وسفك دمي بالفراق فلا يهنؤه الطعام والشراب والنوم هنالك كما منعني هنا كل ذلك ومن لم يرض بمثلي في الحرير على السرير أميراً حصل في الحصير على الحصير حسيراً فلما سمع يوسف تهديدها { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } [يوسف : 33] أسند الدعوة إليهن لأنهن قلن له ما عليك لو أجبت مولاتك ، أو افتتنت كل واحدة به فدعته إلى نفسها سراً فالتجأ إلى ربه ، قال رب السجن أحب إلي من ركوب المعصية { وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ } [يوسف : 33] فزع منه إلى الله في طلب العصمة { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } [يوسف : 33] أمل إليهن والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها { وَأَكُن مِّنَ الْجَـاهِلِينَ } [يوسف : 33] من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لم يعلم سواء أو من السفهاء ، فلما كان في قوله وإلا تصرف عني كيدهن معنى طلب الصرف والدعاء قال
316
جزء : 2 رقم الصفحة : 316
{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ } [يوسف : 34] أي أجاب الله دعاءه { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [يوسف : 34] لدعوات الملتجئين إليه { الْعَلِيمُ } بحاله وحالهن { ثُمَّ بَدَا لَهُم } [يوسف : 35] فاعله مضمر لدلالة ما يفسر عليه وهو ليسجننه والمعنى بدا لهم بداء أي ظهر لهم رأي والضمير في لهم للعزيز وأهله { مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الايَـاتِ } وهي الشواهد على براءته كقد القميص وقطع الأيدي وشهادة الصبي وغير ذلك { لَيَسْجُنُنَّهُ } لإبداء عذر الحال وإرخاء الستر على القيل والقال وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها وكان مطواعاً لها وحميلاً ذلولاً زمامه في يدها وقد طمعت أن يذلله السجن ويسخره لها أو خافت عليه العيون وظنت فيه الظنون فألجأها الخجل من الناس ، والوجل من اليأس ، إلى أن رضيت بالحجاب ، مكان خوف الذهاب ، لتشتفى بخبره ، إذا منعت من نظره { حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] إلى زمان كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ } [يوسف : 36] عبدان للملك خبازه وشرابيه بتهمة السم فأدخلا السجن ساعة أدخل يوسف لأن مع يدل على معنى الصحبة تقول خرجت مع الأمير نريد مصاحباً له فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له { قَالَ أَحَدُهُمَآ } [يوسف : 36] أي شرابيه { إِنِّى أَرَاـانِى } [يوسف : 36] أي في المنام وهي حكاية حال ماضية { أَعْصِرُ خَمْرًا } [يوسف : 36] أي عنباً تسمية للعنب بما يؤول إليه أو الخمر بلغة عمان اسم للعنب { وَقَالَ الاخَرُ } [يوسف : 36] أي خبازه { إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف : 36] بتأويل ما رأيناه { إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 36] من الذين يحسنون عبارة الرؤيا أو من المحسنين إلى أهل السجن فإنك تداوي المريض وتعزي
317
(2/185)
الحزين وتوسع على الفقير فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا وقيل إنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي : إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطفتها وعصرتها في كأس الملك وسقيقته ، وقال الخباز : إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منها
جزء : 2 رقم الصفحة : 317
{ قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف : 37] أي لبيان ماهيته وكيفيته لأن ذلك يشبه تفسير المشكل { قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } [يوسف : 37] ولما استعبراه ووصفاه بالإحسان افترص ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الأخبار بالغيب وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ويقول اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيكون كذلك وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ويقبح إليهما الشرك وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده ، وغرضه أن يقتبس منه لم يكن من باب التزكية { ذَالِكُمَا } إشارة لهما إلى التأويل أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى } [يوسف : 37] وأوحى به إلي ولم أقله عن تكهن وتنجم { إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالاخِرَةِ هُمْ كَـافِرُونَ } [يوسف : 37] يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ وأن يكون تعليلاً لما قبله أي علمني ذلك وأوحى به إلي لأني رفضت ملة أولئك وهم أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ } [يوسف : 38] وهي الملة الحنيفية وتكريرهم للتوكيد وذكر الآباء ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي يوحى إليه بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في اتباع قوله والمراد به ترك الابتداء لا أنه كان فيه ثم تركه { مَا كَانَ لَنَآ } [يوسف : 38] ما صح لنا معشر الأنبياء
318
{ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ } [يوسف : 38] أي شيء كان صنماً أو غيره ثم قال : { ذَالِكَ } التوحيد { مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [يوسف : 38] فضل الله فيشركون به ولا ينتهون
جزء : 2 رقم الصفحة : 318
{ يَشْكُرُونَ * يَـاصَـاحِبَىِ السِّجْنِ } يا ساكني السجن كقوله : أصحاب النار وأصحاب الجنة { مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا } [يوسف : 39 ، 40] يريد التفرق في العدد والتكاثر أي أن تكون أرباب شتى يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا خير لكما أم يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام { مَا تَعْبُدُونَ } [الشعراء : 70] خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر { مِن دُونِهِ } [يس : 23] من دون الله { إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم } [يوسف : 40] أي سميتم مالا يستحق الإلهية آلهة ثم طفقتم تعبدونها فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء لا مسميات لها ، ومعنى سميتموها سميتم بها يقال سميته زيداً وسميته يزيد { مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا } [يوسف : 40] بتسميتها { مِن سُلْطَـانٍ } [إبراهيم : 22] حجة { إِنِ الْحُكْمُ } [يوسف : 40] في أمر العبادة والدين { إِلا لِلَّهِ } [يوسف : 40] ثم بين ما حكم به فقال { أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [يوسف : 40] الثابت الذي دلت عليه البراهين { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] وهذا يدل على أن العقوبة تلزم العبد وإن جهل إذا أمكن له العلم بطريقة ، ثم عبر الرؤيا فقال { يَعْلَمُونَ * يَـاصَـاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا } يريد الشرابي { فَيَسْقِى رَبَّهُ } [يوسف : 41] سيده { خَمْرًا } أي يعود إلى عمله { وَأَمَّا الاخَرُ } [يوسف : 41] أي الخباز { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } [يوسف : 41] روى أنه قال للأول : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت
319
(2/186)
عليه وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل ولما سمع الخباز صلبه قال ما رأيت شيئاً فقال يوسف { قُضِىَ الامْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } [يوسف : 41] أي قطع وتم ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما أي ما يجر إليه من العاقبة وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر
جزء : 2 رقم الصفحة : 319
{ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا } [يوسف : 42] الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي أو يكون الظن بمعنى اليقين { اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ } [يوسف : 42] صفني عند الملك بصفتي وقص عليه قصتي لعله يرحمني ويخلصني من هذه الورطة { فَأَنْسَـاهُ الشَّيْطَـانُ } [يوسف : 42] فأنسى الشرابي { ذِكْرَ رَبِّهِ } [يوسف : 42] أن يذكره لربه أو عند ربه أو فأنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره ، وفي الحديث " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعاً " { فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } [يوسف : 42] أي سبعاً عند الجمهور والبضع ما بين الثلاث إلى التسع { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنابُلَـاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَـاتٍ } [يوسف : 43] لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد إستحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها وقيل كان ابتداء بلاء يوسف في الرؤيا ثم كان سبب نجاته أيضاً الرؤيا ، سمان جمع سمين وسمينة ، والعجاف : المهازيل والعجف
320
الهزال الذي ليس بعده سمانة والسبب في وقوع عجاف جمعاً لعجفاء وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال حمله على نقيضه وهو سمان ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض وفي الآية دلالة على أن السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر لأن الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع ويكون قوله وآخر يابسات وسبعاً أخر { يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا } [الصافات : 8] كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
{ أَفْتُونِى فِى رُءْيَـاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف : 43] اللام في الرؤيا للبيان ، كقوله { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاَّهِدِينَ } [يوسف : 20] أو لأن المفعول به إذا تقدم على الفعل لم يكن في قوته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه فعضد بها تقول عبرت الرؤيا وللرؤيا عبرت أو يكون للرؤيا خبر كان كقولك كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبر آخر أو حال وحقيقة عبرت الرؤيا ذكرت عاقبتها وآخر أمرها كما تقول عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره ونحوه أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير والمعبر
جزء : 2 رقم الصفحة : 320
{ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـام } [الأنبياء : 5] أي هي أضغاث أحلام أي تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات وحزم من أنواع الحشيش ، الواحد ضغث فاستعيرت لذلك والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام وإنما جمع وهو حلم واحد تزايداً في وصف الحلم بالبطلان وجاز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحْلَـامِ بِعَـالِمِينَ } [يوسف : 44] أرادوا بالأحلام المنامات الباطلة فقالوا ليس لها عندنا تأويل إنما التأويل للمنامات الصحيحة أو اعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بخابرين { وَقَالَ الَّذِى نَجَا } [يوسف : 45] من القتل { مِّنْهُمَا } من صاحبي السجن { وَادَّكَرَ } بالدال هو الفصيح وأصله اذتكر فأبدلت الذال دالاً والتاء دالاً وأدغمت الأولى في
321
(2/187)
الثانية ليتقارب الحرفين وعن الحسن واذكر وجهه أنه قلب التاء ذالاً وأدغم أي تذكر يوسف وما شاهد منه { بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف : 45] بعد مدة طويلة وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملك تأويلها تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه وطلبه إليه أن يذكره عندالملك { أَنَا أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ } [يوسف : 45] أنا أخبركم به عمن عنده علمه { فَأَرْسِلُونِ } وبالياء يعقوب أي فابعثوني إليه لأسأله فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 321
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } [يوسف : 46] أيها البليغ في الصدق وإنما قال له ذلك لأنه ذاق وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوَّل { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنابُلَـاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَـاتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ } [يوسف : 46] إلى الملك وأتباعه { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } [يوسف : 46] فضلك ومكانك من العلم فيطلبوك ويخلصوك من محنتك { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ } [يوسف : 47] هو خبر في معنى الأمر كقوله : { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [النساء : 59] { وَتُجَـاهِدُونَ } .
دليله قوله فذروه في سنبله وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في وجود المأمور به فيجعل كأنه موجود فهو يخبر عنه { دَأَبًا } بسكون الهمزة وحفص يحركه وهما مصدراً دأب في العمل وهو حال من المأمورين أي دائبين { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنابُلِهِ } [يوسف : 47] كي لا يأكله السوس { إِلا قَلِيلا مِّمَّا تَأْكُلُونَ } [يوسف : 47] في تلك السنين { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ } [يوسف : 48] هو من إسناد المجاز جعل
322
كل أهلهن مسنداً إليهن { مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } [يوسف : 48] أي في السنين المخصبة { إِلا قَلِيلا مِّمَّا تُحْصِنُونَ } [يوسف : 48]تحرزون وتخبئون
جزء : 2 رقم الصفحة : 322
{ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَالِكَ عَامٌ } [يوسف : 49] أي من بعد أربع عشرة سنة عام { فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ } [يوسف : 49] من الغوث أي يجاب مستغيثهم أو من الغيث أي يمطرون يقال غيثت البلاد إذا مطرت { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [يوسف : 49] العنب والزيتون والسمسم فيتخذون الأشربة والأدهان.
تعصرون حمزة فأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب.
والعجاف واليابسات بسنين مجدبة ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركاً كثير الخير غزير النعم وذلك من جهة الوحي { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ } [يوسف : 50] ليخرجه من السجن { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [يوسف : 50] أي الملك { فَسْـاَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } [يوسف : 50] أي حال النسوة { الَّـاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [التحريم : 12-50] إنما تثبت يوسف وتأنى في إجابة الملك وقدم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عمارمي به وسجن فيه لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها وقال عليه السلام " لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرت الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة " ومن كرمه وحسن أدبه أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب واقتصر على ذكر المقطعات أيديهن { إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [يوسف : 50] أي إن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله وهوم مجازيهن عليه.
فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة
323
المقطعات أيديهن ودعا امرأة العزيز ثم
جزء : 2 رقم الصفحة : 323
(2/188)
{ قَالَ } لهن { مَا خَطْبُكُنَّ } [يوسف : 51] ما شأنكن { إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } [يوسف : 51] هل وجدتن منه ميلاً إليكن { قُلْنَ حَـاشَ لِلَّهِ } [يوسف : 51] تعجبا من قدرته على خلق عفيف مثله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُواءٍ } [يوسف : 51] من ذنب { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الَْاـانَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } [يوسف : 51] ظهر واستقر { أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّـادِقِينَ } [يوسف : 51] في قوله هي روادتني عن نفسي ولا مزيد على شهادتهم له للبراءة والنزاهة واعترافهن على أنفسهن إنه لم يتعلق بشيء مما قذف به ثم رجع الرسول إلى يوسف وأخبره بكلام النسوة وإقرار امرأة العزيز وشهادتها على نفسها فقال يوسف { ذَالِكَ } أي امتناعي من الخروج والتثبت لظهور البراءة { لِيَعْلَمَ } العزيز { أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } [يوسف : 52] بظهر الغيب في حرمته وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول على معنى وأنا غائب عنه أو وهو غائب عني أو ليعلم الملك أني لم أخن العزيز { وَأَنَّ اللَّهَ } [المائدة : 97] أي وليعلم أن الله { لا يَهْدِى كَيْدَ الْخَآ ـاِنِينَ } [يوسف : 52] لا يسدده وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكياً وليبين أن ما فيه من الأمانة بتوفيق الله وعصمته فقال { وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى } [يوسف : 53] من الزلل وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها في عموم الأفعال أو في هذه الحادثة لما ذكرنا من الهم الذي هو الخطرة البشرية لا عن طريق القصد والعزم
جزء : 2 رقم الصفحة : 324
{ إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةُ بِالسُّواءِ } [يوسف : 53] أراد الجنس أي إن هذا الجنس
324
يأمر بالسوء ويحمل عليه لما فيه منن الشهوات { إِلا مَا رَحِمَ رَبِّى } [يوسف : 53] إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة ويجوز أن يكون ما رحم في معنى الزمان أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت العصمة أو هو استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت العصمة أو هو استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة ، وقيل هو من كلام امرأة العزيز أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصدق فيما سئلت عنه وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت ما جزاء من أراد بأهلك سوأ إلا أن يسجن وأودعته السجن تريد الاعتذار مما كان منها إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إلا نفسها رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف { إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [يوسف : 53] استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت وإنما جعل من كلام يوسف ولا دليل عليه ظاهر لأن المعنى يقود إليه وقيل هذا من تقديم القرآن وتأخيره أي قوله ذلك ليعلم متصل بقوله فاسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن
جزء : 2 رقم الصفحة : 324
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } [يوسف : 54] أجعله خالصاً لنفسي { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } [يوسف : 54] وشاهد منه ما لم يحتسب { قَالَ } الملك ليوسف { إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } [يوسف : 54] ذو مكانة ومنزلة ، أمين مؤتمن على كل شيء روي أن الرسول جاءه ومعه سبعون حاجباً وسبعون مركباً وبعث إليه لباس الملوك فقال أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطّف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات وكتب على باب السجن هذه منازل البلواء وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً جدداً فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسان قال : لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك وقال له من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء فيأتيك الخلق من
325
(2/189)
النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك قال الملك ومن لي بهذا ومن يجمعه
جزء : 2 رقم الصفحة : 325
{ قَالَ } يوسف { اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآ ـاِنِ الارْضِ } [يوسف : 55] ولني على خزائن أرضك يعني مصر { إِنِّى حَفِيظٌ } [يوسف : 55] أمين أحفظ ما تستحفظنيه { عَلِيمٌ } عالم بوجوه التصرف.
وصف نفسه بالأمانة والكفاية وهما طلبة الملوك ممن يولونه وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله وإقامة الحق وبسط العدل والتمكن مما لأجله بعث الأنبياء إلى العباد ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك فطلبه ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا وفي الحديث " رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة " قالوا وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عمالة من يد سلطان جائر وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلمة وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به وقيل كان الملك يصدر عن رأيه ولا يتعرض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع له { وَكَذالِكَ } ومثل ذلك التمكين الظاهر { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ } [يوسف : 21] أرض مصر وكان أربعين فرسخاً في أربعين والتمكين الإقدار وإعطاء المكنة { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } [يوسف : 56] أي كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخولها تحت سلطانه.
نشاء مكي { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا } [يوسف : 56] بعطائنا في الدنيا من الملك والغني وغيرهما من النعم { مَّن نَّشَآءُ } [الأنعام : 83] من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك { وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 56] في الدنيا { وَلاجْرُ الاخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا } [يوسف : 57] يريد يوسف وغيره من المؤمنين إلى يوم القيامة
جزء : 2 رقم الصفحة : 326
{ وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس : 63] الشرك والفواحش قال سفيان بن عيينة المؤمن يثاب
326
على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في ا لدنيا وماله في الآخرة من خلاق وتلا الآية روى أن الملك توج يوسف وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر الياقوت فقال أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفراثيم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدارهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها ثم بالحلي والجواهر في الثانية ثم بالدواب في الثالثة ثم بالعبيد والإماء في الرابعة ثم بالدور والعقار في الخامسة ثم بأولادهم في السادسة ثم برقابهم في السابعة حتى استرقهم جميعاً ثم أعتق أهل مصر عن آخرهم ورد عليهم أملاكهم وكان لايبيع لأحد من الممتارين أكثر من حمل بعير وأصاب أرض كنعان نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا وذلك قوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 326
{ وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ } [يوسف : 58] بلا تعريف { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [يوسف : 58] لتبدل الزي ولأنه كان من وراء الحجاب ولطول المدة وهو أربعون سنة ، وروى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم أخبروني من أنتم وما شأنكم قالوا نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم عيوناً تنظرون عورة بلادي فقالوا معاذ الله نحن بنو نبي حزين لفقد ابن كان أحبنا إليه وقد أمسك أخاً له من أمه يستأنس به فقال ائتوني به إن صدقتم { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ } [يوسف : 59] أعطى كل واحد منهم حمل بعير وقرىء بكسر الجيم شاذاً { ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ } [يوسف : 59] أتمه
327
(2/190)
{ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [يوسف : 59] كان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم رغبهم بهذا الكلام على الرجوع إليه
جزء : 2 رقم الصفحة : 327
{ عِندِى } فلا أبيعكم طعاماً { وَلا تَقْرَبُونِ } [يوسف : 60] أي فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا فهو داخل في حكم الجزاء مجزوم معطوف على محل قوله فلا كيل لكم أو هم بمعنى النهي { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } [يوسف : 61] سنخادعه عنه ونحتال حتى ننزعه من يده { وَإِنَّا لَفَـاعِلُونَ } [يوسف : 61] ذلك لا محالة لانفرط فيه ولا نتوانى قال فدعوا بعضكم رهناً فتركوا عنده شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف { وَقَالَ لِفِتْيَـانِهِ } [يوسف : 62] كوفي غير أبي بكر لفتيته غيرهم وهما جمع فتى كإخوة وإخوان في أخ وفعلة للقلة وفعلان للكثرة أي لغلمانه الكيالين { اجْعَلُوا بِضَـاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ } [يوسف : 62] أوعيتهم وكانت نعالاً أو أدما أو ورقا وهو أليق بالدس في الرحال { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ } [يوسف : 62] يعرفون حق ردها وحق التكرم بإعطاء البدلين { إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ } [يوسف : 62] وفرغوا ظروفهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا أو ربما لا يجدون بضاعة بها يرجعون أو ما فيهم من الديانة يعيدهم لرد الأمانة أو لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ } [يوسف : 63] بالطعام وأخبروه بما فعل { قَالُوا يَـا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } [يوسف : 63] يريدون قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل { فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ } [يوسف : 63] نرفع المانع من الكيل ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه.
يكتل حمزة وعلى أي يكتل أخوناً فينضم اكتياله إلى اكتيالنا { وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [يوسف : 12] عن أن يناله مكروه
جزء : 2 رقم الصفحة : 328
{ قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ } [يوسف : 64] يعني أنكم قلتم في يوسف أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإناله لحافظون كما تقولونه في أخيه ثم
328
خنتم بضمانكم فما يأمنني من مثل ذلك ثم قال { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَـافِظًا } [يوسف : 64] كوفي غير أبي بكر فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وهو حال أو تمييز ومن قرأ حِفظاً فهو تمييز لا غير { وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ } [يوسف : 64] فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين قال كعب : لما قال فالله خير حفظاً قال الله تعالى وعزتي وجلالي لأردن عليك كليهما
جزء : 2 رقم الصفحة : 328
{ نَبْغِى } ما للنفي أي ما نبغي في القول ولا نتجاوز الحق أو ما نبغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو للاستفهام أيْ أيّ شيء نطلب وراء هذا { هَـاذِهِ بِضَـاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } جملة مستأنفة موضحة لقوله ما نبغي والجمل بعدها معطوفة عليها أي أن بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } [يوسف : 65] في رجوعنا إلى الملك أي نجلب لهم ميرة وهي طعام يحمل من غير بلدك { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } [يوسف : 65] في ذهابنا ومجيئنا فما يصيبه شيء مما تخافه { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } [يوسف : 65] وسق بعير باستصحاب أخينا { ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } [يوسف : 65] سهل عليه متيسر لا يتعاظمه { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ } [يوسف : 66] وبالياء مكي { مَوْثِقًا } عهداً { مَنَّ اللَّهُ } [الجن : 22] والمعنى حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله أي أراد أن يحلفوا له بالله وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما يؤكد به العهود وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه
جزء : 2 رقم الصفحة : 329
{ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } [يوسف : 66] جواب اليمين لأن المعنى حتى تحلفوا لتأتنني به { إِلا أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف : 66] إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به فهو مفعول له والكلام المثبت وهو قوله لتأتنني به في تأويل النفي أي لا تمتنعوا من الإتيان به إلا للإحاطة بكم
329
(2/191)
يعني لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا العلة واحدة وهي أن يحاط بكم فهو استثناء من أعم العام في المفعول له والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي فلا بد من تأويله بالنفي { فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } [يوسف : 66] قيل حلفوا بالله رب محمد عليه السلام { قَالَ } بعضهم يسكت عليه لأن المعنى قال يعقوب { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ } [يوسف : 66] من طلب الموثق وإعطائه { وَكِيلٌ } رقيب مطلع غير أن السكتة تفصل بين القول والمقول وذا لا يجوز فالأولى يأن يفرق بينهما بالصوت فيقصد بقوة النغمة اسم الله { وَقَالَ يَـابَنِىَّ لا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } الجمهور على أنه خاف عليهم العين لجمالهم وجلالة أمرهم ولم يأمرهم بالتفرق في الكرة الأولى لأنهم كانوا مجهولين في الكرة الأولى فالعين حق عندنا وجود بأن يحدث الله تعالى عند النظر إلى الشيء والإعجاب به نقصاناً فيه وخللا وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يعوّذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول : " أعيذكما بكلمات الله التامة من كل هامة ومن كل عين لامة " وأنكر الجبائي العين وهو مردود بما ذكرنا وقيل إنه أحب أن لا يفطن بهم أعداؤهم فيحتالوا لإهلاكهم { وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } [يوسف : 67] أي إن كان الله أراد بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أسرت به عليكم من التفرق وهو مصيبكم لا محالة { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [يوسف : 67] التوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى والاعتماد عليه { وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } [يوسف : 68] أي متفرقين { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُم } [يوسف : 68] دخولهم من أبواب متفرقة { مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } [يوسف : 68] أي شيئاً قط حيث أصابهم ما
330
ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم { إِلا حَاجَةً } [يوسف : 68] استثناء منقطع أي ولكن حاجة { فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاـهَا } [يوسف : 68] وهي شفقته عليهم { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ } [يوسف : 68] يعني قوله وما أغنى عنكم وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر { لِّمَا عَلَّمْنَـاهُ } [يوسف : 68] لتعليمنا إياه { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] ذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 329
{ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } [يوسف : 69] ضم إليه بنيامين وروى أنهم قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم أحسنتم فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله وقال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وعانقه ثم { قَالَ } له }
(2/192)
{ إِنِّى أَنَا أَخُوكَ } [يوسف : 69] يُوسُف { فَلا تَبْتَـاـاِسْ } [يوسف : 69] فلا تحزن { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 108] بنافيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك وروى أنه قال له فأنا لا أفارقك قال لقد علمت اغتمام والدي بي فإن حسبتك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك ألا أن أنسبك إلا ما لا يحمد قال لا أبالي فافعل ما بدا لك قال فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم فقال افعل { فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } [يوسف : 70] هيأ أسبابهم وأوفى الكيل لهم { جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ } [يوسف : 70] السقاية هي مشربة يسقي بها وهي الصواع قيل كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به لعزة الطعام وكان يشبه الطاس من فضة أو ذهب { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } [يوسف : 70] ثم نادى مناد آذنه أي أعلمه وأذن أكثر الأعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه روى أنهم ارتلحوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا ثم قيل لهم { أَيَّتُهَا الْعِيرُ } [يوسف : 70] هي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء والمراد أصحاب العير { إِنَّكُمْ لَسَـارِقُونَ } [يوسف : 70] كناية عن سرقتهم أياه من أبيه.
331
جزء : 2 رقم الصفحة : 331
{ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ } هو الصاع { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } [يوسف : 72] يقول المؤذن يريد وأنا بحمل البعير كفيل أوديه إلى من جاء به وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله { قَالُوا تَاللَّهِ } [يوسف : 95] قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم { لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارْضِ } [يوسف : 73] استشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم حيث دخلوا وأفواه رواحلهم مشدودة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق ولأنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم { وَمَا كُنَّا سَـارِقِينَ } [يوسف : 73] وما كنا نوصف قط بالسرقة { قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ } [يوسف : 74] الضمير للصواع أي فما جزاء سرقته { إِن كُنتُمْ كَـاذِبِينَ } [يوسف : 74] في جحودكم وادعائكم البراءة منه { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ } [يوسف : 75] أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في جزائه وقولهم { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } [يوسف : 75] تقرير للحكم أي فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير أو جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره { كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 332
يوسف : 75] أي السراق بالاسترقاق { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ } [يوسف : 76] فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا } [يوسف : 76] أي الصواع { مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } [يوسف : 76] ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه لأن التأنيث يرجع إلى السقاية أو لأن الصواع يذكر ويؤنث الكاف في { كَذَالِكَ } في محل النصب أي مثل ذلك الكيد العظيم { كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف : 76] يعني علمناه إياه { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ } [يوسف : 76] تفسير للكيد وبيان له لأن الحكم في دين الملك أي في سيرته للسارق أني يغدم مثلي ما أخذ
332
لا أن يستعبد { إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30] أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإرادته فيه { نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ } [الأنعام : 83] بالتنوين كوفي { مَّن نَّشَآءُ } [الأنعام : 83] أي في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه { وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف : 76] فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليهم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل
جزء : 2 رقم الصفحة : 332
(2/193)
{ قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } أرادوا يوسف قيل دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه وقيل كان في المنزل دجاجة فأعطاها السائل وقيل كانت منطقة لإبراهيم عليه السلام يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده فحضنت يوسف وهي عمته بعد وفاة أمه وكانت لا تصبر عنه فلما شب أراد يعقوب أن ينزعه منها فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها فوجدوها محزومة على يوسف فقالت إنه لي سَلَم أفعل به ما شئت فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت وروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له فضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذ هذا الصاع فقال بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم { فَأَسَرَّهَا } أي مقالتهم إنه سرق كأنه لم يسمعها { يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا } [يوسف : 77] تمييز أي أنتم شر منزلة في السرق لأنكم سرقتم أخاكم يوسف من أبيه { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } [يوسف : 77] تقولون أو تكذبون { قَالُوا يَـا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُا أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } [يوسف : 97-78] في السن وفي القدر { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُا } [يوسف : 78] أبدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد فإن أباه يتسلى به عن أخيه المفقود { إِنَّا نَرَاـاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [يوسف : 36] إِلينا فأتمم إحسانك أو من عادتك الإحسان فاجر على عادتك ولا تغيرها
333
جزء : 2 رقم الصفحة : 333
{ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلا مَن وَجَدْنَا مَتَـاعَنَا عِندَهُ } [يوسف : 79] أي نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من { إِنَّآ إِذًا لَّظَـالِمُونَ } [يوسف : 79] إذاً جواب لهم وجزاء لأن المعنى إن أخذنا بدله ظلمنا وهذا لأنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصاع في رحله واستبعاده فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم { فَلَمَّا اسْتَيْـاَسُوا } [يوسف : 80] يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة كما مر في استعصم { مِنْهُ } من يوسف وإجابته إياهم { خَلَصُوا } انفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم { نَجِيًّا } ذوي نجوى أو فوجاً نجيا أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً أو تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك وإفاضتهم فيه بجد واهتمام كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته فالنجيُّ يكون بمعنى المناجي كالسمير بمعنى المسامر وبمعنى المصدر الذي هو التناجي وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم { قَالَ كَبِيرُهُمْ } [يوسف : 80] في السن وهو روبيل أو في العقل والرأي وهو يهوذا أو رئيسهم وهو شمعون { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } [يوسف : 80] ما صلة أي ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم أو مصدرية ومحل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف { فَلَنْ أَبْرَحَ الارْضَ } [يوسف : 80] فلن أفارق أرض مصر { حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى } [يوسف : 80] في الإنصراف إليه { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى } [يوسف : 80] بالخروج منها أو بالموت أو بقتالهم { وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ } [الأعراف : 87] لأنه لا يحكم إلا بالعدل { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَـا أَبَانَآ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } وقرىء سرِّق أي
334
نسب إلى السرقة { وَمَا شَهِدْنَآ } [يوسف : 81] عليه بالسرقة { إِلا بِمَا عَلِمْنَا } [يوسف : 81] من سرقته وتيقنا إذ الصواع استخرج من وعائه { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـافِظِينَ } [يوسف : 81] وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق
جزء : 2 رقم الصفحة : 334
(2/194)
{ وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا } [يوسف : 82] يعني مصر أي أرسل إلى أهلها فاسألهم من كنه القصة { وَالْعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا } [يوسف : 82] وأصحاب العير وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام { وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ } [الأنعام : 146] في قولنا فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ما قال لهم أخوهم { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } [يوسف : 18] أردتموه وإلا فمن أدرى ذلك الرجل أن السارق يسترق لولا فتواكم وتعليمكم { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } [يوسف : 83] بيوسف وأخيه وكبيرهم { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } [يوسف : 83] بحالي في الحزن والأسف { الْحَكِيمُ } الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ } [يوسف : 84] وأعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به { وَقَالَ يَـا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } [يوسف : 84] أضاف الأسف وهو أشد الحزن والحسرة إلى نفسه والألف بدل من ياء الإضافة والتجانس بين الأسف ويوسف غير متكلف ونحوه { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الارْضِ أَرَضِيتُم } [التوبة : 38].
{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْـاَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام : 26] و { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف : 104].
{ مِن سَبَإ بِنَبَإٍ } [النمل : 22].
وإنما تأسف دون أخيه وكبيرهم لتمادي أسفه على يوسف دون الآخرين وفيه دليل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طرياً { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ } [يوسف : 84] إذ كثر الاستعبار ومحقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر وقيل قد عمى بصره وقيل كان قد يدرك إدراكاً ضعيفاً { مِنَ الْحُزْنِ } [يوسف : 84] لأن الحزن سبب
335
البكاء الذي حدث منه البياض فكأنه حدث من الحزن قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب ويجوز للنبي عليه السلام أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ لأن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الحزن فلذلك حمد صبره ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ولده إبراهيم ، وقال : " القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وإنما المذموم الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب { فَهُوَ كَظِيمٌ } [يوسف : 84] مملوء من الغيظ على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله { إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ } [القلم : 48] من كظم السقاء إذا شده على ملئه
جزء : 2 رقم الصفحة : 335
{ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا } [يوسف : 85] أي لا تفتأ فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس إذ لو كان إثباتاً لم يكن بد من اللام والنون ومعنى لا تفتأ لا تزال { تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } [يوسف : 85] مشفياً على الهلاك مرضاً { أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَـالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُوا بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ } البث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس أي بنشره أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه فخلوني وشكايتي وروى أنه أوحى إلى يعقوب إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فوقف ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين وقيل اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 62] وأعلم من رحمته أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب ، وروى أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله هل قبضت روح يوسف فقال : لا والله هو حي فاطلبه وعلمه هذا الدعاء ياذا المعروف الدائم الذي لا ينقطع معروفه أبداً ولا يحصيه غيرك فرج عني
336
جزء : 2 رقم الصفحة : 336
(2/195)
{ تَعْلَمُونَ * يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } فتعرفوا منهما وتطلبوا خبرهما وهو تفعل من الإحساس وهو المعرفة { وَلا تَا يـاَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ } [يوسف : 87] ولا تقنطوا من رحمة الله وفرجه { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { لا يَا يْـاَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَـافِرُونَ } [يوسف : 87] لأن من آمن يعلم أنه متقلب في رحمة الله ونعمته وأما الكافر فلا يعرف رحمة الله ولا تقلبه في نعمته فييأس من رحمته فخرجوا من عند أبيهم راجعين إلى مصر { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } [يوسف : 88] علي يوسف { قَالُوا يَـا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } الهزال من الشدة والجوع { وَجِئْنَا بِبِضَـاعَةٍ مُّزْجَـاـاةٍ } [يوسف : 88] مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها من أزجيته إذا دفعته وطردته قيل كان دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وقيل كانت صوفاً وسمنا { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } [يوسف : 88] الذي هو حقنا { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } [يوسف : 88] وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة أوزدنا على حقنا أوهب لنا أخانا { إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ } [يوسف : 88] ولما قالوا مسنا وأهلنا الضر وتضرعوا إليه وطلبوا منه أن يتصدق عليهم أرفضت عيناه ولم يتمالك أن عرفهم نفسه حيث قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 337
{ قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } [يوسف : 89] أي هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف { وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَـاهِلُونَ } [يوسف : 89] لا تعلمون قبحه أو إذ أنتم في حد السفه والطيش وفعلهم بأخيه تعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بأنواع الأذى { قَالُوا } بهمزتين كوفي وشامي { أَءِنَّكَ لانتَ يُوسُفُ } [يوسف : 90] اللام لام الابتداء وأنت مبتدأ ويوسف خبره والجملة خبران { قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَـاذَآ أَخِى } [يوسف : 90] وإنما ذكر أخاه وهم قد سألوه عن نفسه لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه
337
{ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ } [يوسف : 90] بالألفة بعد الفرقة وذكر نعمة الله بالسلامة والكرامة ولم يبدأ بالملامة { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [يوسف : 90] الفحشاء { وَيَصْبِرْ } عن المعاصي وعلى الطاعة { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [هود : 115] أي أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين وقيل من يتق مولاه ويصبر على بلواه لا يضيع أجره في دنياه وعقباه
جزء : 2 رقم الصفحة : 337
{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } [يوسف : 91] اختارك وفضلك علينا بالعلم والحلم والتقوى والصبر والحسن { وَإِن كُنَّا لَخَـاطِاِينَ } [يوسف : 91] وإن شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين معتمدين للإثم لم نتق ولم نصبر لا جرم أن الله أعزك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك { قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } [يوسف : 92] لا تعيير عليكم { الْيَوْمَ } متعلق بالتثريب أو بيغفر والمعنى لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام ثم ابتدأ فقال { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } [النور : 22] فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم يقال غفر الله لك ويغفر لك على لفظ الماضي والمضارع أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل غفران الله وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح فقال لقريش " ما ترونني فاعلاً بكم " قالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال : " أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم " وروى أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس إذا أتيت رسول الله فاتل عليه قال لا تثريب عليكم اليوم ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " غفر الله لك ولمن علمك " ويروى أن أخوته لما عرفوه أرسلوا إليه أنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشياً
338
(2/196)
ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك فقال يوسف إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت الآن بكم حيث علم الناس أني من حفدة إبراهيم { وَهُوَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ } [يوسف : 64] أي إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور فما ظنكم بالغني الغفور ثم سألهم عن حال أبيه فقالوا إنه عمي من كثرة البكاء قال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 338
{ اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَـاذَا } [يوسف : 93] قيل هو القميص المتواراث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة أمره جبريل أن يرسله إليه فإنه فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي { فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } [يوسف : 93] يصر بصيراً تقول جاء البناء محكماً أي صار أو يأت إلي وهو بصير قال يهوذا أنا أحمل قميص الشفاء كما ذهبت بقميص الجفاء وقيل حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [يوسف : 93] لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } [يوسف : 94] خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانه { قَالَ أَبُوهُمْ } [يوسف : 94] لولد ولده ومن حوله من قومه { إِنِّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف : 94] أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمانية أيام { لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ } [يوسف : 94] التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وإنكار العقل من هرم يقال شيخ مفند والمعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني
339
جزء : 2 رقم الصفحة : 339
{ قَالُوا } أي أسباطه { تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـالِكَ الْقَدِيمِ } [يوسف : 95] لفي ذهابك عن الصواب قديماً في إفراط محبتك ليوسف أو في خطئك القديم من حب يوسف وكان عندهم أنه قد مات { فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ } [يوسف : 96] أي يهوذا { أَلْقَـاـاهُ عَلَى وَجْهِهِ } [يوسف : 96] طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو ألقاه يعقوب { فَارْتَدَّ } فرجع { بَصِيرًا } يقال رده فارتد وارتده إذا ارتجعه { قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ } [يوسف : 96] يعني قوله إني لأجد ريح يوسف أو قوله ولا تيأسوا من روح الله وقوله { إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [يوسف : 96] كلام مبتدأ لم يقع عليه القول أووقع عليه والمراد قوله إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون وروى أنه سأل البشير كيف يوسف قال هو ملك مصر فقال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة { قَالُوا يَـا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَـاطِاِينَ } [يوسف : 97] أي سل الله مغفرة ما ارتكبنا في حقك وحق ابنك إنا تبنا واعترفنا بخطايانا { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يوسف : 98] أخر الاستغفار إلى وقت السحر أو إلى ليلة الجمعة أو ليتعرف حالهم في صدق التوبة أو إلى أن يسأل يوسف هل عفا عنهم ثم إن يوسف وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه فلما بلغ قريباً من مصر خرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
{ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ } [يوسف : 99] ضم إليه { أَبَوَيْهِ } واعتنقهما قيل كانت أمه باقية وقيل ماتت وتزوج أبوه خالته والخالة أم كما أن العم أب ومنه
340
(2/197)
قوله { وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } [البقرة : 133] ومعنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر أنه حين استقبلهم أنزلهم في مضرب خيمة أو قصر كان له ثمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه { وَقَالَ } لهم بعد ذلك { ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ } [يوسف : 99] من ملوكها وكانوا لا يدخلونها إلا بجواز أو من القحط وروي أنه لما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان وقال له يوسف يا أبت بكيت على حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا فقال بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجال ونساء وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف
جزء : 2 رقم الصفحة : 340
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } [يوسف : 100] قيل لما دخلوا مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخروا له يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين سجداً وكانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد وقال الزجاج سنة التعظيم في ذلك الوقت أن يسجد للمعظم وقيل ما كانت لا انحناء دون تعفير الجباه وخرورهم سجداً يأباه وقيل وخروا لأجل يوسف سجداً لله شكراً وفيه نبوة أيضاً واختلف في استنبائهم { وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا } أي الرؤيا { رَبِّى حَقًّا } [الكهف : 98] أي صادقة وكان بين الرؤيا وبين التأويل أربعين سنة أو ثمانون أو ست وثلاثون أو ثنتان وعشرون { وَقَدْ أَحْسَنَ بِى } [يوسف : 100] يقال أحسن إليه وبه وكذلك أساء إليه وبه { إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ } [يوسف : 100] ولم يذكر الجب لقوله لا تثريب عليكم اليوم { وَجَآءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } [يوسف : 100] من البادية لأنهم كانوا أصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع { مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَـانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } [يوسف : 100] أي أفسد بيننا وأغرى { إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } [يوسف : 100] أي لطيف التدبير { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [يوسف : 83] بتأخير الآمال إلى الآجال أو حكم بالائتلاف بعد الاختلاف
341
جزء : 2 رقم الصفحة : 341
(2/198)
{ رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ } [يوسف : 101] ملك مصر { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ } [يوسف : 101] تفسير كتب الله أو تعبير الرؤيا ومن فيهما للتبعيض إذ لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا وبعض التأويل { فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يوسف : 101] انتصابه على النداء { أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ } أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا } [يوسف : 101] طلب الوفاة على حال الإسلام كقول يعقوب لولده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون وعن الضحاك مخلصاً وعن التستري مسلِّماً إليك أمري وفي عصمة الأنبياء إنما دعا به يوسف ليقتدي به قومه ومن بعده ممن ليس بمأمون العاقبة لأن ظواهر الأنبياء لنظر الأمم إليهم { وَأَلْحِقْنِى بِالصَّـالِحِينَ } [يوسف : 101] من آبائي أو على على العموم روى أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الذهب والفضة وخزائن الثياب وخزائن السلاح حتى أدخله خزانة القراطيس قال يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى على ثمان مراحل فقال أمرني جبريل قال أو ما تسأله قال أنت أبسط إليه مني فاسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروى أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فمضى بنفسه ودفنه ثمة ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمره طلبت نفسه الملك الدائم فتمنى الموت وقيل ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن يعملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً حتى نقل موسى عليه السلام بعد أربعمائة سنة تابوته إلى بيت المقدس وولد له أفراثيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيدهم على بقايا دين يوسف وآبائه
342
جزء : 2 رقم الصفحة : 342
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مبتدأ { مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } [آل عمران : 44] خبر إن { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } [يوسف : 102] لدى بني يعقوب { إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ } [يوسف : 102] عزموا على ما هموا به من إلقاء يوسف في البئر { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [يوسف : 102] بيوسف ويبغون له الغوائل والمعنى أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي لأنك لم تحضر بني يعقوب حين اتفقوا على إلقاء أخيهم في البئر { وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] أراد العموم أو أهل مكة أي وما هم بمؤمنين ولو اجتهدت كل الاجتهاد على إيمانهم { وَمَا تَسْـاَلُهُمْ عَلَيْهِ } [يوسف : 104] على التبليغ أو على القرآن { مِنْ أَجْرٍ } [الفرقان : 57] جعل { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ } [يوسف : 104] ما هو إلا موعظة { لِّلْعَـالَمِينَ } وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله { وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ } [يوسف : 105] من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده { فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا } [يوسف : 105] على الآيات أو على الأرض ويشاهدونها { وَهُمْ عَنْهَا } [يوسف : 105] عن الآيات { مُعْرِضُونَ } لا يعتبرون بها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير من العبر { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ } [يوسف : 106] أي وما يؤمن أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السماوات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن الجمهور على أنها نزلت في المشركين لأنهم مقرون بالله خالقهم ورازقهم وإذا حزبهم أمر شديد دعوا الله ومع ذلك يشركون به غيره ومن جملة الشرك ما يقوله
343
القدرية من إثبات قدرة التخليق للعبد ، والتوحيد المحض ما يقوله أهل السنة وهو أنه لا خالق إلا الله
جزء : 2 رقم الصفحة : 343
(2/199)
{ أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَـاشِيَةٌ } [يوسف : 107] عقوبة تغشاهم وتشملهم { مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ } [يوسف : 107] القيامة { بَغْتَةً } حال أي فجأة { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] بإتيانها { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِى } [يوسف : 108] هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي والسبيل والطريق يذكران ويؤنثان ثم فسر سبيله بقوله { أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء { أَنَا } تأكيد للمستتر في أدعو { وَمَنِ اتَّبَعَنِى } [يوسف : 108] عطف عليه أي أدعو إلى سبيل الله أنا ويدعو إليه من اتبعني أو أنا مبتدأ وعلى بصيرة خبر مقدم ومن اتبعني عطف على أنا يخبر ابتداء بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى { وَسُبْحَـانَ اللَّهِ } [النمل : 8] وأنزهه عن الشركاء { وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 79] مع الله غيره { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا } [يوسف : 109] لا ملائكة لأنهم كانوا يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة أو ليست فيهم امرأة { نُّوحِى } بالنون حفص { إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] لأنهم أعلم وأحلم وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاخِرَةِ } [يوسف : 109] أي ولدار الساعة الآخرة { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا } [يوسف : 109] الشرك وآمنوا به { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] وبالياء مكي وأبو عمرو وحمزة وعلي
344
جزء : 2 رقم الصفحة : 344
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْـاَسَ الرُّسُلُ } [يوسف : 110] يئسوا من إيمان القوم { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } [يوسف : 110] كذَّبوا وأيقن الرسل أن قومهم كذبوهم وبالتخفيف كوفي أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا أي أخلفوا أو وظن المرسل إليهم كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } [يوسف : 110] للأنبياء والمؤمنين بهم فجأة من غير احتساب { فَنُجِّىَ } بنونٍ واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء شامي وعاصم على لفظ الماضي المبني للمفعول والقائم مقام الفاعل من الباقون فننجى بنونين ثانيتهما ساكنة مخفاة للجيم بعدها وإسكان الياء { مَّن نَّشَآءُ } [الأنعام : 83] أي النبي ومن آمن به { وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا } [يوسف : 110] عذابنا { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 147] الكافرين { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } [يوسف : 111] أي في قصص الأنبياء وأممهم أو في قصة يوسف وإخوته { عِبْرَةٌ لاوْلِى الالْبَـابِ } [يوسف : 111] حيث نقل من غاية الحب ، إلى غيابة الجب ، ومن الحصير ، إلى السرير ، فصارت عاقبة الصبر سلامة وكرامة ، ونهاية المكر وخامة وندامة { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } [يوسف : 111] ما كان القرآن حديثاً مفترى كما زعم الكفار { وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } [يونس : 37] ولكن تصديق الكتب التي تقدمته { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ } [يوسف : 111] يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي تستند إليه السنة والإجماع والقياس { وَهُدًى } من الضلال { وَرَحْمَةً } من العذاب { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] بالله وأنبيائه وما نصب بعد لكن معطوف على خبر كان * عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم " علموا أرقاءكم سورة يوسف فأيما عبد تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلماً " قال الشيخ أبو منصور رحمه الله في ذكر قصة يوسف عليه السلام وإخوته تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على أذى قريش كأنه يقول إن إخوة يوسف مع موافقتهم إياه في الدين ومع الأخوّة عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر وصبر على ذلك
345
فأنت مع مخالفتهم إياك في الدين أحرى أن تصبر على أذاهم وقال وهب : إن الله تعالى لم ينزل كتاباً إلا وفيه سورة يوسف عليه السلام تامة كما هي في القرآن.
346
سورة الرعد
مكية ، وهي ثلاث وأربعون آية كوفي ، وخمس وأربعون آية شامي
بسم الله الرحمن الرحيم(2/200)
{ الامار } أنا الله أعلم وأرى عن ابن عباس رضي الله عنهما { تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة { الْكِتَـابِ الْحَكِيمِ } [يونس : 1] أريد بالكتاب السورة أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها { وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الرعد : 1] أي القرآن كله { الْحَقُّ } خبر والذي { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } [هود : 17] فيقولون تقوَّله محمد ثم ذكر ما يوجب الإيمان فقال { اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَـاوَاتِ } [الرعد : 2] أي خلقها مرفوعة لا أن تكون موضوعة فرفعها والله مبتدأ والخبر الذي رفع السماوات { بِغَيْرِ عَمَدٍ } [الرعد : 2] حال وهو جمع عماد أو عمود { تَرَوْنَهَا } الضمير يعود إلى السماوات أي ترونها كذلك فلا حاجة إلى البيان أو إلى عمد فيكون في موضع جر على أنه صفة لعمد أي بغير عمد مرئية { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الفرقان : 59] استولى بالاقتدار ونفوذ السلطان { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [الرعد : 2] لمنافع عباده ومصالح بلاده { كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى } [الزمر : 5] وهو انقضاء الدنيا { يُدَبِّرُ الامْرَ } [يونس : 31] أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصِّلُ الايَـاتِ } [الرعد : 2] يبين آياته في كتبه المنزلة { لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [الرعد : 2] لعلكم توقنون بأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه
347
جزء : 2 رقم الصفحة : 347
{ وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الارْضَ } [الرعد : 3] بسطها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } [فصلت : 10] جبالاً ثوابت { وَأَنْهَـارًا } جارية { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [الرعد : 3] أي الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك { وَهُوَ الَّذِى مَدَّ } [الرعد : 3] يلبسه مكانه فيصير أسود مظلماً بعد ما كان أبيض منيراً.
يغشِّي حمزة وعلي وأبو بكر { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الرعد : 3] فيعلمون أن لها صانعاً عليماً حكيماً قادراً { وَفِى الارْضِ قِطَعٌ مُّتَجَـاوِرَاتٌ } [الرعد : 4] بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة وكريمة إلى زهيدة وصلبة إلى رخوة وذلك دليل على قادر مدبر مريد موقع لأفعاله على وجه دون وجه { وَجَنَّـاتٌ } معطوفة على قطع { مِّنْ أَعْنَـابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } [الرعد : 4] بالرفع مكي وبصري وحفص عطف على قطع غيرهم بالجر بالعطف على أعناب ، والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد عن حفص بضم الصاد وهما لغتان { يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } [الرعد : 4] وبالياء عاصم وشامي { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ } [الرعد : 4] وبالياء حمزة وعلى
جزء : 2 رقم الصفحة : 348
{ فِى الاكُلِ } [الرعد : 4] في الثمرة وبسكون الكاف نافع ومكي { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4] عن الحسن مثل اختلاف القلوب في آثارها وأنوارها وأسرارها باختلاف القطع في أنهارها وأزهارها وثمارها { وَإِن تَعْجَبْ } [الرعد : 5] يا محمد من قولهم في إنكار البعث { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } [الرعد : 5] خبر ومبتدأ أي فقولهم حقيق بأن يتعجب منه لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك كان الإعادة أهون شيء عليه وأيسره فكان إنكارهم أعجوبة عن الأعاجيب { مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } في محل الرفع بدل من قولهم.
قرأ عاصم وحمزة
348
كل واحد بهمزتين { أُوالَـاـاـاِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ } [الرعد : 5] أولئك الكافرون المتمادون في كفرهم { وَأُوالَـاـاـاِكَ الاغْلَـالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ } [الرعد : 5] وصف لهم بالإصرار أو من جملة الوعيد { وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 217] دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر
جزء : 2 رقم الصفحة : 348
(2/201)
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } [الرعد : 6] بالنقمة قبل العافية وذلك أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ } أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فمالهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا والمثلة العقوبة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة.
{ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } [الرعد : 6] أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب ومحله الحال أي ظالمين لأنفسهم قال السدي يعني المؤمنين وهي أرجى آية في كتاب الله حيث ذكر المغفرة مع الظلم وهو بدون التوبة فإن التوبة تزيلها وترفعها { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد : 6] على الكافرين أو هما جميعاً في المؤمنين لكنه معلق بالمشيئة فيهما أي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [الرعد : 7] لم يعتدوا بالآيات المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم عناداً فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ } [النازعات : 45] إنما أنت رجل أرسلت منذراً مخوفاً لهم من سوء العاقبة وناصحاً كغيرك من الرسل وما عليك إلا الإتيان بما يصح به أنك رسول منذر وصحة ذلك حاصلة بأي آية كانت والآيات كلها سواء في حصول صحة الدعوى بها { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [الرعد : 7] من الأنبياء يهديهم إلى الدين ويدعوهم إلى الله بآية خص بها لا بما يريدون ويتحكمون { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الارْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } [الرعد : 8] ما في هذه
349
المواضع الثلاثة موصولة أي يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة وتمام وخداج وحسن وقبح وطول وقصر وغيره ذلك وما تغيضه الأرحام أي ويعلم ما تنقصه يقال غاض الماء وغضته أنا وما تزداده والمراد عدد الولد فإنها تشتمل على واحد واثنين وثلاثة وأربعة أوجسد الولد فإنه يكون تاماً ومخدجاً أو مدة الولادة فإنها تكون أقل من تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عندنا وإلى أربع عند الشافعي وإلى خمس عند مالك أو مصدرية أي يعلم حمل كل أثنى ويعلم غيض الأرحام وازديادها { وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد : 8] بقدر وحدِّ لا يجازوه ولا ينقص عنه لقوله : { إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ } [القمر : 49]
جزء : 2 رقم الصفحة : 349
{ عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] ما غاب عن الخلق { وَالشَّهَـادَةِ } ما شاهدوه { الْكَبِيرُ } العظيم الشأن الذي كل شيء دونه { الْمُتَعَالِ } المستعلي على كل شيء بقدرته أو الذي كبر عن صفات المخلوقين وتعالى عنها وبالياء في الحالين مكي { سَوَآءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ } [الرعد : 10] أي في علمه { وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ } [الرعد : 10] متوار { وَسَارِبُ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] ذاهب في سربه أي في طريقه ووجهه يقال سرب في الأرض سروباً.
وسارب عطف على من هو مستخف لا على مستخف أو على مستخف غير أن من في معنى الاثنين والضمير في { لَهُ } مردود على من كأنه قيل لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب { مُعَقِّبَـاتٌ } جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف أو هو مفعلات من عقبه إذا جاء في عقبه لأن بعضهم يعقب بعضاً أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [الرعد : 11] أي قدامه ووراءه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [الرعد : 11] هما صفتان جميعاً وليس من أمر الله بصلة للحفظ كأنه قيل له معقبات من أمر الله أو يحفظونه من أجل أمر الله
350
(2/202)
أي من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه أو يحفظونه من بأس الله ونقمته إذا أذنب بدعائهم له { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ } [الرعد : 11] من العافية والنعمة { حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد : 11] من الحال الجميلة بكثرة المعاصي { وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُواءًا } [الرعد : 11] عذاباً { فَلا مَرَدَّ لَهُ } [الرعد : 11] فلا يدفعه شيء { وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد : 11] من دون الله ممن يلي أمرهم ويدفع عنهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 350
{ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الرعد : 12] انتصبا على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع أو على ذا خوف وذا طمع أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين والمعنى يخاف من وقوع الصواعق عند لمع البرق ويطمع في الغيث قال أبو الطيب :
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجي
يرجّى الحيا ومنه وتخشى الصواعق
أو يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر ومن له بيت يكف ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر ويطمع فيه من له نفع فيه { وَيُنشِىءُ السَّحَابَ } [الرعد : 12] هو اسم جنس والواحدة سحابة { الثِّقَالَ } بالماء وهو جميع ثقيلة ، تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } [الرعد : 13] قيل يسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر أي يصيحون بسبحان الله والحمد لله وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال : " الرعد ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب } والصوت الذي يسمع زجره السحاب حتى ينتهي إلى حيث أمر { وَالْمَلَـائكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } [الرعد : 13] ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } [الرعد : 13] الصاعقة : نار تسقط من السماء لما ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال : { وَهُمْ يُجَـادِلُونَ فِى اللَّهِ } [الرعد : 13] يعني الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجادلون في الله حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث
351
وإعادة الخلائق بقولهم : { مَن يُحْىِ الْعِظَـامَ وَهِىَ رَمِيمٌ } [غافر : 8-78].
ويردون الوحدانية باتخاذ الشركاء ويجعلونه بعض الأجسام بقولهم الملائكة بنات الله.
أو الواو للحال أي فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم وذلك أن أريد أخا لبيد بن ربيعة العامري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حين وفد عليه مع عامر بن الطفيل قاصدين لقتله فرمى الله عامراً بغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية وأرسل على أربد صاعقة فقتله أخبرني عن ربنا أمن نحاس هو أم من حديد
جزء : 2 رقم الصفحة : 351
{ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [الرعد : 13] أي المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ومنه تمحل لكذا إذا تكلف لاستعماله الحيلة واجتهد فيه ، ومحل بفلان إذا كاده وسعى به إلى السلطان والمعنى أنه شديد المكر والكيد لأعدائه يأتيهم بالهلكة من يحث لا يحتسبون
جزء : 2 رقم الصفحة : 351
{ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } [الرعد : 14] أضيفت إلى الحق الذي هو ضد الباطل للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق وأنها بمعزل من الباطل والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤله فكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأنه يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه واتصال شديد المحال وله دعوة الحق بما قبله على قصة أربد ظاهر لأن إصابته بالصاعقة محال من الله ومكر به من حيث لم يشعر وقد دعا رسول الله عليه وعلى صاحبه بقوله : " اللهم اخسفهما بما شئت " فأجيب فيهما فكانت الدعوة
352
(2/203)
دعوة حق وعلى الأول وعيد للكفرة على مجادلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحلول محاله بهم وإجابة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيهم إن دعا عليهم { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ } [النحل : 20] { مِّن دُونِهِ } [يس : 23] من دون الله { لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ } [الرعد : 14] من طلباتهم { إِلا كَبَـاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } [الرعد : 14] الاستثناء من المصدر أي من الاستجابة التي دل عليها لا يستجيبون لأن الفعل بحروفه يدل على المصدر وبصيغته على الزمان وبالضرورة على المكان والحال فجاز استثناء كل منها من الفعل فصار التقدير لا يستجيبون استجابة إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء أي كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم.
واللام في ليبلغ متعلق بباسط كفيه
جزء : 2 رقم الصفحة : 352
{ وَمَا هُوَ بِبَـالِغِهِ } [الرعد : 14] وما الماء يبالغ فاه { وَمَا دُعَآءُ الْكَـافِرِينَ إِلا فِى ضَلَـالٍ } [الرعد : 14] في ضياع لا منفعة فيه لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الأصنام لم تستطع إجابتهم { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الرعد : 15] سجود تعبد وانقياد { طَوْعًا } حال يعني الملائكة والمؤمنين { وَكَرْهًا } يعني المنافقين والكافرين في حال الشدة والضيق { وَظِلَـالُهُم } معطوف على من جمع ظل { بِالْغُدُوِّ } جمع غداة كقنىً وقناة { وَالاصَالِ } جمع أصل جميع أصيل قيل ظل كل شيء يسجد لله بالغدو والآصال وظل الكافر يسجد كرهاً وهو كاره وظل المؤمن يسجد طوعاً وهو طائع { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ قُلِ اللَّهُ } [الرعد : 16] حكاية لاعترافهم لأنه إذا قال : لهم من رب السموات والأرض لم يكن لهم بد من أن يقولوا : الله ، دليله قراءة ابن مسعود وأبي قالوا الله أو هو تلقين أي فإن لم يجيبوا فلقنهم فإنه لا جواب إلا هذا
353
{ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [الرعد : 16] أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض اتخذتم من دونه آلهة { لا يَمْلِكُونَ لانفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا } [الرعد : 16] لا يستطيعون لأنفسهم أن ينفعوها أو يدفعوا ضرراً عنها فكيف يستطيعونه لغيرهم وقد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب فما أبين ضلالتكم { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ } [الأنعام : 50] أي الكافر والمؤمن أو من لا يبصر شيئاً ومن لا يخفى عليه شيء { أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَـاتُ وَالنُّورُ } ملل الكفر والإيمان.
يستوي كوفي غير حفص { أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ } [الرعد : 16] بل أجلعوا ومعنى الهمزة الإنكار { خَلَقُوا كَخَلْقِهِ } [الرعد : 16] خلقوا مثل خلقه وهو صفة لشركاء أي أنهم لم يتخذوا الله شركاء خالقين قد خلقوا مثل خلق الله { فَتَشَـابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } [الرعد : 16] فاشتبه عليهم مخلوق الله بمخلوق الشركاء حتى يقولوا قدر هؤلاء على الخلق كما قدر الله عليه فاستحقوا العبادة فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما يعبد ولكنهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدر عليه الخلق فضلاً أن يقدروا على ما يقدر عليه الخالق { قُلِ اللَّهُ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ } [الرعد : 16] أي خالق الأجسام والأعراض لا خالق غير الله ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق فلا يكون له شريك في العبادة ، ومن قال إن الله لم يخلق أفعال الخلق وهو خلقوها فتشابه الخلق على قولهم { وَهُوَ الْوَاحِدُ } [الرعد : 16] المتوحد بالربوبية { الْقَهَّـارُ } لا يغالب وما عداه مربوب ومقهور
جزء : 2 رقم الصفحة : 352
(2/204)
{ أُنزِلَ } أي الواحد القهار وهو الله سبحانه { مِنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] من السحاب { مَآءً } مطراً { فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ } [الرعد : 17] جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة وإنما نكر لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض { بِقَدَرِهَا } بمقدارها الذي علم الله أنه نافع للممطور عليهم ضار { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ } [الرعد : 17] أي رفع { زَبَدًا } هو ما علا على وجه الماء من الرغوة والمعنى علاه زبد { رَّابِيًا } منتفخاً مرتفعاً على وجه السيل { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ } [الرعد : 17] بالياء كوفي غير أبي بكر ومن لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء أو للتبعيض أي وبعضه زبد { فِى النَّارِ } [ص : 61] حال من الضمير في عليه أي ومما توقدون عليه ثابتاً في النار
354
{ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ } [الرعد : 17] متبغين حلية فهو مصدر في موضع الحال من الضمير في توقدون { أَوْ مَتَـاعٍ } [الرعد : 17] من الحديد والنحاس والرصاص يتخذ منها الأواني وما يتمتع به في الحضر والسفر وهو معطوف على حلية أي زينة من الذهب والفضة { زَبَدٌ } خبث وهو مبتدأ { مِّثْلُهُ } نعت له ومما توقدون خبر له أي لهذه الفلزّات إذا أغليت زبد مثل زبد الماء { كَذَالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَـاطِلَ } [الرعد : 17] أي مثل الحق والباطل { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } [الرعد : 17] حال أي متلاشياً وهو ما تقذفه القدر عند الغليان والبحر عند الطغيان والجفء الرمي وجفأت الرجل صرعته { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ } [الرعد : 17] من الماء والحلى والأواني { فَيَمْكُثُ فِى الارْضِ } [الرعد : 17] فيثبت الماء في العيون والآبار والحبوب والثمار وكذلك الجواهر تبقى في الأرض مدة طويلة { كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ } [الرعد : 17] ليظهر الحق من الباطل وقيل هذا مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية الناس فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفات وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله بزبد السيل الذي يرمي به وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أطيب قال الجمهور وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن والقلوب والحق والباطل فالماء القرآن نزل لحياة الجنان كالماء للأبدان والأدوية للقلوب ومعنى بقدرها بقدر سعة القلب وضيقه والزبد هواجش النفس ووساوس الشيطان والماء الصافي المنتفع به مثل الحق فكما يذهب الزبد باطلاً ويبقى صفو الماء كذلك تذهب هواجس النفس ووساوس الشيطان ويبقى الحق كما هو وأما حلية الذهب والفضة فمثل للأحوال السنية والأخلاق الزكية وأما متاع الحديد والنحاس والرصاص فمثل للأعمال الممدة بالإخلاص المعدة للخلاص فإن الأعمال جالبة للثواب دافعة للعقاب كما أن تلك الجواهر بعضها أداة النفع في الكسب وبعضها آلة الدفع في الحرب وأما الزبد فالرياء والخلل والملل والكسل
355
جزء : 2 رقم الصفحة : 354
(2/205)
واللام في { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا } [الرعد : 18] أي أجابوا متعلقة بيضرب أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا { لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } [الرعد : 18] وهي صفة لمصدر استجابوا أي استجابوا الاستجابة الحسنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسيْتَجِيبُوا لَهُ } أي وللكافرين الذي لم يستجيبوا أي هما مثلاً الفريقين وقوله { لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ افْتَدَوْا بِهِ } [الرعد : 18] كلام مبتدأ في ذكر ما أعد لغير المستجيبين أي لو ملكوا أموال الدنيا وملكوا معها مثلها لبذلوه ليدفعوا عن أنفسهم عذاب الله والوجه أن الكلام قد تم على الأمثال وما بعده كلام مستأنف والحسنى مبتدأ خبره للذين استجابوا والمعنى لهم المثوبة الحسنى وهي الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره لو مع ما في حيزه { أؤلئك لَهُمْ سُواءُ الْحِسَابِ } [الرعد : 18] المناقشة فيه في الحديث " من نوقش الحساب عذاب " { وَمَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ } [التوبة : 95] ومرجعهم بعد المحاسبة الناس { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 12] المكان الممهد والمذموم محذوف أي جهنم ، دخلت همزة الإنكار على الفاء في { أَفَمَن يَعْلَمُ } [الرعد : 19] لإنكار أن تقع شبهة ما بعد ما ضرب من المثل في أن حال من علم { أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ } [الرعد : 19] فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب وهو المراد بقوله : { كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [الرعد : 19] كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالْبَـابِ } [الرعد : 19] أي الذين عملوا على قضايا عقولهم فنظروا واستبصروا { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ } [الرعد : 20] متبدأ والخبر أولئك لهم عقبى الدار كقوله { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ أؤلئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ } ، وقيل هو صفة لأولي الألباب والأول أوجه وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته وأشهدهم على أنفسهم من الشهادة بربوبيته ألست بربكم قالوا بلى { وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَـاقَ } [الرعد : 20] ما أوثقوه على أنفسهم
356
وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين العباد تعميم بعد تخصيص
جزء : 2 رقم الصفحة : 356
(2/206)
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [الرعد : 21] من الأَرحام والقرابات ويدخل فيه وصل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان إنما المؤمنون إخوة بالإحسان إليهم على حسب الطاقة ونصرتهم والذب عنهم والشفقة عليهم وإفشاء السلام عليهم وعيادة مرضاهم ومنه مراعاة حق الأَصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [الرعد : 21] أي وعيده كله { وَيَخَافُونَ سُواءَ الْحِسَابِ } [الرعد : 21] خصوصاً فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا { وَالَّذِينَ صَبَرُوا } [الرعد : 22] مطلق فيهما يصير عليه من المصائب في النفوس والأَموال ومشاق التكاليف { ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } [الرعد : 22] لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل ولا لئلا يعاب في الجزع { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ } [الأعراف : 170] داوموا على إقامتها { وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ } [الرعد : 22] أي من الحلال وإن كان الحرام رزقاً عندنا { سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة : 274] يتناول النوافل لأَنها في السر أفضل والفرائض لأَن المجاهرة بها أفضل نفياً للتهمة { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } [الرعد : 22] ويدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرهم أو إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا وإذا أذنبوا تابوا وإذا هربوا أنابوا وإذا رأوا منكراً أمروا بتغييره فهذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة { أؤلئك لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد : 22] عاقبة الدنيا وهي الجنة لأَنها التي أرادها الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها { جَنَّـاتُ عَدْنٍ } [مريم : 61] بدل من عقبى الدار { يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ } [الرعد : 23] أي آمن { مِنْ ءَابَآ ـاِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّـاتِهِمْ } [غافر : 8] وقرىء صلُح والفتح أفصح ومن في محل الرفع بالعطف على الضمير في يدخلونها وساغ ذلك وإن لم يؤكد لأَن ضمير المفعول صار فاصلاً وأجاز الزجاج أن يكون مفعولاً معه ووصفهم بالصلاح ليعلم أن الأَنساب لا تنفع بنفسها والمراد أبو كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم
357
{ وَالْمَلَـائكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ } [الرعد : 23] في قدر كل يوم وليلة ثلاث مرات بالهدايا وبشاراة الرضا
جزء : 2 رقم الصفحة : 357
{ سَلَـامٌ عَلَيْكُم } [النحل : 32] في موضع الحال إذ المعنى قائلين سلام عليكم أو مسلمين { بِمَا صَبَرْتُمْ } [الرعد : 24] متعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا الثواب بسبب صبركم على الشهوات أو على أمر الله أو بسلام أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم والأَول أوجه { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد : 24] الجنات { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ } [الرعد : 25] من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } [البقرة : 27] بالكفر والظلم { أؤلئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ } [الرعد : 25] الإبعاد من الرحمة { وَلَهُمْ سُواءُ الدَّارِ } [الرعد : 25] يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عقبى الدار وأن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد : 26] أي ويضيق لمن يشاء والمعنى الله وحده وهو يبسط الرزق ويقدر دون غيره { وَفَرِحُوا بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الرعد : 26] بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة { وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فِى الاخِرَةِ إِلا مَتَـاعٌ } [الرعد : 26] وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزرا يتمتع به كعجلة الراكب وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [الرعد : 7] أي الآية المقترحة { قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [الرعد : 27] باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [الرعد : 27] ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه
358
(2/207)
جزء : 2 رقم الصفحة : 358
{ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] هم الذين أو محله النصب بدل مِن مَن { وَتَطْمَـاـاِنُّ قُلُوبُهُم } [الرعد : 28] تسكن { بِذِكْرِ اللَّهِ } [الرعد : 28] على الدوام أو بالقرآن أو بوعده { أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَـاـاِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد : 28] بسبب ذكر تطمئن قلوب المؤمنين { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 25] مبتدأ
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
{ طُوبَى لَهُمْ } [الرعد : 29] خبره وهو مصدر من طاب كبشرى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيباً لك وطيب لك وسلاماً لك وسلام لك واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها كموقن والقراءة في { وَحُسْنُ مَـاَابٍ } [الرعد : 29] مرجع.
بالرفع والنصب تدل على محليها { كَذَالِكَ أَرْسَلْنَـاكَ } [الرعد : 30] مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال { فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ } [الرعد : 30] أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء { لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } [الرعد : 30] وحال هؤلاء أنهم يكفرون { بِالرَّحْمَـانِ } بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء { قُلْ هُوَ رَبِّى } [الرعد : 30] ورب كل شيء { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] أي هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } [هود : 88] في نصرتي عليكم { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [الرعد : 30] مرجعي فيثيبني على مصابرتكم.
متابي وعقابي ومآبي في الحالين يعقوب { وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [الرعد : 31] عن مقارِّها { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الارْضُ } [الرعد : 31]
359
حتى تتصدع وتتزايل قطعاً { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [الرعد : 31] فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف فجواب لو محذوف أو معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأَرض وتكليم الموتى وتنبيهم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَـائكَةَ } [الأنعام : 111].
الآية { بَل لِّلَّهِ الامْرُ جَمِيعًا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
الرعد : 31] بل لله القدرة على كل شيء وهو قادر على الآيات التي اقترحوها { أَفَلَمْ يَا يْـاَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } أفلم يعلم وهي لغة قوم من النخع وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه لأَن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمن ذلك ، دليله قراءة علي رضي الله عنه أفلم يتبين وقيل إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السنات وهذه والله فرية ما فيها مرية { أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا } [الرعد : 31] من كفرهم وسوء أعمالهم { قَارِعَةٌ } داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ } [الرعد : 31] أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها ويتعدى إليهم شرورها { حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ } [الرعد : 31] أي موتهم أو القيامة أو ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله من العداوة والتكذيب قارعة لأن جيش رسول الله يغير حول مكة ويختطف منهم أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله أي فتح مكة { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران : 9] أي لا خلف في موعده
جزء : 2 رقم الصفحة : 359
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } [الرعد : 32] الإملاء الإمهال وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } [الرعد : 32] وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله استهزاءً به وتسلية له
360
(2/208)
جزء : 2 رقم الصفحة : 360
{ أَفَمَنْ هُوَ قَآ ـاِمٌ } [الرعد : 33] احتجاج عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو رقيب { عَلَى كُلِّ نَفْس } [الرعد : 33] صالحة أو طالحة { بِمَا كَسَبَتْ } [الروم : 41] يعلم خيره وشره ويعد لكل جزاءه كمن ليس كذلك ثم استأنف فقال { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ } [الأنعام : 100] أي الأصنام { قُلْ سَمُّوهُمْ } [الرعد : 33] أي سموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ثم قال : { أَمْ تُنَبِّـاُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِى الارْضِ } [الرعد : 33] على أم المنقطعة أي بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء والمراد نفي أن يكون له شركاء { أَم بِظَـاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } [الرعد : 33] بل أتسمعونهم شركاء يظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله { ذَالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } [التوبة : 30].
{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } كيدهم للإسلام بشركهم { وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ } [الرعد : 33] عن سبيل الله بضم الصاد كوفي وبفتحها غيرهم ومعناه وصدوا المسلمين عن سبيل الله { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الرعد : 33] من أحد يقدر على هدايته { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الرعد : 34] بالقتل والأسر وأنواع المحن { وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَشَقُّ } [الرعد : 34] أشد لدوامه { وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } [الرعد : 34] من حافظ من عذابه { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الرعد : 35] صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة أو الخبر { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } [الرعد : 35] كما تقول صفة زيد أسمر { أُكُلُهَا دَآ ـاِمٌ } [الرعد : 35] ثمرها دائم الوجود لا ينقطع { وَظِلُّهَا } دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس { تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا } [الرعد : 35] أي الجنة الموصوفة عقبى تقواهم يعني منتهى أمرهم { وَّعُقْبَى الْكَـافِرِينَ النَّارُ } [الرعد : 35]
361
جزء : 2 رقم الصفحة : 361
(2/209)
{ وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } [الأنعام : 114] يريد من أسلم من اليهود كابن سلام ونحوه ومن النصارى بأرض الحبشة { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاحْزَابِ } [الرعد : 36] أي ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [الرعد : 36] لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ } [الرعد : 36] هو جواب للمنكرين أي قل إنما أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله ولا أشرك به فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع إدعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به { إِلَيْهِ أَدْعُوا } خصوصاً لا أدعو إلى غيره { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره { مَـاَابٍ } مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم { وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَـاهُ } [الحج : 16] ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء { حُكْمًا عَرَبِيًّا } [الرعد : 37] حكمة عربية مترجمة بلسان العرب وانتصابه على الحال كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أمور يشاركهم فيها فقيل { وَلَـاـاِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [الرعد : 37] أي بعد ثبوت العلم بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة { مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلا } أي لا ينصرك ناصر ولا يقيك منه واق وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين وأن لا يزال زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم من شدة الثبات بمكان وكانوا يعيبونه بالزواج والولاد ويقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ فنزل { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } [الرعد : 38] نساءاً وأولاداً
362
{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـاَايَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [الرعد : 38] أي ليس في وسعه إتيان الآيات على ما يقترحه قومه وإنما ذلك إلى الله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [الرعد : 38] لكل وقت حكم يكتب على العباد أي يفرض عليهم على ما تقتضيه حكمته
جزء : 2 رقم الصفحة : 362
(2/210)
{ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [الرعد : 39] ينسخ ما يشاء نسخه { وَيُثْبِتُ } بدله ما يشاء أو يتركه غير منسوخ أو يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء ويثبت غيره أو يمحو كفر التائبين ويثبت إيمانهم أو يميت من حان أجله وعكسه ويثبّت مدني وشامي وحمزة وعلي { وَعِندَهُا أُمُّ الْكِتَـابِ } [الرعد : 39] أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } [الرعد : 40] وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم أو توفيناك قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ } [النحل : 82] فيما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب { وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الارْضَ } أرض الكفرة { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } [الأنبياء : 44] بما نفتح على المسلمين من بلادهم فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام وذلك من آيات النصرة والغلبة ، والمعنى عليك البلاغ الذي حملته ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من النصرة والظفر { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } [الرعد : 41] لا راد لحكمه والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقبه أي يقفيه أي بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس ، ومحل لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة له تريد حاسراً { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [الرعد : 41] فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا
363
جزء : 2 رقم الصفحة : 363
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الرعد : 42] أي كفار الأمم الخالية بأنبيائهم والمكر إرادة المكروه في خفية ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال { فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا } [الرعد : 42] ثم فسر ذلك بقوله { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّـارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } [النور : 64-42] يعني العاقبة المحمودة لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو المكر كله لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة عما يراد بهم الكافر.
على إرادة الجنس حجازي وأبو عمرو { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا } [الرعد : 43] المراد بهم كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود قالوا : لست مرسلاً ولهذا قال عطاء هي مكية إلا هذه الآية { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الرعد : 43] بما أظهر من الأدلة على رسالتي والباء دخلت على الفاعل وشهيد تمييز { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَـابِ } [الرعد : 43] قيل هو الله عز وجل ، والكتاب : اللوح المحفوظ دليله قراءة من قرأ ومن عنده علم الكتاب أي ومن لدنه علم الكتاب لأن علم من علمه من فضله ولطفه ، وقيل ومن همو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم وقال ابن سلام : فيّ نزلت هذه الآية وقيل هو جبريل عليه السلام ومن في موضع الجر بالعطف على لفظ الله أو في موضع الرفع بالعطف على محل الجار والمجرور إذ التقدير كفى الله وعلم الكتاب يرتفع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً لأن الظرف صلة لمن ومن هنا بمعنى الذي والتقدير من ثبت عنده علم الكتاب وهذا لأن الظرف إذا وقع صلة يعمل عمل الفعل نحو مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول بالذي استقر في الدار أخوه وفي القراءة بكسر ميم من يرتفع العلم بالابتداء.
364
سورة إبراهيم
عليه السلام ، مكية : اثنتان وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(2/211)
{ الار كِتَـابٌ } [هود : 1] هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب يعني السورة والجملة التي هي { أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ } [إبراهيم : 1] في موضع الرفع صفة للنكرة { لِتُخْرِجَ النَّاسَ } [إبراهيم : 1] بدعائك إياهم { مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] من الضلالة إلى الهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [إبراهيم : 23] بتيسيره وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب وذلك ما يمنحهم من التوفيق { إِلَى صِرَاطِ } [الصافات : 23] بدل من النور بتكرير العامل { الْعَزِيزُ } الغالب بالانتقام { الْحَمِيدِ } المحمود على الإنعام { اللَّهِ } بالرفع مدني وشامي على هو الله وبالجر غيرهما على أنه عطف بيان للعزيز الحميد { الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } [إبراهيم : 2] خلقاً وملكاً ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل وهو نقيض الوأل وهو النجاة وهو اسم معنى كالهلاك فقال : { وَوَيْلٌ لِّلْكَـافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [إبراهيم : 2] وهو مبتدأ وخبر ، وصفة { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ } [إبراهيم : 3] يختارون ويؤثرون
365
{ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن } [إبراهيم : 3] عن دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } [إبراهيم : 3] يطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجاً والأصل ويبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل.
الذين مبتدأ خبره { أؤلئك فِى ضَلَـال بَعِيدٍ } [إبراهيم : 3] عن الحق ووصف الضلال بالبعد من الإسناد والمجازي والبعد في الحقيقة للضال لأنه هو الذي يتباعد عن طريق الحق فوصف به فعله كما تقول جد جده ، أو مجرور صفة للكافرين أو منصوب على الذم أو مرفوع على أعني الذين أوهم الذين
جزء : 2 رقم الصفحة : 365
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم : 4] إلا متكلماً بلغتهم { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } [النحل : 39] ما هو مبعوث به وله فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولون له : لم نفهم ما خوطبنا به فإن قلت إن رسولنا صلى الله عليه وسلّم بعث إلى الناس جميعاً بقوله { قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [آل عمران : 64-158] بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت لا يخلو ما إن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا
حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فتعين أن ينزل بلسان واحد وكان لسان قومه أولى بالتعيين لأنهم أقرب إليه ولأنه أبعد من التحريف والتبديل { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ } [إبراهيم : 4] من آثر سبب الضلالة { وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] من آثر سبب الاهتداء { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] فلا يغالب على مشيئته { الْحَكِيمُ } فلا يخذل إلا أهل الخذلان { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِـاَايَـاتِنَآ } [هود : 96] التسع { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } [إبراهيم : 5] بأن أخرج أو أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول كأنه قيل أرسلناه وقلنا له أخرج قومك { مِنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّـاـامِ اللَّهِ } [إبراهيم : 5] وأنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود ومنه أيام العرب لحروبها
366
وملاحمها أو بأيام الإنعام حيث ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وفلق لهم البحر { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } [إبراهيم : 5] على البلايا { شَكُورٍ } على العطايا كأنه قال لكل مؤمن إذ الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر
جزء : 2 رقم الصفحة : 366
(2/212)
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ } [إبراهيم : 6] إذ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام أي إنعامه عليكم ذلك الوقت أو بدل اشتمال من نعمة الله أي اذكروا وقت إنجائكم { وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } [إبراهيم : 6] ذكر في البقرة يذبحون وفي الأعراف يقتلون بلا واو وهنا مع الواو والحاصل أن التذبيح حيث طرح الواو جعل تفسيراً للعذاب وبياناً له وحيث أثبت الواو جعل التذبيح من حيث إنه زاد على جنس العذاب كأنه جنس آخر { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَالِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة : 49] الإشارة إلى العذاب والبلاء المحنة أو إلى الإنجاء والبلاء النعمة.
{ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } [إبراهيم : 7] أي آذن ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنده الشكوك والشبه وهو من جملة ما قال موسى لقومه وانتصابه للعطف على نعمة الله عليكم كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال : { لَـاـاِن شَكَرْتُمْ } [إبراهيم : 7] يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وغيرها { لازِيدَنَّكُمْ } نعمة إلى نعمة فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود وقيل إذا سمعت النعمة نغمة الشكر تأهبت للمزيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لئن شكرتم بالجد في الطاعة لأزيدنكم بالجد في المثوبة { وَلَـاـاِن كَفَرْتُمْ } [إبراهيم : 7] ما أنعمت به عليكم { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } [إبراهيم : 7] لمن كفر نعمتي أما في الدنيا فسلب النعم وأما في العقبى فتوالى النقم
367
جزء : 2 رقم الصفحة : 367
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ } [إبراهيم : 8] يا بني إسرائيل { وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا } [المعارج : 14] والناس كلهم { فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ } [إبراهيم : 8] عن شكركم { حَمِيدٌ } وإن لم يحمده الحامدون وأنتم ضررتم أنفسكم حيث حرمتموها الخير الذي لا بد لكم منه { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } [إبراهيم : 9] من كلام موسى لقومه أو ابتداء خطاب لأهل عصر محمد عليه السلام { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ } [إبراهيم : 9] جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً أو عطف الذين من بعدهم على قوم نوح ولا يعلمهم إلا الله اعتراض والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أباً لا يعرفون.
وروى أنه عليه السلام قال عند نزول الآية كذب النسابون { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ } [غافر : 83] بالمعجزات { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } [إبراهيم : 9] الضميران يعودان إلى الكفرة أي أخذوا أناملهم بأسنانهم تعجباً أو عضوا عليها تغيظاً أو الثاني يعود إلى الأنبياء أي رد القوم أيديهم في أفواه الرسل كيلا يتكلموا بما أرسلوا به
جزء : 2 رقم الصفحة : 367
(2/213)
{ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ } [إبراهيم : 9] من الإيمان بالله والتوحيد { مُرِيبٍ } موقع في الريبة { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ } [إبراهيم : 10] أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وهو جواب قولهم وإنا لفي شك { فَاطِرِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَدْعُوكُمْ } إِلَى الإيمان { لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } [إبراهيم : 10] إِذا آمنتم ولم تجيء مع من إلا في خطاب الكافرين كقوله : { وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } { طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَـاقَوْمَنَآ أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن } وقال في خطاب المؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ } [الصف : 10] إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [الصف : 12] وغير ذلك مما يعرف بالاستقراء وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] إلى وقت قد سماه وبين مقداره { قَالُوا } أي القوم { إِنْ أَنتُمْ } [إبراهيم : 10] ما أنتم { إِلا بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [إبراهيم : 10] لا فضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا } [إبراهيم : 10] يعني الأصنام { فَأْتُونَا بِسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [إبراهيم : 10] بحجة بينة وقد جاءتهم رسلهم بالبينات وإنما أرادوا بالسلطان المبين آية قد اقترحوها تعنتاً ولجاجا
جزء : 2 رقم الصفحة : 367
{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [إبراهيم : 11] تسليم قولهم إنهم بشر مثلهم { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم : 11] بالإيمان والنبوة كما منّ علينا { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَـانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [إبراهيم : 11] جواب لقولهم : فأتونا بسلطان مبين والمعنى أن الإتيان بالآية التي قد اقترحتموها ليس إلينا ولا في استطاعتنا وإنما هو أمر يتعلق بمشيئة الله تعالى { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 122] أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصداً أولياً كأنهم قالوا ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وإيذائكم ألا ترى إلى قوله : { وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ } [إبراهيم : 12] معناه وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه { وَقَدْ هَدَاـانَا سُبُلَنَا } [إبراهيم : 12] وقد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل منا سبيله الذي يجب عليه سلوكه في الدين قال أبو تراب : التوكل طرح البدن في العبودية وتعلق القلب بالربوبية والشكر عند العطاء والصبر عند البلاء { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا } [إبراهيم : 12] جواب قسم مضمر أي حلفوا على الصبر على أذاهم وأن لا يمسكوا عن دعائهم { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } [إبراهيم : 12] أي فليثبت المتوكلون على
369
توكلهم حتى لا يكون تكرارا
جزء : 2 رقم الصفحة : 369
(2/214)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ } [إبراهيم : 13] سبْلنا لرسْلهم أبو عمرو { لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ } [إبراهيم : 13] من ديارنا { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا } [إبراهيم : 13] أي ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم وحلفوا على ذلك والعود بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب أو خاطبوا به كل رسول ومن آمن معه فغلبوا في الخطاب الجماعة على الواحد { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّـالِمِينَ } [إبراهيم : 13] القول مضمر أو أجرى الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه { وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الارْضَ مِن بَعْدِهِمْ } [إبراهيم : 14] أي أرض الظالمين وديارهم.
في الحديث : " من آذى جاره ورثه الله داره " { ذَالِكَ } الإهلاك والإسكان أي ذلك الأمر حق { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } [إبراهيم : 14] موقفي وهو موقف الحساب أو المقام مقحم أو خاف قيامي عليه بالعلم كقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآ ـاِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد : 33] والمعنى أن ذلك حق للمتقين { وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم : 14] عذابي وبالياء يعقوب { وَاسْتَفْتَحُوا } واستنصروا الله على أعدائهم وهو معطوف على أوحى إليهم { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ } [إبراهيم : 15] وخسر كل متكبر بطر { عَنِيدٍ } مجانب للحق.
معناه فنصروا وظفروا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم وقيل الضمير للكفار ومعناه واستفتح الكفار على الرسل ظناً منهم بأنهم على الحق والرسل على الباطل وخاب كل جبار عنيد منهم ولم يفلح باستفتاحه { مِّن وَرَآ ـاِهِ } [إبراهيم : 16] من بين يديه { جَهَنَّمَ } وهذا وصف حاله وهو في الدنيا لأنه مرصد لجهنم فكأنها بين يديه وهو على شفيرها أو وصف حاله في الآخرة حيث يبعث ويوقف { وَيُسْقَى } معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى ويسقى { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [إبراهيم : 16] ما يسيل من جلود أهل النار ، وصديد عطف بيان
370
لماء لأنه مبهم فبين بقوله صديد
جزء : 2 رقم الصفحة : 370
{ يَتَجَرَّعُهُ } يشربه جرعة جرعة { وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ } [إبراهيم : 17] ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة كقوله : لم يكد يراها أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } [إبراهيم : 17] أي أسباب الموت من كل جهة أو من كل مكان من جسده وهذا تفظيع لما يصيبه من الآلام أي لو كان ثمة موت لكان كل واحد منها مهلكاً { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم : 17] لأنه لو مات لاستراح { وَمِن وَرَآ ـاِهِ } [إبراهيم : 17] ومن بين يديه { عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود : 58] أي في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله وأغلظ وعن الفضيل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد { مَثَلُ الَّذِينَ } [العنكبوت : 41] مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليكم مثل الذين { كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ } [إبراهيم : 18] والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وقوله { أَعْمَـالُهُمْ كَرَمَادٍ } [إبراهيم : 18] جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول : كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد { اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } [إبراهيم : 18] الرياح مدني { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [إبراهيم : 18] جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح كقولك : يوم ماطر ، وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسرى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهها في حبوطها لبنائها على غير أساس وهو الإيمان بالله تعالى برماد طيرته الريح العاصف { لا يَقْدِرُونَ } [البقرة : 264] يوم القيامة { مِمَّا كَسَبُوا } [إبراهيم : 18] من أعمالهم { عَلَى شَىْءٍ } [المجادلة : 18] أي لا يرون له أثراً من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير في الريح على شيء { ذالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ } [إبراهيم : 18] إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] ألم تعلم الخطاب لكل أحد { أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [إبراهيم : 19] خالق مضافاً حمزة وعلي { بِالْحَقِّ } بالحكمة والأمر العظيم ولم يخلقها عبثاً { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } [إبراهيم : 19] أي هو قادر على أن يعدم الناس ويخلق
371
مكانهم خلقاً آخر على شكلهم أو على خلاف شكلهم إعلاماً بأنه قادر على إعدام الموجود وإيجاد المعدوم
(2/215)
جزء : 2 رقم الصفحة : 371
{ وَمَا ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم : 20] بمتعذر { وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا } [إبراهيم : 21] ويبرزون يوم القيامة وإنما جيء به بلفظ الماضي لأن ما أخبر به عز وجل لصدقه كأنه قد كان ووجد.
ونحوه { وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 44] ، { وَنَادَى أَصْحَـابُ النَّارِ } [الأعراف : 50] ، وغير ذلك ، ومعنى بروزهم لله والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز لهم أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم وعلموا أن الله لا تخفى عليه خافية أو خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه { فَقَالَ الضُّعَفَـاؤُا } [إبراهيم : 21] في الرأي وهم السفلة والأتباع وكتب بواو قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } [إبراهيم : 21] وهم السادة والرؤساء الذين استغووهم وصدوهم عن الاستماع إلى الأنبياء وأتباعهم { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } [إبراهيم : 21] تابعين.
جمع تابع على تبع كخادم وخدم وغائب وغيب أو ذوي تبع والتبع الأتباع يقال : تبعه تبعاً { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ } [إبراهيم : 21] فهل تقدرون على دفع شيء مما نحن فيه ومن الأولى للتبيين والثانية للتبعيض كأنه قيل فهل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله أو هما للتبعيض أي فهل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله ولما كان قول الضعفاء توبيخاً لهم وعتاباً على استغوائهم لأنهم علموا أنهم لا يقدرون على الإغناء عنهم { قَالُوا } لهم مجيبين معتذرين { لَوْ هَدَاـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَـاكُمْ } [إبراهيم : 21] أي لو هدانا الله إلى الإيمان في الدنيا لهديناكم إليه أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة كما سلكنا بكم طريق الهلكة { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } [إبراهيم : 21] مستويان
372
علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية روى أنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر ثم يقولون سواء علينا أجزعنا أم صبرنا واتصاله بما قبله من حيث إن عتابهم لهم كان جزعاً مما هم فيه فقالوا لهم : سواء علينا أجزعنا أم صبرنا يريدون أنفسهم وإياهم لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها يقولون : ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [إبراهيم : 21] منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا ويجوز أن يكون هذا من كلام الضعفاء والمستكبرين جميعاً
جزء : 2 رقم الصفحة : 372
{ وَقَالَ الشَّيْطَـانُ لَمَّا قُضِىَ الامْرُ } [إبراهيم : 22] حكم بالجنة والنار لأهليهما وفرغ من الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، وروى أن الشيطان يقوم عند ذلك خطيباً على منبر من نار فيقول لأهل النار { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } [إبراهيم : 22] وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { وَوَعَدتُّكُمْ } بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء { فَأَخْلَفْتُكُمْ } كذبتكم { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَـانٍ } [إبراهيم : 22] من تسلط واقتدار { إِلا أَن دَعَوْتُكُمْ } [إبراهيم : 22] لكني دعوتكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني والاستثناء منقطع لأن الدعاء ليس من جنس السلطان { فَاسْتَجَبْتُمْ لِى } [إبراهيم : 22] فأسرعتم إجابتي { فَلا تَلُومُونِى } [إبراهيم : 22] لأن من تجرد للعداوة لا يلام إذا دعا إلى أمر قبيح مع أن الرحمن قد قال لكم : { لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 27] { وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ } [إبراهيم : 22] حيث اتبعتموني بلا حجة ولا برهان وقول المعتزلة هذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلها لنفسه وليس من الله إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين باطل لقوله : لو هدانا الله أي إلى الإيمان لهديناكم كما مر { مَّآ أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُم بِمُصْرِخِىَّ } [إبراهيم : 22] لا
373
(2/216)
ينجي بعضنا بعضاً من عذاب الله ولا يغيثه والإصراخ الإغاثة بمصرخيِّ حمزة اتباعاً للخاء غيره بفتح الياء لئلا تجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين وهو جمع مصرخ فالياء الأولى يا الجمع والثانية ضمير المتكلم
جزء : 2 رقم الصفحة : 373
{ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } [إبراهيم : 22] وبالياء بصري وما مصدرية { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] متعلق بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي مع الله من قبل هذا اليوم أي في الدنيا كقوله ويوم القيامة يكفرون بشرككم ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له كقوله : { إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أو من قبل متعلق بكفرت وما موصولة أي كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل تقول : أشركني فلان أي جعلني له شريكاً ومعنى إشراكهم الشيطان بالله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وهذا آخر قول الشيطان وقوله : { إِنَّ الظَّـالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم : 22] قول الله عز وجل وقيل هو من تمام إبليس وإنما حكى الله عز وجل ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون لطفاً للسامعين
جزء : 2 رقم الصفحة : 373
{ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا } [إبراهيم : 23] عطف على برزوا { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [إبراهيم : 23] متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } [إبراهيم : 23] هو تسليم بعضهم على بعض في الجنة أو تسليم الملائكة عليهم { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا } [إبراهيم : 24] أي وصفه وبينه { كَلِمَةً طَيِّبَةً } [إبراهيم : 24] نصب بمضمر أي جعل كلمة طيبة { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } [إبراهيم : 24] وهو تفسر لقوله : ضرب الله مثلاً نحو شرف الأمي زيداً كساه حلة وحمله على فرس أو انتصب مثلاً وكلمة بضرب أي ضرب كلمة طيبة مثلاً يعني جعلها مثلاً ثم قال كشجرة طيبة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة طيبة { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } [إبراهيم : 24] أي في الأرض ضارب بعروقه فيها { وَفَرْعُهَا } وأعلاها ورأسها { فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] والكلمة الطيبة كلمة التوحيد
374
أصلها تصديق بالجنان وفرعها إقرار باللسان وأكلها عمل الأركان وكما أن الشجرة شجرة وإن لم تكن حاملاً فالمؤمن مؤمن وإن لم يكن عاملاً ولكن الأشجار لا تراد إلا للثمار فما أقوات النار إلا من الأشجار إذا اعتادت الإخفار في عهد الأثمار والشجرة كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين ونحو ذلك والجمهور على أنها النخلة فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات يوم : " إن الله تعالى ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبياً فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أقولها وأنا أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : " ألا إنها النخلة " فقال عمر : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إلي من حمر النعم
جزء : 2 رقم الصفحة : 374
(2/217)
{ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِين } [إبراهيم : 25] تعطي ثمرها كل وقت وقتها الله لإثمارها { بِإِذْنِ رَبِّهَا } [إبراهيم : 25] بتيسير خالقها وتكوينه { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [إبراهيم : 25] لأن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } [إبراهيم : 26] هي كلمة الكفر { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } [إبراهيم : 26] هي كل شجرة لا يطيب ثمرها وفي الحديث : أنها شجرة الحنظل { اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الارْضِ } [إبراهيم : 26] استؤصلت جثتها وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة كلها وهو في مقابلة أصلها ثابت { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } [إبراهيم : 26] أي استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثبوتاً شبه بها القول الذي لا يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [إبراهيم : 27] أي يديمهم عليه { بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } [إبراهيم : 27] هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } [العنكبوت : 25] حتى إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود وغير ذلك { وَفِي الاخِرَةِ } [الأعراف : 156] الجمهور على
375
أن المراد به في القبر بتلقين الجواب وتمكين الصواب فعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال : " ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلّم فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ثم يقول الملكان عشت سعيداً ومت حميداً نم نومة العروس " { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّـالِمِينَ } [إبراهيم : 27] فلا يثبتهم على القول الثابت في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل { وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [إبراهيم : 27] فلا اعتراض عليه في تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين
جزء : 2 رقم الصفحة : 375
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ } [إبراهيم : 28] أي شكر نعمة الله { كُفْرًا } لأن شكرها الذي
وجب عليهم وضعوا مكانه كفراً فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً وهم أهل مكة أكرمهم بمحمد عليه السلام فكفروا نعمة الله وجعل ما لزمهم من الشكر { وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ } [إبراهيم : 28] الذين تابعوهم على الكفر { دَارَ الْبَوَارِ } [إبراهيم : 28] دار الهلاك { جَهَنَّمَ } عطف بيان { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم : 29] وبئس المقر جهنم { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } [إبراهيم : 30] أمثالا في العبادة أو في التسمية { لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ } [إبراهيم : 30] وبفتح الياء مكي وأبو عمرو { قُلْ تَمَتَّعُوا } [إبراهيم : 30] في الدنيا والمراد به الخذلان والتخلية وقال ذو النون : التمتع أن يقضي العبد ما استطاع من شهوته { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [إبراهيم : 30] مرجعكم إليها { قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [إبراهيم : 31] خصهم بالإضافة إليه تشريفاً
376
{ يُقِيمُوا الصَّلَـاوةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ } [إبراهيم : 31] المقول محذوف لأن قل تقتضي مقولاً وهو أقيموا وتقديره قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا وقيل إنه أمر وهو المقول والتقدير ليقيموا ولينفقوا فحذف اللام لدلالة قل عليه ولو قيل يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام لم يجز { سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة : 274] انتصبا على الحال أي ذوي سر وعلانية يعني مسرين ومعلنين أو على الظرف أي وقتي سر وعلانية أو على المصدر أي إنفاق سر وإنفاق علانية والمعنى إخفاء التطوع وإعلان الواجب { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلَـالٌ } [إبراهيم : 31] أي لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة والخلال المخالة وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله.
بفتحهما مكي وبصري والباقون بالرفع والتنوين
جزء : 2 رقم الصفحة : 376
(2/218)
{ اللَّهِ } مبتدأ { الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [الأنعام : 73] خبره { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [البقرة : 22] من السحاب مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ } [البقرة : 22] من الثمرات بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات أو من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول { دَآ ـاِبَيْنِ } دائمين وهو حال من الشمس والقمر أي يدأبان في سيرهما وإنارتهما ودرئهما الظلمات وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [إبراهيم : 33] يتعاقبان خلفة لمعاشكم وسباتكم { وَءَاتَـاـاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم : 34] من للتبعيض أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه أو وآتاكم من كل شيء سألتموه وما لم تسألوه فما موصولة والجملة صفة لها وحذفت الجملة الثانية لأن الباقي يدل على المحذوف كقوله سرابيل تقيكم الحر.
من كلٍّ عن أبي عمرو وما سألتموه نفي ومحله النصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه أو ما موصولة أي وآتاكم من كل ذلك ما
377
احتجتم إليه فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } [إبراهيم : 34] لا تطيقوا عدها وبلوغ آخرها هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال وأما التفصيل فلا يعلمه إلا الله { إِنَّ الانسَـانَ لَظَلُومٌ } [إبراهيم : 34] بظلم النعمة بإغفال شكرها { كَفَّارٌ } شديد الكفران لها أو ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والإنسان للجنس فيتناول الإخبار بالظلم والكفران من يوجدان منه
جزء : 2 رقم الصفحة : 377
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِ مُ } [البقرة : 126] واذكر إذ قال إبراهيم { رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ } [إبراهيم : 35] أي البلد الحرام { مِنْ } ذا أمن والفرق بين هذه وبين ما في البقرة أنه قد سأل فيها أن يجعله من جملة البلدان التي يأمن أهلها وفي الثاني أن يخرجه من صفة الخوف إلى الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً { وَاجْنُبْنِى } وبعدني أي ثبتني وأدمني على اجتناب عبادتها كما قال واجعلنا مسلمين لك أي ثبتنا على الإسلام { وَبَنِىَّ } أراد بنيه من صلبه { أَن نَّعْبُدَ الاصْنَامَ } [إبراهيم : 35] من أن نعبد الأصنام { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ } [إبراهيم : 36] جعلن مضلات على طريق التسبيب لأن الناس ضلوا بسببهن فكأنهم أضللنهم { فَمَن تَبِعَنِى } [إبراهيم : 36] على ملتي وكان حنيفاً مسلماً مثلي { فَإِنَّهُ مِنِّى } [البقرة : 249] أي هو بعضي لفرط اختصاصه بي { وَمَنْ عَصَانِى } [إبراهيم : 36] فيما دون الشرك { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم : 36] أو ومن عصاني عصيان شرك فإنك غفور رحيم إن تاب وآمن { رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى } [إبراهيم : 37] بعض أولادي وهم إسمعيل ومن ولد منه { بِوَادٍ } هو واد مكة { غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } [إبراهيم : 37] لا يكون فيه شيء من زرع قط { عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 378
إبراهيم : 37] هو بيت الله سمي به لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه أولأنه لم يزل ممنعاً يهابه كل جبار أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكها أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه { رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ } [إبراهيم : 37] اللام متعلقة بأسكنت أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع إلا
378
(2/219)
ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك { فَاجْعَلْ أَفْـاِدَةً مَّنَ النَّاسِ } [إبراهيم : 37] أفئدة من أفئدة الناس ومن للتبعيض لما روى عن مجاهد لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم والترك والهند أو للابتداء كقولك : القلب مني سقيم تريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس ونكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } [إبراهيم : 37] تسرع إليهم من البلاد الشاسعة وتطير نحوهم شوقاً { وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ } [إبراهيم : 37] مع سكناهم وادياً ما فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد الشاسعة { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم : 37] النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات في واد ليس فيه شجر ولا ماء
جزء : 2 رقم الصفحة : 378
{ رَبَّنَآ } النداء المكرر دليل التضرع واللجإ إلى الله { إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } [إبراهيم : 38] تعلم السر كما تعلم العلن { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ } [إبراهيم : 38] من كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام أو من كلام إبراهيم ومن للاستغراق كأنه قيل وما يخفى على الله شيء ما { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ } [إبراهيم : 39] على بمعنى مع وهو في موضع الحال أي وهب لي وأنا كبير { إِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } [إبراهيم : 39] روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة وروى أنه ولد له إسمعيل لأربع وستين وإسحاق لتسعين وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم لأنها حال وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم { إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ } [إبراهيم : 39] مجيب الدعاء من قولك سمع الملك كلام فلان إذا تلقاه بالإجابة والقبول ومنه سمع الله لمن حمده وكان قد دعا ربه وسأله الولد فقال : { رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ } [الصافات : 100] فشكر الله له ما أكرمه به من إجابته وإضافة السميع إلى الدعاء من إضافة الصفة إلى مفعولها وأصله لسميع الدعاء وقد ذكر سيبويه فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل كقولك هذا رحيم أباه
379
جزء : 2 رقم الصفحة : 379
(2/220)
{ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَواةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى } [إبراهيم : 40] وبعض ذريتي عطفاً على المنصوب في اجعلني وإنما بعض لأنه علم بأعلام الله أنه يكون في ذريته كفار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يزال من ولد إبراهيم ناس على الفطرة إلى أن تقوم الساعة { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } [إبراهيم : 40] بالياء في الوصل والوقف مكي ، وافقه أبو عمرو وحمزة في الوصل الباقون بلا ياء أي استجب دعائي أو عبادتي وأعتزلكم وما تدعون من دون الله { رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ } [إبراهيم : 41] أي آدم وحواء أو قاله قبل النهي واليأس عن إيمان أبويه { وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [إبراهيم : 41] أي يثبت أو أسند إلى الحساب قيام أهله إسناداً مجازياً مثل واسأل القرية { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَ } [إبراهيم : 42] تسلية للمظلوم وتهديد للظالم والخطاب لغير الرسول عليه السلام وإن كان للرسول فالمراد تثبيته عليه السلام على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 14] ، { وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [القصص : 88] وكما جاء في الأمر { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } وقيل المراد به الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون لا يخفى عليه منه شيء وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [البقرة : 283] { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } [إبراهيم : 42] أي عقوبتهم { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ } [إبراهيم : 42] أي أبصارهم لا تقر في أماكنها من هول ما ترى { مُهْطِعِينَ } مسرعين إلى الداعي { مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ } رافعيها { لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [إبراهيم : 43] لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وَأَفْـاِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } [إبراهيم : 43] صفر من الخير لا تعي شيئاً من الخوف والهواء الذي لم تشغله الأجرام فوصف به
380
فقيل : قلب فلان هوا إذا كان جباناً لا قوة في قلبه ولا جراءة وقيل : جُوف لا عقول لهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 380
{ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } [إبراهيم : 44] أي يوم القيامة ويوم مفعول ثان لأنذر لا ظرف إذ الإنذار لا يكون في ذلك اليوم { فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [إبراهيم : 44] أي الكفار { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } [إبراهيم : 44] أي ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد وحدّ من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك فيقال لهم : { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } [إبراهيم : 44] أي حلفتم في الدنيا أنكم إذا متم لا تزالون عن تلك الحالة ولا تنتقلون إلى دار أخرى يعني كفرتم بالبعث كقوله : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } [النحل : 38] وما لكم جواب القسم وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله : أقسمتم ولو حكى لفظ المقسمين لقيل ما لنا من زوال أو أريد باليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى فإنهم يسألون يومئذ أن يؤخرهم ربهم إلى أجل قريب.
يقال : سكن الدار وسكن فيها ومنه { وَسَكَنتُمْ فِى مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [إبراهيم : 45] بالكفر لأن السكنى من السكون وهو اللبث والأصل تعديته بفي نحو قر في الدار وأقام فيها ولكنه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه فقيل : سكن الدار كما قيل تبوأها ويجوز أن يكون سكنوا من السكون أي قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثونها بما لقي الأولون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم فيعتبروا ويرتدعوا { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ } [إبراهيم : 45] بالأخبار أو المشاهدة وفاعل تبين مضمر دل عليه الكلام أي تبين لكم حالهم و
جزء : 2 رقم الصفحة : 381
{ كَيْفَ } ليس بفاعل لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما
381
(2/221)
قبله وإنما نصب كيف بقوله { فَعَلْنَا بِهِمْ } [إبراهيم : 45] أي أهلكناهم وانتقمنا منهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ } [إبراهيم : 45] أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ } [إبراهيم : 46] أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم وهو ما فعلوه من تأييد الكفر وبطلان الإسلام { وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ } [إبراهيم : 46] وهو مضاف إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه أو إلى المفعول أي عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [إبراهيم : 46] بكسر اللام الأولى ونصب الثانية والتقدير وإن وقع مكرهم لزوال أمر النبي صلى الله عليه وسلّم فعبر عن النبي عليه السلام بالجبال لعظم شأنه وكان تامة وإن نافية واللام مؤكدة لها كقوله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ } [الانفال : 33] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتاً وتمكناً دليله قراءة ابن مسعود وما كان مكرهم وبفتح اللام الأولى ورفع الثانية عليُّ ، أي وإن كان مكرهم من الشدة بحيث تزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها فإن مخففة من إن واللام مؤكدة { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُا } [إبراهيم : 47] يعني قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر : 51] { كَتَبَ اللَّهُ لاغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى } [المجادلة : 21].
مخلف مفعول ثاني لتحسبن وأضاف مخلف إلى وعده وهو المفعول الثاني له والأول رسله والتقدير مخلف رسله وعده وإنما قدم المفعول الثاني على الأول ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله : إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رسله ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته { أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] غالب لا يماكر
جزء : 2 رقم الصفحة : 381
{ ذُو انتِقَامٍ } [آل عمران : 4] لأوليائه من أعدائه وانتصاب { يَوْمَ تُبَدَّلُ الارْضُ غَيْرَ الارْضِ وَالسَّمَـاوَاتُ } [إبراهيم : 48] على الظرف للانتقام أو على إضمار اذكر والمعنى يوم تبدل هذه الأرض التي تعرفونها أرضاً أخرى غير
382
هذه المعروفة وتبدل السماوات غير السماوات وإنما حذف لدلالة ما قبله عليه والتبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك بدلت الدراهم دنانير وفي الأوصاف كقولك بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض وإنما تغير.
وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً وقيل تخلق بدلها أرض وسماوات أخر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة وعن علي رضي الله عنه : تبدل أرضاً من فضة وسماوات من ذهب { وَبَرَزُوا } وخرجوا من قبورهم { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم : 48] هو كقوله : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 16] لأن الملك إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره كان الأمر في غاية الشدة
جزء : 2 رقم الصفحة : 381
(2/222)
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ } [إبراهيم : 49] الكافرين { يَوْمَـاـاِذٍ } يوم القيامة { مُقْرِنِينَ } قرن بعضهم مع بعض أو مع الشياطين أو قرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين { فِى الاصْفَادِ } [إبراهيم : 49] متعلق بمقرنين أي يقرنون في الأصفاد أو غير متعلق به والمعنى مقرنين مصفدين ، والأصفاد القيود أو الأغلال { سَرَابِيلُهُم } قمصهم { مِّن قَطِرَانٍ } [إبراهيم : 50] هو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فيهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحدته وحره ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين وكل ما وعده الله أو أوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة نعوذ بالله من سخطه
383
وعذابه من " قِطرٍ آن " زيد عن يعقوب نحاس مذاب بلغ حره إناه { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم : 50] تعلوها باشتعالها وخص الوجه لأنه أعز موضع في ظاهر البدن كالقلب في باطنه ولذا قال تطلع على الأفئدة
جزء : 2 رقم الصفحة : 383
{ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [إبراهيم : 51] أي يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كل نفس مجرمة ما كسبت أو كل نفس من مجرمة أو مطيعة لأنه إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المؤمنين بطاعتهم { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 199] يحاسب جميع العباد في أسرع من لمح البصر { هَـاذَآ } أي ما وصفه في قوله : ولا تحسبن إلى قوله : سريع الحساب { بَلَـاغٌ لِّلنَّاسِ } [إبراهيم : 52] كفاية في التذكير والموعظة { وَلِيُنذَرُوا بِهِ } [إبراهيم : 52] بهذا البلاغ وهو معطوف على محذوف أي لينصحوا ولينذروا { وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [إبراهيم : 52] لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى النظر حتى يتوصلوا إلى التوحيد لأن الخشية أم الخير كله { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الالْبَـابِ } [إبراهيم : 52] ذوو العقول.
384
سورة الحجر
تسع وتسعون آية مكية
{ الرَ تِلْكَ ءَايَـاتُ الْكِتَـابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ } [يونس : 1] تلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب والقرآن المبين السورة وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتاباً وأي قرآن مبين كأنه قيل الكتاب الجامع للكمال وللغرابة في البيان { رُّبَمَا } بالتخفيف مدني وعاصم وبالتشديد غيرهما وما هي الكافة لأنها حرف يجر ما بعده ويختص الاسم النكرة فإذا كفت وقع بعدها الفعل الماضي والاسم وإنما جاز { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الحجر : 2] لأن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود ووداتهم تكون عند النزع أو يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ، وإذا رأوا المسلمين يخرجون من النار فيتمنى الكافر لو كان مسلماً كذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما { لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } [الحجر : 2] حكاية ودادتهم وإنما جيء بها على لفظ الغيبة لأنهم مخبر عنهم كقولك : حلف بالله ليفعلن ولو قيل : حلف يالله لأفعلن ولو كنا مسلمين لكان حسناً وإنما قلل برب لأن أهوال القيامة تشغلهم عن التمني فإذا أفاقوا من سكرات العذاب ودوا لو كانوا مسلمين وقول من قال : إن رب يعني بها الكثرة سهو لأنه ضد ما يعرفه
385
أهل اللغة لأنها وضعت للتقليل
جزء : 2 رقم الصفحة : 385(2/223)
{ ذَرْهُمْ } أمر إهانة أي اقطع طمعك من ارعوائهم ودعهم عن النهي عما هم عليه والصد عنه بالتذكرة والنصيحة وخلهم { يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا } [الحجر : 3] بدنياهم { وَيُلْهِهِمُ الامَلُ } [الحجر : 3] ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن الإيمان { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3] سوء صنيعهم وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [الحجر : 4] ولها كتاب جملة واقعة صفة لقرية والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنذِرُونَ } [الشعراء : 208] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف إذ الصفة ملتصقة بالموصوف بلا واو فجيء بالواو تأكيداً لذلك والوجه أن تكون هذه الجملة حالاً لقرية لكونها في حكم الموصوفة كأنه قيل : وما أهلكنا قرية من القرى لا وصفاً وقوله : كتاب معلوم أي مكتوب معلوم وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ وبين ألا ترى إلى قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } [الحجر : 5] في موضع كتابها { وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ } أي عنه وحذف لأنه معلوم وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً حملاً على اللفظ والمعنى { وَقَالُوا } أي الكفار { يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } [الحجر : 6] أي القرآن { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر : 6] يعنون محمداً عليه السلام وكان هذا النداء منهم على وجه الاستهزاء كما قال فرعون { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [الشعراء : 27] وكيف يقرون بنزول الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم سائغ ومنه { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران : 21].
{ إِنَّكَ لانتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [هود : 87] والمعنى إنك لتقول قول المجانين حيث تدعى أن الله نزل عليك الذكر
386
جزء : 2 رقم الصفحة : 386
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَـائكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الحجر : 7] لو ركبت مع لا وما لامتناع الشيء لوجود غيره أو للتحضيض وهل ركبت مع لا للتحضيض فحسب والمعنى هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك أو هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا لك إن كنت صادقاً { مَا نُنَزِّلُ الْمَلَـائكَةَ } [الحجر : 8] كوفي غير أبي ، تُنَزَّل الملائكة أبو بكر تَنَزَّل الملائكة أي تتنزل غيرهم { إِلا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] إلا تنزيلاً ملتبساً بالحكمة { وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ } [الحجر : 8] إذا جواب لهم وجزاء الشرط مقدر تقديره ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين إذا وما أخر عذابهم { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } [الحجر : 9] القرآن { وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [يوسف : 12] وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم : يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك قال : إنا نحن فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع وأنه هو الذي نزله محفوظاً من الشياطين وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغياً فوقع التحريف ولم يكل القرآن إلى غير حفظه وقد جعل قوله : وإنا له لحافظون دليلاً على أنه منزل من عنده آية إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه أو الضمير في له لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ } [المائدة : 67] { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاوَّلِينَ } [الحجر : 10] أي ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً في الفرق الأولين ، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة { وَمَا يَأْتِيهِم } [الشعراء : 5] حكاية حالة ماضية لأن ما لا تدخل على المضارع إلا وهو في معنى الحال وعلى ماض إلا وهو قريب من الحال { مِّن رَّسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } يعزي نبيه عليه السلام
387
جزء : 2 رقم الصفحة : 387
(2/224)
{ كَذَالِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } أي كما سلكنا الكفر أو الاستهزاء في شيع الأولين نسلكه أي الكفر أو الاستهزاء في قلوب المجرمين من أمتك من اختار ذلك يقال : سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وهو حجة على المعتزلة في الأصلح وخلق الأفعال { لا يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الشعراء : 201] بالله أو بالذكر وهو حال { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ } [الحجر : 13] مضت طريقتهم التي سنها الله في إهلاكهم حين كذبوا رسله وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَآءِ } [الحجر : 14] ولو أظهرنا لهم أوضح آية وهو فتح باب من السماء { فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ } [الحجر : 14] يصعدون { لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَـارُنَا } [الحجر : 15] حيرت أو حبست من الإبصار أو من السكر ، سكِرت مكي أي حبست كما يحبس النهر من الجري والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ورأوا من العيان ما رأوا لقالوا هو شيء نتخايله لا حقيقة له ولقالوا { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر : 15] قد سحرنا محمد بذلك أو الضمير للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا ذلك وذكر الظلول ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون وقال : إنما ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَآءِ } [الحجر : 16] خلقنا فيها { بُرُوجًا } نجوماً أو قصوراً فيها الحرس أو منازل للنجوم { وَزَيَّنَّـاهَا } أي السماء { لِلنَّـاظِرِينَ * وَحَفِظْنَـاهَا } أي السماء { مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر : 17] ملعون أو مرمي بالنجوم { إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } [الحجر : 18] أي المسموع ومن في محل النص على الاستثناء { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } [الصافات : 10] نجم ينقض فيعود { مُّبِينٍ } ظاهر للمبصرين قيل كانوا لا
388
يحجبون عن السماوات كلها فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلّم منعوا من السماوات كلها
جزء : 2 رقم الصفحة : 388
(2/225)
{ وَالارْضَ مَدَدْنَاهَا } [ق : 7] بسطناها من تحت الكعبة ، والجمهور على أنه تعالى مدها على وجه الماء { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } [الحجر : 19] في الأرض جبالاً ثوابت { وَأَنابَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ } [الحجر : 19] وزن بميزان الحكمة وقدر بمقدار تقتضيه لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان أوله وزن وقدر في أبواب المنفعة والنعمة أو ما يوزن كالزعفران والذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها وخص ما يوزن لانتهاء الكيل إلى الوزن { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا } [الأعراف : 10] في الأرض { مَعَايِشَ } ما يعاش به من المطاعم جمع معيشة وهي بياء صريحة بخلاف الخبائث ونحوها فإن تصريح الياء فيها خطأ { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [الحجر : 20] من في محل النصب بالعطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين أو جعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين يظنون أنهم يرزقونهم ويخطئون فإن الله هو الرزاق يرزقهم وإياهم ويدخل فيه الأنعام والدواب ونحو ذلك ولا يجوز أن يكون محل من جرا بالعطف على الضمير المجرور في لكم لأنه لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا عِندَنَا خَزَآ ـاِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُا إِلا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر : 21] ذكر الخزائن تمثيل والمعنى وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به وما نعطيه إلا بمقدار معلوم فضرب الخزائن مثلاً لاقتدار على كل مقدور { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر : 22] جمع لاقحة أي وأرسلنا الرياح حوامل بالسحاب لأنها تحمل السحاب في جوفها كأنها لاقحة بها من لقحت الناقة حملت وضدها العقيم.
الريح حمزة { فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } [الحجر : 22] فجعلناه لكم سقياً { وَمَآ أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } [الحجر : 22] نفى عنهم ما أبته لنفسه في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه كأنه قال : نحن الخازنون للماء على معنى نحن القادرون على خلقه في
389
السماء وإنزاله منها وما أنتم عليه بقادرين دلالة عظيمة على قدرته وعجزهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 389
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ } [الحجر : 23] أي نحيي بالإيجاد ونميت بالإفناء أو نميت عند انقضاء الآجال ونحيي لجزاء الأعمال على التقديم والتأخير إذ الواو للجمع المطلق { وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } [الحجر : 23] الباقون بعد هلاك الخلق كلهم وقيل للباقي وارث استعارة من وارث الميت لأنه يبقى بعد فنائه { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَاْخِرِينَ } [الحجر : 24] من تقدم ولادة وموتاً ومن تأخر أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد أو من تقدم في الإسلام أو في الطاعة أو في صف الجماعة أو في صف الحرب ومن تأخر { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } [الحجر : 25] أي هو وحده يقدر على حشرهم ويحيط بحصرهم { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام : 139] باهر الحكمة واسع العلم { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَانَ } [المؤمنون : 12] أي آدم { مِن صَلْصَالٍ } [الرحمن : 14] طين يابس غير مطبوخ { مِّنْ حَمَإٍ } [الحجر : 26] صفة لصلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ أي طين أسود متغير { مَّسْنُونٍ } مصور(2/226)
وفي الأول كان تراباً فعجن بالماء فصار طيناً فمكث فصار حمأ فخلص فصار سلالة فصوِّر ويبس فصار صلصالاً فلا تناقض { وَالْجَآنَّ } أبا الجن كآدم للناس أو هو إبليس وهو منصوب يفعل مضمر يفسره { خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } [الحجر : 27] من قبل آدم { مِن نَّارِ السَّمُومِ } [الحجر : 27] من نار الحر الشديد النافذ في المسام قيل هذه السموم جزء من سبعين جزأ من سموم النار التي خلق الله منها الجان { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } [الحجر : 28] واذكر وقت قوله { لِلْمَلَائكَةِ إِنِّى خَالِقُ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أتممت خلقته وهيأتها النفخ الروح فيها { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [الحجر : 29] وجعلت فيه الروح وأحييته وليس ثمة نفخ وإنما هو تمثيل والإضافة للتخصيص { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر : 29] هو أمر من وقع يقع أي اسقطوا على الأرض يعني
390
اسجدوا له ودخل الفاء لأنه جواب إذا وهو دليل على أنه يجوز تقدم الأمر عن وقت الفعل
جزء : 2 رقم الصفحة : 390
{ فَسَجَدَ الْمَلَائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [الحجر : 30] فالملائكة جمع عام محتمل للتخصيص فقطع باب التخصيص بقوله كلهم وذكر الكل احتمل تأويل التفرق فقطعه بقوله أجمعون { إِلا إِبْلِيسَ } [طه : 116] ظاهر الإستثناء يدل على أنه كان من الملائكة لأن المستثنى يكون من جنس المستثنى منه وعن الحسن أن الاستثناء منقطع ولم يكن هو من الملائكة قلنا غير المأمور لا يصير بالترك ملعوناً و في الكشاف كان بينهم مأمورا معهم بالسجود فغلب اسم الملائكة ثم استثنى بعد التغليب كقولك رأيتهم إلا هنداً { أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } [الحجر : 31] امتنع أن يكون معهم وأبى استئناف على تقدير قول قائل يقول هلا سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه وقيل معناه ولكن إبليس أبى { قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } حرف الجر مع أن محذوف تقديره مالك في أن لا تكون مع الساجدين أي أي غرض لك في إبائك السجود { قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ } [الحجر : 33] اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني أن أسجد { لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا } من السماء أو من الجنة أو من جملة الملائكة { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [الحجر : 34] مطرود من رحمة الله ومعناه ملعون لأن اللعنة هي الطرد من الرحمة والإبعاد منها { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } [الحجر : 35] ضرب يوم الدين حداً للعنة لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم والمراد به إنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه
391
جزء : 2 رقم الصفحة : 391(2/227)
{ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى } [الحجر : 36] فأخرني { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } يوم الدين ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم في معنى واحد ولكن خولف بين العبارات سلوكاً بالكلام طريقة البلاغة وقيل إنما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت لأنه لا يموت يوم البعث أحد فلم يجب إلى ذلك وانظر إلى آخر أيام التكليف { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } [الحجر : 39] الباء للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن لهم ومعنى أقسم بإغوائك إياي { لازَيِّنَنَّ لَهُمْ } [الحجر : 39] المعاصي ونحو قوله بما أغويتني لأزينن لهم.
{ فَبِعِزَّتِكَ لاغْوِيَنَّهُمْ } [ص : 82] في أنه إقسام إلا أن أحدهما إقسام بصفه الذات والثاني بصفة الفعل وقد فرق الفقهاء بينهما فقال العراقيون الحلف بصفة الذات كالقدرة والعظمة والعزة يمين والحلف بصفة الفعل كالرحمة والسخط ليس بيمين والأصح أن الأيمان مبنية على العرف فما تعارف الناس الحلف به يكون يميناً ومالاً فلا والآية حجة على المعتزلة في خلق الأفعال.
وحملهم على التسبيب عدول عن الظاهر { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في الدنيا التي هي دار الغرور وأراد إني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الارْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وبكسر اللام بصري ومكي وشامي استثنى المخلص لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلونه منه { قَالَ هَـاذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } [الحجر : 41] { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر : 42] أي هذا طريق حق عليّ أن أراعيه وهو أن لا يكون لك سلطان على عبادي إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته وقيل معنى على إلي.
عليٌّ يعقوب من علو الشرف والفضل
392
جزء : 2 رقم الصفحة : 392
{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر : 43] الضمير للغاوين { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ } [الحجر : 44] من أتباع إبليس { جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر : 44] نصيب معلوم مفرزقيل أبواب النار أطباقها وأدراكها فأعلاها للموحدين يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَعُيُونٍ } [الحجر : 45] وبضم العين مدني وبصري وحفص.
المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهى عنه وقال في الشرح إن دخل أهل الكبائر في قوله لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم فالمراد بالمتقين الذين اتقوا الكبائر وإلا فالمراد به الذين اتقوا الشرك { ادْخُلُوهَا } أي يقال لهم ادخلوها { بِسَلَـامٍ } حال أي سالمين أو مسلماً عليكم تسلم عليكم الملائكة { ءَامِنِينَ } من الخروج منهما والآفات فيها وهو حال أخرى { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [الأعراف : 43] وهو الحقد الكامن في القلب أي إن كان لأحدهم غل في الدنيا على آخر نزع الله ذلك في الجنة من قلوبهم وطيب نفوسهم وعن علي رضي الله عنه : أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم وقيل معناه طهر الله قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع منها كل غل وألقى فيها التوادد والتحابب { إِخْوَانًا } حال { عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ } [الحجر : 47] كذلك قيل تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين يرى بعضهم بعضاً { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } [الحجر : 48] في الجنة تعب { وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } [الحجر : 48] فتمام النعمة بالخلود ، ولما أتم ذكر الوعد والوعيد أتبعه
393
جزء : 2 رقم الصفحة : 393
(2/228)
{ نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الالِيمُ } تقريراً لما ذكر وتمكيناً له في النفوس قال عليه السلام : " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه في العبادة ولم أقدم على ذنب " وعطف { وَنَبِّئْهُمْ } وأخبر أمتك.
عطفه على نبىء عبادي ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم { عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [الحجر : 51] أي أضيافه وهو جبريل عليه السلام مع أحد عشر ملكاً والضيف يجىء واحداً وجمعاً لأنه مصدر ضافه { إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلـامًا } [الحجر : 52] أي نسلم عليك سلاماً أو سلمنا سلاماً { قَالَ } أي إبراهيم { إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ } [الحجر : 52] خائفون لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وبغير وقت { قَالُوا لا تَوْجَلْ } [الحجر : 53] لا تخف { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [مريم : 7] استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل أي إنك مبشر آمن فلا توجل.
وبالتخفيف وفتح النون حمزة { بِغُلَـامٍ عَلِيمٍ } [الحجر : 53] هو إسحاق لقوله في سورة هود فبشرناها بإسحاق { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ } [الحجر : 54] أي أبشرتموني مس الكبر بأن يولد لي أي إن الولادة أمر مستنكر عادة مع الكبر { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [الحجر : 54] هي ما الاستفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قيل فبأي أعجوبة تبشرون ، وبكسر النون والتشديد مكي والأصل تبشرونني فأدغم نون الجمع من نون العماد ثم حذفت الياء وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
تبشرون بالتخفيف نافع والأصل تبشرونني فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذف نون الجمع لاجتماع النونين ، والباقون بفتح النون وحذف المفعول والنون نون الجمع
394
جزء : 2 رقم الصفحة : 394
{ قَالُوا بَشَّرْنَـاكَ بِالْحَقِّ } [الحجر : 55] باليقين الذي لا لبس فيه { فَلا تَكُن مِّنَ الْقَـانِطِينَ } [الحجر : 55] من الآيسين من ذلك { قَالَ } أي إبراهيم { وَمَن يَقْنَطُ } [الحجر : 56] وبكسر النون بصري وعلى { مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّآلُّونَ } [الحجر : 56] إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون كقوله : { يَـابَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَا يـاَسُواْ مِن } [يوسف : 87] أي لم أستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } [الحجر : 57] فما شأنكم { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي قوم لوط { إِلا ءَالَ لُوطٍ } [الحجر : 59] يريد أهله المؤمنين والاستثناء منقطع لأن القوم موصوفون بالإجرام والمستثني ليس كذلك أو متصل فيكون استثناء من الضمير في مجرمين كأنه قيل إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم والمعنى يختلف باختلاف الاستثناثية لأن آل لوط مخرجون في منقطع من حكم الإرسال ويعنى أنهم ارسلوا إلى القوم المجرمين أصلاً ومعنى إرسالهم إلى القوم المجرمين خاصة ولم يرسلوا إلى آل لوط أصلا كإرسال السهم إلى المرمى في أنه في معنى التعذيب والإهلاك كأنه قيل إنا أهلكنا قوماً مجرمين ولكن آل لوط أنجيناهم وأما في المتصل فهم داخلون في حكم الإرسال يعني أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء وإذا انقطع الاستثناء جرى { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر : 59] مجرى خبر لكن في الاتصال بآل لوط لأن المعنى لكن آل لوط منجون وإذا اتصل كان كلاماً مستأنفاً كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم فما حال آل لوط فقالوا إنا لمنجوهم { إِلا امْرَأَتَهُ } [الحجر : 60] مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم وليس باستثناء من الاستثناء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه بأن يقول أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته وهنا قد اختلف الحكمان لأن إلا آل لوط متعلق
395
(2/229)
بأرسلنا أو بمجرمين وإلا امرأته متعلق بمنجوهم فكيف يكون استثناء من استثناء.
لمنجوهم بالتخفيف حمزة وعلى { قَدَّرْنَآ } وبالتخفيف أبو بكر { إِنَّهَا لَمِنَ الْغَـابِرِينَ } [الحجر : 60] الباقين في العذاب قيل لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح إن لأنه مع اسمه وخبره مفعول قدرنا ولكنه كقوله { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [الصافات : 158] وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم ولم يقولوا قدر الله لقربهم كما يقول خاصة الملك أمرنا بكذا والآمر هو الملك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 395
{ مُّنكَرُونَ } أي لا أعرفكم أي ليس عليكم زي السفر ولا أنتم من أهل الحضر فأخاف أن تطرقوني بشر { قَالُوا بَلْ جِئْنَـاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ } [الحجر : 63] أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه سرورك وتشفيك من أعدائك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم بنزوله فيمترون فيه أي يشكون ويكذبونك { وَأتَيْنَـاكَ بِالْحَقِّ } [الحجر : 64] باليقين من عذاب { وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ } [الأنعام : 146] في الإخبار بنزوله بهم { قَالُوا يَـالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ } [هود : 81] في آخر الليل أو بعد ما يمضي شيء صالح من الليل { وَاتَّبِعْ أَدْبَـارَهُمْ } [الحجر : 65] وسر خلفهم لتكون مطلعاً عليهم وعلى أحوالهم { وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } [هود : 81] لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يلتفت لا بد له من ذلك من أدنى وقفة { وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } [الحجر : 65] حيث أمركم الله بالمضي إليه وهو الشام أو مصر { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَالِكَ الامْرَ } [الحجر : 66] عدى قضينا بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا
396
كأنه قيل وأوحينا إليه مقضياً مبتوتاً وفسر ذلك الأمر بقوله { أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مَقْطُوعٌ } [الحجر : 66] وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر ودابرهم آخرهم أي يستأصلون عن آخر حتى لا يبقى منهم أحد { مُّصْبِحِينَ } وقت دخولهم في الصبح وهو حال من هؤلاء
جزء : 2 رقم الصفحة : 396
{ وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } [الحجر : 67] سدوم التي ضرب بقاضيها المثل في الجور { يَسْتَبْشِرُونَ } بالملائكة طمعاً منهم في ركوب الفاحشة { قَالَ } لوط { إِنَّ هؤلاء ضَيْفِى فَلا تَفْضَحُونِ } [الحجر : 68] بفضيحة ضيفي لأن من أساء إلى ضيفي فقد أساء إليّ { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ } [الحجر : 69] أي ولا تذلوني بإذلال ضيفي من الخزي وهو الهوان.
وبالياء فيهما بعقوب { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَـالَمِينَ } [الحجر : 70] عن أن نجير منهم أحداً أو تدفع عنهم فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينهم وبين المتعرض له فأوعدوه وقالوا { لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ يَـالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } أو عن ضيافة الغرباء { قَالَ هؤلاء بَنَاتِى } [الحجر : 71] فانكحوهن وكان نكاح المؤمنات من الكفار جائزاً ولا تتعرضوا لهم { إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ } [يوسف : 10] إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم فقالت الملائكة للوط عليه السلام { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ } [الحجر : 72] أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم وتمييزهم بين الخطإ الذي هم عليه وبين الصواب الذي تشير به عليهم من ترك البنين إلى البنات { يَعْمَهُونَ } يتحيرون فيكيف يقبلون قولك ويصغون إلى نصيحتك أو الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو قسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط تعظيماً له والعُمر والعَمر واحد وهو البقاء إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح إيثاراً للأخف لكثرة دور الحلف على
397
ألسنتهم ولذا حذفوا الخبر وتقديره لعمرك قسمي
جزء : 2 رقم الصفحة : 397
(2/230)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } [المؤمنون : 41] صيحة جبريل عليه السلام { مُشْرِقِينَ } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس { فَجَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا } [الحجر : 74] رفعها جبريل عليه السلام إلى السماء ثم قلبها والضمير لقرى قوم لوط { لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين المتأملين كأنهم يعرفون باطن الشيء بسمة ظاهرة { وَإِنَّهَا } وإن هذه القرى يعني آثارها { لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } [الحجر : 76] ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد.
وهم يبصرون تلك الآثار وهو تنبيه لقريش كقوله { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيْلِ } { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر : 77] لأنهم المنتفعون بذلك { وَإِن كَانَ أَصْحَـابُ الايْكَةِ } [الحجر : 78] وإن الأمر والشأن كان أصحاب الأيكة أي الغيضة { لَظَـالِمِينَ } لكافرين وهم قوم شعيب عليه السلام { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الأعراف : 136] فأهلكناهم لما كذبوا شعيباً { وَإِنَّهُمَا }
جزء : 2 رقم الصفحة : 398
يعني قرى قوم لوط والأيكة { لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } [الحجر : 79] لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به فسمى به الطريق ومِطمر البناء لأنهما مما يؤتم به { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَـابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } [الحجر : 80] هم ثمود والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام المرسلين يعني بتكذيبهم صالحاً لأن كل رسول كان يدعو إلى الإيمان بالرسل جميعاً فمن كذب واحداً منهم فكأنما كذبهم جميعاً أو أراد صالحاً
398
ومن معه من المؤمنين كما قيل الخبيبون في ابن الزبير وأصحابه { وَءَاتَيْنَـاهُمْ ءَايَـاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الحجر : 81] أي أعرضوا عنها ولم يؤمنوا بها { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } [الحجر : 82] أي ينقبون في الجبال بيوتاً أو يبنون من الحجارة { ءَامِنِينَ } لوثاقة البيوت واستحكامها من أن تنهدم ومن نقب اللصوص والأعداء أو آمنين من عذاب الله يحسبون أن الجبال تحميهم منه { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } [المؤمنون : 41] العذاب { مُّصْبِحِينَ } في اليوم الرابع وقت الصبح { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الحجر : 84] من بناء البيوت الوثيقة واقتناء الأموال النفيسة { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلا بِالْحَقِّ } [الحجر : 85] إلا خلقاً ملتبساً بالحق لا باطلاً وعبثا أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال { وَإِنَّ السَّاعَةَ } [الحج : 7] أي القيامة لتوقعها كل ساعة { لاتِيَةٌ } وإن الله ينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأَرض وما بينهم إلا لذلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 398
{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } [الحجر : 85] فاعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء قيل هو منسوخ بآية السيف وإن أريد به المخالفة فلا يكون منسوخاً { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّـاقُ } [الحجر : 86] الذي خلقك وخلقهم { الْعَلِيمُ } بحالك وحالهم فلا يخفي عليه ما يجري بينكم وهو يحكم بينكم { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ سَبْعًا } [الحجر : 87] أي سبع آيات وهي الفاتحة أو سبع سور وهي الطوال واختلف في السابعة فقيل الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة بدليل عدم
399
(2/231)
التسمية بينهما وقيل سورة يونس أو أسباع القرآن { مِّنَ الْمَثَانِي } [الحجر : 87] هي من التثنية وهي التكرير لأن الفاتحة مما يتكرر في الصلاة أو من الثناء لاشتمالهما على ما هو ثناء على الله والواحدة مثناة أو مثنية صفة للآية وأما السور أو الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد ولما فيها من الثناء كأنها تثني على الله وإذا جعلت السبع مثاني فمن للتبيين وإذا جعلت القرآن مثاني فمن للتبعيض { وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ } [الحجر : 87] هذا ليس بعطف الشيء على نفسه لأنه إذا أريد بالسبع الفاتحة أو الطوال فما وراءهن ينطلق عليه اسم القرآن لأنه اسم يقع على البعض كما يقع على الكل دليله قوله { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْءَانَ } [يوسف : 3] يعني سورة يوسف وإذا أريد به الأَسباع فالمعنى ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي الجامع لهذين النعتين وهو التثنية أو الثناء والعظم ثم قال لرسوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 398
{ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [الحجر : 88] أي لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له { إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } [الحجر : 88] أصنافاً من الكفار كاليهود والنصارى والمجوس يعني قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة وهي القرآن العظيم فعليك أن تستغني به ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا وفي الحديث " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " وحديث أبي بكر " من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظم صغيراً " { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر : 88] أي لا تتمن أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام والمسلمون { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر : 88] وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وطب نفساً عن إيمان الأغنياء { وَقُلْ } لهم { إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } [الحجر : 89] أنذركم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم
400
جزء : 2 رقم الصفحة : 400
{ كَمَآ أَنزَلْنَا } [الحجر : 90] متعلق بقوله ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا { عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ } [الحجر : 90] وهم أهل الكتاب { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْءَانَ عِضِينَ } [الحجر : 91] أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء حيث قالوا بعنادهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي أو أريد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه فاليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزّئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر يقول الآخر كذاب والآخر شاعر فأهلكهم الله.
ولا تمدن عينيك على الوجه الأول اعتراض بينهما لأنه لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الإلتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بكليته على المؤمنين { فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أقسم بذاته وربوبيته ليسألن يوم القيامة واحداً واحداً من هؤلاء المقتسمين عما قالوه في رسول الله صلى الله عليه وسلّم أو في القرآن أو في كتب الله { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [الحجر : 94] فاجهر به وأظهره يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً من الصديع وهو الفجر أو فاصدع فافرق بين الحق والباطل من الصدع في الزجاجة وهو الإبانة بما تؤمر من الشرائع فحذف الجار كقوله : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 106] هو أمر استهانة بهم
401
جزء : 2 رقم الصفحة : 401
(2/232)
{ إِنَّا كَفَيْنَـاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ } الجمهور على أنها نزلت في خمسة نفر كانوا يبالغون في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم والاستهزاء به فأهلكهم الله وهم الوليد بن المغيرة مر بنبّال فتعلق بثوبه سهم فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات ، والعاص ابن وائل دخل في أخمصه شوكة فانفتخت رجله فمات ، والأسود بن عبد المطلب عمي ، والأسود ابن عبد يغوث جعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، والحارث بن قيس امتخط قيحاً ومات { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم يوم القيامة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [الحجر : 97] فيك أو في القرآن أو في الله { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ } [الحجر : 98] فافزع فيما نابك إلى الله والفزع إلى الله هو الذكر الدائم وكثرة السجود يكفك ويكشف عنك الغم { وَاعْبُدْ رَبَّكَ } [الحجر : 99] ودم على عبادة ربك { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر : 99] أي الموت يعني ما دمت حياً فاشتغل بالعبادة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا حزَّبه أمر فزع إلى الصلاة.
402
سورة النحل
مكية ، وهي مائة وثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعيد فقيل لهم
{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [النحل : 1] أي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل : 1] تبرأ جل وعز عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم ، فما موصولة أو مصدرية واتصال هذا باستعجالهم من حيث إن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك { يُنَزِّلُ الْمَلَـائكَةَ } [النحل : 2] وبالتخفيف مكي وأبو عمرو { بِالرُّوحِ } بالوحي أو بالقرآن لأن كلا منهما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد أو يحيي القلوب الميتة بالجهل { مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا } [النحل : 2] أن مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ومعنى أنذروا { أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ } [النحل : 2] أعلموا بأن الأمر ذلك من نذرت بكذا إذا علمته والمعنى أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون فخافون.
وبالياء يعقوب ، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض وهو قوله
403
جزء : 2 رقم الصفحة : 403(2/233)
{ خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ تَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل : 3] وبالتاء في الموضعين حمزة وعلي ، وخلق الإنسان وما يكون منه وهو قوله { خَلَقَ الانسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [النحل : 4] أي فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح لخصومه مبين لحجته بعدما كان نطفة لا حس به ولا حركة أو فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيى العظام وهي رميم وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة وخلق ما لا بد منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وهو قوله { وَالانْعَـامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } [النحل : 5] وهي الأزواج الثمانية وأكثر ما يقع على الإبل وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله و { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } أو بالعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام ثم قال خلقها لكم أي ما خلقها إلا لكم يا جنس الإنسان { فِيهَا دِفْءٌ } [النحل : 5] هو اسم ما يدفأ به من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر { وَمَنَـافِعُ } وهي نسلها ودرها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل : 5] قدم الظرف وهو يؤذن بالاحتصاص وقد يؤكل من غيرها لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المتغذى به كالجاري مجرى التفكه { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } [النحل : 6] تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [النحل : 6] ترسلونها بالغداة إلى مسارحها منّ الله تعالى بالتجمل بها كما منّ بالاتنفاع بها لأَنه من أغراض أصحاب المواشي لأَن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة تزينت بإراحتها وتسريحها الأَفنية وفرحت أربابها وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس وإنما قدمت الإراحة على التسريح لأَن الجمال في الإِراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع
404
جزء : 2 رقم الصفحة : 404
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } [النحل : 7] أحمالكم { إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَـالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الانفُسِ } [النحل : 7] وبفتح الشين أبو جعفر وهما لغتان في معنى المشقة وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه وشقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع وأما الشق فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما ينال من الجهد والمعنى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة فضلاً أن تحملوا أثقالكم على ظهوركم أو معناه لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس وقيل أثقالكم أبدانكم ومنه الثقلان للجن والإنس ومنه وأخرجت الأرض أثقالها أي بني آدم { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 7] حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [النحل : 8] معطوف على الأنعام أي وخلق هذه للركوب والزينة وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله على حرمة أكل لحم الخيل بأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الأكل بعدما ذكره في الأنعام ومنفعة الأكل أقوى والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكم أن يذكر في مواضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما وانتصاب زينة على المفعول له عطفاً على محل لتركبوها وخلق مالا تعلمون من أصناف خلائقه وهو قوله { وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ } ومنْ هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به غيره { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [النحل : 9] المراد به الجنس ولذا قال { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } [النحل : 9] والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ومعناه أن هداية الطريق الموصل إلى الحق عليه كقوله { إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وليس ذلك للوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكن يفعل ذلك تفضلاً وقيل معناه وإلى الله وقال الزجاج معناه وعلى الله تبيين الطريق الواضح المستقيم والدعاء إليه بالحجج ومنها جائر أي من السبيل مائل
405
عن الاستقامة { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ } [النحل : 9] أراد هداية اللطف بالتوفيق والإنعام بعدالهدى العام
جزء : 2 رقم الصفحة : 405
(2/234)
{ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } [النحل : 10] لكم متعلق بأنزل أو خبر لشراب وهو ما يشرب { وَمِنْهُ شَجَرٌ } [النحل : 10] يعني الشجر الذي ترعاه المواشي { فِيهِ تُسِيمُونَ } [النحل : 10] من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض { يُنابِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَـابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 11] ولم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 11] فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته والآية الدلالة الواضحة { وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآ ـاِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [إبراهيم : 33] بنصب الكل عليّ وجعل النجوم مسخرات والنجوم مسخرات فقط حفص والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخرات شامي على الابتداء والخبر { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد : 4] جمع الآية وذكر العقل لأن الآثار العلوية أطهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الارْضِ } [النحل : 13] معطوف على الليل والنهار أي ما خلف فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك { مُخْتَلِفًا } حال { أَلْوَانُهُا إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [النحل : 13] يتعظون
406
جزء : 2 رقم الصفحة : 406
{ وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } [النحل : 14] هو السمك ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيؤكل سريعاً طرياً خيفة الفساد وإنما لا يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحماً لأن مبني الإيمان على العرف ومن قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً } [النحل : 14] هي اللؤلؤ والمرجان { تَلْبَسُونَهَا } المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم { وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ } [النحل : 14] جواري تجري جرياً وتشق الماء شقاً والمخرشق الماء بحيزومها { فِيهِ } في البحر { اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } هو عطف على محذوف أي لتعتبروا ولتبتغوا وابتغاء الفضل التجارة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] الله على ما أنعم عليكم به { وَأَلْقَى فِى الارْضِ رَوَاسِىَ } [النحل : 15] جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [النحل : 15] كراهية أن تميل بكم وتضطرب أو لئلا تميد بكم لكن حذف المضاف أكثر قيل خلق الله الأرض فجعلت تميد فقالت الملائكة ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت { وَأَنْهَـارًا } وجعل فيها أنهاراً لأن ألقى فيه معنى جعل { وَسُبُلا } طرقاً { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 53] إلى مقاصدكم أو إلى توحيد ربكم { وَعَلَـامَـاتٍ } هي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } [النحل : 16] المراد بالنجم الجنس أو هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدى فإن قلت وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه النجم مقحم فيه هم كأنه قيل وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فمن المراد بهم قلت كأنه أراد قريشاً فلهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ولهم بذلك علم لم
407
يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا
جزء : 2 رقم الصفحة : 407
(2/235)
{ أَفَمَن يَخْلُقُ } [النحل : 17] أي الله تعالى { كَمَن لا يَخْلُقُ } [النحل : 17] أي الأصنام وجيء بمن الذي هو لأولى العلم لزعمهم حيث سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم ، أو لأن المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده وإنما لم يقل أفمن لا يخلق كمن يخلق مع اقتضاء المقام بظاهره إياه لكونه إلزاماً للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله لأنهم حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق وهو حجة على المعتزلة في خلق الأفعال { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [يونس : 3] فتعرفون فساد ما أنتم عليه { وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَآ } [إبراهيم : 34] لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر وإنما اتبع ذلك ما عدد من نعمه تنبيهاً على أن ما رواءها لا ينحصر ولا يعد { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 18] يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ولا يقطعها عنكم لتفريطكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النحل : 19] من أقوالكم وأفعالكم وهو وعيد { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ } [النحل : 20] والآلهة الذين يدعوهم الكفار { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] وبالتاء غير عاصم { لا يَخْلُقُونَ شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [النحل : 20] { أَمْوَاتٌ } أي هم أموات { غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النحل : 21] نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون أموات جاهلون بالبغيب ، ومعنى أموات غير أحياء أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لو كانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت وأمرهم بالعكس من ذلك والضمير في يبعثون للداعين أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت
408
بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء أعمالهم منهم على عبادتهم وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث
جزء : 2 رقم الصفحة : 408
{ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [فصلت : 6] أي ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير الله وأن معبودكم واحد { فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } [النحل : 22] للوحدانية { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [النحل : 22] عنها وعن الإقرار بها { لا جَرَمَ } [النحل : 23] حقا { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] أي سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } [النحل : 23] عن التوحيد يعني المشركين { وَإِذَا قِيلَ لَهُم } [البقرة : 91] لِهؤلاء الكفار { مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [النحل : 24] ماذا منصوب بأنزل أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع على الابتداء أي أي شيء أنزله ربكم وأساطير خبر مبتدأ محذوف قيل هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا أساطير الأولين أي أحاديث الأولين وأباطيلهم واحدتها أسطورة وإذا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبرونهم بصدقه وأنه نبي فهم الذين قالوا خيراً { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم } [النحل : 25] أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار ضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم وهو وزر الإضلال أن المضل والضال شريكان واللام للتعليل
جزء : 2 رقم الصفحة : 409
{ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال { أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [الأنعام : 31] محل ما رفع { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَـانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } [النحل : 26] أي من جهة القواعد وهي الأساطين وهذا تمثيل يعني أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها
409
(2/236)
رسل الله فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتاه البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا ، والجمهور على أن المراد به نمرود بن كنعان حين بني الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا فأتى الله أي أمره بالاستئصال { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَـاـاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [النحل : 26] من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون
جزء : 2 رقم الصفحة : 409
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ يُخْزِيهِمْ } [النحل : 27] يذلهم بعذاب الخزي سوى ما عذبوا به في الدنيا { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآءِىَ } [النحل : 27] على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم { الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَـاقُّونَ فِيهِمْ } [النحل : 27] تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم تشاقون نافع أي تشاقونني فيهم لأن مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [النحل : 27] أي الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم فلا يلتفتون إليهم ويشاقونهم يقولون ذلك شماتة بهم أو هم الملائكة { إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ } [النحل : 27] الفضيحة { وَالسُّواءَ } العذاب { عَلَى الْكَـافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـائكَةُ } وبالياء حمزة وكذا ما بعده { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [النحل : 28] بالكفر بالله { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ } [النحل : 28] أي الصلح والاستسلام أي أخبتوا وجاؤوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق وقالوا { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُواء } [النحل : 28] وجحدوا ما وجد منهم من الكفران والعدوان فرد عليهم أولو العلم وقالوا { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل : 28] فهو يجازيكم عليه وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [النحل : 29] جهنم
410
جزء : 2 رقم الصفحة : 410
(2/237)
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } [النحل : 30] الشرك { مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا } [النحل : 30] وإنما نصب هذا ورفع أساطير لأن التقدير هنا أنزل خيراً فأطبقوا الجواب على السؤال وثمة التقدير هو أساطير الأولين فعدلوا بالجواب عن السؤال { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا } [النحل : 30] أي آمنوا وعملوا الصالحات أو قالوا لا إله إلا الله { حَسَنَةً } بالرفع أي ثواب وأمن وغنيمة وهو بدل من خيراً حكاية لقول الذين اتقوا أي قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيراً ثم حكاه أو هو كلام مستأنف عدة للقائلين وجعل قولهم من جملة إحسانهم { وَلَدَارُ الاخِرَةِ خَيْرٌ } [يوسف : 109] أي لهم في الآخرة ما هو خير منها كقوله { فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ } [آل عمران : 148] { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل : 30] دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره { جَنَّـاتُ عَدْنٍ } [مريم : 61] خبر لمبتدأ محذوف أو هي المخصوص بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } حال { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَالِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـائكَةُ طَيِّبِينَ } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم { يَقُولُونَ سَلَـامٌ عَلَيْكُمُ } [النحل : 32] قيل إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك ، فقال : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام ، ويبشره بالجنة ويقال لهم في الآخرة { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل : 32] بعملكم { هَلْ يَنظُرُونَ } [الأنعام : 158] ما ينتظر هؤلاء الكفار { إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـائكَةُ } [الأنعام : 158] لقبض أرواحهم.
وبالياء علي وحمزة { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل : 33] أي العذاب المستأصل أو القيامة { كَذَالِكَ } مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب { فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } [النحل : 33] بتدميرهم { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير
411
جزء : 2 رقم الصفحة : 411
{ فَأَصَابَهُمْ سيئات مَا عَمِلُوا } [النحل : 34] جزاء سيئات أعمالهم { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ } وأحاط بهم جزاء استهزائهم { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلا ءَابَآؤُنَا } [النحل : 35] هذا كلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقاداً لكان صواباً { وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ } [النحل : 35] يعني البحيرة والسائبة ونحوهما { كَذَالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النحل : 33] أي كذبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل قولهم استهزاء { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [النحل : 35] إلا أن يبلغوا الحق ويطّلعوا على بطلان الشرك وقبحه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ } [النحل : 36] بأن وحدوه { وَاجْتَنِبُوا الطَّـاغُوتَ } [النحل : 36] الشيطان يعني طاعته { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ } [النحل : 36] لاختيارهم الهدى { وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَـالَةُ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 412
النحل : 36] أي لزمته لاختياره إياها { فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران : 137] حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم عنهم ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلّم على إيمانهم وأعلمه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة فقال { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاـاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَن يُضِلُّ } [النحل : 37] بفتح الياء وكسر الدال كوفي الباقون بضم الياء وفتح الدال والوجه فيه أن من يضل مبتد ولا يهدي خبره { وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ } [آل عمران : 22] يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } [الأنعام : 109] معطوف على وقال الذي أشركوا
412
(2/238)
{ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى } [النحل : 38] هو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } [التوبة : 111] وهو مصدر مؤكد لما دل عليه بلى لأن يبعث موعد من الله وبين أن الوفاء بهذا الوعد حق { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } [الأعراف : 187] أو وعده حق أو أنهم يبعثون
جزء : 2 رقم الصفحة : 412
{ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } [النحل : 39] متعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو يشمل المؤمنين والكافرين { الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [النحل : 39] هو الحق { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَـاذِبِينَ } [النحل : 39] في قولهم لا يبعث الله من يموت { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَـاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [النحل : 40] أي فهو يكون وبالنصب شامي وعلي ، على جواب.
كن قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن فيكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد تبين أن مراداً لا يمتنع عليه وأن وجود عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثل ولا قول ثَم والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ } [النحل : 41] في حقه ولوجهه { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } [النحل : 41] هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ومنهم من هاجر إلى المدينة { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } [النحل : 41] صفة للمصدر أي تبوئة حسنة أو لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم { وَلاجْرُ الاخِرَةِ أَكْبَرُ } [النحل : 41] الوقف لازم عليه لأن جواب { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] محذوف والضمير للكفار أي لو علموا ذلك لرغبوا في الدين أو للمهاجرين أي لو كانوا يعلمون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم { الَّذِينَ صَبَرُوا } [النحل : 96] أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا وكلاهما مدح أي صبروا على مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب فكيف
413
بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الانفال : 2] أي يفوضون الأمر إلى ربهم ويرضون بما أصابهم في دين الله.
ولما قالت قريش : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً نزل
جزء : 2 رقم الصفحة : 413
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُّوحِى إِلَيْهِمْ } [يوسف : 109] على ألسنة الملائكة.
نوحي حفص { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن } أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً وقيل للكتاب الذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين { إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل : 43] بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } أي بالمعجزات والكتب والباء يتعلق برجالاً صفة له أي رجالاً ملتبسين بالبينات أو بأرسلنا مضمراً كأنه قيل بم رسل فقيل بالبينات أو بيوحي أي يوحى إليهم بالبينات أو بلا تعلمون ، وقوله : فاسألوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة وقوله { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ } [النحل : 44] القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44] في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا به وأوعدوا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 44] في تنبيهاته فينتبهوا { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّـاَاتِ } [النحل : 45] أي المكرات السيئات وهم أهل مكة وما مكروا به رسول الله عليه السلام { أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الارْضَ } [النحل : 45] كما فعل بمن تقدمهم { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [النحل : 45] أي بغتة { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } [النحل : 46] متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [النحل : 46] { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } [النحل : 47] متخوفين وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا
414
(2/239)
فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف قوله من حيث لا يشعرون { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُافٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 47] حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم مع استحقاقكم والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فإنما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم
جزء : 2 رقم الصفحة : 414
{ أَوَلَمْ يَرَوْا } [الإسراء : 99] وبالتاء حمزة وعلي وأبو بكر { إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ } [النحل : 48] ما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه { مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلَـالُهُ } أي يرجع من موضع إلى موضع.
وبالتاء بصري { عَنِ الْيَمِينِ } [الصافات : 28] أي الأيمان { وَالشَّمَآ ـاِلِ } جمع شمال { سُجَّدًا لِّلَّهِ } [النحل : 48] حال من الظلال.
عن مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء { وَهُمْ دَاخِرُونَ } [النحل : 48] صاغرون وهو حال من الضمير في ظلاله لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل وجمع بالواو والنون لأن الدخور من أوصاف العقلاء أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب والمعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها غير ممتنعة { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ مِن دَآبَّةٍ } [النحل : 49] من بيان لما في السماوات وما في الأرض جميعاً على أن في السماوات خلقاً يدبون فيها كما تدب الأناسي في الأرض أو بيان لما في الأرض وحده والمراد بما في السماوات ملائكتهن وبقوله { وَالْمَلَـائكَةُ } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم قيل المراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم وبسجود غيرهم انقيادهم لإرادة الله ومعنى الانقياد يجمعهما فلم يختلفا فلذا جاز أن يعبر عنهما بلفظ واحد وجيء بما إذ هو صالح للعقلاء وغيرهم ولو جيء بمن لتناول العقلاء خاصة { وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [النحل : 49] { يَخَافُونَ رَبَّهُم } [النحل : 50] هو حال من الضمير في لا يستكبرون أي لا يستكبرون خائفين { مِن فَوْقِهِمْ } [الزمر : 16] إن علقته بيخافون فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم وإن علقته بربهم حالاً منه فمعناه يخافون ربهم غالباً لهم قاهراً كقوله
415
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام : 18] { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [النحل : 50] وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي وأنهم بين الخوف والرجاء
جزء : 2 رقم الصفحة : 415
{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَـاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [النحل : 51] فإن قلت إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا عندي رجال ثلاثة لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان قلت الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أن المعنيّ به منهما هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية { فَإِيَّـايَ فَارْهَبُونِ } [النحل : 51] نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم وهو من طريقة الالتفات وهو أبلغ في الترغيب من قوله فإياي فارهبوه.
فارهبوني يعقوب { وَلَهُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَلَهُ الدِّينُ } أي الطاعة { وَاصِبًا } واجباً ثابتاً لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه وهو حال عمل فيه الظرف أو وله الجزاء دائماً يعني الثواب والعقاب { اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 416
(2/240)
وأي شيء اتصل بكم من نعمة عافية وغنى وخصب { فَمِنَ اللَّهِ } [النحل : 53] فهو من الله { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ } [النحل : 53] المرض والفقر والجدب { فَإِلَيْهِ تَجْـاَرُونَ } [النحل : 53] فما تتضرعون إلا إليه والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [النحل : 54] الخطاب في وما بكم من نعمة إن كان عاماً فالمراد بالفريق الكفرة وإن كان الخطاب للمشركين فقوله منكم للبيان لا للتبعيض كأنه قال فإذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله { فَلَمَّا نَجَّـاـاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ } [لقمان : 32]
416
{ لِيَكْفُرُوا بِمَآ ءَاتَيْنَـاهُمْ } [النحل : 55] من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ثم أوعدهم فقال { فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [النحل : 55] هو عدول إلى الخطاب على التهديد { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَـاهُمْ } [النحل : 56] أي لآلهتهم ومعنى لا يعلمون أنهم يسمونها آلهة ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله وليس كذلك لأنها جماد لا تضر ولا تنفع أو الضمير في لا يعلمون للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم { تَاللَّهِ لَتُسْـاَلُنَّ } [النحل : 56] وعيد { عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ } [النحل : 56] من أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَـاتِ } [النحل : 57] كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله { سُبْحَـانَهُ } تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم { وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل : 57] يعني البنين ويجوز في ما الرفع على الابتداء ولهم الخبر والنصب على العطف على البنات ، وسبحانه اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } [النحل : 58] أي صار فظل وأمسى وأصبح وبات تستعمل بمعنى الصيرورة لأن أكثر الوضع يتفق بالليل فيظل نهاره مغتماً مسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس { وَهُوَ كَظِيمٌ } [النحل : 58] مملوء حنقاً على المرأة { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُواءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } [النحل : 59] يستخفى منهم من أجل سوء
417
المبشر به ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } [النحل : 59] أيمسك ما بشر به على هون وذل { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ } [النحل : 59] أم يئده { أَلا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [النحل : 59] حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف
جزء : 2 رقم الصفحة : 416
{ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } [النحل : 60] صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ، ووأدهن خشية الإملاق { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاعْلَى } [النحل : 60] وهو الغني عن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين { وَهُوَ الْعَزِيزُ } [إبراهيم : 4] الغالب في تنفيذ ما أراد { الْحَكِيمُ } في إمهال العباد { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم } [النحل : 61] بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } [النحل : 61] على الأرض { مِن دَآبَّةٍ } [الجاثية : 4] قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه : إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم وعن ابن عباس رضي الله عنهما من دابة من مشرك يدب { وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً } [النحل : 61] أي أجل كل أحد أو وقت تقتضيه الحكمة أو القيامة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } [النحل : 62] مع ذلك أي ويقولون الكذب { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } [النحل : 62] عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله
418
(2/241)
{ وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت : 50] وأن لهم الحسنى بدل من الكذب { لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } [النحل : 62] مفرِطون نافع مفرِّطون أبو جعفر فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلاناً وفرطته في طلب الماء إذا قدمته أو منسيون متروكون من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها
جزء : 2 رقم الصفحة : 418
{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } [النحل : 63] أي أرسلنا رسلاً إلى من تقدمك من الأمم { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ أَعْمَـالَهُمْ } [النحل : 63] من الكفر والتكذيب بالرسل { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } [النحل : 63] أي قرينهم في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور أو الضمير لمشركي قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم أو هو على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] في القيامة { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ } [النحل : 64] القرآن { إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ } [النحل : 64] للناس { الَّذِى اخْتَلَفُوا فِيهِ } [النحل : 64] هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به { وَهُدًى وَرَحْمَةً } [الأنعام : 157] معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبيين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] { وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [النحل : 65] سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع { وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 419
النحل : 66] وبفتح النون نافع وشامي وأبو بكر.
فال الزجاج سقيته وأسقيته بمعنى واحد ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل كيف العبرة فقال نسقيكم مما
419
في بطونه { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا } [النحل : 66] أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في الكرش ثم ينحدر وفي ذلك عبرة لمن اعتبر وسئل شقيق عن الإخلاص فقال تمييز العمل من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم { سَآ ـاِغًا لِّلشَّـارِبِينَ } [النحل : 66] سهل المرور في الحلق ويقال لم يغص أحد باللبن قط ومن الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية لابتداء الغاية
جزء : 2 رقم الصفحة : 419
(2/242)
ويتعلق { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ } [النحل : 67] بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [النحل : 67] بيان وكشف عن كنه الإسقاء أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد والضمير في منه يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير ، والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً ثم فيه وجهان أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة وقيل السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام : " الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب " وبأخبار جمة { وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل : 67] هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك { إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل : 67] { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } [النحل : 68] وألهم { أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } [النحل : 68] هي أن المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول قال الزجاج : واحد النحل نحلة كنخل ونخلة والتأنيث
420
باعتبار هذا ومن في من الجبال { وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل : 68] يرفعون من سقوف البيت أو ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تعسل فيها للتبعيض لأنها لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش والضمير في يعرشون للناس وبضم الراء شامي وأبو بكر
جزء : 2 رقم الصفحة : 420
{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 69] أي ابني البيوت ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها { فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ } [النحل : 69] فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها { ذُلُلا } جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها أو من الضمير في فاسلكي أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } [النحل : 69] يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } [النحل : 69] منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها { فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِ } [النحل : 69] لأنه من جملة الأدوية النافعة وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل.
وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه أو لأن فيه بعض الشفاء لأن النكرة في الإثبات تخص وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام : " اسقه عسلاً " فجاءه وقال زاده شراً فقال عليه السلام : " صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً " فسقاه فصح وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه وعن بعضهم أن رجلاً قال عند المهدي إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل : 11] في عجيب
421
أمرها فيعلمون أن الله أودعها علماً بذلك وفطنها كما أعطى أولي العقول عقولهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
(2/243)
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّـاكُمْ } [النحل : 70] بقبض أرواحكم من أبدانكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } [النحل : 70] إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون { لِكَىْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } [النحل : 70] لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ } [آل عمران : 119] بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء { قَدِيرٌ } على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الرِّزْقِ } [النحل : 71] أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم { فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا } [النحل : 71] في الرزق يعني الملاك { بِرَآدِّى } بمعطي { رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ } [النحل : 71] فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [النحل : 71] جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تجعلونهم فيه شركاء ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [النحل : 71] وبالتاء أبو بكر فجعل ذلك من جملة جحود النعمة
جزء : 2 رقم الصفحة : 421
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [النحل : 72] أي من جنسكم { وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } [النحل : 72] جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت :
وإليك نسعى ونحفد
واختلف فيه فقيل : هم الأختان على البنات وقيل : أولاد الأولاد والمعنى وجعل لكم حفدة أي خدماً يحفدون
422
في مصالحكم ويعينونكم { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } [النحل : 72] أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها { أَفَبِالْبَـاطِلِ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 72] هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها { وَاللَّهُ جَعَلَ } [النحل : 72] أي الإسلام { هُمْ يَكْفُرُونَ } [النحل : 72] أو الباطل الشيطان والنعمة محمد صلى الله عليه وسلّم أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ شيئا } [النحل : 73] أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئاً فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق فإن أردت المصدر نصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه أي قليلاً ومن السماوات والأرض صلة للرزق إن كان مصدراً أي لا يرزق من السماوات مطراً ولا من الأرض نباتاً ، وصفة إن كان اسماً لما يرزق والضمير في { لا يَسْتَطِيعُونَ } [النساء : 98] لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك فيهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 422
{ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الامْثَالَ } [النحل : 74] فلا تجعلوا لله مثلا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } [التوبة : 78] أنه لا مثل له من الخلق { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول ثم ضرب المثل فقال : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا } [النحل : 75] هو بدل من مثلا { مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَـاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا } [النحل : 75] مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله مالاً فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء وقيد
423
(2/244)
بالمملوك ليميزه من الحر لأن اسم العبد يقع عليهما جميعاً إذ هما من عباد الله وبلا يقدر على شيء ليمتاز من المكاتب والمأذون فيهما يقدران على التصرف ومن موصوفة أي وحراً زرقناه ليطابق عبداً أو موصولة { هَلْ يَسْتَوُانَ } [النحل : 75] جمع الضمير لإرادة الجمع أي لا يستوي القبيلان { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النحل : 75] بأن الحمد والعبادة لله ثم زاد في البيان فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 422
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ } [النحل : 76] الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَـاهُ } [النحل : 76] أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } [النحل : 76] حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية منهم لم ينفع ولم يأت بنجح { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } [النحل : 76] أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير { وَهُوَ } في نفسه { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام : 39] على سيرة صالحة ودين قويم وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [هود : 123] أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفى عليهم علمه أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ } [النحل : 77] في قرب كونها وسرعة قيامها { إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [النحل : 77] كرجع طرف وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه { أَوْ هُوَ } [النحل : 77] أي الأمر { أَقْرَبُ } وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى كونوا في كونها على هذا الاعتبار وقيل بل هو أقرب { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] فهو يقدر على أن يقيم الساعة ويبعث الخلق لأنه بعض المقدورات ثم
424
دل على قدرته بما بعده فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 424
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَـاتِكُمْ } [النحل : 78] وبكسر الألف وفتح الميم عليّ اتباعاً لكسرة النون وبكسرهما حمزة والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في أراق فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة { لا تَعْلَمُونَ شيئا } [النحل : 78] حال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل : 78] أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها { أَلَمْ يَرَوْا } [النمل : 86] وبالتاء شامي وحمزة { إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ } [النحل : 79] مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك { فِى جَوِّ السَّمَآءِ } [النحل : 79] هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو { مَا يُمْسِكُهُنَّ } [النحل : 79] في قبضهن وبسطهن ووقوفهن { إِلا اللَّهُ } [النحل : 79] بقدرته وفيه نفي لما يصوره الوهم من خاصية القوى الطبيعية { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل : 79] بأن الخلق لا غنى به عن الخالق { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } [النحل : 80] هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف { وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الانْعَـامِ بُيُوتًا } [النحل : 80] هي قباب الأدم { تَسْتَخِفُّونَهَا } ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } [النحل : 80] بسكون العين كوفي وشامي وبفتح العين وغيرهم والظعن بفتح العين وسكونها الارتحال { وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } [النحل : 80] قراركم في منازلكم والمعنى أنها خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر على أن اليوم بمعنى الوقت { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } [النحل : 80] أي أصواف
425
(2/245)
الضأن { وَأَوْبَارِهَا } وأوبار الإبل { وَأَشْعَارِهَآ } وأشعار المعز { أَثَـاثًا } متاع البيت { وَمَتَـاعًا } وشيئاً ينتفع به { إِلَى حِينٍ } [البقرة : 36] مدة من الزمان
جزء : 2 رقم الصفحة : 425
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَـالا } [النحل : 81] كالأشجار والسقوف { وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـانًا } [النحل : 81] جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } [النحل : 81] هي القمصان والثياب من الصوف والكتاب والقطن تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وهي تقي البرد أيضاً إلا أنه اكتفى بأحد الضدين ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم لكون البرد يسيراً محتملاً { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [النحل : 81] ودروعاً من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم ، والبأس : شدة الحرب والسربال عام يقع على ما كان من حديد أو غيره { كَذَالِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } [النحل : 81] أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] أعرضوا عن الإسلام { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [النحل : 82] أي فلا تبعة عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ } [النحل : 83] التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون إنها من الله { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } [النحل : 83] بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَـافِرُونَ } [النحل : 83] أي الجاحدون غير المعترفين أو نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم وثم يدل على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر { وَيَوْمَ } انتصابه باذكر { نَبْعَثُ } نَحشر { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } [النحل : 84] نبياً يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والإيمان والكفر
426
{ ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } [النحل : 84] في الاعتذار والمعنى لا حجة لهم فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [النحل : 84] ولا هم يسترضون أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل ومعنى ثم أنهم يمنون أي يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو أطم وأغلب منها وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة
جزء : 2 رقم الصفحة : 426
{ وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } [النحل : 85] كفروا { الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } [النحل : 85] أي العذاب بعد الدخول { وَلا هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة : 162] يمهلون قبله { وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَآءَهُمْ } [النحل : 86] أوثانهم التي عبدوها { قَالُوا رَبَّنَا هؤلاء شُرَكَآؤُنَا } [النحل : 86] أي آلهتنا التي جعلناها شركاء { الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِن دُونِكَ } [النحل : 86] أي نعبد { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَـاذِبُونَ } [النحل : 86] أي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جماداً لا تعرف من عبدها ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيهاً لله عن الشرك { وَأَلْقَوْا } يعني الذين ظلموا { إِلَى اللَّهِ يَوْمَـاـاِذٍ السَّلَمَ } [النحل : 87] إلقاء السلم الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا { وَضَلَّ عَنْهُم } [فصلت : 48] وبطل عنهم { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [آل عمران : 24] من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤوا منهم { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] في أنفسهم { وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] وحملوا غيرهم على الكفر { زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } [النحل : 88] أي عذاباً بكفرهم وعذاباً بصدهم عن سبيل الله { بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [النحل : 88] بكونهم مفسدين الناس بالصد
427
جزء : 2 رقم الصفحة : 427
(2/246)
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [النحل : 89] يعني نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم { وَجِئْنَا بِكَ } [النحل : 89] يا محمد { شَهِيدًا عَلَى هؤلاء } [النحل : 89] على أمتك { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَـانًا } [النحل : 89] بيانا بليغاً { لِّكُلِّ شَىْءٍ } [الأعراف : 145] من أمور الدين أما في الأحكام المنصوصة فظاهر وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النور : 54] وحثنا على الإجماع فيه بقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 115].
وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأمته باتباع أصحابه بقوله : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّؤوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فتبين أنه كان تبياناً لكل شيء { وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل : 89] ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة لهم
428
جزء : 2 رقم الصفحة : 428
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } [النحل : 90] بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وإيصال كل ذي حق إلى حقه { وَالاحْسَانِ } إلى من أساء إليكم أو هما الفرض والندب لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب { وَإِيتَآى ِ ذِى الْقُرْبَى } [النحل : 90] وإعطاء ذي القرابة وهو صلة الرحم { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ } [النحل : 90] عن الذنوب المفرطة في القبح { وَالْمُنْكَرِ } ما تنكره العقول { وَالْبَغْىِ } طلب التطاول بالظلم والكبر { يَعِظُكُمْ } حال أو مستأنف { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152] تتعظون بمواعظ الله وهذه الآية سبب إسلام عثمان بن مظعون فإنه قال : ما كنت أسلمت إلا حياء منه عليه السلام لكثرة ما كان يعرض على الإسلام ولم يستقر الإيمان في قلبي حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال : والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر وقال أبو جهل : إن إلهه ليأمر بمكارم الأخلاق وهي أجمع آية في القرآن للخير والشر ولهذا يقرأها كل خطيب على المنبر في آخر كل خطبة لتكون عظة جامعة لكل مأمور ومنهي { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَـاهَدتُّمْ } [النحل : 91] هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على الإسلام { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } [الفتح : 10] { وَلا تَنقُضُوا الايْمَـانَ } [النحل : 91] أيمان البيعة { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [النحل : 91] بعد توثيقها باسم الله وأكد ووكد لغتان فصيحتان والأصل الواو والهمزة بدل منها { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا } [النحل : 91] شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل : 91] من البر والحنث فيجازيكم به
429
جزء : 2 رقم الصفحة : 429
(2/247)
{ وَلا تَكُونُوا } [البقرة : 41] في نقض الأيمان { كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } [النحل : 92] كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته { أَنكَـاثًا } جمع نكث وهو ما ينكث فتله قيل : هي ريطة وكانت حمقاء تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن { تَتَّخِذُونَ أَيْمَـانَكُمْ } [النحل : 92] حال كأنكاثاً { دَخَ } أحد مفعولي تتخذ أي ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً { بَيْنَكُمْ } أي مفسدة وخيانة { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ } [النحل : 92] بسبب أن تكون أمة يعني جماعة قريش { هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } [النحل : 92] هي أزيد عدداً وأوفر مالاً من أمة من جماعة المؤمنين.
هي أربى مبتدأ وخبر ، في موضع الرفع صفة لأمة وأمة فاعل تكون وهي تامة وهي ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } [النحل : 92] الضمير للمصدر أي إنما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما وكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقلة المؤمنين وفقرهم { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [النحل : 92] إِذا جازاكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وفيه تحذير عن مخالفة ملة الإسلام { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [المائدة : 48] حنيفة مسلمة { وَلـاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [النحل : 93] من علم منه اختيار الضلالة { وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] من علم منه اختيار الهداية { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ } [النحل : 93] يوم القيامة فتجزون به { وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَـانَكُمْ دَخَ بَيْنَكُمْ } [النحل : 94] كرر النهي عن اتخاذ الإيمان دخلاً بينهم تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظمه فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } فتزل أقدامكم عن محجة
430
الإسلام بعد ثبوتها عليها وإنما وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن تثبت عليه فكيف بأقدام كثيرة { وَتَذُوقُوا السُّواءَ } [النحل : 94] في الدنيا { بِمَا صَدَدتُّمْ } [النحل : 94] بصدودكم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1]
جزء : 2 رقم الصفحة : 430
وخروجكم عن الدين أو بصدكم غيركم لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل : 94] في الآخرة
جزء : 2 رقم الصفحة : 430
{ وَلا تَشْتَرُوا } [المائدة : 44] ولا تستبدلوا { بِعَهْدِ اللَّهِ } [النحل : 91] وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم { ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] عرضاً من الدنيا يسيراً كأن قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فثبتهم الله { إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ } [النحل : 95] من ثواب الآخرة { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ } من أعراض الدنيا { يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ } [النحل : 96] من خزائن رحمته { بَاقٍ } لا ينفد { وَلَنَجْزِيَنَّ } وبالنون مكي وعاصم { الَّذِينَ صَبَرُوا } [النحل : 96] على أذى المشركين ومشاق الإسلام { أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل : 96] { مَنْ عَمِلَ صَـالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [النحل : 97] من مبهم يتناول النوعين إلا أن ظاهره للذكور فبين بقوله من ذكر أو أنثى ليعم الموعد النوعين { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] شرط الإيمان لأن أعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على أن العمل ليس من الإيمان { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً } [النحل : 97] أي في الدنيا لقوله { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل : 97] وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله { فَـاَاتَـاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ } [آل عمران : 148] وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً فظاهر وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا
431
(2/248)
بقسمة الله تعالى وأما الفاجر فأمره بالعكس إن كان معسراً فظاهر وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه وقيل الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة بالله وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله والإعراض عما سوى الله
جزء : 2 رقم الصفحة : 431
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ } [النحل : 98] فإذا أردت قراءة القرآن { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [الأعراف : 200] فعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنها سبب له والفاء للتعقيب إذ القراءة المصدرة بالاستعاذة من العمل الصالح المذكور { مِنَ الشَّيْطَـانِ } [الأعراف : 201] يعني إبليس { الرَّجِيمِ } المطرود أو الملعون.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي : " قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام " { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ } [النحل : 99] لإبليس { سُلْطَـانٍ } تسلط وولاية { عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [النحل : 99] فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه { إِنَّمَا سُلْطَـانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [النحل : 100] يتخذونه ولياً ويتبعون وساوسه { وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل : 100] الضمير يعود إلى ربهم أو إلى الشيطان أي بسببه { وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ } [النحل : 101] تبديل الآية مكان الآية هو النسخ والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة رآها وهو معنى قوله { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } [النحل : 101] وبالتخفيف مكي وأبو عمرو { قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَر } [النحل : 101] هو جواب إذاً.
وقوله : والله أعلم بما ينزل اعتراض كانوا يقولون إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً فيأتيهم بما هو أهون ولقد افتروا فقد كان ينسخ الأشق بالأهون والأهون بالأشق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [النحل : 75] الحكمة في ذلك
432
جزء : 2 رقم الصفحة : 432
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } [النحل : 102] أي جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد والمقدس المطهر من المآثم { مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] من عنده وأمره { بِالْحَقِّ } حال أي نزله ملتبساً بالحكمة { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النحل : 102] ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا والحكمة لأنه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ، حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب { وَهُدًى وَبُشْرَى } [البقرة : 97] مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة { لِلْمُسْلِمِينَ } وفيه تعريضا بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } [النحل : 103] أرادوا به غلاماً كان لحويطب قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب أو هو جبر غلام رومي لعامر بن الحضرمي أو عبدان : جبر ، ويسار كانا يقرآن التوراة والإنجيل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسمع ما يقرآن أو سلمان الفارسي { لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ } [النحل : 103] وبفتح الياء والحاء حمزة وعلي { أَعْجَمِىٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ } [النحل : 103] أي لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة رداً لقولهم وإبطالاً لطعنهم وهذه الجملة أعني لسان الذي يلحدون إليه أعجمي لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم واللسان اللغة ويقال : ألحد القبر ولحده وهو ملحد وملحود
433
إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا : ألحد فلان في قوله وألحد في دينه ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها
جزء : 2 رقم الصفحة : 433
(2/249)
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [النحل : 104] أي القرآن { لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ } [النحل : 104] ما داموا مختارين الكفر { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] في الآخرة على كفرهم { إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ } [النحل : 105] على الله { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [النحل : 104] أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقاباً عليه وهو رد لقولهم إنما أنت مفتر { وَأُوالَـائكَ } إشارة إلى الذين لايؤمنون أي وأولئك { هُمُ الْكَـاذِبُونَ } [النحل : 105] على الحقيقة الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب أو وأولئك هم الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر جوزوا أن يكون { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَـاـنِهِ } [النحل : 106] شرطاً مبتدأ وحذف جوابه لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل من كفر بالله فعليهم غضب { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَـاـاِنُّ بِالايمَـانِ } [النحل : 106] ساكن به { وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } [النحل : 106] أي طاب به نفساً واعتقده { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل : 106] وأن يكون بدلاً من الذين لا يؤمنون بآيات الله على أن يجعل وأولئك هم الكاذبون اعتراضاً بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون أو من خبر الذي هو الكاذبون أي أولئك هم من كفر بالله من بعد ايمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الإفتراء ثم قال : ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله وأن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو أولئك أي ومن كفر بالله من بعد إيمانه وأن ينتصب على الذم روى أنَّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة
434
الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار وأما أبواه ياسر وسمية فقد قتلا وهما أول قتيلين في الإسلام فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن عماراً كفر فقال : " كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنة إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه " فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح عينيه وقال : " مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " وما فعل أبو عمار أفضل لأن في الصبر على القتل إعزازاً للإسلام
جزء : 2 رقم الصفحة : 434
{ ذَالِكَ } إشارة إلى الوعيد وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم { بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا } [النحل : 107] آثروا { ذَالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَواةَ } [النحل : 107] أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة { وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ } [النحل : 107] ما داموا مختارين للكفر { أؤلئك الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ } [النحل : 108] فلا يتدبرون ولا يصغون إلى المواعظ ولا يبصرون طريق الرشاد { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْغَـافِلُونَ } [النحل : 108] أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها { لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرُونَ * ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ } ثم يدل على تباعد حال هؤلاء من حال
435
أولئك { لِلَّذِينَ هَاجَرُوا } [النحل : 110] من مكة أي أنه لهم لا عليهم يعني أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا } [النحل : 110] بالعذاب والإكراه على الكفر فَتنوا شامي أي بعد ما عذبوا المؤمنين ثم أسلموا { ثُمَّ جَـاهَدُوا } [النحل : 110] المشركين بعد الهجرة { وَصَبَرُوا } على الجهاد { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [الأعراف : 153] من بعد هذه الأفعال وهي الهجرة والجهاد والصبر { لَغَفُورٌ } لهم لما كان منهم من التكلم بكلمة الكفر تقية { رَّحِيمٌ } لا يعذبهم على ما قالوا في حالة الإكراه
جزء : 2 رقم الصفحة : 435
(2/250)
{ يَوْمَ تَأْتِى } [الدخان : 10] منصوب برحيم أو باذكر { كُلُّ نَفْسٍ تُجَـادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [النحل : 111] وإنما أضيفت النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌّ يقول نفسي نفسي ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم : { هؤلاء أَضَلُّونَا } [الأعراف : 38].
ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية والله ربنا ما كنا مشركين { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } [النحل : 111] تعطى جزاء عملها وافياً { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] في ذلك { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً } [النحل : 112] أي جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته فيجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه جالها فضربها الله مثلاً لمكة إنذراً من مثل عاقبتها { كَانَتْ ءَامِنَةً } [النحل : 112] من القتل والسبى { مُّطْمَـاـاِنَّةً } لا يزعجها خوف لأن الطمأنينة مع الأمن والانزعاج والقلق مع الخوف { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } [النحل : 112] واسعاً { مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [النحل : 112] من كل بلد { فَكَفَرَتْ } أهلها { بِأَنْعُمِ اللَّهِ } [النحل : 112] جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل : 112]
436
الإذاقة واللباس استعارتان والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ووجه صحة ذلك أن الإذاقة جارية عندهم مجري الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف
جزء : 2 رقم الصفحة : 436
{ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } [النحل : 113] أي محمد صلى الله عليه وسلّم { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَـالِمُونَ } [النحل : 113] أي في حال التباسهم بالظلم قالوا إنه القتل بالسيف يوم بدر روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجه إلى أهل مكة في سني القحط بطعام ففرق فيها فقال : " الله لهم بعد أن أذاقهم الجوع " { فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [النحل : 114] على يدي محمد صلى الله عليه وسلّم { حَلَـالا طَيِّبًا } [المائدة : 88] بدلاً عما كنتم تأكلونه حرماً خبيثاً من الأموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب { وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [النحل : 114] تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة لأنها شفعاؤكم عنده ثم عدد عليهم محرمات الله ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم فقال : { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 115] إنما للحصر أي المحرم هذا دون البحيرة وأخواتها وباقي الآية قد مر تفسيره { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ } [النحل : 116] هو منصوب بلا تقولوا أي
437
ولا وتقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم :
جزء : 2 رقم الصفحة : 437
(2/251)
{ مَا فِى بُطُونِ هَـاذِهِ الانْعَـامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [الأنعام : 139] من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي أو إلى القياس المستنبط منه واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما أحل الله هو حرام وقوله { هَـاذَا حَلَـالٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ } [النحل : 116] بدل من الكذب ولك أن تنصب الكذب يتصف وتجعل ما مصدرية وتعلق هذا حلال وهذا حرام بلا تقولوا أي و لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وهذا لوصف ألسنتكم الكذب أي ولا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم لا لأجل حجة وبينة ولكن قول ساذج ودعوى بلا برهان وقوله تصف ألسنتكم الكذب من فصيح الكلام جعل قولهم كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولك وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر واللام في { لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [النحل : 116] من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ } [يونس : 69]
جزء : 2 رقم الصفحة : 437
{ مَتَـاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النحل : 117] هو خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعذابها عظيم { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } [النحل : 118] في سورة الأنعام يعني { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [الأنعام : 146] الآية { وَمَا ظَلَمْنَـاهُمْ } [هود : 101] بالتحريم { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّواءَ بِجَهَـالَةٍ } [النحل : 119] في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ومرادهم لذة الهوى لا عصيان المولى { ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَالِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [النحل : 119] من بعد التوبة { لَغَفُورٌ } بتكفير ما كثروا قبل من الجرائم { رَّحِيمٌ } بتوثيق ما وثقوا بعد من
438
العزائم
جزء : 2 رقم الصفحة : 438
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل : 120] إنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله :
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار أو كان أمة بمعنى مأموم يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير { قَانِتًا لِّلَّهِ } [النحل : 120] هو القائم بما أمره الله وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن معاذاً كان أمة قانتاً لله فقيل له : إنما هو إبراهيم عليه السلام قال الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله ورسوله وكان معاذ كذلك وقال عمر رضي الله عنه لو كان معاذ حياً لاستخلفته فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " أبو عبيدة أمين هذه الأمة ، ومعاذ أمة لله قانت لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون " { حَنِيفًا } مائلاً عن الأديان إلى ملة الإسلام { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] نفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش لزعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم وحذف النون للتشبيه بحروف اللين { شَاكِرًا لانْعُمِهِ } [النحل : 121] روى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجْتَبَـاهُ } اختصه واصطفاه للنبوة { وَهَدَاـاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل : 121] إلى ملة الإسلام { وَءَاتَيْنَـاهُ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } [النحل : 122] نبوة وأموالاً وأولاداً أو تنويه الله بذكره فكل أهل دين يتولونه أو قول المصلى منا كما صليت على إبراهيم { وَإِنَّهُ فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [البقرة : 130] لمن أهل الجنة ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكين } في
439
ثم تعظيم منزلة نبينا عليه السلام وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته
(2/252)
جزء : 2 رقم الصفحة : 439
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } [النحل : 124] أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النحل : 124] روى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ } [النحل : 125] إلى الإسلام { بِالْحِكْمَةِ } بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } [النحل : 125] وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها أو بالقرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة أو الحكمة المعرفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن يخلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة { وَجَـادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [النحل : 125] بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة أو بما يوقظ القلوب ويعظ النفوس ويجلو العقول وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 440
النحل : 125] أي هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } [النحل : 126] سمى الفعل الأول عقوبة
440
والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها فالثانية ليست بسيئة والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أونحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد وبقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم فرأى النبي عليه السلام حمزة مبقور البطن فقال : " أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك " فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراد ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور { وَلَـاـاِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّـابِرِينَ } [النحل : 126] الضمير في لهو يرجع إلى مصدر صبرتم والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم
جزء : 2 رقم الصفحة : 440
{ وَاصْبِرْ } أنت فعزم عليه بالصبر { وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } [النحل : 127] أي بتوفيقه وتثبيته { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [الحجر : 88] على الكفار أن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين وما فعل بهم الكفار فإنهم وصلوا إلى مطلوبهم { وَلا تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [النحل : 127] ضِيق مكي والضيق تخفيف الضيق أي في أمر ضيق ويجوز أن يكونا مصدرين كالقيل والقول والمعنى ولا يضيقن صدرك من مكرهم فإنه لا ينفذ عليك { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [النحل : 128] أي هو ولي الذين اجتنبوا السيئات وولي العاملين بالطاعات قيل من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان الله معه في أحواله.
ومعيته نصرته في المأمور وعصمته في المحظور.
441(2/253)
سورة الإسراء
مكية : وهي مائة وعشر آيات بصرى
وإحدى عشرة آية كوفي وشامي
{ سُبْحَـانَ } تنزيه الله عن السوء وهو علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه بفعل مضمر متروك إِظهاره تقديره أسبح الله سبحان ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ { الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ } [الإسراء : 1] محمد صلى الله عليه وسلّم وسرى وأسرى لغتان { لَيْلا } نصب على الظرف وقيده بالليل والإسراء لا يكون إلا بالليل للتأكيد أو ليدل بلفظ التنكير على تقرير مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الإسراء : 1] قيل أسرى به من دار أم هانىء بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحرم كله مسجد وقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر ، فقد قال عليه السلام : " بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق وقد عرج بي إلى السماء في تلك الليلة " وكان العروج به من بيت المقدس وقد أخبر قريشاً عن عيرهم وعدد جمالها
442
وأحوالها وأخبرهم أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء عليهم السلام وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة وكان في اليقظة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : والله ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولكن عرج بروحه.
وعن معاوية مثله وعلى الأول الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم { إِلَى الْمَسْجِدِ } هو بيت المقدس لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد { الاقْصَا الَّذِى بَـارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء : 1] يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء عليهم السلام ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة { لِنُرِيَهُ } أي محمداً عليه السلام { مِّنَ الْمَسْجِدِ } [الإسراء : 1] الدالة على وحدانية الله وصدق نبوته برؤيته السماوات وما فيها من الآيات { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } [الإسراء : 1] للأقوال { الْبَصِيرُ } بالأفعال ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم فقيل أسرى ثم باركنا ثم إنه هو وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة
جزء : 2 رقم الصفحة : 442
{ وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَجَعَلْنَـاهُ } [الإسراء : 2] أي الكتاب وهو التوراة { هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا } [الإسراء : 2] أي لا تتخذوا وبالياء أبو عمرو أي لئلا يتخذوا { مِن دُونِى وَكِيلا } [الإسراء : 2] رباً تكلون إليه أموركم { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [الإسراء : 3] نصب على الاختصاص أو على النداء فيمن قرأ لا تتخذوا بالتاء على النهي أي قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح { أَنَّهُ } إن نوحاً عليه السلام { كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [الإسراء : 3] في السراء والضراء والشكر مقابلة النعمة بالثناء على المنعم وروى أنه كان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا قال الحمد لله وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم وآية رشد الأبناء صحة الاقتداء بسنة الآباء وقد عرفتم حال الآباء هنالك فكونوا أيها الأبناء كذلك { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الارْضِ } وأوحينا إليهم
443
وحياً مقضياً أي مقطوعاً مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة.
والكتاب التوراة ولتفسدن جواب محذوف أو جرى القضاء المبتوت مجرى القسم فيكون لتفسدن جواباً له كأنه قال وأقسمنا لتفسدن في الأرض { مَّرَّتَيْنِ } أولاهما قتل زكرياء عليه السلام وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله والأخرى قتل يحيى بن زكرياء عليهما السلام وقصد قتل عيسى عليه السلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } [الإسراء : 4] ولتستكبرن عن طاعة الله من قوله { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِى الارْضِ } [القصص : 4] والمراد به البغي والظلم وغلبة المفسدين على المصلحين
جزء : 2 رقم الصفحة : 443(2/254)
{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا } [الإسراء : 5] أي وعد الله عقاب أولاهما { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ } [الإسراء : 5] سلطنا عليكم { عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } [الإسراء : 5] أشداء في القتال يعني سنجاريب وجنوده أو بختنصر أو جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفاً { فَجَاسُوا خِلَـالَ الدِّيَارِ } [الإسراء : 5] ترددوا للغارة فيها قال الزجاج : الجوس طلب الشيء بالاستقصاء { وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولا } [الإسراء : 5] وكان وعد العقاب وعداً لا بد أن يفعل { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ } [الإسراء : 6] أي الدولة والغلبة { عَلَيْهِمْ } على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو قيل هي قتل بختنصَّر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم وقيل أعدنا لكم الدولة بملك طالوت وقتل داود جالوت { وَأَمْدَدْنَـاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } [الإسراء : 6] مما كنتم وهو تمييز جمع نفر وهو من ينفر مع الرجل من قومه { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لانفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء : 7] قيل اللام بمعنى على كقوله : { وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة : 286] والصحيح أنها على بابها لأن اللام للاختصاص والعامل مختص بجزاء عمله ، حسنة كانت أو سيئة يعني أن الإحسان والإساءة كلاهما
444
مختص بأنفسكم لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم وعن علي رضي الله عنه ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخِرَةِ } [الإسراء : 104] وعد المرة الآخرة بعثناهم أي هؤلاء { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } [البقرة : 150] وحذف لدلالة ذكره أولاً عليه أي ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها كقوله { سِيائَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الملك : 27].
ليسوء شامي وحمزة وأبو بكر والضمير لله عز وجل أو للوعد أو للبعث.
لنسوء علي { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } [الإسراء : 7] بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } [الإسراء : 7] ما علوا مفعول ليتبروا أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه أو بمعنى مدة علوهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 444
{ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } [الإسراء : 8] بعد المرة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي { وَإِنْ عُدتُّمْ } [الإسراء : 8] مرة ثالثة { عُدْنَا } إلى عقوبتكم وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما سلط عليهم المؤمنون إلى يوم القيامة { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ حَصِيرًا } [الإسراء : 8] محبساً يقال للسجن محصر وحصير { إِنَّ هَـاذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء : 9] للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدها وهي توحيد الله والإيمان برسله والعمل بطاعته أو للملة أو للطريقة { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَـاتِ } [الإسراء : 9] ويَبْشر حمزة وعلى { أَنَّ لَهُمْ } [الكهف : 2] بأن لهم { أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء : 9] أي الجنة { وَأَنَّ الَّذِينَ } [محمد : 3] وبأن الذين { لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ أَعْتَدْنَا } [الإسراء : 10] أي أعددنا قلبت تاء { لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 445
النساء : 18] يعني النار والآية ترد القول بالمنزلة بين المنزلتين حيث ذكر المؤمنين وجزاءهم والكافرين وجزاءهم ولم يذكر الفسقة { وَيَدْعُ الانسَـانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ } [الإسراء : 11] أي ويدعو الله عند غضبه بالشر على
445
(2/255)
نفسه وأهله وماله وولده كما يدعو لهم بالخير أو يطلب النفع العاجل وإن قل بالضرر الآجل وإن جل { وَكَانَ الانسَـانُ عَجُولا } [الإسراء : 11] يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله لا يتأنى فيه تأني المتبصر أو أريد بالإنسان الكافر وأنه يدعوه بالعذاب استهزاء ويستعجل به كما يدعو بالخير إذا مسته الشدة وكان الإنسان عجولاً يعني أن العذاب آتيه لا محالة فما هذا الاستعجال وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو النضر بن الحارث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك.
الآية فأجيب فضربت عنقه صبراً وسقوط الواو من يدع في الخط على موافقة اللفظ { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء : 12] أي الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود أي فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة أو جعلنا نيري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم نخلق له شعاعاً كشعاع الشمس فترى الأشياء به رؤية بينة وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء { لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } [الإسراء : 12] لتتوصلوا ببياض النهار إلى التصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُوا } باختلاف الجديدين { عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } [يونس : 5] يعني حساب الآجال ومواسم الأعمال ولو كانا مثلين لما عرف الليل من النهار ولا استراح حراص المكتسبين والتجار { وَكُلَّ شَىْءٍ } [يس : 12] مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم { فَصَّلْنَـاهُ تَفْصِيلا } [الإسراء : 12] بيناه بياناً غير ملتبس فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا { وَكُلَّ إِنسَـانٍ أَلْزَمْنَـاهُ طَـائرَهُ } [الإسراء : 13] عمله { فِى عُنُقِهِ } [الإسراء : 13] يعني أن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل للعنق لا يفك عنه { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ } [الإسراء : 13] هو صفة لكتاباً.
يُلقَّاه شامي { مَنشُورًا } حال من يلقاه يعني غير مطوي ليمكنه قراءته أو هما صفتان للكتاب ونقول له { اقْرَأْ كِتَـابَكَ } [الإسراء : 14] أي كتاب أعمالك وكلٌّ يُبعث قارئاً
446
{ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ } [الإسراء : 14] الباء زائدة أي كفى نفسك { حَسِيبًا } تمييز وهو بمعنى حاسب وعلى متعلق به من قولك حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي.
وضع موضع الشهيد فعدى بعلى لأن الشاهد يكفي المدعى ما أهمه وإنما ذكر حسيباً لأنه بمنزلة الشهيد والقاضي والأمير إذا الغالب أن يتولى هذه الأمور الرجال فكأنه قيل كفى نفسك رجلاً حسيباً أو تؤوّل النفس بالشخص
جزء : 2 رقم الصفحة : 445
(2/256)
{ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [الإسراء : 15] أي فلها ثواب الاهتداء وعليها وبال الضلال { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] أي كل نفس حاملة وزراً فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } وما صح منا أن نعذب قوماً عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نرسل إليهم رسولا يلزمهم الحجة { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً } [الإسراء : 16] أي أهل قرية { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [الإسراء : 16] متنعميها وجبابرتها بالطاعة عن أبي عمرو والزجاج { فَفَسَقُوا فِيهَا } [الإسراء : 16] أي خرجوا عن الأمر كقولك أمرته فعصى أو أمرنا كثرنا ، دليله قراءة يعقوب أمرنا ومنه الحديث " خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة " أي كثيرة النسل { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } [الإسراء : 16] فوجب عليها الوعيد { فَدَمَّرْنَـاهَا تَدْمِيرًا } [الإسراء : 16] فأهلكناها إهلاكاً { وَكَمْ } مفعول { أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ } [الإسراء : 17] بيان لكم { مِن بَعْدِ نُوحٍ } [الإسراء : 17] يعني عاداً وثمود وغيرهما { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا } [الإسراء : 17] وإن أخفوها في الصدور { بَصِيرًا } وإن أرخوا عليها الستور { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ } [الإسراء : 18] لا ما يشاء { لِمَن نُّرِيدُ } [الإسراء : 18] بدل من له بإعادة الجار وهو بدل البعض من الكل إذ الضمير يرجع إلى
447
من أي من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد فقيد المعجل بمشيئته والمعجل له بإرادته وهكذا الحال ترى كثيراً من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه وكثيراً منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة وأما المؤمن التقى فقد اختار غنى الآخرة فإن أوتي حظاً من الدنيا فبها وإلا فربما كان الفقر خيراً له { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } [الإسراء : 18] في الآخرة { يَصْلَـاـاهَآ } يدخلها { مَذْمُومًا } ممقوتاً { مَّدْحُورًا } مطروداً من رحمة الله
جزء : 2 رقم الصفحة : 447
{ وَمَنْ أَرَادَ الاخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } [الإسراء : 19] هو مفعول به أو حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] مصدق لله في وعده ووعيده { فَأُوالَـائكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [الإسراء : 19] مقبولاً عند الله مثاباً عليه عن بعض السلف من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله : إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا الآية فإنه شرط فيها ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً إرادة الآخرة والسعي فيما كلف والإيمان الثابت { كَلا } كل واحد من الفريقين والتنوين عوض عن المضاف إليه وهو منصوب بقوله { نُّمِدُّ هؤلاء } [الإسراء : 20] بدل من كل أي نمد هؤلاء { وَهَـاؤُلاءِ } أي من أراد العاجلة ومن أراد الآخرة { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } [الإسراء : 20] رزقه ومن تتعلق بنمد والعطاء اسم للمعطي أي نزيدهم من عطائنا ونجعل الآنف منه مدداً للسالف لا نقطعه فنرزق المطيع والعاصي جميعاً على وجه التفضل { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء : 20] ممنوعاً عن عباده وإن عصوا { أَنظُرْ } بعين الاعتبار { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [الإسراء : 21] في المال والجاه والسعة والكمال { وَلَلاخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَـاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [الإسراء : 21] روى أن قوماً من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضي الله عنه فخرج الإذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو : إنما أتينا من قبلنا.
إنهم دعوا ودعينا يعني إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب فكيف التفاوت في الآخرة ولئن
448
جزء : 2 رقم الصفحة : 448
(2/257)
حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [الإسراء : 22] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمراد به أمته { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولا } [الإسراء : 22] فتصير جامعاً على نفسك الذم والخذلان وقيل مشتوماً بالإهانة محروماً عن الإعانة إذ الخذلان ضد النصر والعون.
دليله قوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده.
حيث ذكر الخذلان بمقابلة النصر { وَقَضَى رَبُّكَ } [الإسراء : 23] وأمر أمراً مقطوعاً به { أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف : 40] أن مفسرة ولا تعبدوا نهى أو بأن لا تعبدوا { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } [الإسراء : 23] وأحسنوا بالوالدين إحساناً أو أن تحسنوا بالوالدين إحساناً { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } [الإسراء : 23] إما هي أن الشرطية زيد عليها ما تأكيداً لها ولذا دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت إن لم يصح دخولها لا تقول إن تكرمن زيداً يكرمك ولكن إما تكرمنه { أَحَدُهُمَآ } فاعل يبلغن وهو في قراءة حمزة وعليّ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين { أَوْ كِلاهُمَا } [الإسراء : 23] عطف على أحدهما فاعلاً وبدلاً { فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [الإسراء : 23] مدني وحفص.
أفَّ مكي وشامي.
أفُّ غيرهم وهو صوت يدل على تضجر فالكسر على أصل التقاء الساكنين والفتح للتخفيف والتنوين لإرادة التنكير أي أتضجر تضجراً وتركه لقصد التعريف أي أتضجر التضجر المعلوم { وَلا تَنْهَرْهُمَا } [الإسراء : 23] ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك والنهي والنهر أخوان { وَقُل لَّهُمَا } [الإسراء : 23] بدل التأفيف والنهر { قَوْلا كَرِيمًا } [الإسراء : 23] جميلاً ليناً كما يقتضيه حسنِ الأدب أو هو أن يقول يا أبتاه يا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء ولا بأس به في غير وجهه كما قالت عائشة رضي الله عنها : نحلني أبو بكر كذا ، وفائدة عندك إنهما إذا صارا كلاً على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه فهو مأمور بأن يستعمل معهما لين الخلق حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أف فضلاً
449
عما يزيد عليه ، ولقد بالغ سبحانه في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يصبر الإنسان معها
جزء : 2 رقم الصفحة : 448
(2/258)
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } [الإسراء : 24] أي اخفض لهما جناحك كما قال واخفض جناحك للمؤمنين فأضافه إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل { مِنَ الرَّحْمَةِ } [الإسراء : 24] من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس وقال الزجاج وألن جانبك متذللاً لهما من مبالغتك في الرحمة لهما { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } [الإسراء : 24] ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك والمراد بالخطاب غيره عليه السلام والدعاء مختص بالأبوين المسلمين وقيل إذا كانا كافرين له أن يسترحم لهما بشرط الإيمان وأن يدعو الله لهما بالهداية وعن النبي صلى الله عليه وسلّم : " رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما " .
وروى يفعل البار ما شاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وعنه عليه السلام : " إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين } { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ } [الإسراء : 25] بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين ومن النشاط والكرامة في خدمتهما { إِن تَكُونُوا صَـالِحِينَ } [الإسراء : 25] قاصدين الصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب وعند حرج الصدر هنة تؤدي إلى أذاهما ثم أبتم إلى الله واستغفرتم منها { فَإِنَّهُ كَانَ لِلاوَّابِينَ غَفُورًا } [الإسراء : 25] الأواب الذي إذا أذنب بادر إلى التوبة فجاز أن يكون هذا عاماً لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها ويندرج تحته الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره
450
جزء : 2 رقم الصفحة : 450
{ وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى } [الإسراء : 26] منك { حَقَّهُ } أي النفقة إذا كانوا محارم فقراء { وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] أي وآت هؤلاء حقهم من الزكاة { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [الإسراء : 26]ولا تسرف إسرافاً قيل التبذير تفريق المال في غير الحل والمحل فعن مجاهد لو أنفق مداً في باطل كان تبذيراً وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه : لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَـاطِينِ } [الإسراء : 27] أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمة لأنه لا شر من الشيطان أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف { وَكَانَ الشَّيْطَـانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } [الإسراء : 27] فما ينبغي أن يطاع فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } [الإسراء : 28] وإن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الرد { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلا مَّيْسُورًا } [الإسراء : 28] أي وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم رداً جميلاً فوضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء والابتغاء مسبباً عنه فوضع المسبب موضع السبب يقال يسر الأمر وعسر مثل سعد الرجل ونحس فهو مفعول وقيل معناه : فقل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم كأن معناه قولاً ذا ميسور وهو اليسر أي دعاء فيه يسر وابتغاء مفعول له أو مصدر في موضع الحال وترجوها حال أيضا { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [الإسراء : 29] كل نصب على المصدر لإضافته إليه وهذا تمثيل لمنع الشحيح وإعطاء المسرف أمر باقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير { فَتَقْعُدَ مَلُومًا } [الإسراء : 29] فتصير ملوماً عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده وعند الناس يقول الفقير : أعطى فلاناً وحرمني ويقول الغني : ما يحسن
451
(2/259)
تدبير أمر المعيشة وعند نفسك إذا احتجت فندمت على ما فعلت { مَّحْسُورًا } منقطعاً بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا أثر فيه أثراً بليغاً أو عارياً من حسر رأسه وقد خاطرت مسلمة ضرتها اليهودية في أنه يعني محمداً عليه السلام أجود من موسى عليه السلام فبعثت ابنتها تسأله قميصه الذي عليه فدفعه وقعد عرياناً فأقيمت الصلاة فلم يخرج للصلاة فنزلت ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يرهقه من الإضافة بأَن ذلك ليس لهوان منك عليه ولا لبخل به عليك ولكن لأن بسط الأرزاق وقدرها مفوض إلى الله تعالى فقال :
جزء : 2 رقم الصفحة : 451
{ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ } [الإسراء : 30] فليس البسط إليك { وَيَقْدِرُ } أي هو يضيق فلا لوم عليك { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرَا } [الإسراء : 30] بمصالحهم فيمضيها { بَصِيرًا } بحوائجهم فيقضيها { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ } [الإسراء : 31] قتلهم أولادهم وأدهم بناتهم { خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ } [الإسراء : 31] فقر { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } [الإسراء : 31] نهاهم عن ذلك وضمن أرزاقهم { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْـاًا كَبِيرًا } [الإسراء : 31] إثماً عظيماً يقال : خطىء خطأ كأثم إثماً.
خطأ شامي وهو ضد الصواب اسم من أخطأ وقيل هو والخطء كالحذر والحذر خطاء بالمد والكسر مكي { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [الإسراء : 32] القصر فيه أكثر والمدلغة وقد قرئ به وهو نهى عن دواعي الزنا كالمس والقبلة ونحوهما ولو أريد النهي عن نفس الزنا لقال ولا تزنوا { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء : 32] معصية مجاوزة حد الشرع والعقل { وَسَآءَ سَبِيلا } [النساء : 22] وبئس طريقاً طريقه { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] أي بارتكاب ما يبيح الدم { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا } [الإسراء : 33] غير مرتكب ما يبيح الدم { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـانًا } [الإسراء : 33] تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه { فَلا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ } [الإسراء : 33] الضمير للولي أي فلا يقتل غير
452
القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كعادة أهل الجاهلية أو الإسراف المثلة أو الضمير للقاتل الأول فلا تسرف حمزة وعلي على خطاب الولي أو قاتل المظلوم { إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا } [الإسراء : 33] الضمير للولي أي حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك أو للمظلوم أي الله ناصره حيث أوجب القصاص بقتله وينصره في الآخرة بالثواب أو للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه كان منصوراً بإيجاب القصاص على المسرف.
وظاهر الآية يدل على أن القصاص يجري بين الحر والعبد وبين المسلم والذمي لأن أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في الآية لكونها محرمة
جزء : 2 رقم الصفحة : 452
(2/260)
{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [الأنعام : 152] بالخصلة والطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الإسراء : 34] أي ثماني عشرة سنة { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } [الإسراء : 34] بأوامر الله تعالى ونواهيه { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـاُولا } مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به أو إن صاحب العهد كان مسؤولاً { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } [الإسراء : 35] بكسر القاف حمزة وعلي وحفص وهو كل ميزان صغير أو كبير من موازين الدراهم وغيرها وقيل هو القرسطون أي القبان { الْمُسْتَقِيمَ } المعتدل { ذَالِكَ خَيْرٌ } [الأعراف : 26] في الدنيا { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [النساء : 59] عاقبة وهو تفعيل من آل إذا رجع وهو ما يؤول إليه { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإسراء : 36] ولا تتبع ما لم تعلم أي لا تقل رأيت وما رأيت وسمعت وما سمعت وعن ابن الحنفية لا تشهد بالزور وعن ابن عباس لا ترم أحداً بما لا تعلم.
ولا يصح التثبت به لمبطل الاجتهاد لأن ذا نوع من العلم فإن علمتموهن مؤمنات وأقام الشارع غالب الظن مقام العلم وأمر بالعمل به كما في الشهادات ولنا في العمل بخبر الواحد لما ذكرنا { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أؤلئك كَانَ عَنْهُ مَسْـاُولا } أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد لأن
453
أولئك كما يكون إشارة إلى العقلاء يكون إشارة إلى غيرهم كقول جرير :
جزء : 2 رقم الصفحة : 453
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
وعنه في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولاً عنه فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة : 7].
يقال للإنسان لم سمعت ما لم يحل لك سماعه ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه كذا في الكشاف وفيه نظر لبعضهم لأن الجار والمجرور إنما يقومان مقام الفاعل إذا تأخرا عن الفعل فأما إذا تقدما فلا { وَلا تَمْشِ فِى الارْضِ مَرَحًا } [الإسراء : 37] هو حال أي ذا مرح { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الارْضَ } [الإسراء : 37] لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئتك { وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [الإسراء : 37] بتطاولك وهو تهكم بالمختال أو لن تحاذيها قوة وهو حال من الفاعل أو المفعول { كُلُّ ذَالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ } [الإسراء : 38] كوفي وشامي على إضافة سيء إلى ضمير كل.
سيئة غيرهم { عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } [الإسراء : 38] ذكر مكروهاً لأن السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ألا تراك تقول : الزنا سيئة ، كما تقول : السرقة سيئة ، فإن قلت الخصال المذكورة بعضها سييء وبعضها حسن ولذلك قرأ من قرأ سيئه بالإضافة أي ما كان من المذكور سيئاً كان عند الله مكروهاً فما وجه قراءة من قرأ سيئة قلت كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة { ذَالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من قوله : { لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ } [الإسراء : 22] إلى هذه الغاية
454
{ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } [الإسراء : 39] مما يحكم العقل بصحته وتصلح النفس بأسوته { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا } [الإسراء : 39] مطروداً من الرحمة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها : لا تجعل مع الله إلهاً آخر وآخرها مدحوراً ولقد جعلت فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمة وإن بذ فيها الحكماء وحك بيافوخه السماء وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم ثم خاطب الذين قالوا الملائكة بنات الله بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 453
(2/261)
{ أَفَأَصْفَـاـاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ } [الإسراء : 40] الهمزة للإنكار يعني أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون { وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَـائكَةِ إِنَـاثًا } [الإسراء : 40] واتخذ أدونهم وهي البنات وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم فالعبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها ويكون أردؤها وأدونها للسادات { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا } [الإسراء : 40] حيث أضفتم إليه الأولاد وهي من خواص الأجسام ثم فضلتم عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ } [الإسراء : 41] أي التنزيل والمراد ولقد صرفناه أي هذا المعنى في مواضع من التنزيل فترك الضمير لأنه معلوم { لِّيَذْكُرُوا } وبالتخفيف حمزة وعلي أي كررناه ليتعظوا { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا نُفُورًا } [الإسراء : 41] عن الحق وكان الثوري إذ قرأها يقول زادني لك خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً { قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ } [الإسراء : 42] مع الله { كَمَا يَقُولُونَ إِذًا } [الإسراء : 42] وبالياء مكي وحفص { إِذًا ابْتَغَوْا إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا } [الإسراء : 42] يعني لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلاً بالمغالبة
455
كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض أو لتقربوا إليه كقوله : أولئك الذي يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
وإذاً دالة على أن ما بعدها وهو لابتغوا جواب عن مقالة المشركين وجزاء للو
جزء : 2 رقم الصفحة : 455
{ سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يَقُولُونَ } [الإسراء : 43] وبالتاء حمزة وعلي { عَلَوْا } أي تعاليا والمراد البراءة من ذلك والنزاهة { كَبِيرًا } وصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به { تُسَبِّحُ } وبالتاء عراقي غير أبي بكر { لَهُ السَّمَـاوَاتُ السَّبْعُ وَالارْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [الإسراء : 44] أي يقول سبحان الله وبحمده.
عن السدي قال عليه السلام : " ما اصطيد حوت في البحر ولا طائر يطير لا بما يضيع من تسبيح الله تعالى " { وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء : 44] لاختلاف اللغات أو لتعسر الإدراك أو سبب لتسبيح الناظر إليه ، والدال على الخير كفاعله.
والوجه الأول { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا } [الإسراء : 44] عن جهل العباد { غَفُورًا } لذنوب المؤمنين { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا } [الإسراء : 45] ذا ستر أو حجاباً لا يرى فهو مستور { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الأنعام : 25] جمع كنان وهو الذي يستر الشيء { أَن يَفْقَهُوهُ } [الأنعام : 25] كراهة أن يفقهوه { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } [الإسراء : 46] ثقلاً يمنع عن الاستماع { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [الإسراء : 46] يقال : وحد يحد وحداً وحدة نحو وعد يعد وعداً وعدة فهو مصدر سد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحداً { وَلَّوْا عَلَى أَدْبَـارِهِمْ } [الإسراء : 46] رجعوا على أعقابهم { نُفُورًا } مصدر بمعنى التولية أو جمع نافر كقاعد وقعود أي يحبون أن
456
تذكر معه آلهتهم لأنهم مشركون فإذا سمعوا بالتوحيد نفروا
جزء : 2 رقم الصفحة : 456
(2/262)
{ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } [الإسراء : 47] أي نحن أعلم بالحال أو الطريقة التي يستمعون القرآن بها فالقرآن هو المستمع وهو محذوف وبه حال وبيان لما أي يستمعون القرآن هازئين لا جادين والواجب عليهم أن يستمعوه جادين { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [الإسراء : 47] نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } [الإسراء : 47] وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى { إِذْ يَقُولُ الظَّـالِمُونَ } [الإسراء : 47] بدل من إذ هم { إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا } [الإسراء : 47] سحر فجن { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الامْثَالَ } [الإسراء : 48] مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون { فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلا } [الإسراء : 48] أي فضلوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقاً يسلكه فلا يقدر عليه فهو متحير في أمره لا يدري ما يصنع { وَقَالُوا } أي منكرو البعث { أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا وَرُفَـاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } أي مجدداً وخلقاً حال أي مخلوقين { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } أي السماوات والأرض فإنها تكبر عندكم عن قبول الحياة { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ } [الإسراء : 51] يعيدكم { الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الإسراء : 51] والمعنى أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم ويرده إلى حال الحياة بعدما كنتم عظاماً يابسة مع أن العظام بعض أجزاء الحي بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره فليس ببدع أن يردها الله بقدرته إلى الحالة الأولى ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة وهو أن تكونوا حجارة أو حديداً لكان قادراً على أن يردكم إلى حال الحياة { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [الإسراء : 51] فسيحركونها نحوك تعجباً واستهزاءً { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } [الإسراء : 51] أي البعث استبعاداً له ونفياً
457
{ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا } [الإسراء : 51] أي هو قريب وعسى للوجوب
جزء : 2 رقم الصفحة : 457
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } [الإسراء : 52] إلى المحاسبة وهو يوم القيامة { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [الإسراء : 52] أي تجيبون حامدين والباء للحال.
عن سعيد بن جبير ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون سبحانك اللهم وبحمدك { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي لبثاً قليلاً أو زماناً قليلاً في الدنيا أو في القبر { وَقُل لِّعِبَادِى } [الإسراء : 53] وقل للمؤمنين { يَقُولُوا } للمشركين الكلمة { الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [الإسراء : 53] وألين ولا يخاشنوهم وهي أن يقولوا يهديكم الله { إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } [الإسراء : 53] يلقي بينهم الفساد ويغري بعضهم على بعض ليوقع بينهم المشاقة.
والنزغ : إيقاع الشر وإفساد ذات البين وقرأ طلحة : ينزغ بالكسر وهما لغتان { إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلانسَـانِ عَدُوًّا مُّبِينًا } [الإسراء : 53] ظاهر العداوة أو فسر التي هي أحسن بقوله : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } [الإسراء : 54] بالهداية والتوفيق { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } [الإسراء : 54] بالخذلان أي يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر قوله : إن الشيطان ينزع بينهم.
اعتراض { وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا } [الإسراء : 54] حافظاً لأعمالهم وموكولاً إليك أمرهم وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم ومر أصحابك بالمداراة { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الإسراء : 55] وبأحوالهم وبكل ما يستأهل كل واحد منهم { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّـانَ عَلَى بَعْضٍ } [الإسراء : 55] فيه إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقوله : { وَءَاتَيْنَا دَاوُادَ زَبُورًا } [النساء : 163] دلالة على وجه تفضيله وأنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مكتوب في زبور داود قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الارْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّـالِحُونَ } [الأنبياء : 105].
وهم محمد وأمته ولم يعرف الزبور
458
(2/263)
هنا وعرفه في قوله : ولقد كتبنا في الزبور لأنه كالعباس وعباس والفضل وفضل
جزء : 2 رقم الصفحة : 458
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم } [الإسراء : 56] أنها آلهتكم { مِن دُونِهِ } [يس : 23] من دون الله وهم الملائكة أو عيسى وعزير أو نفر من الجن عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا { فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلا } [الإسراء : 56] أي ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر { أؤلئك } مبتدأ { الَّذِينَ يَدْعُونَ } [الأنعام : 52] صفة أي يدعونهم آلهة أو يعبدونهم والخبر { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [الإسراء : 57] يعني أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله عز وجل { أَيُّهُمْ } بدل من واو يبتغون وأي موصولة أي يبتغي من هو { أَقْرَبُ } منهم الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إِلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُا } [الإسراء : 57] كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [الإسراء : 57] حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلا عن غيرهم { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا } [الإسراء : 58] قبل الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة { كَانَ ذَالِكَ فِى الْكِتَـابِ } [الإسراء : 58] في اللوح المحفوظ
جزء : 2 رقم الصفحة : 459
{ مَسْطُورًا } مكتوباً وعن مقاتل وجدت في كتب الضحاك في تفسيرها : أما مكة فيخربها
459
الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف أما خراسان فعذابها ضروب وأما بلخ فتصيبهم هدَّة فيهلك أهلها وأما بدخشان فيخربها أقوام وأما ترمذ فأهلها يموتون بالطاعون وأما صغانيان إلى واشجرد فيقتلون بقتل ذريع وأما سرمقند فيغلب عليها بنو قنطوراء فيقتلون أهلها قتلاً ذريعاً وكذا فرغانة والشاش وأسبيجاب وخوارزم وأما
460
بخارى فهي أرض الجبابرة فيموتون قحطاً وجوعاً وأما مرو فيغلب عليها الرمل ويهلك بها العلماء والعباد وأما هراة فيمطرون بالحيات فتأكلهم أكلاً وأما نيسابور فيصيب أهلها رعد وبرق وظلمة فيهلك أكثرهم وأما الري فيغلب عليها الطبرية والديلم فيقتلونهم وأما أرمينية وأذربيجان فيهلكها سنابك الخيول والجيوش والصواعق والرواجف وأما همذان فالديلم يدلخها ويخربها وأما حلوان فتمر بها ريح ساكنة وهم نيام فيصبح أهلها قردة وخنازير ثم يخرج رجل من جهينة فيدخل مصر فويل لأهلها ولأهل دمشق وويل لأهل إفريقية
461
وويل لأهل الرملة ولا يدخل بيت المقدس وأما سجستان فيصيبهم ريح عاصف أياماً ثم هدة تأتيهم ويموت فيها العلماء وأما كرمان وأصبهان وفارس فيأتيهم عدو وصاحوا صيحة تنخلع القلوب وتموت الأبدان
جزء : 2 رقم الصفحة : 459
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالايَـاتِ إِلا أَن كَذَّبَ بِهَا الاوَّلُونَ } [الإسراء : 59] استعير المنع لترك إرسال الآيات وأن الأولى مع صلتها في موضع النصب لأنها مفعول ثان لمنعنا وأن الثانية مع صلتها في موضع الرفع لأنها فاعل منعنا والتقدير وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين والمراد الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهباً ومن إحياء الموتى وغير ذلك وسنة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال والمعنى وما منعنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك وعذبوا العذاب المستأصل وقد حكمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح عليه السلام لأن آثار هلاكهم قريبة من حدودهم ببصرها صادرهم وواردهم فقال :
462
(2/264)
{ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ } [الإسراء : 59] باقتراحهم { مُبْصِرَةً } آية بينة { فَظَلَمُوا بِهَا } [الأعراف : 103] فكفروا بها { وَمَا نُرْسِلُ بِالايَـاتِ } [الإسراء : 59] إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها { إِلا تَخْوِيفًا } [الإسراء : 59] من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة له فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفاً وإنذاراً بعذاب الآخرة وهو مفعول له
جزء : 2 رقم الصفحة : 462
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَـاكَ إِلا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [الإسراء : 60] واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش علماً وقدرة فكلهم في قبضته فلا تبال بهم وامض لأمرك وبلغ ما أرسلت به أو بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم وذلك قوله : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر : 45].
{ قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 12].
فجعله كأن قد كان ووجد فقال : أحاط بالناس على سنته في إخباره ولعل الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر : " والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " وهو يومىء إلى الأرض ويقول : " هذا مصرع فلان " فتسامعت قريشاً بما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمر بدر وما أرى في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون ويستعجلون به استهزاء { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ } [الإسراء : 60] أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس فإنهم حين سمعوا بقوله : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم جعلوها سخرية وقالوا : إن محمداً يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول : تنبت فيها الشجرة وما قدروا الله حق قدره إذا قالوا ذلك فإنه لا يمتنع أن يجعل الله الشجرة من جنس لا تأكله الناس فوبر السمندل وهو دويبة ببلاد الترك يتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالماً لا تعمل فيه النار وترى النعامة تبتلع الجمر فلا يضرها وخلق في كل شجرة ناراً فلا تحرقها فجاز أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها والمعنى أن الآيات إنما ترسل تخويفاً للعباد وهؤلاء قد خوفوا بعذاب الدنيا وهو القتل يوم بدر وخوفوا بعذاب الآخرة وبشجرة الزقوم فما أثر فيهم ثم قال : { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي
463
بمخاوف الدنيا والآخرة { فَمَا يَزِيدُهُمْ } [الإسراء : 60] التخويف { إِلا طُغْيَـانًا كَبِيرًا } [الإسراء : 60] فكيف يخاف قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات وقيل الرؤيا هي الإسراء والفتنة ارتداد من استعظم ذلك وبه تعلق من يقول : كان الإسراء في المنام ومن قال كان في اليقظة فسر الرؤيا بالرؤية وإنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له لعلها رؤيا رأيتها استبعاداً منهم كما سمى أشياء بأساميها عند الكفرة كقوله { فَرَاغَ إِلَى ءَالِهَتِهِمْ } [الصافات : 91] { أَيْنَ شُرَكَآءِىَ } [القصص : 62] أو هي رؤيا أنه سيدخل مكة والفتنة الصد بالحديبية فإن قلت : ليس في القرآن ذكر لعن شجرة الزقوم قلت معناه : والشجر الملعون آكلها وهم الكفرة لأنه قال { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لاكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِـاُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } فوصفت بلعن أهلها على المجاز ولأن العرب تقول لكل طعام مكروه ضار ملعون ولأن اللعن هو الإبعاد من الرحمة وهي في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة
جزء : 2 رقم الصفحة : 463
(2/265)
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـائِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 34] هو تمييز أو حال من الموصول والعامل فيه أأسجد على أأسجد له وهو طين أي أصله طين { قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِى } [الإسراء : 62] الكاف لا موضع لها لأنها ذكرت للخطاب تأكيداً هذا مفعول به والمعنى أخبرني عن هذا الذي { كَرَّمْتَ عَلَىَّ } [الإسراء : 62] أي فضلته ، لم كرمته علي وأنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فحذف ذلك اختصاراً لدلالة ما تقدم عليه ثم ابتدأ فقال : { لَـاـاِنْ أَخَّرْتَنِ } [الإسراء : 62] وبلا ياء كوفي وشامي واللام موطئة للقسم المحذوف { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [الإسراء : 62] لأستأصلنهم بإغوائهم { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] وهم المخلصون قيل من كل ألف واحد وإنما علم الملعون ذلك بالإعلام أو لأنه رأى أنه خلق شهواني
464
جزء : 2 رقم الصفحة : 464
{ قَالَ اذْهَبْ } [الإسراء : 63] ليس من الذهاب الذي هو ضد المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً وتخلية ثم عقبه بذكر ما جره سوء اختياره فقال : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ } [الإسراء : 63] والتقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤك ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم وانتصب { جَزَآءً مَّوْفُورًا } [الإسراء : 63] أي موفراً بإضمار تجازون { وَاسْتَفْزِزْ } استزل أو استخف استفزه أي استخفه والفز الخفيف { مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ } [الإسراء : 64] بالوسوسة أو بالغناء أو بالمزمار { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } [الإسراء : 64] اجمع وصح بهم من الجلبة وهو الصياح { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [الإسراء : 64] بكل راكب وماش من أهل العيث فالخيل الخيالة والرجل اسم جمع للراجل ونظيره الركب والصحب ورجلك حفص على أن فعلا بمعنى فاعل كتعب وتاعب ومعناه وجمعك الرِجل وهذا لأن أقصى ما يستطاع في طلب الأمور الخيل والرجل وقيل يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال { وَشَارِكْهُمْ فِى الامْوَالِ وَالاوْلَـادِ } [الإسراء : 64] قال الزجاج : كل معصية في مال وولد فإبليس شريكهم فيها كالربا والمكاسب المحرمة والبحيرة والسائبة والإنفاق في الفسوق والإسراف ومنع الزكاة والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام والتسمية بعبد العزى وعبد شمس { وَعَدَّهُمْ } المواعيد الكاذبة من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلا غُرُورًا } [النساء : 120] هو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب { إِنَّ عِبَادِى } [الحجر : 42] الصالحين { لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ } [الحجر : 42] يد بتبديل الإيمان ولكن بتسويل العصيان { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [الإسراء : 65] لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك أو حافظاً لهم عنك والكل أمر تهديد فيعاقب به أو إهانة أي لا يخل ذلك بملكي { رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى } [الإسراء : 66] يجري ويسير
465
{ لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ } [الإسراء : 66] يعني الربح في التجارة { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [الإسراء : 66]
جزء : 2 رقم الصفحة : 465
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ } [الإسراء : 67] أي خوف الغرق { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } [الإسراء : 67] ذهب عن أوهامكم كل من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده فإنكم لا تذكرون سواه أو ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم
(2/266)
ولكن الله وحده الذي ترجونه على الاستثناء المنقطع { فَلَمَّا نَجَّـاـاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } [الإسراء : 67] عن الإخلاص بعد الخلاص { وَكَانَ الانسَـانُ } [الكهف : 54] أي الكافر { كَفُورًا } للنعم { أَفَأَمِنتُمْ } الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تفديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض { أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } [الإسراء : 68] انتصب جانب بيخسف مفعولاً به كالأرض في قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارْضَ } [القصص : 81] وبكم حال والمعنى أن يخسف جانب البر أي يقلبه وأنتم عليه والحاصل أن الجواب كلها في قدرته سواء وله في كل جانب براً كان أو بحراً سبب من أسباب الهلاك ليس جانب البحر وحده مختصاً به بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر الخسف وهو تغييب تحت التراب والغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } [الإسراء : 68] هي الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء يعني أو أن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } [الإسراء : 68] يصرف ذلك عنكم { أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ } [الإسراء : 69] أي أم أمنتم أن يقوى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم فينتقم منكم بأن يرسل عليكم { قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ } [الإسراء : 69] وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد أو هو الكاسر للفلك { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } [الإسراء : 69] بكفرانكم النعمة وهو
466
إعراضكم حين نجاكم { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } [الإسراء : 69] مطالباً من قوله : { فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 178] أي مطالبة والمعنى إنا نفعل ما نفعل بهم ثم لا تجدوا أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للثأر من جهتنا وهذا نحو قوله : { وَلا يَخَافُ عُقْبَـاهَا } [الشمس : 15].
أن نخسف أو نرسل أن نعيدكم فنرسل فنغرقكم بالنون مكي وأبو عمرو
جزء : 2 رقم الصفحة : 466
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } [الإسراء : 70] بالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المعتدلة وتدبير أمر المعاش والمعاد والاستيلاء وتسخير الأشياء وتناول الطعام بالأيدي وعن الرشيد أنه أحضر طعاماً فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف رحمه الله تعالى فقال له : جاء في تفسير جدك ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } [الإسراء : 70] جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فأحضرت الملاعق فردها وأكل بأصابعه { وَحَمَلْنَـاهُمْ فِى الْبَرِّ } [الإسراء : 70] على الدواب { وَالْبَحْرِ } على السفن { وَرَزَقْنَـاهُم مِّنَ الطَّيِّبَـاتِ } [يونس : 93] باللذيذات أو بما كسبت أيديهم { وَفَضَّلْنَـاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } [الإسراء : 70] أي على الكل كقوله { وَأَكْثَرُهُمْ كَـاذِبُونَ } [الشعراء : 223].
قال الحسن : أي كلهم وقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا } [يونس : 36] ذكر في الكشاف أن المراد بالأكثر الجميع وعنه عليه السلام : " المؤمن أكرم على الله من الملائكة " وهذا لأنهم مجبولون على الطاعة ففيهم عقل بلا شهوة وفي البهائم شهوة بلا عقل وفي الآدمي كلاهما فمن غلب عقله شهوته فهو أكرم من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم ولأنه خلق الكل لهم وخلقهم لنفسه { يَوْمَ نَدْعُوا } [الإسراء : 71] منصوب باذكر { كُلَّ أُنَاس بِإِمَـامِهِمْ } [الإسراء : 71] الباء للحال والتقدير مختلطين بإمامهم أي بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال : يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا وقيل بكتاب أعمالهم فيقال : يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر { فَمَنْ أُوتِىَ } [الإسراء : 71] من هؤلاء
467
المدعوين { كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوالَـائكَ يَقْرَءُونَ كِتَـابَهُمْ } [الحاقة : 25-71] وإنما قيل أولئك لأن من في معنى الجمع { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء : 49] ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم بشمالهم اكتفاء بقوله :
(2/267)
جزء : 2 رقم الصفحة : 467
{ وَمَن كَانَ فِى هَـاذِهِ } [الإسراء : 72] الدنيا { أَعْمَى فَهُوَ فِى الاخِرَةِ أَعْمَى } [الإسراء : 72] كذلك { وَأَضَلُّ سَبِيلا } [الإسراء : 72] من الأعمى أي أضل طريقاً ، والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة أما في الدنيا فلفقد النظر وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه وقد جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل بدليل عطف وأضل ومن ثم قرأ أبو عمرو الأول ممالاً والثاني مفخماً لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلمة فلم يقبل الإمالة وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف فقبلت الإمالة ، وأمالهما حمزة وعلي وفخمهما الباقون ولما قالت قريش اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك نزل { وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ } [الإسراء : 73] إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والمعنى إن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين { عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [الإسراء : 73] من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا { لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } [الإسراء : 73] لتتقول علينا ما لم نقل يعني ما اقترحوه من تبديل الوعد وعيداً والوعيد وعداً { وَإِذًا اتَّخَذُوكَ خَلِيلا } [الإسراء : 73] أي ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خليلا ولكنت لهم ولياً وخرجت من ولايتي { وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَـاكَ } [الإسراء : 74] ولولا تثبيتنا وعصمتنا { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } [الإسراء : 74] لقاربت أن تميل إلى مكرهم { شيئا قَلِيلا } [الإسراء : 74] ركوناً قليلاً وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت
468
جزء : 2 رقم الصفحة : 468
{ إِذَآ } لو قاربت تركن إليهم أدنى ركنة { إِذًا لاذَقْنَـاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ } [الإسراء : 75] لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين لعظيم ذنبك بشرف منزلتك ونبوتك كما قال : { عَظِيمًا * يَـانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـاحِشَةٍ } الآية.
وأصل الكلام لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات لأن العذاب عذابان عذاب في الممات وهو عذاب القبر وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار والعذاب يوصف بالضعف كقوله : { قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ } [الأعراف : 38] أي مضاعفاً فكأن أصل الكلام لأذقناك عذاباً ضعفاً في الحياة وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات ويجوز أن يراد بضعف الحياة عذاب الحياة الدنيا وبضعف الممات ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار وفي ذكر الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله ولما نزلت كان عليه السلام يقول : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " { ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } [الإسراء : 75] معيناً لك يمنع عذابنا عنك { وَإِن كَادُوا } [الإسراء : 76] أي أهل مكة { لَيَسْتَفِزُّونَكَ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 469
ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم { مِّنَ الارْضِ } [الروم : 25] من أرض مكة { لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ } [الإسراء : 76] لا يبقون { خَلْفَكَ } بعدك أي بعد إخراجك حلافك كوفي غير أبي بكر وشامي بمعناه { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] زماناً قليلاً فإن الله مهلكهم وكان كما قال : فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل أو معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم ولم يخرجوه بل هاجر بأمر ربه وقيل من أرض العرب أو من أرض المدينة { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } [الإسراء : 77] يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم ونصبت نصب المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة { وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا } [الإسراء : 77] تبديلاً
469
(2/268)
{ أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء : 78] لزوالها على هذه الآية جامعة للصلوات الخمس أو لغروبها وعلى هذا يخرج الظهر والعصر { أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ } [الإسراء : 78] هو الظلمة وهو وقت صلاة العشاء { وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } [الإسراء : 78] صلاة الفجر سميت قرآناً وهو القراءة لكونها ركناً كما سميت ركوعاً وسجوداً وهو حجة على الأَصم حيث زعم أن القراءة ليست بركن أو سميت قرآناً لطول قراءتها وهو عطف على الصلاة { إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء : 78] يشهده ملائكة الليل والنهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار أو يشهده الكثير من المصلين في العادة { وَمِنَ الَّيْلِ } [الإنسان : 26] وعليك بعض الليل { فَتَهَجَّدْ } والتهجد ترك الهجود للصلاة ويقال في النوم أيضاً تهجد { بِهِ } بالقرآن { نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء : 79] عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس وضع نافلة موضع تهجداً لأن التهجد عبادة زائدة فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة غنيمة لك أو فريضة عليك خاصة دون غيرك لأنه تطوع لهم
جزء : 2 رقم الصفحة : 469
{ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } [الإسراء : 79] نصب على الظرف أي عسى أن يبعثك يوم القيامة فيقيمك مقاماً محموداً أو ضمن يبعثك معنى يقيمك وهو مقام الشفاعة عند الجمهور ويدل عليه الأخبار أو هو مقام يعطي فيه لواء الحمد { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ } [الإسراء : 80] هو مصدر أي أدخلني القبر إدخالاً مرضياً على طهارة من الزلات { وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ } [الإسراء : 80] أي أخرجني منه عند البعث إخراجاً مرضياً ملقى بالكرامة آمناً من الملامة دليله ذكره على أثر ذكر البعث وقيل نزلت حين أمر بالهجرة يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة أو هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان { وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنكَ سُلْطَـانًا نَّصِيرًا } [الإسراء : 80] حجة تنصرني على من خالفني أو ملكاً وعزاً قوياً ناصراً للإسلام على الكفر مظهراً له عليه { وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ } [الإسراء : 81] الإسلام { وَزَهَقَ } وذهب وهلك { الْبَـاطِلُ } الشرك
470
أو جاء القرآن وهلك الشيطان { إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء : 81] كان مضمحلاً في كل أوان
جزء : 2 رقم الصفحة : 469
{ وَنُنَزِّلُ } وبالتخفيف أبو عمرو { مِنَ الْقُرْءَانِ } [المزمل : 20] من للتبيين { مَا هُوَ شِفَآءٌ } [الإسراء : 82] من أمراض القلوب { وَرَحْمَةً } وتفريج للكروب وتطهير للعيوب وتكفير للذنوب { لِلْمُؤْمِنِينَ } وفي الحديث : " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " { وَلا يَزِيدُ الظَّـالِمِينَ } [الإسراء : 82] الكافين { إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82] ضلالاً لتكذيبهم به وكفرهم { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الانسَـانِ } [الإسراء : 83] بالصحة والسعة { أَعْرَضَ } عن ذكر الله أو أنعمنا بالقرآن أعرض { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا } [الإسراء : 83] تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أي يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره أو أراد الاستكبار لأن ذلك من عادة المستكبرين نأى بالأمالة حمزة وبكسرها عليَّ { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ } [فصلت : 51] الفقر والمرض أو نازلة من النوازل { كَانَ } شديد اليأس من روح الله { وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ } [طه : 135] أي كل أحد { يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } [الإسراء : 84] على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا } [الإسراء : 84] أسد مذهباً وطريقة { وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى } [الإسراء : 85] الجمهور على أنه الروح الذي في الحيوان سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله أي مما استأثر بعلمه وعن أبي هريرة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلّم وما يعلم الروح وقد عجزت الأوائل عن إدراك ماهيته بعد إنفاق الأعمار الطويلة على الخوض فيه والحكمة في ذلك تعجيز
471
جزء : 2 رقم الصفحة : 471
(2/269)
العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له ليدل على أنه عن إدراك خالقه أعجز ولذا رد ما قيل في حده أنه جسم دقيق هوائي في كل جزء من الحيوان وقيل هو خلق عظيم روحاني أعظم من الملك وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو جبريل عليه السلام : نزل به الروح الأمين على قلبك.
وعن الحسن القرآن دليله : وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا.
ولأن به حياة القلوب ومن أمر ربي أي من وحيه وكلامه ليس من كلام البشر وروى أن اليهود بعثت إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عن الكل أو سكت عن الكل فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة فندموا على سؤالهم وقيل كان السؤال عن خلق الروح يعني أهو مخلوق أم لا وقوله : من أمر ربي دليل خلق الروح فكان هذا جواباً { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 85] الخطاب عام.
فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال : " بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً " وقيل هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم قد أويتنا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة : 269] فقيل لهم : إن علم التوراة قليل في جنب علم الله فالقلة والكثرة من الأمور الإضافية فالحكمة التي أوتيها العبد خير كثير في نفسها إلا أنها إذا أضيفت إلى علم الله تعالى فهي قليلة ثم نبه على نعمة الوحي وعزاه بالصبر على أذى الجدال في السؤال بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 471
{ وَلَـاـاِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [الإسراء : 86] لنذهبن جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط واللام الداخلة على إن توطئة للقسم والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف فلم نترك له أثراً { ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا } [الإسراء : 86] أي ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظاً مسطورا
472
جزء : 2 رقم الصفحة : 472
{ إِلا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } [الإسراء : 87] أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك كأن رحمته تتوكل عليه بالرد أو يكون على الاستثناء المنقطع أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه ونزل جواباً لقول النضر : لو نشاء لقلنا مثل هذا { قُل لَّـاـاِنِ اجْتَمَعَتِ الانسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإسراء : 88] معيناً ولا يأتون جواب قسم محذوف ولولا اللام الموطئة لجاز أن يكون جواباً للشرط كقوله :
يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن الشرط وقع ماضياً أي لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه لعجزوا عن الإتيان بمثله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } [الإسراء : 41] رددنا وكررنا { لِلنَّاسِ فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [الإسراء : 89] من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } [الإسراء : 89] جحوداً وإنما جاز فأبى أكثر الناس إلا كفوراً ولم يجز ضربت إلا زيداً لأن أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفوراً ولما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر ولزمتهم بالحجة وغلبوا اقترحوا الآيات فعل المبهوت المحجوج المتحير { وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا } [الإسراء : 90] وبالتخفيف كوفي { مِّنَ الارْضِ } [الروم : 25] أي مكة { يَنابُوعًا } عيناً غزيرة من شأنها أن تنبع بالماء لا تقطع ، يفعول من نبع الماء { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ } [الإسراء : 91] والتشديد هنا مجمع عليه
473
لقوله { الانْهَـارَ خِلَـالَهَا } [الإسراء : 91] وسطها { تَفْجِيرًا }
جزء : 2 رقم الصفحة : 473
(2/270)
{ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا } [الإسراء : 92] بفتح السين مدني وعاصم أي قطعاً يقال أعطني كسفة من هذا الثوب وبسكون السين غيرهما جمع كسفة كسدرة وسدر يعنون قوله إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء { أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَـائكَةِ قَبِيلا } [الإسراء : 92] كفيلاً بما تقول شاهداً بصحته والمعنى أو تأتي بالله قبيلاً وبالملائكة قبلاً كقوله : كنت منه ووالدي برياً أو مقابلاً كالشعير بمعنى المعاشر ونحوه : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.
أو جماعة حالاً من الملائكة { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } [الإسراء : 93] ذهب { أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ } [الإسراء : 93] تصعد إليها { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } [الإسراء : 93] لأجل رقيك { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا } [الإسراء : 93] وبالتخفيف أبو عمرو { كِتَـابًا } أي من السماء فيه تصديقك { نَّقْرَؤُهُ } صفة كتاب { قُلْ } قال مكي وشامي أي قال الرسول { سُبْحَانَ رَبِّى } [الإسراء : 93] تعجب من اقتراحاتهم عليهم { هَلْ كُنتُ اِلا بَشَرًا رَّسُولا } [الإسراء : 93] أي أنا رسول كسائر الرسل بشر مثلهم وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات فليس أمر الآيات إلى إنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها على { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } [الإسراء : 94] يعني أهل مكة ومحل { أَن يُؤْمِنُوا } [الإسراء : 94] نصب بأنه مفعول ثان لمنع { إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } [الإسراء : 94] النبي والقرآن { إِلا أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] فاعل منع والتقدير وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلّم إلا قولهم { أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولا } [الإسراء : 94] أي إلا شبهة تمكنت في صدورهم وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر ، والهمزة في أبعث الله للإنكار وما أنكروه ففي قضية حكمته منكر ثم رد الله عليهم بقوله :
474
جزء : 2 رقم الصفحة : 474
{ قُل لَّوْ كَانَ فِى الارْضِ مَلَـائكَةٌ يَمْشُونَ } [الإسراء : 95] على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه { مُطْمَـاـاِنِّينَ } حال أي ساكنين في الأرض قارين { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولا } [الإسراء : 95] يعلمهم الخير ويهديهم المراشد فأما الإنس فإنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم وبشراً وملكاً حالان من رسولاً { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الرعد : 43] على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم كذبتك وعاندتم.
شهيداً تمييز أو حال { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ } [الإسراء : 30] المنذرين والمنذرين { خَبِيرًا } عالماً بأحوالهم { بَصِيرًا } بأفعالهم فهو مجازيهم وهذه تسلية لرسول الله عليه السلام ووعيد للكفرة { وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } [الإسراء : 97] وبالياء يعقوب وسهل وافقهما أبو عمرو ومدني في الوصل أي من وفقه الله لقبول ما كان من الهدى فهو المهتدي عند الله { وَمَن يُضْلِلِ } [النساء : 88] أي ومن يخذله ولم يعصمه حتى قبل وساوس الشيطان { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } [الإسراء : 97] أي أنصاراً { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } [الإسراء : 97] أي يسحبون عليها كقوله { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } وقيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام كيف يمشون على وجوههم قال : " إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " { عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا } [الإسراء : 97] كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم { مَّأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ } [الإسراء : 97] طفئ لهبها { زِدْنَـاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء : 97] توقدا
475
جزء : 2 رقم الصفحة : 475
(2/271)
{ ذَالِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِنَا وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَـامًا وَرُفَـاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } [الإسراء : 98] أي ذلك العذاب بسبب أنهم كذبوا بالإعادة بعد الإفناء فجعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها ثم يعيدها لا يزالون على ذلك ليزيد في تحسرهم على تكذيبهم البعث { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَـاؤُا بَنِى إِسْرَاءِيلَ } أو لم يعلموا { أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [الإسراء : 99] من الإنس { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ } [الإسراء : 99] وهو الموت أو القيامة { فَأَبَى الظَّـالِمُونَ اِلا كُفُورًا } [الإسراء : 99] جحوداً مع وضوح الدليل { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } [الإسراء : 100] تقديره لو تملكون أنتم لأن لو تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من فعل بعدها فأضمر تملك على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل وهو الواو ضميره منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ فأنتم فاعل الفعل المضمر وتملكون تفسيره وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب وأما ما يقتضيه علم البيان فهو أن أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص وأن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ { خَزَآ ـاِن رَحْمَةِ رَبِّى } [الإسراء : 100] رزقه وسائر نعمه على خلقه { إِذًآ لامْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الانفَاقِ } [الإسراء : 100] أي لبخلتم خشية أن يفنيه الإنفاق { وَكَانَ الانسَـانُ قَتُورًا } [الإسراء : 100] بخيلاً { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَـاتٍ بَيِّنَـاتٍ } [الإسراء : 101] عن ابن عباس رضي الله عنهما هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل وعن الحسن الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور { فَسْـالْ بَنِى } فقلنا له اسأل بني إسرائيل أي سلهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل وقوله { إِذْ } متعلق بقوله المحذوف
476
أي فقلنا له سلهم حين جاءهم { جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّى لاظُنُّكَ يَـامُوسَى مَسْحُورًا } [الإسراء : 101] سحرت فخولط عقلك
جزء : 2 رقم الصفحة : 476
{ قَالَ } أي موسى { لَقَدْ عَلِمْتَ } [الإسراء : 102] يا فرعون { مَآ أَنزَلَ هؤلاء } [الإسراء : 102] الآيات { إِلا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الإسراء : 102] خالقهما { بَصَآ ـاِرَ } حال أبي بينات مكشوفات إلا أنك معاند ونحوه { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل : 14].
علمت بالضم عليّ أي إني لست بمسحور كما وصفتني بل أنا عالم بصحة الأمر وأن هذه الآيات منزلها رب السماوات والأرض ثم قارع ظنه بظنه بقوله : { وَإِنِّى لاظُنُّكَ يَـافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } [الإسراء : 102] كأنه قال : إن ظننتني مسحوراً فأنَا أظنك مثبوراً هالكاً وظني أصح من ظنك لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها وأما ظنك فكذب بحث لأن قولك مع علمك بصحة أمري إني لأظنك مسحوراً قول كذب وقال الفراء : مثبوراً مصروفاً عن الخير من قولهم ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وصرفك { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم } [الإسراء : 103] يخرجهم أي موسى وقومه { مِّنَ الارْضِ } [الروم : 25] أي أرض مصر أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال { فَأَغْرَقْنَـاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا } [الإسراء : 103] فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ } [الإسراء : 104] من بعد فرعون { لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُوا الارْضَ } [الإسراء : 104] التي أراد فرعون أن يستفزكم منها فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرَةِ } أي القيامة
جزء : 2 رقم الصفحة : 477
{ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء : 104] جمعاً مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز بين سعدائكم وأشقيائكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَـاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } [الإسراء : 105] وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة وما نزل إلا
477
(2/272)
ملتبساً بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفظاً بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظاً بهم من تخليط الشياطين.
قال الراوي : اشتكى محمد بن السماك فأخذنا ماءه وذهبنا به إلى طبيب نصراني فاستقبلنا رجل حسن الوجه طيب الرائحة نقي الثوب فقال لنا : إلى أين؟ فقلنا له : إلى فلان الطبيب نريه ماء ابن السماك فقال : سبحان الله تستعينون على ولي الله بعدو الله اضربوه على الأرض وارجعوا إلى ابن السماك وقولوا له ضع يدك على موضع الوجع وقل : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ثم غاب عنا فلم نره فرجعنا إلى ابن السماك فأخبرناه بذلك فوضع يده على موضع الوجع وقال ما قال الرجل وعوفي في الوقت وقال كان ذلك الخضر عليه السلام { وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا مُبَشِّرًا } [الإسراء : 105] بالجنة { وَنَذِيرًا } من النار
جزء : 2 رقم الصفحة : 477
{ وَقُرْءَانًا } منصوب بفعل يفسره { فَرَقْنَـاهُ } أي فصلناه أو فرقنا فيه الحق من الباطل { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } [الإسراء : 106] على تؤدة وتثبت { وَنَزَّلْنَـاهُ تَنزِيلا } [الإسراء : 106] على حسب الحوادث { قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } [الإسراء : 107] أي اختاروا لأنفسكم النعيم المقيم أو العذاب الأليم ثم علل بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } [الإسراء : 107] أي التوراة من قبل القرآن { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [الإسراء : 107] القرآن { يَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ سُجَّدًا } [الإسراء : 107] حال { وَيَقُولُونَ سُبْحَـانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء : 108] لقوله آمنوا به أو لا تؤمنوا أي أعرض عنهم فإنهم إن لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بالقرآن فإن خيراً منهم وهم العلماء الذين قرؤوا الكتب قد آمنوا به وصدقوه فإذا تلى عليهم خروا سجداً وسبحوا الله تعظيماً لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمد
478
صلى الله عليه وسلّم وإنزال القرآن عليه وهو المراد بالوعد المذكور.
إن بمعنى إنه وهي تؤكد الفعل كما أن إن تؤكد الاسم وكما أكدت إن باللام في إنهم لمحضرون أكدت إن باللام في لمفعولا
جزء : 2 رقم الصفحة : 478
{ وَيَخِرُّونَ لِلاذْقَانِ يَبْكُونَ } [الإسراء : 109] ومعنى الخرور للذقن السقوط على الوجه وإنما خص الذقن لأن أقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض عند السجود الذقن يقال : خر على وجهه وعلى ذقنه وخر لوجهه ولذقنه أما معنى على فظاهر وأما معنى اللام فكأنه جعل ذقنه ووجهه للخرور واختصه به إذ اللام للاختصاص وكرر يخرون للأذقان لاختلاف الحالين وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين وخرورهم في حال كونهم باكين { وَيَزِيدُهُمْ } القرآن { خُشُوعًا } لين قلب ورطوبة عين { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـانَ } [الإسراء : 110] لما سمعه أبو جهل يقول يا الله يا رحمن قال : إنه نهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر فنزلت وقيل : إن أهل الكتاب قالوا : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وأو للتخيير أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في { أَيًّا مَّا تَدْعُوا } [الإسراء : 110] عوض من المضاف إليه وما زيدت للتوكيد وأياً نصب بتدعوا وهو مجزوم بأي أي أي هذين الاسمين ذكرتم وسميتم { فَلَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } [الإسراء : 110] والضمير في فله يرجع إلى ذات الله تعالى والفاء لأنه جواب الشرط أي أيَّاماً تدعوا فهو حسن فوضع موضعه قوله : فله الأسماء الحسنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ومعنى كونها أحسن الأسماء إنها مستقلة بمعاني التمجيد والتقديس والتعظيم { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } [الإسراء : 110] بقراءة صلاتك على حذف المضاف لأنه لا يلبس إذ الجهر والمخافتة
479
(2/273)
تعتقبان على الصوت لا غير والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرفع صوته بقراءته فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا فأمر بأن يخفض من صوته والمعنى ولا تجهر حتى تسمع المشركين { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } [الإسراء : 110] حتى لا تسمع من خلفك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَالِكَ } [الإسراء : 110] بين الجهر والمخافتة { سَبِيلا } وسطاً أو معناه ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار أو بصلاتك بدعائك { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } [الإسراء : 111] كما زعمت اليهود والنصارى وبنو مليح { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ } [الإسراء : 111] كما زعم المشركون { وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِىٌّ مِّنَ الذُّلِّ } [الإسراء : 111] أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر أو لم يوال أحداً من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرَا } [الإسراء : 111] وعظمه وصفه بأنه أكبر من أن يكون له ولد أو شريك وسمى النبي عليه السلام الآية آية العز وكان إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية.
480
جزء : 2 رقم الصفحة : 479(2/274)
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية بصري وعشر آيات كوفي(3/10)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ } [الكهف : 1] محمد صلى الله عليه وسلّم { الْكِتَـابُ } القرآن ، لقن الله عباده وفقههم كيف يثنون عليه ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف : 1] أي شيئاً من العرج والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وخروج شيء منه من الحكمة { قَيِّمًا } مستقيماً وانتصابه بمضمر وتقديره ، جعله قيما لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غني عن الآخر التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند التصفح أو قيماً على سائر الكتب مصدقا لها شاهداً بصحتها { لِّيُنذِرَ } أنذر متعد إلى مفعولين كقوله : { إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } [النبأ : 40].
فاقتصر على أحدهما ، وأصله لينذر الذين كفروا { بَأْسًا } عذاباً { شَدِيدًا } وإنما اقتصر على أحد مفعولي أنذر لأن المنذر به هو المسوق إليه فاقتصر عليه { مِّن لَّدُنْهُ } [النساء : 40] صادراً من عنده
11
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَـاتِ أَنَّ لَهُمْ } [الإسراء : 9] أي بأن لهم { أَجْرًا حَسَنًا } [الكهف : 2] أي الجنة ، ويبشر حمزة وعليَّ.
جزء : 3 رقم الصفحة : 11
{ مَّـاكِثِينَ } حال من هم في لهم { فِيهِ } في الأجر وهو الجنة { أَبَدًا } { وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } [الكهف : 4] ذكر المنذرين دون المنذر به بعكس الأول استغناء بتقديم ذكره { مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } [النساء : 157] أي بالولد أو باتخاذه يعني أن قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط فإن قلت : إتخاذ الله ولداً في نفسه محال فكيف قيل ما لهم به من علم قلت معناه ما لهم به من علم لأنه ليس مما يعلم لاستحالته وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه أو لأنه في نفسه محال { وَلا لابَآ ـاِهِمْ } [الكهف : 5] المقلدين { كَبُرَتْ كَلِمَةً } [الكهف : 5] نصب على التمييز وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة والضمير في كبرت يرجع إلى قولهم اتخذ الله ولداً وسميت كلمة كما يسمعون القصيدة بها { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [الكهف : 5] صفة لكلمة تفيد استعظاماً لاجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس من المنكرات لا يتما لكون أن يتفوهوا به بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر { إِن يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا } [الكهف : 5] ما يقولون ذلك إلا كذباً هو صفة لمصدر محذوف أي قولاً كذباً { فَلَعَلَّكَ بَـاخِعٌ نَّفْسَكَ } [الكهف : 6] قاتل نفسك { عَلَى ءَاثَـارِهِمْ } [الكهف : 6] أي آثار الكفار شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على توليهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجداً عليهم وتلهفا على فراقهم { إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَـاذَا الْحَدِيثِ } [الكهف : 6] بالقرآن { أَسَفًا } مفعول لهُ أي لفرط الحزن ، والأسف المبالغة في الحزن والغضب { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا } [الكهف : 7] أي ما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } [الكهف : 7] وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار به
12
ثم زهد في الميل إليها بقوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 12
(3/11)
{ وَإِنَّا لَجَـاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا } [الكهف : 8] من هذه الزينة { صَعِيدًا } أرضاً ملساء { جُرُزًا } يابساً لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة والمعنى نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك ولما ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها وإزالة ذلك كله كأن لم يكن قال : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَـابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ } [الكهف : 9] يعني أن ذلك أعظم من قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة ، والكهف : الغار الواسع في الجبل والرقيم اسم كلبهم أو قريتهم أو اسم كتاب كتب في شأنهم أو اسم الجبل الذي فيه الكهف { كَانُوا مِنْ ءَايَـاتِنَا عَجَبًا } [الكهف : 9] أي كانوا آية عجباً من آياتنا وصفا بالمصدر أو على ذات عجب { إِذْ } أي اذكر إذ { أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } [الكهف : 10] أي رحمة من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا } أي الذي نحن عليه من مفارقة الكفار { رَشَدًا } حتى نكون بسببه راشدين مهتدين أو اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك أسداً أو يسر لنا طريق رضاك { فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ } [الكهف : 11] أي ضربنا عليها حجاباً من النوم يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الاصوات فحذف المفعول الذي هو الحجاب { سِنِينَ عَدَدًا } [الكهف : 11] ذوات عدد فهو صفة لسنين قال الزجاج أي تعد عدداً لكثرتها لأن القليل يعلم مقداره من غير عدد فإذا كثر عد فأما دراهم معدودة فهي على القلة لأنهم كانوا يعدون القليل ويزنون الكثير
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
{ ثُمَّ بَعَثْنَـاهُمْ } [الكهف : 12] أيقظناهم من النوم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ } [الكهف : 12] المختلفين منهم في
13
مدة لبثهم لأنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك وذلك قوله { قَالَ قَآ ـاِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [الكهف : 19] وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول أو أي الحزبين المختلفين من غيرهم { أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } [الكهف : 12] غاية وأحصى فعل ماض وأمدا ظرف لأحصى أو مفعول له والفعل الماضي خبر المبتدأ وهو أي والمتبدأ مع خبره سدمسد مفعولي نعلم والمعنى أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم وأحاط علماً بأمد لبثهم ومن قال : أحصى أفعل من الإحصاء وهو العد فقد زل لأن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وإنما قال : لنعلم مع أنه تعالى لم يزل عالماً بذلك لأن المراد ما تعلق به العلم من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيماناً واعتباراً وليكون لطفاً لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفاره أو المراد لنعلم اختلافهما موجوداً كما علمناه قبل وجوده
جزء : 3 رقم الصفحة : 13
{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ } [الكهف : 13] بالصدق { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } [الكهف : 13] جمع فتى والفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى واجتناب المحارم واستعمال المكارم وقيل الفتى من لا يدعي قبل الفعل ولا يزكي نفسه بعد الفعل { بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَـاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا } [الكهف : 13 ، 14] يقينا وكانوا من خواص دقيانوس قد قذف الله في قلوبهم الإيمان وخاف بعضهم بعضاً وقالوا ليخل اثنان اثنان منا فيظهر كلاهما ما يضمر لصاحبه ففعلوا فحصل اتفاقهم على الإيمان { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } [الكهف : 14] وقويناها بالصبر على هجران الأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام { إِذْ قَامُوا } [الكهف : 14] بين يدي الجبار وهو دقيانوس من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام { فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الكهف : 14] مفتخرين { لَن نَّدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَـاهًا } [الكهف : 14] ولئن سميناهم آلهة { لَّقَدْ قُلْنَآ إِذًا شَطَطًا } [الكهف : 14] قولاً ذا شطط وهو الإفراط في الظلم والإبعاد في من شط يشط ويشط إذا بعد
14
جزء : 3 رقم الصفحة : 14
(3/12)
{ هؤلاء } مبتدأ { قَوْمُنَا } عطف بيان { اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } [الأنبياء : 24] خبر وهو إخبار في معنى الإنكار { لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم } [الكهف : 15] هلا يأتون على عبادتهم فخذف المضاف { بِسُلْطَـان بَيِّنٍ } [الكهف : 15] بحجة ظاهرة وهو تبكيت لأن الإتيان بالسلطان على عبادة الأوثان محال { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام : 144] بنسبة الشريك إليه { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } [الكهف : 16] خطاب من بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } [الكهف : 16] نصب عطف على الضمير أي وإذ عتزلتموهم وإذا اعتزلتم معبوديهم { إِلا اللَّهَ } [النحل : 79] استثناء متصل لأنهم كانوا يقرون بالخالق ويشركون معه غيره كأهل مكة أو منقطع أي وإذ اعتزلتم الكفار والأصنام التي يعبدونها من دون الله أو هو كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } [الكهف : 16] صيروا إليه أو اجعلوا الكهف مأواكم { يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [الكهف : 16] من رزقه { وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا } مَرفقاً مدني وشامي وهو ما يرتفق به أي ينتفع وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم أو أخبرهم به نبي في عصرهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 15
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ } [الكهف : 17] بتخفيت الزاي كوفي ، تزَّور شامي ، تزَّاور غيرهم وأصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها والكل من الزور وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق { عَن كَهْفِهِمْ } [الكهف : 17] أي تميل عنه ولا يقع شعاعها عليهم { ذَاتَ الْيَمِينِ } [الكهف : 17] جهة اليمين وحقيقتها الجهة المسماة باليمين { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } [الكهف : 17] تقطعهم أي تتركهم وتعدل عنهم { ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ } [الكهف : 17] في متسع من الكهف والمعنى أنهم في ظل نهارهم كله لا
15
تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح معرض لإصابة الشمس لولا أن الله يحجبها عنهم وقيل منفسح من غارهم ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم ولا يحسون كرب الغار { ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [الأعراف : 26] أي ما صنعه الله بهم من إزورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة آية من آيات الله يعني أن ما كان في ذلك السمت تصيبه الشمس ولا تصيبهم اختصاصاً لهم بالكرامة وقيل باب الكهف شمالي مستقبل لبنات نعش فهم في مقنأة أبداً ومعنى ذلك من آيات الله أن شأنهم وحديثهم من آيات الله { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } [الكهف : 17] مثل ما مر في سبحان وهو ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له وجوههم فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } [الكهف : 17] أي من أضله فلا هادي له
جزء : 3 رقم الصفحة : 15
{ وَتَحْسَبُهُمْ } بفتح السين شامي وحمزة وعاصم غير الأعشي وهو خطاب لكل أحد { أَيْقَاظًا } جمع يقظ { وَهُمْ رُقُودٌ } [الكهف : 18] نيام قيل عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظاً { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } [الكهف : 18] قيل لهم تقلّبتان في السنة وقيل تقلبة واحدة في يوم عاشوراء { وَكَلْبُهُم بَـاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [الكهف : 18] حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان في معنى المضي { بِالْوَصِيدِ } بالفناء أو بالعتبة { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } [الكهف : 18] لو أشرفت عليهم فنطرت إليهم { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ } [الكهف : 18] لأعرضت عنهم وهربت منهم { فِرَارًا } منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت منهم { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ } [الكهف : 18] ويتشديد اللام حجازي للمبالغة { رُعْبًا } تمييز وبضم العين شامي وعلي وهو الخوف الذي يرعب الصدر أي يملؤه وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة أو لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال : أريد أن أدخل فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لقد قيل لمن هو خير منك لوليت منهم فراراً فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح
16
(3/13)
جزء : 3 رقم الصفحة : 16
{ وَكَذَالِكَ بَعَثْنَـاهُمْ } [الكهف : 19] وكان أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهاراً للقدرة على الإنامة والبعث جميعاً { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } [الكهف : 19] ليسأل بعضهم بعضاً ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقيناً ويشكروا ما أنعم الله به عليهم { قَالَ قَآ ـاِلٌ مِّنْهُمْ } [الصافات : 51] رئيسهم { كَمْ لَبِثْتُمْ } [المؤمنون : 112] كم مدة لبثكم { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف : 19] جواب مبنى على غالب الظن وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب { قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [الكهف : 19] بمدة لبثكم إنكار عليهم من بعضهم كأنهم قد علموا بالأدلة أو بإلهام أن المدة متطاولة وأن مقدارها لا يعلمه إلا الله وروى أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك : وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أن الصحيح عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية قال : قائل منهم كم لبثتم وهذا واحد وقالوا في جوابه لبثنا يوماً أو بعض يوم وهو جمع وأقله ثلاثة ثم قال ربكم : أعلم بما لبثتم وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة { فَابْعَثُوا أَحَدَكُم } [الكهف : 19] كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم فابعثوا أحدكم أي يمليخا { بِوَرِقِكُمْ } هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة وبسكون الراء أبو عمرو وحمزة وأبو بكر { هَـاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } [الكهف : 19] هي طرسوس وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان والتوكل
17
على الرحمن { فَلْيَنظُرْ أَيُّهَآ } [الكهف : 19] أي أهلها فخذف كما في واسئل القرية وأي مبتدأ وخبره { أَزْكَى } أحل وأطيب أو أكثر وأرخص { طَعَامًا } تمييز { فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } [الكهف : 19] وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف { وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } [الكهف : 19] ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك إشعاراً منه بهم لأنه سبب فيه
جزء : 3 رقم الصفحة : 17
والضمير في { إِنَّهُمْ } راجع إلى الأهل المقدر في أيها { إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } [الكهف : 20] يطلعوا عليكم { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم أخبث القتلة { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } [الكهف : 20] بالإكراه ، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم { وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا } [الكهف : 20] إذاً يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبداً { وَكَذَالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } [الكهف : 21] وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم { لِيَعْلَمُوا } أي الذين أطلعناهم على حالهم { أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ } [غافر : 77] وهو البعث { حَقٌّ } كائن لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث { وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَآ } [الكهف : 21] فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث { إِذْ يَتَنَـازَعُونَ } [الكهف : 21] متعلق بأعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان { بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } [الكهف : 21] أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وبعضهم يقول تبعث الأجساد مع الأرواح ليرتفع الخلاف وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت { فَقَالُوا } حين توفى الله أصحاب الكهف { ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَـانًا } [الكهف : 21] أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضناً بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالحظيرة
جزء : 3 رقم الصفحة : 18
(3/14)
{ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } [الكهف : 21] من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم أو من كلام الله عز وجل رداً لقول الخائضين في حديثهم { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } [الكهف : 21] من المسلمين وملكهم
18
وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم { لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم } [الكهف : 21] على باب الكهف { مَّسْجِدًا } يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم روي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها وممن شدد في ذلك دقيانوس فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه فأنطقه الله تعالى فقال : ما تريدون مني إني أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم وقيل مرواً براع معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم وقبل أن يبعثهم الله ملك مدينتهم رجل صالح مؤمن وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يبين لهم الحق فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ماسدبه فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ثم قالت : الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفي الله أنفسهم فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا
جزء : 3 رقم الصفحة : 18
{ سَيَقُولُونَ ثَلَـاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف : 22] الضمير في سيقولون لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المؤمنين ، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت اخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم ويروي أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد : وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال
19
(3/15)
العاقب : وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فحقق الله قول المسلمين وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبما ذكرنا من قبل وعن علي رضي الله عنه هم سبعة نفر أسماؤهم يمليخا ومكشلينا شليينا هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك قد أكرم وأنعم تريد معنى التواقع في الفعلين جميعاً أو أريد بيفعل معنى الاستقبال الذي هو صالح له ثلاثة خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة وكذلك خمسة وسبعة ورابعهم كلبهم جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لثلاثة وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم رجماً بالغيب رمياً بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله ويقذفون بالغيب أي يأتون به أو وضع الرجم موضع الظن فكأنه قيل ظنا بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله رجماً بالغيب وأتبع القول الثالث قوله :
جزء : 3 رقم الصفحة : 19
{ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } [الكهف : 22] أي قل ربي أعلم بعدّتهم وقد أخبركم بها بقوله سبعة وثامنهم كلبهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } [الكهف : 22] قال : ابن عباس رضي الله عنهما أنا من ذلك القليل وقيل إلا قليل من أهل الكتاب والضمير في سيقولون على هذا الأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظن وتخمين { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ } [الكهف : 22] فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف { إِلا مِرَآءً ظَـاهِرًا } [الكهف : 22] إلا جدالاً ظاهراً غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك
20
فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم أو بمشهد من الناس ليظهر صدقك { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف : 22] ولا تسأل أحداً منهم عن قصتهم سؤال متعنت له حتى يقول شيئاً فترده عليه وتزيف ما عنده ولا سؤال مسترشد لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 19
(3/16)
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَا ىْءٍ } [الكهف : 23] لأجل شيء تعزم عليه { إِنِّى فَاعِلٌ ذَالِكَ } [الكهف : 23] الشيء { غَدًا } أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة { إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ } [الإنسان : 30] أن تقوله بأن يأذن لك فيه أو ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته وهو في موضع الحال أي إلا ملتبساً بمشيئة الله قائلاً إن شاء الله وقال الزجاج معناه ولا تقولن إني أفعل ذلك إلا بمشيئة الله تعالى لأن قول القائل أنا أفعل ذلك إن شاء الله معناه لا أفعله إلا بمشيئة الله وهذا نهى تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال : ائتوني غداً أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه { وَاذْكُر رَّبَّكَ } [الكهف : 24] أي مشيئة ربك وقل إن شاء الله { إِذَا نَسِيتَ } [الكهف : 24] إذا فرط منك نسيان لذلك والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر عن الحسن مادام في مجلس الذكر وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولو بعد سنة وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء فأما الاستثناء المغير حكماً فلا يصح إلا متصلاً وحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل فاستحضرة لينكر عليه فقال له أبو حنيفة هذا يرجع عليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده أو معناه واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء تشديداً في البعث على الاهتمام بها أوصل صلاة نسيتها إذا ذكرتها أو إذا نسيت شيئاً فاذكره ليذكرك المنسى { وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدًا } [الكهف : 24] يعني إذا نسيت شيئاً فاذكر ربك ، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا
21
المنسى أقرب منه رشداً وأدنى خيراً ومنفعه.
أن يهدين ، إن ترن ، أن يؤتين ، أن تعلمن.
مكى في الحالين ووافقه أبو عمرو ومدني في الوصل
جزء : 3 رقم الصفحة : 21
{ وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلَـاثَ مِا ئَةٍ سِنِينَ } يريد لبثهم فيه أحياء مضروباً على آذانهم هذه المدة وهو بيان لما أجمل في قوله : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً وسنين عطف بيان لثلثمائة.
ثلثمائة سنين بالإضافة حمزة وعليّ على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله بالأخسرين أعمالاً { وَازْدَادُوا تِسْعًا } [الكهف : 25] أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه وتسعاً مفعول به لأن زاد تقتضي مفعولين فازداد يقتضى مفعولاً واحداً { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوْا } [الكهف : 26] أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم والحق ما أخبرك به أو هو حكاية لكلام أهل الكتاب وقل الله أعلم رد عليهم والجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة { لَهُ غَيْبُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الكهف : 26] ذكر اختصاصه بعلم ما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها ومن غيرها { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } [الكهف : 26] أي وأسمع به والمعنى ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع لأهل السموات والأرض { لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ } [الكهف : 26] من متول لأمورهم { وَلا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ } [الكهف : 26] في قضائه { أَحَدًا } منهم ، ولا تشرك على النهى شامي كانوا يقولون له ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل له :
{ وَاتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } [الكهف : 27] أي من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل فإنه { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِهِ } [الكهف : 27] أي لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها إنما يقدر على ذلك هو وحده { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [الكهف : 27] ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك
22
ولما قال : قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم نح هؤلاء الموالى وهم صهيب وعمار وخباب وسلمان وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك نزل
جزء : 3 رقم الصفحة : 22
(3/17)
{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [الكهف : 28] واحبسها معهم وثبتها { بِالْغَدَواةِ وَالْعَشِىِّ } [الأنعام : 52] دائبين على الدعاء في كل وقت أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير والعشى لطلب عفو التقصير أوهما صلاة الفجر والعصر.
بالغُدوة شامي { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام : 52] رضا الله { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [الكهف : 28] ولا تجاوز ، عداه إذا جاوزه وعدى بعن لتضمن عدا معنى نبا في قولك نبت عنه عينه وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ { تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الكهف : 28] في موضع الحال { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } [الكهف : 28] من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر وهو دليل لنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد { وَاتَّبَعَ هَوَاـاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف : 28] مجاوزاً عن الحق { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } [الكهف : 29] أي الإسلام أو القرآن ، والحق خبر مبتدأ محذوف أي هو { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف : 29] أي جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ماشاء من النجدين ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا } [الكهف : 102] هيأنا { لِلظَّـالِمِينَ } للكافرين فقيد بالسياق كما تركت حقيقة الأمر والتخيير بالسياق وهو قوله إنا أعتدنا للظالمين { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [الكهف : 29] شبه ما يحيط بها من النار بالسرادق وهي الحجرة التي تكون حول الفسطاط أو هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار أو هو حائط من
23
نار يطيف بهم { وَإِن يَسْتَغِيثُوا } [الكهف : 29] من العطش { يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ } [الكهف : 29] هو دردي الزيت أو ما أذيب من جواهر الأرض وفيه تهكم بهم { يَشْوِى الْوُجُوهَ } [الكهف : 29] إذا قدم ليشرب انشوى الوجوه من حرارته { بِئْسَ الشَّرَابُ } [الكهف : 29] ذلك { وَسَآءَتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأ من الرفق وهذه لمشاكلة قوله : وحسنت مرتفقا وإلا فلا ارتفاق لأهل النار وبين جزاء من اختار الإيمان فقال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 23
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا * أؤلئك لَهُمْ جَنَّـاتُ عَدْنٍ } كلام مستأنف بيان للأجر المبهم ولك أن تجعل إنَّا لا نضيع وأولئك خبرين معاً والمراد من أحسن منهم عملاً كقولك السمن منوان بدرهم أو لأن من أحسن عملاً والذين آمنوا وعملوا الصالحات ينتظمهما معنى واحد فأقام من أحسن مقام الضمير { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } [الكهف : 31] من للإبتداء وتنكير أساور وهي جمع أسورة التي هي جمع سوار لإبهام أمرها في الحسن { مِن ذَهَبٍ } [الزخرف : 53] من للتبيين { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ } [الكهف : 31] ما رَقَّ من الديباج { وَإِسْتَبْرَقٍ } ما غلظ منه أي يجمعون بين النوعين { مُّتَّكِـاِينَ فِيهَا عَلَى الارَآ ـاِكِ } [الإنسان : 13] خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم { نِعْمَ الثَّوَابُ } [الكهف : 31] الجنة { وَحَسُنَتْ } الجنة والأرائك { مُرْتَفَقًا } متكأ { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ } [الكهف : 32] ومثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في والصافات في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين ورثاً
24
(3/18)
من أبيهما ثمانية آلاف دينار فجعلاها شطرين فاشترى الكافر أرضاً بألف دينار فقال المؤمن : اللهم إن أخى اشترى أرضاً بألف دينار وأنا أشترى منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال : اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال : اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال : اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريق فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله
جزء : 3 رقم الصفحة : 24
{ جَعَلْنَا لاحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَـابٍ } [الكهف : 32] بساتين من كروم { وَحَفَفْنَـاهُمَا بِنَخْلٍ } [الكهف : 32] وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار المثمرة يقال حفوه إذا أطافوا به وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } [الكهف : 32] جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه ووصف العمارة بأنها متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها مع الشكل الحسن والترتيب الأنيق
جزء : 3 رقم الصفحة : 24
{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ءَاتَتْ } [الكهف : 33] أعطت حمل على اللفظ لأن اللفظ كلتا مفرد ولو قيل آتتا على المعنى لجاز { أُكُلَهَا } ثمرها { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ } [الكهف : 33] ولم تنقص من أكلها { شيئا وَفَجَّرْنَا خِلَـالَهُمَا نَهَرًا } [الكهف : 33] نعتهما بوفاء الثمار وتمام الأكل من غير نقص ثم بما هو أصل الخير ومادته من أمر الشرب فجعله أفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري فيها { وَكَانَ لَهُ } [الكهف : 34] لصاحب الجنتين { ثَمَرٌ } أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره أي كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الكثيرة من الذهب والفضة وغيرهما له ثمر وأحيط بثمره بفتح الميم والثاء عاصم وبضم الثاء وسكون الميم أبو عمرو وبضمهما غيرهما { فَقَالَ لِصَـاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [الكهف : 34] يراجعه الكلام من حار يحور إذا رجع يعني قطروس أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره
25
بما ملك من المال دونه { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا } [الكهف : 34] أنصاراً وحشماً ، أو أولاداً ذكرواً لأنهم ينفرون معه دون الإناث
جزء : 3 رقم الصفحة : 25
{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } [الكهف : 35] إحدى جنتيه أو سماهما جنة لا تحاد الحائط ، وجنتين للنهر الجاري بينهما { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [الكهف : 35] ضار لها بالكفر { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَدًا } [الكهف : 35] أي أن تهلك هذه الجنة شك في بيدودة جنته لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بالمهلة وترى أكثر الأغنياء من المسلمين تنطق ألسنة أحوالهم بذلك { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَا ـاِمَةً } [الكهف : 36] كائنة { وَلَـاـاِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لاجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا } [الكهف : 36] إقسام منه على أنه أن رد إلى ربه على سبيل الفرض كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيراً من جنته في الدنيا إدعاء لكرامته عليه ومكانته عنده منقلباً تمييز أي مرجعاً وعاقبة { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُا أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } [الكهف : 37] أي خلق أُصلك لأن خلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقاً له { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [فاطر : 11] أي خلقك من نطفة { ثُمَّ سَوَّاـاكَ رَجُلا } [الكهف : 37] عدلك وكملك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال جعله كافراً بالله لشكه في البعث { لَكُنَّآ } بالألف في الوصل شامي ، الباقون بغير ألف ، وبغير ألف ، وبالألف في الوقف اتفاق ، وأصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان فأدغمت الأولى في الثانية بعد أن سكنت { هُوَ اللَّهُ رَبِّى } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 26
(3/19)
الكهف : 38] هو ضمير الشأن والشأن الله ربي والجملة خبر أنا والراجع منها إليه ياء الضمير وهو استدراك لقوله أكفرت قال لأخيه أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمراً حاضر وفيه حذف أي أقول هو الله بدليل عطف { وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا * وَلَوْلا } وهلا { إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ } [الكهف : 39] ماموصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر ما شاء الله أو شرطية منصوبة
26
الموضع والجزاء محذوف يعني أي شيء شاء الله كان والمعنى هلا قلت عند دخولها والنظر إلى ما رزقك الله منها الأمر ما شاء الله اعترافا بأنها وكل ما فيها إنما حصل بمشيئة الله وأن أمرها بيده إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها وقلت : { لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } [الكهف : 39] إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها هو بمعونته وتأييده من قرأ { إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا } [الكهف : 39] بنصب أقل فقد جعل أنا فصلا ومن رفع وهو الكسائي جعله مبتدأ وأقل خبره والجملة مفعولا ثانياً لترني وفي قوله : { وَوَلَدًا } نصرة لمن فسر النفر بالأولاد في قوله : وأعز نفرا
جزء : 3 رقم الصفحة : 26
{ فَعَسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ } [الكهف : 40] في الدنيا أو في العقبي { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } [الكهف : 40] عذاباً { مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [الكهف : 40] أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا } [الكهف : 41] غائراً أي ذاهباً في الأرض { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } [الكهف : 41] فلا يتأتى منك طلبه فضلاً عن الوجود والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله أن يقلب ما بي ومابك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيراً من جنتك ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب بساتينك { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف : 42] هو عبارة عن إهلاكه وأصله من أحاط به العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك { فَأَصْبَحَ } أي الكافر { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [الكهف : 42] يضرب إحداهما على الآخر ندماً وتحسراً وإنما صار تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهراً لبطن كما كنى عن ذلك بعض الكف والسقوط في اليد ولأنه في معنى الندم عدى تعديته بعلى كأنه قيل فأصبح يندم { عَلَى مَآ أَنفَقَ فِيهَا } [الكهف : 42] أي في عمارتها { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } [البقرة : 259] يعني أن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم { وَيَقُولُ يَـالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا } [الكهف : 42] تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة كفره وطغيانه فتمنى لو لم يكن
27
مشركاً حتى لا يهلك الله بستانه حين لم ينفعه التمني ويجوز أن يكون توبة من الشرك وندما على ما كان منه ودخولا في الإيمان
جزء : 3 رقم الصفحة : 27
(3/20)
{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ } [الكهف : 43] يقدرون على نصرته { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] أي هو وحده القادر على نصرته لا يقدر أحد غيره أن ينصره إلا أنه لم ينصره لحكمة { وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا } [الكهف : 43] وما كان ممتنعاً بقوته عن انتقام الله { هُنَالِكَ الْوَلَـايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } [الكهف : 44] يكن بالياء والولاية بكسر الواو حمزة وعلي فهي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك والمعنى هنالك أي في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لله وحده لا يملكها غيره ولا يستطيعها أحد سواه تقريراً لقوله ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله أو هنالك السلطان والملك صلى الله عليه وسلّم لا يغلب أو في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر يعني أن قوله ياليتني لم أشرك بربي أحداً كلمة ألجيء إليها فقالها جزعاً مما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها.
أو هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم يعني أنه نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله فعسى ربي أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء ويؤيده قوله : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ } أي لأوليائه أو هنالك إشارة إلى الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله : لمن الملك اليوم.
الحق بالرفع أبو عمرو وعلى صفة للولاية أو خبر مبتدأ محذوف أي هي الحق أو هو الحق غيرهما بالجر صفة لله.
عقباً بسكون القاف عاصم وحمزة وبضمها غيرهما وفي الشواذ عقبى على وزن فعلى وكلها بمعنى العاقبة { عُقْبًا * وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ } [الكهف : 45] أي هي كماء أنزلناه { فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الارْضِ } [الكهف : 45] فالتف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً أو أثر في النبات الماء فاختلط به حتى روى { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } [الكهف : 45] يابساً متكسراً الواحدة هشيمة { تَذْرُوهُ الرِّيَـاحُ } [الكهف : 45] تنسفه وتطيره.
الريح حمزة وعلى { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [النساء : 85] من الإنشاء والإفناء { مُّقْتَدِرًا } قادراً شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك
28
والإفناء بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطهيره الريح كأن لم يكن
جزء : 3 رقم الصفحة : 28
(3/21)
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [الكهف : 46] لا زاد القبر وعدة العقبى { وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ } [الكهف : 46] أعمال الخير التي تبقى ثمرتها للإنسان أو الصلوات الخمس أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا } [الكهف : 46] جزاء { وَخَيْرٌ أَمَلا } [الكهف : 46] لأنه وعد صادق وأكثر الآمال كاذبه يعني أن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ويصيبه في الآخرة { وَيَوْمَ } واذكر يوم { نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } [الكهف : 47] تُسيَّر الجبال مكى وشامي وأبو عمرو أي تسير في الجو أو يذهب بها بأن تجعل هباء منثوراً منبثاً { وَتَرَى الارْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47] ليس عليها ما يسترها مما كان عليها من الجبال والأشجار { وَحَشَرْنَـاهُمْ } أي الموتى { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف : 47] أي فلم نترك.
غادره أي تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } [الكهف : 48] مصطفين ظاهرين ترى جماعتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } [الكهف : 48] أي قلنا لهم لقد جئتمونا وهذا المضمر يجوز أن يكون عامل النصب في يوم نسير { كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة } [الكهف : 48] أي لقد بعثناكم كما أنشأناكم أول مرة أو جئتمونا عراة لا شيء معكم كما خلقناكم أولا وإنما قال : وحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى للدلالة على حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا } [الكهف : 48] وقتاً لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور أو مكان وعد للمحاسبة { وَوُضِعَ الْكِتَـابُ } [الكهف : 49] أي صحف الأعمال { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ } [الكهف : 49] خائفين { مِمَّا فِيهِ } [الكهف : 49] من الذنوب { وَيَقُولُونَ يَـاوَيْلَتَنَا مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً } أي لا يترك شيئاً من المعاصي { إِلا أَحْصَـاهَا } [الكهف : 49] حصرها وضبطها { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } [الكهف : 49] في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه أو يعذبه بغير جرم
29
جزء : 3 رقم الصفحة : 29
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـائِكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ } [البقرة : 34] فسجود تحية أو سجود انقياد { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [الكهف : 50] وهو مستأنف كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل كان من الجن { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [الكهف : 50] خرج عما أمره ربه به من السجود وهو دليل على أنه كان مأموراً بالسجود مع الملائكة { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ } [الكهف : 50] الهمزة للإنكار والتعجب كأنه قيل أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته { أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى } [الكهف : 50] وتستبدلونهم بي ومن ذريته لا قيس موسوس الصلاة والأعور صاحب الزنا وتبر صاحب المصائب ومطوس صاحب الأراجيف وداسم يدخل ويأكل مع من لم يسم الله تعالى { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ } [الكهف : 50] أعداء { بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلا } [الكهف : 50] بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } [الكهف : 51] أي إبليس وذريته { خَلْقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [إبراهيم : 19] يعني أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفى مشاركتهم في الإلهية بقوله ما أشهدنهم خلق السماوات والأرض لأعتضد بهم في خلقها أو أشاورهم فيه أي تفردت بخلق الأشياء فأفردوني في العبادة
30
{ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } [الكهف : 51] أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله ولا تقتلوا أنفسكم { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ } [الكهف : 51] أي وما كنت متخذهم { عَضُدًا } أي أعواناً فوضع المضلين موضع الضمير ذمًّا لهم بالإضلال فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق فمالكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة
جزء : 3 رقم الصفحة : 30
(3/22)
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } [الأنعام : 73] الله للكفار ، وبالنون حمزة { نَادُوا } ادعوا بصوت عالٍ { شُرَكَآءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } [الكهف : 52] أنهم فيكم شركائي ليمنعوكم من عذابي وأراد الجن وأضاف الشركاء إليه على زعمهم توبيخاً لهم { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا } [الكهف : 52] مهلكا من وبق يبق وبوقاً إذا هلك أو مصدر كالموعد أي وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم وهو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً أو الملائكة وعزيراً وعيسى والموبق البرزخ البعيد أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان { وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا } فَأيقنوا { أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف : 53] مخالطوها واقعون فيها { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا } [الكهف : 53] عن النار { مَصْرِفًا } معدلاً { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } [الكهف : 54] يحتاجون إليه { وَكَانَ الانسَـانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلا } [الكهف : 54] تمييز أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد خصومة ومماراة بالباطل يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء
جزء : 3 رقم الصفحة : 31
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } [الإسراء : 94] أي سببه وهو الكتاب والرسول { وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ } [الكهف : 55] أن الأولى نصب والثانية رفع وقبلها مضاف محذوف تقديره وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك أو انتظار أن يأتيهم العذاب أي عذاب الآخرة { قُبُلا } كوفى أي أنواعاً جمع قبيل.
الباقون قِبلا أي عياناً { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [الأنعام : 48] يوقف عليه ويستأنف بقوله : { وَيُجَـادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَـاطِلِ } [الكهف : 56] هو قولهم للرسل ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو
31
شاء الله لأنزل ملائكة ونحو ذلك { لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ } [غافر : 5] ليزيلوا ويبطلوا بالجدال النبوة { وَاتَّخَذُوا ءَايَـاتِى } [الكهف : 106] القرآن { وَمَآ أُنْذِرُوا } [الكهف : 56] ما موصولة والراجع من الصلة محذوف أي وما أنذروه من العقاب أو مصدرية أي وإنذارهم { هُزُوًا } موضع استهزاء بسكون الزاي والهمزة حمزة وبإبدال الهمزة واوا حفص وبضم الزاي والهمزة غيرهما
جزء : 3 رقم الصفحة : 31
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـاَايَـاتِ رَبِّهِ } [الكهف : 57] بالقرآن ولذلك رجع الضمير إليها مذكراً في قوله أن يفقهوه { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } [الكهف : 57] فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر { وَنَسِىَ } عاقبة { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [الكهف : 57] من الكفر والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الكهف : 57] أغطية جمع كنان وهو الغطاء { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا } [الأنعام : 25] ثقلاً عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملاً بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه { وَإِن تَدْعُهُمْ } [الكهف : 57] يا محمد { إِلَى الْهُدَى } [الأنعام : 71] إلى الإيمان { فَلَن يَهْتَدُوا } [الكهف : 57] فلا يكون منهم اهتداء البتة { إِذًا } جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وحود الاهتداء سبباً في انتفائه وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالى لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم فقيل وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً { أَبَدًا } مدة التكليف كلها { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ } [الكهف : 58] البليغ المغفرة { ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام : 133] الموصوف بالرحمة { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 32
(3/23)
الكهف : 58] أي من رحمته ترك مؤاخذته أهل مكة عاجلاً مع فرط عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } [الكهف : 58] وهم يوم بدر { لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْاـاِلا } [الكهف : 58] منجى ولا ملجأ يقال وآل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه { وَتِلْكَ } مبتدأ { الْقُرَى } صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء
32
الأجناس والخبر { أَهْلَكْنَـاهُمْ } أو تلك القرى نصب بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم والمراد قوم نوح وعاد وثمود { لَمَّا ظَلَمُوا } [يونس : 13] مثل ظلم أهل مكة { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } [الكهف : 59] وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته.
وبفتح الميم وكسر اللام حفص وبفتحهما أبو بكر أي لوقت هلاكهم أو لهلاكهم والموعد وقت أو مصدر
جزء : 3 رقم الصفحة : 32
{ وَإِذِ } واذكر إذ { قَالَ مُوسَى لِفَتَـاـاهُ } [الكهف : 60] هو يوشع بن نون وإنما قيل فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه ويأخذ منه العلم { لا أَبْرَحُ } [الكهف : 60] لا أزال وقد حذف الخبر لدلالة الحال والكلام عليه أما الأولى فلأنها كانت حال سفر وأما الثاني فلأن قوله : { حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ } [الكهف : 60] غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له فلا بد أن يكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحر فارس والروم وسمي خضراً لأنه أينما يصلي يخضر ما حوله { أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا } [الكهف : 60] أو أسير زماناً طويلاً قيل ثمانون سنة.
روي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بنى إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط سأل ربه أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني قال : فأي عبادك أقضي؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ، قال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه قال : أعلم منك الخضر قال : أين أطلبه قال : على الساحل عند الصخرة قال : يا رب كيف لي به قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال : لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى فقال وإني بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا.
33
جزء : 3 رقم الصفحة : 33
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } [الكهف : 61] مجمع البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [الكهف : 61] أي نسى أحدهما وهو يوشع لأنه كان صاحب الزاد دليله فإني نسيت الحوت وهو كقولهم نسوا زادهم وإنما ينساه متعهد الزاد قيل كان الحوت سمكة مملوحة فنزلا ليلة على شاطئ عين الحياة ونام موسى فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت ووقعت في الماء { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ } [الكهف : 61] أي اتخذ طريقاً له من البر إلى البحر { سَرَبًا } نصب على المصدر أي سرب فيه سرباً يعني دخل فيه واستر به { فَلَمَّا جَاوَزَا } [الكهف : 62] مجمع البحرين ثم نزلا وقد سارا ما شاء الله { قَالَ } موسى { لِفَتَـاـاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـاذَا نَصَبًا } [الكهف : 62] تعبا ولم يتعب ولا جاع قبل ذلك { قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ } [الكهف : 63] هي موضع الموعد { فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ } [الكهف : 63] ثم اعتذر فقال : { وَمَآ أَنسَـاـانِيهُ } [الكهف : 63] وبضم الهاء حفص { إِلا الشَّيْطَـانُ } [الكهف : 63] بإلقاء الخواطر في القلب { أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف : 63] بدل من الهاء في أنسانيه أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان
جزء : 3 رقم الصفحة : 34
(3/24)
{ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا } [الكهف : 63] وهو أن أثره بقي إلى حيث سار { قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } [الكهف : 64] نطلب وبالياء مكي وافقه أبو عمرو وعلي مدني في الوصل وبغيرياء فيهما غيرهما اتباعا لخط المصحف وذلك إشارة إلى اتخاذه سبيلاً أي ذلك الذي كنا نطلب لأن ذهاب الحوت كان علماً على لقاء الخضر عليه السلام { فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا } [الكهف : 64] فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه { قَصَصًا } يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً قال الزجاج : القصص اتباع الأثر { فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ } [الكهف : 65] أي الخضر راقداً تحت ثوب أو جالساً في البحر { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَـاهُ } [الكهف : 65] هي الوحي والنبوة أو العلم أو طول الحياة { وَعَلَّمْنَـاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } [الكهف : 65] يعني الإخبار بالغيوب وقيل العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } [الكهف : 66] أي علماً ذا رشد
34
أرشد به في ديني رشدا أبو عمرو وهما لغتان كالبخل والبخل وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته وإن يتواضع لمن هو أعلم منه
جزء : 3 رقم الصفحة : 34
{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ } [الكهف : 67] وبفتح الياء حفص وكذا ما بعده في هذه السورة { صَبْرًا } أي عن الإنكار والسؤال { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } [الكهف : 68] تمييز نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يجزع إذا رأى ذلك فيكف إذا كان نبياً { قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا } [الكهف : 69] من الصابرين عن الإنكار والاعراض { وَلا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا } [الكهف : 69] في محل النصب عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغير عاص أو هو عطف على ستجدني ولا محل له { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلا } بفتح اللام وتشديد النون مدني وشامي وبسكون اللام وتخفيف النون غيرهما والياء ثابتة فيهما إجماعاً { تَسْـاَلْنِي عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } [الكهف : 70] أي فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً وقد علمت أنه صحيح إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك أن لا تفاتحني بالسؤال ولا تراجعني فيه حتى أكون أنا الفاتح عليك وهذا من أدب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } [الكهف : 71] فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة فلما ركباها قال أهلها : هما من اللصوص وقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء فحملوهما بغير نول فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ثم
35
{ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } [الكهف : 71] ليَغرق حمزة وعلي من غرق { لَقَدْ جِئْتَ شيئا إِمْرًا } [الكهف : 71] أتيت شيئاً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم
جزء : 3 رقم الصفحة : 35
(3/25)
{ قَالَ } أي الخضر { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا } فلما رأى موسى أن الخرق لا يدخله الماء ولم يفر من السفينة { قَالَ لا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } [الكهف : 73] بالذي نسيته أو بشيء نسيته أو بنسياني أراد أنه نسى وصيته ولا مؤاخذة على الناسي أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة { وَلا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا } [الكهف : 73] رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني عسراً من أمري وهو اتباعه إياه أي ولا تعسر على متابعتك ويسرها على بالإغضاء وترك المناقشة { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَـامًا فَقَتَلَهُ } [الكهف : 74] قيل ضرب برأسه الحائط وقيل أضجعه ثم ذبحه بالسكين وإنما قال : فقتله بالفاء وقال : خرقها بغير فاء لأن خرقها جعل جزاء للشرط وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا } [الكهف : 74] وإنما خولف بينهما لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام { زَكِيَّةَ } زاكية حجازي وأبو عمرو وهي الطاهرة من الذنوب إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت أو لأنها صغيرة لم يبلغ الحنث { بِغَيْرِ نَفْسٍ } [المائدة : 32] أي لم تقتل نفساً فيقتص منها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول صلى الله عليه وسلّم عن قتل الولدان فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه موسى فلك أن تقتل { لَّقَدْ جِئْتَ شيئا نُّكْرًا } [الكهف : 74] وبضم الكاف حيث كان مدني وأبو بكر وهو المنكر وقيل النكر أقل من الإمر لأن قتل نفس واحدة
36
أهون من إغراق أهل السفنية أو معناه جئت شيئاً أنكر من الأول لأن الخرق يمكن تداركه بالسد ولا يمكن تدارك القتل
جزء : 3 رقم الصفحة : 36
{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا } [الكهف : 75] زاد لك هنا لأن النكير فيه أكثر { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } [الكهف : 76] بعد هذه الكرة أو المسألة { فَلا تُصَـاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا } [الكهف : 76] أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق.
ولدني بتخفيف النون مدني وأبو بكر { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف : 77] هي أنطاكية أو الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء { اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } [الكهف : 77] استضافاً { فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا } [الكهف : 77] ضيفه أنزله وجعله ضيفه قال عليه السلام : " كانوا أهل قرية لئاماً " وقيل شر القرى التي تبخل بالقرى { فَوَجَدَا فِيهَا } [الكهف : 77] في القرية { جِدَارًا } طوله مائة ذراع { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [الكهف : 77] يكاد يسقط استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة كما استعير الهم والعزم لذلك { فَأَقَامَهُ } بيده أو مسحه بيده فقام واستوى أو نقضه وبناه كان الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسائلة فلم يجدا مواسياً فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رآى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } [الكهف : 77] أي لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة.
لتخذت بتخفيف التاء وكسر الخاء وإدغام الذال بصري وبإظهارها مكي وبتشديد التاء وفتح
37
الخاء وإظهار الذال حفص وبتشديد التاء وفتح الخاء وإغام الذال في التاء غيرهم والتاء في تخذ أصل كما في تبع واتخذ افتعل منه كاتبع من تبع وليس من الأخذ في شيء
جزء : 3 رقم الصفحة : 37
(3/26)
{ قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } [الكهف : 78] هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض سبب الفراق والأصل هذا فراق بيني وبينك وقد قرىء به فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } [الكهف : 78] { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ } [الكهف : 79] قيل كانت لعشرة أخوة خمسة منهم زمني وخمسة يعلمون في البحر { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [الكهف : 79] أجعلها ذات عيب { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } [الكهف : 79] أمامهم أو خلفهم وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر وهو جلندي { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } [الكهف : 79] أي يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها غصباً وإن كانت معيبة تركها وهو مصدر أو مفعول له فإن قلت قوله : فأردت أن أعيبها مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب قلت المراد به التأخير وإنما قدم للعناية { وَأَمَّا الْغُلَـامُ } [الكهف : 80] وكان اسمه الحسين { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَـانًا وَكُفْرًا } [الكهف : 80] فخفنا أن يغشي الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شراً وبلاء أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وهو من كلام الخضر وإنما خشي الخضر منه ذلك لأنه تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وإن كان من قول الله تعالى فمعني فخشينا فعلمنا إن عاش أن يصير سبباً لكفر والديه { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } [الكهف : 81] يبَدِّلهما ربهما مدني وأبو عمرو { خَيْرًا مِّنْهُ زَكَواةً } [الكهف : 81] طهارة ونقاء من الذنوب { وَأَقْرَبَ رُحْمًا } [الكهف : 81] رحمة وعطفا وزكاة ورحما تمييز روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً أو سبعين نبياً أو أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما رُحُما شامي وهما لغتان
38
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـامَيْنِ } [الكهف : 82] أصرم وصريم { يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ } [الكهف : 82] هي القرية المذكورة { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } [الكهف : 82] أي لوح من ذهب مكتوب فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف بحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله أو مال مدفون من ذهب وفضة أو صحف فيها علم والأول أظهر وعن قتادة أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا وحرمت الغنيمة عليها وأحلت لنا { وَكَانَ أَبُوهُمَا } [الكهف : 82] قيل جدهما السابع { صَـالِحًا } ممن يصحبني وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال : لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله الغلامين قال : بصلاح أبيهما قال : فأبي وجدي خير منه { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } [الكهف : 82] أي الحلم { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً } [الكهف : 82] مفعول له أو مصدر منصوب بأراد ربك لأنه في معنى رحمهما { مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ } [الكهف : 82] وما فعلت ما رأيت { عَنْ أَمْرِى } [الكهف : 82] عن اجتهادي وإنما فعلته بأمر الله والهاء تعود إلى الكل أو إلى الجدار { ذَالِكَ } أي الأجوبة الثلاثة { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا } حذف التاء تخفيفاً وقد زل أقدام أقوام من الضلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلى حيث قالوا أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو وليّ والجواب أن الخضر نبي وإن لم يكن كما زعم البعض فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام على أن أهل الكتاب يقولون إن موسى هذا ليس موسى بن عمران إنما هو موسى بن ماثان ومن المحال أن يكون الوليّ وليًّا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الوليّ ولا غضاضة في طلب موسى العلم لأن الزيادة في العلم مطلوبة وإنما ذكر أولاً فأردت لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله وثالثاً فأراد ربك لأنه إنعام محض وغير مقدور البشر وثانياً فأردنا لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل وقال الزجاج : معني فأردنا فأراد الله عز وجل ومثله في القرآن كثير { وَيَسْـاَلُونَكَ } أي اليهود على جهة الإمتحان أو أبو جهل وأشياعه
39
(3/27)
{ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ } [الكهف : 83] هو الإسكندر الذي ملك الدنيا قيل ملكها مؤمنان ذو القرنين وسليمان وكافران نمرود وبختنصر وكان بعد نمرود وقيل كان عبداً صالحاً ملّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامة وتحوطه الظلمة من ورائه وقيل نبياً وقيل ملكاً من الملائكة وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله أراد نفسه قيل كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى وقل عليه السلام : " سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا " يعني جانبيها شرقها وغربها وقيل كان له قرنان أي ضفيرتان أو انقرض في وقته قرنان من الناس أو لأنه ملك الروم وفارس أو الترك والروم أو كان لتاجه قرنان أو على رأسه ما يشبه القرنين أو كان كريم الطرفين أبا وأما وكان من الروم { قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ } [الكهف : 83] من ذي القرنين { ذِكْرًا }
جزء : 3 رقم الصفحة : 38
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الارْضِ } [الكهف : 84] جعلنا له فيها مكانة واعتلاء { وَءَاتَيْنَـاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ } [الكهف : 84] أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه { سَبَبًا } طريقاً موصلاً إليه { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } [الكهف : 85] والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً.
يوصله إليه حتى بلغ وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً.
فأتبع سبباً ثم أتبع كوفي وشامي الباقون بوصل الألف وتشديد التاء عن الأصمعي أتبع لحق واتبع اقتفى وإن لم يلحق { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } [الكهف : 86] أي منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع قال صلى الله عليه وسلّم : " بدء أمره أنه وجد في الكتب أن أحد أولاد سام يشرب من عين الحياة فيخلد فجعل يسير في طلبها والخضر وزيره وابن خالته فظفر فشرب ولم يظفر ذو القرنين " { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } [الكهف : 86] ذات حمأة من حمئت البئر إذا صارت
40
فيها الحمأة حامية شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارة وعن أبي ذر كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : " أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه " قلت الله ورسوله أعلم قال : " فإنها تغرب في عين حامية " وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال : ابن عباس حمئة فقال معاوية : لعبد الله بن عمرو كيف تقرؤها فقال : كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ولا تنافي فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً { وَوَجَدَ عِندَهَا } [الكهف : 86] عند تلك العين { قَوْمًا } عراة من الثياب لباسهم جلود الصيد وطعامهم ما لفظ البحر وكانوا كفاراً { قُلْنَا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } [الكهف : 86] إن كان نبياً فقد أوحى الله إليه بهذا وإلا فقد أوحى إلى نبي فأمره النبي به أو كان إلهاماً خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسناً بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا أو التعذيب القتل وإتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان
جزء : 3 رقم الصفحة : 40
(3/28)
{ قَالَ } ذو القرنين { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } [الكهف : 87] بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا } [الكهف : 87] في القيامة يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين { وَأَمَّا مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا } [الكهف : 88] أي عمل ما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى } [الكهف : 88] فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة.
جزاءً الحسنى كوفي غير أبي بكر أي فله الفعلة الحسنى جزاء { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف : 88] أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ } هم
41
الزنج { لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا } [الكهف : 90] من دون الشمس { سِتْرًا } أي أبنية عن كعب أرضهم لا تمسك الأبنية وبها سرداب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم أو الستر اللباس عن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض
جزء : 3 رقم الصفحة : 41
{ كَذَالِكَ } أي أمر ذي الفرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } [الكهف : 91] من الجنود والآلات وأسباب الملك { خُبْرًا } نصب على المصدر لأن في أحطنا معنى خبرنا أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك أي كما بلغ مغربها أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما.
السَّدين وسًداً مكي وأبو عمرو وحفص السُّدين وسدا حمزة وعلي وبضمهما غيرهم قيل ما كان مسدوداً خلقة فهو مضموم وما كان من عمل العباد فهو مفتوح وانتصب بين على أنه مفعول به لبلغ كما انجر بالإضافة في هذا فراق بيني وبينك وكما ارتفع في لقد تقطع بينكم لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } [الكهف : 93] من ورائهما { قَوْمًا } هم الترك { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [الكهف : 93] أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها.
يُفقهون حمزة وعلى أن لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة { قَالُوا يَـاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } [الكهف : 94] هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وهمزهما عاصم فقط وهما من ولد يافث أو يأجوج من الترك ومأجوج من
42
الجيل والديلم { مُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } [الكهف : 94] قيل كانوا يأكلون الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وقيل هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا } [الكهف : 94] خراجا حمزة وعلي أي جعلا نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال { عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } [الكهف : 94]
جزء : 3 رقم الصفحة : 42
(3/29)
{ قَالَ } بالإدغام وبفكه مكي { مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ } [الكهف : 95] أي ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخراج فلا حاجة لي إليه { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } [الكهف : 95] بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبالآلات { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } [الكهف : 95] جداراً أو حاجزاً حصيناً موثقاً والردم أكبر من السد { زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى } [الكهف : 96] قطع الحديد والزبرة القطعة الكبيرة قيل حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سدما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافيخ حتى إذا صار كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى ، فاختلط والتصق بعضه وصار حبلا صلدا وقيل بعد ما بين السدين فإنه فرسخ { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } [الكهف : 96] بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان.
الصُّدَفين مكى وبصرى وشامي.
الصُّدْفين أبو بكر { قَالَ انفُخُوا } [الكهف : 96] أي قال : ذو القرنين للعملة انفخوا في الحديد { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ } [الكهف : 96] أي المنفوخ فيه وهو الحديد { نَارًا } كالنار { قَالَ ءَاتُونِى } [الكهف : 96] أعطوني { أُفْرِغْ } أصب { عَلَيْهِ قِطْرًا } [الكهف : 96] نحاساً مذاباً لأنه يقطر وهو منصوب بأفرغ وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال : ائتوني بوصل
43
الألف حمزة وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني
جزء : 3 رقم الصفحة : 43
{ فَمَا اسْطَـاعُوا } [الكهف : 97] بحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء { أَن يَظْهَرُوهُ } [الكهف : 97] أن يعلوا السد { وَمَا اسْتَطَـاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف : 97] أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته { قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى } [الكهف : 98] أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى } [الكهف : 98] فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي { جَعَلَهُ } أي السد { دَكَّآءَ } أي مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك.
دكاء كوفي أي أرضاً مستوية { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقًّا } [الكهف : 98] آخر قول ذي القرنين { وَتَرَكْنَا } وجعلنا { بَعْضَهُمْ } بعض الخلق { يَوْمَـاـاِذٍ يَمُوجُ } [الكهف : 99] يختلط { فِى بَعْضٍ } [محمد : 26] أي يطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد وروي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة بيت المقدس ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } [ق : 20] لقيام الساعة { فَجَمَعْنَـاهُمْ } أي جمع الخلائق للثواب والعقاب { جَمْعًا } تأكيد { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَـاـاِذٍ لِّلْكَـافِرِينَ عَرْضًا } [الكهف : 100] وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى } [الكهف : 101] عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكره بالتعظيم أو عن القرآن وتأمل معانيه { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } [الكهف : 101] أي
44
وكانوا صما عنه إلا أنه أبلغ إذا الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع
جزء : 3 رقم الصفحة : 44
(3/30)
{ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ } [الكهف : 102] أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا وقيل أن بصلتها سد مسد مفعولي أفحسب وعبادي أولياء مفعولاً أن يتخذوا وهذا أوجه يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء { إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـافِرِينَ نُزُلا } [الكهف : 102] هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشرهم بعذاب أليم { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاخْسَرِينَ أَعْمَـالا } [الكهف : 103] أعمالاً تمييز وإنما جمع والقياس أن يكون مفرداً لتنوع الأهواء وهم أهل الكتاب أو الرهبان { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ } [الكهف : 104] ضاع وبطل وهو في محل الرفع أي هم الذين { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ } [الكهف : 104] { أؤلئك الَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآ ـاِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا } [الكهف : 105] فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار { ذَالِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ } [الكهف : 106] هي عطف بيان لجزاؤهم { بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا ءَايَـاتِى وَرُسُلِى هُزُوًا } [الكهف : 106] أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسوله { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [الكهف : 30] حال { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } [الكهف : 108] تحولاً إلى غيرها رضا بما أعطوا يقال حال من مكانه حولاً أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه أو المراد نفي التحول وتأكيد الخلود
45
جزء : 3 رقم الصفحة : 45
{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ } [الكهف : 109] أي ماء البحر { مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى } [الكهف : 109] قال أبو عبيدة المداد : ما يكتب به أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس { لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } [الكهف : 109] بمثل البحر { مَدَدًا } لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة ومدداً تمييز نحو لي مثلة رجلاً والمدد مثل المداد وهو ما يمد به.
ينفد حمزة وعلي ، وقيل قال : حيي بن أخطب في كتابكم ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ثم تقرؤون وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً فنزلت يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله { قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } [فصلت : 6] فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه والمراد باللقاء القدوم عليه وقيل رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَـالِحًا } [الكهف : 110] خالصاً لا يريد به إلا وجه ربه ولا يخلط به غيره وعن يحيى بن معاذ هو ما لا يستحي منه { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا } [الكهف : 110] هو نهي عن الشرك أو عن الرياء قال صلى الله عليه وسلّم : " اتقوا الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر قال : " الرياء " قال صلى الله عليه وسلّم : " من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال ، ومن قرأ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ إلى آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ " والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
46
سورة مريم عليها السلام
مكية ، وهي ثمان أو تسع وتسعون أية مدني وشامي)(3/31)
{ كاهيعاص } قال السدي : هو اسم الله الأعظم وقيل هو اسم للسورة قرأ علي ويحيى بكسر الهاء والياء ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء وحمزة بعكسه وغيرهم بفتحهما { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ } [مريم : 2] خبر مبتدأ أي هذا ذكر { عَبْدَهُ } مفعول الرحمة { زَكَرِيَّآ } بالقصر حمزة وعلي وحفص وهو بدل من عبده { إِذِ } ظرف للرحمة { نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيًّا } [مريم : 3] دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به وهو أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة { قَالَ رَبِّ } [آل عمران : 41] هذا تفسير الدعاء وأصله يا ربي فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصاراً { إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى } [مريم : 4] ضعف وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية والمراد أن هذا
47
الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] تمييز أي فشا في رأسي الشيب واشتعلت النار إذا تفرقت في إلتهابها وصارت شعلاً فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ولا ترى كلاماً أفصح من هذا ألا ترى أن أصل الكلام يا رب قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض لهما وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل ، وأقوى منه وهنت عظام بدني ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه وأقوى منه وأنا وهنت عظام بدني وأقوى منه إني وهنت عظام بدني وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن وأقوى منه إني وهن العظم مني لشمول الوهن العظام فرداً فرداً باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحه حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة فحصل اشتعل شيب رأسي وأبلغ منه اشتعل رأسي شيباً لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيباً وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً والفرق نير ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيباً لما مر وأبلغ منه واشتعل الرأس شيباً ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا بقرينة العطف على وهن العظم
جزء : 3 رقم الصفحة : 47
{ وَلَمْ أَكُن بِدُعَآ ـاِكَ } [مريم : 4] مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك { رَبِّ شَقِيًّا } [مريم : 4] أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيداً به غير شقي فيه يقال سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال : أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقت حاجته وقضى حاجته
جزء : 3 رقم الصفحة : 47
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ } [مريم : 5] هم عصبته أخوته وبنو عمه وكانوا شرار بني إسرائيل فخافهم أن يغيروا الدين وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته فطلب عقباً صالحاً
48
من صلبه يقتدي به في إحياء الدين { مِن وَرَآءِى } [مريم : 5] بعد موتي وبالقصر وفتح الياء كهداي مكى وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لأن وجود خوفه بعد موته لا يتصور ولكن بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي ، أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي { وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا } [مريم : 5] عقيماً لا تلد { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ } [مريم : 5] اختراعا منك بلا سبب لأن امرأتي لا تصلح للولادة { وَلِيًّا } ابنا يلي أمرك بعدي
جزء : 3 رقم الصفحة : 48
(3/32)
{ يَرِثُنِى وَيَرِثُ } [مريم : 6] برفعهما صفة لولياً أي هب لي ولداً وارثاً مني العلم ومن آل يعقوب النبوة ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأنه يوحى إليه ولم يرد أن نفس النبوة تورث وبجزمهما أبو عمرو وعلي على أنه جواب للدعاء يقال ورثته وورثت منه { مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } [مريم : 6] يعقوب بن إسحاق { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } [مريم : 6] مرضياً ترضاه أو راضياً عنك وبحكمك فأجاب الله تعالى دعاءه وقال : { رَضِيًّا * يَـازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَـامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } تولى الله تسميته تشريفاً له.
نبشرك بالتخفيف حمزة { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا } [مريم : 7] لم يسم أحد بيحيى قبله وهذا دليل على أن الإسم الغريب جدير بالأثرة وقيل مثلاً وشبيها ولم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد بين شيخ وعجوز وأنه كان حصوراً فلما بشرته الملائكة به { قَالَ رَبِّ إِنِّى } [الشعراء : 12] كيف { يَكُونُ لِي غُلَـامٌ } [آل عمران : 40] وليس هذا باستبعاد بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون أيوهب له وهو وامرأته بتلك الحال أم يحولان شابين { وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } [مريم : 8] أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود اليابس من أجل الكبر والطعن في
49
السن العالية عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر الأوائل حمزة وعلي وحفص إلا في بكيا
جزء : 3 رقم الصفحة : 49
{ قَالَ كَذَالِكَ } [طه : 126] الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ { قَالَ رَبُّكَ } [الذاريات : 30] أو نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ } [مريم : 9] أي خلق يحيى من كبيرين سهل { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } [مريم : 9] أو جدتك من قبل يحيى.
خلقناك حمزة وعلي { وَلَمْ تَكُ شيئا } [مريم : 9] لأن المعدوم ليس بشيء { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً } [آل عمران : 41] علامة أعرف بها حبل امرأتي { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلا } [مريم : 10] حال من ضمير تكلم أي حال كونك سوى الأعضاء واللسان يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح ما بك خرس ولا بكم ودل ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفاً { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } [مريم : 11] من موضع صلاته وكانوا ينتظرونه ولم يقدر أن يتكلم { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } [مريم : 11] أشار بإصبعه { أَن سَبِّحُوا } [مريم : 11] صلوا وأن هي المفسرة { بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم : 11] صلاة الفجر والعصر { وَلا يَحْيَى } أي وهبنا له يحيى وقلنا له بعد ولادته وأوان الخطاب يا يحيى { خُذِ الْكِتَـابَ } [مريم : 12] التوراة { بِقُوَّةٍ } حال أي بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد { وَءَاتَيْنَـاهُ الْحُكْمَ } [مريم : 12] الحكمة وهو فهم التوراة والفقه في الدين { صَبِيًّا } حال قيل دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي فقال : ما للعب خلقنا { وَحَنَانًا } شفقة ورحمة لأبويه وغيرهما عطفاً على الحكم { مِّن لَّدُنَّا } [النساء : 67]
50
من عندنا { وَزَكَواةً } أي طهارة وصلاحاً فلم يعمل بذنب { وَكَانَ تَقِيًّا } [مريم : 13] مسلماً مطيعا
جزء : 3 رقم الصفحة : 50
(3/33)
{ وَبَرَّا بِوَالِدَيْهِ } [مريم : 14] وباراً بهما لا يعصيهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا } [مريم : 14] متكبراً { عَصِيًّا } عاصياً لربه { وَسَلَـامٌ عَلَيْهِ } [مريم : 15] أمان من الله له { يَوْمَ وُلِدَ } [مريم : 15] من أن يناله الشيطان { وَيَوْمَ يَمُوتُ } [مريم : 15] من فتاني القبر { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } [مريم : 15] من الفزع الأكبر قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن { وَاذْكُرْ } يا محمد { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] القرآن { مَرْيَمَ } أي اقرأ عليهم في القرآن قصة مريم ليقفوا عليها ويعلموا ما جرى عليها { إِذِ } بدل من مريم بدل اشتمال إذ الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه { انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } [مريم : 16] أي اعتزلت { مَكَانًا } ظرف { شَرْقِيًّا } أي تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس وقيل قعدت في مشرقه للاغتسال من الحيض { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا } [مريم : 17] جعلت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها لتغتسل وراءه { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَا رُوحَنَا } [مريم : 17] جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف وإنا سمي روحاً لأن الدين يحيا به وبوحيه { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا } [مريم : 17] أي فتمثل لها جبريل في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر { سَوِيًّا } مستوى الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه { قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا } [مريم : 18] أي إن كان يرجى منك أن
51
تتقي الله فإني عائذة به منك
جزء : 3 رقم الصفحة : 51
{ قَالَ } جبريل عليه السلام { إِنَّمَآ أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } [مريم : 19] أمنها مما خافت وأخبر أنه ليس بآدمى بل هو رسول من استعاذت به { لاهَبَ لَكِ } [مريم : 19] بإذن الله تعالى ، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الروع ليهب لك أي الله ، أبو عمرو ونافع.
{ غُلَـامًا زَكِيًّا } [مريم : 19] ظاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير والبركة { قَالَتْ إِنِّى } [مريم : 18] كيف { يَكُونُ لِي غُلَـامٌ } [آل عمران : 40] ابن { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } [آل عمران : 47] زوج بالنكاح { وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } [مريم : 20] فاجرة تبغي الرجال أي تطلب الشهوة من أي رجل كان ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين ، والبغي فعول عند المبرد بغوي فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت العين إتباعاً ولذا لم تلحق تاء التأنيث كما لم تلحق في امرأة صبور وشكور وعند غيره هي فعيل ولم تلحقها الهاء لأنها بمعنى مفعولة وإن كانت بمعنى فاعلة فهو قد يشبه به مثل إن رحمة الله قريب { قَالَ } جبريل { كَذَالِكَ } أي الأمر كما قلت : لم يمسسك رجل نكاحاً أو سفاحاً { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ } [مريم : 9] أي إعطاء الولد بلا أب عليَّ سهل { وَلِنَجْعَلَهُا ءَايَةً لِّلنَّاسِ } [مريم : 21] تعليل معلله محذوف أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية للناس أي عبرة وبرهاناً على قدرتنا { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم : 21] لمن أمن به { وَكَانَ } خلق عيسى { أَمْرًا مَّقْضِيًّا } [مريم : 21] مقدراً مسطوراً في اللوح فلما أطمأنت إلى قوله دنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها { فَحَمَلَتْهُ } أي الموهوب وكانت سنها ثلاث عشرة سنة أو عشراً أو عشرين { فَانتَبَذَتْ بِهِ } [مريم : 22] اعتزلت وهو في بطنها والجار والمجرور في موضع الحال ، عن ابن عباس رضي الله عنهما كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته
52
نبذته وقيل ستة أشهر وقيل سبعة وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى وقيل حملته في ساعة ووضعته في ساعة { مَكَانًا قَصِيًّا } [مريم : 22] بعيداً من أهلها وراء الجبل وذلك لأنها لما أحست بالحمل هربت من قومها مخافة اللإئمة
جزء : 3 رقم الصفحة : 52
(3/34)
{ فَأَجَآءَهَا } جاء بها وقيل ألجأها وهو منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد { الْمَخَاضُ } وجمع الولادة { إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [مريم : 23] أصلها وكان يابسة وكان الوقت شتاء وتعريفها مشعر بأنها كانت نخلة معروفة وجاز أن يكون التعريف للجنس أي جذع هذه الشجرة كأنه تعالى أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب لأنه حرسة النفساء أي طعامها ثم { قَالَتْ } جزعاً مما أصابها { يَـالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَـاذَا } [مريم : 23-62] اليوم مِتُّ مدني وكوفي غير أبي بكر وغيرهم بالضم يقال مات يموت ومات بمات { وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا } [مريم : 23] شيئاً متروكاً لا يعرف ولا يذكر.
بفتح النون حمزة وحفص بالكسر غيرهما ومعناهما واحد وهو الشيء الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته { فَنَادَاـاهَا مِن تَحْتِهَآ } [مريم : 24] مَن أي الذي تحتها فمن فاعل وهو جبريل عليه السلام لأنِه كان بمكان منخفض عنها أو عيسى عليه السلام لأنه خاطبها من تحت ذيلها من تحتها مدني وكوفي سوى أبي بكر والفاعل مضمر وهو عيسى عليه السلام أو جبريل والهاء في تحتها للنخلة ولشدة ما لقيت سليت بقوله { أَلا تَحْزَنِى } [مريم : 24] لا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس وأن بمعنى أي { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } [مريم : 24] بقربك أو تحت أمرك إن أمرته أن يجري حرى وإن أمرته أن يقف وقف { سَرِيًّا } نهراً صغيراً عند الجمهور وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن السري فقال : هو الجدول وعن الحسن سيداً كريماً يعني عيسى عليه السلام وروي أن خالد بن صفوان قال : له إن العرب تسمى الجدول سرياً فقال الحسن : صدقت ورجع إلى قوله وقال : ابن عباس رضي
53
الله عنهما ضرب عيسى أو جبريل عليهما السلام بعقبه الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى النهر اليابس فاخضرت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها فقيل لها
جزء : 3 رقم الصفحة : 53
حركي { أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } [البقرة : 99] إلى نفسك { بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } [مريم : 25] قال أبو علي : الباء زائدة أي هزي جذع النخلة { تُسَـاقِطْ عَلَيْكِ } [مريم : 25] بإدغام التاء الأولى في الثانية مكى ومدني وشامي وأبو عمرو وعلي وأبو بكر والأصل تتساقط بإظهار التاءين وتساقط بفتح التاء والقاف وطرح التاء الثانية وتخفيف السين حمزة ويساقط بفتح الياء والقاف وتشديد السين يعقوب وسهل وحماد ونصير وتساقط حفص من المفاعلة وتُسقِطْ ويُسقِطْ وتَسقُطْ ويَسقُطْ التاء للنخلة والياء للجذع فهذه تسع قراءات { رُطَبًا } تمييز أو مفعول به على حسب القراءة { جَنِيًّا } طرياً وقالوا التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وقيل ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض من العسل { فَكُلِى } من الجني { وَاشْرَبِى } من السري { وَقَرِّى عَيْنًا } [مريم : 26] بالولد الرضى وعينا تمييز أي طيبي نفساً بعيسى وارفضي عنك ما أحزنك { فَإِمَّا } أصله إن ما فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها { تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْمًا } [مريم : 26] أي فإن رأيت آدمياً يسألك عن حالك فقولي إني نذرت للرحمن صمتاً وإمساكاً عن الكلام وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الأكل والشرب وقيل صياماً حقيقة وكان صيامهم فيه الصمت فكان إلتزامُه إلتزامَه وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صوم الصمت فصار ذلك منسوخاً فينا وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرىء به ساحتها ولئلا تجادل
54
السفهاء وفيه دليل على أن السكوت عن السفيه واجب وما قُدعَ سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة وقد تسمى الإشارة كلاماً وقولاً ألا ترى أن قول الشاعر في وصف القبور * وتكلمت عن أوجه تبلى * وقيل كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام أو سوغ لها هذا القدر بالنطق { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا } [مريم : 26] آدميا
جزء : 3 رقم الصفحة : 54
(3/35)
{ فَأَتَتْ بِهِ } [مريم : 27] بعيسى { قَوْمَهَا } بعد ما طهرت من نفاسها { تَحْمِلُهُ } حال منها أي أقبلت نحوهم حاملة إياه فلما رأوه معها { قَالُوا يَـامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شيئا فَرِيًّا } [مريم : 27] بديعاً عجيباً والفري القطع كأنه يقطع العادة { فَأَرْسِلْ إِلَى هَـارُونَ } وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل أو هو أخو موسى عليه السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة وهذا كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم أو رجل صالح أو طالح من زمانها شبهوها به في الصلاح أو شتموها به { مَا كَانَ أَبُوكِ } [مريم : 28] عمران { امْرَأَ سَوْءٍ } [مريم : 28] زانياً { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } [مريم : 28] حنة { بَغِيًّا } زانية { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [مريم : 29] إلى عيسى أن يجيبهم وذلك أن عيسى عليه السلام قال لها : لا تحزني وأحيلي بالجواب علي وقيل أمرها جبريل بذلك ولما أشارت إليه غضبوا وتعجبوا و { قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ } [مريم : 29] حدث ووجد { فِى الْمَهْدِ } [مريم : 29] المعهود { صَبِيًّا } حال { قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ } [مريم : 30] ولما أسكتت بأمر الله لسانها الناطق أنطق الله لها اللسان الساكت حتى أعترف بالعبودية وهو ابن أربعين ليلة أو ابن يوم روى أنه أشار بسبابته وقال : بصوت رفيع إني عبد الله وفيه رد لقول النصارى
{ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى } [مريم : 30]
55
الإنجيل { وَجَعَلَنِى نَبِيًّا } [مريم : 30] روي عن الحسن أنه كان في المهد نبياً وكلامه معجزته وقيل معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد
جزء : 3 رقم الصفحة : 55
{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } [مريم : 31] نفاعاً حيث كنت أو معلماً للخير { وَأَوْصَـانِى } وأمرني { وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا } [مريم : 31] إن ملكت مالاً وقيل صدقة الفطر أو تطهير البدن ويحتمل وأوصاني بأن آمركم بالصلاة والزكاة { يُبْعَثُ حَيًّا } نصب على الظرف أي مدة حياتي { وَبَرَّا بِوَالِدَتِى } [مريم : 32] عطفاً على مباركاً أي باراً بها أكرمها وأعظمها { وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّارًا } [مريم : 32] متكبراً { شَقِيًّا } عاقاً { وَالسَّلَـامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ } [مريم : 33] يوم ظرف والعامل فيه الخبر وهو علي { وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } [مريم : 33] أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلي إن كان حرف التعريف للعهد وإن كان للجنس فالمعني وجنس السلام علي وفيه تعريض باللعنة على أعداء مريم وابنهالأنه إذا قال : وجنس السلام على فقد عرض بأن ضده عليكم إذ المقام مقام مناكرة وعناد فكان مئنة لمثل هذا التعريض { ذَالِكَ } مبتدأ { عِيسَى } خبره { ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة : 116] نعته أو خبر ثان أي ذلك الذي قال : إني كذا وكذا عيسى بن مريم لا كما قالت النصارى : إنه إله أو ابن الله { قَوْلَ الْحَقِّ } [مريم : 34] كلمة الله فالقول الكلمة والحق الله وقيل له كلمة الله لأنه ولد بقوله كن بلا واسطة أب وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من عيسى ونصبه شامي وعاصم على المدح أو على المصدر أي أقول قول الحق هو ابن مريم وليس بإله كما يدعونه { الَّذِى فِيهِ يَمْتَرُونَ } [مريم : 34] يشكون من المرية الشك أو يختلفون من المراء ، فقالت اليهود : ساحر كذاب وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة
56
جزء : 3 رقم الصفحة : 56
(3/36)
{ مَا كَانَ لِلَّهِ } [مريم : 35] ما ينبغي له { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [مريم : 35] جيء بمن لتأكيد النفي { سُبْحَـانَهُا } نزه ذاته عن اتخاذ الولد { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران : 47] بالنصب شامي أي كما قال : لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفاً بهذا كان منزها أن يشبه الحيوان الوالد { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } [مريم : 36] بالكسر شامي وكوفي على الابتداء وهو من كلام عيسى يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده على وعليكم أن نعبده ومن فتح عطف على بالصلاة أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأن الله ربي وربكم أو علقه بما بعده أي لأن الله ربي وربكم فاعبدوه { هَـاذَا } الذي ذكرت { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [البقرة : 142] فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً { فَاخْتَلَفَ الاحْزَابُ } [مريم : 37] الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها وهم ثلاث فرق نسطورية ويعقوبية وملكانية { مِن بَيْنِهِمْ } [الزخرف : 65] من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكان فقال يعقوب هو الله هبط إِلى الأرض ثم صعد إلى السماء وقال : نسطور كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه وقال : الثالث كذبوا كان عبداً مخلوقاً نبياً فتبع كل واحد منهم قوم { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [مريم : 37] من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحق { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [مريم : 37] هو يوم القيامة أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 57
الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر أو من مكان الشهادة أو وقتها أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيماً لفظاعة ما شهدوا به في عيسى { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم : 38] الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب
57
منهما بعدما كانوا صما وعمياً في الدنيا قال قتادة : إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم ، وبهم مرفوع المحل على الفاعلية كأكرم بزيد فمعناه كرم زيد جداً { لَـاكِنِ الظَّـالِمُونَ الْيَوْمَ } [مريم : 38] أقيم الظاهر مقام المضمر أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ووضعوا العبادة في غير موضعها { فِى ضَلَـالٍ } [الرعد : 14] عن الحق { مُّبِينٍ } ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلهاً معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 57
{ وَأَنذِرْهُمْ } خوفهم { يَوْمَ الْحَسْرَةِ } [مريم : 39] يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على مافات ، وفي الحديث " إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا " { إِذِ } بدل من يوم الحسرة أو ظرف للحسرة وهو مصدر { قُضِىَ الامْرُ } [يوسف : 41] فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } [الأنبياء : 1] هنا عن الاهتمام لذلك المقام { وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [مريم : 39] لا يصدقون به وهم وهم حالان أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } [مريم : 40] أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وذكر من لتغليب العقلاء { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [مريم : 40] بضم الياء وفتح الجيم وفتح الياء يعقوب أي يردون فيجازون جزاءً وفاقاً { وَاذْكُرْ } لقومك { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] القرآن { إِبْرَاهِيمَ } قصته مع أبيه { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } [مريم : 41] بغير همز وهمزه نافع قيل الصادق المستقيم في الأفعال والصديق المستقيم في الأحوال فالصديق من أبنية المبالغة ونظيرة الضحيك والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو
58
جزء : 3 رقم الصفحة : 58
(3/37)
{ إِذْ قَالَ } وجاز أن يتعلق إذا بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم كقوله واتل عليهم نبأ إبراهيم وإلا فالله عز وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله { لابِيهِ يَـا أَبَتِ } [يوسف : 4] بكسر التاء وفتحها ابن عامر والتاء عوض من ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه { لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ } [مريم : 42] المفعول فيهما منسي غير منوي ويجوز أن يقدر أي لا يسمع شيئاً ولا يبصر شيئاً { وَلا يُغْنِى عَنكَ شيئا } [مريم : 42] يحتمل أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي شيئاً من الإغناء وأن يكون مفعولاً به من قولك أغن عني وجهك أي بعد { شيئا * يَـا أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ } الوحي أو معرفة الرب { مَا لَمْ يَأْتِكَ } [مريم : 43] ما في ما لا يسمع وما لم يأتك يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة { فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ } [مريم : 43] أرشدك { صِرَاطًا سَوِيًّا } [مريم : 43] مستقيماً { سَوِيًّا * يَـا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَـانَ } لا تطعه فيما سوَّل من عبادة الصنم { إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيًّا } [مريم : 44] عاصياً { إِلَيْكَ لاقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ } قيل أَعلم { أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـانِ وَلِيًّا } [مريم : 45] قرينا في النار تليه ويليك فانظر في نصيحته كيف راعي المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ففي الحديث " أوحى إلى إبراهيم إنك حليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار " فطلب منه أولاً العلة في خطابه طلب منبه على تماديه موقظ لإفراطه وتناهيه لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم
59
جزء : 3 رقم الصفحة : 59
الأنبياء كان محكوماً عليه بالغي المبين فكيف بمن يعبد حجراً أو شجراً لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي شيئاً من العلم ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك فأنت عابده في الحقيقة ثم ربَّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذاب لاصق به بل قال : أخاق أن يمسك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل كأنه قال : إني أخاف أن يصيبك نَفَيان من عذاب الرحمن وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه وصدر كل نصيحة بقوله يا أبت توسلاً إليه واستعطافاً وإشعاراً بوجوب احترام الأب وإن كان كافراً فثم
جزء : 3 رقم الصفحة : 59
{ قَالَ } آزر توبيخاً { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ ءَالِهَتِى يَـاإِبْرَاهِيمُ } [مريم : 46-51] أي أترغب عن عبادتها فناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيابني وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهم عنده { لَـاـاِن لَّمْ تَنتَهِ } [مريم : 46] عن شتم الأصنام لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها حتى تتباعد أو لأشتمنك { لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى } [مريم : 46] عطف على محذوف يدل عليه لأرجمنك تقديره فاحذرني واهجرني { مَلِيًّا } ظرف أي زماناً طويلاً من الملاوة { قَالَ سَلَـامٌ عَلَيْكَ } [مريم : 47] سلام توديع ومتاركة أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } [مريم : 47] سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيًّا } [مريم : 47] ملطفاً بعموم النعم أو رحيماً أو مكرماً والحفاوة الرأفة والرحمة والكرامة
60
جزء : 3 رقم الصفحة : 60
(3/38)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أراد بالاعتزال المهاجرة من أرض بابل إلى الشام { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [مريم : 48] أي ما تعبدون من أصنامكم { وَادْعُوا } وأعبد { رَبِّى } ثم قال : تواضعاً وهضماً للنفس ومعرضاً بشقاوتها بدعاء آلهتهم { عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا } [مريم : 48] أي كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [مريم : 49] فلما اعتزل الكفار ومعبودهم { وَهَبْنَا لَهُا إِسْحَـاقَ } [مريم : 49] ولداً { وَيَعْقُوبَ } نافلة ليستأنس بهما { وَكُلا } كل واحد منهما { جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم : 49] أي لما ترك الكفار الفجار لوجهه عوضه أولاداً مؤمنين أنبياء { وَوَهَبْنَا لَهُْم مِّن رَّحْمَتِنَا } [مريم : 50] هي المال والولد { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } [مريم : 50] ثناء حسناً وهو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم في الصلوات وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية { عَلِيًّا } رفيعاً مشهوراً { وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ مُوسَى ا إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا } [مريم : 51] كوفي : غير المفضل ، أي أخلصه الله واصطفاه ، ومخلصا غيرهم أي أخلص هو العبادة لله تعالى فهو مخلص بماله من السعادة بأصل الفطرة ومخلص فيما عليه من العبادة بصدق الهمة { وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا } [مريم : 51] الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبيء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع { وَنَـادَيْنَـاهُ } دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة { مِن جَانِبِ الطُّورِ } [مريم : 52] هو جبل بين مصر ومدين { الايْمَنِ } من اليمين أي من ناحية اليمين والجمهور على أن المراد
61
أيمن موسى عليه السلام لأن الجبل لا يمين له والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام { وَقَرَّبْنَـاهُ } تقريب منزلة ومكانة لا منزل ومكان { نَجِيًّا } حال أي مناجياً كنديم بمعنى منادم
جزء : 3 رقم الصفحة : 61
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ } من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه { أَخَاهُ } مفعول { هَـارُونَ } بدل منه { نَبِيًّا } حال أي وهبنا له نبوة أخيه وإلا فهارون كان أكبر سناً منه { وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِسْمَـاعِيلَ } [مريم : 54] هو ابن إبراهيم في الأصح { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } [مريم : 54] وافيه واعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يعود إليه فانتظره سنة في مكانه حتى عاد وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفي وقيل لم يعد ربه موعداً إلا أنجزه وإنما خصه بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له ولأنه المشهور من خصاله { وَكَانَ رَسُولا } [مريم : 51] إلى جرهم { نَبِيًّا } مخبراً منذراً { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } [مريم : 55] أمته لأن النبي أبو أمته وأهل بيته وفيه دليل على أنه لم يداهن غيره { وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا } [مريم : 31] يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان لأنهما أما العبادات البدنية والمالية { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [مريم : 55] قرئ مرضوا على الأصل { وَاذْكُرْ فِى الْكِتَـابِ إِدْرِيسَ } [مريم : 56] هو أخنوخ أول مرسل بعد آدم عليه السلام وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل وقولهم سمى به لكثرة دراسته كتاب الله لا يصح لأنه لو كان إفعيلاً من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً فامتناعه من الصرف دليل العجمة { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } [مريم : 41] أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة { وَرَفَعْنَـاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [مريم : 57] هو شرف النبوة والزلفى عند الله وقيل معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج فيها وعن الحسن إلى
62
الجنة لا شيء أعلى من الجنة وذلك أنه حبب لكثرة عبادته إلى الملائكة فقال : لملك الموت أذقني الموت يهن عليّ ففعل ذلك بإذن الله فحيى وقال : أدخلني النار أزدد رهبة ففعل ثم قال : أدخلني الجنة أزدد رغبة ثم قال له : أخرج فقال : قد ذقت الموت وردت النار فما أنا بخارج من الجنة فقال الله عز وجل : بإذني فعل وبإذني دخل فدعه
(3/39)
جزء : 3 رقم الصفحة : 62
{ أؤلئك } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكرياء إلى إدريس { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّـانَ } [النساء : 69] من للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } [مريم : 58-31] من للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } [مريم : 58] إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه ولد سام بن نوح { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } [مريم : 58] إسماعيل وإسحاق ويعقوب { وَإِسْرَاءِيلَ } أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى لأن مريم من ذريته { وَمِمَّنْ } يحتمل العطف على من الأول والثانية { هَدَيْنَا } لمحاسن الإسلام { وَاجْتَبَيْنَآ } من الأنام أو لشرح الشريعة وكشف الحقيقة { أؤلئك الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم } [مريم : 58] أي إذا تليت عليهم كتب الله المنزلة وهو كلام مستأنف إن جعلت الذين خبراً لأولئك وإن جعلته صفة له كان خبراً.
يتلى بالياء قتيبة لوجود الفاصل مع أن التأنيث غير حقيقي { خَرُّوا سُجَّدًا } [مريم : 58] سقطوا على وجوههم رغبةً { وَبُكِيًّا } باكين رهبة جمع باك كسجود وقعود في جمع ساجد وقاعد في الحديث " اتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا " وعن صالح المرى قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي يا صالح : " هذه القراءة فأين البكاء " ويقول في سجود التلاوة سبحان ربي الأعلى ثلاثاً { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } [مريم : 59] فجاء من بعد هؤلاء المفضلين { خَلْفٌ } أولاد سوء
63
وبفتح اللام لعقب الخير عن ابن عباس هم اليهود { فَخَلَفَ مِن } تركوا الصلاة المفروضة { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [مريم : 59] ملاذ النفوس وعن عليّ رضي الله عنه من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور وعن قتادة رضي الله عنه هو في هذه الأمة { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } [مريم : 59] جزاء غي وكل شر عند العرب غي وكل خير رشاد وعن ابن عباس وابن مسعود وهو واد في جهنم أعدّ للمصرين على الزنا وشارب الخمر وآكل الربا والعاق وشاهد الزور
جزء : 3 رقم الصفحة : 63
{ إِلا مَن تَابَ } رجع عن كفره { وَءَامَنَ } شرطه { وَعَمِلَ صَـالِحًا } [طه : 82] بعد إيمانه
{ فَأُوالَـائكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } [النساء : 124] بضم الياء وفتح الخاء مكي وبصري وأبو بكر { وَلا يُظْلَمُونَ شيئا } [مريم : 60] أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه بل يضاعف لهم أو لا يظلمون شيئاً من الظلم { جَنَّـاتِ } بدل من الجنة لأن الجنة تشمل على جنات عدن لأنها جنس أو نصب على المدح { عَدْنٍ } معرفة لأنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة { الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَـانُ عِبَادَهُ } [مريم : 61] أي عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم ولأنه أضافهم إليه وهو للاختصاص وهؤلاء أهل الاختصاص { بِالْغَيْبِ } أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها { إِنَّهُ } ضمير الشأن أو ضمير الرحمن { كَانَ وَعْدُهُ } [مريم : 61] أي موعوده وهو الجنة { مَأْتِيًّا } أي هم يأتونها { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا } [مريم : 62] في الجنة { لَغْوًا } فحشاً أو كذباً أو ما لا طائل تحته من الكلام وهو المطروح منه وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها { إِلا سَلَـامًا } [مريم : 62] أي لكن يسمعون سلاماً من الملائكة أو من يعضهم على بعض أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة فهو استثناء منقطع عند الجمهور وقيل معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ولما كان أهل دار السلام أغنياء عن الدعاء بالسلامة كان ظاهر من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } [مريم : 62] أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار ثم لأنهم في النور أبداً وإنما
64
(3/40)
يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك وقيل أراد دوام الرزق كما تقوم أنا عند فلان بكرة وعشياً تريد الدوام
جزء : 3 رقم الصفحة : 64
{ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا } [مريم : 63] أي نجعلها ميراث أعمالهم يعني ثمرتها وعاقبتها وقيل يرثون المساكن التي كانت لأهل النار وآمنوا لأن الكفر موت حكماً { مَن كَانَ تَقِيًّا } [مريم : 63] عن الشرك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال : " يا جبريل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا " فنزل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } [مريم : 64] والتنزل على معنيين معنى النزول على مهل ومعنى النزول على الإطلاق والأول أليق هنا يعني أن نزولنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم : 64] أي له ما قدامنا وما خلفنا من الأماكن وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الملك ومشيئته وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون وما يحدث من الأحوال لا تجوز عليه الغفلة والنسيان فأني لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا أذن لنا فيه { رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [مريم : 65] بدل من ربك أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض ثم قال : لرسوله لما عرفت أنه متصف بهذه الصفات { فَاعْبُدْهُ } فاثبت على عبادته { وَاصْطَبِرْ لِعِبَـادَتِهِ } [مريم : 65] أي اصبر على مكافأة الحسود ، لعبادة المعبود ، واصبر على المشاق ، لأجل عبادة الخلاق ، أي لتتمكن من الإتيان بها { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم : 65] شبيها ومثلاً أو هل يسمى أحد باسم الله غيره لأنه مخصوص بالمعبود بالحق أي إذا صح أن لا معبود توجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها
65
فت أبيَّ بن خلف عظماً وقال : أنبعث بعد ما صرنا كذلك فنزل :
جزء : 3 رقم الصفحة : 65
{ وَيَقُولُ الانسَـانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } والعامل في إذا ما دل عليه الكلام وهو أبعث أي إذا مامت أبعث وانتصابه بأخرج ممتنع لأن ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها فلا تقول اليوم لزيد قائم ولام الابتداء الداخلة على المضارع تعطى معنى الحال وتؤكد مضمون الجملة فلما جامعت حرف الاستقبال خلصت للتوكيد واضمحل معنى الحال وما في إذا ماللتوكيد أيضاً فكأنه قال : أحقًّا إنا سنخرج من القبور أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك على وجه الاستنكار والاستبعاد وتقديم الظرف وإيلائه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء إنكارهم { أَوَلا يَذْكُرُ الانسَـانُ } خفيف شامي ونافع وعاصم من الذكر والسائر بتشديد الذال والكاف وأصله يتذكر كقراءة أبيّ فأدغمت التاء في الذال أي أو لا يتدبر والواو عطفت لا يذكر على يقول ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف يعني أيقول ذلك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى فإن تلك أدل على قدرة الخالق حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود وأما الثانية فليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة وردها إلى ما كَانتَ عليه مجموعة بعد التفريق { أَنَّا خَلَقْنَـاهُ مِن قَبْلُ } [مريم : 67] من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه { وَلَمْ يَكُ شيئا } [مريم : 67] هو ذليل على ما بينا وعلى أن المعدوم ليس بشيء خلافاً للمعتزلة { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } [مريم : 68] أي الكفار المنكرين للبعث { وَالشَّيَـاطِينَ } الواو للعطف وبمعنى مع أوقع أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وفي أقسام الله باسمه ومضافاً إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } [مريم : 68] حال جمع جاث أي بارك على الركب ووزنه فعول لأن أصله جثوو كسجود وساجد أي يعتلون من المحشر إلى شاطىء جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم
66
(3/41)
جزء : 3 رقم الصفحة : 66
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } [مريم : 69] طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـانِ عِتِيًّا } [مريم : 69] جرأة أو فجوراً أي لنخرجن من كل طائفة من طوائف الغي أعتاهم فأعتاهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم وقيل المراد بأشدهم عتياً الرؤساء لتضاعف جرمهم لكونهم ضلالاً ومضلين قال سيبويه : أيهم مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته وهو هو من هو أشد حتى لو جيء به لأعرب بالنصب ، وقيل أيهم هو أشد وهذا لأن الصلة توضح الموصول وتبينه كما أن المضاف إليه يوضح المضاف ويخصصه فكما أن خذف المضاف إليه في من قبل يوجب بناء المضاف وجب أن يكون حذف الصلة أو شيء منها موجباً للبناء وموضعها نصب بننزع ، وقال الخليل : هي معربة وهو مبتدأ وأشد خبره وهو رفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن عتياً ويجوز أن يكون النزع واقعاً على من كل شيعة كقوله ووهبنا لهم من رحمتنا أي لننزعن بعض كل شيعة فكأن قائلاً قال : من هم فقيل أيهم أشد عتياً وعلى يتعلق بأفعل أي عتوهم أشد على الرحمن { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا } [مريم : 70] أحق بالنار { صِلِيًّا } تمييز أو دخولا والباء تتعلق بأولى { وَإِن مِّنكُمْ } [مريم : 71] أحد { إِلا وَارِدُهَا } [مريم : 71] داخلها والمراد النار والورود : الدخول عند علي وابن عباس رضي لله عنهم وعليه جمهور أهل السنة لقوله تعالى : فأوردهم النار ولقوله تعالى لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها ولقوله ثم تنجى الذين اتقوا إذ النجاة إنما تكون بعد الدخول لقوله عليه السلام : " الورود الدخول لا يبقي بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم وتقول النار للمؤمن جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي " ، وقيل الورود بمعنى الدخول لكنه يختص بالكفار لقراءة ابن عباس وإن منهم وتحمل القراءة
67
المشهورة على الإلتفات وعن عبد الله الورود الحضور لقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين وقوله أولئك عنها مبعدون وأجيب عنه بأن المراد عن عذابها وعن الحسن وقتادة الورود المرور على الصراط لأن الصراط ممدود عليها فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار وعن مجاهد ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام : " الحمى حظ كل مؤمن من النار " وقال رجل من الصحابة لآخر أيقنت بالورود قال : نعم قال : وأيقنت بالصدر قال : لا قال : قال : ففيم الضحك وفيم التثاقل { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا } [مريم : 71] أي كان ورودهم واجباً كائناً محتوماً والحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى به الموجب كقولهم ضرب الأمير
جزء : 3 رقم الصفحة : 67
{ ثُمَّ نُنَجِّى } [مريم : 72] وعلي بالتخفيف { الَّذِينَ اتَّقَوا } [الأعراف : 201] عن الشرك وهم المؤمنون { وَّنَذَرُ الظَّـالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم : 72] فيه دليل على دخول الكل لأنه قال : ونذر ولم يقل وندخل والمذهب أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محاله وقالت : المرجئة الخبيثة لا يعاقب لأن المعصية لا تضر مع الإسلام عندهم وقالت : المعتزلة يخلد { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا } [يونس : 15] أي القرآن { بَيِّنَـاتٍ } ظاهرات الإعجاز أو حججا وبراهين حال مؤكدة كقوله وهو الحق مصدقاً إذ آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً { قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأحقاف : 7] أي مشركو قريش وقد رجلوا شعورهم وتكلفوا في زيهم { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [العنكبوت : 12] للفقراء ورؤوسهم شعثة وثيابهم خشنة { أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ } [مريم : 73] نحن أم أنتم { خَيْرٌ مَّقَامًا } [مريم : 73] بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان والمسكن وبالضم مكي وهو موضع الإقامة والمنزل { وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [مريم : 73] مجلسا يجتمع القوم فيه للمشاورة ومعنى الآية أن الله تعالى يقول إذا أنزلنا إية فيها دلائل وبراهين أعرضوا عن التدبر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال وحسن المنزل والحال فقال تعالى :
68
جزء : 3 رقم الصفحة : 68
(3/42)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ } [مريم : 74] فكم مفعول أهلكنا ومن تبيين لإبهامها أي كثيراً من القرون أهلكنا وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم { هُمْ أَحْسَنُ } [مريم : 74] في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم كان أحسن نصباً على الوصفية { أَثَـاثًا } هو متاع البيت أو ماجد من الفرش منظراً وهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت ورياً بغير همز مشدداً نافع وابن عامر على قلب الهمزة ياء لسكونها وإنكسار ما قبلها ثم الإدغام أو من الرى الذي هو النعمة { وَرِءْيًا * قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَـالَةِ } [مريم : 75] الكفر { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدًّا } [مريم : 75] جواب من لأنها شرطية وهذا الأمر بمعنى الخبر أي من كفر مد له الرحمن يعني أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغياناً وضلالاً كقوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضلال { حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ } [مريم : 75] هي متصلة بقوله خير مقاماً وأحسن ندياً وما بينهما اعتراض أي لا يزالون يقولون هذا القول إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { إِمَّا الْعَذَابَ } [مريم : 75] في الدنيا وهو تعذيب المسلمين إياهم بالقتل والأسر { وَإِمَّا السَّاعَةَ } [مريم : 75] أي القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فهما بدلان مما يوعدون { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا } [مريم : 75] منزلاً { وَأَضْعَفُ جُندًا } [مريم : 75] أعواناً وأنصاراً أي فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لا خير مقاماً وأحسن ندياً وأن المؤمنين على خلاف صفتهم وجاز أن تتصل بما يليها والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم لا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة وحتى هي التي يحكى بعدها الجمل ألا ترى أن الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله إذا رأوا ما يوعدون.
فسيعلمون
جزء : 3 رقم الصفحة : 69
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوا هُدًى } [مريم : 76] معطوف على موضع فليمدد لوقوعه موضع الخبر تقديره من كان في الضلالة مد أو يمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في
69
ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين أي المؤمنين هدى ثباتاً على الاهتداء أو يقينا وبصيرة بتوفيقه { وَالْبَـاقِيَـاتُ الصَّـالِحَـاتُ } [الكهف : 46] أعمال الآخرة كلها أو الصلوات الخمس أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا } [الكهف : 46] مما يفتحر به الكافر { وَخَيْرٌ مَّرَدًّا } [مريم : 76] أي مرجعاً وعاقبة تهكم بالكفار لأنهم قالوا للمؤمنين أي الفرقين خير مقاماً وأحسن نديا
جزء : 3 رقم الصفحة : 69
(3/43)
{ أَفَرَءيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِـاَايَـاتِنَا وَقَالَ لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } [مريم : 77] ثم.
وبضم الواو وسكون اللام في أربعة مواضع ههنا وفي الزخرف ونوح حمزة وعلى جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب ولما كانت رؤية الأشياء طريقاً إلى العلم بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت في معنى أخبر والفاء أفادت التعقيب كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك وقوله لأوتين جواب قسم مضمر { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } [مريم : 78] من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه ، الهمزه للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة أي أنظر في اللوح المحفوظ فرأى منيته { أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْدًا } [مريم : 78] مؤثقاً أن يؤتيه ذلك أو العهد كلمة الشهادة وعن الحسن نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها في العاص بن وائل فقد روي أن خباب بن الأرت صاغ للعاص بن وائل حلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة فأنا أقضيك ثم فإني أوتى مالاً وولداً حينئذ { كَلا } ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه فليرتدع عنه { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } [مريم : 79] أي قوله والمراد سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله لأنه كما قال : كتب من غير تأخير قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق : 18] وهو كقوله * إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة * أي علم وتبين بالانتساب أني لست بابن لئيمة { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ } [مريم : 79] نزيده من العذاب كما يزيد في الافتراء
70
والاجتراء من المدد ، يقال مده وأمده { مَدًّا } أكد بالمصدر لفرط غضبه تعالى
جزء : 3 رقم الصفحة : 70
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [مريم : 80] أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة والمعنى مسمى ما يقول وهو المال والولد { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [مريم : 80] حال أي بلا مال ولا ولد كقوله ولقد جئتمونا فرادى فما يجدي عليه تمينه وتألبه { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً } [مريم : 81] أي اتخذ هؤلاء المشركون أصناماً يعبدونها { لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } [مريم : 81] أي ليعتزوا بآلهتهمِ ويكونوا لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من العذاب { كَلا } ردع لهم عما ظنوا { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } [مريم : 82] الضمير للآلهة أي سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون أو للمشركين أي ينكرون أن يكونوا قد عبدوها كقوله والله ربنا ما كنا مشركين { وَيَكُونُونَ } أي المعبودون { عَلَيْهِم } على المشركين { ضِدًّا } خصماً لأن الله تعالى ينطقهم فيقولون : يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك والضد يقع على الواحد والجمع وهو في مقابلة لهم عزا والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أي يكونون عليهم ضدا لما قصدوه أي يكونون عليهم ذلاً لا لهم عزا وإن رجع الضمير في سيكفرون ويكونون إلى المشركين فالمعنى ويكونون عليهم أي أعداءهم ضداً أي كفرة بهم بعد أن كانوا يعبدونها ثم عجب نبيه عليه السلام بقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَـاطِينَ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [مريم : 83] أي خليناهم وإياهم من أرسلت البعير أطلقته أوسلطناهم عليهم بالإغواء { تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم : 83] تغريهم على المعاصي إغراء
71
والأز والهز إخوان ومعناهما التهييج وشدة الإزعاج
جزء : 3 رقم الصفحة : 71
(3/44)
{ فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } [مريم : 84] بالعذاب { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا } [مريم : 84] أي أعمالهم للجزاء وأنفاسهم للفناء وقرأها ابن السماك عند المأمون فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْدًا } [مريم : 85] ركبانا على نوق رحالها ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ } [مريم : 86] الكافرين سوق الأنعام لأنهم كانوا أضل من الأنعام { إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [مريم : 86] عطاشا لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء فيسمى به الواردون ، فالوفد جمع وافد كركب وراكب والورد جمع وارد ونصب يوم بمضمر أو يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يوصف أي اذكر يوم نحشر.
ذكر المتقون بأنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفود على الملولك تبجيلاً لهم والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كانهم نعم عطاش تساق إلى الماء استخفافاً بهم { لا يَمْلِكُونَ الشَّفَـاعَةَ } [مريم : 87] حال والواو إن جعل ضميراً فهو للعباد ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة ويجوز أن يكون علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع ومحل من اتخذ رفع على البدل من واو يملكون أو على الفاعلية أو نصب على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة من اتخذ والمراد لا يمكلون أن يشفع لهم { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْدًا } [مريم : 87] بأن آمن.
في الحديث " من قال : لا إله إلا الله كان له عند الله عهد " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : لأصحابه ذات يوم : " أيعجز أحدكم أن
72
يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً " قالوا : وكيف ذلك قال : " يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال : ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين كان لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة " أو يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها
جزء : 3 رقم الصفحة : 72
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا } [مريم : 88] أي النصارى واليهود ومن زعم أن الملائكة بنات الله { لَّقَدْ جِئْتُمْ شيئا إِدًّا } [مريم : 89] خاطبهم بهذا الكلام بعد الغيبة وهو التفات أو أمر نبيه عليه السلام بأن يقول لهم ذلك ؛ والإد العجب أو العظيم المنكر والإدة الشدة وأدّني الأمر أثقلني وعظم عليّ أدًّا { تَكَادُ السَّمَـاوَاتُ } [الشورى : 5] تقرب وبالياء نافع وعليّ { يَتَفَطَّرْنَ } وبالنون بصري وشامي وحمزة وخلف وأبو بكر.
الانفطار من فطره إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه { مِنْهُ } من عظم هذا القول { وَتَنشَقُّ الارْضُ } [مريم : 90] تنخسف وتنفصل أجزاؤها { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ } [مريم : 90] تسقط { هَدًّا } كسراً أو قطعاً أو هدماً ، والهدة صوت الصاعقة من السماء وهو مصدر أي تهد هدّا من سماع قولهم أو مفعول له أو حال أي مهدودة { أَن دَعَوْا } [مريم : 91] لأن سموا ومحله جر بدل من الهاء في منه أو نصب مفعول له علل الخرور بالهد والهد يدعاء الولد للرحمن أو رفع فاعل هدا أي هدها دعاؤهم { أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَدًا * وَمَا يَنابَغِى لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا } انبغى مطاوع بغى إذ طلب أي ما يتأتي
73
له اتخاذ الولد وما يتطلب لو طلب مثلاً لأنه محال غير داخل تحت الصحة وهذا لأن اتخاذ الولد لحاجة ومجالسة وهو منزه عنهما وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات بيان أنه الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره لأن أصول النعم وفروعها منه فلينكشف عن بصرك غطاؤه ، فأنت وجميع ما عندك عطاؤه فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن
جزء : 3 رقم الصفحة : 73
(3/45)
{ إِن كُلُّ مَن } [مريم : 93] نكرة موصوفة صفتها { فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [مريم : 93] وخبر كل { إِلا ءَاتِى الرَّحْمَـانِ } [مريم : 93] ووحد آتى وآتيه حملاً على لفظ كل وهو اسم فاعل من أتى وهو مستقبل أي يأتيه { عَبْدًا } حال أي خاضعاً ذليلاً منقاداً والمعنى ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا هو يأتي الله يوم القيامة مقراً بالعبودية والعبودية والبنوة تتنافيان حتى لو ملك لأب ابنه يعتق عليه ونسبة الجميع إليه نسبة العبد إلى المولى فكيف يكون البعض ولداً والبعض عبداً وقرأ ابن مسعود آت الرحمن على أصله قبل الإضافة { لَّقَدْ أَحْصَـاـاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } [مريم : 94] أي حصرهم بعلمه وأحاط بهم { وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فَرْدًا } [مريم : 95] أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً بلا ما ولا ولد أو بلا معين ولا ناصر { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدًّا } [مريم : 96] مودة في قلوب العباد قال : الربيع يحبهم ويحببهم إلى الناس وفي الحديث يعطى المؤمن مِقَةً في قلوب الأبرار ومهابة في قلوب الفجار وعن قتادة وهرم ما
74
أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه وعن كعب ما يستقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء
جزء : 3 رقم الصفحة : 74
{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَـاهُ } [مريم : 97] سهلنا القرآن { بِلِسَانِكَ } بلغتك حال { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ } [مريم : 97] المؤمنين { وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا } [مريم : 97] شداداً في الخصومة بالباطل أي الذين يأخذون في كل لديد أي شق من المراء والجدال جمْع ألدّ يَراد به أهل مكْة { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ } [مريم : 74] تخويف لهم وإنذار { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ } [مريم : 98] أي هل تجد أو ترى أو تعلم والإحساس الإدراك بالحاسة { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزَا } [مريم : 98] صوتاً خفياً ومنه الركاز أي لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يرى ولا صوت يسمع يعني هلكوا كلهم فكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك فليهن عليك أمرهم.
75
سورة طه
مكية ، وهي مائة وخمس وثلاثون آية كوفي)
{ طه } فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء ، أبو عمرو ، وأمالهما حمزة وعلي وخلف وأبو بكر ، وفخمهما على الأصل غيرهم.
وما روي عن مجاهد والحسن والضحاك وعطاء وغيرهم أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سوة البقرة { مَآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ } [طه : 2] إن جعلت { طه } تعديداً لأسماء الحروف فهو ابتداء كلام ، وإن جعلتها اسماً للسورة احتملت أن تكون خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ ، و { الْقُرْءَانَ } ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم { لِتَشْقَى } لتتعب لفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا ، أو بقيام الليل فإنه روي أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل : أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً أي ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة { إِلا تَذْكِرَةً } [طه : 3] استثناء منقطع أي لكن أنزلناه تذكرة أو حال
76
{ لِّمَن يَخْشَى } [طه : 3] لمن يخاف الله أو لمن يئول أمره إلى الخشية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 76(3/46)
{ تَنزِيلا } بدل من { تَذْكِرَةً } إذا جعل حالاً ويجوز أن ينتصب بـ " نزل " مضمراً أو على المدح أو بـ { يَخْشَى } مفعولاً أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله { مِّمَّنْ خَلَقَ الارْضَ وَالسَّمَـاوَاتِ } [طه : 4] { مِنْ } يتعلق بـ { تَنزِيلا } صلة له { الْعُلَى } جمع العليا تأنيث الأعلى ووصف السماوات بالعلى دليل ظاهر على عظم قدرة خالقها { الرَّحْمَـانُ } رفع على المدح أي هو الرحمن { عَلَى الْعَرْشِ } [طه : 5] خبر مبتدأ محذوف { اسْتَوَى } استولى.
عن الزجاج ، ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات على غيره.
وقيل : لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقال استوى فلان على العرش أي ملك وإن لم يعقد على السرير البتة وهذا كقولك " يد فلان مبسوطة " أي جواد وإن لم يكن له يد رأساً ، والمذهب قول علي رضي الله عنه : الاستواء غير مجهول والتكييف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة لأنه تعالى كان ولا مكان فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان.
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] خبر ومبتدأ ومعطوف { وَمَا بَيْنَهُمَا } [الروم : 8] أي ذلك كله ملكه { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [طه : 6] ما تحت سبع الأراضين أو هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [طه : 7] ترفع صوتك { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } [طه : 7] ما أسررته إلى غيرك { وَأَخْفَى } منه وهو ما أخطرته ببالك أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ لَهُ الاسْمَآءُ الْحُسْنَى } [طه : 8] أي هو واحد بذاته وإن افترقت عبارات صفاته رد لقولهم إنك تدعو آلهة حين سمعوا أسماءه تعالى والحسنى تأنيث الأحسن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 77
{ وَهَلْ } أي وقد { أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } [طه : 9] خبره قفاه بقصة موسى عليه السلام
77
ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة بالصبر على المكاره ولينال الدرجة العليا كما نالها موسى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 77
{ إِذْ رَءَا } [طه : 10] ظرف لمضمر أي حين رأى { نَارًا } كان كيت وكيت أو مفعول به لاذكر.
روي أن موسى عليه السلام استأذن شعيباً في الخروج إلى أمه وخرج بأهله فولد له ابن في الطريق في ليلة مظلمة مثلجة ، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فرأى عند ذلك ناراً في زعمه وكان نوراً { فَقَالَ لاهْلِهِ امْكُثُوا } [طه : 10] أقيموا في مكانكم { إِنِّى ءَانَسْتُ } [النمل : 7] أبصرت { نَارًا } والإيناس رؤية شيء يؤنس به { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى } [القصص : 29] بنى الأمر على الرجاء لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به { بِقَبَسٍ } نار مقتبسة في رأس عود أو فتيله { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } [طه : 10] ذوي هدى أو قوماً يهدونني الطريق.
ومعنى الاستعلاء في { عَلَى النَّارِ } [البقرة : 175] أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها.
{ فَلَمَّآ أَتَـاـاهَا } [القصص : 30] أي النار وجد ناراً بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، وكانت شجرة العناب أو العوسج ولم يجد عندها أحداً.
وروي أنه كلما طلبها بعدت عنه فإذا تركها قربت منه فثم { نُودِىَ } موسى { وَقَالَ مُوسَى إِنِّى } بكسر الهمزة أي نودي فقيل { وَقَالَ مُوسَى إِنِّى } أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته ، وبالفتح : مكي وأبو عمرو أي نودي بأني { أَنَا رَبُّكَ } [طه : 12] { إِنَّآ } مبتدأ أو تأكيد أو فصل وكرر الضمير لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة.
روي أنه لما نودي يا موسى قال : من المتكلم؟ فقال الله عز وجل : { أَنَا رَبُّكَ } [طه : 12].
فعرف أنه كلام الله عز وجل بأنه سمعه من جميع جهاته الست وسمعه بجميع أعضائه.
{ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه : 12] انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس ، أو لأنها كانت من جلد حمار ميت غير مدبوغ ، أو لأن الحفوة تواضع لله ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين ، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي { إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ } [طه : 12] المطهر أو المبارك { طُوًى } حيث كان منوّن : شامي
78
(3/47)
وكوفي لأنه اسم علم للوادي وهو بدل منه ، وغيرهم بغير تنوين بتأويل البقعة.
وقرأ أبو زيد بكسر الطاء بلا تنوين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 78
{ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } [طه : 13] اصطفيتك للنبوة ، { وَأَنَا } حمزة { اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه : 13] إليك للذي يوحى أو للوحي ، واللام يتعلق بـ { اسْتَمَعَ } أو بـ { اخْتَرْتُكَ } { إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِى } [طه : 14] وحدني وأطعني { إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ } [طه : 14] لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء ، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناس ، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا } [النساء : 103] (النساء : 301).
وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها وذا يصح بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي ، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها.
{ إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ } [طه : 15] لا محالة { أَكَادُ } أريد عن الأخفش وقيل صلة { أُخْفِيهَا } قيل : هو من الأضداد أي أظهرها أو أسترها عن العباد فلا أقول هي آتية لإرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الأخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من الحكمة وهو أنهم إذا لم يعلموا متى تقوم كانوا على وجل منها في كل وقت لما أخبرت به { لِتُجْزَى } متعلق بـ { ءَاتِيَةٌ } { كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى } [طه : 15] بسعيها من خير أو شر { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } [طه : 16] فلا يصرفنك عن العمل للساعة أو عن إقامة الصلاة أو عن الإيمان بالقيامة فالخطاب لموسى والمراد به أمته { مَن لا يُؤْمِنُ بِهَا } [طه : 16] لا يصدق بها { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } [طه : 16] في مخالفة أمره { فَتَرْدَى } فتهلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَـامُوسَى } " ما " مبتدأ و { تِلْكَ } خبره وهي بمعنى هذه
79
و { بِيَمِينِكَ } حال عمل فيها معنى الإشارة أي قارة أو مأخوذة بيمينك.
أو { تِلْكَ } موصول صلته { بِيَمِينِكَ } والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت ، أو للتوطين لئلا يهوله انقلابها حية ، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة
جزء : 3 رقم الصفحة : 79
{ قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا } [طه : 18] أعتمد علهيا إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى } [طه : 18] أخبط ورق الشجر على غنمي لتأكل { وَلِىَ فِيهَا مَـاَارِبُ } [طه : 18] ـ { وَلِىَ } ـ حفص جمع مأربة بالحركات الثلاث وهي الحاجة { أُخْرَى } والقياس أخر.
وإنما قال { أُخْرَى } رداً إلى الجماعة أو لنسق الآي وكذا { الْكُبْرَى } ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل ، أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام.
والمآرب الأخر أنها كانت تماشيه وتحدثه وتحارب العدو والسباع وتصير رشاء فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل وتحمل زاده ويركزها فتثمر ثمرة يشتهيها ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام.
والزيادة على الجواب لتعداد النعم شكراً ، أو لأنها جواب سؤال آخر لأنه لما قال { هِىَ عَصَاىَ } [طه : 18] قيل له : ما تصنع بها فأخذ يعدد منافعها.
{ قَالَ أَلْقِهَا يَـامُوسَى } اطرح عصاك لتفزع مما تتكيء عليه فلا تسكن إلا بنا وترى فيها كنه ما فيها من المآرب فتعتمد علينا في المطالب { فَأَلْقَـاـاهَا } فطرحها { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى } [طه : 20] تمشي سريعاً قيل انقلبت ثعباناً يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآها تبتلع كل شيء خاف.
وإنما وصفت بالحية هنا وبالثعبان ـــــ وهو العظيم من الحيات وبالجان وهو الدقيق ـــــ في غيرها لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وجاز أن تنقلب حية صفراء دقيقة ثم يتزايد جرمها حتى تصير ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها ، أو لأنها كانت
80
(3/48)
في عظم الثعبان وسرعة الجان.
وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً.
ولما { قَالَ } له ربه { خُذْهَا وَلا تَخَفْ } [طه : 21] بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها { سَنُعِيدُهَا } سنردها { سِيَرتَهَا الاولَى } [طه : 21] تأنيث الأول ، والسيرة : الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت أو مكتسبة وهي في الأصل فعلة من السير كالركبة من الركوب ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة.
وانتصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا.
والمعنى نردها عصاً كما كانت ، وأرى ذلك موسى عند المخاطبة لئلا يفزع منها إذا انقلبت حية عند فرعون ، ثم نبه على آية أخرى فقال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 80
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } [طه : 22] إلى جنبك تحت العضد وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما أي يميلهما عند الطيران والمعنى أدخلها تحت عضدك { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } [طه : 22] لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر { مِنْ غَيْرِ سُواءٍ } [طه : 22] برص { أُخْرَى * لِنُرِيَكَ } [طه : 22 ، 23] لنبوتك بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء صلة بيضاء كقولك " ابيضت من غير سوء " وجاز أن ينتصب { ءَايَةً } بفعل محذوف يتعلق به لام.
{ لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَـاتِنَا الْكُبْرَى } [طه : 23] أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى العظمى ، أو نريك بهما الكبرى من آياتنا أو المعنى فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى.
{ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [طه : 24] جاوز حد العبودية إلى دعوى الربوبية ، ولما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي وعرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج إلى صدر فسيح.
81
جزء : 3 رقم الصفحة : 80
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى } [طه : 25] وسعه ليحتمل الوحي والمشاق ورديء الأخلاق من فرعون وجنده { وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى } وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون.
واشرح لي صدري آكد من اشرح صدري لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل لأنه يقول اشرح لي ويسر لي علم أن ثمة مشروحاً وميسراً ثم رفع الإبهام بذكر الصدر والأمر { وَاحْلُلْ } افتح { عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى } [طه : 27] وكان في لسانه رتة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه ، وذلك أن موسى أخذ لحية فرعون ولطمه لطمة شديدة في صغره فأراد قتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجعلت في طشت ناراً وفي طشت يواقيت ووضعتهما لدى موسى فقصد اليواقيت فأمال الملك يده إلى النار فرفع جمرة فوضعها على لسانه فاحترق لسانه فصار لكنة منها.
وروي أن يده احترقت واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها.
و { مِّن لِّسَانِى } [طه : 27] صفة لعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني ، وهذا يشعر بأنه لم تزل العقدة بكمالها وأكثرهم على ذهاب جميعها { يَفْقَهُوا قَوْلِي } [طه : 28] عند تبليغ الرسالة.
{ وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا } [طه : 29] ظهيراً اعتمد عليه من الوزر الثقل لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته ، أو من الوزر الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجيء إليه في أموره ، أو معيناً من الموازرة وهي المعاونة فـ
جزء : 3 رقم الصفحة : 82
{ وَزِيرًا } مفعول أول لـ { أَجَعَلَ } والثاني { مِّنْ أَهْلِى } [طه : 29] أو { وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا } مفعولاه وقوله { هَـارُونَ } عطف بيان لـ { وَزِيرًا } وقوله { أَخِى } بدل أو عطف بيان آخر أو { وَزِيرًا } و { هَـارُونَ } مفعولاه وقدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى } [طه : 31] قو به ظهري وقيل الأزر القوة
82
(3/49)
{ وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى } اجعله شريكي في النبوة والرسالة.
{ اشْدُدْ } و على حكاية النفس شامي على الجواب ، والباقون على الدعاء والسؤال { أَمْرِى * كَىْ نُسَبِّحَكَ } [طه : 33] نصلي لك وننزهك تسبيحاً { كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } في الصلوات وخارجها { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا } [طه : 35] عالماً بأحوالنا فأجابه الله تعالى حيث { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَـامُوسَى } أعطيت مسئوولك فالسؤل الطلبة فعل بمعنى مفعول كخبز بمعنى مخبوز.
بلا همز : أبو عمرو.
جزء : 3 رقم الصفحة : 82
{ مُبِينٌ * وَلَقَدْ مَنَنَّا } [الصافات : 114] أنعمنا { عَلَيْكَ مَرَّةً } [طه : 37] كرة { أُخْرَى } قبل هذه ثم فسرها فقال { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى } [طه : 38] إلهاماً أو مناماً حين ولدت وكان فرعون يقتل أمثالك.
و { إِذْ } ظرف لـ { مَنَنَّا } ثم فسر ما يوحى بقوله { أَنِ اقْذِفِيهِ } [طه : 39] ألقيه { فِى التَّابُوتِ } [طه : 39] و { ءَانٍ } مفسرة لأن الوحي بمعنى القول { فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ } [طه : 39] النيل { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } [طه : 39] الجانب وسمي ساحلاً لأن الماء يسحله أي يقشره ، والصيغة أمر ليناسب ما تقدم ومعناه الإخبار أي يلقيه اليم بالساحل { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ } [طه : 39] يعني فرعون والضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يفضي إلى تناثر النظم والمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت لكن موسى في جوف التابوت.
روي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا بصبي أصبح الناس وجهاً
83
فأحبه فرعون حباً شديداً فذلك قوله { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى } [طه : 39] يتعلق { مِّنِّى } بـ يعني إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب فما راه أحد إلا أحبه.
قال قتادة : كان في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه { مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ } [طه : 39] معطوف على محذوف تقديره وألقيت عليك محبة لتحب ولتصنع { عَلَى عَيْنِى } [طه : 39] أي لتربى بمرأى مني وأصله من صنع الفرس أي أحسن القيام عليه يعني أنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به { وَلِتُصْنَعَ } بسكون اللام والجزم : يزيد على أنه أمر منه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 82
{ إِذْ تَمْشِى } [طه : 40] بدل من { إِذْ أَوْحَيْنَآ } [طه : 38] لأن مشي أخته كان منة عليه { أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ } [طه : 40] روي أن أخته مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي امرأة فقالت : هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه فيربيه وأرادت بذلك المرضعة الأم.
وتذكير الفعل للفظ { مِنْ } ، فقالوا : نعم فجاءت بالأم فقبل ثديها وذلك قوله { فَرَجَعْنَـاكَ } فرددناك { إِلَى أُمِّكَ } [طه : 40] كما وعدناها بقولنا { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [القصص : 7] (القصص : 7) { كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } [طه : 40] بلقائك { وَلا تَحْزَنَ } [العنكبوت : 33] على فراقك { وَقَتَلْتَ نَفْسًا } [طه : 40] قبطياً كافراً { فَنَجَّيْنَـاكَ مِنَ الْغَمِّ } [طه : 40] من القود.
قيل الغم : القتل بلغة قريش وقيل : اغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله تعالى ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له باستغفاره
جزء : 3 رقم الصفحة : 84
{ قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى } [القصص : 16] (القصص : 61) ونجاه من فرعون بأن ذهب به من مصر إلى مدين { وَفَتَنَّـاكَ فُتُونًا } [طه : 40] ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن وتخليصك منها ، والفتون مصدر كالقعود أو جمع فتنة أي فتناك ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] (الأنبياء : 53) { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } [طه : 40] هي بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر.
قال وهب : لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة ، عشر منها مهر لصفوراء ،
84
(3/50)
وأقام عنده ثمان عشرة سنة بعدها حتى ولد له أولاد.
{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَـامُوسَى } أي موعد ومقدار للرسالة وهو أربعون سنة { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى } [طه : 41] اخترتك واصطفيتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي.
قال الزجاج : اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 84
{ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ } بمعجزاتي { بِـاَايَـاتِى وَلا تَنِيَا } [طه : 42] تفترا من الوني وهو الفتور والتقصير { فِى ذِكْرِى } أي اتخذا ذكري جناحاً تطيران به أو أريد بالذكر تبليغ الرسالة فالذكر يقع على سائر العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها { اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ } [طه : 43] كرر لأن الأول مطلق والثاني مقيد { إِنَّهُ طَغَى } [طه : 24] جاوز الحد بإدعائه الربوبية { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا } [طه : 44] الطفا له في القول لما له من حق تربية موسى ، أو كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة.
أو عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع عنه إلا بالموت ، أو هو قوله { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } (النازعات : 91) فظاهره الإستفهام والمشورة { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [طه : 44] أي يتعظ ويتأمل فيذعن للحق { أَوْ يَخْشَى } [طه : 44] أي يخاف أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة.
وإنما قال { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [طه : 44] مع علمه أنه لا يتذكر لأن الترجي لهما ، أي إذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرمن يطمع أن يثمر عمله.
وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة.
وقيل : معناه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش وقد كان ذلك من كثير من الناس.
وقيل : { لَعَلَّ } من الله تعالى واجب وقد تذكر ولكن حين لم ينفعه التذكر.
وقيل : تذكر فرعون وخشي وأراد اتباع موسى فمنعه هامان وكان لا يقطع أمراً دونه.
وتليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف بمن قال أنت الإله؟ وهذا رفقك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى.
85
{ قَالا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } [طه : 45] يعجل علينا بالعقوبة ومنه الفارط يقال فرط عليه أي عجل { أَوْ أَن يَطْغَى } [طه : 45] يجاوز الحد في الإساءة إلينا { قَالَ لا تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 84
طه : 46] أي حافظكما وناصركما { أَسْمَعُ } أقوالكما { وَأَرَى } أفعالكما.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلاتهتما { فَأْتِيَاهُ } أي فرعون { فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه : 47] إليك { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [طه : 47] أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } [طه : 47] بتكليف المشاق { قَدْ جِئْنَـاكَ بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ } [طه : 47] بحجة على صدق ما ادعيناه ، وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى ـــــ وهي { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه : 47] ـــــ مجرى البيان والتفسير والتفصيل لأن دعوى الرسالة لا تثبث إلا ببينتها وهي المجيء بالآي فقال فرعون : وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس { وَالسَّلَـامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [طه : 47] أي سلم من العذاب من أسلم وليس بتحية.
وقيل : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين.
{ إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ } [طه : 48] في الدنيا والعقبى { عَلَى مَن كَذَّبَ } [طه : 48] بالرسل { وَتَوَلَّى } أعرض عن الإيمان وهي أرجى آي القرآن لأنه جعل جنس السلام للمؤمن وجنس العذاب على المكذب وليس وراء الجنس شيء ، فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به.
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـامُوسَى } خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه { قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ } [طه : 50] { خَلْقَهُ } أول مفعولي { أَعْطَى } أي أعطى
86
(3/51)
خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذا الأنف والرجل واليد كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة بها ، وقرأ نصير { خَلْقَهُ } صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي أعطى كل شيء مخلوق عطاء { ثُمَّ هَدَى } [طه : 50] عرف كيف يرتفق بما أعطى للمعيشة في الدنيا والسعادة في العقبى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 84
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاولَى } [طه : 51] فما حال الأمم الحالية والرمم البالية ، سأله عن حال من تقدم من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد { قَالَ } موسى مجيباً { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى } [طه : 52] مبتدأ وخبر { فِي كِتَـابِ } [الانفال : 75] أي اللوح خبر ثانٍ أي هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ { لا يَضِلُّ رَبِّى } [طه : 52] أي لا يخطيء شيئاً يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له أي لا يخطيء في سعادة الناس وشقاوتهم { وَلا يَنسَى } [طه : 52] ثوابهم وعقابهم.
وقيل : لا ينسى ما علم فيذكره الكتاب ولكن ليعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه.
{ الَّذِى } مرفوع صفة لـ { رَبِّى } أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح
جزء : 3 رقم الصفحة : 87
{ جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ مَهْدًا } [الزخرف : 10] كوفي وغيرهم { مَهْدًا } وهما لغتان لما يبسط ويفرش { وَسَلَكَ } أي جعل { لَكُمْ فِيهَا سُبُلا } [الزخرف : 10] طرقاً { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [البقرة : 22] أي مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } [طه : 53] بالماء.
نقل الكلام من الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للافتنان.
وقيل : تم كلام موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } [طه : 53] وقيل : هذا كلام موسى أي فأخرجنا نحن بالحراثة والغرس { أَزْوَاجًا } أصنافاً { مِّن نَّبَاتٍ } [طه : 53] هو مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع { شَتَّى } صفة للأزواج أو للنبات جمع شتيت كمريض ومرضى أي إنها مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل بعضها
87
للناس وبعضها للبهائم ، ومن نعمة الله تعالى أن أرزاقنا تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجاتنا مما لا نقدر على أكله قائلين { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَـامَكُمْ } [طه : 54] حال من الضمير في { فَأَخْرَجْنَا } والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] في الذي ذكرت { لايَـاتٍ } لدلالات { لاوْلِى النُّهَى } [طه : 54] لذوي العقول واحدها نهية لأنها تنهى عن المحظور أو ينتهى إليها في الأمور { مِّنْهَا } من الأرض { خَلَقْنَـاكُمْ } أي أباكم آدم عليه السلام.
وقيل : يعجن كل نطفة بشيء من تراب مدفنه فيخلق من التراب والنطفة معاً أو لأن النطفة من الأغذية وهي من الأرض { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه : 55] إذا متم فدفنتم { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } [طه : 55] عند البعث { تَارَةً أُخْرَى } [طه : 55] مرة أخرى والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر ، عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها ، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا ، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهي أصلهم الذي منه تفرعوا ، وأمهم التي منها ولدوا وهي كفانهم إذا ماتوا.
{ وَلَقَدْ أَرَيْنَـاهُ } [طه : 56] أي فرعون { كُلَّهَا فَكَذَّبَ } [طه : 56] وهي تسع آيات : العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل { فَكَذَّبَ } الآيات { وَأَبَى } قبول الحق { قَالَ } فرعون { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا } [طه : 57] مصر { بِسِحْرِكَ يَـامُوسَى } فيه دليل على أنه خاف منه خوفاً شديداً وقوله { بِسِحْرِكَ } تعلل وإلا فأي ساحر يقدر أن يخرج ملكاً من أرضه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 87
(3/52)
{ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } [طه : 58] فلنعارضنك بسحر مثل سحرك { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا } [طه : 58] هو مصدر بمعنى الوعد ويقدر مضاف أي مكان موعد.
والضمير في
88
{ لا نُخْلِفُهُ } [طه : 58] للموعد.
قرأ يزيد بالجزم على جواب الأمر وغيره بالرفع على الوصف للموعد { نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا } [طه : 58] هو بدل من المكان المحذوف ، ويجوز أن لا يقدر مضاف ويكون المعنى اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلفه ، وانتصب { مَكَانًا } بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر { سُوًى } بالكسر حجازي وأبو عمرو وعليّ وغيرهم بالضم وهو نعت لـ { مَكَانًا } أي منصفاً بيننا وبينك وهو من الاستواء لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية.
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } [طه : 59] مبتدأ وخبر وهو يوم عيد كان لهم أو يوم النيروز أو يوم عاشوراء.
وإنما استقام الجواب بالزمان وإن كان السؤال عن المكان على التأويل الأول ، لأن اجتماعهم يوم الزينة يكون في مكان لا محالة فبذكر الزمان علم المكان ، وعلى الثاني تقديره وعدكم وعد يوم الزينة { وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ } [طه : 59] أي تجمع في موضع رفع أوجر عطفاً على { يَوْمُ } أو { الزِّينَةِ } { ضُحًى } أي وقت الضحوة لتكون أبعد عن الريبة وأبين لكشف الحق وليشيع في جميع أهل الوبر والمدر { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } [طه : 60] أدبر عن موسى معرضاً { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [طه : 60] مكره وسحرته وكانوا اثنين وسبعين أو أربعمائة أو سبعين ألفاً { ثُمَّ أَتَى } [طه : 60] للموعد { قَالَ لَهُم مُّوسَى } [يونس : 80] أي للسحرة { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [طه : 61] لا تدعوا آياته ومعجزاته سحراً { فَيُسْحِتَكُم } كوفي غير أبي بكر يهلككم وبفتح الياء والحاء غيرهم ، والسحت والإسحات بمعنى الإعدام وانتصب على جواب النهي { بِعَذَابٍ } عظيم { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } [طه : 61] من كذب على الله { فَتَنَـازَعُوا } اختلفوا أي السحرة فقال بعضهم : هو ساحر مثلنا.
وقال بعضهم : ليس هذا بكلام السحرة أي { لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [طه : 61] الآية { أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } [طه : 62] أي تشاوروا في السر وقالوا : إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر ، والنجوى يكون مصدراً واسماً.
89
ثم لفقوا هذا الكلام يعني
جزء : 3 رقم الصفحة : 87
{ قَالُوا إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ } [طه : 63] يعني موسى وهارون.
قرأ أبو عمرو { إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ } وهو ظاهر ولكنه مخالف للإمام ، وابن كثير وحفص والخليل وهو أعرف بالنحو واللغة { إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ } [طه : 63] بتخفيف { ءَانٍ } مثل قولك " إن زيد لمنطلق " واللام هي الفارقة بين " إن " النافية والمخففة من الثقيلة.
وقيل : هي بمعنى " ما " واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران دليله قراءة أبيّ { ءَانٍ } وغيرهم { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَـاذَانِ لَسَـاحِرَانِ } [طه : 63] قيل هي لغة بلحارث بن كعب وخثعم ومراد وكنانة فالتثنية في لغتهم بالألف أبداً فلم يقلبوها يا ء في الجر والنصب كعصا وسعدى قال :
إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وقال الزجاج : إن بمعنى نعم ، قال الشاعر :
ويقلن شيب قد علاك وقد كبرت فقلت إنه أي نعم والهاء للوقف.
و { هَـاذَانِ } مبتدأ و خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على المبتدأ المحذوف تقديره : هذان لهما ساحران فيكون دخولهما في موضعها الموضوع لها وهو الابتداء ، وقد يدخل اللام في الخبر كما يدخل في المبتدأ قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
خالي لأنت ومن جرير خاله
(3/53)
قال : فعرضته على المبرد فرضيه وقد زيفه أبو عليّ.
{ لَسَـاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم } [طه : 63] مصر { بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ } [طه : 63] بدينكم وشريعتكم { الْمُثْلَى } الفضلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل { فَأَجْمِعُوا } فأحكموا أي اجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا { فَأَجْمِعُوا } أبو عمرو ويعضده { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } [طه : 60] { كَيْدَكُمْ } هو ما يكاد به { ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } [طه : 64] مصطفين حال أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [طه : 64] وقد فاز من غلب وهو اعتراض.
{ قَالُوا } أي السحرة { يَـامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ } [الأعراف : 115] عصاك أولاً
90
{ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } [طه : 65] ما معنا وموضع " أن " مع ما بعده فيهما نصب بفعل مضمر ، أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف معناه اختر أحد الأمرين ، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.
وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى { قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [طه : 66] أنتم أولاً ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر ويظهر الله سلطانه ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } [طه : 66] يقال في { إِذَآ } هذه : إذا المفاجأة والتحقيق أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها ، وخصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير والتقدير : ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي { يُخَيَّلُ } وبالتاء : ابن ذكوان { إِلَيْهِ } إلى موسى { مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه : 66] رفع بدل اشتمال من الضمير في { يُخَيَّلُ } أي يخيل الملقى.
روي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
{ فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى } [طه : 67] أضمر في نفسه خوفاً ظنًّا منه أنها تقصده للجبلة البشرية أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى } [طه : 68] الغالب القاهر.
وفي ذكر " إن " و " أنت " وحرف التعريف ولفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة مبالغة بينة.
{ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ } [طه : 69] بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف : حفص و { تَلْقَفْ } : ابن ذكوان ، الباقون { تَلْقَفْ } { مَا صَنَعُوا } [طه : 69] زوراً وافتعلوا أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم.
ولم يقل عصاك تعظيماً لها أي لا تحتفل بما صنعوا فإن ما في يمينك أعظم منها ، أو تحقيراً أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد
91
الذي في يمينك فإنه بقدرتنا يتلقفها على وحدته وكثرتها { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَـاحِرٍ } [طه : 69] كوفي غير عاصم سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في السحر كأنهم السحر ، و { كَيْدُ } بالرفع على القراءتين و " ما " موصولة أو مصدرية.
وإنما وحد { سَـاحِرٌ } ولم يجمع لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ } [طه : 69] أي هذا الجنس { حَيْثُ أَتَى } [طه : 69] أينما كان فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا إلى السجود فذلك قوله { فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا } [طه : 70] قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين.
روي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في السجود فرفعوا رؤوسهم ثم { قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ هَـارُونَ وَمُوسَى } [طه : 70] وإنما قدم " هارون " هنا وأخر في الشعراء محافظة للفاصلة ولأن الواو لا توجب ترتيباً { قَالَ ءَامَنتُمْ } [طه : 71] بغير مد : حفص ، وبهمزة ممدودة : بصري وشامي وحجازي ، وبهمزتين : غيرهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
(3/54)
{ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [الشعراء : 49] أي لموسى.
يقال : آمن له وآمن به { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه : 71] لعظيمكم أو لمعلمكم ، تقول أهل مكة للمعلم : أمرني كبيري { فَلاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ } [طه : 71] القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال ، و " من " لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو ، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال { وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه : 71] وخص النخل لطول جذوعها { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا } [طه : 71] أنا على ترك إيمانكم
92
بي أو رب موسى على ترك الإيمان به.
وقيل : يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله { لَهُ قَبْلَ } [طه : 71] واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة : 61] (التوبة : 16) { وَأَبْقَى } أدوم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 90
{ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ } [طه : 72] لن نختارك { عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ } [طه : 72] القاطعة الدالة على صدق موسى { وَالَّذِى فَطَرَنَا } [طه : 72] عطف على { مَا جَآءَنَا } [المائدة : 19] أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا ، أو قسم وجوابه { لَن نُّؤْثِرَكَ } [طه : 72] مقدم على القسم { فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [طه : 72] فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب قال : وعليهما مسرودتان قضاهما ، أي صنعهما أو احكم ما أنت حاكم { قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا } [طه : 72] أي في هذه الحياة الدنيا فانتصب على الظرف أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 93
{ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَـايَـانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ } " ما " موصولة منصوبة بالعطف على { خَطَـايَـانَا } { مِنَ السِّحْرِ } [طه : 73] حال من " ما " ، روي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فكرهوا معارضته خوف الفضيحة فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر وضر فرعون جهله به ونفعهم علمهم بالسحر فكيف بعلم الشرع { وَاللَّهُ خَيْرٌ } [الجمعة : 11] ثواباً لمن أطاعه { وَأَبْقَى } عقاباً لمن عصاه وهو رد لقول فرعون { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } [طه : 71].
{ إِنَّهُ } هو ضمير الشأن { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا } [طه : 74] كافراً { فَإِنَّ لَهُ } [طه : 74] للمجرم { جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } [طه : 74] فيستريح بالموت { وَلا يَحْيَى } [طه : 74] حياة ينتفع بها { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا } [طه : 75] مات على الإيمان { قَدْ عَمِلَ الصَّـالِحَـاتِ } [طه : 75] بعد الإيمان { فَأُوالَـائكَ لَهُمُ الدَّرَجَـاتُ الْعُلَى } [طه : 75] جمع العليا
93
{ جَنَّـاتُ عَدْنٍ } [مريم : 61] بدل من { الدَّرَجَـاتُ } { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا } [البينة : 8] دائمين { وَذَالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى } [طه : 76] تطهر من الشرك بقول لا إله إلا الله.
قيل : هذه الآيات الثلاث حكاية قولهم.
وقيل : خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية وهو أظهر { بِعِبَادِى } لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بهم من مصر ليلاً ويأخذ بهم طريق البحر { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ } [طه : 77] اجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً { يَبَسًا } أي يا بساً وهو مصدر وصف به يقال : يبس يَبسا ويُبسا
جزء : 3 رقم الصفحة : 93
(3/55)
{ لا تَخَـافُ } [طه : 77] حال من الضمير في { فَاضْرِبْ } أي اضرب لهم طريقاً غير خائف.
{ لا تَخَفْ } [هود : 70] حمزة على الجواب { دَرَكًا } هو اسم من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك { وَلا تَخْشَى } [طه : 77] الغرق وعلى قراءة حمزة { وَلا تَخْشَى } [طه : 77] استئناف أي وأنت لا تخشى أو يكون الألف للإطلاق كما في { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا } [الأحزاب : 10] (الأحزاب : 01) فخرج بهم موسى من أول الليل وكانوا سبعين ألفاً وقد استعاروا حليهم فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم فذلك قوله { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } [طه : 78] هو حال أي خرج خلفهم ومعه جنوده { فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ } [طه : 78] أصابهم من البحر { مَا غَشِيَهُمْ } [طه : 78] هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } [طه : 79] عن سبيل الرشاد { وَمَا هَدَى } [طه : 79] وما أرشدهم إلى الحق والسداد وهذا رد لقوله { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ } [غافر : 29] (غافر : 92).
ثم ذكر منته على بني إسرائيل بعد ما أنجاهم من البحر وأهلك فرعون وقومه بقوله { يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ } [البقرة : 40] أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وقلنا يا بني إسرائيل { قَدْ أَنجَيْنَـاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ } [طه : 80] أي فرعون { وَوَاعَدْنَـاكُمْ } بإيتاء الكتاب { جَانِبَ الطُّورِ الايْمَنَ } [مريم : 52]
94
وذلك أن الله عز وجل وعد موسى أن يأتي هذا المكان ويختار سبعين رجلاً يحضرون معه لنزول التوراة.
وإنما نسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي قام بها شرعهم ودينهم.
و { الايْمَنَ } نصب لأنه صفة { جَانِبَ } وقرىء بالجر على الجواز { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [طه : 80] في التيه وقلنا لكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 93
{ كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ } [البقرة : 57] حلالات { مَا رَزَقْنَـاكُمْ } [الروم : 28] كوفي غير عاصم { رَزَقْنَـاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } [طه : 81] ولا تتعدوا حدود الله فيه بأن تكفروا النعم وتنفقوها في المعاصي أو لا يظلم بعضكم بعضاً { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } [طه : 81] عقوبتي { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى } [طه : 81] هلك أو سقط سقوطاً لا نهوض بعده ، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك وتحقيقه سقط من شرف الإيمان إلى حفرة من حفر النيران.
قرأ علي { فَيَحِلَّ } و { يَحْلِلْ } والباقون بكسرهما.
فالمكسور في معنى الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ، والمضموم في معنى النزول { وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ } [طه : 82] عن الشرك { وَءَامَنَ } وحد الله تعالى وصدقه فيما أنزل { وَعَمِلَ صَـالِحًا } [طه : 82] أدى الفرائض { ثُمَّ اهْتَدَى } [طه : 82] ثم استقام وثبت على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
{ وَمَآ أَعْجَلَكَ } [طه : 83] أي وأي شيء عجل بك { عَن قَوْمِكَ يَـامُوسَى } أي عن السبعين الذين اختارهم وذلك أنه مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم أن يتبعوه قال الله تعالى { وَمَآ أَعْجَلَكَ } [طه : 83] أي أي شيء أوجب عجلتك استفهام إنكار و { مَآ } مبتدأ و { أَعْجَلَكَ } الخبر { قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِى } [طه : 84] أي هم خلفي يلحقون بي وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة.
ثم ذكر موجب العجلة فقال { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ } [طه : 84] أي إلى الموعد الذي وعدت { لِتَرْضَى } لتزداد عني رضاً وهذا دليل على جواز الاجتهاد.
95
جزء : 3 رقم الصفحة : 93
(3/56)
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } [طه : 85] ألقيناهم في فتنة { مِن بَعْدِكَ } [طه : 85] من بعد خروجك من بينهم والمراد بالقوم الذين خلفهم مع هارون { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ } [طه : 85] بدعائه إياهم إلى عبادة العجل وإجابتهم له وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.
وقيل : كان علجاً من كرمان فاتخذ عجلاً واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً { فَرَجَعَ مُوسَى } [طه : 86] من مناجات ربه { إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَـانَ أَسِفًا } [الأعراف : 150] شديد الغضب أو حزيناً { قَالَ يَـاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وعدهم الله أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور وكانت ألف سورة كل سوره ألف آية يحمل أسفارها سبعون جملاً ولا وعد أحسن من ذلك { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } [طه : 86] أي مدة مفارقتي إياكم ، والعهد الزمان ، يقال : طال عهدي بك أي طال زماني بسبب مفارقتك { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [طه : 86] أي أردتم أن تفعلوا فعلاً يجب به عليكم الغضب من ربكم { فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى } [طه : 86] وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الآيات فأخلفوا موعده باتخاذ العجل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 96
{ قَالُوا مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } [طه : 87] بفتح الميم : مدني وعاصم ، وبضمها : حمزة وعلي ، وبكسرها : غيرهم ، أي ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفنا موعدك ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده { وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ } [طه : 87] بالضم والتشديد : حجازي وشامي وحفص ، وبفتح الحاء والميم مع التخفيف : غيرهم { أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } [طه : 87] أثقالاً من حلي القبط ، أو أرادوا بالأوزار أنها آثام وتبعات لأنهم قد استعاروها ليلة الخروج من مصر بعلة أن لنا غداً عيداً ، فقال السامري : إنما حبس موسى لشؤم حرمتها لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فأحرقوها
96
فخبأ في حفرة النار قالب عجل فانصاغت عجلاً مجوفاً فخار بدخول الريح في مجار منه أشباه العروق.
وقيل : نفخ فيه تراباً من موضع قوائم فرس جبريل عليه السلام يوم الغرق وهو فرس حياة فحيي فخار ومالت طباهم إلى الذهب فعبدوه { فَقَذَفْنَـاهَا } في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي { فَكَذَالِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ } [طه : 87] ما معه من الحلي في النار أو ما معه من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 96
(3/57)
{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ } [طه : 88] السامري من الحفرة { عِجْلا } خلقه الله تعالى من الحلي التي سبكتها النار ابتلاء { جَسَدًا } مجسداً { لَّهُ خُوَارٌ } [الأعراف : 148] صوت وكان يخور كما تخور العجاجيل { فَقَالُوا } أي السامري وأتباعه { هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى } [طه : 88] فأجاب عامتهم إلا اثني عشر ألفاً { فَنَسِىَ } أي فنسي موسى ربه هنا وذهب يطلبه عند الطور ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى أي نسي السامري ربه وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي السامري الاستدلال على أن العجل لا يكون إلهاً بدليل قوله { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ } [طه : 89] أي أنه لا يرجع ف { ءَانٍ } مخففة من الثقيلة { إِلَيْهِمْ قَوْلا } [طه : 89] أي لا يجيبهم { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [طه : 89] أي هو عاجز عن الخطاب والضر والنفع فكيف تتخذونه إلهاً وقيل : إنه ما خار إلا مرة { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ } [طه : 90] لمن عبدوا العجل { هَـارُونُ مِن قَبْلُ } [طه : 90] من قبل رجوع موسى إليهم { يَـاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ } [طه : 90] ابتليتم بالعجل فلا تعبدوه { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ } [طه : 90] لا العجل { فَاتَّبِعُونِى } كونوا على ديني الذي هو الحق { وَأَطِيعُوا أَمْرِى } [طه : 90] في ترك عبادة العجل { قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَـاكِفِينَ } [طه : 91] أي لن نزال مقيمين على العجل وعبادته { حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } [طه : 91] فننظره هل يعبده كما عبدناه وهل صدق السامري أم لا.
فلما رجع موسى { قَالَ يَـاهَـارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا } بعبادة العجل.
97
{ أَلا تَتَّبِعَنِ } [طه : 93] بالياء في الوصل والوقف : مكي ، وافقه أبو عمرو ونافع في الوصل ، وغيرهم بلا ياء أي ما دعاك إلى ألا تتبعني لوجود التعلق بين الصارف عن فعل الشي وبين الداعي إلى تركه.
وقيل : " لا " مزيدة والمعنى أي شيء منعك أن تتبعني حين لم يقبلوا قولك وتلحق بي وتخبرني؟ أو ما منعك أن تتبعني في الغضب لله ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً؟
جزء : 3 رقم الصفحة : 96
{ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [طه : 93] أي الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم.
ثم أخذ بشعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله عضباً وإنكاراً عليه لأن الغيرة في الله ملكته { قَالَ يَبْنَؤُمَّ } [طه : 94] وبخفض الميم : شامي وكوفي غير حفص ، وكان لأبيه وأمه عند الجمهور ولكنه ذكر الأم استعطافاً وترفيقاً { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلا بِرَأْسِى } [طه : 94] ثم ذكر عذره فقال { إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ } [طه : 94] إن قاتلت بعضهم ببعض { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [طه : 94] أو خفت أن تقول إن فارقتهم واتبعتك ولحق بي فريق وتبع السامري فريق : { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [طه : 94] { وَلَمْ تَرْقُبْ } [طه : 94] ولم تحفظ { قَوْلِي } اخلفني في قومي وأصلح.
وفيه دليل على جواز الاجتهاد.
ثم أقبل موسى على السامري منكراً عليه حيث { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ } [طه : 95] ما أمرك الذي تخاطب عليه؟ { يَـاسَـامِرِيُّ } { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } [طه : 96] وبالتاء : حمزة وعلي ، وقال الزجاج : بصر علم وأبصر نظر أي علمت ما لم يعلمه بنو اسرائيل.
قال موسى : وما ذاك؟ قال : رأيت جبريل على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثره فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } [طه : 96] القبضة المرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر لـ " ضرب " الأمير.
وقريء { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } [طه : 96] أي من أثر فرس الرسول وقريء بها { فَنَبَذْتُهَا } فطرحتها في جوف العجل
98
{ وَكَذَالِكَ سَوَّلَتْ } [طه : 96] زينت { لِى نَفْسِى } [طه : 96] أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي وهو اعتراف بالخطأ واعتذار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 96
(3/58)
{ قَالَ } له موسى { فَاذْهَبْ } من بيننا طريداً { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ } [طه : 97] ما عشت { أَن تَقُولَ } [طه : 94] لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك { لا مِسَاسَ } [طه : 97] أي لا يمسني أحد ولا أمسه فمنع من مخالطة الناس منعاً كلياً وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ، وإذا اتفق أن يماس أحداً حم الماس والممسوس.
وكان يهيم في البرية يصيح لا مساس ويقال : إن ذلك موجود في أولاده إلى الان.
وقيل : أراد موسى عليه السلام أن يقتله فمنعه الله تعالى منه لسخائه { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ } [طه : 97] أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ينجزه لك في الآخرة بعدما عاقبك بذاك في الدنيا { لَّن تُخْلَفَهُ } [طه : 97] مكي وأبو عمر وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً { وَانظُرْ إِلَى إِلَـاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ } [طه : 97] وأصله ظللت فحذف اللام الأولى تخفيفاً { عَاكِفًا } مقيماً { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } بالنار { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ } [طه : 97] لنذرينه { فِى الْيَمِّ نَسْفًا } [طه : 97] فحرقه وذراه في البحر فشرب بعضهم من مائة حباً له فظهرت على شفاههم صفرة الذهب.
{ إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا } [طه : 98] تمييز أي وسع علمه كل شيء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 99
ومحل الكاف في { كَذَالِكَ } نصب أي مثل ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [طه : 99] من أخبار الأمم الماضية تكثيراً لبيناتك وزيادة في معجزاتك { وَقَدْ ءَاتَيْنَـاكَ } [طه : 99] أي أعطيناك { مِن لَّدُنَّا } [النساء : 67] من عندنا { ذِكْرًا } قرآناً فهو ذكر عظيم وقرآن كريم فيه النجاة لمن أقبل عليه ، وهو مشتمل على الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار
99
{ مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } [طه : 100] عن هذا الذكر وهو القرآن ولم يؤمن به { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وِزْرًا } [طه : 100] عقوبة ثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الثقيل الذي ينقض ظهره ويلقى عليه بهره ، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم { خَـالِدِينَ } حال من الضمير في { يَحْمِلُ } وإنما جمع على المعنى ووحد في { فَإِنَّهُ } حملاً على لفظ من { فِيهِ } في الوزر أي في جزاء الوزر وهو العذاب { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ حِمْلا } [طه : 101] ساء في حكم بئس وفيه مبهم يفسره { حِمْلا } وهو تمييز واللام في { لَهُمُ } للبيان كما في { هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23] (يوسف : 32) والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه تقديره ساء الحمل حملاً وزرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 99
{ يَوْمَ يُنفَخُ } [الأنعام : 73] بدل من { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] ، أبو عمرو { وَنُفِخَ فِى الصُّورِ } [ق : 20] القرن أو هو جمع صورة أي ننفخ الأرواح فيها دليله قراءة قتادة الصور بفتح الوّاو جمع صورة { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَـاـاِذٍ زُرْقًا } [طه : 102] حال أي عمياً كما قال { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [الإسراء : 97] (الإسراء : 79) وهذا لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق { يَتَخَـافَتُونَ } يتسارون { بَيْنَهُمْ } أي يقول بعضهم لبعض سراً لهول ذلك اليوم { إِن لَّبِثْتُمْ } [طه : 103] ما لبثتم في الدنيا { إِلا عَشْرًا } [طه : 103] أي عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر ، لأن أيام السرور قصار ، أو لأنها ذهبت عنهم والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء ، أو لاستطالتهم الآخرة لأنها أبداً يستقصر إليها عمر الدنيا ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة ، وقد رجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم بقوله { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } [طه : 104] أعد لهم قولاً
100
{ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [طه : 104] وهو كقوله { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْـاَلِ الْعَآدِّينَ } [المؤمنون : 113] (المؤمنون : 311).
(3/59)
{ وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } [طه : 105] سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم ما يصنع بالجبال يوم القيامة؟ وقيل : لم يسئل وتقديره إن سألوك { فَقُلْ } ولذا قرن بالفاء بخلاف سائر السؤالات مثل قوله { وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى } [البقرة : 222] (البقرة : 222) وقوله { فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى قُلْ } [البقرة : 220] (البقرة : 022) و { يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة : 219] (البقرة : 912) { يَسْـاَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـاـاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } [الأعراف : 187] (الأعراف : 781) { وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ } [الإسراء : 85] (الإسراء : 58) { وَيَسْـاَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا } [الكهف : 83] (الكهف : 38) لأنها سؤالات تقدمت فورد جوابها ولم يكن فيها معنى الشرط فلم يذكر الفاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 99
{ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفًا } [طه : 105] أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذري الطعام.
وقال الخليل : يقلعها { فَيَذَرُهَا } فيذر مقارها أو يجعل الضمير للأرض للعلم بها كقوله { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } [فاطر : 45] (فاطر : 54) { قَاعًا صَفْصَفًا } [طه : 106] مستوية ملساء { لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا } [طه : 107] انخفاضاً { وَلا أَمْتًا } [طه : 107] ارتفاعاً والعوج بالكسر إن كان في المعاني كما أن المفتوح في الأعيان والأرض عين ، ولكن لما استوت الأرض استواء لا يمكن أن يوجد فيها اعوجاج بوجه ما وإن دقت الحيلة ولطفت جرت مجرى المعاني { يَوْمَـاـاِذٍ } أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال أي يوم إذ نسفت وجاز أن يكون بدلاً بعد بدل من يوم القيامة { يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ } [طه : 108] إلى المحشر أي صوت الداعي وهو إسرافيل حين ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلمي إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب
101
إلى صوبه لا يعدلون عنه { لا عِوَجَ لَهُ } [طه : 108] أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته { وَخَشَعَتِ } وسكنت { الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ } [طه : 108] هيبة وإجلالاً { فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [طه : 108] صوتاً خفيفاً لتحريك الشفاه.
وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت أي لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 99
{ يَوْمَـاـاِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَـاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ } [طه : 109] محل من رفع على البدل من { الشَّفَـاعَةَ } بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي أذن للشافع في الشفاعة { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلا } [طه : 109] أي رضي قولاً لأجله بأن يكون المشفوع له مسلماً أو نصب على أنه مفعول { تَنفَعُ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [البقرة : 255] أي يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه : 110] أي بما أحاط به علم الله فيرجع الضمير إلى " ما " أو يرجع الضمير إلى الله لأنه تعالى ليس بمحاط به { وَعَنَتِ } خضعت وذلت ومنه قيل للأسير : عانٍ { الْوُجُوهُ } أي أصحابها { لِلْحَىِّ } الذي لا يموت وكل حياة يتعقبها الموت فهي كأن لم تكن { الْقَيُّومِ } الدائم القائم على كل نفس بما كسبت أو القائم بتدبير الخلق { وَقَدْ خَابَ } [طه : 61] يئس من رحمة الله { مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } [طه : 111] من حمل إلى موقف القيامة شركاً لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ولا ظلم أشد من جعل المخلوق شريك من خلقه { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ } [النساء : 124] الصالحات الطاعات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] مصدق بما جاء به محمد عليه السلام ، وفيه دليل أنه يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحة وأن الإيمان شرط قبولها { فَلا يَخَافُ } [الجن : 13] أي فهو لا يخاف { فَلا يُخَفَّفُ } [البقرة : 86] على النهي : مكي { ظُلْمًا } أن يزداد في سيئاته { وَلا هَضْمًا } [طه : 112] ولا ينقص من حسناته وأصل الهضم النقص والكسر.
102
جزء : 3 رقم الصفحة : 102
(3/60)
{ وَكَذَالِكَ } عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال { وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَـاهُ قُرْءَانًا } [يوسف : 2] بلسان العرب { وَصَرَّفْنَا } كررنا { فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [طه : 113] يجتنبون الشرك { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ } [طه : 113] الوعيد أو القرآن { ذِكْرًا } عظة أو شرفاً بإيمانهم به وقيل " أو " بمعنى الواو.
{ فَتَعَـالَى اللَّهُ } [الأعراف : 190] ارتفع عن فنون الظنون وأوهام الأفهام وتنزه عن مضاهاة الأنام ومشابهة الأجسام { الْمَلِكُ } الذي يحتاج إليه الملوك { الْحَقُّ } المحق في الألوهية.
ولما ذكر القرآن وإنزاله قال استطراداً : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليك ريثما يسمعك ويفهمك { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ } [طه : 114] بقراءته { مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [طه : 114] من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْمًا } [طه : 114] بالقرآن ومعانيه.
وقيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 103
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ } أي أوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة.
يقال في أوامر الملوك ووصاياهم تقدم الملك إلى فلان وأوصى إليه وعزم عليه وعهد إليه ، فعطف قصة آدم على { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } [طه : 113] والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة { مِّن قَبْلِهِ } [يوسف : 6] من قبل وجودهم فخالف إلى ما نهي عنه كما أنهم يخالفون يعني أن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه { فَنَسِىَ } العهد أي النهي والأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بالنسيان الذي لو تكلفوا لحفظوه { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } [طه : 115] قصداً إلى الخلاف لأمره أو لم يكن آدم من أولي العزم.
والوجود بمعنى العلم ومفعولاه { لَهُ عَزْمًا } [طه : 115] أو بمعنى نقيض العدم أي وعد منا له عزما و { لَهُ } متعلق بـ { نَجِدْ } { وَإِذْ قُلْنَا } [البقرة : 58] منصوب بـ " اذكر " { لِلْمَلَـائكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ } [البقرة : 34] قيل : هو السجود اللغوي الذي هو الخضوع والتذلل أو كان آدم كالقبلة لضرب تعظيم له فيه
103
{ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ } [طه : 116] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى منهم.
وقال الحسن : الملائكة لباب الخليقة من الأرواح ولا يتناسلون وإبليس من نار السموم.
وإنما صح استثناؤه منهم لأنه كان يصحبهم ويعبد الله معهم { أَبَى } جملة مستأنفة كأنه جواب لمن قال لم لم يسجد ، والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { فَسَجَدُوا } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف
جزء : 3 رقم الصفحة : 103
{ فَقُلْنَا يَـاـاَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك { فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ } [طه : 117] فلا يكونن سبباً لإخراجكما { فَتَشْقَى } فتتعب في طلب القوت ولم يقل " فتشقيا " مراعاة لرؤوس الآي ، أو دخلت تبعاً ، أو لأن الرجل هو الكافل لنفقة المرأة.
وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا } [طه : 118] في الجنة { وَلا تَعْرَى } [طه : 118] عن الملابس لأنها معدة أبداً فيها { وَأَنَّكَ } بالكسر : نافع وأبو بكر عطفاً على " إن " الأولى ، وغيرهما بالفتح عطفاً على { أَلا تَجُوعَ } [طه : 118] ومحله نصب بـ " أن " وجاز للفصل كما تقول " إن في علمي أنك جالس " { لا تَظْمَؤُا فِيهَا } [طه : 119] لا تعطش لوجود الأشربة فيها { وَلا تَضْحَى } [طه : 119] لا يصيبك حر الشمس إذ ليس فيها شمس فأهلها في ظل ممدود.
(3/61)
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَـانُ } [طه : 120] أي أنهى إليه الوسوسة كأسر إليه { قَالَ يَـاـاَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها خلد بزعمه ولا يموت { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [طه : 120] لا يفنى { فَأَكَلا } أي آدم وحواء { مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا } عوراتهما { سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا } [الأعراف : 22] طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو كـ كاد في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للدنو منه { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 22] أي يلزقان الورق بسواتهما للتستر وهو ورق التين { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } ضل عن
104
الرأي.
وعن ابن عيسى خاب ، والحاصل أن العصيان وقوع الفعل على خلاف الأمر والنهي ، وقد يكون عمداً فيكون ذنباً وقد لا يكون عمداً فيكون زلة.
ولما وصف فعله بالعصيان خرج فعله من أن يكون رشداً فكان غياً ، لأن الغي خلاف الرشد.
وفي التصريح بقوله { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } والعدول عن قوله و زل آدم مزجرة بليغة وموعظة كافة للمكلفين كأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر
جزء : 3 رقم الصفحة : 104
{ ثُمَّ اجْتَبَـاهُ رَبُّهُ } [طه : 122] قربه إليه اصطفاه.
وقريء به وأصل الكلمة الجمع يقال جبى إلى كذا فاجتبيته { فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة : 37] قبل توبته { وَهَدَى } وهداه إلى الاعتذار والاستغفار.
{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَا } [طه : 123] يعني آدم وحواء { بَعْضُكُمْ } يا ذرية آدم { لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [الزخرف : 67] بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى } [البقرة : 38] كتاب وشريعة { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلا يَضِلُّ } [طه : 123] في الدنيا
105
{ وَلا يَشْقَى } [طه : 123] في العقبى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة يعني أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } [طه : 124] عن القرآن { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } [طه : 124] ضيقاً وهو مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث.
عن ابن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياته طيبة ، ومع الإعراض الحرص والشح فعيشه ضنك وحاله مظلمة كما قال بعض المتصوفة : لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ أَعْمَى } [طه : 124] عن الحجة.
عن ابن عباس : أعمى البصر وهو كقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [الإسراء : 97] وهو الوجه { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا } [طه : 125] في الدنيا
جزء : 3 رقم الصفحة : 105
{ قَالَ كَذَالِكَ } [طه : 126] أي مثل ذلك فعلت أنت.
ثم فسر فقال { أَتَتْكَ ءَايَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَالِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [طه : 126] أي أتتك آياتنا واضحة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك.
(3/62)
{ وَكَذَالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِـاَايَـاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [طه : 127] لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في العقبى ختم آيات الوعيد بقوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أي للحشر على العمى الذي يزول أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [طه : 128] أي الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب بالنون { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ } [طه : 128] حال من الضمير المجرور في لهم { فِى مَسَـاكِنِهِمْ } [طه : 128] يريد أن قريشاً يمشون في مساكن عاد وثمود وقوم لوط ويعاينون آثار هلاكهم { إِنَّ فِى ذَالِكَ لايَـاتٍ لاوْلِى النُّهَى } لذوي العقول إذا تفكروا علموا أن استئصالهم لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } [يونس : 19] أي الحكم بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلّم { لَكَانَ لِزَامًا } [طه : 129] لازماً فاللزام مصدر لزم فوصف به { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [طه : 129] القيامة وهو معطوف على كلمة ، والمعنى ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 106
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } [طه : 130] فيك { وَسَبِّحْ } وصل { بِحَمْدِ رَبِّكَ } [غافر : 55] في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } [ق : 39] يعني صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [طه : 130] يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في
106
النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } أي وتعهد أناء الليل أي ساعاته وأطراف النهار مختصاً لها بصلاتك.
وقد تناول التسبيح في آناء الليل وصلاة العتمة ، وفي أطراف النهار صلاة المغرب ، وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله { حَـافِظُوا عَلَى } [البقرة : 238] عند البعض.
وإنما جمع وأطراف النهار وهما طرفان لأمن الإلباس وهو عطف على قبل { لَعَلَّكَ تَرْضَى } [طه : 130] لعل للمخاطب أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك.
وترضى علي وأبو بكر أي يرضيك ربك.
جزء : 3 رقم الصفحة : 106
{ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [طه : 131] أي نظر عينيك ومد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به ، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك أن يباده الشيء بالنظر ثم يغض الطرف.
ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن : لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة ، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب.
وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها { إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } [الحجر : 88] أصنافاً من الكفرة ويجوز أن ينتصب حالاً من هاء الضمير والفعل واقع على منهم كأنه قال إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناساً منهم { زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [طه : 131] زينتها وبهجتها وانتصب على الذم أو على إبداله من محل به أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي زهرة { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [طه : 131] لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه { وَرِزْقُ رَبِّكَ } [طه : 131] ثوابه وهو الجنة أو الحلال الكافي { خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه : 73] مما رزقوا { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [طه : 132] أمتك أو أهل بيتك { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } [طه : 132] أنت دوام { عَلَيْهَا لا نَسْـاَلُكَ رِزْقًا } [طه : 132] أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك
107
(3/63)
{ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } [طه : 132] وإياهم فلا تهتم لأمر الرزق وفرغ بالك لأمر الآخرة لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله.
عن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ : ولا تمدن عينيك.
الآي ثم ينادي الصلاة ، الصلاة رحمكم الله.
وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله ورسوله.
وعن مالك بن دينار مثله.
وفي بعض المسانيد أنه عليه السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية { وَالْعَـاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه : 132] أي وحسن العاقبة لأهل التقوى بحذف المضافين.
جزء : 3 رقم الصفحة : 107
{ وَقَالُوا } أي الكافرون { لَوْلا يَأْتِينَا بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [طه : 133] هلا يأتينا محمد بآية من ربه تدل على صحة نبوته { أَوَلَمْ تَأْتِهِم } أو لم تأتهم مدني وحفص وبصري { بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاولَى } [طه : 133] أي الكتب المتقدمة يعني أنهم اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة فقيل لهم : أو لم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقره إلى شهادته على صحة ما فيها { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَـاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ } [طه : 134] من قبل الرسول أو القرآن { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ } هلا { أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ } [طه : 134] بالنصب على جواب الاستفهام بالفاء { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى } [طه : 134] بنزول العذاب { وَنَخْزَى } في العقبى { قُلْ كُلٌّ } [طه : 135] أي كل واحد منا ومنكم { مُّتَرَبِّصٌ } منتظر للعاقبة ولما
108
يؤول إليه أمرنا وأمركم { فَتَرَبَّصُوا } أنتم إذا جاءت القيامة { لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـابِ } [فاطر : 6] مبتدأ وخبر ومحلهما نصب { الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } [طه : 135] المستقيم { وَمَنِ اهْتَدَى } [طه : 135] إلى النعيم المقيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " لا يقرأ أهل الجنة إلا سورة طه ويس "
109
سورة الأنبياء
مكية ، وهي مائة واثنتا عشرة آية كوفي وإحدى عشرة آية مدني وبصري)
{ اقْتَرَبَ } دنا { لِلنَّاسِ } اللام صلة لاقتراب.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون لأن ما يتلوه من صفات المشركين { حِسَابَهُم } وقت محاسبة الله إياهم ومجازاته على أعمالهم يعني يوم القيامة ، وإنما وصفه بالاقتراب لقلة ما بقي بالإضافة إلى ما مضى ولأن كل آتٍ قريب { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } [الأنبياء : 1] عن حسابهم وعما يفعل بهم ثم { مُّعْرِضُونَ } عن التأهب لذلك اليوم فالاقتراب عام والغفلة والإعراض يتفاوتان بتفاوت المكلفين ، فرب غافل عن حسابه لاستغراقه في دنياه وإعراضه عن مولاه ، ورب غافل عن حسابه لاستهلاكه في مولاه وإعراضه عن دنياه فهو لا يفيق إلا برؤية المولى ، والأول إنما يفيق في عسكر الموتى فالواجب عليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب وتتنبه للعرض قبل أن تنبه ، وتعرض عن الغافلين وتشتغل بذكر خالق الخلق أجمعين لتفوز بلقاء رب العالمين { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ } [الأنبياء : 2] شيء من القرآن { مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } [الأنبياء : 2] في التنزيل
110
إثباته ، مبتدأة تلاوته ، قريب عهده باستماعهم ، والمراد به الحروف المنظومة.
ولا خلاف في حدوثه { إِلا اسْتَمَعُوهُ } [الأنبياء : 2] من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف : 98] يستهزئون به.
جزء : 3 رقم الصفحة : 110(3/64)
{ لاهِيَةً } حال من ضمير يلعبون أو وهم يلعبون ولاهية حالان من الضمير في استمعوه.
ومن قرأ { لاهِيَةً } بالرفع يكون خبراً بعد خبر لقوله : وهم وارتفعت { قُلُوبِهِمْ } بلاهية وهي من لها عنه إذا ذهل وغفل ، والمعنى قلوبهم غافلة عما يراد بها ، ومنها قال أبو بكر الوارق : القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها { وَأَسَرُّوا } وبالغوا في إخفاء { النَّجْوَى } وهي اسم من التناجي.
ثم أبدل { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] من واو وأسروا إيذاناً بأنهم الموسومون بالظلم فيما أسروا به ، أو جاء على لغة من قال " أكلوني البراغيث " ، أو هو مجرور المحل لكونه صفة أو بدلاً من الناس ، أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره أسروا النجوى فقدم عليه أي والذين ظلموا أسروا النجوى { هَلْ هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [الأنبياء : 3] هذا الكلام كله في محل النصب بدل من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويجوز أن يتعلق بـ " قالوا " مضمراً والمعنى أنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر ، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر { قَالَ رَبِّى } [الشعراء : 188] حمزة وعلي وحفص أي قال محمد وغيرهم قل ربي أي قل يا محمد للذين أسروا النجوى { يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الأنبياء : 4] أي يعلم قول كل قائل هو في السماء أو الأرض سراً كان أو جهراً { وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لأقوالهم { الْعَلِيمُ } بما في ضمائرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 111
{ بَلْ قَالُوا أَضْغَـاثُ أَحْلَـام بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } [الأنبياء : 5] أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في نومه فتوهمها وحياً من الله إليه ، ثم إلى أنه كلام
111
مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر وهكذا الباطل لجلج والمبطل رجاع غير ثابت على قول واحد ، ثم قالوا إن كان صادقاً في دعواه وليس الأمر كما يظن { بَلْ قَالُوا } [الأنبياء : 5] بمعجزة { كَمَآ أُرْسِلَ الاوَّلُونَ } [الأنبياء : 5] كما أرسل من قبله باليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى ، وصحة التشبيه في قوله كما أرسل الأولون من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك " أرسل محمد " وبين قولك " أتى بالمعجزة " فرد الله عليهم قولهم بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 111
{ مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ } [الأنبياء : 6] من أهل قرية { أَهْلَكْنَـاهَآ } صفة لـ قرية عند مجيء الآيات المقترحة لأنهم طلبوها تعنتاً { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء : 6] أي أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء المقترحون لو أتيناهم بما اقترحوا مع أنهم أعني منهم ، والمعنى أن أهل القرى اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطينا هؤلاء ما يقترحون لنكثوا أيضاً.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا } [الأنبياء : 7] هذا جواب قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } [الأنبياء : 7] { نُوحِى } حفص { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن } [النحل : 43] العلماء بالكتابين فإنهم يعرفون أن الرسل الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وكان أهل مكة يعتمدون على قولهم { إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل : 43] ذلك.
ثم بين أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله { وَمَا جَعَلْنَـاهُمْ جَسَدًا } [الأنبياء : 8] وحد الجسد لإرادة الجنس { لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } [الأنبياء : 8] صفة لـ جسداً يعني وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين
112
(3/65)
{ وَمَا كَانُوا خَـالِدِينَ } [الأنبياء : 8] كأنهم قالوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد ، إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون أو مسمين بقاءهم الممتد وحياتهم المتطاولة خلودا { ثُمَّ صَدَقْنَـاهُمُ الْوَعْدَ } [الأنبياء : 9] بإنجائهم والأصل في الوعد مثل { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف : 155] أي من قومه { فَأَنجَيْنَـاهُمْ } مما حل بقومهم { وَمَن نَّشَآءُ } [الأنبياء : 9] هم المؤمنون { وَأَهْلَكْنَا الْمُسِْرفِينَ } [الأنبياء : 9] المجاوزين الحد بالكفر ودل الإخبار بإهلاك المسرفين على أن من نشاء غيرهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 112
{ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ } [الأنبياء : 10] يا معشر قريش { كِتَـابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [الأنبياء : 10] شرفكم إن عملتم به أو لأنه بلسانكم أو فيه موعظتكم أو فيه ذكر دينكم ودنياكم والجملة أي فيه ذكركم صفة لـ كتاباً { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] ما فضلتكم به على غيركم فتؤمنوا { وَكَمْ } نصب بقوله { قَصَمْنَا } أي أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } [الشعراء : 208] أي أهلها بدليل قوله { كَانَتْ ظَالِمَةً } [الأنبياء : 11] كافرة وهي واردة عن غضب شديد وسخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم فإنه كسر بلا إبانة { وَأَنشَأْنَا } خلقنا { بَعْدَهَا قَوْمًا ءَاخَرِينَ } [الأنبياء : 11] فسكنوا مساكنهم.
{ فَلَمَّآ أَحَسُّوا } [الأنبياء : 12] أي المهلكون { بَأْسَنَآ } عذابنا أي علموا علم حس ومشاهدة { إِذَا هُم مِّنْهَا } [الأنبياء : 12] من القرية وإذا للمفاجأة وهم مبتدأ والخبر { يَرْكُضُونَ } يهربون مسرعين ، والركض ضرب الدابة بالرجل فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، أو شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فقيل لهم { لا تَرْكُضُوا } [الأنبياء : 13] والقائل بعض الملائكة { وَارْجِعُوا إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } [الأنبياء : 13] نعمتم فيه من الدنيا ولين العيش.
قال الخليل : المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه
113
{ وَمَسَـاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْـاَلُونَ } [الأنبياء : 13] أي يقال لهم استهزاء بهم : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقولوا لكم بم تأمرون وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين ، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ، أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحاب أكفكم ، أو قال بعضهم لبعض : لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالاً وخراجاً فلا تقتلون ، فنودي من السماء يا لثارات الأنبياء وأخذتهم السيوف فثم
جزء : 3 رقم الصفحة : 113
{ إِلا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ } اعترافهم بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف.
{ فَمَا زَالَت تِّلْكَ } [الأنبياء : 15] هي إشارة إلى يا ويلنا { دَعْوَاـاهُمْ } دعاءهم وتلك مرفوع على أنه اسم زالت ودعواهم الخبر ويجوز العكس { حَتَّى جَعَلْنَـاهُمْ حَصِيدًا } [الأنبياء : 15] مثل الحصيد أي الزرع المحصود ولم يجمع كما لم يجمع المقدر { خَـامِدِينَ } ميتين خمود النار و حصيدا خامدين مفعول ثان لـ " جعل " أي جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود كقولك " جعلته حلواً حامضاً " أي جعلته جامعاً للطعمين.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالارْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ } [الأنبياء : 16] اللعب فعل يروق أوله ولا ثبات له ، ولاعبين حال من فاعل خلقنا والمعنى وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلق للهو واللعب ، وإنما سويناها ليستدل بها على قدرة مدبرها ولنجازي المحسن والمسيء على ما تقتضيه حكمتنا ، ثم نزه ذاته عن سمات الحدوث بقوله { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا } [الأنبياء : 17] أي ولداً أو امرأة كأنه رد على من قال : عيسى ابنه ومريم صاحبته { اتَّخَذْنَـاهُ مِن لَّدُنَّآ } [الأنبياء : 17] من الولدان أو الحور { إِن كُنَّا فَـاعِلِينَ } [الأنبياء : 17] أي إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله لاستحتالته في حقنا.
وقيل : هو
114
(3/66)
نفي كقوله وإن أدري أي ما كنا فاعلين
جزء : 3 رقم الصفحة : 114
{ بَلْ نَقْذِفُ } [الأنبياء : 18] " بل " إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو بل من سنتنا أن نقذف أي نرمي ونسلط { بِالْحَقِّ } بالقرآن { عَلَى الْبَـاطِلِ } [الأنبياء : 18] الشيطان أو بالإسلام على الشرك أو بالجد على اللعب { فَيَدْمَغُهُ } فيكسره ويدحض الحق الباطل ، وهذه استعارة لطيفة لأن أصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل فالمستعار منه حسي والمستعار له عقلي فكأنه قيل : بل نورد الحق الشبيه بالجسم القوي على الباطل الشبيه بالجسم الضعيف فيبطله إبطال الجسم القوي الضعيف { فَإِذَا هُوَ } [النحل : 4] أي الباطل { زَاهِقٌ } هالك ذاهب { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء : 18] الله به من الولد ونحوه.
{ وَلَهُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنبياء : 19] خلقاً وملكاً فأنى يكون شيء منه ولداً له وبينهما تنافٍ ويوقف على الأرض لأن ومن عنده منزلة ومكانة لا منزلاً ولا مكاناً يعني الملائكة مبتدأ خبره { لا يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة : 82] لا يتعظمون { عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء : 19] ولا يعيون { يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء : 20] حال من فاعل يسبحون أي تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر فتسبيحهم جارٍ مجرى التنفس منا.
ثم أضرب عن المشركين منكراً عليهم وموبخاً فجاء بـ " أم " التي بمعنى " بل " والهمزة فقال { أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الارْضِ هُمْ يُنشِرُونَ } [الأنبياء : 21] يحيون الموتى ومن الأرض صفة لـ الهة لأن الهتهم كانت متخذة من جواهر الأرض كالذهب والفضة والحجر أو تعبد في الأرض فنسبت إليها كقولك " فلان من المدينة " أي مدني ، أو متعلق بـ اتخذوا ويكون فيه بيان غاية الاتخاذ ، وفي قوله هم ينشرون زيادة توبيخ وإن لم يدعوا
115
أن أصنامهم تحيي الموتى ، وكيف يدعون ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات لأنه يلزم من دعوى الألوهية لها دعوى الإنشار ، لأن العاجز عنه لا يصح أن يكون إلاهاً إذ لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور والإنشار من جملة المقدورات.
وقرأ الحسن ينشرون بفتح الياء وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها
جزء : 3 رقم الصفحة : 115
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ } [الأنبياء : 22] أي غير الله وصفت الهة بـ " إلا " كما وصفت بـ " غير " لو قيل الهة غير الله ، ولا يجوز رفعه على البدل لأن " لو " بمنزلة " إن " في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى { وَلا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } [هود : 81] ولا يجوز نصبه استثناء لأن الجمع إذا كان منكراً لا يجوز أن يستثنى منه عند المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء ، والمعنى لو كان يدبر أمر السماوات والأرض آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما { لَفَسَدَتَا } لخربتا لوجود التمانع وقد قررناه في أصول الكلام.
ثم نزه ذاته فقال { فَسُبْحَـانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء : 22] من الولد والشريك.
{ لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } [الأنبياء : 23] لأنه المالك على الحقيقة ، ولو اعترض على السلطان بعض عبيده مع وجود التجانس وجواز الخطأ عليه وعدم الملك الحقيقي لاستقبح ذلك وعد سفهاً ، فمن هو مالك الملوك ورب الأرباب وفعله صواب كله أولى بأن لا يعترض عليه { وَهُمْ يُسْـاَلُونَ } [الأنبياء : 23] لأنهم مملوكون خطاؤون فما أخلقهم بأن يقال لهم لم فعلتم في كل شيء فعلوه.
وقيل : وهم يسئلون يرجع إلى المسيح والملائكة أي هم مسئولون فكيف يكونون آلهة والألوهية تنافي الجنسية والمسئولية { أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } [الأنبياء : 24] الإعادة لزيادة الإفادة فالأول للإنكار من حيث العقل ، والثاني من حيث النقل أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك فقيل لمحمد { قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ } [البقرة : 111] حجتكم على ذلك وذا عقلي وهو يأباه كما مر ،
116
(3/67)
أو نقلي وهو الوحي وهو أيضاً يأباه فإنكم لا تجدون كتاباً من الكتب السماوية إلا وفيه توحيده وتنزيهه عن الأنداد { هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } [الأنبياء : 24] يعني أمته { وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } [الأنبياء : 24] يعني أمم الأنبياء من قبلي وهو وارد في توحيد الله ونفي الشركاء عنه.
معي حفص.
فلما لم يمتنعوا عن كفرهم أضرب عنهم فقال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ } [الأنبياء : 24] أي القرآن وهو نصب بـ يعلمون وقرىء الحق أي هو الحق { فَهُمُ } لأجل ذلك { مُّعْرِضُونَ } عن النظر فيما يجب عليهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 116
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ } [الأنبياء : 25] { إِلا نُوحِى } [الأنبياء : 25] كوفي غير أبي بكر وحماد { أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وحدوني فهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَدًا سُبْحَـانَهُ } [الأنبياء : 26] نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله فنزه ذاته عن ذلك ثم أخبر عنهم بأنهم عباد بقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنبياء : 26] أي بل هم عباد مكرمون مشرفون مقربون وليسوا بأولاد إذ العبودية تنافي الولادة { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } [الأنبياء : 27] أي بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة ، والمعنى أنهم يتبعون قوله فلا يسبق قولهم قوله ولا يتقدمون قوله بقولهم { وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء : 27] أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعملون عملاً لم يأمروا به { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [البقرة : 255] أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء : 28] أي لمن رضي الله عنه وقال لا إله إلا الله { وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [الأنبياء : 28] خائفون
117
جزء : 3 رقم الصفحة : 117
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } [الأنبياء : 29] من الملائكة { إِنِّى إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ } [الأنبياء : 29] من دون الله إني مدني وأبو عمرو { فَذَالِكَ } مبتدأ أي فذلك القائل خبره { نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 29] وهو جواب الشرط { كَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ } [يوسف : 75] الكافرين الذين وضعوا الإلاهية في غير موضعها وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لتحقق عصمتهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والضحاك : قد تحقق الوعيد في إبليس فإنه ادعى الإلاهية لنفسه ودعا إلى طاعة نفسه وعبادته.
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنبياء : 30] ألم ير مكي { أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ كَانَتَا } [الأنبياء : 30] أي جماعة السماوات وجماعة الأرض فلذا لم يقل كن { رَتْقًا } بمعنى المفعول أي كانتا مرتوقتين وهو مصدر فلذا صلح أن يقع موقع مرتوقتين { فَفَتَقْنَـاهُمَا } فشققناهما ، والفتق الفصل بين الشيئين والرتق ضد الفتق.
فإن قيل : متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة فقام مقام المرئي المشاهد ، ولأن الرؤية بمعنى العلم وتلاصق الأرض والسماء وتباينهما جائزان في العقل ، فالاختصاص بالتباين دون التلاصق لا بد له من مخصص وهو القديم جل جلاله.
ثم قيل : إن السماء كانت لاصقة بالأرض لافضاء بينهما ففتقناهما أي فصلنا بينهما بالهواء.
وقيل : كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع أرضين.
وقيل : كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } [الأنبياء : 30] أي خلقنا من الماء كل حيوان كقوله { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [النور : 45] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء : 37] { أَفَلا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء : 30] يصدقون بما يشاهدون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 118
(3/68)
{ وَجَعَلْنَا فِى الارْضِ رَوَاسِىَ } [الأنبياء : 31] جبالاً ثوابت من رسا إذا ثبت { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } [الأنبياء : 31] لئلا تضطرب بهم فحذف " لا " واللام ، وإنما جاز حذف " لا " لعدم الالتباس كما
118
تزاد لذلك في { لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ } [الحديد : 29] { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا } [الأنبياء : 31] أي طرقاً واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع ونصب على الحال من { سُبُلا } متقدمة ، فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى { لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا } [نوح : 20] وبين هذه؟ قلت : الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثم { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء : 31] ليهتدوا بها إلى البلاد المقصودة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 118
{ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } [الأنبياء : 32] في موضعه عن السقوط كما قال { وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الارْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج : 65] أو محفوظاً بالشهب عن الشياطين كما قال : { وَحَفِظْنَـاهَا مِن كُلِّ شَيْطَـانٍ رَّجِيمٍ } [الحجر : 17] { وَهُمْ } أي الكفار { عَنْ ءَايَـاتِهَا } [الأنبياء : 32] عن الأدلة التي فيها كالشمس والقمر والنجوم { مُّعْرِضُونَ } غير متفكرين فيها فيؤمنون.
{ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ } [الأنبياء : 33] لتسكنوا فيه { وَالنَّهَارَ } لتتصرفوا فيه { وَالشَّمْسُ } لتكون سراج النهار { وَالْقَمَرِ } ليكون سراج الليل { كُلٌّ } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع ، وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة { فِى فَلَكٍ } [الأنبياء : 33] عن ابن عباس رضي الله عنهما : الفلك السماء.
والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم وكل مبتدأ خبره { يَسْبَحُونَ } يسيرون أي يدورون والجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء : 34] البقاء الدائم { وَمَا جَعَلْنَآ } [الأنبياء : 34] بكسر الميم مدني وكوفي غير أبي بكر { فَهُمُ الْخَـالِدُونَ } [الأنبياء : 34] والفاء الأول لعطف جملة على جملة والثاني لجزاء الشرط ، كانوا يقدرون أنه سيموت فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضي الله أن لا يخلد في الدنيا بشر أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء
119
جزء : 3 رقم الصفحة : 119
(3/69)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم } [الأنبياء : 35] ونختبركم سمي ابتلاء وإن كان عالماً بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار { بِالشَّرِّ } بالفقر والضر { وَالْخَيْرِ } الغني والنفع { فِتْنَةً } مصدر مؤكد لـ نبلوكم من غير لفظه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء : 35] فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر.
وعن ابن ذكوان ترجعون.
{ وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ } [الأنبياء : 36] ما يتخذونك { إِلا هُزُوًا } [الفرقان : 41] مفعول ثان لـ يتخذونك نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلّم فضحك وقال : هذا نبي بني عبد مناف { أَهَـاذَا الَّذِى يَذْكُرُ } [الأنبياء : 36] يعيب { ءَالِهَتَكُمْ } والذكر يكون بخير وبخلافه فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم { وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ } [الأنبياء : 36] أي بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية { هُمْ كَـافِرُونَ } [هود : 19] لا يصدقون به أصلاً فهم أحق أن يتخذوا هزواً منك فإنك محق وهم مبطلون.
وقيل : بذكر الرحمن أي بما أنزل عليك من القرآن هم كافرون جاحدون ، والجملة في موضع الحال أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله تعالى ، وكرر { هُمْ } للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر فأعيد المبتدأ { خُلِقَ الانْسَـانُ مِنْ عَجَلٍ } [الأنبياء : 37] فسر بالجنس.
وقيل : نزلت حين كان النضر ابن الحارث يستعجل بالعذاب.
والعجل والعجلة مصدران ، وهو تقديم الشيىء على وقته ، والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه ، والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم " خلق من الكرم " فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ثم منعه وزجره كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل فإنه مجبول على ذلك وهو طبعه وسجيته فقد ركب فيه.
وقيل : العجل الطين بلغه حمير قال شاعرهم :
جزء : 3 رقم الصفحة : 120
والنخل ينبت بين الماء والعجل
120
وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه ، لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة ومن عجل حال أي عجلاً { خَلَقَ الانسَـانَ } [الأنبياء : 37] نقماتي { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } [الأنبياء : 37] بالإتيان بها وهو بالياء عند يعقوب وافقه سهل وعباس في الوصل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 120
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } [يونس : 48] إتيان العذاب أو القيامة { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] قيل : هو أحد وجهي استعجالهم { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [الأنبياء : 39] جواب " لو " محذوف وحين مفعول به ليعلم أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم { بَلْ تَأْتِيهِم } [الأنبياء : 40] الساعة { بَغْتَةً } فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } فتحيرهم أي لا يكفونها بل تفجأهم فتغلبهم { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } [الأنبياء : 40] فلا يقدرون على دفعها { وَلا هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة : 162] يمهلون { وَلَقَدِ اسْتُهْزِى َ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ } [الأنعام : 10] فحل ونزل { بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم } [الأنعام : 10] جزاء { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [النحل : 34] سلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا
121
جزء : 3 رقم الصفحة : 121
(3/70)
{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } [الأنبياء : 42] يحفظكم { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ } [الأنبياء : 42] أي من عذابه إن أتاكم ليلاً أو نهاراً { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ } [الأنبياء : 42] أي بل هم معرضون عن ذكره ولا يخطورنه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء فصلحوا للسؤال عنه ، والمعنى أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكاليء ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم.
ثم أضرب عن ذلك بقوله { أَمْ لَهُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا } [الأنبياء : 43] لما في " أم " من معنى " بل " فقال : ألهم الهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا.
ثم استأنف بقوله { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ } [الأنبياء : 43] فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره.
ثم قال { بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } [الأنبياء : 44] أي ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآناءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك وهو أمل كاذب { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } [الأنبياء : 44] أي نقص أرض الكفر ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام ، وذكر { نَأْتِى } يشير بأن الله يجريه على أيدي المسلمين وإن عساكرهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها { أَفَهُمُ الْغَـالِبُونَ } [الأنبياء : 44] أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم أي ليس كذاك بل يغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه بنصرنا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
{ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ } [الأنبياء : 45] أخوفكم من العذاب القرآن { وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ } [الأنبياء : 45] بفتح الياء والميم ورفع الصم ، ولا تسمع الصم شامي على خطاب
122
النبي صلى الله عليه وسلّم { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } [الأنبياء : 45] يخوفون.
واللام في الصم للمعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا
جزء : 3 رقم الصفحة : 122
{ وَلَـاـاِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ } [الأنبياء : 46] دفعة يسيرة { مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ } [الأنبياء : 46] صفة لـ نفحة { لَيَقُولُنَّ يَـاوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ } أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم وأقروا أنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا ، وقد بولغ حيث ذكر المس والنفحة لأن النفح يدل على القلة يقال نفحه بعطية : رضخه بها مع أن بناءها للمرة.
وفي المس والنفحه ثلاث مبالغات لأن النفح في معنى القلة والنزارة يقال : نفحته الدابة وهو رمح لين ، ونفحه بعطية رضخه والبناء للمرة.
(3/71)
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ } [الأنبياء : 47] جمع ميزان وهو ما يوزن به الشيء فتعرف كميته.
وعن الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان.
وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها كما في قوله { لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } والوزن لصحائف الأعمال في قول { الْقِسْطَ } وصفت الموازين بالقسط وهو العدل مبالغة كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف المضاف أي ذوات القسط { لِيَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [الأنبياء : 47] لأهل يوم القيامة أي لأجلهم { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شيئا } [الأنبياء : 47] من الظلم { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } [الأنبياء : 47] وإن كان الشيء مثقال حبة مثقال بالرفع : مدني وكذا في " لقمان " على " كان " التامة { مِّنْ خَرْدَلٍ } [الأنبياء : 47] صفة لـ حبة { أَتَيْنَا بِهَا } [الأنبياء : 47] أحضرناها.
وأنت ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة كقولهم " ذهبت بعض أصابعه " { وَكَفَى بِنَا حَـاسِبِينَ } [الأنبياء : 47] عالمين حافظين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لأن من حفظ شيئاً حسبه وعلّه.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَـارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْرًا } [الأنبياء : 48] قيل : هذه الثلاثة هي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذكر أي شرف أو وعظ وتنبيه أو ذكر ما يحتاج الناس إليه في مصالح دينهم.
ودخلت الواو على الصفات كما في قوله { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا } [آل عمران : 39] وتقول " مررت
123
بزيد الكريم والعالم والصالح " .
ولما انتفع بذلك المتقون خصهم بقوله { لِّلْمُتَّقِينَ }
جزء : 3 رقم الصفحة : 123
ومحل { الَّذِينَ } جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه { يَخْشَوْنَ رَبَّهُم } [الملك : 12] يخافونه { بِالْغَيْبِ } حال أي يخافونه في الخلاء { وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ } [الأنبياء : 49] القيامة وأهوالها { مُشْفِقُونَ } خائفون { وَهَـاذَآ } القرآن { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } [الأنبياء : 50] كثير الخير غزير النفع { أَنزَلْنَـاهُ } على محمد { أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [الأنبياء : 50] استفهام توبيخ أي جاحدون أنه منزل من عند الله.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ } [الأنبياء : 51] هداه { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل موسى وهرون أو من قبل محمد عليه السلام { وَكُنَّا بِهِ } [الأنبياء : 51] بابراهيم أو برشده { عَـالِمِينَ } أي علمنا أنه أهل لما آتيناه { إِذْ } إما أن تتعلق بـ اتيناه أو بـ رشده { قَالَ لابِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ } [الأنبياء : 52] أي الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها { الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَـاكِفُونَ } [الأنبياء : 52] أي لأجل عبادتها مقيمون.
فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك.
{ قَالُوا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَـابِدِينَ } [الأنبياء : 53] فقلدناهم { قَالَ } إبراهيم { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [الأنبياء : 54] أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر لا يخفى على عاقل ، وأكد بـ أنتم ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع { قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ } [الأنبياء : 55] بالجد { أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّـاعِبِينَ } [الأنبياء : 55] أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب استعظاماً منهم إنكاره عليهم واستبعاداً لأن يكون ما هم عليه ضلالاً ،
124
فثم أضرب عنهم مخبراً بأنه جاد فيما قال غير لاعب مثبتاً لربوبية الملك العلام وحدوث الأصنام بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 124
{ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ } [الأنبياء : 56] أي التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق { وَأَنَا عَلَى ذَالِكُم } [الأنبياء : 56] المذكور في التوحيد شاهد { مِّنَ الشَّـاهِدِينَ } [آل عمران : 81].
{ وَتَاللَّهِ } أصله والله وفي التاء معنى التعجب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذره لقوة سلطة نمروذ.
(3/72)
{ لاكِيدَنَّ أَصْنَـامَكُم } [الأنبياء : 57] لأكسرنها { بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } [الأنبياء : 57] بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم ، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله { إِنِّى سَقِيمٌ } [الصافات : 89] أي سأسقم ليتخلف.
فرجع إلى بيت الأصنام { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا } [الأنبياء : 58] قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذا بالكسر : علي ، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف { إِلا كَبِيرًا لَّهُمْ } [الأنبياء : 58] للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } [الأنبياء : 58] إلى الكبير { يَرْجِعُونَ } فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه ، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم ، أو إلى الله لما رأوا عجز التهم { قَالُوا } أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك { مَن فَعَلَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّـالِمِينَ } [الأنبياء : 59] أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُا إِبْرَاهِيمُ } [الأنبياء : 60] الجملتان صفتان لـ فتى إلا أن الأول وهو يذكرهم أي يبيعهم لا بد منه للسمع لأنك لا تقول " سمعت زيداً " وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني.
وارتفاع إبراهيم بأنه فاعل يقال فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم { قَالُوا } أي نمروذ وأشراف قومه { فَأْتُوا بِهِ } [الأنبياء : 61] أحضروا إبراهيم { عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } [الأنبياء : 61] في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر
125
{ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } [الأنبياء : 61] عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 125
فلما أحضروه { قَالُوا ءَأَنتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِـاَالِهَتِنَا يَـاإِبْرَاهِيمُ } إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ } [الأنبياء : 63] عن الكسائي : إنه يقف عليه أي فعله من فعله ، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز ، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله سمعنا فتى يذكرهم أو إلى إبراهيم في قوله يا إبراهيم ثم قال { كَبِيرُهُمْ هَـاذَا } [الأنبياء : 63] وهو مبتدأ وخبر.
والأكثر أنه لا وقف ، والفاعل كبيرهم وهذا وصف أو بدل ، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً ، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له " بل كتبته أنت " كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي ، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر ، ويمكن أن يقال : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه ، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا.
ويحكى أنه قال : غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن ، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، وقوله { فَسْـاَلُوهُمْ } اعتراض.
وقيل : عرض بالكبير لنفسه وإنما أصناف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور { فَسْـاَلُوهُمْ } عن حالهم { إِن كَانُوا يَنطِقُونَ } [الأنبياء : 63] وأنتم تعلمون عجزهم عنه.
{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ } [الأنبياء : 64] فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم { فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّـالِمُونَ } [الأنبياء : 64] على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم من فعل هذا بالهتنا إنه لمن الظالمين فإن من لا يدفع عن رأسه
126
الفاس ، كيف يدفع عن عابديه البأس؟
جزء : 3 رقم الصفحة : 126
(3/73)
{ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم ، يقال : نكسته قلبته فجعلت أسفله أعلاه أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وقالوا { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } [الأنبياء : 65] فكيف تأمرنا بسؤالها؟ والجملة سدت مسد مفعولي علمت والمعنى لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم؟ { قَالَ } محتجاً عليهم { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شيئا } هو في موضع المصدر أي نفعاً { وَلا يَضُرُّكُمْ } [الأنبياء : 66] إن لم تعبدوه { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأنبياء : 67] " أف " صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر ، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق فتأفف بهم واللام لبيان المتأفف به أي لكم ولالهتكم هذا التأفف أف مدني وحفص ، أفّ مكي وشامي أفّ غيرهم { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلهاً.
فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب { قَالُوا حَرِّقُوهُ } [الأنبياء : 68] بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع { وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ } [الأنبياء : 68] بالانتقام منه { إِن كُنتُمْ فَـاعِلِينَ } [يوسف : 10] أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بإحراقه نمروذ أو رجل من أكراد فارس.
وقيل : إنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً بكوثى وجمعوا شهراً أصناف الخشب ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها ،
127
ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها وهو يقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، وقال له جبريل : هل لك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا.
قال : فسل ربك.
قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وما أحرقت النار إلا وثاقه.
وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله " حسبي الله ونعم الوكيل " .
جزء : 3 رقم الصفحة : 127
{ قُلْنَا يَـانَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلَـامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام { عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء : 69] أراد أبردي فيسلم منك إبراهيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.
والمعنى أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت وهو على كل شيء قدير { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا } [الأنبياء : 70] إحراقاً { فَجَعَلْنَـاهُمُ الاخْسَرِينَ } [الأنبياء : 70] فأرسل على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت بعوضة في دماغ نمروذ فأهلكته { وَنَجَّيْنَـاهُ } أي إبراهيم { وَلُوطًا } ابن أخيه هاران من العراق { إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـالَمِينَ } [الأنبياء : 71] أي أرض الشام وبركتها أن أكثر الأنبياء منها فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير.
وقيل : ما من ماء عذب في الأرض إلا وينبع أصله من صخرة بيت المقدس.
روي أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.
وقال عليه السلام " إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم " .
{ وَوَهَبْنَا لَهُا إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [الأنبياء : 72] قيل : هو مصدر كالعافية من غير لفظ
128
الفعل السابق أي وهبنا له هبة : وقيل : هي ولد الولد وقد سأل ولداً فأعطيه وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة فضلاً من غير سؤال وهي حال من يعقوب { وَكُلا } أي إبراهيم وإسحق ويعقوب وهو المفعول الأول لقوله { جَعَلْنَآ } والثاني { صَـالِحِينَ } في الدين والنبوة
جزء : 3 رقم الصفحة : 128
(3/74)
{ وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً } [القصص : 41] يقتدى بهم في الدين { يَهْدُونَ } الناس { بِأَمْرِنَا } بوحينا { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ } [الأنبياء : 73] وهي جميع الأعمال الصالحة وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم فعل الخيرات.
وكذلك قوله { وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء : 73] والأصل وإقامة الصلاة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء { وَكَانُوا لَنَا عَـابِدِينَ } [الأنبياء : 73] لا للإصنام فأنتم يا معشر العرب أولاد إبراهيم فاتبعوه في ذلك.
{ وَلُوطًا } انتصب بفعل يفسره { حُكْمًا وَعِلْمًا } [يوسف : 22] حكمة وهي ما يجب فعله من العمل أو فصلاً بين الخصوم أو نبوة { وَعِلْمًا } فقهاً { وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ } [الأنبياء : 74] من أهلها وهي سدوم { الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَـائِثَ } [الأنبياء : 74] اللواطة والضراط وحذف المارة بالحصى وغيرها { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَـاسِقِينَ } [الأنبياء : 74] خارجين عن طاعة الله { وَأَدْخَلْنَـاهُ فِى رَحْمَتِنَآ } [الأنبياء : 75] في أهل رحمتنا أو في الجنة { إِنَّهُ مِنَ الصَّـالِحِينَ } [الأنبياء : 75] أي جزاء له على صلاحه كما أهلكنا قومه عقاباً على فسادهم { وَنُوحًا } أي واذكر نوحاً { إِذْ نَادَى } [الأنبياء : 83] أي دعا على قومه بالهلاك
129
{ مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل هؤلاء المذكورين { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } [الأنبياء : 84] أي دعاءه { فَنَجِّيْنَـاهُ وَأَهْلَهُ } [الشعراء : 170] أي المؤمنين من ولده وقومه { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } [الأنبياء : 76] من الطوفان وتكذيب أهل الطغيان
جزء : 3 رقم الصفحة : 129
{ وَنَصَرْنَـاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ } [الأنبياء : 77] منعناه منهم أي من أذاهم { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنبياء : 77] صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم.
{ وَدَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ } أي واذكرهما { إِذْ } بدل منهما { يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ } [الأنبياء : 78] في الزرع أو الكرم { إِذْ } ظرف لـ يحكمان { نَفَشَتْ } دخلت { فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } [الأنبياء : 78] ليلاً فأكلته وأفسدته والنفش انتشار الغنم ليلاً بلا راع { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ } [الأنبياء : 78] أرادهما والمتحاكمين إليهما { شَـاهِدِينَ } أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا.
{ فَفَهَّمْنَـاهَا } أي الحكومة أو الفتوى { سُلَيْمَـانُ } وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان صلوات الله عليه.
وقصته أن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلاً فتحاكما إلى داود فحكم بالغنم لأهل الحرث وقد استوت قيمتاهما أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين ، فعزم عليه ليحكمن فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث ويعود كهيئته يوم أفسد ثم يترادان.
فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك ، وكان ذلك باجتهاد منهما وهذا كان في شريعتهم ، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، وعند الشافعي رحمه الله يجب الضمان بالليل.
وقال الجصاص : إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها.
ونسخ الضمان بقوله عليه السلام
130
" العجماء جبار " (1).
وقال مجاهد : كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير { وَكُلا } من داود وسليمان { حُكْمًا وَعِلْمًا } [الأنبياء : 79] نبوة { وَعِلْمًا } معرفة بموجب الحكم { وَسَخَّرْنَا } وذللنا { مَعَ دَاوُادَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } وهو حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن؟ فقال : يسبحن { وَالطَّيْرُ } معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد.
روي أنه كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تتجاوبه : وقيل : كانت تسير معه حيث سار { وَكُنَّا فَـاعِلِينَ } [الأنبياء : 79] بالأنبياء مثل ذلك وإن كان عجباً عندكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 130
(3/75)
{ وَعَلَّمْنَـاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } [الأنبياء : 80] أي عمل اللبوس والدروع واللبوس اللباس والمراد الدرع { لِتُحْصِنَكُم } شامي وحفص أي الصنعة ، وبالنون : أبو بكر وحماد أي الله عز وجل ، وبالياء : غيرهم أي اللبوس أو الله عز وجل { مِّن بَأْسِكُمْ } [الأنبياء : 80] من حرب عدوكم { فَهَلْ أَنتُمْ شَـاكِرُونَ } [الأنبياء : 80] استفهام بمعنى الأمر أي فاشكروا الله على ذلك { وَلِسُلَيْمَـانَ الرِّيحَ } [الأنبياء : 81] أي وسخرنا له الريح { عَاصِفَةً } حال أي شديدة الهبوب ووصفت في موضع آخر بالرخاء لأنها تجري باختياره ، وكانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفة لهبوبها على حكم إرادته { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } [ص : 36] بأمر سليمان { إِلَى الارْضِ الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا } [الأنبياء : 71] بكثرة الأنهار والأشجار والثمار والمراد الشام ، وكان منزله بها وتحمله الريح من نواحي الأرض إليها { وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَـالِمِينَ } [الأنبياء : 81] وقد أحاط علمنا بكل شيء فتجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا { وَمِنَ الشَّيَـاطِينِ } [الأنبياء : 82] أي وسخرنا منهم { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } [الأنبياء : 82] في البحار بأمره لاستخراج الدر وما يكون فيها { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَالِكَ } [الأنبياء : 82] أي دون الغوص وهو بناء المحاريب والتماثيل والقصور والقدور والجفان { وَكُنَّا لَهُمْ حَـافِظِينَ } [الأنبياء : 82] أن يزيغوا
131
عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 131
{ وَأَيُّوبَ } أي واذكر أيوب { إِذْ نَادَى رَبَّهُا أَنِّى } [الأنبياء : 83] أي دعا بأني { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } [الأنبياء : 83] الضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض أو هزال { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ } [الأعراف : 151] ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فكأنه قال : أنت أهل أن ترحم وأيوب أهل أن يرحم فارحمه واكشف عنه الضر الذي مسه.
عن أنس رضي الله عنه : أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ولم يشتك وكيف يشكو من قيل له { إِنَّا وَجَدْنَـاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ } [ص : 44] وقيل : إنما شكا إليه تلذذاً بالنجوى لا منه تضرراً بالشكوى ، والشكاية إليه غاية القرب كما أن الشكاية منه غاية البعد { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } [الأنبياء : 84] أجبنا دعاءه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } [الأنبياء : 84] فكشفنا ضره إنعاماً عليه { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا } [الأنبياء : 84] روي أن أيوب عليه السلام كان رومياً من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وله سبعة بنين وسبع بنات وثلاثة آلاف بعير وسبعة الاف شاة وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ثلاث سنين ، وقالت له امرأته يوماً : لو دعوت الله عز وجل.
فقال : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة.
فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي.
فلما كشف الله عنه أحيا ولده بأعيانهم ورزقه مثلهم معهم { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [الأنبياء : 84] هو مفعول له { وَذِكْرَى لِلْعَـابِدِينَ } [الأنبياء : 84] يعني رحمة لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كصبره فيثابوا كثوابه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 132
{ وَإِسْمَـاعِيلَ } بن إبراهيم { وَإِدْرِيسَ } بن شيت بن آدم { وَذَا الْكِفْلِ } [الأنبياء : 85] أي اذكرهم وهو الياس أو زكريا أو يوشع بن نون ، وسمي به لأنه ذو الحظ من الله
132
والكفل الحظ { كُلٌّ مِّنَ الصَّـابِرِينَ } [الأنبياء : 85] أي هؤلاء المذكورون كلهم موصوفون بالصبر
جزء : 3 رقم الصفحة : 132
{ وَأَدْخَلْنَـاهُمْ فِى رَحْمَتِنَآ } [الأنبياء : 86] نبوتنا أو النعمة في الآخرة { إِنَّهُم مِّنَ الصَّـالِحِينَ } [الأنبياء : 86] أي ممن لا يشوب صلاحهم كدر الفساد.
(3/76)
{ وَذَا النُّونِ } [الأنبياء : 87] أي اذكر صاحب الحوت والنون الحوت فأضيف إليه { إِذ ذَّهَبَ مُغَـاضِبًا } [الأنبياء : 87] حال أي مراغماً لقومه.
ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها.
روي أنه برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يتعظوا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وبغضاً للكفر وأهله وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ } [الأنبياء : 87] نضيق { عَلَيْهِ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل يوماً على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك.
قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ الآية.
فقال : أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة { فَنَادَى فِى الظُّلُمَـاتِ } [الأنبياء : 87] أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ } [البقرة : 17] أو ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت { ءَانٍ } أي بأنه { لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ } [الأنبياء : 87] أو بمعنى أي { سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ } [الأنبياء : 87] لنفسي في خروجي من قوى قبل أن تأذن لي في الحديث " ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " وعن الحسن : ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم.
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـاهُ مِنَ الْغَمِّ } [الأنبياء : 88] غم الزلة والوحشة والوحدة { وَكَذَالِكَ نُـاجِى الْمُؤْمِنِينَ } [الأنبياء : 88] إذا دعونا واستغاثوا بنا.
شامي وأبو بكر بإدغام النون في الجيم عند البعض لأن النون لا تدغم في الجيم.
وقيل : تقديره نجى النجاء المؤمنين فسكن الياء تخفيفاً وأسند الفعل إلى المصدر ونصب المؤمنين بالنجاء لكن فيه إقامة المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول وهذا لا يجوز ، وفيه تسكين الياء وبابه الضرورات.
133
وقيل : أصله " ننجى " من التنجية فحذفت النون الثانية لاجتماع النونين كما حذفت إحدى التاءين في { أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَـائكَةُ } [القدر : 4]
جزء : 3 رقم الصفحة : 133
{ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِى فَرْدًا } [الأنبياء : 89] سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ولا يدعه وحيداً بلا وارث ، ثم رد أمره إلى الله مستسلماً فقال { وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } [الأنبياء : 89] أي فإن لم تزرقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث أي باق { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ } ولداً { يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُا } [الأنبياء : 90] جعلناها صالحة للولادة بعد العقار أي بعد عقرها أو حسنة وكانت سيئة الخلق { أَنَّهُمْ } أي الأنبياء المذكورين { كَانُوا يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ } [الأنبياء : 90] أي أنهم إنما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } [الأنبياء : 90] أي طمعاً وخوفاً كقوله { يَحْذَرُ الاخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ } وهما مصدران في موضع الحال أو المفعول له أي للرغبة فينا والرهبة منا { وَكَانُوا لَنَا خَـاشِعِينَ } [الأنبياء : 90] متواضعين خائفين.
{ وَالَّتِى } أي واذكر التي { أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } [التحريم : 12] حفظته من الحلال والحرام { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [الأنبياء : 91] أجرينا فيها روح المسيح أو أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ عيسى في بطنها ، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام { وَجَعَلْنَـاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً } [الأنبياء : 91] مفعول ثان { لِّلْعَـالَمِينَ } وإنما لم يقل آيتين كما قال { وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ } [الإسراء : 12] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل ، أو التقدير وجعلناها آية وابنها كذلك فـ آية مفعول المعطوف عليه ويدل عليه قراءة من قرأ آيتين
134
جزء : 3 رقم الصفحة : 134
(3/77)
{ إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الأنبياء : 92] لأمة الملة وهذه إشارة إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع الأنبياء.
و { أُمَّةً وَاحِدَةً } [يونس : 19] أي متوحدة غير متفرقة والعالم ما دل عليه اسم الإشارة أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 92] أي ربيتكم اختياراً فاعبدوني شكراً وافتخاراً والخطاب للناس كافة.
{ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } [الأنبياء : 93] أصل الكلام وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات ، والمعنى وجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً وصاروا فرقاً وأحزاباً.
ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الأنبياء : 93] فنجازيهم على أعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ } [الأنبياء : 94] شيئاً { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] بما يجب الإيمان به { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } [الأنبياء : 94] أي فإن سعيه مشكور مقبول والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ { وَإِنَّا لَهُ } [الأنبياء : 94] للسعي أي الحفظة بأمرنا { كَـاتِبُونَ } في صحيفة عمله فنثيبه به { وَحَرَامٌ } وحرم كوفي غير حفص وخلف وهما لغتان كحل وحلال وزناً وضده معنى والمراد بالحرام الممتنع وجوده { عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآ أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 95] والمعنى وممتنع على مهلك غير ممكن أن لا يرجع إلى الله بالبعث ، أو حرام على قرية أهلكناها أي قدرنا إهلاكهم أو حكمنا بإهلاكهم ذلك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور أنهم لا يرجعون من الكفر إلى الإسلام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 135
{ حَتَّى } هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني { إِذَآ } و " ما " في حيزما { فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } [الأنبياء : 96] أي فتح
135
سدهما فحذف المضاف كما حذف المضاف إلى قرية فتّحت : شامي وهما قبيلتان من جنس الإنس.
يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج { وَهُمْ } راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر.
وقيل : هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد { مِّن كُلِّ حَدَبٍ } [الأنبياء : 96] نشز من الأرض أي ارتفاع { يَنسِلُونَ } يسرعون
جزء : 3 رقم الصفحة : 135
{ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } [الأنبياء : 97] أي القيامة وجواب إذا { فَإِذَا هِىَ } [الأعراف : 108] وهي " إذا " المفاجأة وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [الروم : 36] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتاً على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل فهي شاخصة أو إذا هي شاخصة كان سديداً وهي ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره { شَـاخِصَةٌ أَبْصَـارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنبياء : 97] أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه { يَـاوَيْلَنَآ } متعلق بمحذوف تقديره يقولون يا ويلنا و يقولون حال من الذين كفروا { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا } [الأنبياء : 97] اليوم { بَلْ كُنَّا ظَـالِمِينَ } [الأنبياء : 97] بوضعنا العبادة في غير موضعها.
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأنبياء : 98] يعني الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم { حَصَبُ } حطب وقرىء حطب { جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء : 98] فيها داخلون { لَوْ كَانَ هؤلاء ءَالِهَةً } [الأنبياء : 99] كما زعمتم { مَّا وَرَدُوهَا } [الأنبياء : 99] ما دخلوا النار { وَكُلٌّ } أي العابد والمعبود { فِيهَآ } في النار { خَـالِدُونَ * لَهُمْ } للكفار { فِيهَا زَفِيرٌ } [هود : 106] أنين وبكاء وعويل.
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
{ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } [الأنبياء : 100] شيئاً ما لأنهم صاروا صماً وفي السماع نوع أنس فلم يعطوه.
{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى } [الأنبياء : 101] الخصلة المفضلة في الحسن
136
(3/78)
تأنيث الأحسن وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة فنزلت جواباً لقول ابن الزبعري عند تلاوته عليه السلام على صناديد قريش { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأنبياء : 98] إلى قوله خالدون أليس اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة على أن قوله وما تعبدون لا يتناولهم لأن " ما " لمن لا يعقل إلا أنهم أهل عناد فزيد في البيان { أؤلئك } يعني عزيراً والمسيح والملائكة { عَنْهَا } عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم لم يرضوا بعبادتهم.
وقيل : المراد بقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى جميع المؤمنين لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : " أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف " وقال الجنيد رحمه الله : سبقت لهم منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية
جزء : 3 رقم الصفحة : 136
{ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [الأنبياء : 102] صوتها الذي يحس وحركة تلهبها وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها { وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ } [الأنبياء : 102] من النعيم { خَـالِدُونَ } مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ } [الأنبياء : 103] النفخة الأخيرة { وَتَتَلَقَّـاهُمُ الْمَلَـائكَةُ } [الأنبياء : 103] أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون { هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء : 103] أي هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم في الدنيا.
العامل في { يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ } [الأنبياء : 104] لا يحزنهم أو تتلقاهم تطوى السماء يزيد ، وطيها تكوير نجومها ومحو رسومها أو هو ضد النشر نجمعها ونطويها
137
{ كَطَىِّ السِّجِلِّ } [الأنبياء : 104] أي لصحيفة { لِلْكُتُبِ } حمزة وعلي وحفص أي للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وغيرهم للكتاب أي كما يطوى الطومار للكتابة ، أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب.
وقيل : السجل : ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه.
وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم.
والكتاب على هذا اسم الصحيفة المكتوب فيها والطي مضاف إلى الفاعل وعلى الأول إلى المفعول { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [الأنبياء : 104] انتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و " ما " موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، و أول خلق ظرف لـ بدأنا أي أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى.
وأول الخلق إيجاده أي فكما أوجده أو لا يعيده ثانياً تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء.
والتنكير في خلق مثله في قولك " هو أول رجل جاءني " تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى أول خلق أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع { وَعْدًا } مصدر مؤكد لأن قوله تعيده عدة للإعادة { عَلَيْنَآ } أي وعدا كائناً لا محالة { إِنَّا كُنَّا فَـاعِلِينَ } [الأنبياء : 104] ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 137
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ } [الأنبياء : 105] كتاب داود عليه السلام { مِن بَعْدِ الذِّكْرِ } [الأنبياء : 105] التوراة { إِنَّ الارْضَ } [الأعراف : 128] أي الشام { يَرِثُهَا عِبَادِىَ } [الأنبياء : 105] ساكنة الياء : حمزة غيره بفتح الياء { الصَّـالِحُونَ } أي أمة محمد عليه السلام ، أو الزبور بمعنى المزبور أي المكتوب يعني ما أنزل على الأنبياء من الكتب.
والذكر أم الكتاب يعني اللوح لأن الكل اخذوا منه.
دليله قراءة حمزة وخلف بضم الزاي على جمع الزبر بمعنى المزبور والأرض أرض الجنة.
{ إِنَّ فِى هَـاذَا } [الأنبياء : 106] أي القرآن أو في المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ { لَبَلَـاغًا } لكفاية وأصله ما تبلغ به البغية { لِّقَوْمٍ عَـابِدِينَ } [الأنبياء : 106] موحدين وهم أمة محمد عليه السلام { وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً } [الأنبياء : 107] قال عليه السلام " إنما أنا رحمة مهداة "
138
(3/79)
{ لِّلْعَـالَمِينَ } لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ومن لم يتبع فإنما أتي من نفسه حيث ضيع نصيبه منها.
وقيل : هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير العقوبة فيها.
وقيل : هو رحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ والخسف.
و رحمة مفعول له أو حال أي ذا رحمة
جزء : 3 رقم الصفحة : 138
{ قُلْ إِنَّمَآ } [الأعراف : 203] إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم نحو " إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد " .
وفاعل { يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [الكهف : 110] والتقدير يوحي إليَّ وحدانية إلهي ، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي يوحي إليّ فتكون " ما " موصولة { فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [هود : 14] استفهام بمعنى الأمر أي أسلموا { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] عن الإسلام { فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ } [الأنبياء : 109] أعلمتكم ما أمرت به { عَلَى سَوَآءٍ } [الانفال : 58] حال أي مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم ، وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية { وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [الأنبياء : 109] أي لا أدري متى يكون يوم القيامة لأن الله تعالى لم يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة ، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء : 110] إنه عالم بكل شيء يعلم ما تجاهرونني به من الطعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين وهو مجازيكم عليه.
{ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } [الأنبياء : 111] وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون { وَمَتَـاعٌ إِلَى حِينٍ } [البقرة : 36] وتمتيع لكم إلى الموت ليكون ذلك حجة عليكم { قَـالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [الأنبياء : 112] اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل ، أو بما يحق
139
عليهم من العذاب ولا تحابهم وشدد عليهم كما قال " واشدد وطأتك على مضر " .
قال رب حفص على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم رب احكم يزيد ربي أحكم زيد عن يعقوب { وَرَبُّنَا الرَّحْمَـانُ } [الأنبياء : 112] العاطف على خلقه { الْمُسْتَعَانُ } المطلوب منه المعونة { عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] وعن ابن ذكوان بالياء ، كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة لهم والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين وخذلهم
140
سورة الحج
مكية وهي ثمان وسبعون آية
{ تُفْلِحُونَ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ } [النساء : 1] أمر بني آدم بالتقوى ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ } [الحج : 1] لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع.
والزلزلة شدة التحريك والإزعاج ، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي ، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله (بل مكر الليل والنهار).
ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها ، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } [الحج : 2] أي الزلزلة أو الساعة بقوله { تَذْهَلُ } تغفل.
والذهول : الغفلة { كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [الحج : 2] عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل.
وقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت
141(3/80)
الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ } [الحج : 2] أي حبلى { حَمْلَهَا } ولدها قبل تمامه.
عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام { وَتَرَى النَّاسَ } [الحج : 2] أيها الناظر { سُكَـارَى } على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي : نفسي نفسي { وَمَا هُم بِسُكَـارَى } [الحج : 2] على التحقيق { وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج : 2] فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه.
وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب.
سكرى فيهما بالإمالة : حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان.
روي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 141
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ } [الحج : 3] في دين الله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] حال.
نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول الملائكة : بنات الله.
والقرآن : أساطير الأولين.
والله غير قادر على إحياء من بلي ، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى { وَيَتَّبِعُ } في ذلك { كُلَّ شَيْطَـانٍ مَّرِيدٍ } [الحج : 3] عاتٍ مستمر في الشر.
ولا وقف على مريد لأن ما بعده صفته { كُتِبَ عَلَيْهِ } [الحج : 4] قضي على الشيطان
142
{ أَنَّهُ مَن تَوَلاهُ } [الحج : 4] تبعه أي تبع الشيطان { فَأَنَّهُ } فأن الشيطان { يُضِلُّهُ } عن سواء السبيل { وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } [الحج : 4] النار.
قال الزجاج : الفاء في فأنه للعطف و " أن " مكررة للتأكيد.
ورد عليه أبو علي وقال : إن " من " إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط ، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير : فالأمر أنه يضله.
قال : والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول ، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار.
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 142
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ } [الحج : 5] يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء تراباً وماء ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء { فَإِنَّا خَلَقْنَـاكُم } [الحج : 5] أي أباكم { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ } [الروم : 20] خلقتم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } [الحج : 5] أي قطعة دم جامدة { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } [الحج : 5] أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } [الحج : 5] المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم.
وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } [الحج : 5] بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً قادر على إعادة ما بدأه { وَنُقِرُّ } بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف.
أي نحن نثبت { فِى الارْحَامِ مَا نَشَآءُ } [الحج : 5] ثبوته { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام
جزء : 3 رقم الصفحة : 143
{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } [الحج : 5] من الرحم { طِفْلا } حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع ، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا } [غافر : 67] ثم نربيكم لتبلغوا { أَشُدَّكُمْ } كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى } [غافر : 67] عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } [النحل : 70] أخسه يعني الهرم والخرف
143
(3/81)
{ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيئا } [الحج : 5] أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال { وَتَرَى الارْضَ هَامِدَةً } [الحج : 5] ميتة يا بسة { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ } [الحج : 5] تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } وانتفخت.
وربأت حيث كان : يزيد ارتفعت { وَأَنابَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج } [الحج : 5] صنف { بَهِيجٍ } حسن صار للناظرين إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 143
{ ذَالِكَ } مبتدأ خبره { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } [الحج : 62] أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود { وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى } [الحج : 6] كما أحيا الأرض { وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الحج : 6] قادر { وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ } [الحج : 7] أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـادِلُ فِى اللَّهِ } [الحج : 3] في صفاته فيصفه بغير ما هو له.
نزلت في أبي جهل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] ضروري { وَلا هُدًى } [الحج : 8] أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة { وَلا كِتَـابٍ مُّنِيرٍ } [الحج : 8] أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجود الثلاثة { ثَانِىَ عِطْفِهِ } [الحج : 9] حال أي لاوياً عنقه عن طاعة الله كبراً وخيلاء.
وعن الحسن : ثاني عطفه بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره { لِيُضِلَّ } تعليل للمجادلة.
ليضل مكي وأبو عمرو { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] دينه { لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } [الحج : 9] أي القتل يوم بدر { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج : 9] أي جمع له عذاب الدارين { ذَالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [الحج : 10] أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه
144
من الكفر والتكذيب ، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [آل عمران : 182] فلا يأخذ أحداً بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على بما أي وبأن الله.
وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد ، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 144
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } [الحج : 11] على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطرباً { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } [الحج : 11] صحة في جسمه وسعة في معيشته { اطْمَأَنَّ } سكن واستقر { بِهِ } بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } [الحج : 11] شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته { انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } [الحج : 11] جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه.
قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شراً وانقلب عن دينه { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاخِرَةَ } [الحج : 11] حال " وقد " مقدرة دليله قراءة روح وزيد خاسر الدنيا والآخرة والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار { ذَالِكَ } أي خسران الدارين { هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } [الحج : 11] الظاهر الذي لا يخفي على أحد.
{ يَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ } [البقرة : 221-74] يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك { مَا لا يَضُرُّهُ } [الحج : 12] إن لم يعبده { وَمَا لا يَنفَعُهُ } [الحج : 12] إن عبده { ذَالِكَ هُوَ الضَّلَـالُ الْبَعِيدُ } [إبراهيم : 18] عن الصواب
145
جزء : 3 رقم الصفحة : 145
(3/82)
{ يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُا أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } والإشكال أنه تعالى نفي الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا.
والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } [الحج : 13] أي الناصر الصاحب { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } [الحج : 13] المصاحب أو كرر يدعوا كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [الحج : 14] هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [الحج : 15] المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } [الحج : 15] بحبل { إِلَى السَّمَآءِ } [الحج : 15] إلى سماء بيته { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } [الحج : 15] ثم ليختنق به ، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه.
وبكسر اللام بصري وشامي { فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [الحج : 15] أي الذي يغيظه أو " ما " مصدرية أي غيظه ، والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه.
وسمي فعله كيداً على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ { وَكَذَالِكَ أَنزَلْنَـاهُ } [الحج : 16] ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله { بَيِّنَـاتٍ فَسْـالْ } [الإسراء : 101] واضحات { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ } [الحج : 16] أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون ، أو يثبت الذي آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّناً.
146
جزء : 3 رقم الصفحة : 146
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـابِـاِينَ وَالنَّصَـارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [الحج : 17] قيل : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن ، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الحج : 17] في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحداً ولا يجمعهم في موطن واحد.
وخبر إن الذين آمنوا إن الله يفصل بينهم كما تقول " إن زيداً إن أباه قائم " { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [الحج : 17] عالم به حافظ له فلينظر كل امريء معتقده ، وقوله وفعله وهو أبلغ وعيد.
{ أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان { أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَن فِى الارْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ } [الحج : 18] قيل : إن الكل يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى : { وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـاكِن لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء : 44].
وقيل : سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجوداً له تشبيهاً لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه { وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ } [الحج : 18] أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، أو هو مرفوع على الابتداء ومن الناس صفة له والخبر محذوف وهو مثاب ويدل عليه قوله { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } [الحج : 18] أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ } [الحج : 18] بالشقاوة { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [الحج : 18] بالسعادة { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [الحج : 18] من الإكرام والإهانة وغير ذلك ، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
{ هَـاذَانِ خَصْمَانِ } [الحج : 19] أي فريقان مختصمان ؛ فالخصم صفة وصف بها
(3/83)
147
الفريق وقوله { اخْتَصَمُوا } للمعنى وهذان للفظ والمراد المؤمنون والكافرون.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : رجع إلى أهل الأديان المذكورة : فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم { فِى رَبِّهِمْ } [الحج : 19] في دينه وصفاته ، ثم بين جزاء كل خصم بقوله { فَالَّذِينَ كَفَرُوا } [الحج : 19] وهو فصل الخصومة المعني بقوله إن الله يفصل بينهم يوم القيامة { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } [الحج : 19] كأن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثتهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ } بكسر الهاء والميم ، بصري ، وبضمهما : حمزة وعلي وخلف ، وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم { الْحَمِيمُ } الماء الحار.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها
جزء : 3 رقم الصفحة : 147
{ يُصْهَرُ } يذاب { بِهِ } بالحميم { مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } [الحج : 20] أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن { وَلَهُم مَّقَـامِعُ } [الحج : 21] سياط مختصة بهم { مِنْ حَدِيدٍ } [الحج : 21] يضربون بها { كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا } [الحج : 22] من النار { مِنْ غَمٍّ } [الحج : 22] بدل الاشتمال من منها بإعادة الجار ، أو الأولى لابتداء الغاية والثانية بمعنى من أجل يعني كلما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا { أُعِيدُوا فِيهَا } [الحج : 22] بالمقامع ، ومعنى الخروج عند الحسن أن النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً ، والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها { وَذُوقُوا } أي وقيل لهم ذوقوا { عَذَابَ الْحَرِيقِ } [آل عمران : 181] هو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } جمع أسورة جمع سوار { مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } [الحج : 23] بالنصب : مدني وعاصم وعلي ويؤتون لؤلؤاً وبالجر : غيرهم عطفاً على من ذهب وبترك الهمزة الأولى في كل القرآن : أبو بكر وحماد
148
{ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23] إبريسم
جزء : 3 رقم الصفحة : 148
{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } [الحج : 24] أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد و إلى صراط الحميد أي الإسلام أو هداهم الله في الآخرة وألهمهم أن يقولوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة.
والحميد الله المحمود بكل لسان.
(3/84)
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [الحج : 25] أي يمنعون عن الدخول في الإسلام ويصدون ، حال من فاعل كفروا أي وهم يصدون أي الصدود منهم مستمر دائم كما يقال " فلان يحسن إلى الفقراء " فإنه يراد به إستمرار وجود الإحسان منه في الحال والاستقبال { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الحج : 25] أي ويصدون عن المسجد الحرام والدخول فيه { الَّذِى جَعَلْنَـاهُ لِلنَّاسِ } [الحج : 25] مطلقاً من غير فرق بين حاضر وبادٍ ، فإن أريد بالمسجد الحرام مكة ففيه دليل لا تباع دور مكة وإن أريد به البيت فالمعنى أنه قبلة لجميع الناس { سَوَآءً } بالنصب : حفص مفعول ثانٍ لـ جعلناه أي جعلناه مستوياً { الْعَـاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [الحج : 25] وغير المقيم.
بالياء : مكي وافقه أبو عمرو في الوصل وغيره بالرفع على أنه خبر والمبتدأ مؤخر أي العاكف فيه والباد سواء ، والجملة مفعول ثانٍ للناس حال { وَمَن يُرِدْ فِيهِ } [الحج : 25] في المسجد الحرام { بِإِلْحَاد بِظُلْمٍ } [الحج : 25] حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال : ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً ، فالإلحاد العدول عن القصد { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج : 25] في الآخرة وخبر " ان " محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك.
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [الحج : 26] واذكر يا محمد حين جعلنا
149
لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أساسه القديم { ءَانٍ } هي المفسرة للقول المقدر أي قائلين له { لا تُشْرِكْ بِى شيئا وَطَهِّرْ بَيْتِىَ } [الحج : 26] من الأصنام والأقذار : وبفتح الياء : مدني وحفص { لِلطَّآ ـاِفِينَ } لمن يطوف به { وَالْقَآ ـاِمِينَ } والمقيمين بمكة { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة : 125] المصلين جمع راكع وساجد.
جزء : 3 رقم الصفحة : 149
{ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ } [الحج : 27] ناد فيهم ، والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع.
روي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم.
فأجاب من قدر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك.
وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع.
والأول أظهر وجواب الأمر { يَأْتُوكَ رِجَالا } [الحج : 27] مشاة جمع راجل كقائم وقيام { وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } [الحج : 27] حال معطوفة على رجال كأنه قال : رجالاً وركباناً.
والضامر البعير المهزول ، وقدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشات كما ورد في الحديث { يَأْتِينَ } صفة لـ كل ضامر لأنه في معنى الجمع.
وقرأ عبد الله يأتون صفة للرجال والركبان { مِن كُلِّ فَجٍّ } [الحج : 27] طريق { عَمِيقٍ } بعيد.
قال محمد بن يا سين : قال لي شيخ في الطواف : من أين أنت؟ فقلت : من خراسان.
قال : كم بينكم وبين البيت؟ قلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة.
قال : فأنتم جيران البيت؟ فقلت : أنت من أين جئت؟ قال : من مسيرة خمس سنوات وخرجت وأنا شاب فاكتهلت.
قلت : والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فقال :
150
زر من هويت وإن شطت بك الدار
وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعنك بعدٌ عن زيارته
إن المحب لمن يهواه زوّار
جزء : 3 رقم الصفحة : 150
(3/85)
واللام في { لِّيَشْهَدُوا } ليحضروا متعلق بـ أذن أو بـ يأتوك { مَنَـافِعَ لَهُمْ } [الحج : 28] نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة ، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال كالزكاة ، وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان ، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء.
فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده ، ولا يأكل إلا من زاده ، فكذا المرء إذا خرج من شاطيء الحياة وركب بحر الوفاء لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده ، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده ، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه.
مطيباً بالحنوط ملففاً في كفن غير مخيط.
ثم المحرم يكون أشعث حيران فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغباً ورهباً سائلين خوفاً وطمعاً وهم من بين مقبول ومخذول كموقف العرصات { لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 105] والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء ، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين ، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف ، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمناً من الإيذاء والقتال أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية ، فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي.
{ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } [الحج : 28] عند الذبح { فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ } [الحج : 28] هي عشر ذي الحجة عند أبي حنيفة رحمه الله وآخرها يوم النحر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وأكثر المفسرين رحمهم الله وعند صاحبيه هي
151
أيام النحر وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما { عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الانْعَـامِ } [الحج : 28] أي على ذبحه وهو يؤيد قولهما والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
جزء : 3 رقم الصفحة : 151
{ فَكُلُوا مِنْهَا } [البقرة : 58] من لحومها ، والأمر للإباحة ، ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فأشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا { وَأَطْعِمُوا الْبَآ ـاِسَ } [الحج : 28] الذي أصابه بؤس أي شدة { الْفَقِيرَ } الذي أضعفه الإعسار
جزء : 3 رقم الصفحة : 151
{ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } [الحج : 29] ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم كذا قاله نفطويه.
قيل : قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد ، والتفث : الوسخ والمراد قضاء إزالة التفث.
وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : قضاء التفث مناسك الحج كلها { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } [الحج : 29] مواجب حجهم والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه : وفى بنذره وإن لم ينذر ، أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم ، وليوفوا بسكون اللام والتشديد : أبو بكر { وَلْيَطَّوَّفُوا } طواف الزيارة الذي هو ركن الحج ويقع به تمام التحلل.
اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج : 29] القديم لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ثم جدده إبراهيم ، أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها ، وعتاق الرقيق لخروجه من ذل العبودية إلى كرم الحرية ، أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان ، أو من أيدي الجبابرة ؛ كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، أو من أيدي الملاك فلم يملك قط وهو مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء ، فإن الطالب إذا هاجته معيه الطرب وجذبته جواذب الطلب جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ويتخذ مسالك المهالك منازل ، فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقاً ، فيرده الأسف لهفان ويرده اللهف حوله في الدوران ، وطواف الزيارة آخر فرائض الحج الثلاث ، وأولها الإحرام وهو عقد
152
(3/86)
الالتزام يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه ، كما أن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثام وترتفع ألف حوبة بتوبة.
وثانيها الوقوف بعرفات بسمة الابتهال في صفة الاهتبال ، وصدق الاعتزال عن دفع الاتكال على مراتب الأعمال وشواهد الأحوال.
جزء : 3 رقم الصفحة : 152
{ ذَالِكَ } خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك أو تقديره ليفعلوا ذلك { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَـاتِ اللَّهِ } [الحج : 30] الحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً بما يتعلق بالحج.
وقيل : حرمات الله البيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام { فَهُوَ } أي التعظيم { خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } [الحج : 30] ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانْعَـامُ } [الحج : 30] أي كلها { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المائدة : 1] آية تحريمه وذلك قوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [المائدة : 3] الآية.
والمعنى أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها إلا ما بيّن في كتابه ، فحافظوا على حدوده ولا تحرموا شيئاً مما أحل كتحريم البحيرة ونحوها ، ولا تحلوا مما حرم كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما.
ولما حث على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [الحج : 30] لأن ذلك من أعظم الحرمات وأسبقها حظراً.
ومن الأوثان بيان للرجس لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء كأنه قيل : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.
وسمي الأوثان رجساً على طريقة التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها.
وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان أو شهادة الزور وهو من الزور وهو الانحراف ، لأن الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة.
153
جزء : 3 رقم الصفحة : 153
{ حُنَفَآءَ لِلَّهِ } [الحج : 31] مسلمين { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [الحج : 31] حال كحنفاء { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ } [الحج : 31] سقط { مِنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] إلى الأرض { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } [الحج : 31] أي تسلبه بسرعة فتخطّفه أي تتخطفه مدني { أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ } [الحج : 31] أي تسقطه والهوي السقوط { فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج : 31] بعيد.
يجوز أن يكون هذا تشبيهاً مركباً ، ويجوز أن يكون مفرقاً.
فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة.
وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي أشرك بالله بالساقط من السماء.
والأهواء المردية بالطير المتخطفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
{ ذَالِكَ } أي الأمر ذلك { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَـائرَ اللَّهِ } [الحج : 32] تعظيم الشعائر وهي الهدايا لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حساناً ثماناً غالية الأثمان { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج : 32] أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات.
وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى { لَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ } [
جزء : 3 رقم الصفحة : 154
الحج : 33] من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] إلى أن تنحر { ثُمَّ مَحِلُّهَآ } [الحج : 33] أي وقت وجوب نحرها منتهية { إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [الحج : 33] والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت ومثله في الاتساع قولك " بلغ البلد " وإنما اتصل مسيرك بحدوده.
وقيل : الشعائر المناسك كلها وتعظيمها إتمامها ومحلها إلى البيت العتيق يأباه { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } [الأعراف : 34] جماعة مؤمنة قبلكم { جَعَلْنَا مَنسَكًا } [الحج : 34] حيث كان بكسر
154
(3/87)
السين بمعنى الموضع : علي وحمزة أي موضع قربان.
وغيرهما : بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين { لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } [الحج : 34] دون غيره { عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الانْعَـامِ } [الحج : 28] أي عند نحرها وذبحها { فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [الحج : 34] أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد ، وفيه دليل على أن ذكر اسم الله شرط الذبح يعني أن الله تعالى شرع لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا له على وجه التقرب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك.
وقوله { فَلَهُا أَسْلِمُوا } [الحج : 34] أي أخلصوا له الذكر خاصة واجعلوه له سالماً أي خالصاً لا تشوبوه بإشراك { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } [الحج : 34] المطمئنين بذكر الله أو المتواضعين الخاشعين من الخبت وهو المطمئن من الأرض.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وقيل : تفسيره ما بعده أي
جزء : 3 رقم الصفحة : 154
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الانفال : 2] خافت منه هيبة { وَالصَّـابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ } [الحج : 35] من المحن والمصائب { الَّذِينَ إِذَا } [الحج : 35] في أوقاتها { وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } [البقرة : 3] يتصدقون.
{ وَالْبُدْنَ } جمع بدنة سميت لعظم بدنها وفي الشريعة يتناول الإبل والبقر ، وقريء برفعها وهو كقوله { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَـاهُ } [يس : 39] { جَعَلْنَـاهَا لَكُم مِّن شَعَـائرِ اللَّهِ } [الحج : 36] أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله ، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها ومن شعائر الله ثاني مفعولي جعلنا { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } [الحج : 36] النفع في الدنيا والأجر في العقبى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } [الحج : 36] عند نحرها { صَوَآفَّ } حال من الهاء أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [الحج : 36] وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها
155
{ فَكُلُوا مِنْهَا } [البقرة : 58] إن شئتم { وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ } [الحج : 36] السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعاً { وَالْمُعْتَرَّ } الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل.
وقيل : القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال من قنعت قنعاً وقناعة ، والمعتر المتعرض للسؤال { كَذَالِكَ سَخَّرْنَـاهَا لَكُمْ } [الحج : 36] أي كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أو هو كقوله ذلك ومن يعظم ثم استأنف فقال سخرناها لكم أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] لكي تشكروا إنعام الله عليكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 155
{ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [الحج : 37] أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى ، أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضي المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى.
وقيل : كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم ، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت { كَذَالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } [الحج : 37] أي البدن { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ } [الحج : 37] لتسموا الله عند الذبح أو لتعظموا الله { عَلَى مَا هَدَاـاكُمْ } [الحج : 37] على ما أرشدكم إليه { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } [الحج : 37] الممتثلين أوامره بالثواب { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ } [الحج : 38] مكي وبصري وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم { يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [الحج : 38] أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ونحوه { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [غافر : 51] ثم علل ذلك بقوله { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ } [الحج : 38] في أمانة الله { كَفُورٍ } لنعمة الله أي لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها.
(3/88)
{ أُذِنَ } مدني وبصري وعاصم { لِلَّذِينَ يُقَـاتَلُونَ } [الحج : 39] بفتح التاء مدني وشامي وحفص ، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } [الحج : 39] بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، كان مشركو
156
مكة يؤذونهم أذىً شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ } [الحج : 39] على نصر المؤمنين { لَقَدِيرٌ } قادر وهو بشارة للمؤمنين بالنصرة وهو مثل قوله إن الله يدافع عن الذين آمنوا
جزء : 3 رقم الصفحة : 156
{ الَّذِينَ } في محل جر بدل من الذين أو نصب بـ " أعني " أو رفع بإضمارهم { أُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِم } [الحج : 40] بمكة { بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج : 40] أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكين لا موجب الإخراج ومثله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ } [المائدة : 59] ومحل أن يقولوا جر بدل من حق والمعنى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ } [البقرة : 251] دفاع مدني ويعقوب { النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ } [الحج : 40] وبالتخفيف حجازي { صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَـاجِدُ } [الحج : 40] أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات أي كنائس.
وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلي فيها ولا للمسلمين مساجد ، أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلّم على المسلمين وعلى أهل اكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين ، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً أو لقربها من التهديم { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } [الحج : 40] في المساجد أو في جميع ما تقدم { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُا } [الحج : 40] أي ينصر دينه وأوليائه { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ } [الحج : 40] على نصر أوليائه { عَزِيزٌ } على انتقام أعدائه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 157
{ الَّذِينَ } محله نصب بدل من من ينصره أو جر تابع لـ الذين أخرجوا { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ أَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزكاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ } [الحج : 41]
157
هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا وكيف يقومون بأمر الدين ، وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله عز وجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة.
وعن الحسن : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلّم { وَلِلَّهِ عَـاقِبَةُ الامُورِ } [الحج : 41] أي مرجعها إلى حكمه وتقديره ، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 157
(3/89)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ } [فاطر : 25] هذه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلّم من تكذيب أهل مكة إياه أي لست بأوحدي في التكذيب { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } [الحج : 42] قبل قومك { قَوْمُ نُوحٍ } [هود : 89] نوحاً { وَعَادٌ } هوداً { وَثَمُودُ } صالحاً { وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ } [التوبة : 70] إبراهيم { وَقَوْمُ لُوطٍ } [الحج : 43] لوطاً { وَأَصْحَـابُ مَدْيَنَ } [التوبة : 70] شعيباً { وَكُذِّبَ مُوسَى } [الحج : 44] كذبه فرعون والقبط ولم يقل وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه ، أو كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنك بغيره { فَأَمْلَيْتُ لِلْكَـافِرِينَ } [الحج : 44] أمهلتهم وأخرت عقوبتهم { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } [الرعد : 32] عاقبتهم على كفرهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج : 44] إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقماً وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً.
نكيري بالياء في الوصل والوقف : يعقوب { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا } [الحج : 45] أهلكتها بصري { وَهِىَ ظَالِمَةٌ } [هود : 102] حال أي وأهلها مشركون { فَهِىَ خَاوِيَةٌ } [الحج : 45] ساقطة من خوى النجم إذا سقط { عَلَى عُرُوشِهَا } [البقرة : 259] يتعلق بـ خاوية والمعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، ولا محل لـ فهي خاوية من الإعراب لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل ، وهذا إذا جعلنا منصوب المحل على تقدير كثيراً من القرى أهلكناها { عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } [الحج : 45] أي متروكة لفقد دلوها ورشائها وفقد تفقدها ، أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها
158
عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [الحج : 45] مجصص من الشيد الجص أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه ، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعاً فخلت القصور عن أربابها والآبار عن واردها والأظهر أن البئر والقصر على العموم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 158
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الارْضِ } [الحج : 46] هذا حث على السفر ليروا مصارع من أهلهم بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الحج : 46] أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الابْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } [الحج : 46] الضمير في فإنها ضمير القصة أو ضمير مبهم يفسره الأبصار أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار.
ولكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه وعينان في قلبه ، فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضره ، وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه ، وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب ولئلا يقال : إن القلب يعني به غير هذا العضو كما يقال " القلب لب كل شيء " .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } [الحج : 47] الآجل استهزاء { وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } [الحج : 47] كأنه قال : ولم يستعجلونك به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ولن يخلف الله وعده وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين { وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج : 47] يعدون مكي وكوفي غير عاصم أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال.
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ } [الحج : 48] أي وكم من أهل قرية كانوا
159
مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } [الحج : 48] بالعذاب { وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ } [الحج : 48] أي المرجع إلي فلا يفوتني شيء.
وإنما كانت الأولى أي فكأين معطوفة بالفاء وهذه أي وكأين بالواو لأن الأولى وقعت بدلاً عن فكيف كان نكير وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما { وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ } [الحج : 47]
جزء : 3 رقم الصفحة : 159
(3/90)
{ قُلْ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين ويا أيها الناس نداء لهم وهم الذين قيل فيهم أفلم يسيروا ووصفوا بالاستعجال.
وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا ، أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولاً فقال { فَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [الحج : 50] لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الانفال : 4] أي حسن.
ثم أنذر فقال { وَالَّذِينَ سَعَوْا } [الحج : 51] سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه { وَإِذَا رَأَيْتَ } [الأنعام : 68] أي القرآن { مُعَـاجِزِينَ } حال معجزين حيث كان : مكي وأبو عمرو.
وعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه.
والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لها { أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ } [المائدة : 10] أي النار الموقدة.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } [يوسف : 109] " من " لابتداء الغاية { مِن رَّسُولٍ } [إبراهيم : 4] " من " زائدة لتأكيد النفي { وَلا نَبِىٍّ } [الحج : 52] هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن الأنبياء فقال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " فقيل : فكم الرسل منهم؟ فقال : " ثلثمائة وثلاثة عشر " والفرق بينهما أن الرسول
160
من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله.
وقيل : الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره { إِلا إِذَا تَمَنَّى } [الحج : 52] قرأ ، قال :
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
تمنى كتاب الله أول ليلة تمنى داود الزبور على رسل { أَلْقَى الشَّيْطَـانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ } [الحج : 52] تلاوته.
قالوا : إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ " والنجم " فلما بلغ قوله { وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاخْرَى } جرى على لسانه " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى " ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه.
وقيل : نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان.
وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلوا إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمداً وإنه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعناً للأصنام لا مادحاً لها ، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه السلام جبراً بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌ } [الحجر : 42].
ففي حقه أولى ، أو جرى ذلك على لسانه سهواً وغفلة وهو مردود أيضاً لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله ، ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه { لا يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ } [فصلت : 42] وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [الحجر : 9] فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحدٍ وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله " ومناة الثالثة الأخرى " فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلّم فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها ، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه ، فقد روي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل وقال يوم بدر : { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [الانفال : 48]
{ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ } [الحج : 52] أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان { ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَـاتِهِ } [الحج : 52] أي يثبتها ويحفظها من
161
لحوق الزيادة من الشيطان { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } [البقرة : 95] بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان { حَكِيمٌ } لا يدعه حتى يكشفه ويزيله.
ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوماً بقوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 160
(3/91)
{ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَـانُ فِتْنَةً } [الحج : 53] محنة وابتلاء { لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [الحج : 53] شك ونفاق { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [الحج : 53] هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكاً وظلمة { وَإِنَّ الظَّـالِمِينَ } [الجاثية : 19] أي المنافقين والمشركين وأصله و " إنهم " فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم { لَفِى شِقَاق } [البقرة : 176] خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق.
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } [الحج : 54] بالله وبدينه وبالآيات { أَنَّهُ } أي القرآن { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ } [الحج : 54] بالقرآن { فَتُخْبِتَ } فتطمئن { لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الحج : 54] فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى مِرْيَةٍ } [الحج : 55] شك { مِّنْهُ } من القرآن أو من الصراط المستقيم { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } [الحج : 55] فجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } [الحج : 55] يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير.
أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه.
وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته.
{ الْمُلْكُ يَوْمَـاـاِذٍ } [الفرقان : 26] أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم { لِلَّهِ } فلا منازع له فيه { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [الحج : 56] أي
162
يقضي.
ثم بين حكمه فيهم بقوله { مُّهِينٌ } ثم خص قوماً من الفريق الأول بفضيلة فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 162
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [الحج : 58] خرجوا من أوطانهم مجاهدين { ثُمَّ قُتِلُوا } [الحج : 58] شامي { أَوْ مَاتُوا } [الحج : 58] حتف أنفهم { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } [الحج : 58] قيل : الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبداً { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الحج : 58] لأنه المخترع للخلق بلا مثال ، المتكفل للرزق بلا ملال { لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا } [الحج : 59] بفتح الميم مدني والمراد الجنة { يَرْضَوْنَهُ } لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } [الحج : 59] بأحوال من قضى نحبه مجاهداً ، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً { حَلِيمٌ } بإمهال من قاتلهم معانداً.
روي أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا : يا نبي الله : هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين.
{ ذَالِكَ } أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } [الحج : 60] سمى الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه { ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ } [الحج : 60] أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله أن ينصره { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ } [الحج : 60] يمحو آثار الذنوب { غَفُورٌ } يستر أنواع العيوب.
وتقرير الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40] { وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [البقرة : 237].
فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي ، وعرف مع ذلك بما كان أولى به
163
من العفو بذكر هاتين الصفتين ، أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل " العفو عند القدرة " .
جزء : 3 رقم الصفحة : 163
(3/92)
{ ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعُ بَصِيرٌ } [الحج : 61] أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء ، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا ، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف ، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات ، بصير بما يفعلون ولا يستر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات.
{ ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } [الحج : 62] عراقي غير أبي بكر { مِن دُونِهِ هُوَ الْبَـاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ } [الحج : 62] أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلاهيته وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [الحج : 63] مطراً { فَتُصْبِحُ الارْضُ مُخْضَرَّةً } [الحج : 63] بالنبات بعدما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمان بعد زمان كما تقول " أنعم عليّ فلان فأروح وأغدوا شاكراً له " ولو قلت " فرحت وغدوت " لم يقع ذلك الموقع.
وإنما رفع فتصبح ولم ينصب جواباً للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض ، وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك " ألم تراني أنعمت عليك فتشكر " ، إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه ، وإن رفعته أثبت شكره
164
{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } [الحج : 63] واصل عمله أو فضله إلى كل شيء { خَبِيرٌ } بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير والخبير المحيط بكل قليل وكثير
جزء : 3 رقم الصفحة : 164
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] ملكاً وملكاً { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ } [الحج : 64] المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الارض { الْحَمِيدِ } المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ } من البهائم مذللة للركوب في البر { وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [الحج : 65] أي ومن المراكب جارية في البحر ، ونصب الفلك عطفاً على " ما " وتجري حال لها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها { وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الارْضِ } [الحج : 65] أي يحفظها من أن تقع { إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج : 65] بأمره أو بمشيئته { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ } بتسخير ما في الأرض { رَّحِيمٌ } بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض ، عدد آلائه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه.
وعن أبي حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرائها البتة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
{ وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ } [الحج : 66] في أرحام أمهاتكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [الجاثية : 26] عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الحج : 66] لإيصال جزائكم { إِنَّ الانسَـانَ لَكَفُورٌ } [الحج : 66] لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبديء للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود { لِّكُلِّ أُمَّةٍ } [يونس : 49] أهل دين { جَعَلْنَا مَنسَكًا } [الحج : 34] مر بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة { هُمْ نَاسِكُوهُ } [الحج : 67] عاملون به { فَلا يُنَـازِعُنَّكَ } [الحج : 67] فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك { فِى الامْرِ } [آل عمران : 159] أمر الذبائح أو الدين.
نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما
165
(3/93)
لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة { وَادْعُ } الناس { إِلَى رَبِّكَ } [الحج : 67] إلى عبادة ربك { إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } [الحج : 67] طريق قويم.
ولم يذكر الواو في { لِّكُلِّ أُمَّةٍ } [يونس : 49] بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا
جزء : 3 رقم الصفحة : 165
{ وَإِن جَـادَلُوكَ } [الحج : 68] مراء وتعنتاً كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال { فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [الحج : 68] أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول ، والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت { اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [الحج : 69] هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مما كان يلقى منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 166
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الحج : 70] أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض { إِنَّ ذَالِكَ } [الحج : 70] الموجود فيهما { فِي كِتَـابِ } [الانفال : 75] في اللوح المحفوظ { إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] أي علمه بجميع ذلك عليه يسير.
ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها قوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } [الحج : 71] ينزل مكي وبصري { سُلْطَـانًا } حجة وبرهاناً { وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ } [الحج : 71] أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي { وَمَا لِلظَّـالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [الحج : 71] وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَـاتُنَا بَيِّنَـاتٍ } [يونس : 15] يعني القرآن
166
{ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ } [الحج : 72] الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر { يَكَادُونَ يَسْطُونَ } [الحج : 72] يبطشون والسطو الوثب والبطش { بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِنَا } [الحج : 72] هم النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكُمُ } [الحج : 72] من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم { النَّارُ } خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً قال : ما هو؟ فقيل : النار أي هو النار { وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الحج : 72] استئناف كلام { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 126] النار.
ولما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكاً جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 166
(3/94)
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ } [الحج : 73] بين { مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُا } [الحج : 73] لضرب هذا المثل { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ } [الأعراف : 194] { يَدْعُونَ } سهل ويعقوب { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] آلهة باطلة { لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا } [الحج : 73] " لن " تأكيد نفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذاباب منهم مستحيل كأنه قال : محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته وضعفه واستقذاره ، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره { وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } [الحج : 73] لخلق الذباب ومحله النصب على الحال كأنه قيل : مستحيل منهم أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً لخلقه وتعاونهم عليه ، وهذا من أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش حيث وصفوا بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها والإحاطة بالمعلومات عن آخرها صوراً وتماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه الله تعالى وأذله لو اجتمعوا لذلك { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شيئا } [الحج : 73] { شيئا } ثاني مفعولي { يَسْلُبْهُمُ } { لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } [الحج : 73] أي هذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئاً فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لم يقدروا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل فإذا سلبه الذباب عجز الأصنام عن أخذه { ضَعُفَ الطَّالِبُ } [الحج : 73] أي الصنم بطلب ما سلب منه { وَالْمَطْلُوبُ } الذباب بما سلب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الحج : 74] ما عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذا
167
الصنم الضعيف شريكاً له { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } أي إن الله قادر وغالب فكيف يتخذ العاجز المغلوب شبيهاً به ، أو لقوي بنصر أوليائه عزيز ينتقم من أعدائه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 167
{ اللَّهُ يَصْطَفِى } [الحج : 75] يختار { مِنَ الْمَلَـائكَةِ رُسُلا } [الحج : 75] كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم { وَمِنَ النَّاسِ } [الحج : 75] رسلاً كإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم عليهم السلام.
وهذا رد لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أن رسل الله على ضربين ملك وبشر.
وقيل : نزلت حين قالوا { عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ } [ص : 8] (القمر : 52) { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعُ } [الحج : 75] لقولهم { بَصِيرٌ } بمن يختاره لرسالته ، أو سميع لأقوال الرسل فيما تقبله العقول بصير بأحوال الأمم في الرد والقبول { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [البقرة : 255] ما مضى { وَمَا خَلْفَهُمْ } [سبأ : 9] ما لم يأت أو ما عملوه وما سيعملوه أو أمر الدنيا وأمر الآخرة { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [البقرة : 210] أي إليه مرجع الأمور كلها ، والذي هو بهذه الصفات لا يسئل عما يفعل وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدابيره واختيار رسله ترجع شامي وحمزة وعلي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } [الحج : 77] في صلاتكم ، وكان أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة { وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [الحج : 77] واقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله لا الصنم { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } [الحج : 77] قيل : لما كان للذكر مزية على غيره من الطاعات دعا المؤمنين أولاً إلى الصلاة التي هي ذكر خالص لقوله تعالى { إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ } [طه : 14] ثم إلى العبادة بغير الصلاة كالصوم والحج وغيرهما ، ثم عم بالحث على سائر الخيرات.
وقيل : أريد به صلة الأرحام ومكارم الأخلاق { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] أي كي تفوزوا أو افعلوا هذا كله وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ولا تتكلوا على أعمالكم
168
جزء : 3 رقم الصفحة : 168
(3/95)
{ وَجَـاهِدُوا } أمر بالغزو أو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر أو هو كلمة حق عند أمير جائر { فِى اللَّهِ } [الحج : 8] أي في ذات الله ومن أجله { حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج : 78] وهو أن لا يخاف في الله لومة لائم.
يقال : هوحق عالم وجد عالم أن عالم حقاً وجداً ومنه حق جهاده وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه لكن الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص ، فلما كان الجهاد مختصاً بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت إضافته إليه.
ويجوز أن يتسع في الظرف كقوله
ويوم شهدناه سليماً وعامرا
{ هُوَ اجْتَبَـاكُمْ } [الحج : 78] اختاركم لدينه ونصرته { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج : 78] ضيق بل رخص لكم في جميع ما كلفكم من الطهارة والصلاة والصوم والحج بالتيمم وبالإيماء وبالقصر والإفطار لعذر السفر والمرض وعدم الزاد والراحلة.
{ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج : 78] أي اتبعوا ملة أبيكم ، أو نصب على الاختصاص أي أعني بالدين ملة أبيكم.
وسماه أباً وإن لم يكن أباً للأمة كلها ، لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكان أباً لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده قال عليه السلام " إنما أنا لكم مثل الوالد " { هُوَ سَمَّـاـاكُمُ الْمُسْلِمِينَ } [الحج : 78] أي الله بدليل قراءة أبيّ : الله سماكم المسلمين { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] في الكتب المتقدمة { وَفِى هَـاذَا } [الحج : 78] أي في القرآن أي فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ } [الحج : 78] أنه قد بلغكم رسالة ربكم { وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } [الحج : 78] بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم وإذ خصكم بهذه الكرامة والأثرة { فَإِذَا قَضَيْتُمُ } [النساء : 103] بواجباتها { وَإِذْ أَخَذْنَا } [البقرة : 83] بشرائطها { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } [الحج : 78] وثقوا بالله وتوكلوا علي لا بالصلاة والزكاة { هُوَ مَوْلَـاـاكُمْ } [الحج : 78] أي مالككم وناصركم ومتولي أموركم { فَنِعْمَ الْمَوْلَى } [الحج : 78] حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [الانفال : 40] أي الناصر هو حيث أعانكم على طاعتكم وقد أفلح من هو مولاه وناصره
169
سورة المؤمنون
مكية وهي مائة وثمان عشرة آية
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 1] " قد " نقيضة لما هي تثبت المتوقع ولما تنفيه ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه.
والفلاح الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب أي فازوا بما طلبوا ونجوا مما هربوا ، والإيمان في اللغة التصديق ، والمؤمن المصدق لغة.
وفي الشرع كل من نطق بالشهادتين مواطئاً قلبه لسانه فهو مؤمن.
قال عليه السلام " خلق الله الجنة فقال لها : تكلمي.
فقالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً أنا حرام على كل بخيل مراء " لأنه بالرياء أبطل العبادات البدنية وليس له عبادة مالية { الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَـاشِعُونَ } [المؤمنون : 2] خائفون بالقلب ساكنون بالجوارح.
وقيل : الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها الإعراض عما سواها وأن لا يجاوز بصره مصلاه وأن لا يلتفت ولا يعبث ولا يسدل ولا يفرقع أصابعه ولا يقلب الحصى ونحو ذلك.
وعن أبي الدرداء : هو إخلاص المقال وإعظام المقام واليقين التام
170
وجمع الاهتمام.
وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلى له لانتفاع المصلي بها وحده وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلى له فغني عنها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 170(3/96)
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون : 3] اللغو كل كلام ساقط حقه أن يلغى كالكذب والشتم والهزل يعني أن لهم من الجد ما شغلهم عن الهزل.
ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.
{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَـاعِلُونَ } [المؤمنون : 4] مؤدون ولفظ فاعلون يدل على المداومة بخلاف " مؤدون " .
وقيل : الزكاة اسم مشترك يطلق على العين وهو القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير ، وعلى المعنى وهو فعل المزكي الذي هو التزكية وهو المراد هنا ، فجعل المزكين فاعلين له لأن لفظ الفعل يعم جميع الأفعال كالضرب والقتل ونحوهما.
تقول للضارب والقاتل والمزكي فعل الضرب والقتل والتزكية ، ويجوز أن يراد بالزكاة العين ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء ، ودخل اللام لتقدم المفعول وضعف اسم الفاعل في العمل فإنك تقول " هذا ضارب لزيد " ولا تقول " ضرب لزيد " { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ } [المؤمنون : 5] الفرج يشمل سوءة الرجل والمرأة { إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ } [المؤمنون : 6] في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك " كان زياد على البصرة " أي والياً عليها.
والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في جميع الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم ، أو تعلق " على " بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه.
وقال الفراء : إلا من أزواجهم أي زوجاتهم { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ } [المؤمنون : 6] أي إمائهم ولم يقل " من " لأن المملوك جرى مجرى غير العقلاء ولهذا يباع كما تباع البهائم { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون : 6] أي لا لوم عليهم إن لم يحفظوا فروجهم عن نسائهم وإمائهم
171
جزء : 3 رقم الصفحة : 171
{ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ } [المؤمنون : 7] طلب قضاء شهوة من غير هذين { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْعَادُونَ } [المؤمنون : 7] الكاملون في العدوان وفيه دليل تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة { وَالَّذِينَ هُمْ لامَـانَـاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ } [المؤمنون : 8] لأمانتهم مكي وسهل.
سمي الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهداً ومنه قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء : 58] وإنما تؤدى العيون لا المعاني والمراد به العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله عز وجل ومن جهة الخلق { رَاعُونَ } حافظون والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم.
{ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ } [المؤمنون : 9] { صَلاتِهِمْ } كوفي غير أبي بكر { يُحَافِظُونَ } يداومون في أوقاتها.
وإعادة ذكر الصلاة لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها ، أو لأنها وحدت أولاً ليفاد الخشوع في جنس الصلاة أية صلاة كانت ، وجمعت آخراً ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل { أؤلئك } الجامعون لهذه الأوصاف { هُمُ الْوَارِثُونَ } [المؤمنون : 10] الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم.
ثم ترجم الوارثون بقوله { الَّذِينَ يَرِثُونَ } [المؤمنون : 11] من الكفار في الحديث " ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل الجنة ورث أهل النار منزله ، وإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " { الْفِرْدَوْسَ } هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر.
وقال قطرب : هو أعلى الجنان { هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39] أنث الفردوس بتأويل الجنة.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ } [المؤمنون : 12] أي آدم { مِن سُلَـالَةٍ } [المؤمنون : 12] " من " للابتداء والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر.
وقيل : إنما سمي التراب الذي خلق آدم منه سلالة
172
لأنه سل من كل تربة { مِّن طِينٍ } [الأعراف : 12] " من " للبيان كقوله { مِنَ الاوْثَـانِ } [الحج : 30].
جزء : 3 رقم الصفحة : 172
(3/97)
{ ثُمَّ جَعَلْنَـاهُ } [المؤمنون : 13] أي نسله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأن آدم عليه السلام لم يصر نطفة وهو كقوله { مُّهِينٌ } وقيل : الإنسان بنو آدم والسلالة النطفة والعرب تسمي النطف سلالة أي ولقد خلقنا الإنسان من سلالة يعني من نطفة مسلولة من طين أي من مخلوق من طين وهو آدم عليه السلام { نُطْفَةً } ماء قليلاً { فِى قَرَارٍ } [المؤمنون : 13] مستقر يعني الرحم { مَّكِينٍ } حصين { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ } [المؤمنون : 14] أي صيرناها بدلالة تعديه إلى مفعولين والخلق يتعدى إلى مفعول واحد { عَلَقَةً } قطعة دم والمعنى أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء { فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } [المؤمنون : 14] لحماً قدر ما يمضغ { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَـامًا } [المؤمنون : 14] فصيرناها عظاماً { فَكَسَوْنَا الْعِظَـامَ لَحْمًا } [المؤمنون : 14] فأنبتنا عليها اللحم فصار لها كاللباس عظماً العظم شامي وأبو بكر عظماً العظام زيد عن يعقوب عظاما العظم عن أبي زيد ، وضع الواحد موضع الجمع لعدم اللبس إذ الإنسان ذو عظام كثيرة { ثُمَّ أَنشَأْنَـاهُ } [المؤمنون : 14] الضمير يعود إلى الإنسان أو إلى المذكور { خَلْقًا ءَاخَرَ } [المؤمنون : 14] أي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً وناطقاً وسميعاً وبصيراً وكان بضد هذه الصفات ، ولهذا قلنا إذا غصب بيضة فأفرخت عنده يضمن البيضة ولا يرد الفرخ لأن خلق آخر سوى البيضة { فَتَبَارَكَ اللَّهُ } [المؤمنون : 14] فتعالى أمره في قدرته وعلمه { أَحْسَنُ } بدل أو خبر مبتدأ محذوف وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض من " من " { الْخَـالِقِينَ } المقدرين أي أحسن المقدرين تقديراً فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه.
وقيل : إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي عليه السلام فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم " اكتب هكذا نزلت " فقال عبد الله : إن كان محمد نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة ثم أسلم يوم الفتح.
وقيل : هذه الحكاية غير صحيحة لأن ارتداده كان بالمدينة وهذه السورة
173
مكية.
وقيل : القائل عمر أو معاذ رضي الله عنهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 173
{ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَالِكَ } [المؤمنون : 15] بعد ما ذكرنا من أمركم { لَمَيِّتُونَ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون : 16] تحيون للجزاء { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآ ـاِقَ } [المؤمنون : 17] جمع طريقة وهي السماوات لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَـافِلِينَ } [المؤمنون : 17] أراد بالخلق السماوات كأنه قال خلقناها فوقكم وما كنا غافلين عن حفظها ، أو أراد به الناس وأنه إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق والبركات منها وما كان غافلاً عنهم وعما يصلحهم { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءَ } [المؤمنون : 18] مطراً { بِقَدَرٍ } بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم { فَأَسْكَنَّـاهُ فِى الارْضِ } [المؤمنون : 18] كقوله { فَسَلَكَهُ يَنَـابِيعَ فِى الارْضِ } [الزمر : 21] وقيل : جعلناه ثابتاً في الأرض فماء الأرض كله من السماء.
ثم استأدى شكرهم بقوله { وَإِنَّا عَلَى ذَهَاب بِهِ لَقَـادِرُونَ } [المؤمنون : 18] أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه فقيدوا هذه النعمة بالشكر { فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ } [المؤمنون : 19] بالماء { جَنَّـاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَـابٍ لَّكُمْ فِيهَا } [المؤمنون : 19] في الجنات { فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } [المؤمنون : 19] سوى النخيل والأعناب { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل : 5] أي من الجنات أي من ثمارها ، ويجوز أن هذا من قولهم " فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يغتلها " أي أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه كأنه قال : وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها ترزقون وتتعيشون.
جزء : 3 رقم الصفحة : 174
{ وَشَجَرَةً } عطف على جنات وهي شجرة الزيتون
174
(3/98)
{ تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ } [المؤمنون : 20] { طُورِ سَيْنَآءَ } [المؤمنون : 20] و طور سينين لا يخلو إما أن يضاف الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون اسماً للجبل مركباً من مضاف ومضاف إليه كامريء القيس وهو جبل فلسطين.
وسيناء غير منصرف بكل حال مكسور السين كقراءة الحجازي وأبي عمرو للتعريف والعجمة ، أو مفتوحها كقراءة غيرهم لأن الألف للتأنيث كصحراء { تَنابُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون : 20] قال الزجاج : الباء للحال أي تنبت ومعها الدهن تنبت مكي وأبو عمرو.
إما لأن أنبت بمعنى نبت كقوله " حتى إذا أنبت البقل " ، أو لأن مفعوله محذوف أي تنبت زيتونها وفيه الدهن { وَصِبْغٍ لِّلاكِلِينَ } [المؤمنون : 20] أي إدام لهم.
قال مقاتل : جعل الله تعالى في هذه إداماً ودهناً ، فالإدام الزيتون والدهن الزيت.
وقيل : هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان.
وخص هذه الأنواع الثلاثة لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأجمعها للمنافع.
جزء : 3 رقم الصفحة : 174
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ } [النحل : 66] جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم { لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم } [النحل : 66] وبفتح النون : شامي ونافع وأبو بكر وسقى وأسقى لغتان { مِّمَّا فِى بُطُونِهَا } [المؤمنون : 21] أي نخرج لكم من بطونها لبناً سائغاً { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَـافِعُ كَثِيرَةٌ } [المؤمنون : 21] سوى الألبان وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل : 5] أي لحومها { وَعَلَيْهَا } وعلى الأنعام في البر { وَعَلَى الْفُلْكِ } [المؤمنون : 22] في البحر { تُحْمَلُونَ } في أسفاركم ، وهذا يشير إلى أن المراد بالأنعام الإبل لأنها هي المحمول عليها في العادة فلذا قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفائن البر قال ذوا الرمة.
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد ناقته.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا } وحِّدوه { مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ } [الأعراف : 59] معبود { غَيْرُهُا } بالرفع على المحل : وبالجر على اللفظ ، والجملة استئناف تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة { أَفَلا تَتَّقُونَ } [الأعراف : 65] أفلا تخافون عقوبة الله الذي
175
هو ربكم وخالقكم إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء
جزء : 3 رقم الصفحة : 175
{ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ } [هود : 27] أي أشرافهم لعوامهم { مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [المؤمنون : 24] يأكل ويشرب { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } [المؤمنون : 24] أي يطلب الفضل عليكم ويترأس { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } [البقرة : 220] إرسال رسول { لانزَلَ مَلَـائكَةً } [فصلت : 14] لأرسل ملائكة { مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا } [المؤمنون : 24] أي بإرسال بشر رسولاً أو بما يأمرنا به من التوحيد وسب الهتنا والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية للحجر ولم يرضوا بالنبوة للبشر { فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَـاذَآ إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لانزَلَ مَلَـائكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى ءَابَآ ـاِنَا الاوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلا رَجُلُ بِهِ جِنَّةٌ } جنون { فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } [المؤمنون : 25] فانتظروا واصبروا عليه إلى زمان حتى ينجلي أمره فإن أفاق من جنونه وإلا قتلتموه { قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون : 26] فلما أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، والمعنى أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي إذ في نصرته إهلاكهم ، أو انصرني بدل ما كذبون كقولك " هذا بذاك " أي بدل ذاك والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصرة عليهم { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } [المؤمنون : 27] أي أجبنا دعاءه فأوحينا إليه { أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا } [المؤمنون : 27] أي تصنعه وأنت واثق بحفظ الله لك ورؤيته إياك ، أو بحفظنا وكلاءتنا كأن معك من الله حفاظاً يكلئونك بعيونهم لئلا يتعرض لك ولا يفسد عليك مفسد عملك ومنه قولهم " عليه من الله عين كالئة " .
{ وَوَحْيِنَا } أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها.
روي أنه أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 176
(3/99)
{ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [المؤمنون : 27] أي عذابنا بأمرنا { وَفَارَ التَّنُّورُ } [المؤمنون : 27] أي فار الماء من تنور الخبز أي أخرج سبب الغرق من موضع الحرق ليكون أبلغ في الإنذار والاعتبار.
روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب وكان تنور آدم فصار إلى نوح وكان من حجارة.
واختلف في مكانه فقيل : في مسجد الكوفة.
وقيل : بالشام.
وقيل : بالهند.
{ فَاسْلُكْ فِيهَا } [المؤمنون : 27] فأدخل في السفينة
176
{ مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ } [هود : 40] من كلّ أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك { اثْنَيْنِ } واحدين مزدوجين كالجمل والناقة والحصان والرمكة.
روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض من كل حفص والمفضل أي من كل أمة زوجين اثنين و اثنين تأكيد وزيادة بيان { وَأَهْلَكَ } ونساءك وأولادك { إِلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [هود : 40] من الله بإهلاكه وهو ابنه وإحدى زوجتيه فجيء بـ " على " مع سبق الضار كما جيء باللام مع سبق النافع في قوله { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } [الصافات : 171] ونحوها { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة : 286] { مِنْهُمْ وَلا تُخَـاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ } [المؤمنون : 27] ولا تسألني نجاة الذين كفروا فإني أغرقهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 176
{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } [المؤمنون : 28] فإذا تمكنتم عليها راكبين { فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى نَجَّـاـانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [المؤمنون : 28] أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم.
ولم يقل فقولوا وإن كان فإذا استويت أنت ومن معك في معنى إذا استويتم لأنه نبيهم وإمامهم فكان قوله قولهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة { وَقُل } حين ركبت على السفينة أو حين خرجت منها { رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلا } [المؤمنون : 29] أي إنزالاً أو موضع إنزال منزلاً أبو بكر أي مكاناً { مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } [المؤمنون : 29] والبركة في السفينة النجاة فيها وبعد الخروج منها كثرة النسل وتتابع الخيرات { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] فيم فعل بنوح وقومه { لايَـاتٍ } لعبراً ومواعظ { وَإِنَّ } هي المخففة من المثقلة واللام هي الفارقة بين النافية وبينها والمعنى وإن الشأن والقصة { كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } [المؤمنون : 30] لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويذكر كقوله تعالى { وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ ءَايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر : 15].
177
جزء : 3 رقم الصفحة : 177
{ ثُمَّ أَنشَأْنَا } [المؤمنون : 31] خلقنا { مِن بَعْدِهِمْ } [الأعراف : 173] من بعد نوح { قَرْنًا ءَاخَرِينَ } [الأنعام : 6] هم عاد قوم هود ويشهد له قول هود { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [الأعراف : 69] ومجيء قصة هود على أثر قصة نوح في " الأعراف " و " هود " و " الشعراء " { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ } [المؤمنون : 32] الإرسال يعدى بـ " إلى " ولم يعد بـ " في " هنا وفي قوله { كَذَالِكَ أَرْسَلْنَـاكَ فِى أُمَّةٍ } [الرعد : 30] { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ } [الأعراف : 94] ولكن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال كقول رؤبة :
أرسلت فيها مصعباً ذا إقحام
(3/100)
{ رَسُولا } هو هود { مِّنْهُمْ } من قومهم { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا أَفَلا تَتَّقُونَ } [المؤمنون : 32] " أن " مفسرة لـ أرسلنا أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله.
{ وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِهِ } [المؤمنون : 33] ذكر مقالة قوم هود في جوابه في " الأعراف " وهود بغير واو لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال قومه؟ فقيل له : قالوا كيت وكيت ، وههنا مع الواو لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ، ومعناه أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل وليس بجواب للنبي صلى الله عليه وسلّم متصل بكلامه ولم يكن بالفاء ، وجيء بالفاء في قصة نوح لأنه جواب لقوله واقع عقيبه { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] صفة للملأ أو لقومه { وَكَذَّبُوا بِلِقَآءِ الاخِرَةِ } [المؤمنون : 33] أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك { وَأَتْرَفْنَـاهُمْ } ونعمناهم { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } [العنكبوت : 25] بكثرة الأموال والأولاد { مَا هَـاذَآ } [الأحقاف : 17] أي النبي { إِلا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون : 33] أي منه فحذف لدلالة ما قبله عليه أي من أين يدعي رسالة الله من بينكم وهو مثلكم { وَلَـاـاِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ } [المؤمنون : 34] فيما يأمركم به وينهاكم عنه { إِنَّكُمْ إِذًا } [الأعراف : 90] واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم { لَّخَـاسِرُونَ } بالانقياد لمثلكم ،
178
ومن حمقهم أنهم أبوا اتباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 178
{ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ } [المؤمنون : 35] بالكسر : نافع وحمزة وعلي وحفص ، وغيرهم بالضم { وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَـامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ } [المؤمنون : 35] مبعوثون للسؤال والحساب والثواب والعقاب وثني أنكم للتأكيد ، وحسن ذلك للفصل بين الأول والثاني بالظرف و مخرجون خبر عن الأول والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً.
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } [المؤمنون : 36] وبكسر التاء : يزيد ، وروي عنه بالكسر والتنويم فيهما ، والكسائي يقف بالهاء وغيره بالتاء وهو اسم للفعل واقع موقع بعد فاعلها مضمر أي بعد التصديق أو الوقوع { لِمَا تُوعَدُونَ } [المؤمنون : 36] من العذاب ، أو فاعلها ما توعدون واللام زائدة أي بعد ما توعدون من البعث { إِنْ هِىَ } [النجم : 23] هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله إن الحياة { إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } [المؤمنون : 37] ثم وضع هي موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ودنت منا ، وهذا لأن " إن " النافية دخلت على " هي " التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها فوازنت " لا " التي لنفي الجنس { نَمُوتُ وَنَحْيَا } [المؤمنون : 37] أي يموت بعض ويولد بعض ، ينقرض قرن فيأتي قرن آخر ، أو فيه تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وهو قراءة أبي وابن مسعود رضي الله عنهما { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام : 29] بعد الموت { إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [المؤمنون : 38] أي ما هو إلا مفتر على الله فيما يدعيه من استنبائه وفيما يعدنا من البعث { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } [المؤمنون : 38] بمصدقين.
{ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ } [المؤمنون : 26] فأجاب الله دعاء الرسول بقوله { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ } [المؤمنون : 40] قليل صفة للزمان كقديم وحديث في قولك " ما رأيته قديماً ولا حديثاً " وفي معناه عن قريب و " ما " زائدة أو بمعنى شيء أو زمن وقليل بدل منها وجواب القسم المحذوف { لَّيُصْبِحُنَّ نَـادِمِينَ } [المؤمنون : 40] إذا عاينوا ما يحل بهم
179
جزء : 3 رقم الصفحة : 179
(3/101)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } [المؤمنون : 41] أي صيحة جبريل صاح عليهم فدمرهم { بِالْحَقِّ } بالعدل من الله يقال فلان يقضي بالحق أي بالعدل { فَجَعَلْنَـاهُمْ غُثَآءً } [المؤمنون : 41] شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما يلي واسودّ من الورق والعيدان { فَبُعْدًا } فهلاكاً يقال بعد بعداً أو بعداً أي هلك وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا يستعمل إظهارها { لِّلْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [يونس : 85] بيان لمن دعي عليه بالبعد نحو { هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23] { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا ءَاخَرِينَ } [المؤمنون : 42] قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } [الحجر : 5] " من " صلة أي ما تسبق أمة { أَجَلَهَا } المكتوب لها أو الوقت الذي حدد لهلاكها وكتب { وَمَا يَسْتَـاْخِرُونَ } لا يتأخرون عنه.
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } فعلى والألف للتأنيث كسكرى لأن الرسل جماعة ولذا لا ينون لأنه غير منصرف تترى بالتنوين : مكي وأبو عمرو ويزيد على أن الألف للإلحاق كأرطى ، وهو نصب على الحال في القراءتين أي متتابعين واحداً بعد واحد ، وتاؤها فيهما بدل من الواو والأصل و " ترى " من الوتر وهو الفرد فقلبت الواوتاء كتراث { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه والإضافة تكون بالملابسة فتصح إضافته إليهما { فَأَتْبَعْنَا } الأمم والقرون { بَعْضَهُم بَعْضًا } [فاطر : 40] في الهلاك { وَجَعَلْنَـاهُمْ أَحَادِيثَ } [المؤمنون : 44] أخباراً يسمع بها ويتعجب منها ، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، وتكون جمعاً للأحدوثة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا { فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 44] به { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَـارُونَ } [المؤمنون : 45] بدل من أخاه بأياتنا التسع { وَسُلْطَـانٍ مُّبِينٍ } [هود : 96] وحجة ظاهرة.
180
جزء : 3 رقم الصفحة : 180
{ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ فَاسْتَكْبَرُوا } امتنعوا عن قبول الإيمان ترفعاً وتكبراً { وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } [المؤمنون : 46] متكبرين مترفعين { فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [المؤمنون : 47] البشر يكون واحداً وجمعاً ومثل وغير يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث { وَقَوْمُهُمَا } أي بنو إسرائيل { لَنَا عَـابِدُونَ } [المؤمنون : 47] خاضعون مطيعون وكل من دان لملك فهو عابد له عند العرب { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ } [المؤمنون : 48] بالغرق.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى } [الإسراء : 101] أي قوم موسى { الْكِتَـابَ } التوراة { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء : 31] يعملون بشرائعها ومواعظها { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُا ءَايَةً } [المؤمنون : 50] تدل على قدرتنا على ما نشاء لأنه خلق من غير نطفة وحد ، لأن الأعجوبة فيهما واحدة ، أو المراد وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها { وَءَاوَيْنَـاهُمَآ } جعلنا مأواهما أي منزلهما { إِلَى رَبْوَةٍ } [المؤمنون : 50] شامي وعاصم.
ربوة غيرهما أي أرض مرتفعة وهي بيت المقدس أو دمشق أو الرملة أو مصر { ذَاتِ قَرَارٍ } [المؤمنون : 50] مستقر من أرض مستوية منبسطة أو ذات ثمار وماء يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها { وَمَعِينٍ } وماء ظاهر جارٍ على وجه الأرض وهو مفعول أي مدرك بالعين بظهوره من عانه إذا أدركه بعينه ، لأنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهي المنفعة { يَـا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَـاتِ } [المؤمنون : 51] هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه ، أو هو خطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام لفضله وقيامه مقام الكل في زمانه وكان يأكل من الغنائم ، أو لعيسى عليه السلام لاتصال الآية بذكره وكان يأكل من غزل أمه وهو أطيب الطيبات ، والمراد بالطيبات ما حل والأمر للتكليف أو ما يستطاب ويستلذ والأمر للترفيه والإباحة { وَاعْمَلُوا صَـالِحًا } [المؤمنون : 51] موافقاً للشريعة
181
(3/102)
{ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } فأجازيكم على أعمالكم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 181
{ وَإِنَّ هَـاذِهِ } [المؤمنون : 52] كوفي على الاستئناف.
وأن حجازي وبصري بمعنى ولأن أي فاتقون لأن هذه ، أو معطوف على ما قبله أي بما تعملون عليم وبأن هذه.
أو تقديره واعلموا أن هذه { أُمَّتُكُمْ } أي ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها.
{ أُمَّةً وَاحِدَةً } [يونس : 19] صلة واحدة وهي شريعة الاسلام.
وانتصاب أمة على الحال والمعنى وإن الدين دين واحد وهو الاسلام ومثله { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } [آل عمران : 19] { وَأَنَا رَبُّكُمْ } [المؤمنون : 52] وحدي { فَاتَّقُونِ } فخافوا عقابي في مخالفتكم أمري { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ } [المؤمنون : 53] تقطع بمعنى قطع أي قطعوا أمر دينهم { زُبُرًا } جمع زبور أي كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً.
وقيل : تفرقوا في دينهم فرقاً كلٍ فرقة تنتحل كتاباً.
وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعاً وحرفوه.
وقرىء زبرا جمع زبرة أي قطعاً { كُلُّ حِزْب } [المؤمنون : 53] كل فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم { بِمَا لَدَيْهِمْ } [المؤمنون : 53] من الكتاب والدين أو من الهوى والرأي { فَرِحُونَ } مسرورون معتقدون أنهم على الحق { فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ } [المؤمنون : 54] جهالتهم وغفلتهم { حَتَّى حِينٍ } [يوسف : 35] أي إلى أن يقتلون أو يموتوا.
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [المؤمنون : 55] " ما " بمعنى الذي وخبر " أن " .
{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ } [المؤمنون : 56] والعائد من خبر " أن " إلى اسمها محذوف أي نسارع لهم به ، والمعنى أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ومعالجة بالثواب جزاء على حسن صنيعهم.
وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح لأنهم يقولون إن الله لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ، وقد أخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح { بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 56] بل استدراك لقوله أيحسبون أي أنهم أشباه البهائم لا شعور لهم حتى
182
يتأملوا في ذلك أنه استدراج أو مسارعة في الخير.
ثم بين ذكر أوليائه فقال
جزء : 3 رقم الصفحة : 182
{ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } [المؤمنون : 57] أي خائفون { وَالَّذِينَ هُم بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 58] أي بكتب الله كلها لا يفرقون بين كتبه كالذين تقطعوا أمرهم بينهم وهم أهل الكتاب { وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 59] كمشركي العرب { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءَاتَوا } [المؤمنون : 60] أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات.
وقريء يأتون ما أتوا بالقصر أي يفعلون ما فعلوا { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } [المؤمنون : 60] خائفة أي لا تقبل منهم لتقصيرهم { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون : 60] الجمهور على أن التقدير لأنهم وخبر إن الذين { أؤلئك يُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ } [المؤمنون : 61] يرغبون في الطاعات فيبادرونها { وَهُمْ لَهَا سَـابِقُونَ } [المؤمنون : 61] أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات أو لأجلها سبقوا الناس.
(3/103)
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [المؤمنون : 62] أي طاقتها يعني أن الذي وصف به الصالحون غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، وكذلك كل ما كلفه عباده وهو رد على من جوز تكليف ما لا يطاق { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } [المؤمنون : 62] أي اللوح أو صحيفة الأعمال { يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [المؤمنون : 62] لا يقرؤون منه يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل لا زيادة فيه ولا نقصان ، ولا يظلم منهم أحد بزيادة عقاب أو نقصان ثواب أو بتكليف ما لا وسع له به { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَـاذَا } [المؤمنون : 63] بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها مما عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين { وَلَهُمْ أَعْمَـالٌ مِّن دُونِ ذَالِكَ } [المؤمنون : 63] أي ولهم أعمال خبيثة متجاوزة متخطية لذلك أي لما وصف به المؤمنون { هُمْ لَهَا عَـامِلُونَ } [المؤمنون : 63] وعليها مقيمون لا يفطمون عنها حتى يأخذهم الله بالعذاب { حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم } [المؤمنون : 64] متنعميهم { بِالْعَذَابِ } عذاب الدنيا وهو القحط
183
سبع سنين حين دعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام ، أو قتلهم يوم بدر.
و " حتى " هي التي يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية { حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا } [المؤمنون : 64] يصرخون استغاثة والجؤار الصراخ باستغاثة فيقال لهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 183
{ لا تَجْـاَرُوا الْيَوْمَ } [المؤمنون : 65] فإن الجؤار غير نافع لكم { إِنَّكُم مِّنَّا لا تُنصَرُونَ } [المؤمنون : 65] أي من جهتنا لا يلحقكم نصر أو معونة.
{ قَدْ كَانَتْ ءَايَـاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ } [المؤمنون : 66] أي القرآن { فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ تَنكِصُونَ } [المؤمنون : 66] ترجعون القهقرى والنكوص أن يرجع القهقرى وهو أقبح مشية لأنه لا يرى ما وراءه.
{ مُسْتَكْبِرِينَ } متكبرين على المسلمين حال من تنكصون { بِهِ } بالبيت أو بالحرم لأنهم يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم ، والذي سوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت أو بـ آياتي لأنها في معنى كتابي ، ومعنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكباراً.
ضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي تعديته أو يتعلق الباء بقوله { سَـامِرًا } تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته شعراً وسحراً.
والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرىء سمّارا.
أو بقوله { تَهْجُرُونَ } وهو من الهجر الهذيان تهجرون : نافع من أهجر في منطقه إذا أفحش { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } [المؤمنون : 68] أفلم يتدبروا القرآن ليعلموا أنه الحق المبين فيصدقوا به وبمن جاء به { أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاوَّلِينَ } [المؤمنون : 68] بل أجاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين فلذلك أنكروه واستبدعوه { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ } [المؤمنون : 69] محمداً بالصدق والأمانة ووفور العقل وصحة النسب وحسن الأخلاق أي عرفوه بهذه الصفات { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } [المؤمنون : 69] بغياً وحسداً { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةُ } [المؤمنون : 70] جنون وليس كذلك لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً { بَلْ جَآءَهُم بِالْحَقِّ } [المؤمنون : 70] الأبلج والصراط المستقيم وبما خالف
184
شهواتهم وأهواءهم وهو التوحيد والإسلام ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً فلذلك نسبوه إلى الجنون { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَـارِهُونَ } [المؤمنون : 70] وفيه دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه كأبي طالب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 184
(3/104)
{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ } [المؤمنون : 71] أي الله { أَهْوَآءَهُمْ } فيما يعتقدون من الآلهة { لَفَسَدَتِ السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ } [المؤمنون : 71] كما قال { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء : 22] { وَمَن فِيهِنَّ } [المؤمنون : 71] خص العقلاء بالذكر لأن غيرهم تبع { بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِذِكْرِهِمْ } [المؤمنون : 71] بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أو شرفهم لأن الرسول منهم والقرآن بلغتهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه { وَإِن كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مِّنَ الاوَّلِينَ } الآية.
{ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون : 71] بسوء اختيارهم { أَمْ تَسْـاَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } [المؤمنون : 72] حجازي وبصري وعاصم ، خرجا فخرج شامي ، خراجا فخراج علي وحمزة ، وهو ما تخرجه إلى الإمام من زكاة أرضك وإلى كل عامل من أجرته وجعله ، والخرج أخص من الخراج تقول " خراج القرية وخرج الكوفة " فزيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذا حسنت لقراءة الأولى يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من الخالق خير { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [المؤمنون : 72] أفضل المعطين { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [المؤمنون : 73] وهو الإسلام فحقيق أن يستجيبوا لك.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَـاكِبُونَ } [المؤمنون : 74] لعادلون عن هذا الصراط المذكور وهو الصراط المستقيم { وَلَوْ رَحِمْنَـاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ } [المؤمنون : 75] لما أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا
185
العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : " بلى " فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية.
والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو القحط الذي أصابهم برحمته لهم ووجدوا الخصب { لَّلَجُّوا } أي لتمادوا { فِي طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [البقرة : 15] يترددون يعني لعادوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين ، ولذهب عنهم هذا التملق بين يديه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 185
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَـاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [المؤمنون : 76] استشهد على ذلك بأنا أخذناهم أولاً بالسيوف وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت بعد ذلك منهم استكانة أي خضوع ولا تضرع.
وقوله وما يتضرعون عبارة عن دوام حالهم أي وهم على ذلك بعد ولذا لم يقل وما تضرعوا.
ووزن استكان استفعل من الكون أي انتقل من كون إلى كون كما قيل " استحال " إذا انتقل من حال إلى حال.
{ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا } [المؤمنون : 77] فتّحنا يزيد { عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } [المؤمنون : 77] أي باب الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [المؤمنون : 77] متحيرون آيسون من كل خير.
وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد ليستعطفك أو محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما رؤي فيهم لين مقادة وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } [الروم : 12] { وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَالافْـاِدَةَ } [المؤمنون : 78] خصها بالذكر لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها { قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف : 10] أي تشكرون شكراً قليلاً.
و " ما " مزيدة للتأكيد بمعنى حقاً ، والمعنى إنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم
186
ووضعتموها غير مواضعها فلم تعملوا أبصاركم وأسماعكم في آيات الله وأفعاله ، ولم تستدلوا بقلوبكم فتعرفوا المنعم ولم تشركوا به شيئا
جزء : 3 رقم الصفحة : 186
(3/105)
{ وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ } [المؤمنون : 79] خلقكم وبثكم بالتناسل { فِى الارْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المؤمنون : 79] تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم { وَهُوَ الَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ } [المؤمنون : 80] أي يحيى النسم بالإنشاء ويميتها بالإفناء { وَلَهُ اخْتِلَـافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [المؤمنون : 80] أي مجيء أحدهما عقيب الآخر واختلافهما في الظلمة والنور أو في الزيادة والنقصان وهو مختص به ولا يقدر على تصريفهما غيره { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] فتعرفوا قدرتنا على البعث أو فتستدلوا بالصنع على الصانع فتؤمنوا { بَلْ قَالُوا } [الأنبياء : 5] أي أهل مكة { مِثْلَ مَا قَالَ الاوَّلُونَ } [المؤمنون : 81] أي الكفار قبلهم.
ثم بين ما قالوا بقوله { قَالُوا أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَـامًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } متنا نافع وحمزة وعلي وحفص.
{ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَـاذَا } [المؤمنون : 83] أي البعث { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] مجيء محمد { إِنْ هَـاذَآ إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الأنعام : 25] جمع أسطار جمع سطر وهي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له وجمع أسطورة أوفق.
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بإقامة الحجة على المشركين بقوله { قُل لِّمَنِ الارْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون : 84] فإنهم { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [المؤمنون : 87] لأنهم مقرون بأنه الخالق فإذا قالوا
جزء : 3 رقم الصفحة : 187
{ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [المؤمنون : 85]
187
فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها كان قادراً على إعادة الخلق ، وكان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية.
أفلا تذكرون بالتخفيف : حمزة وعلي وحفص ، وبالتشديد : غيرهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 187
{ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أفلا تخافونه فلا تشركوا به ، أو أفلا تتقون في جحودكم قدرته على البعث مع اعترافكم بقدرته على خلق هذه الأشياء؟ { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ } [المؤمنون : 88] الملكوت الملك والواو والتاء للمبالغة فتنبيء عن عظم الملك { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون : 88] أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحداً { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } [المؤمنون : 89] تخدعون عن الحق أو عن توحيده وطاعته ، والخادع هو الشيطان والهوى الأول لله بالإجماع إذ السؤال لمن ، وكذا الثاني والثالث عند غير أهل البصرة على المعنى لأنك إذا قلت : من رب هذا؟ فمعناه لمن هذا فيجاب لفلان كقول الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى
ورب الجياد الجرد قيل لخالد
أي لمن المزالف.
ومن قرأ بحذفه فعلى الظاهر لأنك إذا قلت : من رب هذا؟ فجوابه فلان { بَلْ أَتَيْنَـاهُم بِالْحَقِّ } [المؤمنون : 90] بأن نسبة الولد إليه محال والشرك باطل { وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [الأنعام : 28] في قولهم اتخذ الله ولداً ودعائهم الشريك.
ثم أكد كذبهم بقوله { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ } [المؤمنون : 91] لأنه منزه عن النوع والجنس وولد الرجل
188
من جنسه { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـاهٍ } [المؤمنون : 91] وليس معه شريك في الألوهية { إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاه بِمَا خَلَقَ } [المؤمنون : 91] لانفرد كل واحد من الآلهة بالذي خلقه فاستبدبه ولتمييز ملك كل واحد منهم عن الآخر { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [المؤمنون : 91] ولغلب بعضهم بعضاً كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لم تروا أثراً لتمايز المماليك وللتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء ، ولا يقال إذاً لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب وههنا وقع لذهب جزاء وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل لأن الشرط محذوف وتقديره : ولو كان معه آلهة لدلالة وما كان معه من إله عليه وهو جواب لمن حآجه من المشركين { سُبْحَـانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون : 91] من الأنداد والأولاد
جزء : 3 رقم الصفحة : 188
(3/106)
{ عَـالِمِ } بالجر صفة لله ، وبالرفع مدني وكوفي غير حفص خبر مبتدأ محذوف { الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ } [الزمر : 46] السر والعلانية { فَتَعَـالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون : 92] من الأصنام وغيرها.
{ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ } [المؤمنون : 93] " ما " والنون مؤكدتان أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة { رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [المؤمنون : 94] أي فلا تجعلني قريناً لهم ولا تعذبني بعذابهم ، عن الحسن رضي الله عنه : أخبره الله أن له في أمته نقمة ولم يخبره متى وقتها ، فأمر أن يدعو هذا الدعاء.
ويجوز أن يسأل النبي المعصوم صلى الله عليه وسلّم ربه ما علم أنه يفعله وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه ، واستغفاره عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلسه سبعين مرة لذلك ، والفاء في فلا لجواب الشرط و رب اعتراض بينهما للتأكيد { وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَـادِرُونَ } [المؤمنون : 95] كانوا ينكرون الموعد بالعذاب ويضحكون منه فقيل لهم : إن الله قادر على إنجاز ما وعد إن تأملتم فما وجه هذا الإنكار؟.
189
جزء : 3 رقم الصفحة : 189
{ ادْفَعْ بِالَّتِى } [المؤمنون : 96] بالخصلة التي { هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } [المؤمنون : 96] هو أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل كأنه قال : ادفع بالحسنى السيئة والمعنى أصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الاحسان ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي شهادة أن لا إله إلا الله.
والسيئة : الشرك أو الفحش بالسلام أو المنكر بالموعظة.
وقيل : هي منسوخة بآية السيف.
وقيل : محكمة إذ المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى ثلم دين { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [المؤمنون : 96] من الشرك أو بوصفهم لك وسوء ذكرهم فنجازيهم عليه { وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَـاطِينِ } [المؤمنون : 97] من وساوسهم ونخساتهم ، والهمز : النخس ، والهمزات جمع الهمزة ومنه مهماز الرائض ، والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الرآضة الدواب حثاً لها على المشي { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } [المؤمنون : 98] أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه المكرر لندائه وبالتعوذ من أن يحضروه أصلاً أو عند تلاوة القرآن أو عند النزع { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [المؤمنون : 99] " حتى " تتعلق بـ يصفون أي لا يزالون يشركون إلى وقت مجيء الموت ، أو لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما مذكور على وجه الاعتراض ، والتأكيد للإغضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم { قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } [المؤمنون : 99] أي ردوني إلى الدنيا خاطب الله بلفظ الجمع للتعظيم كخطاب الملوك { لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } [المؤمنون : 100] في الموضع الذي تركت وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى ، قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولكن ليتدارك ما فرط.
لعلي ساكنة الياء كوفي وسهل ويعقوب { كَلا } ردع
190
عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد { إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [المؤمنون : 100] المراد بالكلمة الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض وهو قوله : رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت { هُوَ قَآ ـاِلُهَا } [المؤمنون : 100] لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه { وَمِن وَرَآ ـاِهِم } [المؤمنون : 100] أي أمامهم والضمير للجماعة { بَرْزَخٌ } حائل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأعراف : 14] لم يرد أنهم يرجعون يوم البعث وإنما هو إقناط كلي لما علم أن لا رجوع بعد البعث إلا إلى الآخرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 190
(3/107)
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ } [المؤمنون : 101] قيل : إنها النفخة الثانية { فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَـاـاِذٍ } [المؤمنون : 101] وبالإدغام : أبو عمرو لاجتماع المثلين وإن كانا من كلمتين يعني يقع التقاطع بينهم حيث يتفرقون مثابين ومعاقبين ولا يكون التواصل بينهم بالأنساب إذ يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، وإنما يكون بالأعمال.
{ وَلا يَتَسَآءَلُونَ } [المؤمنون : 101] سؤال تواصل كما كانوا يتساءلون في الدنيا لأن كلاً مشغول عن سؤال صاحبه بحاله.
ولا تناقض بين هذا وبين قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [الصافات : 27] فللقيامة مواطن.
ففي موطن يشتد عليهم الخوف فلا يتساءلون ، وفي موطن يفيقون فيتساءلون.
{ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف : 8] جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال الصالحة التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَزْنًا } [الكهف : 105] { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوالَـائكَ } بالسيئات والمراد الكفار { فَأُوالَـائكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ } [الأعراف : 9] غبنوها { فِى جَهَنَّمَ خَـالِدُونَ } [المؤمنون : 103] بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لـ أولئك أو خبر مبتدأ محذوف { تَلْفَحُ } أي تحرق { وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَـالِحُونَ } [المؤمنون : 104] عابسون فيقال لهم
191
جزء : 3 رقم الصفحة : 191
{ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَـاتِى } [المؤمنون : 105] أي القرآن { تُتْلَى عَلَيْكُمْ } [آل عمران : 101] في الدنيا { فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [المؤمنون : 105] وتزعمون أنها ليست من الله تعالى.
{ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا } [المؤمنون : 106] ملكتنا { شِقْوَتُنَا } شقاوتنا حمزة وعلي وكلاهما مصدر أي شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها.
وقول أهل التأويل غلب علينا ما كتب علينا من الشقاوة لا يصح ، لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره ولا يكتب غير الذي علم أنه يختاره فلا يكون مغلوباً ومضطراً في الفعل ، وهذا لأنهم إنما يقولون ذلك القول اعتذاراً لما كان منهم من التفريط في أمره فلا يجمل أن يطلبوا لأنفسهم عذراً فيما كان منهم { وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ } [المؤمنون : 106] عن الحق والصواب { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } [المؤمنون : 107] أي من النار { فَإِنْ عُدْنَا } [المؤمنون : 107] إلى الكفر والتكذيب { فَإِنَّا ظَـالِمُونَ } [المؤمنون : 107] لأنفسنا.
{ وَأَنزَلْنَا فِيهَآ } اسكتوا سكوت ذلة وهوان { وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 108] في رفع العذاب عنكم فإنه لا يرفع ولا يخفف.
قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير أن يحضروني.
ارجعوني ولا تكلموني بالياء في الوصل والوقف : يعقوب وغيره بلا ياء { إِنَّهُ } إن الأمر والشأن { كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } مفعول ثان وبالضم : مدني وحمزة وعلي ، وكلاهما مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسبة مبالغة.
قيل : هم الصحابة رضي الله عنهم.
وقيل : أهل الصفة خاصة ومعناه اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين { حَتَّى أَنسَوْكُمْ } [المؤمنون : 110] بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذِكْرِى } فتركتموه أي كان التشاغل بهم سبباً لنسيانكم ذكري { وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [المؤمنون : 110] استهزاء بهم.
192
جزء : 3 رقم الصفحة : 192
(3/108)
{ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } [المؤمنون : 111] بصبرهم { أَنَّهُمْ } أي لأنهم { هُمُ الْفَآ ـاِزُونَ } [التوبة : 20] ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً أن جزيتهم اليوم فوزهم لأن جزى يتعدى إلى اثنين { وَجَزَاـاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً } [الإنسان : 12] إنهم حمزة وعلي على الاستئناف أي إنهم هم الفائزون لا أنتم.
{ قَالَ } أي الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة.
قل مكي وحمزة وعلي أمر لمالك أن يسألهم { كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الارْضِ } [المؤمنون : 112] في الدنيا { عَدَدَ سِنِينَ } [المؤمنون : 112] أي كم عدد سنين لبثتم فكم نصب بـ لبثتم وعدد تمييز { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [الكهف : 19] استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها ، لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة { قَالُوا لَبِثْنَا } [المؤمنون : 113] أي الحساب أو الملائكة الذين يعدون أعمار العباد وأعمالهم فسل بلا همز : مكي وعلي { قَـالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [المؤمنون : 114] أي ما لبثتم إلا زمناً قليلاً أو لبثاً قليلاً { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون : 114] صدقهم الله تعالى في تقالهم لسني لبثهم في الدنيا ووبخههم على غفلتهم التي كانوا عليها قل إن حمزة وعلي { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثًا } [المؤمنون : 115] حال أي عابثين أو مفعول له أي للعبث { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون : 115] وبفتح التاء وكسر الجيم : حمزة وعلي ويعقوب وهو معطوف على { أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ } [المؤمنون : 115] أو على عبثاً أي للعبث ولنترككم غير مرجوعين بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع من دار التكليف إلى دار الجزاء فنثيب المحسن ونعاقب المسيء { فَتَعَـالَى اللَّهُ } [الأعراف : 190] عن أن يخلق عبثاً { الْمَلِكُ الْحَقُّ } [المؤمنون : 116] الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه ، أو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه
193
{ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون : 116] وصف العرش بالكرم لأن الرحمة تنزل منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
وقرىء شاذا برفع الكريم صفة للرب تعالى.
جزء : 3 رقم الصفحة : 193
{ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ لا بُرْهَـانَ } [المؤمنون : 117] أي لا حجة { لَهُ بِهِ } [المؤمنون : 117] اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك " من أحسن إلى زيد أحق بالإحسان منه فإن الله مثيبه " أو صفة لازمة جيء بها للتوكيد كقولك " يطير بجناحيه لا أن يكون في الالهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان " { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } [المؤمنون : 117] أي جزاؤه وهذا جزاء الشرط { عِندَ رَبِّهِ } [المؤمنون : 117] أي فهو يجازيه لا محالة { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَـافِرُونَ } [المؤمنون : 117] جعل فاتحة السورة قد أفلح المؤمنون وخاتمتها إنه لا يفلح الكافرون فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.
ثم علمنا سؤال المغفرة والرحمة بقوله { وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ } [المؤمنون : 118] ثم قال { وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون : 109] لأن رحمته إذا أدركت أحداً أغنته عن رحمة غيره ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته.
194(3/109)
سورة النور
مدنية وهي ستون وأربع آيات
{ سُورَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة { أَنزَلْنَـاهَا } صفة لها.
وقرأ طلحة سورةً على " زيدا ضربته " أو على " اتل سورة " .
والسورة الجامعة لجمل آيات بفاتحة لها وخاتمة واشتقاقها من سور المدينة { وَفَرَضْنَـاهَا } أي فرضنا أحكامها التي فيها.
وأصل الفرض القطع أي جعلناها مقطوعاً بها.
وبالتشديد : مكي وأبو عمرو للمبالغة في الإيجاب وتوكيده ، أو لأن فيها فرائض شتى ، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم { سُورَةٌ أَنزَلْنَـاهَا وَفَرَضْنَـاهَا وَأَنزَلْنَا } [النور : 1] أي دلائل واضحات { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152] لكي تتعظوا.
وبتخفيف الذال : حمزة وعلي وخلف وحفص.
ثم فصل أحكامها فقال { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى } [النور : 2] رفعهما على الابتداء والخبر محذوف أي فيما فرض عليكم الزانية والزاني أي جلدهما ، أو الخبر فاجلدوا ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط وتقديره : التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه.
وكقوله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ } [النور : 4] .
وقرأ عيسى ابن عمر بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر
195
وهو أحسن من سورة أنزلناها لأجل الأمر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
{ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِا ئَةَ جَلْدَةٍ } [النور : 2] الجلد ضرب الجلد وفيه إشارة إلى أنه لا يبالغ ليصل الألم إلى اللحم.
والخطاب للأئمة لأن إقامة الحد من الدين وهي على الكل إلا أنهم لا يمكنهم الاجتماع فينوب الإمام منابهم ، وهذا حكم حر ليس بمحصن إذ حكم المحصن الرجم وشرائط إحصان الرجم : الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والتزوج بنكاح صحيح والدخول.
وهذا دليل على أن التغريب غير مشروع لأن الفاء إنما يدخل على الجزاء وهو اسم للكافي ، والتغريب المروي منسوخ بالآية كما نسخ الحبس والأذى في قوله { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ } [النساء : 15] وقوله { فَـاَاذُوهُمَا } بهذه الآية { وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ } [النور : 2] أي رحمة والفتح لغة وهي قراءة مكي.
وقيل : الرأفة في دفع المكروه والرحمة في إيصال المحبوب.
والمعنى أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ولا يأخذهم اللين في استيفاء حدوده فيعطلوا الحدود أو يخففوا الضرب { فِى دِينِ اللَّهِ } [النصر : 2] أي في طاعة الله أو حكمه { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [النساء : 59] من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه ، وجواب الشرط مضمر أي فاجلدوا ولا تعطلوا الحد { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا } [النور : 2] وليحضر موضع حدهما وتسميته عذاباً دليل على أنه عقوبة { طَآ ـاِفَةٌ } فرقة يمكن أن تكون حلقة ليعتبروا وانزجر هو وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول شيء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أربعة إلى أربعين رجلاً { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 27] من المصدقين بالله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 195
{ الزَّانِى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَآ إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [النور : 3] أي الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في خبيثة من شكله ، أو في مشركة والخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة ، أو المشركين فالآية تزهيد في نكاح البغايا إذ الزنا عديل الشرك في القبح ، والإيمان قرين العفاف والتحصن وهو نظير قوله الخبيثات للخبيثين وقيل : كان نكاح الزانية محرماً
196(3/110)
في أول الإسلام ثم نسخ بقوله : { وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ } [النور : 32] وقيل : المراد بالنكاح الوطء ، لأن غير الزاني يستقذر الزانية ولا يشتهيها وهو صحيح لكنه يؤدي إلى قولك " الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا يزنى بها إلا زان " .
وسئل صلى الله عليه وسلّم عمن زنى بامرأة ثم تزوجها فقال " أوله سفاح وآخره نكاح " ومعنى الجملة الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان.
وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن ، فلما كانت أصلاً في ذلك بديء بذكرها.
وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدء الطلب.
وقريء لا ينكح بالجزم على النهي ، وفي المرفوع أيضاً معنى النهي ولكن أبلغ واكد ، ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهما جارية على ذلك وعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة وينتصون عنها { وَحُرِّمَ ذَالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [النور : 3] أي الزنا أو نكاح البغايا لقصد التكسب بالزنا أو لما فيه من التشبيه بالفساق وحضور مواقع التهمة والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 196
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ } [النور : 4] وبكسر الصاد : علي أي يقذفون بالزنا الحرائر والعفائف المسلمات المكلفات.
والقذف يكون بالزنا وبغيره والمراد هنا قذفهن بالزنا بأن يقول يا زانية لذكر المحصنات عقيب الزواني ولاشتراط أربعة شهداء بقوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } [النور : 4] أي ثم لم يأتوا بأربعة شهود يشهدون على الزنا لأن القذف بغير الزنا بأن يقول يا فاسق يا اكل الربا يكفي فيه شاهدان وعليه التعزير.
وشروط إحصان القذف : الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والعفة عن الزنا.
والمحصن
197
كالمحصنة في وجوب حد القذف { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـانِينَ جَلْدَةً } [النور : 4] إن كان القاذف حراً ، ونصب ثمانين نصب المصادر كما نصب مائة جلدة و جلدة نصب على التمييز { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـادَةً أَبَدًا } [النور : 4] نكر شهادة في موضع النفي فتعم كل شهادة.
ورد الشهادة من الحد عندنا ويتعلق باستيفاء الحد أو بعضه على ما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يتعلق رد شهادته بنفس القذف.
فعندنا جزاء الشرط الذي هو الرمي الجلد ورد الشهادة على التأبيد وهو مدة حياتهم { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [النور : 4] كلام مستأنف غير داخل في حيز جزاء الشرط كأنه حكاية حال الرامين عند الله تعالى بعد انقضاء الجملة الشرطية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 197
(3/111)
وقوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَالِكَ } [آل عمران : 89] أي القذف { وَأَصْلَحُوا } أحوالهم استثناء من الفاسقون ويدل عليه { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 192] أي يغفر ذنوبهم ويرحمهم.
وحق الاستثناء أن يكون منصوباً عندنا لأنه عن موجب ، وعند من جعل الاستثناء متعلقاً بالجملة الثانية أن يكون مجروراً بدلاً من " هم " في " لهم " .
ولما ذكر حكم قذف الأجنبيات بين حكم قذف الزوجات فقال { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } [النور : 6] أي يقذفون زوجاتهم بالزنا { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ } [النور : 6] أي لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به { إِلا أَنفُسُهُمْ } [النور : 6] يرتفع على البدل من شهداء { فَشَهَـادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ } [النور : 6] بالرفع كوفي غير أبي بكر على أنه خبر والمبتدأ فشهادة أحدهم وغيرهم بالنصب لأنه في حكم المصدر بالإضافة إلى المصدر ، والعامل فيه المصدر الذي هو فشهادة أحدهم وعلى هذا خبره محذوف تقديره فواجب شهادة أحدهم أربع { شَهَـادَات بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّـادِقِينَ } فيما رماها به الزنا { وَالْخَـامِسَةَ } لا خلاف في رفع الخامسة هنا في المشهور والتقدير والشهادة الخامسة { وَالْخَـامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ } [النور : 7] فهي مبتدأ وخبر { إِن كَانَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ } [النور : 7] فيما رماها به من الزنا { وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذَابَ } ويدفع عنها الحبس وفاعل يدرأ
198
{ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـادَات بِاللَّهِ إِنَّهُ } [النور : 8] إن الزوج { لَمِنَ الْكَـاذِبِينَ } [النور : 8] فيما رماني به من الزنا
جزء : 3 رقم الصفحة : 198
{ وَالْخَـامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ } [النور : 9] أي الزوج { مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] فيما رماني به من الزنا.
ونصب حفص الخامسة عطفاً على أربع شهادات وغيره رفعها بالابتداء و أن غضب الله خبره.
وخفف نافع أن لعنة الله و أن غضب الله بكسر الضاد وهما في حكم المثقلة و أن غضب الله سهل ويعقوب وحفص وجعل في جانبها لأن النساء يستعملن اللعن كثيراً كما ورد به الحديث.
فربما يجترئن على الإقدام لكثرة جري اللعن على ألنستهن وسقوط وقوعه عن قلوبهن ، فذكر الغضب في جانبهن ليكون رادعاً لهن.
والأصل أن اللعان عندنا شهادات مؤكدات بالإيمان مقرونة باللعن قائمة مقام حد القذف في حقه ومقام حد الزنا في حقها ، لأن الله تعالى سماه شهادة.
فإذا قذف الزوج زوجته بالزنا وهما من أهل الشهادة صح اللعان بينهما ، وإذا التعنا كما بين في النهر لا تقع الفرقة حتى يفرق القاضي بينهما.
وعند زفر رحمه الله تعالى تقع بتلاعنهما والفرقة تطليقة بائنة ، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تحريم مؤبد.
ونزلت آية اللعان في هلال بن أمية أو عويمر حيث قال : وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء فكذبته فلاعن النبي صلى الله عليه وسلّم بينهما { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ } [النساء : 113] تفضله { عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [النور : 14] نعمته { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [النور : 10] جواب " لولا " محذوف أي لفضحكم أو لعاجلكم بالعقوبة.
199
جزء : 3 رقم الصفحة : 199
(3/112)
{ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالافْكِ } هو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وأصله الأفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله عنها ، قالت عائشة : فقدت عقداً في غزوة بني المصطلق فتخلفت ولم يعرف خلو الهودج لخفتي ، فلما ارتحلوا أناخ لي صفوان بن المعطل بعيره وساقه حتى أتاهم بعد ما نزلوا فهلك فيّ من هلك ، فاعتللت شهراً وكان عليه الصلاة والسلام يسأل " كيف أنت " ؟ ولا أرى منه لطفاً كنت أراه حتى عثرت خالة أبي أم مسطح فقالت : تعس مسطح فأنكرت عليها فأخبرتني بالإفك ، فلما سمعت ازددت مرضاً وبت عند أبوي لا يرقأ لي دمع وما أكتحل بنوم وهما يظنان أن الدمع فالق كبدي حتى قال عليه الصلاة والسلام " ابشري يا حميراء فقد أنزل الله براءتك " فقلت : بحمد الله لا بحمدك { عُصْبَةٌ } جماعة من العشرة إلى الأربعين واعصوصبوا اجتمعوا وهم : عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم { مِنكُمُ } من جماعة المسلمين وهم ظنوا أن الإفك وقع من الكفار دون من كان من المؤمنين
200
{ لا تَحْسَبُوهُ } [النور : 11] أي الإفك { شَرًّا لَّكُمْ } [النور : 11] عند الله { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [النور : 11] لأن الله أثابكم عليه وأنزل في البراءة منه ثماني عشرة آية ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن ساءه ذلك من المؤمنين { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاثْمِ } [النور : 11] أي على كل امريء من العصبة جزاء إثمه على مقدار خوضه فيه ، وكان بعضهم ضحك وبعضهم تكلم فيه وبعضهم سكت.
{ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ } [النور : 11] أي عظمه عبد الله بن أبيّ { مِّنْهُم } أي من العصبة { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور : 11] أي جهنم.
يحكى أن صفوان مر بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة.
فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها.
ثم وبخ الخائضين فقال :
ق>
جزء : 3 رقم الصفحة : 200
{ لَّوْلا } هلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } [النور : 12] أي الإفك { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـاتُ بِأَنفُسِهِمْ } [النور : 12] بالذين منهم فالمؤمنون كنفس واحدة وهو كقوله { وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } [الحجرات : 11] { خَيْرًا } عفافاً وصلاحاً وذلك نحو ما يروى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام : أنا قاطع بكذب المنافقين لأن الله عصمك من وقوع الذباب على جلدك لأنه يقع على النجاسات فيتلطخ بها ، فلما عصمك الله من ذلك القدر من القذر فكيف لا يعصمك عن صحبة من تكون متلطخة بمثل هذه الفاحشة؟ وقال عثمان : إن الله ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه على ذلك الظل ، فلما لم يمكن أحداً من وضع القدم على ظلك كيف يمكن أحداً من تلويث عرض زوجتك؟ وكذا قال علي رضي الله عنه : إن جبريل أخبرك أن على نعليك قذراً وأمرك بإخراج النعل عن رجلك بسبب ما التصق به من القذر فكيف لا يأمرك بإخراجها بتقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش.
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءً؟ فقال : لا.
قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل " ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم " ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن
201
الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن ، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوانه { وَقَالُوا هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [النور : 12] كذب ظاهر لا يليق بهما.
جزء : 3 رقم الصفحة : 201
(3/113)
{ لَّوْلا جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } هلا جاؤوا على القذف لو كانوا صادقين بأربعة شهداء { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ } [النور : 13] الأربعة { فَأُوالَـائكَ عِندَ اللَّهِ } [النور : 13] أي في حكمه وشريعته { هُمُ الْكَـاذِبُونَ } [النحل : 105] أي القاذفون لأن الله تعالى جعل التفصلة بين الرمي الصادق والكاذب ثبوت الشهادة الشهود الأربعة وانتفاؤها ، والذين رموا عائشة رضي الله عنها لم يكن لهم بينة على قولهم فكانوا كاذبين { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور : 14] " لولا " هذه لامتناع الشيء لوجود غيره بخلاف ما تقدم أي : ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحم عليكم في الآخرة في العفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك ، يقال أفاض في الحديث وخاض واندفع { إِذْ } ظرف لـ مسكم أو لـ أفضتم { تَلَقَّوْنَهُ } يأخذه بعضكم من بعض.
يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه { بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي أن بعضكم كان يقول لبعض : هل بلغك حديث عائشة؟ حتى شاع فيما بينهم وانتشر فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ } [النور : 15] إنما قيد بالأفواه مع أن القول لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } [آل عمران : 167] { وَتَحْسَبُونَهُ } أي خوضكم في عائشة رضي الله عنها { هَيِّنًا } صغيرة { وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور : 15] كبيرة.
وجزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.
202
جزء : 3 رقم الصفحة : 202
{ وَلَوْلا } وهلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا } [النور : 16] فصل بين لولا و { قُلْتُم } بالظرف لأن للظروف شأناً وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها فلذا يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
وفائدة تقديم الظرف أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به ، فلما كان ذكر الوقت أهم قدم ، والمعنى هلا قلتم إذ سمعتم الإفك ما يصح لنا أن نتكلم بهذا { سُبْحَـانَكَ } للتعجب من عظم الأمر ومعنى التعجب في كلمة التسبيح أن الأصل أن يسبح الله عن رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه ، أو لتنزيه الله من أن تكون حرمة نبيه فاجرة.
وإنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه ما ينفرهم عنه والكفر غير منفر عندهم ، وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات { هَـاذَا بُهْتَـانٌ } [النور : 16] زور تبهت من يسمع { عَظِيمٌ } وذكر فيما تقدم هذا إفك مبين ، ويجوز أن يكونوا أمروا بهما مبالغة في التبري { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا } [النور : 17] في أن تعودوا { لِمِثْلِهِ } لمثل هذا الحديث من القذف أو استماع حديثه { أَبَدًا } ما دمتم أحياء مكلفين { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] فيه تهييج لهم ليتعظوا وتذكير بما يوجب ترك العود وهو الإيمان الصادّ عن كل قبيح.
{ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ } [النور : 18] الدلالات الواضحات وأحكام الشرائع والاداب الجميلة { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بكم وبأعمالكم { حَكِيمٌ } يجزي على وفق أعمالكم أو علم صدق نزاهتها وحكم ببراءتها.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النور : 19] أي ما قبح جداً ، والمعنى يشيعون الفاحشة عن قصد الإشاعة ومحبة لها
203
(3/114)
{ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا } [النور : 19] بالحد.
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلّم ابن أبي وحساناً ومسطحاً الحد { وَالاخِرَةِ } بالنار وعدها إن لم يتوبوا { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] بواطن الأمور وسرائر الصدور { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] أي أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة وهو معاقبه عليها
جزء : 3 رقم الصفحة : 203
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [النساء : 83] لعجل لكم العذاب وكرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب مع حذف الجواب مبالغة في المنة عليهم والتوبيخ لهم { وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ } حيث أظهر براءة المقذوف وأثاب { رَّحِيمٌ } بغفرانه جناية القاذف إذا تاب.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } [النور : 21] أي آثاره ووساوسه بالإصغاء إلى الإفك والقول فيه { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ فَإِنَّهُ } [النور : 21] فإن الشيطان { يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } [الأعراف : 28] ما أفرط قبحه { وَالْمُنكَرِ } ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا } [النور : 21] ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ } [النور : 21] يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [البقرة : 224] لقولهم { عَلِيمٌ } بضمائرهم وإخلاصهم { وَلا يَأْتَلِ } [النور : 22] ولا يحلف من ائتلى إذا حلف افتعال من الألية أولا يقصر من الألو
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
{ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ } [النور : 22] في الدين { وَالسَّعَةِ } في الدنيا { أَن يُؤْتُوا } [النور : 22] أي لا يؤتوا إن كان من الألية { أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـاكِينَ وَالْمُهَـاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } أي لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان ، أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } [النور : 22] العفو الستر والصفح الإعراض أي ليتجاوزوا عن الجفاء وليعرضوا عن العقوبة
204
{ أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور : 22] فليفعلوا بهم ما يرجون أن يفعل بهم ربهم مع كثرة خطاياهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] فتأدبوا بأدب الله واغفروا وارحموا ، نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة رضي الله عنها وكان مسكيناً بدرياً مهاجراً ، ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلّم على أبي بكر قال : بلى أحب أن يغفر الله لي ورد إلى مسطح نفقته.
جزء : 3 رقم الصفحة : 204
(3/115)
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَـاتِ } [النور : 23] العفائف { الْغَـافِلَـاتِ } السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجر بن الأمور { الْمُؤْمِنَـاتِ } بما يجب الايمان به.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : هن أزواجه عليه الصلاة والسلام.
وقيل : هن جميع المؤمنات إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
وقيل : أريدت عائشة رضي الله عنها وحدها.
وإنما جمع لأن من قذف واحدة من نساء النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قذفهن { لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النور : 23] جعل القذفة ملعونين في الدارين وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة إن لم يتوبوا ، والعامل في { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ } [النور : 24] يعذبون وبالياء حمزة وعلي { أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النور : 24] أي بما أفكوا أو بهتوا والعامل في { يَوْمَـاـاِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } [النور : 25] بالنصب صفة للدين وهو الجزاء ، ومعنى الحق الثابت الذي هم أهله.
وقرأ مجاهد بالرفع صفة لله كقراءة أبيّ يوفيهم الله الحق دينهم وعلى قراءة النصب يجوز أن يكون الحق وصفاً لله بأن ينتصب على المدح { وَيَعْلَمُونَ } عند ذلك { أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } [النور : 25] لارتفاع الشكوك وحصول العلم الضروري.
ولم يغلظ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة رضي الله عنها ، فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وما ذاك إلا لأمر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة.
وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.
ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة : برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهلها ، وموسى عليه السلام
205
من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم رضي الله عنها بإنطاق ولدها ، وعائشة رضي الله عنها بهذه الآي العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك ، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسوله والتنبيه على إنافة محله صلى الله عليه وسلّم وعلى آله.
جزء : 3 رقم الصفحة : 205
{ الْخَبِيثَـاتُ } من القول تقال { لِلْخَبِيثِينَ } من الرجال والسناء { وَالْخَبِيثُونَ } منهم يتعرضون { لِلْخَبِيثَـاتِ } من القول وكذلك { يَقُولُونَ } أي فيهم و أولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم ، وهو كلام جارٍ مجرى المثل لعائشة رضي الله عنها وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، ويجوز أن يكون إشارة إلى أهل البيت وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك ، وأن يراد بالخبيثات والطيبات النساء الخبائث يتزوجن الخباث والخباث تتزوج الخبائث وكذا أهل الطيب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [المائدة : 9] مستأنف أو خبر بعد خبر { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الانفال : 4] في الجنة.
ودخل ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة رضي الله عنها في مرضها وهي خائفة من القدوم على الله تعالى فقال : لا تخافي لأنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم وتلا الآية فغشي عليها فرحاً بما تلا.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة ، نزل جبريل بصورتي في راحته حين أمر عليه الصلاة والسلام إن يتزوجني ، وتزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، وتوفي عليه الصلاة والسلام ورأسه في حجري ، وقبر في بيتي(1) ، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذري من السماء ، وخلقت طيبة عند طيب ، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وقال حسان معتذراً في حقها :
حصانٌ رزانٌ ما تزن بريبة وتسبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواضل عقيلة حيّ من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زائل
206
مهذبة قد طيب الله خيرها
وطهرها من كل شين وباطل
جزء : 3 رقم الصفحة : 206
(3/116)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } [النور : 27] أي بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } [النور : 27] أي تستأذنوا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد قرأ به ، والاستئناس في الأصل الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً أي حتى تستعلموا أيطلق لكم الدخول أم لا ، وذلك بتسبيحة أو بتكبيرة أو بتحميدة أو بتنحنح { وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } [النور : 27] والتسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات ، فإن أذن له وإلا رجع ، وقيل : إن تلاقيا يقدم التسليم وإلا فالاستئذان { ذَالِكُمْ } أي الاستئذان والتسليم { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من تحية الجاهلية والدمور وهو الدخول بغير إذن فكأن الرجل من أهل الجاهلية إذا دخل بيت غيره يقول حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152] أي قيل لكم هذا لكي تذكروا وتتعظوا وتعملوا ما أمرتم به في باب الاستئذان { فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَآ } [النور : 28] في البيوت { أَحَدًا } من الاذنين { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } [النور : 28] حتى تجدوا من يأذن لكم ، أو فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخولها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لا بد من أن يكون برضاه { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا } [النور : 28] أي إذا كان فيها قوم فقالوا ارجعوا { فَارْجِعُوا } ولا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلجوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب ، لأن هذا مما يجلب الكراهة فإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إليها من قرع الباب بعنف والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك ، وعن أبي عبيد : ما قرعت باباً على عالم قط.
{ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [النور : 28] أي الرجوع أطيب وأطهر لما فيه من سلامة الصدور والبعد عن الريبة أو أنفع وأنمى خيراً { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [البقرة : 283] وعيد للمخاطبين بأنه عالم بما يأتون وما يذرون مما خوطبوا به فموف جزاءه عليه.
207
جزء : 3 رقم الصفحة : 207
{ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا } [النور : 29] في أن تدخلوا { بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } [النور : 29] استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها ما ليس بمسكون منها كالخانات والربط وحوانيت التجار { فِيهَا مَتَـاعٌ لَّكُمْ } [النور : 29] أي منفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع.
وقيل : الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [المائدة : 99] وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَـارِهِمْ } [النور : 30] " من " للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } [النور : 30] عن الزنا ولم يدخل " من " هنا لأن الزنا لا رخصة فيه بوجه ، ويجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفها وقدميها في رواية ، وإلى رأس المحارم والصدر والساقين والعضدين
جزء : 3 رقم الصفحة : 208
{ ذَالِكَ } أي غض البصر وحفظ الفرج { أَزْكَى لَهُمْ } [النور : 30] أي أطهر من دنس الاثم { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا يَصْنَعُونَ } [النور : 30] فيه ترغيب وترهيب يعني أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم وكيف يجيلون أبصارهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
{ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [النور : 31] أمرن بغض الأبصار فلا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركبتيه ، وإن اشتهت غضت بصرها رأساً ولا تنظر إلى المرأة إلا إلى مثل ذلك وغض بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها.
وإنما قدم غض الأبصار على حفظ الفروج لأن النظر بريد
208
(3/117)
الزنا ورائد الفجور فبذر الهوى طموح العين { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور : 31] الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، والمعنى ولا يظهرن مواضع الزينة إذ إظهار عين الزينة وهي الحلي ونحوها مباح فالمراد بها مواضعها أو إظهارها وهي في مواضعها لإظهار مواضعها لا لإظهار أعيانها ، ومواضعها الرأس والأذن والعنق والصدر والعضدان والذراع والساق فهي للإكليل والقرط والقلادة والوشاح والدملج والسوار والخلخال { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [النور : 31] إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره وهو الوجه والكفان والقدمان ، ففي سترها حرج بين فإن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن { وَلْيَضْرِبْنَ } وليضعن من قولك " ضربت بيدي على الحائط " إذا وضعتها عليه { بِخُمُرِهِنَّ } جمع خمار { عَلَى جُيُوبِهِنَّ } [النور : 31] بضم الجيم : مدني وبصري وعاصم.
كانت جيوبهن واسعة تبدو منها صدورهن وما حواليها وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من أقدامهن حتى تغطيها.
جزء : 3 رقم الصفحة : 208
{ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور : 31] أي مواضع الزينة الباطنة كالصدر والساق والرأس ونحوها { إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } [النور : 31] لأزواحهن جمع بعل { أَوْ ءَابَآ ـاِهِنَّ } [النور : 31] ويدخل فيهم الأجداد { أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } [النور : 31] فقد صاروا محارم { أَوْ أَبْنَآ ـاِهِنَّ } [النور : 31] ويدخل فيهم النوافل { أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } [النور : 31] فقد صاروا محارم أيضاً { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ } [النور : 31] ويدخل فيهم النوافل وسائر المحارم كالأعمام والأخوال وغيرهم دلالة { أَوْ نِسَآ ـاِهِنَّ } [النور : 31] أي الحرائر لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ } [النور : 31] أي إمائهن ولا يحل لبعدها أن ينظر إلى هذه المواضع منها خصياً كان أو عنيناً أو فحلاً.
وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإماء دون الذكور.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها { أَوِ التَّـابِعِينَ غَيْرِ } [النور : 31] بالنصب : شامي ويزيد وأبو بكر على الاستثناء أو الحال ، وغيرهم بالجر على البدل أو على الوصفية { أُوْلِى الارْبَةِ } [النور : 31] الحاجة إلى النساء.
قيل : هم
209
الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم إلى النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن ، أو شيوخ صلحاء ، أو العنين أو الخصي والمخنث.
وفي الأثر أنه المجبوب والأول الوجه { مِنَ الرِّجَالِ } [النور : 31] حال { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ } [النور : 31] هو جنس فصلح أن يراد به الجمع { لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ } [النور : 31] أي لم يطلعوا لعدم الشهوة من ظهر على الشيء إذا أطلع عليه ، أو لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء من ظهر على فلان إذا قوي عليه { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } [النور : 31] كانت المرأة تضرب الأرض برجليها إذا مشت لتسمع قعقعة خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال فنهين عن ذلك إذ سماع صوت الزينة كإظهارها ومنه سمي صوت الحلي وسواساً { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ } [النور : 31] { أَيُّهَ } شامي إتباعاً للضمة قبلها بعد حذف الألف لالتقاء الساكنين ، وغيره على فتح الهاء لأن بعدها ألفاً في التقدير { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] العبد لا يخلو عن سهو وتقصير في أوامره ونواهيه وإن اجتهد.
فلذا وصى المؤمنين جميعاً بالتوبة وبتأميل الفلاح إذا تابوا وقيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة ، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان.
جزء : 3 رقم الصفحة : 208
(3/118)
{ وَأَنكِحُوا الايَـامَى مِنكُمْ } [النور : 32] الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له رجلاً أو امرأة ، بكراً كان أو ثيباً ، وأصله أيائم فقلبت { وَالصَّـالِحِينَ } أي الخيرين أو المؤمنين ، والمعنى زوجوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح { مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَآ ـاِكُمْ } [النور : 32] أي من غلمانكم وجواريكم والأمر للندب إذ النكاح مندوب إليه { إِن يَكُونُوا فُقَرَآءَ } [النور : 32] من المال { يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور : 33] بالكفاية والقناعة أو باجتماع الرزقين ، وفي الحديث " التمسوا الرزق بالنكاح " وعن عمر رضي الله عنه روي مثله { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] غني ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق { عَلِيمٌ } يبسط الرزق لمن
210
يشاء ويقدر.
وقيل : في الآية دليل على أن تزويج النساء والأيامى إلى الأولياء كما أن تزوج العبيد والإماء إلى الموالي.
قلنا : الرجل لا يلي على الرجل الأيم إلا بإذنه فكذا لا يلي على المرأة إلا بإذنها لأن الأيم ينتظمها
جزء : 3 رقم الصفحة : 210
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ } [النور : 33] وليجتهدوا في العفة كأن المستعف طالب من نفسه العفاف { لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } [النور : 33] استطاعة تزوج من المهر والنفقة { حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور : 33] حتى يقدرهم على المهر والنفقة.
قال عليه الصلاة والسلام " يا معشر الشباب من استطع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " (1) فانظر كيف رتب هذه الأوامر ، فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعه المعصية وهو غض البصرد ثم بالنكاح المحصن للدين المغني عن الحرام ، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن تقدر عليه.
{ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النور : 33] أي المماليك الذين يطلبون الكتابة فـ الذين مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل يفسره { فَكَاتِبُوهُمْ } وهو للندب ودخلت الفاء لتضمنة معنى الشرط.
والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة وهو أن يقول لمملوكه : كاتبتك على ألف درهم.
فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال ، وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك.
أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق ، ويجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم لإطلاق الأمر { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } [النور : 33] قدرة على الكسب أو أمانة وديانة والندبية معلقة بهذا الشرط { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى } [النور : 33] أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة لقوله تعالى { وَفِي الرِّقَابِ } [البقرة : 177] وعند الشافعي رحمه الله : معناه حطوا من بدل الكتابة ربعاً.
وهذا عندنا على وجه الندب والأول الوجه لأن الإيتاء هو التمليك فلا يقع على
211
الحط.
سأل صبيح مولاه حويطباً أن يكاتبه فأبى فنزلت.
واعلم أن العبيد أربعة : قن مقتنى للخدمة ، ومأذون في التجارة ، ومكاتب ، وآبق.
فمثال الأول ولي العزلة الذي حصل العزلة بإيثار الخلوة وترك العشرة ، والثاني ولي العشرة فهو نجي الحضرة يخالط الناس للخبرة وينظر إليهم بالعبرة ويأمرهم بالعبرة فهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحكم بحكم الله ويأخذ لله ويعطي في الله ويفهم عن الله ويتكلم مع الله ، فالدنيا سوق تجارته ، والعقل رأس بضاعته ، والعدل في الغضب والرضا ميزانه ، والقصد في الفقر والغنى عنوانه ، والعز مفزعه ومنحاه ، والقرآن كتاب الإذن من مولاه ، هو كائن في الناس بظواهره ، بائن منهم بسرائره ، فقد هجرهم فيما له عليهم في الله باطناً ، ثم وصلهم فيما لهم عليه لله ظاهراً :
جزء : 3 رقم الصفحة : 211
وما هو منهمو بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
يأكل ما يأكلون ويشرب ما يشربون ، وما يدريهم أنه ضعيف الله يرى السماوات والأرض قائمات بأمره وكأنه قيل فيه :
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
(3/119)
فحال ولي العزلة أصفى وأحلى ، وحال ولي العشرة أوفى وأعلى ، ونزل الأول من الثاني في حضرة الرحمن منزلة النديم من الوزير عند السلطان.
أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو كريم الطرفين ومعدن الشذرين ومجمع الحالين ومنبع الزلالين ، فباطن أحواله مهتدى ولي العزلة ، وظاهر أعماله مقتدى ولي العشرة ، والثالث المجاهد المحاسب العامل المطالب بالضرائب كنجوم المكاتب عليه في اليوم والليلة خمس ، وفي المائتي درهم خمسة ، وفي السنة شهر ، وفي العمر زورة ، فكأنه اشترى نفسه من ربه بهذه النجوم المرتبة فيسعى في فكاك رقبته خوفاً من البقاء في ربقة العبودية ، وطمعاً في فتح باب الحرية ليسرح في رياض الجنة فيتمتع
212
بمناه ويفعل ما يشاؤه ويهواه.
والرابع الإباق فما أكثرهم فمنهم القاضي الجائر والعالم الغير العامل والعامل المرائي والواعظ الذي لا يفعل ما يقول ويكون أكثر أقواله فضول وعلى كل ما لا ينفعه نصول فضلا عن السارق والزاني والغاصب فعنهم أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : " إن الله لينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة " .
{ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَـاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ } [النور : 33] كان لابن أبيّ ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرههن على البغاء وضرب عليهن الضرائب ، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فنزلت.
ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة والبغاء الزنا للنساء خاصة وهو مصدر لبغت { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور : 33] تعففاً عن الزنا.
وإنما قيده بهذا الشرط لأن الإكراه لا يكون إلا مع إرادة التحصن ، فآمر المطيعة للبغاء لا يسمى مكرهاً ولا أمره إكراهاً ، ولأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة ، وفيه توبيخ للموالي أي إذا رغبن في التحصن فأنتم أحق بذلك { لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [النور : 33] أي لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن { وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور : 33] أي لهن ، وفي مصحف ابن مسعود كذلك وكان الحسن يقول : لهن والله لهن والله.
ولعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة وهو الذي يخاف منه التلف فكانت آثمة أو لهم إذا تابوا
جزء : 3 رقم الصفحة : 211
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـاتٍ مُّبَيِّنَـاتٍ } [النور : 34] بفتح الياء : حجازي وبصري وأبو بكر وحماد.
والمراد الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، وجاز أن يكون الأصل مبيناً فيها فاتسع في الظرف أي أجري مجرى المفعول به كقوله " ويوم شهدناه " وبكسرها غيرهم أي بينت هي الأحكام والحدود جعل الفعل لها مجازاً أو من بين بمعنى تبين ومنه
213
المثل.
" قد بين الصبح لذي عينين "
{ وَمَثَلا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ } [النور : 34] ومثلاً من أمثال من قبلكم أي قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم يعني قصة عائشة رضي الله عنها { وَمَوْعِظَةً } ما وعظ به من الآيات والمثل من نحو قوله تعالى : { وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ } [النور : 2].
{ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } [النور : 12].
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } [النور : 16] { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا } [النور : 17] { لِّلْمُتَّقِينَ } أي هم المنتفعون بها وإن كانت موعظة للكل.
نظير قوله
جزء : 3 رقم الصفحة : 213
(3/120)
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [النور : 35] مع قوله { مَثَلُ نُورِهِ } [النور : 35] و { يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ } [النور : 35] قولك زيد كرم وجود ثم تقول : ينعش الناس بكرمه وجوده ، والمعنى ذو نور السماوات و { نُورُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [النور : 35] الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة : 257] أي من الباطل إلى الحق.
وأضاف النور إليهما للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض ، وجاز أن المراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به { مَثَلُ نُورِهِ } [النور : 35] أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة { كَمِشْكَـاوةٍ } كصفة مشكاة وهي الكوّة في الجدار غير النافذة { فِيهَا مِصْبَاحٌ } [النور : 35] أي سراج ضخم ثاقب { الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ } [النور : 35] في قنديل من زجاج شامي بكسر الزاي { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ } [النور : 35] مضيء بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمزة عمرو وعلي كأنه يدرأ الظلام بضوئه ، وبالضم والهمزة أبو بكر وحمزة شبه في زهوته بأحد الكواكب الدراري كالمشتري والزهرة ونحوهما { يُوقَدُ } توقد بالتخفيف : حمزة وعلي وأبو بكر الزجاجة و { يُوقَدُ } بالتخفيف : شامي ونافع وحفص وتوقد بالتشديد : مكي وبصري أي هذا المصباح { مِن شَجَرَةٍ } [لقمان : 27] أي ابتدأ ثقوبه من زيت شجرة الزيتون يعني
214
رويت ذبالته بزيتها { مُّبَـارَكَةٍ } كثيرة المنافع أو لأنها نبتت في الأرض التي بورك فيها للعالمين.
وقيل : بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام { زَيْتُونَةٍ } بدل من شجرة نعتها { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } [النور : 35] أي منبتها الشام يعني ليست من المشرق ولا من المغرب بل في الوسط منهما وهو الشام وأجود الزيتون زيتون الشام.
وقيل : ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل يصيبها بالغداة والعشي جميعها فهي شرقية وغربية.
جزء : 3 رقم الصفحة : 214
{ يَكَادُ زَيْتُهَا } [النور : 35] دهنها { يُضِى ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } [النور : 35] وصف الزيت بالصفاء والوميض وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } [النور : 35] أي هذا النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور ، وهذا لأن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينتشر فيه.
والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه ، وضرب المثل يكون بدنيء محسوس معهود لا يعلي غير معاين ولا مشهود فأبو تمام لما قال في المأمون :
إقدام عمرو في سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
قيل له : إن الخليفة فوق من مثلته بهم فقال مرتجلاً :
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً من المشكاة والنبراس
{ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ } [النور : 35] أي لهذا النور الثاقب { مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 13] من عباده أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده بإلهام من الله أو بنظره في الدليل { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَـالَ لِلنَّاسِ } [إبراهيم : 25] تقريباً إلى أفهامهم ليعتبروا فيؤمنوا { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 282] فيبين كل شيء بما يمكن أن يعلم به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : مثل نوره أي نور الله الذي هدى به المؤمن.
وقرأ ابن مسعود رحمه الله مثل نوره في قلب المؤمن
215
كمشكاة وقرأ أبيّ مثل نور المؤمن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 214
(3/121)
{ فِى بُيُوتٍ } [النور : 36] يتعلق بمشكاة أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد كأنه قيل : مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، أو بـ توقد أي توقد في بيوت ، أو يسبح أي يسبح له رجال في بيوت.
و فيها تكرير فيه توكيد نحو " زيد في الدار جالس فيها " أو بمحذوف أي سبحوا في بيوت { أَذِنَ اللَّهُ } [النور : 36] أي أمر { أَن تُرْفَعَ } [النور : 36] تبنى كقوله { بَنَـاـاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاـاهَا } [النازعات : 27 ، 28] { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِ مُ الْقَوَاعِدَ } [البقرة : 127] أن تعظم من الرفعة.
وعن الحسن : ما أمر الله أن ترفع بالبناء ولكن بالتعظيم { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [النور : 36] يتلى فيها كتابه أو هو عام في كل ذكر { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاصَالِ } [النور : 36] أي يصلى له فيها بالغداة صلاة الفجر وبالآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين.
وإنما وحد الغدو لأن صلاته صلاة واحدة ، وفي الآصال صلوات والاصال جمع أصل جمع أصيل وهو العشي { رِجَالٌ } فاعل يسبح يسبح شامي وأبو بكر ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة أعني له فيها بالغدو و { رِجَالٌ } مرفوع بما دل عليه يسبح أي يسبح له { لا تُلْهِيهِمْ } [النور : 37] لا تشغلهم { تِجَـارَةٌ } في السفر { وَلا بَيْعٌ } [النور : 37] في الحضر.
وقيل : التجارة الشراء إطلاقاً لاسم الجنس على النوع أو خص البيع بعد ماعم لأنه أوغل في الإلهاء من الشراء لأن الربح في البيعة الرابحة متيقن وفي الشراء مظنون { عَن ذِكْرِ اللَّهِ } [النور : 37] باللسان والقلب { إِلَى الصَّلَواةِ } [المائدة : 58] أي وعن إقامة الصلاة.
التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال واوصل إقوام فلما قلبت الواو ألفا اجتمع ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فأدخلت التاء عوضاً عن المحذوف ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام التاء فأسقطت { وَجَعَلْنَـاهُمْ أَاـاِمَّةً } [الأنبياء : 73] أي وعن إيتاء الزكاة والمعنى لا تجارة لهم حتى تلهيهم كأولياء العزلة ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك
216
وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها غير متثاقلين كأولياء العشرة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 216
{ يَخَافُونَ يَوْمًا } [النور : 37] أي يوم القيامة ويخافون حال من الضمير في تلهيهم أو صفة أخرى لـ رجال { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ } [النور : 37] ببلوغها إلى الحناجر { وَالابْصَـارُ } بالشخوص والزرقة أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران والأبصار إلى العيان بعد إنكاره للطغيان كقوله { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق : 22]
جزء : 3 رقم الصفحة : 216
{ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [النور : 38] أي يسبحون ويخافون لنيجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم أي ليجزيهم ثوابهم مضاعفاً ويزيدهم على الثواب الموعود على العمل تفضلاً { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة : 212] أي يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل في حساب الخلق.
هذه صفات المهتدين بنور الله فأما الذين ضلوا عنه فالمذكورون في قوله { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَاب } [النور : 39] هو ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهر يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري { بِقِيعَةٍ } بقاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض كجيرة في جار { يَحْسَبُهُ الظَّمْـاَانُ } [النور : 39] يظنه العطشان { مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ } [النور : 39] أي جاء إلى ما توهم أنه ماء { لَمْ يَجِدْهُ شيئا } [النور : 39] كما ظنه { وَوَجَدَ اللَّهَ } [النور : 39] أي جزاء الله كقوله يجد الله غفوراً رحيماً أي يجد مغفرته ورحمته { عِندَهُ } عند الكافر { فَوَفَّـاـاهُ حِسَابَهُ } [النور : 39] أي أعطاه جزاء عمله وافياً كاملاً.
وحد بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [البقرة : 202] لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قريب حسابه لأن ما هو آتٍ قريب شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة
217
(3/122)
التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [الغاشية : 3].
{ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [الكهف : 104].
قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان يترهب ملتمساً للدين في الجاهلية فلما جاء الإسلام كفر.
جزء : 3 رقم الصفحة : 217
{ أَوْ كَظُلُمَـاتٍ فِى بَحْرٍ } [النور : 40] " أو " هنا كـ " أو " في { أَوْ كَصَيِّبٍ } [البقرة : 19] { لُّجِّىٍّ } عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر { يَغْشَـاـاهُ } يغشى البحر أو من فيه يعلوه ويغطيه { مَوْجٌ } هو ما ارتفع من الماء { مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } [النور : 40] أي من فوق الموج موج آخر { مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } [النور : 40] من فوق الموج الأعلى سحاب { ظُلُمَـاتُ } أي هذه ظلمات ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } [النور : 40] ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ } [النور : 40] أي الواقع فيه { لَمْ يَكَدْ يَرَاـاهَا } [النور : 40] مبالغة في لم يرها أي لم يقرب أن يراها فضلاً عن أن يراها ، شبه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحضور ضررها بسراب لم يجد من خدعه من بعيد شيئاً ولم يكفه خيبة وكمداً أن لم يجد شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى النار ، وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة وفي خلوها عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور : 40] من لم يهده الله لم يهتد عن الزجاج في الحديث " خلق الله الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " .
218
{ أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان في الإيقان { أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَالطَّيْرُ } [النور : 41] عطف على من { صَـافَّـاتٍ } حال من الطير أي يصففن أجنحتهن في الهواء { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } [النور : 41] الضمير في علم لـ كل أو لله ، وكذا في صلاته وتسبيحه.
والصلاة الدعاء ولم يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لايكاد العقلاء يتهتدون إليها { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [النور : 41] لا يعزب عن علمه شيء
جزء : 3 رقم الصفحة : 218
(3/123)
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [آل عمران : 189] لأنه خالقهما ومن ملك شيئاً فبتمليكه إياه { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 28] مرجع الكل { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى } [النور : 43] يسوق إلى حيث يريد { سَحَابًا } جمع سحابة دليله { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } [النور : 43] وتذكيره للفظ أي يضم بعضه إلى بعض { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } [النور : 43] متراكماً بعضه فوق بعض { فَتَرَى الْوَدْقَ } [النور : 43] المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلَـالِهِ } [الروم : 48] من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل { وَيُنَزِّلُ } وينزل مكي ومدني وبصري { مِنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء { مِن جِبَالٍ } [النور : 43] " من " للتبعيض لأن ما ينزله الله بعض تلك الجبال التي { فِيهَآ } في السماء { مِن بَرَدٍ } [النور : 43] للبيان أو الأوليان للابتداء والآخرة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها.
وعلى الأول مفعول ينزل من جبال أي بعض جبال فيها ومعنى من جبال فيها من برد أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر أو يريد الكثرة بذكر الجبال كما يقال " فلان يملك جبالاً من ذهب " { فَيُصِيبُ بِهِ } [النور : 43] بالبرد { مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 13] أي يصيب الإنسان وزرعه { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } [النور : 43-40] فلا يصيبه أو يعذب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } [النور : 43] ضوؤه { يَذْهَبُ بِالابْصَـارِ } [النور : 43]
219
يخطفها به { يَذْهَبُ } يزيد على زيادة الباء
جزء : 3 رقم الصفحة : 219
{ يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } [النور : 44] يصرفهما في الاختلاف طولاً وقصراً أو التعاقب { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] في إزجاء السحاب وإنزال الودق والبرد وتقليب الليل والنهار { لَعِبْرَةً لاوْلِى الابْصَـارِ } [آل عمران : 13] لذوي العقول.
وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وما يطير بينهما ودعاءهم له وتسخير السحاب إلى آخر ما ذكر ، فهي براهين لائحة على وجوده ودلائل على صفاته لمن نظر وتدبر.
ثم بين دليلاً آخر فقال تعالى.
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ } [النور : 45] خالق كل حمزة وعلي { دَآبَّةٍ } كل حيوان يدب على وجه الأرض { مِّن مَّآءٍ } [الطارق : 6] أي من نوع من الماء مختص بتلك الدابة أو من ماء مخصوص وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة فمنها هوام ومنها بهائم ومنها أناسي وهو كقوله { يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكُلِ } [الرعد : 4] وهذا دليل على أن لها خالقاً ومدبراً وإلا لم تختلف لإتفاق الأصل.
وإنما عرف الماء في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ } [الأنبياء : 30] لأن المقصود ثم أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء وأنه هو الأصل وإن تخللت بينه وبينها وسائط.
قالوا : أن أول ما خلق الله الماء فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض ، ولما كانت الدابة تشمل المميز وغير المميز غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه كأن الدواب كلهم مميزون فمن ثم قيل { فَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ } [النور : 45] كالحية والحوت.
وسمي الزحف على البطن مشياً استعارة كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر ، أو على طرائق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ } [النور : 45] كالإنسان والطير { وَمِنْهُم مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ } [النور : 45] كالبهائم وقدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي
220
بغير آلة مشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } [النور : 45] كيف يشاء { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] لا يتعذر عليه شيء.
جزء : 3 رقم الصفحة : 220
(3/124)
{ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَـاتٍ مُّبَيِّنَـاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [النور : 46] بلطفه ومشيئته { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] إلى دين الإسلام الذي يوصل إلى جنته والآيات لإلزام حجته لما ذكر إنزال الآيات ، ذكر بعدها افتراق الناس إلى ثلاث فرق : فرقة صدقت ظاهراً وكذبت باطناً وهم المنافقون ، وفرقة صدقت ظاهراً وباطناً وهم المخلصون ، وفرقة كذبت ظاهراً وباطناً وهم الكافرون على هذا الترتيب.
وبدأ بالمنافقين فقال : { وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ } [النور : 47] بألسنتهم { وَأَطَعْنَا } الله والرسول { ثُمَّ يَتَوَلَّى } [النور : 47] يعرض عن الانقياد لحكم الله ورسوله { فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَالِكَ } [النور : 47] أي من بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول وأطعنا { وَمَآ أؤلئك بِالْمُؤْمِنِينَ } [المائدة : 43] أي المخلصين وهو إشارة إلى القائلين امنا ، وأطعنا ، لا إلى الفريق المتولي وحده.
وفيه إعلام من الله بأن جميعهم منتفٍ عنهم الإيمان لاعتقادهم ما يعتقد هؤلاء والإعراض وإن كان من بعضهم فالرضا بالإعراض من كلهم.
{ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النور : 48] أي إلى رسول الله كقولك " أعجبني زيد وكرمه " تريد كرم زيد { لِيَحْكُمَ } الرسول { بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ } [النور : 48] أي فاجأ من فريق منهم الإعراض نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمنافق إلى كعب بن الأشرف ويقول : إن محمداً يحيف علينا { وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ } [النور : 49] أي إذا كان الحق لهم على غيرهم { يَأْتُوا إِلَيْهِ } [النور : 49] إلى الرسول { مُذْعِنِينَ } حال أي مسرعين في الطاعة طلباً لحقهم لا رضا بحكم رسولهم.
قال الزجاج : الإذعان الإسراع مع الطاعة.
والمعنى أنهم لمعرفتهم أنه ليس
221
معك إلا الحق المر والعدل البحث يمتنعون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما وجب لهم في ذمة الخصم
جزء : 3 رقم الصفحة : 221
{ أَفِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } [النور : 50] قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه.
ثم أبطل خوفهم حيفه بقوله { بَلْ أؤلئك هُمُ الظَّـالِمُونَ } [النور : 50] أي لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله وإنما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ، وذلك شيء لا يستطيعونه في مجلس رسول الله عليه الصلاة والسلام فمن ثم يأبون المحاكمة إليه.
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ } [النور : 51] وعن الحسن قول بالرفع ، والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسماً لكان أوغلهما في التعريف وأن يقولوا أوغل بخلاف قول المؤمنين { إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ } [النور : 51] النبي عليه الصلاة والسلام ليحكم أي ليفعل الحكم { بَيْنَهُمْ } بحكم الله الذي أنزل عليه { أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا } [النور : 51] قوله { وَأَطَعْنَا } أمره { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] الفائزون { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ } [النساء : 69] في فرائضه { وَرَسُولُهُ } في سننه { وَيَخْشَ اللَّهَ } [النور : 52] على ما مضى من نوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْفَآ ـاِزُونَ } [النور : 52] وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية.
وهي جامعة لأسباب الفوز ويتقه بسكون الهاء : أبو عمرو وأبو بكر بنية الوقف ، وبسكون القاف وبكسر الهاء مختلسة : حفص ، وبكسر القاف والهاء ، غيرهم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 222
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } [الأنعام : 109] أي حلف المنافقون بالله جهد اليمين لأنهم
222
(3/125)
بذلوا فيها مجهودهم.
وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وذلك إذا بالغٍ في اليمين وبلغ غاية شدتها ووكادتها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال بالله فقد جهد يمينه.
وأصل أقسم جهد اليمين أقسم بجهد اليمين جهداً فحذف الفعل وقدم المصدر فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول كقوله فضرب الرقاب وحكم هذا المنصوب حكم الحال كأنه قال جاهدين أيمانهم { لَـاـاِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } [النور : 53] أي لئن أمرنا محمد بالخروج إلى الغزو لغزونا أو بالخروج من ديارنا لخرجنا { قُل لا تُقْسِمُوا } [النور : 53] لا تحلفوا كاذبين لأنه معصية { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } [النور : 53] أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ، مبتدأ محذوف الخبر أو خبر مبتدأ محذوف أي الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8] يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم وإنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم
جزء : 3 رقم الصفحة : 222
{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النور : 54] صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم { فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ } [النور : 54] يريد فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى وكلفه من أداء الرسالة فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه ، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } [النور : 54] أي وإن أطعتموه فيما يأمركم وينهاكم فقد أحرزتم نصيبكم من الهدى ، فالضرر في توليكم والنفع عائدان إليكم { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [النور : 54] وما على الرسول إلا أن يبلغ ما له نفع في قلوبكم ولا عليه ضرر في توليكم.
والبلاغ بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية ، والمبين الظاهر لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات.
ثم ذكر المخلصين فقال
223
جزء : 3 رقم الصفحة : 223
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [النور : 55] الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ولمن معه و منكم للبيان.
وقيل : المراد به المهاجرون و " من " للتبعيض { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارْضِ } [النور : 55] أي أرض الكفار.
وقيل : أرض المدينة.
والصحيح أنه عام لقوله عليه الصلاة والسلام " ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل " { كَمَا اسْتَخْلَفَ } [النور : 55] استخلف أبو بكر { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم } [النور : 55] وليبدلنهم بالتخفيف : مكي وأبو بكر { مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } [النور : 55] وعدهم الله أن ينصر الاسلام على الكفر ويورثهم الأرض ويجعلهم فيها خلفاء كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة ، وأن يمكن الدين المرتضى وهو دين الاسلام ، وتمكينه تثبيته وتعضيده وأن يؤمن سربهم ويزيل عنهم الخوف الذي كانوا عليه.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ، ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام " لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة " فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا.
والقسم المتلقى باللام والنون في ليستخلفنهم محذوف تقديره وعدهم الله وأقسم ليستخلفنهم ، أو نزل وعد الله في تحققه منزلة القسم فيتلقى بما يتلقى به القسم كأنه قيل : أقسم الله ليستخلفنهم { يَعْبُدُونَنِى } إن جعلته استئنافاً فلا محل له كأنه قيل : ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال : يعبدونني موحدين ، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى.
وإن جعلته حالاً عن
(3/126)
224
وعدهم أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم فمحله النصب { لا يُشْرِكُونَ بِى شيئا } [النور : 55] حال من فاعل يعبدون أي يعبدونني موحدين ، ويجوز أن يكون حالاً بدلاً من الحال الأولى.
{ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَالِكَ } [النور : 55] أي بعد الوعد والمراد كفران النعمة كقوله تعالى : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } [النحل : 112] { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [آل عمران : 82] هم الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة الجسيمة وجسروا على غمطها.
قالوا : أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه فاقتتلوا بعدما كانوا إخواناً وزال عنهم الخوف ، والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 224
{ وَإِذْ أَخَذْنَا } [البقرة : 83] معطوف على أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يضر الفصل وإن طال { وَءَاتُوا الزكاة وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } [النور : 56] فيما يدعوكم إليه وكررت طاعة الرسول تأكيداً لوجوبها { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران : 132] أي لكي ترحموا فإنها من مستجلبات الرحمة ثم ذكر الكافرين فقال { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الارْضِ } [النور : 57] أي فائتين الله بأن لا يقدر عليهم فيها ، فالتاء خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام وهو الفاعل والمفعولان الذين كفروا و معجزين وبالياء شامي وحمزة والفاعل النبي صلى الله عليه وسلّم لتقدم ذكره والمفعولان { الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] و معجزين { وَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُ } [آل عمران : 151] معطوف على { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِى الارْضِ وَمَأْوَاـاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي المرجع النار.
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَـاْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النور : 58] أمر بأن يستأذن العبيد
225
(3/127)
والإماء { وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ } [النور : 58] أي الأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ، وقريء بسكون اللام تخفيفاً { ثَلَـاثَ مَراَّتٍ } [النور : 58] في اليوم والليلة وهي { مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ } [النور : 58] لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ } [النور : 58] وهي نصف النهار في القيظ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة { وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ } [النور : 58] لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم { ثَلَـاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } [النور : 58] أي هي أوقات ثلاثة عورات فحذف المبتدأ والمضاف.
وبالنصب : كوفي غير حفص بدلاً من ثلاث مرات أي أوقات ثلاث عورات.
وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الإنسان يختل تستره فيها ، والعورة : الخلل ومنها الأعور المختل العين.
دخل غلام من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو على عمر رضي الله عنه وقت الظهيرة وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله عنه : وددت أن الله نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بالإذن ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقد نزلت عليه الآية.
ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات بقوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحُ بَعْدَهُنَّ } [النور : 58] أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان بعدهن.
ثم بين العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله { طَواَّفُونَ عَلَيْكُم } [النور : 58] أي هم طوافون بحوائج البيت { بَعْضِكُم } مبتدأ خبره { عَلَى بَعْضٍ } [الشعراء : 198] تقديره بعضكم طائف على بعض فحذف طائف لدلالة { طَواَّفُونَ } عليه ، ويجوز أن تكون الجملة بدلاً من التي قبلها وأن تكون مبينة مؤكدة يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج وهو مدفوع في الشرح بالنص { كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ } [البقرة : 219] أي كما بين حكم الاستئذان يبين لكم غيره من الآيات التي احتجتم إلى بيانها { وَاللَّهُ عَلِيمُ } [البقرة : 95] بمصالح عباده { حَكِيمٌ } في بيان مراده.
جزء : 3 رقم الصفحة : 225
{ وَإِذَا بَلَغَ الاطْفَـالُ مِنكُمُ } [النور : 59] أي الأحرار دون المماليك { الْحُلُمَ }
226
أي الاحتلام أي إذا بلغوا وأرادوا الدخول عليكم { فَلْيَسْتَـاْذِنُوا } في جميع الأوقات { كَمَا اسْتَـاْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [النور : 59] أي الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال ، أو الذين ذكروا من قبلهم في قوله : { كَرِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا } الآية.
والمعنى أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا بالاحتلام أو بالسن وجب أن يفطموا عن تلك العادة ويحملوا على أن يستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن ، والناس عن هذا غافلون ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَـاـاكُمْ } [الحجرات : 13] .
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [النساء : 8].
وعن سعيد بن جبير : يقولون هي منسوخة والله ما هي بمنسوخة وقوله { كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 242] بمصالح الأنام { حَكِيمٌ } فيما يبين من الأحكام.
جزء : 3 رقم الصفحة : 226
(3/128)
{ وَالْقَوَاعِدُ } جمع قاعد لأنها من الصفات المختصة بالنساء كالطالق والحائض أي اللاتي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن { مِنَ النِّسَآءِ } [النساء : 22] حال { لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } لا يطمعن فيه وهي في كل الرفع صفة للمبتدأ وهي القواعد والخبر { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ } [النور : 60] إثم ودخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط بسبب الألف واللام { أَن يَضَعْنَ } [النور : 60] في أن يضعن { ثِيَابَهُنَّ } أي الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار { غَيْرِ } حال { مُتَبَرِّجَـات بِزِينَةٍ } [النور : 60] أي غير مظهرات زينة يريد الزينة الخفية كالشعر والنحر والساق ونحو ذلك أي لا يقصدن بوضعها التبرج ولكن التخفيف ، وحقيقة التبرج يكلف إظهاراً ما يجب إخفاؤه { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ } [النور : 60] أي يطلبن العفة عن وضع الثياب فيستترون وهو مبتدأ خبره { خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [النور : 60] لما يعلن { عَلِيمٌ } بما يقصدن.
227
جزء : 3 رقم الصفحة : 227
{ لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } [النور : 61] قال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلّم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، وكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة فنزلت الآية رخصة لهم { وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ } [النور : 61] أي حرج { أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ } [النور : 61] أي بيوت أولادكم لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه ولذا لم يذكر الأولاد في الآية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام " أنت ومالك لأبيك " أو بيوت أزواجكم لأن الزوجين صار كنفس واحدة فصار بيت المرأة كبيت الزوج { لَّيْسَ عَلَى الاعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآ ـاِكُمْ أَوْ بُيُوتِ } [النور : 61] لأن الإذن من هؤلاء ثابت دلالة { أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ } جمع مفتح وهو ما يفتح به الغلق ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هو وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته ، له أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته.
وأريد بملك المفاتح كونها في يده وحفظه.
وقيل : أريد به بيت عبده لأن العبد وما في يده لمولاه { مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُا أَوْ صَدِيقِكُمْ } [النور : 61] يعني أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك ، وكان الرجل من السلف يدخل دارٍ صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر
228
مولاها فأخبرته أعتقها سروراً بذلك ، فأما الان فقد غلب الشح على الناس فلا يؤكل إلا بإذن.
جزء : 3 رقم الصفحة : 228
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا } [النور : 61] مجتمعين { أَوْ أَشْتَاتًا } [النور : 61] متفرقين جمع شت.
نزلت في بني ليث بن عمرو وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة ، أو في قوم من الأنصار إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، أو تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض { فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا } [النور : 61] من هذه البيوت لتأكلوا { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ } [النور : 61] أي فابدؤوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة أو بيوتاً فارغة أو مسجداً فقولوا : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين { تَحِيَّةً } نصب بـ سلموا لأنها في معنى تسليماً نحو " قعدت جلوساً " { مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 37] أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ، أو لأن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله { مُبَـارَكَةً طَيِّبَةً } [النور : 61] وصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق { كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [النور : 61] لكي تعقلوا وتفهموا.
جزء : 3 رقم الصفحة : 228
(3/129)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } [النور : 62] أي الذي يجمع له الناس نحو الجهاد والتدبير في الحرب وكل اجتماع في الله حتى الجمعة والعيدين { لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَـاْذِنُوهُ } [النور : 62] أي ويأذن لهم.
ولما أراد الله عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير إذنه إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، وجعلهما كالتشبيب له والبساط لذكره.
وذلك مع تصدير الجملة بـ إنما وإيقاعٍ المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين ، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله
229
{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَـاْذِنُونَكَ أؤلئك الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النور : 62] وضمنه شيئاً آخر وهو أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً { فَإِذَا اسْتَـاْذَنُوكَ } [النور : 62] في الانصراف { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [النور : 62] أمرهم { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [النور : 62] فيه رفع شأنه عليه الصلاة والسلام { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النور : 62] وذكر الاستغفار للمستأذنين دليل على أن الأفضل أن لا يستأذن.
قالوا : وينبغي أن يكون الناس كذلك مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يتفرقون عنهم إلا بإذن ، قيل : نزلت يوم الخندق كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان { لا تَجْعَلُوا دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُم بَعْضًا } [النور : 63] أي إذا احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمي بعضكم بعضاً ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه ، فلا تقولوا يا محمد ولكن يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض.
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
{ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ } [النور : 63] يخرجون قليلاً قليلاً { مِنكُمْ لِوَاذًا } [النور : 63] حال أي ملاوذين اللواذ.
والملاوذة هو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا أي ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور : 63] أي الذين يصدون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون.
يقال : خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ومنه : { عَنْهُ } وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.
والضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول عليه الصلاة والسلام والمعنى عن طاعته ودينه ومفعول يحذر { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } [النور : 63] محنة في الدنيا أو قتل أو زلازل وأهوال أو تسليط سلطان جائر أو قسوة القلب عن معرفة الرب أو إسباغ النعم استدراجاً { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور : 63] في
230
الآخرة.
والآية تدل على أن الأمر للإيجاب.
جزء : 3 رقم الصفحة : 229
(3/130)
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يونس : 55] " ألا " تنبيه على أن لا يخالفوا أمر من له ما في السماوات والأرض { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [النور : 64] أدخل " قد " ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، والمعنى أن جميع ما في السماوات والأرض مختص به خلقاً وملكاً وعلماً فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجهدون في سترها؟ { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } [النور : 64] وبفتح الياء وكسر الجيم : يعقوب أي ويعلم يوم يردون إلى جزائه وهو يوم القيامة.
والخطاب والغيبة في قوله قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عاماً و يرجعون للمنافقين { فَيُنَبِّئُهُم } يوم القيامة { بِمَا عَمِلُوا } [المجادلة : 6] بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 282] فلا يخفي عليه خافية.
وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما قرأ سورة النور على المنبر في الموسم وفسرها على وجه لو سمعت الروم به لأسلمت والله
231
سورة الفرقان
مكية وهي سبع وسبعون آية
{ تَبَـارَكَ } تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ، ومعنى تبارك الله تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله وحده والمستعمل منه الماضي فحسب { الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } [الفرقان : 1] هو مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما ، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل والحلال والحرام ، أو لأنه لم ينزل جملة ولكن مفرقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْءَانًا فَرَقْنَـاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَـاهُ تَنزِيلا } [الإسراء : 106] { عَلَى عَبْدِهِ } [الحديد : 9] محمد عليه الصلاة والسلام { لِيَكُونَ } العبد أو الفرقان { لِلْعَـالَمِينَ } للجن والإنس وعموم الرسالة من خصائصه عليه الصلاة والسلام { نَذِيرًا } منذراً أي مخوفاً أو إنذاراً كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } [القمر : 16] { الَّذِى } رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على الإبدال من الذي نزل وجوز الفصل بين البدل والمبدل منه بقوله ليكون لأن المبدل منه صلته نزل وليكون تعليل له فكأن المبدل منه لم يتم إلا به أو نصب على المدح
232
{ لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 44] على الخلوص { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } [الفرقان : 2] كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح عليهما السلام { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ } [الإسراء : 111] كما زعمت الثنوية { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ } [الفرقان : 2] أي أحدث كل شيء وحده لا كما يقوله المجوس والثنوية من النور والظلمة ويزدان وآهرمن.
ولا شبهة فيه لمن يقول إن الله شيء ويقول بخلق القرآن ، لأن الفاعل بجميع صفاته لا يكون مفعولاً له على أن لفظ شيء اختلص بما يصح أن يخلق بقرينة وخلق ، وهذا أوضح دليل لنا على المعتزلة في خلق أفعال العباد { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان : 2] فهيأه لما يصلح له بلا خلل فيه كما أنه خلق الإنسان على هذا الشكل الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في الدين والدنيا أو قدره للبقاء إلى أمد معلوم.
جزء : 3 رقم الصفحة : 232(3/131)
{ وَاتَّخَذُوا } الضمير للكافرين لاندراجهم تحت العالمين أو لدلالة نذيراً عليهم لأنهم المنذرون { مِن دُونِهِ ءَالِهَةً } [يس : 23] أي الأصنام { لا يَخْلُقُونَ شيئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [النحل : 20] أي أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والملك والخلق والتقدير عبادة عجزة لا يقدرون على خلق شيء وهم يخلقون { وَلا يَمْلِكُونَ لانفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [الفرقان : 3] ولا يستطيعون لأنفسهم دفع ضرر عنها ولا جلب نفع إليها { وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا } [الفرقان : 3] إماتة { وَلا يَمْلِكُونَ } [الفرقان : 3] أي إحياء { وَلا نُشُورًا } [الفرقان : 3] إحياء بعد الموت وجعلها كالعقلاء لزعم عابديها { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ } [الفرقان : 4] ما هذا القرآن { إِلا إِفْكٌ } [الفرقان : 4] كذب { افْتَرَاهُ } اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ } [الفرقان : 4] أي اليهود وعداس ويسار وأبو فكيهة الرومي قاله النضر بن الحارث { فَقَدْ جَآءُو ظُلْمًا وَزُورًا } [النساء : 54-4] هذا إخبار من الله رد للكفرة فيرجع الضمير إلى الكفار وجاء يستعمل في
233
معنى فعل فيعدى تعديتها ، أو حذف الجار وأوصل الفعل أي بظلم وزور.
وظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من العجمي الرومي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه.
جزء : 3 رقم الصفحة : 233
{ وَقَالُوا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الفرقان : 5] أي هو أحاديث المتقدمين وما سطروه كرستم وغيره جمع أسطار وأسطورة كأحدوثة { اكْتَتَبَهَا } كتبها لنفسه { فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ } [الفرقان : 5] أي تلقى عليه من كتابه { بُكْرَةً } أول النهار { وَأَصِيلا } آخره فيحفظ ما يملى عليه ثم يتلوه علينا.
{ قُلْ } يا محمد { أَنزَلَهُ } أي القرآن { الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الفرقان : 6] أي يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض ، يعني أن القرآن لما اشتمل على علم الغيوب التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد عليه الصلاة والسلام من غير تعليم ، دل ذلك على أنه من عند علام الغيوب { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الفرقان : 6] فيمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة وإن استوجبوها بمكابرتهم { وَقَالُوا مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ } وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء وخط المصحف سنة لا تغير ، وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم كأنهم قالوا : أي شيء لهذا الزاعم إنه رسول { يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاسْوَاقِ } [الفرقان : 7] حال والعامل فيها " هذا " { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي إن صح أنه رسول الله فما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما تردد يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن ذلك الاقتراح إلى أن يكون إنساناً معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا إلى أن يكون مرفوداً بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر
234
به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا إلى أن يكون رجلاً له بستان يأكل هو منه كالمياسير أو نأكل نحن كقراءة علي وحمزة.
وحسن عطف المضارع وهو { يُلْقَى } و { تَكُونُ } على { أُنزِلَ } وهو ماض لدخول المضارع وهو { فَيَكُونَ } بينهما وانتصب { فَيَكُونَ } على القراءة المشهورة لأنه جواب { لَوْلا } بمعنى " هلا " وحكمه حكم الاستفهام.
وأراد بالظالمين في قوله { وَقَالَ الظَّـالِمُونَ } [الفرقان : 8] إياهم بأعيانهم غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا وهم كفار قريش { إِن تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَّسْحُورًا } [الإسراء : 47] سحر فجن أو ذا سحر وهو الرئية عنوا أنه بشر لا ملك
جزء : 3 رقم الصفحة : 234
{ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا } [الإسراء : 48] بينوا { لَكَ الامْثَـالَ } [الإسراء : 48] الأشباه أي قالوا فيك تلك الأقوال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال من المفتري والمملى عليه والمسحور { فَضَلُّوا } عن الحق { فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [الإسراء : 48] فلا يجدون طريقاً إليه.
(3/132)
{ تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَالِكَ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورَا } [الفرقان : 10] أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا خيراً مما قالوا ، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور.
و جنات بدل من خيرا ، ويجعل بالرفع : مكي وشامي وأبو بكر لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جزائه الجزم والرفع { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } [الفرقان : 11] عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة ، أو متصل بما يليه كأنه قال : بل كذبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وهم لا يؤمنون بها؟ { وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } [الفرقان : 11] وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة في الاستعار.
{ إِذَا رَأَتْهُم } [الفرقان : 12] أي النار أي قابلتهم { مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [سبأ : 52] أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرين في البعد { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } [الفرقان : 12] أي سمعوا صوت غليانها وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر ، أو إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار.
235
جزء : 3 رقم الصفحة : 235
{ وَإِذَآ أُلْقُوا مِنْهَا } [الفرقان : 13] من النار { مَكَانًا ضَيِّقًا } [الفرقان : 13] ضيقاً مكي فإن الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذا وصفت الجنة بأن عرضها السماوات والأرض.
وعن ابن عباس رضي الله عنها أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح { مُّقَرَّنِينَ } أي وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرّنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، أو يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد { دَعَوْا هُنَالِكَ } [الفرقان : 13] حينئذ { ثُبُورًا } هلاكاً أي قالوا واثبوراه أي تعال يا ثبور فهذا حينك فيقال لهم { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } [الفرقان : 14] أي إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير { قُلْ أَذَالِكَ خَيْرٌ } [الفرقان : 15] أي المذكور من صفة النار خير { أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الفرقان : 15] أي وعدها فالراجع إلى الموصول محذوف ، وإنما قال : أذلك خير ، ولا خير في النار توبيخاً للكفار { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً } [الفرقان : 15] ثواباً { وَمَصِيرًا } مرجعاً.
وإنما قيل كانت لأن ما وعد الله كأنه كان لتحققه أو كان ذلك مكتوباً في اللوح قبل أن خلقهم { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } [النحل : 31] أي ما يشاؤونه { خَـالِدِينَ } حال من الضمير في يشاؤون والضمير في كان لـ ما يشاؤون { عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا } [الفرقان : 16] أي موعوداً { مَّسْـاُولا } مطلوباً أو حقيقاً أن يسأل أو قد سأله المؤمنون والملائكة في دعواتهم { رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } [آل عمران : 194] { رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة : 201] { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَّهُمْ } [غافر : 8]
236
جزء : 3 رقم الصفحة : 236
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } [سبأ : 40] { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } [الأنعام : 22] للبعث عند الجمهور وبالياء : مكي ويزيد ويعقوب وحفص.
(3/133)
{ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [مريم : 49] يريد المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير.
وعن الكلبي يعني الأصنام ينطقها.
وقيل : عام وما يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم { فَيَقُولُ } وبالنون شامي { ءَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هؤلاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } [البقرة : 140-17] والقياس ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل إلى الطريق أو للطريق.
وضل مطاوع أضله والمعنى أأنتم أوقعتموهم في الضلال عن طريق الحق بإدخال الشبه أم هم ضلوا عنه بأنفسهم؟ وإنما لم يقل " أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل " وزيد " أنتم " و " هم " لأن السؤال ليس عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب ، وإنما هو عن متوليه فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام ليعلم أنه المسؤول عنه.
وفائدة سؤالهم مع علمه تعالى بالمسؤول عنه أن يجيبوا بما أجابوا به حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم { قَالُوا سُبْحَـانَكَ } [سبأ : 41] تعجب منهم مما قيل لهم وقصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له نبي أو ملك أو غيرهما نداً.
ثم قالوا { مَا كَانَ يَنابَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [الفرقان : 18] أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولونا دونك؟ نتخذ يزيد.
و " اتخذ " يتعدى إلى مفعول واحد نحو " اتخذ ولياً " وإلى مفعولين نحو " اتخذ فلاناً ولياً " قال الله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا ءَالِهَةً مِّنَ الارْضِ } [الأنبياء : 21].
وقال : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء : 125] فالقراءة الأولى من المتعدي لواحد وهو من أولياء والأصل أن تتخذ أولياء وزيدت من التأكيد معنى النفي والقراءة الثانية في المتعدي إلى المفعولين فالمفعول الأول ما بنى له الفعل والثاني من أولياء و " من " للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء لأن من لا تزاد في المفعول
237
الثاني بل في الأول تقول " ما اتخذت من أحد ولياً " ولا تقول " ما اتخذت أحداً من ولي " { وَلَـاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ } [الفرقان : 18] بالأموال والأولاد وطول العمر والسلامة من العذاب { حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ } [الفرقان : 18] أي ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع { وَكَانُوا } عند الله { قَوْمَا بُورًا } [الفرقان : 18] أي هلكى جمع بائر كعائذ وعوذ ثم يقال للكفار بطريق الخطاب عدولاً عن الغيبة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 237
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُم } [الفرقان : 19] وهذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنة رائعة وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول ونظيرها : { الْمَصِيرُ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } إلى قوله { فَقَدْ جَآءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة : 19] وقول القائل :
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراساناً
{ بِمَا تَقُولُونَ } [الفرقان : 19] بقولكم فيهم إنهم آلهة ، والباء على هذا كقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ } [ق : 5] والجار والمجرور بدل من الضمير كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون.
وعن قنبل بالياء ومعناه فقد كذبوكم بقولهم : سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء والباء على هذا كقولك " كتبت بالقلم " { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } فما يستطيعون أي فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصرونكم.
وبالتاء حفص أي فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم ولا نصر أنفسكم.
ثم خاطب المكلفين على العموم بقوله { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } [الفرقان : 19] أي يشرك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن جعل المخلوق شريك خالقه فقد ظلم يؤيده قوله تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا } [الفرقان : 19] فسر بالخلود في النار وهو يليق بالشرك دون الفاسق إلا على قول المعتزلة والخوارج.
238
جزء : 3 رقم الصفحة : 238
(3/134)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاسْوَاقِ } [الفرقان : 20] كسرت " إن " لأجل اللام في الخبر والجملة بعد " إلا " صفة لموصوف محذوف ، والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور أي من المرسلين ونحوه { فِتْنَةً } أي محنة وابتلاء ، وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما عيروه به من الفقر ومشيه في الأسواق يعني أنه جعل الأغنياء فتنة للفقراء فيغني من يشاء ويفقر من يشاء { أَتَصْبِرُونَ } على هذه الفتنة فتؤجروا أم لا تصبروا فيزداد غمكم.
وحكي أن بعض الصالحين تبرم بضنك عيشه فخرج ضجراً فرأى خصياً في مواكب ومراكب فخطر بباله شيء فإذا بمن يقرأ هذه الآية فقال : بلى فصبراً ربنا.
أو جعلتك فتنة لهم لأنك لو كنت غنياً صاحب كنوز وجنان لكانت طاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا فإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } [الفرقان : 20] عالماً بالصواب فيما يبتلي به أو بمن يصبر ويجزع.
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ } [الفرقان : 21] لا يأملون { لِقَآءَنَا } بالخير لأنهم كفرة لا يؤمنون بالبعث أو لا يخافون عقابنا إما لأن الراجي قلق فيما يرجوه كالخائف ، أو لأن الرجاء في لغة تهامة الخوف { لَوْلا } هلا { أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَـائكَةُ } [الفرقان : 21] رسلاً دون البشر أو شهوداً على نبوته ودعوى رسالته { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } [الفرقان : 21] جهرة فيخبرنا برسالته واتباعه { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِى أَنفُسِهِمْ } [الفرقان : 21] أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم { وَعَتَوْ } وتجاوزوا الحد في الظلم { عُتُوًّا كَبِيرًا } [الفرقان : 21] وصف العتو بالكبر فبالغ في
239
إفراطه أي أنهم لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا أنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو.
واللام في لقد جواب قسم محذوف
جزء : 3 رقم الصفحة : 239
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَـائكَةَ } [الفرقان : 22] أي يوم الموت أو يوم البعث و { يَوْمَ } منصوب بما دل عليه { لا بُشْرَى } [الفرقان : 22] أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى.
وقوله { يَوْمَـاـاِذٍ } مؤكد لـ يوم يرون أو بإضمار اذكر أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم أخبر فقال : لا بشرى بالجنة يومئذ ولا ينتصب بـ يرون لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ، ولا بـ بشرى لأنها مصدر والمصدر لا يعمل فيما قبله ولأن المنفي بلا لا يعمل فيما قبل " لا " { لِّلْمُجْرِمِينَ } ظاهر في موضع ضمير أو عام يتناولهم بعمومه وهم الذين اجترموا الذنوب والمراد الكافرون لأن مطلق الأسماء يتناول أكمل المسميات { وَيَقُولُونَ } أي الملائكة { حِجْرًا مَّحْجُورًا } [الفرقان : 22] حراماً محرماً عليكم البشرى أي جعل الله ذلك حراماً عليكم إنما البشرى للمؤمنين.
والحجر مصدر والكسر والفتح لغتان وقريء بهما وهو من حجره إذا منعه ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها ، و { مَّحْجُورًا } لتأكيد معنى الحجر كما قالوا " موت مائت " .
{ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَـاهُ هَبَآءً مَّنثُورًا } [الفرقان : 23] هو صفة ولا قدوم هنا ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقري ضيف ونحو ذلك بحال من خالف سلطانه وعصاه فقدم إلى أشيائه وقصد إلى ما تحت يديه فأفسدها ومزقها كل ممزق ولم يترك لها أثراً.
والهباء ما يخرج به من الكوة مع ضوء الشمس شبيهاً بالغبار ، والمنثور المفرق وهو استعارة عن جعله بحيث لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
ثم بين فضل أهل الجنة على أهل النار فقال :
{ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ يَوْمَـاـاِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا } [الفرقان : 24] تمييز والمستقر المكان الذي يكونون فيه في أكثر أوقاتهم يتجالسون ويتحادثون { وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [الفرقان : 24] مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم ، ولا نوم في الجنة ولكنه سمي مكان استراحتهم
240
إلى الحور مقيلاً على طريق التشبيه.
وروي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، وفي لفظ الأحسن تهكم بهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 240
(3/135)
{ وَيَوْمَ } واذكر يوم { تَشَقَّقُ السَّمَآءُ } [الفرقان : 25] والأصل تتشقق فحذف التاء كوفي وأبو عمرو وغيرهم أدغمها في الشين { بِالْغَمَـامِ } لما كان انشقاق السماء بسبب طلوع الغمام منها جعل الغمام كأنه الذي تشقق به السماء كما تقول " شققت السنام بالشفرة فانشق بها " { وَنُزِّلَ الْمَلَـائكَةُ تَنزِيلا } [الفرقان : 25] وننزل الملائكة مكي ، وتنزيلاً على هذا مصدر من غير لفظ الفعل.
والمعنى أن السماء تنفتح بغمام أبيض يخرج منها وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد { الْمُلْكِ } مبتدأ { يَوْمَـاـاِذٍ } ظرفه { الْحَقُّ } نعته ومعناه الثابت لأن كل ملك يزول يومئذ فلا يبقى إلا ملكه { لِلرَّحْمَـانِ } خبره { وَكَانَ } ذلك اليوم { يَوْمًا عَلَى الْكَـافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان : 26] شديداً.
يقال عسر عليه فهو عسير وعسر ويفهم منه يسره على المؤمنين ففي الحديث " يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون عليهم أخف من صلاة مكتوبة صلوها في الدنيا " .
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } [الفرقان : 27] عض اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من روادفها فتذكر الرادفة ويدل بها على المردوف فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع عنده في نفسه من الروعة ما لا يجده عند لفظ المكنّى عنه ، واللام في { الظَّالِمُ } للعهد وأريد به عقبة لما تبين أو للجنس فيتناول عقبة وغيره من الكفار { يَقُولُ يَـالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } في الدنيا { مَعَ الرَّسُولِ } [الفرقان : 27] محمد عليه الصلاة والسلام { سَبِيلا } طريقاً إلى النجاة والجنة وهو الإيمان { يَقُولُ يَـالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا } وقرىء يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته
241
وهي هلكته يقول لها تعالي فهذا أوانك.
وإنما قلبت الياء ألفاً كما في " صحارى " و " مدارى " { سَبِيلا * يَـاوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا } [الفرقان : 28] فلان كناية عن الأعلام فإن أريد بالظالم عقبة لما روي أنه اتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل فقال له أبيّ بن خلف وهو خليله : وجهي من وجهك حرام إلا أن ترجع فارتد.
فالمعنى يا ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً ، فكنى عن اسمه.
وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم لا محالة فجعل كناية عنه.
وقيل : هو كناية عن الشيطان
جزء : 3 رقم الصفحة : 241
{ لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ } [الفرقان : 29] أي عن ذكر الله أو القرآن أو الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى } [الفرقان : 29] من الله { وَكَانَ الشَّيْطَـانُ } [الإسراء : 27] أي خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضله الشيطان ، أو إبليس لأنه الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول { لِلانسَـانِ } المطيع له { خَذُولا } هو مبالغة من الخذلان أي من عادة الشيطان ترك من يواليه وهذا حكاية كلام الله أو كلام الظالم.
{ وَقَالَ الرَّسُولُ } [الفرقان : 30] أي محمد عليه الصلاة والسلام في الدنيا { يَـارَبِّ إِنَّ قَوْمِى } [الفرقان : 30] قريشاً { اتَّخَذُوا هَـاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا } [الفرقان : 30] متروكاً أي تركوه ولم يؤمنوا به من الهجران وهو مفعول ثان لـ اتخذوا في هذا تعظيم للشكاية وتخويف لقومه لأن الأنبياء إذا شكوا إليه قومهم حل بهم العذاب ولم ينظروا.
ثم أقبل عليه مسلياً ووعده النصرة عليهم فقال { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [الفرقان : 31] أي كذلك كان كل نبي قبلك مبتلى بعداوة قومه وكفاك بي هادياً إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ، وناصراً لك عليهم.
والعدو يجوز أن يكون واحداً وجمعاً والباء زائدة أي وكفى ربك هادياً وهو تمييز
242
جزء : 3 رقم الصفحة : 242
(3/136)
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] أي قريش أو اليهود { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً } [الفرقان : 32] حال من القرآن أي مجتمعاً { وَاحِدَةً } يعني هلا أنزل عليه دفعة واحد في وقت واحد كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل على التفاريق؟ وهو فضول من القول ومماراة بما لا طائل تحته ، لأن أمر الإعجاز والاحتجاج به لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو متفرقاً.
ونزّل هنا بمعنى أنزل وإلا لكان متدافعاً بدليل جملة واحدة وهذا اعتراض فاسد لأنهم تحدوا بالإتيان بسورة واحدة من أصغر السور فأبرزوا صفحة عجزهم حتى لاذوا بالمناصبة وفزعوا إلى المحاربة وبذلوا المهج وما مالوا إلى الحجج { كَذَالِكَ } جواب لهم أي كذلك أنزل مفرقاً في عشرين سنة أو في ثلاث وعشرين و " ذلك " في كذلك إشارة إلى مدلول قوله لولا نزل عليه القرآن جملة لأن معناه لم أنزل عليك القرآن مفرقاً فأعلم أن ذلك { لِنُثَبِّتَ بِهِ } [الفرقان : 32] بتفريقه { فُؤَادَكَ } حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء وجزأ عقيب جزء ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه ، أو لنثبت به فؤادك عن الضجر بتواتر الوصول وتتابع الرسول لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب { وَرَتَّلْنَـاهُ تَرْتِيلا } [الفرقان : 32] معطوف على الفعل الذي تعلق به كذلك كأنه قال : كذلك فرقناه ورتلناه أي قدرناه آية بعد آية ووقفة بعد وقفة ، أو أمرنا بترتيل قراءته وذلك قوله تعالى : { وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلا } [المزمل : 4] أي اقرأه بترسل وتثبت أو بيناه تبييناً ، والترتيل التبيين في ترسل وتثبت.
{ وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } [الفرقان : 33] بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان { إِلا جِئْنَـاكَ بِالْحَقِّ } [الفرقان : 33] إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [الفرقان : 33] وبما هو أحسن معنى ومؤدى من مثله أي من سؤالهم.
وإنما حذف من مثلهم لأن في الكلام دليلاً عليه كما لو قلت " رأيت زيداً وعمراً وإن عمرو أحسن
243
وجهاً " كان فيه دليل على أنك تريد من زيد.
ولما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذل.
أو لا يأتونك بحال وصفة عجيبة يقولون هلا أنزل عليك القرآن جملة إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفاً لما بعثت عليه ودلالة على صحته يعني أن تنزيله مفرقاً وتحديثهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلما نزل شيء منها ، أدخل في الإعجاز من أن ينزل كله جملة.
جزء : 3 رقم الصفحة : 243
{ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أؤلئك شَرٌّ } [الفرقان : 34] الذين مبتدأ وأولئك مبتدأ ثان وشر خبر أولئك وأولئك مع شر خبر الذين أو التقدير : هم الذين أو أعني الذين و { أؤلئك } مستأنف { مَكَانًا } أي مكانة ومنزلة أو مسكناً ومنزلاً { وَأَضَلُّ سَبِيلا } [الإسراء : 72] أي وأخطأ طريقاً ، وهو من الإسناد المجازي.
والمعنى إن حاملكم على هذه السؤالات أنكم تضلون سبيله وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوههم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله ، وفي طريقته قوله { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة : 60] الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف على الدواب وصنف على أرجلهم وصنف على وجوههم " قيل : يا رسول الله ، كيف يمشون على وجوههم؟ فقال عليه الصلاة والسلام " الذي أمشاكم على أقداكم يمشيهم على وجوههم " .
(3/137)
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة كما آتيناك القرآن { وَجَعَلْنَا مَعَهُا أَخَاهُ هَـارُونَ } [الفرقان : 35] بدل أو عطف بيان { وَزِيرًا } هو في اللغة من يرجع إليه من الوزر وهو الملجأ ، والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً { فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } [الفرقان : 36] إلى فرعون وقومه وتقديره فذهبا إليهم وأنذرا فكذبوهما { فَدَمَّرْنَـاهُمْ تَدْمِيرًا } [الفرقان : 36] التدمير الإهلاك بأمر
244
عجيب أراد اختصار القصة فذكر أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 244
{ وَقَوْمَ نُوحٍ } [الفرقان : 37] أي ودمرنا قوم نوح { لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ } [الفرقان : 37] يعني نوحاً وإدريس وشيثاً أو كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع { أَغْرَقْنَـاهُمْ } بالطوفان { وَجَعَلْنَـاهُمْ } وجعلنا إغراقهم أو قصتهم { لِلنَّاسِ ءَايَةً } [الفرقان : 37] عبرة يعتبرون بها { وَأَعْتَدْنَا } وهيأنا { لِلظَّـالِمِينَ } لقوم نوح وأصله وأعتدنا لهم إلا أنه أراد تظليمهم فأظهر ، أو هو عام لكل من ظلم ظلم شرك ويتناولهم بعمومه { عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18] أي النار { وَعَادًا } دمرنا عاداً { وَثَمُودُ } حمزة وحفص على تأويل القبيلة وغيرهما ، وثموداً على تأويل الحي أو لأنه اسم الأب الأكبر { وَأَصْحَـابَ الرَّسِّ } [ق : 12] هم قوم شعيب كانوا يعبدون الأصنام فكذبوا شعيباً فبيناهم حول الرس وهي البئر غير مطوية انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم ، وقيل : الرس قرية قتلوا نبيهم فهلكوا ، أو هم أصحاب الأخدود والرس الأخدود { وَقُرُونَا } وأهلكنا أمماً { بَيْنَ ذَالِكَ } [النساء : 150] المذكور { كَثِيرًا } لا يعلمها إلا الله أرسل إليهم فكذبوهم فأهلكوا { وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الامْثَـالَ } [الفرقان : 39] بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين { وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا } [الفرقان : 39] أي أهلكنا إهلاكاً ، { وَكُلا } الأول منصوب بما دل عليه { ضَرَبْنَا لَهُ الامْثَـالَ } [الفرقان : 39] وهو أنذرنا أو حذرنا والثاني بـ تبرنا لأنه فارغ له.
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
{ وَلَقَدْ أَتَوْا } [الفرقان : 40] يعني أهل مكة { عَلَى الْقَرْيَةِ } [الفرقان : 40] سدوم وهي أعظم قرى قوم لوط وكانت خمساً أهلك الله أربعاً مع أهلها وبقيت واحدة { الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } [الفرقان : 40] أي أمطر الله عليها الحجارة يعني أن قريشاً مروا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء ، ومطر السوء مفعول ثانٍ والأصل أمطرت القرية مطراً ، أو مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء
245
{ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا } [الفرقان : 40] أما شاهدوا ذلك بأبصارهم عند سفرهم الشام فيتفكروا فيؤمنوا { بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا } [الفرقان : 40] بل كانوا قوماً كفرة بالبعث لا يخافون بعثاً فلا يؤمنون ، أو لا يأملون نشوراً كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم
جزء : 3 رقم الصفحة : 245
{ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ } [الفرقان : 41] إن نافية { إِلا هُزُوًا } [الفرقان : 41] اتخذه هزواً في معنى استهزاء أي قائلين أي أهذا الذي { بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } [الفرقان : 41] والمحذوف حال والعائد إلى الذين محذوف أي بعثه.
(3/138)