بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : تفسير النسفى موافق للمطبوع داخل الصفحات
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
دار النشر : دار النفائس ـ بيروت
عدد الأجزاء / 4
تحقيق الشيخ : مروان محمد الشعار
تنبيهات مهمة بخصوص هذا الكتاب
أولا : الكتاب للأسف لا يوجد موافقا للمطبوع بأى صيغة إلى الآن وحتى نسخة شركة التراث لم تذكر فى بطاقة الكتاب أى بيانات وهذه نسخة المرجع الأكبر لشركة العريس وسأسعى فى الأيام المقبلة إن شاء الله لتوثيق نسخة شركة التراث
ثانيا : الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع وترقيم الشاملة آلى
ثالثا : ترقيم الأجزاء موافق للمطبوع بمعنى أن الجزء الأول يبدأ من أول سورة الفاتحة وحتى آخر سورة الأنعام
والجزء الثانى يبدأ من أول سورة الأعراف وحتى آخر سورة الإسراء
والجزء الثالث يبدأ من أول سورة الكهف وحتى آخر سورة فاطر
والجزء الرابع يبدأ من أول سورة يس وحتى آخر سورة الناس
رابعا : الترقيم فى أسفل الصفحة
خامسا : بعد كل مجموعة من الآيات تجد ـ على سبيل المثال ـ جزء : 1 رقم الصفحة : 29
لا عبرة بهذا الترقيم لأنه دائما يأتى متأخرا بعد تفسير مجموعة من الآيات إنما العبرة بالترقيم المنفرد
وهذا مثال :
اسم موصوف بها
31
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
وذا لا يجوز.
قوله " اسم موصوف بها " نهاية لصفحة 31
وقوله " وذا لا يجوز " بداية لصفحة 32
أما " جزء : 1 رقم الصفحة : 29 "
فهو متأخر كما ترى. أ هـ
تعريف بالمؤلف :
عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ,أبو البركات, حافظ الدين : فقيه حنفي, مفسر, من أهل إيذج (من كور أصبهان) ووفاته فيها.
نسبته إلى " نسف " ببلاد السند, بين جيحون وسمرقند.
له مصنفات جليلة, منها " مدارك التنزيل ـ ط " ثلاثة مجلدات المشهور " بتفسير النسفي " , في تفسير القرآن, و " كنز الدقائق ـ ط " في الفقه, و " المنار في أصول الفقه ـ ط " في أصول الفقه, و " كشف الأسرار ـ ط " شرح المنار, و " الوافي ـ خ " في الفروع, و " الكافي ـ خ " في شرح الوافي, و " المصفى ـ خ " في شرح منظومة أبي حفص النسفي, في الخلاف, و " عمدة العقائد ـ خ " .(1/28)
فاتحة الكتاب
مكية وقيل مدنية ، والأصح أنها مكية ومدنية ، نزلت بمكة حين فرضت الصلاة ثم نزلت بالمدينة حين حولت القبلة إلى الكعبة.
وتسمى أم القرآن للحديث قال عليه السلام " لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن " ولاشتمالها على المعاني التي في القرآن ، وسورة الوافية والكافية لذلك ، وسورة الكنز لقوله عليه السلام حاكياً عن الله تعالى : " فاتحة الكتاب كنز من كنوز عرشي " ، وسورة الشفاء والشافية لقوله عليه السلام : " فاتحة الكتاب شفاء من كل داء إلا السام " ، وسورة المثاني لأنها تثنى في كل صلاة ، وسورة الصلاة لما يروى ولأنها تكون واجبة أو فريضة ، وسورة الحمد والأساس فإنها أساس القرآن.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس.
وآيها سبع بالاتفاق.
اسم الكتاب : تفسير النسفي
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة : 1] قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك للابتداء بها ، وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه رحمهم الله ، ولذا لا يجهر بها
29
عندهم في الصلاة.
وقراء مكة والكوفة على أنها آية من الفاتحة ومن كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه رحمهم الله ، ولذا يجهرون بها في الصلاة وقالوا : قد أثبتها السلف في المصحف مع الأمر بتجريد القرآن عما ليس منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله.
ولنا حديث أبي هريرة قال : سمعت النبي عليه السلام يقول : " قال الله تعالى قسمت الصلاة ـــــ أي الفاتحة ـــــ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة : 2] قال الله تعالى : حمدني عبدي.
وإذا قال { الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة : 3] قال الله تعالى : أثنى عليّ عبدي.
وإذا قال { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] قال : مجدني عبدي.
وإذا قال { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.
فإذا قال { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " فالابتداء بقوله { الْحَمْدُ لِلَّهِ } دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة ، وإذا لم تكن من الفاتحة لا تكون من غيرها إجماعاً ، والحديث مذكور في صحاح المصابيح.
وما ذكروا لا يضرنا لأن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور عندنا ذكره فخر الإسلام في المبسوط.
وإنما يرد علينا أن لو لم نجعلها آية من القرآن وتمام تقريره في " الكافي " .
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
وتعلقت الباء بمحذوف تقديره : باسم الله أقرأ أو أتلو ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال باسم الله والبركات كان المعنى باسم الله أحل وباسم الله أرتحل ، وكذا الذابح وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له.
وإنما قدر المحذوف متأخراً لأن الأهم من الفعل
30(1/29)
والمتعلق به هو المتعلق به ، وكانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقولون باسم اللات وباسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذا بتقديمه وتأخير الفعل.
وإنما قدم الفعل في { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] (العلق : 1) لأنها أول سورة نزلت في قول ، وكان الأمر بالقراءة أهم فكان تقديم الفعل أوقع.
ويجوز أن يحمل { اقْرَأْ } على معنى افعل القراءة وحققها كقولهم فلان يعطي ويمنع غير متعدٍ إلى مقروء به ، وأن يكون { بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] مفعول { اقْرَأْ } الذي بعده.
واسم الله يتعلق بالقراءة تعلق الدهن بالإنبات في قوله { تَنابُتُ بِالدُّهْنِ } [المؤمنون : 20] (المؤمنون : 02) على معنى متبركاً باسم الله أقرأ ففيه تعليم عباده كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه.
وبنيت الباء على الكسر لأنها تلازم الحرفية والجر فكسرت لتشابه حركتها عملها ، والاسم من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون كالابن والابنة وغيرهما ؛ فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة تفادياً عن الابتداء بالساكن تعذراً ، وإذا وقعت في الدرج لم يفتقر إلى زيادة شيء.
ومنهم من لم يزدها واستغنى عنها بتحريك الساكن فقال " سم " و " سم " وهو من الأسماء المحذوفة الأعجاز كيد ودم وأصله " سمو " بدليل تصريفه كأسماء وسمي وسميت.
واشتقاقه من السمو وهو الرفعة لأن التسمية تنويه بالمسمّى وإشادة بذكره ، وحذفت الألف في الخط هنا وأثبتت في قوله : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق : 1] لأنه اجتمع فيها ـــــ أي في التسمية ـــــ مع أنها تسقط في اللفظ لكثرة الاستعمال ، وطولت الباء عوضاً عن حذفها ، وقال عمر بن عبد العزيز لكاتبه : طول الباء وأظهر السينات ودور الميم ، والله أصله الإله ونظيره الناس أصله الأناس ، حذفت الهمزة وعوض منها حرف التعريف.
والإله من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق ، كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا.
وأما الله بحذف الهمزة فمختص بالمعبود بالحق لم يطلق على غيره ، وهو اسم غير صفة لأنك تصفه ولا تصف به ، ولا تقول شيء إله كما لا تقول شيء رجل ، وتقول الله واحد صمد ، ولأن صفاته تعالى لا بد لها من موصوف تجري عليه فلو جعلتها كلها صفات لبقيت صفات غير جارية على اسم موصوف بها
31
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
وذا لا يجوز.
ولا اشتقاق لهذا الاسم عند الخليل والزجاج ومحمد ابن الحسن والحسين بن الفضل.
وقيل : معنى الاشتقاق أن ينتظم الصيغتين فصاعداً معنى واحد وصيغة هذا الاسم وصيغة قولهم " أله " إذا تحير ينتظمهما معنى التحير والدهشة ، وذلك أن الأوهام تتحير في معرفة المعبود وتدهش الفطن ولذا كثر الضلال وفشا الباطل وقل النظر الصحيح.
وقيل : هو من قولهم أله يأله إلاهاً إذا عبد فهو مصدر بمعنى مألوه أي معبود كقوله { هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ } [لقمان : 11] (لقمان : 11) أي مخلوقه.
وتفخم لامه إذا كان قبلها فتحة أو ضمة ، وترقق إذا كان قبلها كسرة.
ومنهم من يرققها بكل حال ، ومنهم من يفخم بكل حال والجمهور على الأول.
والرحمن فعلان من رحم وهو الذي وسعت رحمته كل شيء كغضبان من غضب وهو الممتلىء غضباً ، وكذا الرحيم فعيل منه كمريض من مرض.
وفي الرحمن من المبالغة ما ليس في الرحيم لأن في الرحيم زيادة واحدة وفي الرحمن زيادتين ، وزيادة اللفظ تدل على زيادة المعنى ، ولذا جاء في الدعاء يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن.
وقالوا : الرحمن خاص تسمية لأنه لا يوصف به غيره ، وعام معنى لما بينا.
والرحيم بعكسه لأنه يوصف به غيره ويخص المؤمنين ولذا قدم الرحمن وإن كان أبلغ والقياس الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
يقال : فلان عالم ذو فنون نحرير لأنه كالعلم لما لم يوصف به غير الله ، ورحمة الله إنعامه على عباده وأصلها العطف وأما قول الشاعر في مسيلمة.
وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ، فباب من تعنتهم في كفرهم.
ورحمن غير منصرف عند
32(1/30)
من زعم أن الشرط انتفاء فعلانة إذ ليس له فعلانة ، ومن زعم أن الشرط وجود فعلي صرفه إذ ليس له فعلى ، والأول الوجه { الْحَمْدُ } الوصف بالجميل على جهة التفضيل ، وهو رفع بالابتداء وأصله النصب.
وقد قرىء بإضمار فعله على أنه من المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً وكفراً.
والعدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره والخبر.
{ لِّلَّهِ } واللام متعلق بمحذوف أي واجب أو ثابت.
وقيل : الحمد والمدح أخوان وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها.
تقول : حمدت الرجل على إنعامه وحمدته على شجاعته وحسبه ، وأما الشكر فعلى النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
أي القلب ، والحمد باللسان وحده وهو إحدى شعب الشكر ومنه الحديث " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده " وجعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان أشيع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح لخفاء عمل القلب وما في عمل الجوارح من الاحتمال ، ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفران.
وقيل : المدح ثناء على ما هو له من أوصاف الكمال ككونه باقياً قادراً عالماً أبدياً أزلياً ، والشكر ثناء على ما هو منه من أوصاف الإفضال والحمد يشملهما.
والألف واللام فيه للإستغراق عندنا خلافاً للمعتزلة ، ولذا قرن باسم الله لأنه اسم ذات فيستجمع صفات الكمال وهو بناء على مسألة خلق الأفعال وقد حققته في مواضع.
{ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الفاتحة : 2] الرب المالك ومنه قول صفوان
33
لأبي سفيان : لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن.
تقول ربه يربه رباً فهو رب ، ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر للمبالغة كما وصف بالعدل.
ولم يطلقوا الرب إلاّ في الله وحده وهو في العبيد مع التقييد { إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } [يوسف : 23] (يوسف : 32) { قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [يوسف : 50] (يوسف : 05) ، وقال الواسطي : هو الخالق ابتداء ، والمربي غذاء ، والغافر انتهاء.
وهو اسم الله الأعظم والعالم كل ما علم به الخالق من الأجسام والجواهر والأعراض ، أو كل موجود سوى الله تعالى سمي به لأنه علم على وجوده.
وإنما جمع بالواو والنون مع أنه يختص بصفات العقلاء أو ما في حكمها من الأعلام لما فيه من معنى الوصقية وهي الدلالة على معنى العلم.
{ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة : 1] ذكرهما قد مر وهو دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة إذ لو كانت منها لما أعادهما لخلو الإعادة عن الإفادة.
.
{ مُلْكُ } : عاصم وعليّ ملك : غيرهما وهو الاختيار عند البعض لاستغنائه عن الإضافة ولقوله : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر : 16] (غافر : 61) ولأن كل ملك مالك وليس كل مالك ملكاً ، ولأن أمر الملك ينفذ على المالك دون عكسه.
وقيل : المالك أكثر ثواباً لأنه أكثر حروفاً.
وقرأ أبو حنيفة والحسن رضي الله عنهما ملك { يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة : 4] أي يوم الجزاء ويقال كما تدين تدان أي كما تفعل تجازى ، وهذه إضافة اسم الفاعل إلى
34
الظرف على طريق الاتساع كقولهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
يا سارق الليلة أهل الدار(1/31)
أي مالك الأمر كله في يوم الدين.
والتخصيص بيوم الدين لأن الأمر فيه لله وحده ، وإنما ساغ وقوعه صفة للمعرفة مع أن إضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية لأنه أريد به الاستمرار فكانت الإضافة حقيقية ، فساغ أن يكون صفة للمعرفة ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى من كونه رباً أي مالكاً للعالمين ومنعماً بالنعم كلها ومالكاً للأمر كله يوم الثواب والعقاب بعد الدلالة على اختصاص الحمد به في قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } [فاطر : 34] دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء عليه.
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] إيا عند الخليل وسيبويه اسم مضمر ، والكاف حرف خطاب عند سيبويه ولا محل له من الإعراب.
وعند الخليل هو اسم مضمر أضيف إيا إليه لأنه يشبه المظهر لتقدمه على الفعل والفاعل.
وقال للكوفيون : إياك بكمالها اسم وتقديم المفعول لقصد الاختصاص ، والمعنى نخصك بالعبادة وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ونخصك بطلب المعونة ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب للالتفات ، وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ } [يونس : 22] (يونس : 22) ، وقوله : { وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَـاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَـاهُ } [فاطر : 9] (فاطر : 9) ، وقول امريء القيس :
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
تطاول ليلك بالإثمد
ونام الخلي ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة
كليلة ذي العائر الأرمد
وذلك من نبإٍ جاءني
وخبرته عن أبي الأسود
فالتفت في الأبيات الثلاثة حيث لم يقل ليلي وبت وجاءه ، والعرب يستكثرون منه ويرون الكلام إذا انتقل من أسلوب إلى أسلوب أدخل في القلوب
35
عند السامع وأحسن تطرية لنشاطه وأملأ لاستلذاذ إصغائه ، وقد تختص مواقعه بفوائد ولطائف قلما تتضح إلا للحذاق المهرة والعلماء النحارير وقليل ما هم.
ومما اختص به هذا الموضع أنه لما ذكر الحقيق بالحمد والثناء ، وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل إياك يا من هذه صفاته نعبد ونستعين لا غيرك.
وقدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم الوسيلة قبل طلب الحاجة أقرب إلى الإجابة ، أو لنظم الآي كما قدم الرحمن ، وإن كان الأبلغ لا يقدم.
وأطلقت الاستعانة لتتناول كل مستعان ، فيه ، ويجوز أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادات ويكون قوله : اهدنا بياناً للمطلوب من المعونة كأنه قيل : كيف أعينكم؟ فقالوا : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6] أي ثبتنا على المنهاج الواضح كقولك للقائم : قم حتى أعود إليك أي أثبت على ما أنت عليه.
أو اهدنا في الاستقبال كما هديتنا في الحال.
وهدى يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد ، فأما تعديه إلى مفعول آخر فقد جاء متعدياً إليه بنفسه كهذه الآية ، وقد جاء متعدياً باللام وبإلى كقوله تعالى : { هَدَاـانَا لِهَـاذَا } [الأعراف : 43] (الأعراف : 34) وقوله : { هَدَاـانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (الأنعام : 161).
والسراط : الجادة من سرط الشيء إذا ابتلعه كأنه يسرط السابلة إذا سلكوه.
والصراط من قلب السين صاداً لتجانس الطاء في الإطباق لأن الصاد والضاد والطاء والظاء من حروف الإطباق ، وقد تشم الصاد صوت الزاي لأن الزاي إلى الطاء أقرب لأنهما مجهورتان وهي قراءة حمزة ،
36
والسين قراءة ابن كثير في كل القرآن وهي الأصل في الكلمة ، والباقون بالصاد الخالصة وهي لغة قريش وهي الثابتة في المصحف الإمام ، ويذكر ويؤنث كالطريق والسبيل ، والمراد به طريق الحق وهو ملة الإسلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 29
{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة : 7] بدل من الصراط وهو في حكم تكرير العامل ، وفائدته التأكيد والإشعار بأن الصراط المستقيم تفسيره صراط المسلمين ليكون ذلك شهادة لصراط المسلمين بالاستقامة على أبلغ وجه وآكده وهم المؤمنون أو الأنبياء عليهم السلام أو قوم موسى صلى الله عليه وسلّم قبل أن يغيروا { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّآلِّينَ } [الفاتحة : 7] بدل من الذين أنعمت عليهم ، يعني أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال أو صفة للذين ، يعني أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة الإيمان وبين السلامة من غضب الله والضلال.
وإنما ساغ وقوعه صفة للذين وهو معرفة و " غير " لا يتعرف بالإضافة لأنه إذا وقع بين متضادين وكانا معرفتين تعرف بالإضافة نحو عجبت من الحركة غير السكون.
والمنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان ، ولأن الذين قريب من النكرة لأنه لم يرد به قوم بأعيانهم وغير المغضوب عليهم قريب من المعرفة للتخصيص الحاصل له بإضافته ، فكل واحد منهما فيه إبهام من وجه واختصاص من وجه فاستويا.
وعليهم الأولى محلها النصب على المفعولية ، ومحل الثانية الرفع على الفاعلية.
وغضب الله إرادة الانتقام من المكذبين وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على ما تحت يده.
وقيل : المغضوب عليهم هم اليهود لقوله تعالى : { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة : 60] (المائدة : 06) والضالون هم النصارى لقوله تعالى { قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ } [المائدة : 77] (المائدة : 77) ، ولا زائدة عند البصريين للتوكيد ، وعند الكوفيين هي بمعنى غير.
آمين صوت سمي به الفعل الذي هو استجب كما أن رويد اسم لأمهل.
وعن ابن
37
عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن معنى آمين فقال : " افعل " وهو مبني وفيه لغتان : مد ألفه وقصرها وهو الأصل والمد بإشباع الهمزة قال :
يا رب لا تسلبّني حبها أبدا
ويرحم الله عبداً قال آمينا
وقال : آمين فزاد الله ما بيننا بعداً.
قال عليه السلام : " لقنني جبريل آمين عند فراغي من قراءة فاتحة الكتاب " وقال : إنه كالختم على الكتاب.
وليس من القرآن بدليل أنه لم يثبت في المصاحف.
38(1/32)
سورة البقرة
مدنية وهي مائتان وست أو سبع وثمانون آية
{ الم } ونظائرها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، فالقاف تدل على أول حروف قال ، والألف تدل على أوسط حروف قال ، واللام تدل على الحرف الأخير منه وكذلك ما أشبهها.
والدليل على أنها أسماء أن كلاً منها يدل على معنى في نفسه ويتصرف فيها بالإمالة والتفخيم وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير وهي معربة ، وإنما سكنت سكون زيد وغيره من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه.
وقيل : إنها مبنية كالأصوات نحو غاق في حكاية صوت الغراب ، ثم الجمهور على أنها أسماء السورة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أقسم الله بهذه الحروف.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنها اسم الله الأعظم.
وقيل : إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله.
وما سميت معجمة إلا لإعجامها وإبهامها.
وقيل : ورود هذه الأسماء على نمط التعديد كالإيقاظ لمن تحدى بالقران.
وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا إن لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة وهم أمراء الكلام إلا لأنه ليس من كلام البشر وأنه كلام خالق القوى والقدر ، وهذا القول من الخلافة بالقبول بمنزل.
وقيل : إنما
39(1/33)
وردت السور مصدرة بذلك ليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإغراب وتقدمة من دلائل الإعجاز ، وذلك أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام الأميّون منهم وأهل الكتاب ـــــ بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم ، وكان مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة ، فكان حكم النطق بذلك من اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن التي لم تكن قريش ومن يضاهيهم في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي وشاهد لصحة نبوته.
واعلم أن المذكور في الفواتح نصف أسامي حروف المعجم وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم.
وهي مشتملة على أنصاف أجناس الحروف ، فمن المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون ، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ، ومن المنخفضة نصفها واللام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء والنون ، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء وغير المذكورة من هذه الأجناس مكثورة بالمذكورة منها.
وقد علمت أن معظم الشيء ينزل منزلة كله ، فكأن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما مر من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم.
وإنما جاءت مفرقة على السور لأن إعادة التنبيه على المتحدى به مؤلفاً منها لا غير أوصل إلى الغرض ، وكذا كل تكرير ورد في القرآن فالمطلوب منه تمكين المكرر في النفوس وتقريره.
ولم تجىء على وتيرة واحدة بل اختلفت أعداد حروفها مثل : ص و ق و ن وطه وطس ويس وحم وألم وألر وطسم وألمص وألمر وكهيعص وحم عسق.
فوردت على حرف وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة كعادة افتنانهم في الكلام.
وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فسلك في الفواتح هذا المسلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
و { الام } آية حيث وقعت ، وكذا { الاماص } آية و { الامار } لم
40
(1/34)
تعد آية وكذا { الار } لم تعد آية في سورها الخمس و { طسام } آية في سورتيها و { طه } و { يس } آيتان و و { طس } ليست بآية و { حم } آية في سورها كلها و { حم * تَنزِيلُ الْكِتَـابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } آيتان و { كاهيعاص } آية و { } و { } و { ق } ثلاثتها لم تعد آية وهذا عند الكوفيين ومن عداهم لم يعد شيئاً منها آية ، وهذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور ويوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده ، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات ، أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله { الام } (آل عمران : 1) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال : { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } [البقرة : 255] (آل عمران : 1) ولهذه الفواتح محل من الإعراب فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام وهو الرفع على الابتداء ، أو النصب أو الجر لصحة القسم بها وكونها بمنزلة الله والله على اللغتين ، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل في مذهبه كما لا محل للجملة المبتدأة وللمفردات المعددة.
{ ذَالِكَ الْكِتَـابُ } [البقرة : 2] أي ذلك الكتاب الذي وعد به على لسان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو ذلك إشارة إلى الم ، وإنما ذكّر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة ، لأن الكتاب إن كان خبره كان ذلك في معناه ومسماه مسماه فجاز إجراء حكمه عليه بالتذكير والتأنيث ، وإن كان صفته فالإشارة به إلى الكتاب صريحاً لأن اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له ، تقول : هند ذلك الإنسان أو ذلك الشخص فعل كذا ، ووجه تأليف ذلك الكتاب مع الم إن جعلت الم إسماً للسورة أن يكون الم مبتدأ وذلك مبتدأ ثانياً والكتاب خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول ، ومعناه أن ذلك هو الكتاب الكامل كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما
41
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
يكون في الرجال من مرضيات الخصال ، وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف أي هذه الم جملة وذلك الكتاب جملة أخرى ، وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل { لا رَيْبَ } [الأنعام : 12] لا شك وهو مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة.
وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها ومنه قوله عليه السلام : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة وإن الصدق طمأنينة ، أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن ، ومنه ريب الزمان وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه.
وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير لأن المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه لا أن أحداً لا يرتاب ، وإنما لم يقل لا فيه ريب كما قال لا فيها غول لأن والمراد في إيلاء الريب حرف النفي نفي الريب عنه وإثبات أنه حق لا باطل كما يزعم الكفار ، ولو أولى الظرف يقصد إلى ما يبعد عن المراد وهو أن كتاباً آخر فيه ريب لا فيه كما قصد في قوله تعالى : { لا فِيهَا غَوْلٌ } [الصافات : 47] (الصافات : 74) ، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي.
، والوقف على فيه هو المشهور.
وعن نافع وعاصم أنهما وقفاً على ريب.
ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً والتقدير : لا ريب فيه.
{ فِيهِ هُدًى } [البقرة : 2] فيه بإشباع كل هاء مكي ووافقه حفص في فيه مهاناً وهو الأصل كقولك مررت به ومن عنده وفي داره.
وكما لا يقال في داره ومن عنده وجب أن لا يقال فيه.
وقال سيبويه ما قاله مؤد إلى الجمع بين ثلاثة أحرف سواكن : الياء قبل الهاء ، والهاء إذاً الهاء المتحركة في كلامهم بمنزلة الساكنة
42
(1/35)
لأنها الهاء خفية والخفي قريب من الساكن ، والياء بعدها.
والهدى مصدر على فعل كالبكى وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله : { أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى } [البقرة : 16] (البقرة : 61) وإنما قيل هدى { لِّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون لأنه كقولك للعزيز المكرم : " أعزك الله وأكرمك " ، تريد طلب الزيادة على ما هو ثابت فيه واستدامته كقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6] ، أو لأنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين كقوله عليه السلام " من قتل قتيلاً فله سلبه " وقول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض ، فسمى المشارف للقتل والمرض قتيلاً ومريضاً.
ولم يقل : هدى للضالين.
لأنهم فريقان فريق علم بقاءهم على الضلالة ، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى وهو هدى لهؤلاء فحسب ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا فقيل هدى للمتقين مع أن فيه تصديراً للسورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله.
والمتقى في اللغة إسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى ، ففاؤها واو ولامها ياء ، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى.
والوقاية فرط الصيانة ، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك.
ومحل هدى الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع لا ريب فيه لذلك ، أو النصب على الحال من الهاء في فيه والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يقال : إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، وذلك الكتاب جملة ثانية ، ولا ريب فيه ثالثة ، وهدى للمتقين رابعة.
وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة ، بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلاً بكماله لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ،
43
ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة.
وقيل لعالم : فيم لذتك؟ قال : في حجة تتبختر اتضاحاً وفي شبهة تتضاءل افتضاهاً.
ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثم لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ونظمت هذا النظم الرشيق من نكتة ذات جزالة.
ففي الأولى الحذف والرمز إن المطلوب بألطف وجه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ، ووضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو " هاد " كأن نفسه هداية وإيراده منكراً ففيه إشعار بأنه هدى لا يكتنه كنهه.
والإيجاز في ذكر المتقين كما مر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ الَّذِينَ } في موضع رفع أو نصب على المدح أي هم الذين يؤمنون أو أعني الذين يؤمنون ، أو هو مبتدأ وخبره " أولئك على هدى " ، أو جر على أنه صفة للمتقين ، وهي صفة واردة بياناً وكشفاً للمتقين كقولك " زيد الفقيه " المحقق لاشتمالها على ما أسست عليه حال المتقين من الإيمان الذي هو أساس الحسنات ، والصلاة والصدقة فهما العبادات البدنية والمالية وهما العيار على غيرهما ، ألا ترى أن النبي عليه السلام سمى الصلاة عماد الدين ، وجعل الفاصل بين الإسلام والكفر ترك الصلاة ، وسمى الزكاة قنطرة الإسلام فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات ، ولذلك اختصر الكلام بأن استغنى عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها مع ما في ذلك من الإفصاح عن فضل هاتين العبادتين ، أو صفة مسرودة مع المتقين تفيد غير فائدتها كقولك : زيد الفقيه المتكلم الطبيب ، ويكون المراد بالمتقين الذين يجتنبون السيآت { يُؤْمِنُونَ } يصدقون وهو إفعال من الأمن وقولهم : آمنه أي صدقه وحقيقته
44
(1/36)
أمنه التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى أقر واعترف.
{ بِالْغَيْبِ } بما غاب عنهم مما أنبأهم به النبي عليه السلام من أمر البعث والنشور والحساب وغير ذلك ، فهو بمعنى الغائب تسمية بالمصدر من قولك " غاب الشيء غيباً " .
هذا إن جعلته صلة للإيمان ، وإن جعلته حالاً كان بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيبة ، والإيمان الصحيح أن يقر باللسان ويصدق بالجنان والعمل ليس بداخل في الإيمان.
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ يُنفِقُونَ } أي يؤدونها فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت وهو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح لوجودها فيها ، أو أريد بإقامة الصلاة تعديل أركانها من أقام العود إذا قومه ، أو الدوام عليها والمحافظة من قامت السوق إذا نفقت لأنه إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإذا أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه ، والصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى ، وكتابتها بالواو على لفظ المفخم.
وحقيقة صلى حرك الصلوين أي الأليتين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده.
وقيل للداعي مصل تشبيهاً له في تخشعه بالراكع والساجد { وَمِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
أعطيناهم.
و " ما " بمعنى " الذي " { يُنفِقُونَ } يتصدقون.
أدخل " من " التبعيضية صيانة لهم عن التبذير المنهي عنه وقدم المفعول دلالة على كونه أهم والمراد به الزكاة لاقترانه بالصلاة التي هي أختها أو هي غيرها من النفقات في سبل الخير لمجيئه مطلقاً ، وأنفق الشيء وأنفده أخوان كنفق الشيء ونفد ، وكل ما جاء مما فاؤه نون وعينه فاء فدال على معنى الخروج والذهاب.
ودلت الآية على أن الأعمال ليست من الإيمان حيث عطف الصلاة والزكاة على الإيمان والعطف يتقضي المغايرة.
{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 92] هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه من الذين آمنوا بكل وحي أنزل من عند الله وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى وأن النار لن تمسهم إلا
45
أياماً معدودات ، ثم إن عطفتهم على الذين يؤمنون بالغيب دخلوا في جملة المتقين ، وإن عطفتهم على المتقين لم يدخلوا فكأنه قيل : هدى للمتقين ، وهدى للذين يؤمنون بما أنزل إليك ، أو المراد به وصف الأولين ووسط العاطف كما يوسط بين الصفات في قولك : هو الشجاع والجواد ، وقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
والمعنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [النساء : 166] يعني القرآن المراد جميع القرآن لا القدر الذي سبق إنزاله وقت إيمانهم ، لأنه الإيمان بالجميع واجب.
وإنما عبر عنه بلفظ الماضي وإن كان بعضه مترقباً تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، ولأنه إذا كان بعضه نازلاً وبعضه منتظر النزول جعل كأن كله قد نزل.
{ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [النساء : 162] يعني سائرالكتب المنزلة على النبيين عليهم الصلاة والسلام { وَبِالاخِرَةِ } وهي تأنيث الآخر الذي هو ضد الأول وهي صفة والموصوف محذوف وهو الدار بدليل قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الاخِرَةُ } [القصص : 83] (القصص : 38) وهي من الصفات الغالبة وكذلك الدنيا.
وعن نافع أنه خففها بأن حذف الهمزة وألقى حركتها على اللام.
{ هُمْ يُوقِنُونَ } [البقرة : 4] الإيقان إتقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
{ أؤلئك عَلَى هُدًى } [البقرة : 5] الجملة في موضع الرفع إن كان " الذين يؤمنون بالغيب " مبتدأ وإلا فلا محمل لها ، ويجوز أن يجري الموصول الأول على المتقين وأن يرتفع الثاني على الإبتداء وأولئك خبره ، ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لا يؤمنون بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله.
ومعنى الاستعلاء في " على هدى " مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه
46
(1/37)
ونحوه " هو على الحق وعلى الباطل وقد صرحوا بذلك في قولهم : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى.
ومعنى هدى { مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 3] أي أوتوه من عنده.
ونكر هدى ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه كأنه قيل على أي هدى ونحوه " لقد وقعت على لحم " أي على لحم عظيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] أي الظافرون بما طلبوا الناجون عما هربوا ؛ فالفلاح درك البغية والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ، والتركيب دال على معنى الشق والفتح وكذا أخواته في الفاء والعين نحو " فلق وفلز وفلى " ، وجاء العطف هنا بخلاف قوله : { أؤلئك كَالانْعَـامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أؤلئك هُمُ الْغَـافِلُونَ } [الأعراف : 179] الأعراف : 971) لاختلاف الخبرين المقتضيين للعطف هنا واتحاد الغفلة والتشبيه بالبهائم ثمّ ، فكانت الثانية مقررة للأولى فهي من العطف بمعزل ، وهم فصل.
وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لاصفة والتوكيد وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره ، أو هو مبتدأ و " المفلحون " خبره ، والجملة خبر " أولئك " فانظر كيف قرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر إسم الإشارة وتكريره ، ففيه تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى فهي ثابتة لهم بالفلاح.
وتعريف المفلحون ففيه دلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك فاستخبرت من هو؟ فقيل : زيد التائب أي هو الذي أخبرت بتوبته.
وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.
اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة (الآيتان : 6 ، 7).
لما قدم ذكر أوليائه بصفاتهم المقربة إليه ، وبيّن أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى.
بقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 39
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] الكفر ستر الحق بالجحود ، والتركيب دال على الستر ولذا سمي الزراع كافراً وكذا الليل.
ولم يأت بالعاطف هنا كما في قوله : { إِنَّ الابْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ } (الأنفطار : 31 ، 41) لأن الجملة الأولى هنا مسوقة بياناً لذكر الكتاب لا خبراً عن المؤمنين وسيقت الثانية للإخبار عن الكفار بكذا ، فبين الجملتين تفاوت في المراد وهما على حد لا مجال للعطف فيه ، ولئن كان مبتدأ على تقرير فهو كالجاري عليه ، والمراد بالذين كفروا أناس بأعيانهم علم الله أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما.
{ سَوَا ءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [البقرة : 6] بهمزتين كوفي ، وسواء بمعنى الاستواء ، وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى : { إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء } [آل عمران : 64] (آل عمران : 46) ، أي مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر لإن وأأنذرتهم أم لم تنذرهم مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارك وعدمه.
أو يكون سواء خبراً مقدماً وأأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء أي سواء عليهم إنذارك وعدمه ، والجملة خبر لـ إن وإنما جاز الإخبار عن الفعل مع أنه خبر أبداً لأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى.
والهمزة وأم مجردتان لمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً.
قال سيبويه : جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك " اللهم اغفر لنا أيتها العصابة " يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما جرى ذلك على صورة النداء ولا نداء.
والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر على المعاصي
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
{ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] جملة مؤكدة للجملة قبلها أو خبر لإن ، والجملة قبلها اعتراض أو خبر بعد خبر.
والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وليكون الإرسال عاماً وليثاب الرسول صلى الله عليه وسلّم
48
(1/38)
{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [البقرة : 7] قال الزجاج : الختم التغطية لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه تغطية له لئلا يطلع عليه.
وقال ابن عباس : طبع الله على قلوبهم فلا يعقلون الخير.
يعني أن الله صعد عليها فجعلها بحيث لا يخرج منها ما فيها من الكفر ولا يدخلها ما ليس فيها من الإيمان.
وحاصل الختم والطبع خلق الظلمة والضيق في صدر العبد عندنا فلا يؤمن ما دامت تلك الظلمة في قلبه.
وعند المعتزلة أعلام محض على القلوب بما يظهر للملائكة أنهم كفار فيلعنونهم ولا يدعون لهم بخير.
وقال بعضهم : إن إسناد الختم إلى الله تعالى مجاز والخاتم في الحقيقة الكافر ، إلا أنه تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب فيقال : بنى الأمير المدينة ، لأن للفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والمسبب له ، فإسناده إلى الفاعل حقيقة.
وقد يسند إلى هذه الأشياء مجازاً لمضاهاتها الفاعل في ملابسة الفعل كما يضاهي الرجل الأسد في جرأته فيستعار له إسمه وهذا فرع مسألة خلق الأفعال { وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [البقرة : 7] وحد السمع كما وحد البطن في قوله :
كلوا من بعض بطنكم تعفوا
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
لأمن اللبس ولأن السمع مصدر في أصله يقال : سمعت الشيء سمعاً وسماعاً ، والمصدر لا يجمع لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير فلا يحتاج فيه إلى التثنية والجمع فلمح الأصل.
وقيل : المضاف محذوف أي وعلى مواضع سمعهم وقرىء " وعلى أسماعهم " .
{ وَعَلَى أَبْصَـارِهِمْ غِشَـاوَةٌ } [البقرة : 7] بالرفع خبر ومبتدأ ، والبصر : نور العين وهو ما يبصر به الرائي ، كما أن البصيرة نور القلب وهي ما به يستبصر ويتأمل وكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى فيهما آلتين للإبصار والاستبصار.
والغشاوة : الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة والقلادة.
والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية لقوله : { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَـاوَةً } [الجاثية : 23] (الجاثية : 32) ، ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
ونصب المفضل وحده غشاوة بإضمار " جعل " وتكرير الجار في
49
قوله وعلى سمعهم دليل على شدة الختم في الموضعين.
قال الشيخ الإمام أبو منصور بن علي رحمه الله : الكافر لما لم يسمع قول الحق ولم ينظر في نفسه وفي غيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث فيعلم أن لا بد من صانع ، جعل كأن على بصره وسمعه غشاوة ، وإن لم يكن ذلك حقيقة وهذا دليل على أن الأسماع عنده داخلة في حكم التغشية.
والآية حجة لنا على المعتزلة في الأصلح فإنه أخبر أنه ختم على قلوبهم ولا شك أن ترك الختم أصلح لهم.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] العذاب مثل النكال بناء ومعنى لأنك تقول أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول نكل عنه ، والفرق بين العظيم والكبير أن العظيم يقابل الحقير والكبير يقابل الصغير فكأن العظيم فوق الكبير كما أن الحقير دون الصغير.
ويستعملان في الجثة والأحداث جميعاً تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره.
ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من التغطية غير ما يتعارفه الناس وهو غطاء التعامي عن آيات الله ، ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم من العذاب لا يعلم كنهه إلا الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
(1/39)
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 8] افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ، ثم ثنى بالكافرين قلوباً وألسنة ، ثم ثلث بالمنافقين الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم أخبث الكفرة لأنهم خلطوا بالكفر استهزاءً وخداعاً ولذا نزل فيهم { إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء : 145].
وقال مجاهد : أربع آيات من أول السورة في نعت المؤمنين ، وآيتان في ذكر الكافرين ، وثلاث عشرة آية في المنافقين ، نعى عليهم فيها نكرهم وخبثهم وسفههم ، واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً ، وضرب لهم الأمثال الشنيعة.
وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة.
وأصل ناس أناس
50
حذفت همزته تخفيفاً وحذفها كاللازم مع لام التعريف لا يكاد يقال الأناس ويشهد لأصله إنسان وأناسي وإنس ، وسموا به لظهروهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم.
ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول فإنك تقول وزن قه افعل وليس معك إلا العين ، وهو من أسماء الجمع ولام التعريف فيه للجنس ومن موصوفة ويقول صفة لها كأنه قيل ومن الناس ناس يقولون كذا.
وإنما خصوا الإيمان بالله وباليوم الآخر وهو الوقت الذي لا حد له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع ، وإنما سمي بالآخر لتأخره عن الأوقات المنقضية أو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار لأنهم أوهموا في هذا المقال أنهم أحاطوا بجانبي الإيمان أوله وآخره ، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى مسائل المبدأ وهي العلم بالصانع وصفاته وأسمائه ، ومسائل المعاد وهي العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة.
وفي تكرير الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام.
وإنما طابق قوله { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 8] وهو في ذكر شأن الفاعل لا الفعل ، قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، وهو في ذكر شأن الفعل لا الفاعل لأن المراد إنكار ما ادعوه ونفيه على أبلغ وجه وآكده وهو إخراج ذواتهم من أن تكون طائفة من المؤمنين ، ونحوه قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
المائدة : 37] (المائدة : 73) ، فهو أبلغ من قولك " وما يخرجون منها " .
وأطلق الإيمان في الثاني بعد تقييده في الأول لأنه يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه ، ويحتمل أن يراد نفي أصل الإيمان وفي ضمنه نفي المذكور أولاً.
والآية تنفي قول الكرامية : إن الإيمان هو الإقرار باللسان لا غير لأنه نفي عنهم اسم الإيمان مع وجود الإقرار منهم ، وتؤيد قول أهل السنة إنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان.
ودخلت الباء في خبر " ما " مؤكدة للنفي لأنه يستدل به السامع على الجحد إذا غفل عن أول الكلام ، ومن موحد اللفظ فلذا قيل يقول وجمع وما هم بمؤمنين نظراً إلى معناه.
51
(1/40)
{ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ } [البقرة : 9] أي رسول الله صلى الله عليه وسلّمفحذف المضاف كقوله { وَسْـاَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف : 82] (يوسف : 28) كذا قاله أبو علي رحمه الله وغيره ، أي يظهرون غير ما في أنفسهم.
فالخداع إظهار غير ما في النفس ، وقد رفع الله منزلة النبي صلى الله عليه وسلّم حيث جعل خداعه خداعه وهو كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [الفتح : 10] (الفتح : 01) وقيل : معناه يخادعون الله في زعمهم لأنهم يظنون أن الله ممن يصح خداعه ، وهذا المثال يقع كثيراً لغير اثنين نحو قولك " عاقبت اللص " .
وقد قرىء " يخدعون الله " وهو بيان ليقول أو مستأنف كأنه قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين وما منفعتهم في ذلك؟ قيل : يخادعون الله ، ومنفعتهم في ذلك متاركتهم عن المحاربة التي كانت مع من سواهم من الكفار واجراء أحكام المؤمنين عليهم ونيلهم من الغنائم وغير ذلك.
قال صاحب الوقوف : الوقف لازم على بمؤمنين لأنه لو وصل لصار التقدير وما هم بمؤمنين مخادعين فينتفي الوصل كقولك " ما هو برجل كاذب " والمراد نفي الإيمان عنهم وإثبات الخداع لهم.
ومن جعل يخادعون حالاً من الضمير في يقول والعامل فيها يقول والتقدير يقول آمنا بالله مخادعين أو حالاً من الضمير في بمؤمنين والعامل فيها اسم الفاعل والتقدير وما هم بمؤمنين في حال خداعهم لا يقف والوجه الأول : { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 165] أي يخادعون رسول الله والمؤمنين بإظهار الإيمان وإضمار الكفر.
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } [البقرة : 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن ضررها يلحقهم.
وحاصل خداعهم وهو العذاب في الآخرة يرجع إليهم فكأنهم خدعوا أنفسهم وما يخادعون.
أبو عمرو ونافع ومكي للمطابقة وعذر الأولين أن خدع وخادع هنا بمعنى واحد ، والنفس ذات
52
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
الشيء وحقيقته.
ثم قيل للقلب والروح النفس لأن النفس بهما ، وللدم نفس لأن قوامها بالدم ، وللماء نفس لفرط حاجتها إليه ، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم ، والمعنى بمخادعتهم ذواتهم أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] أن حاصل خداعهم يرجع إليهم والشعور علم الشيء علم حس من الشعار وهو ثوب يلي الجسد ، ومشاعر الإنسان حواسه لأنها آلات الشعور ، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس وهم ، لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
{ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [محمد : 29] أي شك ونفاق لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد.
في الحديث مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين والمريض متردد بين الحياة والموت ، ولأن المرض ضد الصحة والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسماً لكل فساد والشك والنفاق فساد في القلب.
{ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا } [البقرة : 10] أي ضعفاً عن الانتصار وعجزاً عن الاقتدار.
وقيل : المراد به خلق النفاق في حالة البقاء بخلق أمثاله كما عرف في زيادة الإيمان.
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم { بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة : 10] كوفي.
أي بكذبهم في قولهم : آمنا بالله وباليوم الآخر ، فما مع الفعل بمعنى المصدر ، والكذب الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به يكذبون غيرهم أي بتكذيبهم النبي عليه السلام فيما جاء به.
وقيل : هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل صدق ونظيرهما بأن الشأ وبين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 48
.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 91] معطوف على يكذبون ويجوز أن يعطف على يقول آمنا لأنك لو قلت ومن الناس من إذا قيل لهم { لا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ } [البقرة : 11] لكان صحيحاً ، والفساد خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به ، وضده الصلاح وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة.
والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية ، وكان فساد
53
(1/41)
المنافقين في الأرض أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم وذلك مما يؤدي إلى هيج الفتن بينهم.
{ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة : 11] بين المؤمنين والكافرين بالمداراة يعني أن صفة المصلحين خلصت لنا وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد ، لأن " إنما " لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم كقولك " إنما ينطلق زيد وإنما زيد كاتب " و " ما " كافة لأنها تكفها عن العمل.
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 12] أنهم مفسدون فحذف المفعول للعمل به.
" ألا " مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي لإعطاء معنى التنبيه على تحقق ما بعدها ، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحققاً كقوله تعالى : { أَلَيْسَ ذَالِكَ بِقَـادِرٍ } [القيامة : 40] (القيامة : 04) ، ولكونها في هذا المنصب من التحقيق لا تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم ، وقد رد الله ما ادعوه من الانتظام في جملة المصلحين أبلغ رد وأدله على سخط عظيم والمبالغة فيه من جهة الاستئناف ، وما في " ألا " و " إن " من التأكيد وتعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله لا يشعرون .
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ ءَامَنَ السُّفَهَآءُ } [البقرة : 13] نصحوهم من وجهين : أحدهما تقبيح ما كانوا عليه لبعده عن الصواب وجره إلى الفساد ، وثانيهما تبصيرهم الطريق الأسدّ من اتباع ذوي الأحلام ، فكان من جوابهم أن سفهوهم لتمادي جهلهم ، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.
وإنما صح إسناد قيل إلى لا تفسدوا وآمنوا مع أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يصح ، لأنه إسناد إلى لفظ الفعل والممتنع إسناد الفعل إلى معنى الفعل فكأنه قيل : وإذا قيل لهم هذا القول ومنه زعموا مطية الكذب.
و " ما " في كما كافة في " ربما " ، أو مصدرية كما في { بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 25] (التوبة : 52) واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن معه
54
وهم ناس معهودون ، أو عبد الله بن سلام وأشياعه أي كما آمن أصحابكم وإخوانكم ، أو للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم ، والكاف في كما في موضع النصب لأنه صفة مصدر محذوف أي إيماناً مثل إيمان الناس ومثله كما آمن السفهاء.
والاستفهام في أنؤمن للإنكار ، في السفهاء مشار بها إلى الناس ، وإنما سفهوهم وهم العقلاء المراجيح لأنهم لجهلهم اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق وأن ما عداه باطل ، ومن ركب متن الباطل كان سفيهاً والسفه سخافة العقل وخفة الحلم.
{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَـاكِن لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 13] أنهم هم السفهاء.
وإنما ذكر هنا لا يعلمون وفيما تقدم لا يشعرون لأنه قد ذكر السفه وهوجهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له ، ولأن الإيمان يحتاج فيه إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر المعرفة ، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس.
والسفهاء خبر " إن " و " هم " فصل أو مبتدأ والسفهاء خبرهم والجملة خبر " إن " .
{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا } [البقرة : 14] وقرأ أبو حنيفة رحمه الله " وإذا لاقوا " يقال لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه.
الآية الأولى في بيان مذهب المنافقين والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان ما كانوا يعملون مع المؤمنين من الاستهزاء بهم ولقائهم بوجوه المصادقين وإيهامهم أنهم معهم.
{ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَـاطِينِهِمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
البقرة : 14] خلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، وبإلى أبلغ لأن فيه دلالة الابتداء والانتهاء أي إذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم ، ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى.
وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم وهم اليهود.
وعن سيبويه أن نون الشياطين أصلية بدليل قولهم " تشيطن " ، وعنه أنها زائدة واشتقاقه من " شطن " إذا بعد لبعده من الصلاح والخير ، أو من شاط إذا بطل ومن أسمائه الباطل.
{ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ } [البقرة : 14] إنا مصاحبوكم وموافقوكم على دينكم.
وإنما خاطبوا
55
(1/42)
المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالاسمية محققة بـ " إن " لأنهم في خطابهم مع المؤمنين في ادعاء حدوث الإيمان منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه إذ ليس لهم من عقائدهم باعث ومحرك ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد والمبالغة ، وكيف يطمعون في رواجه وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار.
وأما خطابهم مع إخوانهم فقد كان عن رغبة وقد كان متقبلاً منهم رائجاً عنهم فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتأكيد.
وقوله { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [البقرة : 14] تأكيد لقوله " إنا معكم " لأن معناه الثبات على اليهودية ، وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع لهم منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع لكونه معتداً به ، ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته أو استنئاف كأنهم اعترضوا عليهم بقولهم حين قالوا إنا معكم إن كنتم معنا فلم توافقون المؤمنين فقالوا إنما نحن مستهزئون.
والاستهزاء السخرية والاستخفاف وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ مات على المكان.
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } أي يجازيهم على استهزائهم فسمى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله تعالى : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04).
{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [البقرة : 194] (البقرة : 491) فسمى جزاء السيئة سيئة وجزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الجزاء سيئة واعتداء ، وهذا لأن الاستهزاء لا يجوز على الله تعالى من حيث الحقيقة لأنه من باب العبث وتعالى عنه.
قال الزجاج : هو الوجه المختار.
واستئناف قوله تعالى الله يستهزىء بهم من غير عطف في غاية الجزالة والفخامة ، وفيه أن الله هو الذي يستهزىء بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء لما ينزل بهم من النكال والذل والهوان.
ولما كانت نكايات الله وبلاياه تنزل عليهم ساعة فساعة قيل الله يستهزىء بهم ولم يقل الله مستهزىء بهم ليكون طبقاً لقوله إنما نحن مستهزؤون
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
{ وَيَمُدُّهُمْ } أي يمهلهم عن الزجاج { فِي طُغْيَـانِهِمْ } [البقرة : 15] في غلوهم في كفرهم { يَعْمَهُونَ } حال أي يتحيرون ويترددون وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح.
56
{ أُوالَـائِكَ } مبتدأ خبره.
{ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى } [البقرة : 16] أي استبدلوها به واختاروها عليه.
وإنما قال اشتروا الضلالة بالهدى ولم يكونوا على هدى لأنها في قوم آمنوا ثم كفروا ، أو في اليهود الذين كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلّم فلما جاءهم كفروا به ، أو جعلوا لتمكنهم منه كأن الهدى قائم فيهم فتركوه بالضلالة ، وفيه دليل على جواز البيع تعاطياً لأنهم لم يتلفظوا الشراء ولكن تركوا الهدى بالضلالة عن اختيارهم ، وسمي ذلك شراء فصار دليلاً لنا على أن من أخذ شيئاً من غيره ترك عليه عوضه برضاه فقد اشتراه وإن لم يتكلم به.
والضلالة الجور عن القصد وفقد الاهتداء ، يقال ضل منزله فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
{ فَمَا رَبِحَت تِّجَـارَتُهُمْ } [البقرة : 16] الربح الفضل على رأس المال ، والتجارة صناعة التاجر وهو الذي يبيع ويشتري للربح ، وإسناد الربح إلى التجارة من الإسناد المجازي ، ومعناه فما ربحوا في تجارتهم إذ التجارة لا تربح ، ولما وقع شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ذكر الربح والتجارة ترشيحاً له كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية
وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب أتبعه ذكر التعشيش والوكر.
{ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [البقرة : 16] لطرق التجارة كما يكون التجار المتصرفون العالمون بما يربح فيه ويخسر.
والمعنى أن مطلوب التجار سلامة رأس المال والربح وهؤلاء قد أضاعوهما ، فرأس مالهم الهدى ولم يبق لهم مع الضلالة ، وإذا لم يبق لهم إلا الضلالة لم يوصفوا بإصابة الربح وإن ظفروا بالأغراض الدنيوية لأن الضال خاسر ، ولأنه لا يقال لمن لم يسلم له رأس ماله قد ربح.
وقيل : الذين صفة أولئك وفما ربحت تجارتهم إلى آخر الآية في محل رفع خبر أولئك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 53
(1/43)
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَارًا } لما جاء بحقيقة صفتهم عقبها بضرب
57
المثل زيادة في الكشف وتتميماً للبيان ، ولضرب الأمثال في إبراز خفيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق تأثير ظاهر ، ولقد كثر ذلك في الكتب السماوية ومن سور الإنجيل سورة الأمثال.
والمثل في أصل كلامهم هو المثل وهو النظير.
يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده مثل ولم يضربوا مثلاً إلا قولاً فيه غرابة ولذا حوفظ عليه فلا يغير.
وقد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة كأنه قيل : حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد ناراً ، وكذلك قوله { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الرعد : 35] (الرعد : 53) أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة الشأن ، ثم أخذ في بيان عجائبها ولله المثل الأعلى أي الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة ووضع الذي موضع الذين كقوله { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة : 69] (التوبة : 96) فلا يكون تمثيل الجماعة بالواحدة ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الفوج الذي استوقد ناراً على أن ذوات المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم منه تشبيه الجماعة بالواحد إنما شبهت قصتهم بقصة المستوقد.
ومعنى استوقد أوقد ، ووقود ووقود النار سطوعها ، والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق ، واشتقاقها من نار ينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً.
{ فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } [البقرة : 17] الإضاءة فرط الإنارة ومصداقه قوله { هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [يونس : 5] (يونس : 5) وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء.
وجواب فلما
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة : 17] وهو ظرف زمان والعامل فيه جوابه مثل " إذا " .
وما موصولة وحوله نصب على الظرف أو نكرة موصوفة والتقدير : فلما أضاءت شيئاً ثابتاً حوله.
وجمع الضمير وتوحيده للحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى.
والنور ضوء النار وضوء كل نير ، ومعنى أذهبه أزاله وجعله ذاهباً ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به.
والمعنى أخذ بنورهم وأمسكه وما يمسك فلا مرسل له فكان أبلغ من الإذهاب.
ولم يقل ذهب الله
58
(1/44)
بضوئهم لقوله فلما أضاءت لأن ذكر النور أبلغ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة والمراد إزالة النور عنهم رأساً ، ولو قيل ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، ألا ترى كيف ذكر عقيبه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـاتٍ } [البقرة : 17] والظلمة عرض ينافي النور.
وكيف جمعها وكيف نكرها وكيف أتبعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان وهو قوله { لا يُبْصِرُونَ } [البقرة : 17] وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، فإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب ومنه وتركهم في ظلمات أصله " هم في ظلمات " ثم دخل " ترك " فنصب الجزأين والمفعول الساقط من لا يبصرون من قبيل المتروك المطروح لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً.
وإنما شبهت حالهم بحال المستوقد لأنهم غب الإضاءة وقعوا في ظلمة وحيرة ، نعم المنافق خابط في ظلمات الكفر أبداً ولكن المواد ما استضاؤوا به قليلاً من الانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ، أو وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق المفضية بهم إلى ظلمة العقاب السرمدي.
وللآية تفسير آخر وهو أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد ، والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات وتنكير النار للتعظيم.
{ صُمُّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [البقرة : 18] أي هم صم ، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن الإصاخة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم وأن ينظروا أو يتبصروا بعيونهم جعلوا كأنما إنفت مشارعهم.
وطريقته عند علماء البيان طريقة قولهم : هم ليوث للشجعان وبحور للأسخياء إلا أن هذا في الصفات وذلك في الأسماء ، وما في الآية تشبيه بليغ في الأصح لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون ، والاستعارة إنما تطلق حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلواً عنه صالحاً لأن يراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا دلالة الحال أو فحوى الكلام
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة : 18] لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها لتنوع الرجوع إلى الشيء.
وعنه أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكانهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون.
59
{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [البقرة : 19] ثنى الله سبحانه وتعالى في شأنهم بتمثيل آخر لزيادة الكشف والإيضاح.
وشبه المنافق في التمثيل الأول بالمستوقد ناراً وإظهاره الإيمان بالإضاءة وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار ، وهنا شبه دين الإسلام بالصيب لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يتعلق به من شبه الكفار بالظلمات ، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا من جهة أهل الإسلام بالصواعق.
والمعنى أو كمثل ذوي صيب فحذف " مثل " لدلالة العطف عليه " وذوي " لدلالة يجعلون عليه.
والمراد كمثل قوم أخذتهم السماء بهذه الصفة فلقوا منها ما لقوا ، فهذا تشبيه أشياء بأشياء إلا أنه لم يصرح بذكر المشبهات كما صرح في قوله : { وَمَا يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَلا الْمُسِى ءُ } [غافر : 58] (غافر : 85) ، وقول امرىء القيس :
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
كأن قلوب الطير رطباً ويابسا
لدى وكرهاً العناب والحشف البالي
(1/45)
بل جاء به مطوياً ذكره على سنن الاستعارة.
والصحيح أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به.
بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولاً بعضها من بعض لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها كما فعل امرؤ القيس ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامت وتلاصقت حتى عادت شيئاً واحداً بأخرى مثلها كقوله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاـاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة : 5] (الجمعة : 5) الآية.
فالمراد تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوارة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوي الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار لا يشعر من ذلك إلا بما يمر بدفيه من الكد والتعب.
وكقوله : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَـاهُ مِنَ السَّمَآءِ } [الكهف : 45] (الكهف : 54) ، فالمراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر فهو تشبيه كيفية بكيفة ، فأما أن يراد
60
تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئاً واحداً فلا.
فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة ، شبهت حيرتهم وشدة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد أيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق ، والتمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر ولذا أخر ، وهم يتدرجون في مثل هذا من الأهوان إلى الأغلظ.
وعطف أحد التمثيلين على الآخر بـ " أو " لأنها في أصلها لتساوي شيئين فصاعداً في الشك عند البعض ، ثم استعيرت لمجرد التساوي كقولك " جالس الحسن أو ابن سيرين " تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، وقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا } [الإنسان : 24] (الدهر : 42) ، أي الآثم والكفور سيان في وجوب العصيان فكذا هنا معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتي هاتين القصتين وأن الكيفيتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعاً فكذلك.
والصيب : المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع يقال للسحاب صيب أيضاً.
وتنكير " صيب " لأنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول ، والسماء هذه المظلة.
وعن الحسن أنها موج مكفوف.
والفائدة في ذكر السماء.
والصيب لا يكون إلا من السماء أنه جاء بالسماء معرفة فأفاد أنه غمام أخذ بآفاق السماء ونفى أن يكون من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، لأن كل أفق من آفاقها سماء ، ففي التعريف مبالغة كما في تنكير صيب وتركيبه وبنائه ، وفيه دليل على أن السحاب من السماء ينحدر ومنها يأخذ ماءه ، وقيل : إنه يأخذ من البحر ويرتفع.
ظلمات مرفوع بالجار والمجرور لأنه قد قوي لكونه صفة لصيب بخلاف ما لو قلت ابتداء " فيه
61
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
(1/46)
ظلمات " ففيه خلاف بين الأخفش وسيبويه.
والرعد : الصوت الذي يسمع من السحاب لاصطكاك أجرامه ، أو ملك يسوق السحاب.
والبرق الذي يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً إذا لمع ، والضمير في فيه يعود إلى الصيب فقد جعل الصيب مكاناً للظلمات ، فإن أريد به السحاب فظلماته ـــــ إذا كان أسحم مطبقاً ، ظلمتا سحمته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل.
وأما ظلمات المطر فظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة أظلال غمامه مع ظلمة الليل.
وجعل الصيب مكاناً للرعد والبرق على إرادة السحاب به ظاهر ، وكذا إن أريد به المطر لأنهما ملتبسان به في الجملة.
ولم يجمع الرعد والبرق لأنهما مصدران في الأصل ، يقال رعدت السماء رعداً وبرقت برقاً فروعي حكم الأصل بأن ترك جمعهما.
ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل فيه ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف.
{ يَجْعَلُونَ أَصَـابِعَهُمْ فِى } الضمير لأصحاب الصيب وإن كان محذوفاً كما في قوله { هُمْ قَآ ـاِلُونَ } (الأعراف : 4) لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه.
ولا محل لـ " يجعلون " لكونه مستأنفاً لأنه لما ذكر الرعد والبرق على ما يؤذن بالشدة والهول فكأن قائلاً قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم.
ثم قال : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقال : يكاد البرق يخطف أبصارهم.
وإنما ذكر الأصابع ولم يذكر الأنامل ورؤوس الأصابع هي التي تجعل في الأذان اتساعاً كقوله { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة : 38] (المائدة : 83) والمراد إلى الرسغ ، ولأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل.
وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة فعالة من السب فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن ، ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة.
{ مِّنَ الصَّوَاعِقِ } [البقرة : 19] متعلق بـ " يجعلون " أي من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم.
والصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار.
قالوا : تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود.
يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو نصفها ثم طفئت.
ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق
62
{ حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243] مفعول له ، والموت فساد بنية الحيوان أو عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة { وَاللَّهُ مُحِيطُ بِالْكَـافِرِينَ } [البقرة : 19] يعني أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط فهو مجاز وهذه الجملة اعتراض لا محل لها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 57
{ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـارَهُمْ } [البقرة : 20] الخطف الأخذ بسرعة ، و " كاد " يستعمل لتقريب الفعل جداً ، وموضع يخطف نصب لأنه خبر " كاد " .
{ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم } [البقرة : 20] " كل " ظرف و " ما " نكرة موصوفة معناها الوقت ، والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه ، والعامل فيه جوابها وهو { مَّشَوْا فِيهِ } [البقرة : 20] أي في ضوئه وهو استئناف ثالث كأنه جواب لمن يقول : كيف يصنعون في تارتي خفوق البرق وخفيته؟ وهذا تمثيل لشدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب وما هم فيه من غاية التحير والجهل بما يأتون وما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة فخطوا خطوات يسيرة ، فإذا خفي وفتر لمعانه بقوا واقفين.
و " أضاء " معتدٍ كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه ، والمفعول محذوف.
أو غير متعدٍ أي كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره.
والمشي جنس الحركة المخصوصة فإذا اشتد فهو سعي فإذا ازداد فهو عدوٌ.
{ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 20] " أظلم " غير متعدٍ وذكر مع أضاء كلما ومع أظلم إذا لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف.
{ قَامُوا } وقفوا وثبتوا في مكانهم ومنه قام الماء إذا جمد.
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [البقرة : 20] بقصيف الرعد { وَأَبْصَـارِهِمْ } بوميض البرق.
ومفعول شاء محذوف لدلالة الجواب عليه أي ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما ولقد تكاثر هذا الحذف في " شاء " وأراد لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب كنحو قوله :
(1/47)
جزء : 1 رقم الصفحة : 63
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
63
وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا } [الأنبياء : 17] (الأنبياء : 71).
{ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا } (الزمر : 4) { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] أي إن الله قادر على كل شيء.
لما عدد الله فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم وأحوالهم وما اختصت به كل فرقة مما يسعدها ويشقيها ويحظيها عند الله ويرديها أقبل عليهم بالخطاب وهو من الالتفات المذكور فقال : { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ } قال علقمة : ما في القرآن " يا أيها الناس " فهو خطاب لأهل مكة ، وما فيه يا أيها الذين آمنوا فهو خطاب لأهل المدينة ، وهذا خطاب لمشركي مكة ، و " يا " حرف وضع لنداء البعيد ، وأي والهمزة للقريب ، ثم استعمل في مناداة من غفا وسها وإن قرب ودنا تنزيلاً له منزلة من بعد ونأى ، فإذا نودي به القريب المقاطن فذاك للتوكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جداً.
وقول الداعي " يا رب " وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصار منه لنفسه واستبعاد لها عن مظان الزلفى هضماً لنفسه وإقراراً عليها بالتفريط مع فرط التهالك على استجابة دعوته.
و " أي " وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن " ذو " و " الذي " وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم يفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء.
فالذي يعمل فيه " يا أي " ، أي والتابع له صفته نحو " يا زيد الظريف " إلا أن " أيا " لا يستقل بنفسه استقلال زيد فلم ينفك عن الصفة ، وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لتأكيد معنى النداء وللعوض عما يستحقه أي من الإضافة.
وكثر النداء في القرآن على هذه الطريقة لأن ما نادى الله به عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده أمور عظام وخطوب جسام ، يجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم إليها وهم عنها غافلون ، فاقتضت الحال
64
أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
{ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } [البقرة : 21] وحدوه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل عبادة في القرآن فهي توحيد { الَّذِى خَلَقَكُمْ } [الروم : 40] صفة موضحة مميزة لأنهم كانوا يسمون الآلهة أرباباً.
والخلق إيجاد المعدوم على تقدير واستواء ، وعند المعتزلة إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وهذا بناء على أن المعدوم شيء عندهم لأن الشيء ما صح أن يعلم ويخبر عنه عندهم ، وعندنا هو اسم للموجود.
خلقكم بالإدغام : أو عمرو.
{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة : 21] احتج عليهم بأنه خالقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك فقيل لهم : إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه ولا تعبدوا الأصنام.
{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] أي اعبدوا على رجاء أن تتقوا فتنجوا بسببه من العذاب.
و " لعل " للترجي والإطماع ولكنه إطماع من كريم فيجري مجرى وعده المحتوم وفاؤه ، وبه قال سيبويه.
وقال قطرب : هو بمعنى " كي " أي لكي تتقوا.
{ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الارْضَ } [الملك : 15] أي صير ومحل الذي نصب على المدح أو رفع بإضمار هو فراشاً بساطاً تقعدون عليها وتنامون وتتقلبون وهو مفعول ثانٍ لجعل ، وليس فيه دليل على أن الأرض مسطحة أو كرية إذ الافتراش ممكن على التقديرين.
{ وَالسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة : 22] سقفاً كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا } [الأنبياء : 32] (الأنبياء : 23) ، وهو مصدر سمي به المبنى.
{ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [البقرة : 22] مطراً { فَأَخْرَجَ بِهِ } [البقرة : 22] بالماء ، نعم خروج الثمرات بقدرته ومشيئته وإيجاده ولكن جعل الماء سبباً في خروجها كماء الفحل في خلق الولد وهو قادر على إنشاء الكل بلا سبب كما أنشأ نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشاء الأشياء مدرجاً لها من حال إلى حال وناقلاً من مرتبة إلى مرتبة ، حكماً وعبراً للنظار بعيون الاستبصار.
و " من " في { مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة : 22] للتبعيض أو للبيان { رِّزْقًا } مفعول له إن كانت " من " للتبيض ، ومفعول به لـ " أخرج " إن كانت للبيان.
وإنما قيل الثمرات دون الثمر والثمار وإن كان الثمر المخرج بماء السماء
65(1/48)
كثيراً ، لأن المراد جماعة الثمرة ، ولأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض لالتقائها في الجمعية.
{ لَكُمْ } صفة جارية على الرزق إن أريد به العين ، وإن جعل اسماً للمعنى فهو مفعول به كأنه قيل رزقاً وإياكم.
{ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } [البقرة : 22] هو متعلق بالأمر أي اعبدوا ربكم فلا تجعلوا له أنداداً لأن أصل العبادة وأساسها التوحيد ، وأن لا يجعل له ند ولا شريك.
ويجوز أن يكون الذي رفعاً على الابتداء وخبره فلا تجعلوا .
ودخول الفاء لأن الكلام يتضمن الجزاء أي الذي حفكم بهذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة بالوحدانية فلا تتخذوا له شركاء.
المثل والند ولا يقال إلا للمثل المخالف المناوىء ، ومعنى قولهم ليس لله ند ولا ضد نفي ما يسد مسده ونفي ما ينافيه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] أنها لا تخلق شيئاً ولا ترزق والله الخالق الرازق ، أو مفعول تعلمون متروك أي وأنتم من أهل العلم.
وجعل الأصنام لله أنداداً غاية الجهل ، والجملة حال من الضمير في فلا تجعلوا .
ولما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ـــــ لخلقهم أحياء قادرين وخلق الأرض التي هي مثواهم ومستقرهم ، وخلق السماء التي هي كالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذا القرار وما سوّاه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء منها عليها والإخراج به من بطنها أشباه النسل من الثمار رزقاً لبني آدم ، فهذا كله دليل موصل إلى التوحيد مبطل للإشراك ، لأن شيئاً من المخلوقات لا يقدر على إيجاد شيء منها ، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلّم وما يقرر إعجاز القرآن فقال.
{ وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا } [البقرة : 23] " ما " نكرة موصوفة أو بمعنى الذي { عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة : 23] محمد عليه السلام ، والعبد اسم لمملوك من جنس العقلاء ، والمملوك موجود قهر بالاستيلاء.
وقيل : نزلنا دون أنزلنا لأن المراد به النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي وذلك أنهم كانوا يقولون لو كان هذا من عند الله لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات على حسب النوازل وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً ، شيئاً فشيئاً لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة ، ولا يرمي الناثر بخطبه ضربة ، فلو أنزله
66(1/49)
الله لأنزله جملة قال الله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان : 32] (الفرقان : 23) ، فقيل : إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على تدريج { فَأْتُوا بِسُورَةٍ } [يونس : 38] أي فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه ، وهلموا نجماً فرداً من نجومه سورة من أصغر السور.
والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات.
وواوها إن كانت أصلاً فإما أن تسمى بسور المدينة وهو حائطها لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على حيالها كالبلد المسور ، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد كاحتواء سور المدينة على ما فيها ، وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة لأن السور بمنزلة المنازل والمراتب يترقى فيها القارىء ، وهي أيضاً في نفسها مرتبة طوال وأوساط وقصار ، أو لرفعة شأنها وجلالة محلها في الدين.
وإن كانت منقلبة عن همزة فلأنها قطعة وطائفة من القرآن كالسؤرة التي هي البقية من الشيء.
وأما الفائدة في تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً فهي كثيرة ، ولذا أنزل الله تعالى التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه مسورة مترجمة السورة ، وبوب المصنفون في كل فن كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم.
منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع واشتمل على أصناف كان أحسن من أن يكون بياناً واحداً ، ومنها أن القارىء إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله ، ومن ثم جزّأ القراء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً ، ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة فيعظم عنده ما حفظه ويجل في نفسه ، ومنه حديث أنس رضي الله عنه كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل فينا.
ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.
{ مِّن مِّثْلِهِ } [يس : 42] متعلق بـ " سورة " صفة لها والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله يعني فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، أو لعبدنا أي فأتوا بمن هو على حاله من كونه أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء.
ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك.
ورد الضمير إلى المنزل أولى لقوله تعالى : { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس : 38] (يونس : 83).
{ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [هود : 13] (هود : 31).
{ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْءَانِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [الإسراء : 88] (الإسراء : 88).
ولأن الكلام مع رد الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً.
وذلك أن الحديث في المنزل لا في المنزل عليه وهو مسوق إليه فإن المعنى وإن ارتبتم في أن القرآن منزل من عند الله فهاتوا أنتم نبذاً مما يماثله.
وقضية الترتيب لو كان الضمير مردوداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقال : وإن ارتبتم في أن محمداً منزل عليه فهاتوا قرآناً من مثله ، ولأن هذا التفسير يلائم قوله { وَادْعُوا شُهَدَآءَكُم } [البقرة : 23] جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة { مِّن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] أي غير الله وهو متعلق بـ " شهداءكم أي ادعوا الذين اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق أو من يشهد لكم بأنه مثل القرآن { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] إن ذلك مختلق وأنه من كلام محمد عليه السلام.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنتم صادقين في دعواكم فأتوا أنتم بمثله واستعينوا بآلهتكم على ذلك.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة : 24] لما أرشدهم إلى الجهة التي منها يتعرفون صدق النبي عليه السلام ، قال لهم : فإذا لم تعارضوه وبان عجزكم ووجب تصديقه فآمنوا وخافوا العذاب المعدّ لمن كذب وعاند.
وفيه دليلان على إثبات النبوة صحة كون المتحدى به معجزاً ، والإخبار بأنهم لن يفعلوا وهو غيب لا يعلمه إلا الله.
ولما كان العجز عن المعارضة قبل التأمل كالشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم واعتمادهم على بلاغتهم ، سيق الكلام معهم على حسب حسبانهم فجيء بـ ؛ " إن " الذي للشك دون " إذا " الذي للوجوب ، وعبّر عن الإتيان بالفعل(1/50)
لأنه فعل من الأفعال.
والفائدة فيه أنه جارٍ مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً إذ لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال " فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا بسورة من مثله " .
ولا محل لقوله ولن تفعلوا لأنها جملة اعتراضية ، وحسّن هذا الاعتراض أن لفظ الشرط للتردد فقطع التردد بقوله ولن تفعلوا و " لا " و " لن " أختان في نفي المستقبل إلا أن في " لن " تأكيداً.
وعن الخليل أصلها " لا أن " ، وعند
68
الفراء " لا " أبدلت ألفها نوناً ، وعند سيبويه حرف موضوع لتأكيد نفي المستقبل ، وإنما علم أنه إخبار عن الغيب على ما هو به حتى صار معجزة لأنهم لو عارضوه بشيء لاشتهر فكيف والطاعنون فيه أكثر عدداً من الذابين عنه؟ وشرط في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله لأنهم إذا لم يأتوا بها وتبين عجزهم عن المعارضة صح عندهم صدق الرسول ، وإذا صح عندهم صدقه ثم لزموا العناد وأبوا الانقياد استوجبوا النار فقيل لهم : إن استبنتم العجز فاتركوا العناد ، فوضع فاتقوا النار موضعه لأن اتقاء النار سبب ترك العناد وهو من باب الكناية وهي من شعب البلاغة ، وفائدته الإيجاز الذي هو من حلية القرآن.
والوقود ما ترفع به النار يعني الحطب ، وأما المصدر فمضموم وقد جاء فيه الفتح.
وصلة الذي والتي تجب أن تكون معلوماً للمخاطب فيحتمل أن يكونوا سمعوا من أهل الكتاب أو من رسول الله ، أو سمعوا قبل هذه الآية قوله تعالى : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم : 6] (التحريم : 6).
وإنما جاءت النار منكرة ثم ومعرفة هنا لأن تلك الآية نزلت بمكة ثم نزلت هذه الآية بالمدينة مشاراً بها إلى ما عرفوه أولاً.
ومعنى قوله تعالى : وقودها الناس والحجارة أنها نار ممتازة عن غيرها من النيران بأنها تتقد بالناس والحجارة وهي حجارة الكبريت ، فهي أشد توقداً وأبطأ خموداً وأنتن رائحة وألصق بالبدن أو الأصنام المعبودة فهي أشد تحسيراً.
وإنما قرن الناس بالحجارة لأنهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا حيث عبدوها وجعلوها لله أنداداً ونحوه قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [الأنبياء : 98] (الأنبياء : 89) أي حطبها ، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في إيلامهم.
{ أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ } [البقرة : 24] هيئت لهم.
وفيه دليل على أن النار مخلوقة خلافاً لما يقوله جهم سنة الله في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب تنشيطاً لاكتساب ما يزلف وتثبيطاً عن اقتراف ما يتلف ، فلما ذكر الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه بذكر المؤمنين وأعمالهم وتبشيرهم بقوله :
69
جزء : 1 رقم الصفحة : 63
(1/51)
{ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة : 25] والمأمور بقوله " وبشر " الرسول عليه السلام أو كل أحد ، وهذا أحسن لأنه يؤذن بأن الأمر لعظمة وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة به.
وهو معطوف على " فاتقوا " كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم.
أو جملة وصف ثواب المؤمنين معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كقولك " زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمراً بالعفو والإطلاق " .
والبشارة الإخبار بما يظهر سرور المخبر به ومن ثم قال العلماء : إذا قال لعبيده : أيكم بشرني بقدوم فلان فهو حر.
فبشروه فرادى عتق أولهم لأنه هو الذي أظهر سروره بخبره دون الباقين.
ولو قال : " أخبرني " مكان " بشرني " عتقوا جميعاً ، لأنهم أخبروه ، ومنه البشرة لظاهر الجلد ، وتباشير الصبح ما ظهر من أوائل ضوئه.
وأما فبشرهم بعذاب أليم فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به كما يقول الرجل لعدوه أبشر بقتل ذريتك ونهب مالك.
والصالحة نحو الحسنة في جريها مجرى الاسم.
والصالحات كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والكتاب والسنة واللام للجنس.
والآية حجة على من جعل الأعمال إيماناً لأنه عطف الأعمال الصالحة على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه.
ولا يقال إنكم تقولون يجوز أن يدخل المؤمن الجنة بدون الأعمال الصالحة والله تعالى بشر بالجنة لمن آمن وعمل صالحاً ، لأن البشارة المطلقة بالجنة شرطها اقتران الأعمال الصالحة بالإيمان ، ولا نجعل لصاحب الكبيرة البشارة المطلقة بل نثبت بشارة مقيدة بمشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله
70
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
الجنة.
{ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ } [البقرة : 25] أي بأن لهم جنات.
وموضع " أن " وما عملت فيه النصب بـ " بشّر " عند سيبويه خلافاً للخليل وهو كثير في التنزيل.
والجنة البستان من النخل والشجر المتكاثف ، والتركيب دائر على معنى الستر ومنه الجن والجنون والجنين والجنة والجان والجنان ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان.
والجنة مخلوقة لقوله تعالى : { وَقُلْنَا يَااَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } (البقرة : 53) خلافاً لبعض المعتزلة.
ومعنى جمع الجنة وتنكيرها أن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب بحسب أعمال العاملين لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنان.
{ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ } [الرعد : 35] الجملة في موضع النصب صفة لجنات ، والمراد من تحت أشجارها كما ترى الأشجار النابتة على شواطىء الأنهار الجارية.
وأنهار الجنة تجري في غير أخدود.
وأنزه البساتين ما كانت أشجارها مظلة والأنهار في خلالها مطردة والجري الأطراد.
والنهر المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر يقال للنيل : نهر مصر ، واللغة الغالة نهر ومدار التركيب على السعة ، وإسناد الجري إلى الأنهار مجازي.
وإنما عرف الأنهار لأنه يحتمل أن يراد بها أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] (مريم : 4) ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله تعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ } [محمد : 15] (محمد : 51) ، الآية والماء الجاري من النعمة العظمى واللذة الكبرى ولذا قرن الله تعالى الجنات بذكر الأنهار الجارية وقدمه على سائر نعوتها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70(1/52)
{ كُلَّمَا رُزِقُوا } [البقرة : 25] صفة ثانية لـ " جنات " أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل إن لهم جنات لم يخل خلد السامع أن يقع فيه أثمار تلك الجنات أشباه ثمار جنات الدنيا أم أجناس أخر لا تشابه هذه الأجناس فقيل : إن ثمارها أشباه ثمار جنات الدنيا أي أجناسها وإن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلا الله.
{ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَـاذَا الَّذِى } [البقرة : 25] أي كلما رزقوا من الجنات ، من أي ثمرة كانت من تفاحها أو رمانها أو غير ذلك ، رزقاً قالوا ذلك.
فـ " من " الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية لأن الرزق قد ابتدىء من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدىء من ثمرة ، ونظيره أن تقول : رزقني
71
فلان فيقال لك : من أين؟ فتقول : من بستانه.
فيقال : من أي ثمرة رزقك من بستانه؟ فتقول : من الرمان.
وليس المراد من الثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفذة وإنما المراد نوع من أنواع الثمار.
{ رُزِقْنَا } أي رزقناه فحذف العائد { مِن قَبْلِ } [يوسف : 6] أي من قبل هذا ، فلما قطع عن الإضافة بنى ، والمعنى هذا مثل الذي رزقنا من قبل وشبهه بدليل قوله { وَأُتُوا بِهِ مُتَشَـابِهًا } [البقرة : 25] وهذا كقولك " أبو يوسف أبو حنيفة " تريد أنه لاستحكام الشبه كأن ذاته ذاته.
والضمير في به يرجع إلى المرزوق في الدنيا والآخرة جميعاً لأن قوله هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين ، وإنما كان ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا ولم تكن أجناساً أخر ، لأن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، وإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه وعافته نفسه ، ولأنه إذا شاهد ما سلف له به عهد ورأى فيه مزية ظاهرة وتفاوتاً بيناً كان استعجابه به أكثر واستغرابه أوفر.
وتكريرهم هذا القول عند كل ثمرة يرزقونها دليل على تناهي الأمر وتمادي الحال في ظهور المزية ، وعلى أن ذلك التفاوت العظيم هو الذي يستملي تعجبهم في كل أوان أو إلى الرزق كما أن هذا إشارة إليه ، والمعنى أن ما يرزقونه من ثمرات الجنة يأتيهم متجانساً في نفسه كما يحكى عن الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل فيقول الملك : كل ، فاللون واحد والطعم مختلف.
وعنه عليه السلام : والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدلها الله مكانها مثلها فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا ذلك وقوله : وأتوا به متشابهاً جملة معترضة للتقرير كقولك " فلان أحسن بفلان ونعم ما فعل " ورأى من الرأي كذا وكان صواباً ، ومنه
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذَالِكَ يَفْعَلُونَ } [النمل : 34] (النمل : 43).
{ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } [البقرة : 25] أزواج مبتدأ ولهم الخبر وفيها ظرف للإستقرار.
{ مُّطَهَّرَةٌ } من مساوى الأخلاق ، لا طمحات ولا مرحات ، أو مما يختص بالنساء بالحيض والاستحاضة وما لا يختص بهن من البول والغائط وسائر الأقذار والأدناس.
ولم تجمع الصفة كالموصوف لأنهما لغتان فصيحتان ، ولم يقل طاهرة لأن { مُّطَهَّرَةٌ } أبلغ لأنها تكون للتكثير ، وفيها إشعار بأن مطهّراً طهرهن وما ذلك إلا الله عز وجل.
{ وَهُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 25] الخلد والخلود البقاء الدائم
72
(1/53)
الذي لا ينقطع ، وفيه بطلان قول الجهمية فإنهم يقولون بفناء الجنة وأهلها لأنه تعالى وصف بأنه الأول الآخر ، وتحقيق وصف الأولية بسبقه على الخلق أجمع فيجب تحقيق وصف الآخرية بالتأخر عن سائر المخلوقات ، وذا إنما يتحقق بعد فناء الكل فوجب القول به ضرورة ، ولأنه تعالى باقٍ وأوصافه باقية فلو كانت الجنة باقية مع أهلها لوقع التشابه بين الخالق والمخلوق وذا محال.
قلنا : الأول في حقه هو الذي لا ابتداء لوجوده ، والآخر هو الذي لا انتهاء له ، وفي حقنا الأول هو الفرد السابق والآخر هو الفرد اللاحق ، واتصافه بهما لبيان صفة الكمال ونفي النقيصة والزوال ، وذا في تنزيهه عن احتمال الحدوث والفناء لا فيما قالوه ، وأنى يقع التشابه في البقاء وهو تعالى باقٍ لذاته وبقاؤه واجب الوجود وبقاء الخلق به وهو جائز الوجود.
لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب به مثلاً ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله فنزل.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلا مَّا بَعُوضَةً } أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحي أن يتمثل بها لحقارتها.
وأصل الحياء تغير وانكسار يعتري الإنسان من تخوف ما يعاب به ويذم ، ولا يجوز على القديم التغير خوف والذم ولكن الترك لما كان من لوازمه عبر عنه به ، ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ، فجاءت على سبيل المقابلة وإطباق الجواب على السؤال ، وهو فن من كلامهم بديع ـــــ وفيه لغتان : التعدي بنفسه وبالجار.
يقال : استحييته واستحييت منه وهما محتملتان هنا ، وضرب المثل صنعة من ضرب اللبن وضرب الخاتم.
و " ما " هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته عموماً كقولك : " أعطني كتاباً ما " تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ } [المائدة : 13] (النساء : 551) ، كأنه قال : لا يستحي أن يضرب مثلاً البتة.
وبعوضة عطف بيان لـ " مثلاً " أو مفعول لـ " يضرب " ومثلاً حال من
73
النكرة مقدمة عليه ، أو انتصبا مفعولين على أن " ضرب " بمعنى " جعل " واشتقاقها من البعض وهو القطع كالبضع والعضب.
يقال بعضه البعوض ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه ، والبعوض في أصله صفة على فعول كالقطوع فغلبت.
{ فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة : 26] فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلاً وهو القلة والحقارة ، أو فما زاد عليها في الحجم كأنه أراد بذلك رد ما استنكروه من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت لأنهما أكبر من البعوضة.
ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر لأن جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات وقد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثلاً للدنيا.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } [البقرة : 26] الضمير للمثل أو لأن يضرب والحق الثابت الذي لا يسوغ إنكاره يقال حق الأمر إذا ثبت ووجب { مِن رَّبِّهِمْ } [محمد : 3] في موضع النصب على الحال والعامل معنى الحق وذو الحال الضمير المستتر فيه { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلا } [البقرة : 26] ويوقف عليه إذ لو وصل لصار ما بعده صفة له وليس كذلك.
وفي قولهم ماذا أراد الله بهذا مثلاً استحقار كما قالت عائشة رضي الله عنها في عبد الله بن عمرو : يا عجباً لابن عمرو هذا محقرة له.
ومثلاً نصب على التمييز أو على الحال كقوله { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً } [الأعراف : 73] (الأعراف : 37) وأما حرف فيه معنى الشرط ولذا يجاب بالفاء ، وفائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد.
تقول : زيد ذاهب.
فإذا قصدت توكيده وأنه لا محالة ذاهب قلت : أما زيد فذاهب ، ولذا قال سيبويه في تفسيره : مهما يكن من شيء فزيد ذاهب ، وهذا التفسير يفيد كونه تأكيداً وأنه في معنى الشرط.
وفي إيراد الجملتين مصدرتين به وإن لم يقل فالذين آمنوا يعلمون والذين كفروا يقولون ، إحماد عظيم لأمر المؤمنين واعتداد بليغ بعلمهم أنه الحق ، ونعي على الكافرين إغفالهم حظهم ورميهم بالكلمة الحمقاء.
وماذا فيه وجهان : أن يكون " ذا " اسماً موصولاً بمعنى
74
(1/54)
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
الذي و " ما " استفهاماً فيكون كلمتين ، وأن تكون " ذا " مركبة مع " ما " مجعولتين اسماً واحداً للاستفهام فيكون كلمة واحدة ، فـ " ما " على الأول رفع بالابتداء وخبره " ذا " مع صلته أي أراد ، والعائد محذوف.
وعلى الثاني منصوب المحل بـ " أراد " والتقدير : أي شيء أراد الله.
والإرادة مصدر أردت الشيء إذا طلبته نفسك ومال إليه قلبك ، وهي عند المتكلمين معنى يقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ، والله تعالى موصوف بالإرادة على الحقيقة عند أهل السنة.
وقال معتزلة بغداد : إنه تعالى لا يوصف بالإرادة على الحقيقة.
فإذا قيل أراد الله كذا فإن كان فعله فمعناه أنه فعل وهو غير ساهٍ ولا مكره عليه ، وإن كان فعل غيره فمعناه أنه أمر به.
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } [البقرة : 26] جارٍ مجرى التفسير والبيان للجملتين المصدرتين بـ " أما " ، وأن فريق العالمين بأنه الحق وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة ، وأن العلم بكونه حقاً من باب الهدى ، وأن الجهل بحسن مورده من باب الضلالة.
وأهل الهدى كثير في أنفسهم وإنما يوصفون بالقلة بالقياس إلى أهل الضلال ، ولأن القليل من المهتدين كثير في الحقيقة وإن قلوا في الصورة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
إن الكرام كثير في البلاد وإن
قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
والإضلال : خلق فعل الضلال في العبد ، والهداية خلق فعل الاهتداء ، هذا هو الحقيقة عند أهل السنة ، وسياق الآية لبيان أن ما استنكره الجهلة من الكفار واستغربوه من أن تكون المحقرات من الأشياء مضروباً بها المثل ليس بموضع الاستنكار والاستغراب لأن التمثيل إنما يصار إليه لما فيه من كشف المعنى وإدناء المتوهم من المشاهد.
فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به كذلك ، وإن كان حقيراً كان المتمثل به كذلك ، ألا ترى أنه الحق لما كان واضحاً جلياً تمثل له بالضياء والنور ، وأن الباطل لما كان بضد صفته تمثل له بالظلمة ، ولما كانت حال الآلهة التي جعلها الكفار أنداداً لله لا حال أحقر منها وأقل ، ولذلك جعل بيت العنكبوت مثلها في الضعف والوهن ، وجعلت أقل من الذباب وضربت لها البعوضة؟ فالذي دونها مثلاً ـــــ لم يستنكر ولم يستبدع ولم يقل للمتمثل استحى من تمثيلها بالبعوضة لأنه مصيب في تمثيله ، محق في قوله ، سائق للمثل على قضية مضربه ، ولبيان أن المؤمنين الذين عادتهم الإنصاف والنظر في الأمور يناظر العقل إذا سمعوا بهذا التمثيل علموا أن
75
الحق ، وأن الكفار الذين غلب الجهل على عقولهم إذا سمعوه كابروا وعاندوا وقضوا عليه بالبطلان وقابلوه بالإنكار ، وأن ذلك سبب هدى المؤمنين وضلال الفاسقين.
والعجب منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور وخشاش الأرض فقالوا : أجمع من ذرة ، وأجرأ من الذباب ، وأسمع من قرد ، وأضعف من فراشة ، وآكل من السوس ، وأضعف من البعوضة ، وأعز من مخ البعوض ، ولكن ديدن المحجوج والمبهوت أن يرضى لفرط الحيرة بدفع الواضح وإنكار اللائح.
{ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَـاسِقِينَ } [البقرة : 26] هو مفعول يضل وليس بمنصوب على الاستثناء لأن يضل لم يستوف مفعوله.
والفسق : الخروج عن القصد.
والفاسق في الشريعة : الخارج عن الأمر بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلة المؤمن والكافر عند المعتزلة وسيمر عليك ما يبطله إن شاء الله.
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } [البقرة : 27] النقض : الفسخ وفك التركيب.
والعهد : الموثق.
والمراد بهؤلاء الناقضين لعهد الله أحبار اليهود المتعنتون أو منافقوهم أو الكفار جميعاً.
وعهد الله ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصاهم به ووثقه عليهم ، أو أخذ الميثاق عليهم بأنهم إذا بعث إليهم رسول يصدقه الله بمعجزاته صدقوه واتبعوه ولم يكتموا ذكره ، أو أخذ الله العهد عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ولا يبغي بعضهم على بعض ولا يقطعوا أرحامهم.
وقيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة عهود : العهد الأول الذي أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا بربوبيته وهو قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
(1/55)
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ } (الأعراف : 172) الآية ، وعهد خص به النبيين أن يبلغوا الرسالة ويقيموا الدين وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَـاقَهُمْ } (الأحزاب : 7) وعهد خص به العلماء وهو قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } ، { مِن بَعْدِ مِيثَـاقِهِ } [البقرة : 27] أصله من الوثاقة وهي إحكام الشيء ، والضمير للعهد وهو ما وثقوا به عهد الله من قبوله
76
وإلزامه أنفسهم ، ويجوز أن يكون بمعنى توثقته كما أن الميعاد بمعنى الوعد أو لله تعالى أي من بعد توثقته عليهم و " من " لابتداء الغاية { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } [البقرة : 27] هو قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين ، أو قطعهم ما بين الأنبياء من الوصلة والاجتماع على الحق في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض.
والأمر طلب الفعل بقول مخصوص على سبيل الاستعلاء ، و " ما " نكرة موصوفة أو بمعنى الذي و " أن يوصل " في موضع جر بدل من الهاء أي بوصله ، أو في موضع رفع أي هو أن يوصل { وَيُفْسِدُونَ فِى الارْضِ } [الرعد : 25] بقطع السبيل والتعويق عن الإيمان { أُوالَـائِكَ } مبتدأ { هُمْ } فصل والخبر { الْخَـاسِرُونَ } أي المغبونون حيث استبدلوا النقض بالوفاء والقطع بالوصل والفساد بالصلاح والعقاب بالثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 70
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ } [البقرة : 28] معنى الهمزة التي في " كيف " مثله في قولك : أتكفرون بالله ومعكم وما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان وهو الإنكار والتعجب ، ونظيره قولك : أتطير بغير جناح وكيف تطير بغير جناح؟ والواو في { وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا } [البقرة : 28] نطفاً في أصلاب آبائكم للحال و " قد " مضمرة.
والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل ، ويقال لعادم الحياة أصلاً ميت أيضاً كقوله تعالى : { بَلْدَةً مَّيْتًا } [ق : 11] (الفرقان : 94) { فَأَحْيَـاكُمْ } في الأرحام { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [الجاثية : 26] عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [الحج : 66] للبعث { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة : 28] تصيرون إلى الجزاء ، أو ثم يحييكم في قبوركم ثم إليه ترجعون للنشور.
وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور ، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور.
وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر ، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارْضِ } [البقرة : 29] أي لأجلكم ولانتفاعكم به في
77
(1/56)
ؤ دنياكم ودينكم.
أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فالنظر فيه وما فيه من العجائب الدالة على صانع قادر حكيم عليم ، وما فيه من التذكير بالآخرة لأن ملاذها تذكر ثوابها ومكارهها تذكر عقابها.
وقد استدل الكرخي وأبو بكر الرازي والمعتزلة بقوله خلق لكم على أن الأشياء التي يصح أن ينتفع بها خلقت مباحة في الأصل.
{ جَمِيعًا } نصب على الحال من ما { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ } [البقرة : 29] الاستواء : الاعتدال والاستقامة.
يقال : استوى العود أي قام واعتدل ، ثم قيل : استوى إليه كالسهم المرسل أي قصده قصداً مستوياً من غير أن يلوي على شيء ومنه قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ } [البقرة : 29] (فصلت : 11) ، أي أقبل وعمد إلى خلق السموات بعد ما خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر.
والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق.
والضمير في مبهم يفسره { اللَّهُ سَبْعَ سَمَـاوَاتٍ } [نوح : 15] كقولهم " ربه رجلاً " .
وقيل : الضمير راجع إلى السماء ولفظها واحد ومعناها الجمع لأنها في معنى الجنس.
ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور ، أو إتمام خلقهن.
" وثم " هنا لبيان فضل خلق السموات على خلق الأرض ، ولا يناقض هذا قوله { وَالارْضَ بَعْدَ ذَالِكَ دَحَـاـاهَآ } [النازعات : 30] (النازعات : 03) لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء وأما دحوها فمتأخر.
وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منها السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض فذلك قوله تعالى : { كَانَتَا رَتْقًا } [الأنبياء : 30] (الأنبياء : 03) ، وهو الالتزاق { وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 29] فمن ثم خلقهن خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت من خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم.
وهو وأخواته مدني غير ورش ، " وهو هو وأبو عمرو وعلي ، جعلوا الواو كأنها في نفس الكلمة فصار بمنزلة عضد وهم يقولون
78
في عضد عضد بالسكون.
ولما خلق الله تعالى الأرض أسكن فيها الجن وأسكن في السماء الملائكة فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال وأقاموا مكانهم فأمر نبيه عليه السلام أن يذكر قصتهم فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
(1/57)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـائكَةِ } [الحجر : 28] " إذ " نصب بإضمار " اذكر " .
والملائكة جمع ملأك كالشمائل جمع شمال وإلحاق التاء لتأنيث الجمع.
{ إِنِّي جَاعِلٌ } [البقرة : 30] أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما { فِى الارْضِ خَلِيفَةً } [البقرة : 30] وهو من يخلف غيره " فعيلة " بمعنى " فاعلة وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى : خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته.
ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم.
واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك " مضر وهاشم " ، أو أريد من يخلفكم أوخلقاً يخلفكم فوحد لذلك ، أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي ، قال الله تعالى : { يادَاوُادُ إِنَّا جَعَلْنَـاكَ خَلِيفَةً فِى الارْضِ } (ص : 62) ، وإنما أخبرهم بذلك ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم ، أو ليعلّم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنياً عن المشاورة.
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة : 30] تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يجهل ، وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو من جهة اللوح أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر.
{ وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ } [البقرة : 30] أي يصب.
والواو في { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } [البقرة : 30] للحال كما تقول : أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان؟ { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال أي نسبح حامدين لك ومتلبسين بحمدك كقوله تعالى : { وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ } [المائدة : 61] (المائدة : 16) ، أي دخلوا كافرين.
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة : 30] ونطهر أنفسنا لك.
وقيل : التسبيح والتقديس تبعيد الله من السوء من سبح في الأرض وقدس فيها إذا ذهب فيها وأبعد.
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 30] أي أعلم من الحكم في ذلك ما هو خفي عليكم يعني يكون فيهم الأنبياء والأولياء والعلماء.
و " ما " بمعنى " الذي " وهو مفعول أعلم والعائد محذوف أي ما لا
79
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
تعلمونه.
إنى حجازي وأبو عمرو.
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ } [البقرة : 31] هو اسم أعجمي وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزو واشتقاقهم آدم من أديم الأرض أو من الأدمة كاشتقاقهم يعقوب من العقب وإدريس من الدرس وإبليس من الإبلاس.
{ الاسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة : 31] أي أسماء المسميات فحذف المضاف إليه لكونه معلوماً مدلولاً عليه بذكر الأسماء إذ الإسم يدل على المسمى وعوض منه اللام كقوله تعالى : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم : 4] (مريم : 4) ، ولا يصح أن يقدر وعلم آدم مسميات الأسماء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، لأن التعليم تعلق بالأسماء لا بالمسميات لقوله تعالى : أنبئوني بأسماء هؤلاء و أنبئهم بإسمائهم ، ولم يقل " أنبئوني بهؤلاء وأنبئهم بهم " .
ومعنى تعليمه أسماء المسميات أنه تعالى أراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس وهذا اسمه بعير وهذا اسمه كذا وهذا اسمه كذا.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : علمه اسم كل شيء حتى القصعة والمغرفة.
{ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـائِكَةِ } [البقرة : 31] أي عرض المسميات ، وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم.
وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت { فَقَالَ أَنابِئُونِى } [البقرة : 31] أخبروني { بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 31] في زعمكم أني أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء ، وفيه رد عليهم وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا.
{ قَالُوا سُبْحَـانَكَ } [سبأ : 41] تنزيهاً لك أن يخفى عليك شيء أو عن الاعتراض عليك في تدبيرك.
وأفادتنا الآية أن علم الأسماء فوق التخلي للعبادة فكيف بعلم الشريعة؟ وانتصابه على المصدر تقديره سبحت الله تسبيحاً { لا عِلْمَ لَنَآ إِلا مَا عَلَّمْتَنَآ } [البقرة : 32] وليس فيه علم الأسماء ، و " ما " بمعنى " الذي " ، والعلم بمعنى المعلوم أي لا معلوم لنا ، إلا الذي علمتنا.
{ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ } [البقرة : 32] غير المعلم { الْحَكِيمُ } فيما قضيت
80
(1/58)
وقدرت.
والكاف اسم " إن " و " أنت " مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر " إن " ، أو أنت فصل والخبر العليم .
والحكيم خبر ثان.
جزء : 1 رقم الصفحة : 77
{ قَالَ يَا ءادَمُ أَنابِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنابَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } [البقرة : 33] سمى كل شيء باسمه.
{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 33] أي أعلم ما غاب فيهما عنكم مما كان ومما يكون.
{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } [البقرة : 33] تظهرون.
{ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة : 33] تسرون.
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ } [الكهف : 50] أي اخضعوا له وأقروا بالفضل له.
عن أبي بن كعب ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان ذلك انحناء ولم يكن خروراً على الذقن.
والجمهور على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض.
وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس.
وكان سجود التحية جائزاً فيما مضى ثم نسخ بقوله عليه السلام لسلمان حين أراد أن يسجد له لا ينبغي لمخلوق أن يسجد لأحد إلا لله تعالى .
{ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ } [طه : 116] الاستثناء متصل لأنه كان من الملائكة كذا قاله علي وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ، ولأن الأصل أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، ولهذا قال : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف : 12] (الأعراف : 21) ، وقوله : { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [الكهف : 50] (الكهف : 05) معناه صار من الجن كقوله { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43] (هود : 34).
وقيل : الاستثناء منقطع لأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة ، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من
81
النور ، ولأنه أبى وعصى واستكبر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ولا يستكبرون عن عبادته.
ولأنه قال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُا أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى } [الكهف : 50] (الكهف : 05) ، ولا نسل للملائكة.
وعن الجاحظ أن الجن والملائكة جنس واحد ، فمن طهر منهم فهو ملك ، ومن خبث فهو شيطان ، ومن كان بين بين فهو جن.
{ أَبَى } امتنع مما أمر به { وَاسْتَكْبَرَ } تكبر عنه.
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 34] وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر لا بترك العمل بالأمر ، لأن ترك السجود لا يخرج من الإيمان ولا يكون كفراً عند أهل السنة خلافاً للمعتزلة والخوارج ، أو كان من الكافرين في علم الله أي وكان في علم الله أنه يكفر بعد إيمانه لأنه كان كافراً أبداً في علم الله وهي مسألة الموافاة.
{ وَقُلْنَا يَا ءادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } أمر من سكن الدار يسكنها سكنى إذا أقام فيها ويقال سكن المتحرك سكوناً { أَنتَ } تأكيد للمستكن في اسكن ليصح عطف { وَزَوْجُكَ } عليه { الْجَنَّةَ } هي جنة الخلد التي وعدت للمتقين للنقل المشهور واللام للتعريف.
وقالت المعتزلة : كانت بستاناً باليمن لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها.
قلنا : إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء.
وقد دخل النبي عليه السلام ليلة المعراج ثم خرج منها ، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد.
{ وَكُلا مِنْهَا } [البقرة : 35] من ثمارها فحذف المضاف.
{ رَغَدًا } وصف للمصدر أي أكلاً رغداً واسعاً { حَيْثُ شِئْتُمَا } [البقرة : 35] شئتما وبابه بغير همز : أبو عمرو.
وحيث للمكان المبهم أي أيّ مكان من الجنة شئتما { وَلا تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ } [البقرة : 35] أي الحنطة.
ولذا قيل : كيف لا يعصي الإنسان وقوته من شجرة العصيان ، أو الكرمة لأنها أصل كل فتنة ، أو التينة.
{ فَتَكُونَا } جزم عطف
82(1/59)
على تقربا أو نصب جواب للنهي.
{ مِنَ الظَّالِمِينَ } [البقرة : 35] من الذين ظلموا أنفسهم أو من الضارين أنفسهم.
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } [البقرة : 36] أي عن الشجرة ، أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها أو فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما.
فأزالهما حمزة.
وزلة آدم بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم ، أو بحمل اللام على تعريف العهد وكأن الله تعالى أراد الجنس والأول الوجه.
وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم السلام كما قال مشايخ بخارى.
فإنه اسم الفعل يقع على خلاف الأمر من غير قصد إلى الخلاف كزلة الماشي في الطين.
وقال مشايخ سمرقند : لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية.
وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعوتبوا عليه.
{ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [البقرة : 36] من النعيم والكرامة ، أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها .
وقد توصل إلى إزلالهما بعدما قيل له أخرج منها فإنك رجيم ، لأنه منع عن دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.
وروي أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به.
وقيل : قام عند الباب فنادى.
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا } [البقرة : 36] الهبوط النزول إلى الأرض.
والخطاب لآدم وحواء وإبليس وقيل والحية والصحيح لآدم وحواء.
والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم ويدل عليه قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعَا } [طه : 123] (طه : 321) { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [طه : 123] المراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض.
والجملة في موضع الحال من الواو في اهبطوا أي اهبطوا متعادين.
{ وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ } [البقرة : 36] موضع استقرار أو استقرار.
{ وَمَتَاعٌ } وتمتع بالعيش.
{ إِلَى حِينٍ } [البقرة : 36] إلى يوم القيامة أو إلى الموت.
قال إبراهيم بن أدهم : أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً.
83
{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [البقرة : 37] أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها.
وبنصب آدم ورفع كلماتً : مكي على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به وهنا قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الأعراف : 23] (الأعراف : 32).
وفيه موعظة لذريتهما حيث عرفوا كيفية السبيل إلى التنصل من الذنوب.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أحب الكلام إلى الله تعالى ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى.
قال : يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ ألم تسكنى جنتك؟ وهو تعالى يقول : بلى بلى.
قال : فلم أخرجتني من الجنة؟ قال : بشؤم معصيتك.
قال : فلو تبت أراجعي أنت إليها؟ قال : نعم { فَتَابَ عَلَيْهِ } [البقرة : 37] فرجع عليه بالرحمة والقبول.
واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعاً له ، وقد طوي ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك.
{ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } [البقرة : 37] الكثير القبول للتوبة.
{ الرَّحِيمُ } على عباده.
{ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا } [البقرة : 38] حال أي مجتمعين.
وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد ، أو لأن الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض ، أو لما نيط به من زيادة قوله.
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى } [البقرة : 38] أي رسول أبعثه إليكم ، أو كتاب أنزله عليكم بدليل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَاتِنَآ } [البقرة : 39] في مقابلة قوله { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [البقرة : 38] أي بالقبول والإيمان به.
{ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 38] في المستقبل { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] على ما خلفوا.
والشرط الثاني مع جوابه جواب الشرط الأول كقولك " إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك " .
فلا خوف بالفتح في كل القرآن : يعقوب.
84(1/60)
جزء : 1 رقم الصفحة : 81
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ أُوالَـائِكَ } [البقرة : 39] مبتدأ والخبر { أَصْحَـابُ النَّارِ } [الزمر : 8] أي أهلها ومستحقوها.
والجملة في موضع الرفع خبر المبتدأ أعني والذين { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِاَايَـاتِنَآ أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } هو يعقوب عليه السلام وهو لقب له ومعناه في لسانهم صفوة الله أو عبد الله.
فإسرا هو العبد أو الصفوة ، وإيل هو الله بالعبرية ، وهو غير منصرف لوجود العلمية والعجمة.
{ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 40] ذكرهم النعمة أن لا يخلوا بشكرها ويطيعوا مانحها.
وأراد بها ما أنعم به على آبائهم مما عدد عليهم من الإنجاء من فرعون وعذابه ومن الغرق ومن العفو عن اتخاذ العجل والتوبة عليهم ، وما أنعم به عليهم من إدراك زمن محمد صلى الله عليه وسلّم المبشر به في التوراة والإنجيل.
{ وَأَوْفُوا } أدوا وافياً تاماً ، يقال وفيت له بالعهد فأنا وافٍ به وأوفيت له بالعهد فأنا موف به ، والاختيار أوفيت ، وعليه نزل التنزيل.
{ بِعَهْدِى } بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي ، أو من الإيمان بنبي الرحمة والكتاب المعجز.
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة : 40] بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب على حسناتكم.
والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً.
وعن قتادة : هما لئن أقمتم ولأكفرن.
وقال أهل الإشارة : أوفوا في دار محنتي ، على بساط خدمتي ، بحفظ حرمتي ، أوف في دار نعمتي ، على بساط كرامتي ، بسرور رؤيتي.
{ وَإِيَّـاىَ فَارْهَبُونِ } [البقرة : 40] فلا تنقضوا عهدي وهو من قولك " زيدا رهبته " وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة : 5] (الفاتحة : 4) وإيّاي منصوب بفعل مضمر دل عليه ما بعده وتقديره فارهبوا إياي فارهبون ، وحذف الأول لأن الثاني يدل عليه.
وإنما لم ينتصب بقوله فارهبون لأنه أخذ مفعوله وهو الياء المحذوفة وكسرة النون دليل الياء كما لا يجوز نصب زيد في " زيدا فاضربه " بـ " اضرب " الذي هو ظاهر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
{ وَءَامِنُوا بِمَآ أَنزَلْتُ } [البقرة : 41] يعني القرآن { مُصَدِّقًا } حال مؤكدة من الهاء المحذوفة كأنه قيل أنزلته مصدقاً { لِّمَا مَعَكُمْ } [آل عمران : 81] من التوراة يعني في العبادة والتوحيد والنبوة وأمر محمد عليه السلام { وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِر بِهِ } [البقرة : 41] أي أول من كفر به أو أول حزب أو فوج كافر به ، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به.
وهذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ، والضمير في به يعود
85
(1/61)
إلى القرآن.
{ وَلا تَشْتَرُوا } [المائدة : 44] ولا تستبدلوا.
{ بِاَايَـاتِى } بتغييرها وتحريفها.
{ ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] قال الحسن : هو الدنيا بحذافيرها.
وقيل : هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو اتبعوا رسول الله.
{ وَإِيَّـاىَ فَاتَّقُونِ } [البقرة : 41] فخافوني فارهبوني فاتقوني بالياء في الحالين وكذلك كل ياء محذوفة في الخط : يعقوب.
{ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ } [البقرة : 42] لبس الحق بالباطل خلطه.
والباء ، إن كانت صلة مثلها في قولك " لبست الشيء بالشيء " خلطته به ، كان المعنى ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم حتى لا يميز بين حقها وباطلكم.
وإن كانت باء الاستعانة كالتي في قولك " كتبت بالقلم " ، كان المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه.
{ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } [البقرة : 42] هو مجزوم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا ، أو منصوب بإضمار " أن " ، والواو بمعنى الجمع ، أي ولا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق كقولك " لا تأكل السمك وتشرب اللبن " .
وهما أمران متميزان ، لأن لبس الحق بالباطل ما ذكرنا من كتبهم في التوراة ما ليس منها ، وكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] في حال علمكم أنكم لابسون وكاتمون وهو أقبح لهم لأن الجهل بالقبيح ربما عذر مرتكبه.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة } [البقرة : 43] أي صلاة المسلمين وزكاتهم.
{ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } [البقرة : 43] منهم لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم أي أسلموا واعملوا عمل أهل الإسلام.
وجاز أن يراد بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود ، وأن يكون أمراً بالصلاة مع المصلين يعني في الجماعة ، أي صلوها مع المصلين لا منفردين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 85
والهمزة في { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ } [البقرة : 44] للتقرير مع التوبيخ والتعجب من حالهم.
{ بِالْبِرِّ } أي سعة الخير والمعروف ومنه البر لسعته ، ويتناول كل خير ومنه قولهم " صدقت وبررت " .
وكان الأحبار يأمرون من نصحوه في السر من أقاربهم وغيرهم باتباع محمد عليه السلام ولا يتبعونه.
وقيل : كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وإذا أتوا بالصدقات ليفرقوها خانوا فيها.
{ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 44] وتتركونها من البر كالمنسيات.
{ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 44] تبكيت أن تتلون التوراة وفيها نعت محمد عليه السلام أو فيها الوعيد على
86
الخيانة وترك البر ومخالفة القول العمل.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه وهو توبيخ عظيم.
{ وَاسْتَعِينُوا }
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
(1/62)
على حوائجكم إلى الله { بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } [البقرة : 153] أي بالجمع بينهما وأن تصلوا صابرين على تكاليف الصلاة محتملين لمشاقها وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية ومراعاة الآداب والخشوع واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السموات والأرض ، أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نعى إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع وصلى ركعتين ثم قال : " واستعينوا بالصبر والصلاة .
وقيل : الصبر الصوم لأنه حبس عن المفطرات ومنه قيل لشهر رمضان شهر الصبر.
وقيل : الصلاة الدعاء أي استعينوا على البلايا بالصبر والالتجاء إلى الدعاء والابتهال إلى الله في دفعه.
{ وَإِنَّهَا } الضمير للصلاة أو للاستعانة.
{ لَكَبِيرَةٌ } لشاقة ثقيلة من قولك " كبر عليّ هذا الأمر " { إِلا عَلَى الْخَـاشِعِينَ } [البقرة : 45] لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم ، ألا ترى إلى قوله : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا رَبِّهِمْ } [البقرة : 46] أي يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده ويطمعون فيه.
وفسر يظنون بـ " يتيقنون " لقراءة عبد الله يعلمون ، أي يعلمون أنه لا بد من لقاء الجزاء فيعملون على حسب ذلك ، وأما من لم يوقن بالجزاء ولم يرج الثواب كانت عليه مشقة خالصة.
والخشوع الإخبات والتطامن وأما الخضوع فاللين والانقياد.
وفسر اللقاء بالرؤية وملاقو ربهم بمعاينوه بلا كيف.
{ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 46] لا يملك أمرهم في الآخرة أحد سواه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } التكرير للتأكيد { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ } [البقرة : 47] نصب عطف على نعمتي أي اذكروا نعمتي وتفضيلي.
{ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] على الجمع الغفير من الناس يقال " رأيت عالماً من الناس " والمراد الكثرة.
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا } [البقرة : 281] أي يوم القيامة وهو مفعول به لا ظرف.
{ لا تَجْزِى نَفْسٌ } [البقرة : 48] مؤمنة.
{ عَن نَّفْسٍ } [البقرة : 48] كافرة { شَيْئًا } أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق التي لزمتها.
ووشيئاً مفعول به أو مصدر أي قليلاً من الجزاء ، والجملة منصوبة المحل صفة ويوماً والعائد منها إلى الموصوف محذوف تقديره لا تجزى فيه وولا يقبل منها شفاعةٌ } ولا تقبل بالتاء : مكي وبصري ، والضمير في منها يرجع إلى النفس المؤمنة أي لا تقبل منها شفاعة للكافرة ، وقيل : كانت اليهود تزعم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم فأويسوا فهو كقوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـاعَةُ الشَّـافِعِينَ } [المدثر : 48] ، وتشبث المعتزلة بالآية في نفي الشافعة للعصاة مردود لأن المنفي شفاعة الكفار وقد قال عليه السلام شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي من كذب بها لم ينلها .
{ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة : 48] أي فدية لأنها معادلة للمفدي.
{ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 48] يعاونون وجمع لدلالة النفس المنكرة على النفوس الكثيرة ، وذكّر لمعنى العباد أو الأناسي.
{ وَإِذْ نَجَّيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [البقرة : 49] أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر كالملوك وأشباههم فلا يقال آل الإسكاف والحجام ، وفرعون علم لمن ملك العمالقة كقيصر لملك الروم وكسرى لملك الفرس.
{ يَسُومُونَكُمْ } حال من آل فرعون أي يولونكم من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً ، وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنها بمعنى يبغونكم { سُواءَ الْعَذَابِ } [غافر : 45] ويريدونكم عليه ومساومة البيع مزيدة أو مطالبة ، وسوء مفعول ثانٍ لـ " يسومونكم " وهو مصدر سيىء.
يقال : أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ، ومعنى سوء العذاب ، والعذاب كله سيىء أشده وأفظعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } [البقرة : 49] بيان لقوله
88
(1/63)
يسومونكم ولذا ترك العاطف { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [البقرة : 49] يتركون بناتكم أحياء للخدمة ، وإنما فعلوا بهم ذلك لأن الكهنة أنذروا فرعون بأنه يولد مولود يزول ملكه بسببه كما أنذروا نمرود فلم يغن عنهما اجتهادهما في التحفظ وكان ما شاء الله { وَفِى ذَالِكُم بَلاءٌ } [البقرة : 49] محنة إن أشير بذلكم إلى صنع فرعون ، ونعمة إن أشير به إلى الانتجاء.
{ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران : 49] ، صفة لـ " بلاء " { عَظِيمٌ } صفة ثانية.
{ وَإِذْ فَرَقْنَا } [البقرة : 50] فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم.
وقرىء فرّقنا أي فصلنا يقال : فرق بين الشيئين وفرّق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثني عشر على عدد الأسباط.
{ بِكُمُ الْبَحْرَ } [البقرة : 50] كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم ، أو فرقناه بسببكم ، أو فرقناه ملتبساً بكم فيكون في موضع الحال.
روي أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : أين أصحابنا فنحن لا نرضى حتى نراهم ، فأوحى الله إليه أن قل بعصاك هكذا ، فقال بها على الحيطان فصارت فيها كوى فتراءوا وتسامعوا كلامهم.
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَـاكُمْ وَأَغْرَقْنَآ } [البقرة : 50] إلى ذلك وتشاهدونه ولا تشكون فيه.
وإنما قال { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } [البقرة : 51] لأن الله تعالى وعده الوحي ووعده هو المجيء للميقات إلى الطور.
وعدنا حيث كان بصري.
لما دخل بنو إسرائيل مصر بعد هلاك فرعون ولم يكن لهم كتاب ينتهون إليه ، وعد الله تعالى موسى أن ينزل عليه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة ، وقال { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [البقرة : 51] لأن الشهور غررها بالليالي وأربعين مفعول ثانٍ لـ " واعدنا لا ظرف لأنه ليس معناه واعدناه في أربعين ليلة { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 51] أي إلها فحذف المفعول الثاني لـ " اتخذتم " ، وبابه بالإظهار مكي وحفص { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد ذهابه إلى الطور ، { وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ } [البقرة : 51] أي بوضعكم العبادة غير موضعها والجملة حال أي عبدتموه ظالمين.
{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } [البقرة : 52] محونا ذنبوكم عنكم.
{ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ } [يوسف : 48] من بعد اتخاذكم العجل.
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] لكي تشكروا النعمة في العفو عنكم.
89
{ وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَالْفُرْقَانَ } [البقرة : 53] يعني الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة ونظيره " رأيت الغيث والليث " تريد الرجل الجامع بين الجود والجرأة.
أو التوراة والبرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات ، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام.
وقيل : الفرقان انفلاق البحر أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 53] لكي تهتدوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 86
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } [إبراهيم : 6] للذين عبدوا العجل.
{ لِقَوْمِهِ يَـاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ } معبوداً { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } [البقرة : 54] هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت.
وفيه تقريع لما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم إبرياء من التفاوت إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة والبلادة { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 54] قيل : هو على الظاهر وهو البخع.
وقيل : معناه قتل بعضهم بعضاً.
وقيل : أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة فقتل سبعون ألفاً.
{ ذالِكُمْ } التوبة والقتل { خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } [البقرة : 54] من الإصرار على المعصية.
{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ } [البقرة : 54] المفضال بقبول التوبة وإن كثرت { الرَّحِيمُ } يعفو الحوبة وإن كبرت.
والفاء الأولى للتسبيب لأن الظلم سبب التوبة ، والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم إذ الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم ، والثالثة متعلقة بشرط محذوف كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
(1/64)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَـامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } عياناً وانتصابها على المصدر كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس ، أو على الحال من نرى أي ذوي جهرة.
{ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّـاعِقَةُ } [البقرة : 55] أي الموت.
قيل : هي نار جاءت من السماء فأحرقتهم.
روي أن السبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام عند الانطلاق إلى الجبل قالوا له : نحن لم نعبد العجل كما عبده هؤلاء فأرنا الله جهرة.
فقال موسى : سألته ذلك فأباه
90
عليّ.
فقالوا : إنك رأيت الله تعالى فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة.
فبعث الله عليهم صاعقة فأحرقتهم.
وتعلقت المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية لأنه لو كان جائز الرؤية لما عذبوا بسؤال ما هو جائز الثبوت.
قلنا : إنما عوقبوا بكفرهم لأن قولهم : إنك رأيت الله فلن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة كفر منهم.
ولأنهم امتنعوا عن الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته حتى يروا ربهم جهرة ، والإيمان بالانبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم ولا يجوز اقتراح الآيات عليهم.
ولأنهم لم يسألوا سؤال استرشاد بل سؤال تعنت وعناد.
{ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [البقرة : 50] إليها حين نزلت.
{ ثُمَّ بَعَثْنَـاكُم } [البقرة : 56] أحييناكم وأصله الإثارة { مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 56] نعمة البعث بعد الموت.
{ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } [البقرة : 57] جعلنا الغمام يظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى { وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ } [البقرة : 57] الترنجبين وكان ينزل عليهم مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع.
{ وَالسَّلْوَى } كان يبعث الله عليهم الجنوب فتحشر عليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه.
وقلنا لهم { كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ } [البقرة : 57] لذيذات أو حلالات { مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } [البقرة : 57] يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] أنفسهم مفعول يظلمون وهو خبر " كان " .
{ وَإِذْ قُلْنَا } [البقرة : 58] لهم بعدما خرجوا من التيه.
{ ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ } [البقرة : 58] أي بيت المقدس أو أريحاء.
والقرية المجتمع من قريت لأنها تجمع الخلق ، أمروا بدخولها بعد التيه.
{ فَكُلُوا مِنْهَا } [البقرة : 58] من طعام القرية وثمارها.
{ حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا } [البقرة : 58] واسعاً { وَادْخُلُوا الْبَابَ } [الأعراف : 161] باب القرية أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها ، وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلوا الباب في حياته ودخلوا بيت المقدس بعده.
{ سُجَّدًا } .
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
حال وهو جمع ساجد ، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى
91
(1/65)
الباب شكراً لله تعالى وتواضعاً له.
{ وَقُولُوا حِطَّةٌ } [البقرة : 58] فعلة من الحط كالجلسة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة ، والأصل النصب وقد قرىء به بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة ، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات.
وقيل : أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها.
وعن عليّ رضي الله عنه : وهو بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن عكرمة : هو لا إله إلا الله.
{ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـايَـاكُمْ } [البقرة : 58] جمع خطيئة وهي الذنب.
" يغفر " : مدني تغفر : شامي.
{ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 58] أي من كان محسناً منكم.
كانت تلك الكلمة سبباً في زيادة ثوابه ومن كان مسيئاً كانت له توبة ومغفرة.
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 59] فيه حذف وتقديره فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ، فـ " بدل " يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى آخر بالباء ، فالذي مع الباء متروك والذي بغير باء موجود ، يعني وضعوا مكان حطة قولاً غيرها أي أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به ولم يمتثلوا أمر الله.
وقيل : قالوا مكان حطة حنطة.
وقيل : قالوا بالنبطية حطاً سمقاثا أي حنطة حمراء استهزاء منهم بما قيل لهم وعدولاً عن طلب ما عند الله إلى طلب ما يشتهون من أعراض الدنيا.
{ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا } [البقرة : 59] عذاباً.
وفي تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح أمرهم وإيذان بإنزال الرجز عليهم لظلمهم.
{ مِّنَ السَّمَآءِ } [الشعراء : 4] صفة لرجز { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [البقرة : 59] بسبب فسقهم.
روي أنه مات منهم في ساعة بالطاعون أربعة وعشرون ألفاً وقيل سبعون ألفاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 90
{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } [البقرة : 60] موضع إذ نصب كأنه قيل : واذكروا إذا
92
استسقى أي استدعي أن يسقي قومه.
{ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } [البقرة : 60] عطشوا في التيه فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر.
واللام للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر إثنا عشر ميلاً ، أو للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
{ فَانفَجَرَتْ } الفاء متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أي سالت بكثرة ، أو فإن ضربت فقد انفجرت وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ.
{ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [البقرة : 60] على عدد الأسباط وقرىء بكسر الشين وفتحها وهما لغتان ، وعيناً تمييز.
{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ } [البقرة : 60] كل سبط { مَّشْرَبَهُمْ } عينهم التي يشربون منها.
وقلنا لهم { كُلُوا } من المن والسلوى.
{ وَاشْرَبُوا } من ماء العيون.
{ مِن رِّزْقِ اللَّهِ } [البقرة : 60] أي الكل مما رزقكم الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ } [البقرة : 60] لا تفسدوا فيها.
والعيث أشد الفساد { مُفْسِدِينَ } حال مؤكدة أي لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَـامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } هو ما رزقوا في التيه من المن والسلوى.
وإنما قالوا على طعام واحد وهما طعامان لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها يقال لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ويراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف.
أو أرادوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترف وكانوا من أهل الزراعات فأرادوا ما ألفوا من البقول والحبوب وغير ذلك { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ } [البقرة : 61] سله وقل له أخرج لنا { يُخْرِجْ لَنَا } [البقرة : 61] يظهر لنا ويوجد { مِمَّا تُانبِتُ الارْضُ مِن بَقْلِهَا } [البقرة : 61] هو ما أنبتته الأرض من
93
(1/66)
الخضر والمراد به أطايب البقول كالنعناع والكرفس والكراث ونحوهما مما يأكل الناس.
{ وَقِثَّآئِهَا } يعني الخيار { وَفُومِهَا } هو الحنطة أو الثوم لقراءة ابن مسعود وثومها { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى } [البقرة : 61] أقرب منزلة وأدون مقداراً والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار { بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ } [البقرة : 61] أرفع وأجل.
{ اهْبِطُوا مِصْرًا } [البقرة : 61] من الأمصار أي انحدروا إليه من التيه.
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنّسرين وهي اثنا عشر فرسخاً في ثمانية فراسخ ، أو مصر فرعون.
وإنما صرفه من وجود السببين وهما التأنيث والتعريف لإرادة البلد ، أو لسكون وسطه كنوح ولوط وفيهما العجمة والتعريف { فَإِنَّ لَكُم } [البقرة : 61] فيها { مَّا سَأَلْتُمْ } [البقرة : 61] أي فإن الذي سألتم يكون في الأمصار لا في التيه.
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } [البقرة : 61] أي الهوان والفقر يعني جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه.
فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة وفقر إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية.
عليهم الذلة : حمزة وعلي وكذا كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة وبكسر الهاء والميم : أبو عمرو.
وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } [البقرة : 61] من قولك " باء فلان بفلان " إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له.
أي صاروا أحقاء بغضبه.
وعن الكسائي حفوا { ذَالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب.
{ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ } [البقرة : 61] بالهمزة : نافع وكذا بابه.
أي ذلك بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء.
وقد قتلت اليهود شعياء وزكريا ويحيى صلوات الله عليهم.
والنبي من النبإ لأنه يخبر عن الله تعالى " فعيل " بمعنى " مفعل " أو بمعنى " مفعل " .
أو من نبا أي ارتفع ، والنبوة المكان المرتفع.
{ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الشورى : 42] عندهم أيضاً فإنهم لو أنصفوا لم يذكروا شيئاً يستحقون به القتل عندهم في التوراة.
وهو في محل النصب على الحال من الضمير في يقتلون أي يقتلونهم مبطلين { ذَالِكَ } تكرار للإشارة.
{ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة : 61] بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء.
وقيل : هو اعتداؤهم في السبت.
ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم
94
فجسروا على جحود الآيات وقتلهم الأنبياء ، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 92
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النساء : 137] بألسنتهم من غير مواطأة القلوب وهم المنافقون.
{ وَالَّذِينَ هَادُوا } [المائدة : 69] تهودوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية وهو هائد والجمع هود.
{ وَالنَّصَـارَى } جمع نصران كندمان وندامى يقال رجل نصران وامرأة نصرانة.
والياء في نصراني للمبالغة كالتي في " أحمري " سموا نصارى لأنهم نصروا المسيح.
{ وَالصَّـابِئِينَ } الخارجين من دين مشهور إلى غيره من صبأ إذا خرج من الدين ، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة.
وقيل : هم يقرؤون الزبور.
{ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 62] من هؤلاء الكفرة إيماناً خالصاً { وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } [البقرة : 62] ثوابهم { عِندَ رَبِّهِمْ } [فاطر : 39] في الآخرة { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 62] ومحل من آمن الرفع إن جعلته مبتدأ خبره فلهم أجرهم ، والنصب إن جعلته بدلاً من اسم إن والمعطوف عليه.
فخبر إن في الوجه الأول الجملة كما هي ، وفي الثاني فلهم والفاء لتضمن من معنى الشرط.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
(1/67)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ } [البقرة : 84] بقبول ما في التوراة.
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } [البقرة : 63] أي الجبل حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق.
وذلك أن موسى عليه السلام جاءهم بالألواح فرأوا ما فيها من الآصار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام فقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم حتى قبلوا وقلنا لكم.
{ خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم } [البقرة : 63] من الكتاب أي التوراة { بِقُوَّةٍ } بجدٍ وعزيمة { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } [البقرة : 63] واحفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] رجاء منكم أن تكونوا متقين.
ثمّ تولّيتم } ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به.
{ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ } [يوسف : 48] من بعد القبول { فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } [البقرة : 64] بتأخير العذاب عنكم أو بتوفيقكم
95
للتوبة.
{ لَكُنتُم مِّنَ الْخَـاسِرِينَ } [البقرة : 64] الهالكين في العذاب.
{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } [البقرة : 65] عرفتم فيتعدى إلى مفعول واحد { الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِى السَّبْتِ } [البقرة : 65] هو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت.
وقد اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه واشتغلوا بالصيد.
وذلك أن الله تعالى نهاهم أن يصيدوا في السبت ثم ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا أخرج خرطومه يوم السبت ، فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت لأمنها من الصيد فكانوا يسدون مشارعها من البحر فيصطادونها يوم الأحد ، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم.
{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا } [البقرة : 65] بتكويننا إياكم { قِرَدَةً خَـاسِئِينَ } [البقرة : 65] خبر كان أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغاروالطرد.
يعني المسخة { نَكَـالا } عبرة تنكل من اعتبر بها أن تمنعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
{ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } [البقرة : 66] لما قبلها.
{ وَمَا خَلْفَهَا } [البقرة : 66] وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين.
{ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة : 66] الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم أو لكل متقٍ سمعها.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ } [إبراهيم : 6] أي واذكروا إذ قال موسى ، وهو معطوف على نعمتي في قوله { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 40] (البقرة : 04) كأنه قال : اذكروا ذاك واذكروا إذ قال موسى.
وكذلك هذا في الظروف التي مضت أي اذكروا نعمتي ، واذكروا وقت إنجائنا إياكم ، واذكروا وقت فرقنا ، واذكروا نعمتي ، واذكروا وقت استسقاء موسى ربه لقومه.
والظروف التي تأتي إلى قوله { سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّـاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (البقرة ؛ 421).
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن } [النساء : 58] أي بأن { تَذْبَحُوا بَقَرَةً } [البقرة : 67] قال المفسرون : أول القصة مؤخر في التلاوة وهو قوله تعالى وإذا قتلتم نفساً فادارأتم فيها .
وذلك أن
96
رجلاً موسراً اسمه " عاميل " قتله بنو عمه ليرثوه وطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بديته فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبرهم بقاتله.
{ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } [البقرة : 67] أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء.
هزأً بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبضمتين والواو : حفص.
غيرهما بالتثقيل والهمزة.
{ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ } [البقرة : 67] العياذ واللياذ من وادٍ واحد.
{ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ } [البقرة : 67] لأن الهزء في مثل هذا من باب الجهل والسفه ، وفيه تعريض بهم أي أنتم جاهلون حيث نسبتموني إلى الاستهزاء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 95
(1/68)
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } [البقرة : 68] سؤال عن حالها وصفتها لأنهم كانوا عالمين بماهيتها ، لأن " ما " وإن كانت سؤالاً عن الجنس ، و " كيف " عن الوصف ولكن قد تقع " ما " موقع " كيف " ، وذلك أنهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشان ، وما هي خبر ومبتدأ.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ } [البقرة : 68] مسنة ، وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها.
وارتفع فارض لأنه صفة لـ " بقرة " ، وقوله : { وَلا بِكْرٌ } [البقرة : 68] فتية عطف عليه.
{ عَوَانٌ } نصف.
{ بَيْنَ ذَالِكَ } [النساء : 150] بين الفارض والبكر ، ولم يقل بين ذينك مع أن " بين " يقتضي شيئين فصاعداً لأنه أراد بين هذا المذكور ، وقد يجري الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا ، قال أبو عبيدة : قلت لرؤبة في قوله :
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
إن أردت الخطوط فقل كأنها.
وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما ، فقال : أردت كأن ذاك.
{ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ } [البقرة : 68] أي تؤمرونه بمعنى تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير.
97
{ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا } [البقرة : 69] موضع ما رفع لأن معناه الاستفهام تقديره : ادع لنا ربك يبين لنا أي شيء لونها.
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } [البقرة : 69] الفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع ، وهو توكيد لصفراء وليس خبراً عن اللون إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل ، ولا فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها ، وفي ذكر اللون فائدة التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده { تَسُرُّ النَّـاظِرِينَ } [البقرة : 69] لحسنها.
والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
عن علي رضي الله عنه : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله تعالى : تسر الناظرين ، { قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ } [البقرة : 68] تكرير للسؤال عن حالها وصفتها واستكشاف زائد ليزدادوا بياناً لوصفها ، وعن النبي عليه السلام لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم { إِنَّ الْبَقَرَ تَشَـابَهَ عَلَيْنَا } [البقرة : 70] إن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا { وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ } [البقرة : 70] إلى البقرة المراد ذبحها أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل ، وإن شاء الله اعتراض بين اسم " إن " وخبرها.
وفي الحديث لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد " أي لو لم يقولوا إن شاء الله { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الارْضَ } [البقرة : 71] لا ذلول صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول ، يعني لم تذلل للكراب وإثارة الأرض { وَلا تَسْقِى الْحَرْثَ } [البقرة : 71] ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحروق ، و " لا " الأولى نافية والثانية مزيدة لتوكيد
98
(1/69)
الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير الأرض أي تقلبها للزراعة وتسقي الحرث على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية { مُسَلَّمَةٌ } عن العيوب وآثار العمل.
{ لا شِيَةَ فِيهَا } [البقرة : 71] لا لمعة في نقبتها من لون آخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر وشاه وشياً وشية إذا خلط بلونه لون آخر.
{ قَالُوا الْـاَـانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } [البقرة : 71] أي بحقيقة وصف البقرة وما بقي إشكال في أمرها ، جئت وبابه بغير همز : أبو عمرو { فَذَبَحُوهَا } فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فذبحوها { وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } [البقرة : 71] لغلاء ثمنها أو خوف الفضيحة في ظهور القاتل ، روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لإبني حتى يكبر وكان براً بوالديه.
فشبت البقرة وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة ، وهذا البيان من قبيل تقييد المطلق فكان نسخاً والنسخ قبل الفعل جائز وكذا قبل التمكن منه عندنا خلافاً للمعتزلة.
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا } [البقرة : 72] بتقدير " واذكروا " ، خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم.
{ فَادَّارَءاْتُمْ فِيهَا } [البقرة : 72] فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفع ، أو تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فيدفع المطروح عليه الطارح ، أو لأن الطرح في نفسه دفع ، وأصاله تدارأتم ثم أرادوا التخفيف فقلبوا التاء دالاً لتصير من جنس الدال التي هي فاء الكلمة ليمكن الإدغام ، ثم سكنوا الدال إذ شرط الإدغام أن يكون الأول ساكناً وزيدت همزة الوصل لأنه لا يمكن الابتداء بالساكن ، فاداراتم بغير همز : أبو عمر.
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } [البقرة : 72] مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً ، وأعمل مخرج على حكاية ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ ، وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ادارأتم.
99
جزء : 1 رقم الصفحة : 97
(1/70)
{ فَقُلْنَا } والضمير في { اضْرِبُوهُ } يرجع إلى النفس ، والتذكير بتأويل الشخص والإنسان ، أو إلى القتيل لما دل عليه ما كنتم تكتمون.
{ بِبَعْضِهَا } ببعض البقرة وهو لسانها أو فخذها اليمنى أو عجبها ، والمعنى فضربوه فحيى فحذف ذلك لدلالة { كَذَالِكَ يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى } [البقرة : 73] عليه.
روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورث قاتل بعد ذلك ، وقوله كذلك يحيي الله الموتى إما أن يكون خطاباً للمنكرين في زمن النبي عليه السلام ، وإما أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل بمعنى وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى يوم القيامة.
{ وَيُرِيكُمْ ءَايَـاتِهِ } [غافر : 81] دلائله على أنه قادر على كل شيء { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 73] فتعملون على قضية عقولكم وهي أن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء جميعها لعدم الاختصاص ، والحكمة في ذبح البقرة وضربه ببعضها وإن قدر على إحيائه بلا واسطة التقرب به ، الإشعار بحسن تقديم القربة على الطلب والتعليم لعباده ترك التشديد في الأمور والمسارعة إلى امتثال أوامر الله من غير تفتيش وتكثير سؤال وغير ذلك.
وقيل : إنما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من البهائم لأنها أفضل قرابينهم ، ولعبادتهم العجل فأراد الله تعالى أن يهون معبودهم عندهم ، وكان ينبغي أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ، ولكنه تعالى إنما قص قصص بني إسرائيل تعديداً لما وجد منهم من الجنايات وتقريعاً لهم عليها ، وهاتان القصتان وإن كانتا متصلتين فتستقل كل واحدة منهما بنوع من التقريع.
فالأولى لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك ، والثانية للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة.
وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب المراد في تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها إن وصلت بالأولى بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله اضربوه ببعضها ليعلم أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع وقصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة.
وقيل : هذه القصة تشير إلى أن من أراد إحياء قلبه بالمشاهدات فليمت نفسه بأنواع المجاهدات.
100
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
(1/71)
ومعنى { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم } [البقرة : 74] استبعاد القسوة { مِّن بَعْدِ } [يونس : 3] ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها.
وصفة القلوب بالقسوة مثل لنبوها عن الاعتبار والاتعاظ.
من بعد { ذَالِكَ } إشارة إلى إحياء القتيل أو إلى جميع ما تقدم من الآيات المعدودة { فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ } [البقرة : 74] فهي في قسوتها مثل الحجارة { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] منها.
وأشد معطوف على الكاف تقديره أو مثل أشد قسوة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
أو هي في أنفسها أشد قسوة.
يعني أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً ، أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة.
وإنما لم يقل أقسى لكونه أبين وأدل على فرط القسوة.
وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس كقولك " زيد كريم وعمرو أكرم " .
{ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ } [البقرة : 74] بيان لزيادة قسوة قلوبهم على الحجارة { لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَـارُ } [البقرة : 74] ما بمعنى " الذي " في موضع النصب وهو اسم " إن " واللام للتوكيد.
والتفجر التفتح بالسعة والكثرة.
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } [البقرة : 74] أصله يتشقق وبه قرأ الأعمش فقلبت التاء شيناً وأدغمت { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ } [البقرة : 74] يعني أن من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير ، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً وقلوبهم لا تندى.
{ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ } [البقرة : 74] يتردى من أعلى الجبل { مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر : 21] قيل : هو مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به.
وقيل : المراد به حقيقة الخشية على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز.
وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة وعلى هذا
101
قوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ } [الحشر : 21] (الحشر : 12) ، الآية.
يعني وقلوبهم لا تخشى.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] وبالياء مكي وهو وعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 100
{ أَفَتَطْمَعُونَ } الخطاب لرسول الله والمؤمنين.
{ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ } [البقرة : 75] أن يؤمنوا لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم كقوله تعالى : { فَـاَامَنَ لَهُ لُوطٌ } [العنكبوت : 26] (العنكبوت : 62) ، يعني اليهود.
{ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } [البقرة : 75] طائفة فيمن سلف منهم.
{ يَسْمَعُونَ كَلَـامَ اللَّهِ } [البقرة : 75] أي التوراة.
{ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } [البقرة : 75] كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآية الرجم.
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَـامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم.
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] أنهم كاذبون مفترون.
والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
(1/72)
{ وَإِذَا لَقُوا } [البقرة : 14] أي المنافقون أو اليهود.
{ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [محمد : 3] أي المخلصون من أصحاب محمد عليه السلام.
{ قَالُوا } أي المنافقون { مِّنْ } بأنكم على الحق وأن محمداً هو الرسول المبشر به.
{ وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ } [البقرة : 76] الذين لم ينافقوا { إِلَى بَعْضٍ } [التحريم : 3] إلى الذين نافقوا { قَالُوا } عاتبين عليهم { أَتُحَدِّثُونَهُم } أتخبرون أصحاب محمد عليه السلام { بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 76] بما بين الله لكم في التوراة من صفة محمد عليه السلام { لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ } [البقرة : 76] ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه ، جعلوا محاجتهم به وقولهم هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ، ألا تراك تقول هو في كتاب الله تعالى هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد؟ وقيل : هذا على إضمار المضاف أي عند كتاب ربكم.
وقيل : ليجادلوكم ويخاصموكم به بما قلتم لهم عند ربكم في الآخرة يقولون كفرتم به بعد أن وقفتم على صدقه.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أن هذه حجة عليكم حيث تعترفون به ثم لا تتابعون
102
{ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ } [البقرة : 77] جميع { مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [البقرة : 77] ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان.
{ وَمِنْهُمْ } ومن اليهود { أُمِّيُّونَ } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها { لا يَعْلَمُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 78] التوراة { إِلا أَمَانِىَّ } [البقرة : 78] إلا ما هم عليه من أمانيهم وأن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا تمسهم النار إلا أياماً معدودة ، أو إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد ومنه قول عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت ، أو إلا ما يقرؤون من قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لا في حمام المقادر
أي لا يعلمون هؤلاء حقيقة المنزل وإنما يقرؤون أشياء أخذوها من أحبارهم.
والاستثناء منقطع.
{ وَإِنْ هُمْ } [الأنعام : 116] وما هم { إِلا يَظُنُّونَ } [البقرة : 78] لا يدرون ما فيه فيجحدون نبوتك بالظن.
ذكر العلماء الذين عاندوا بالتحريف مع العلم ثم العوام الذين قلدوهم { فَوَيْلٌ } في الحديث ويل واد في جهنم { لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 79] المحرف { بِأَيْدِيهِمْ } من تلقاء أنفسهم من غير أن يكون منزلاً.
وذكر الأيدي للتأكيد وهو من مجاز التأكيد { ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [البقرة : 79] عوضاً يسيراً.
{ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة : 79] من الرشا.
{ وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [البقرة : 80] أربعين يوماً عدد أيام
103
عبادة العجل.
وعن مجاهد رضي الله عنه : كانوا يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً.
{ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا } [البقرة : 80] أي عهد إليكم أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار { فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُا } [البقرة : 80] متعلق بمحذوف تقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده { أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 80] أم إما أن تكون معادلة أي أتقولون على الله ما تعلمون أم تقولون عليه ما لا تعلمون ، أو منقطعة أي بل أتقولون على الله ما لا تعلمون.
{ بَلَى } إثبات لما بعد النفي وهو لن تمسنا النار أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله هم فيها خالدون { مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } [البقرة : 81] شركاً عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله عنهم { وَأَحَـاطَتْ بِهِ } وسدت عليه مسالك النجاة بأن مات على شركه ، فأما إذا مات مؤمناً فأعظم الطاعات وهو الإيمان معه فلا يكون الذنب محيطاً به فلا يتناوله النص ، وبهذا التأويل يبطل تشبث المعتزلة والخوارج.
وقيل : استولت عليه كما يحيط العدو ولم يتفصّ عنها بالتوبة ، خطياته مدني.
{ خَطِياـئَتُهُ فَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 81].
جزء : 1 رقم الصفحة : 102
(1/73)
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } الميثاق العهد المؤكد غاية التأكيد { لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ } [البقرة : 83] إخبار في معنى النهي كما تقول تذهب إلى فلان تقول له كذا تريد الأمر.
وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء وهو يخبر عنه ، وتنصره قراءة أبيّ لا تعبدوا ، وقوله وقولوا والقول مضمر.
لا يعبدون : مكي وحمزة وعلي لأن بني إسرائيل اسم ظاهر والأسماء الظاهرة كلها غيب.
ومعناه
104
أن لا يعبدوا فلما حذفت " أن " رفع.
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } [الإسراء : 23] أي وأحسنوا ليلتئم عطف الأمر وهو قوله وقولوا عليه.
{ وَذِى الْقُرْبَى } [البقرة : 83] القرابة { وَالْيَتَـامَى } جمع يتيم وهو الذي فقد أباه قبل الحلم إلى الحلم لقوله عليه السلام لا يتم بعد البلوغ
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
{ وَالْمَسَـاكِينَ } جمع مسكين وهو الذي أسكنته الحاجة.
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } [البقرة : 83] قولاً هو حسن في نفسه لإفراط حسنه.
حسناً : حمزة وعلي.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } عن الميثاق ورفضتموه { إِلا قَلِيلا مِّنكُمْ } [البقرة : 83] قيل : هم الذين أسلموا منهم { وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ } [البقرة : 83] وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولية ، عن المواثيق.
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَـارِكُمْ } [البقرة : 84] أي لا يفعل ذلك بعضكم ببعض.
جعل غير الرجل نفسه إذ اتصل به أصلاً أو ديناً.
وقيل : إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ } [البقرة : 84] بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة : 84] عليها كما تقول : فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها.
أو وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق { ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء } [البقرة : 85] استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم.
أنتم مبتدأ وهؤلاء بمعنى " الذين " { تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة : 85] صلة هؤلاء .
وهؤلاء مع صلته خبراً أنتم { وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَـارِهِمْ } [البقرة : 85] غير مراقبين ميثاق الله { تَظَـاهَرُونَ عَلَيْهِم } [البقرة : 85] بالتخفيف كوفي أي تتعاونون.
وبالتشديد غيرهم.
فمن خفف فقد حذف إحدى التائين.
ثم قيل ؛ هي الثانية لأن الثقل بها.
وقيل : الأولى.
ومن شدد قلب التاء الثانية ظاء وأدغم.
{ بِالاثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [البقرة : 85] بالمعصية والظلم.
{ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـارَى تُفَـادُوهُمْ } [البقرة : 85] تفدوهم " : أبو عمرو.
أسرى تفدوهم مكي وشامي.
أسرى تفدوهم : حمزة أسارى تفادوهم : علي.
فدى وفادى بمعنى.
وأسارى حال وهو جمع أسير وكذلك أسرى.
والضمير في { وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 85] للشأن أو هو ضمير مبهم تفسيره { إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَـابِ } [البقرة : 85] بفداء الأسرى.
{ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة : 85] بالقتال والإجلاء.
قال السدي : أخذ الله عليكم أربعة عهود ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة وفداء الأسير فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء.
{ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَالِكَ } [البقرة : 85] هو إشارة إلى الإيمان ببعض والكفر ببعض { مِنكُمْ إِلا خِزْىٌ } [البقرة : 85] فضيحة وهوان { فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } وهو الذي لا روح فيه ولا فرح أو إلى أشد من عذاب الدنيا { وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] بالياء مكي ونافع وأبو بكر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 104
(1/74)
{ أُوالَـائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاخِرَةِ } [البقرة : 86] اختاروها على الآخرة اختيار المشتري { فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 86] ولا ينصرهم أحد بالدفع عنهم.
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ } [هود : 110] التوراة.
أتاه جملة { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } [البقرة : 87] يقال : قفاه إذا اتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب وقفاه به إذا أتبعه إياه.
يعني وأرسلنا على أثره الكثير من الرسل وهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم.
صلوات
106
الله عليهم { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
البقرة : 87] هي بمعنى الخادم ، ووزن مريم عند النحويين " مفعل " لأن " فعيلاً " لم يثبت في الأبنية ، البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص والإخبار بالمغيبات.
{ وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 87] أي الطهارة وبالسكون حيث كان : مكي.
أي بالروح المقدسة كما يقال " حاتم الجود " ووصفها بالقدس للاختصاص والتقريب.
أو بجبريل عليه السلام لأنه يأتي بما فيه حياة القلوب ، وذلك لأنه رفعه إلى السماء حين قصد اليهود قتله.
أو بالإنجيل كما قال في القرآن { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52] (الشورى : 25) ، أو باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره.
{ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولُ بِمَا لا تَهْوَى } [البقرة : 87] تحب { أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ } [البقرة : 87] تعظمتم عن قبوله { فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ } [البقرة : 87] كعيسى ومحمد عليهما السلام { وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [البقرة : 87] كزكريا ويحيى عليهما السلام.
ولم يقل قتلتم لوفاق الفواصل ، أو لأن المراد وفريقاً تقتلونه بعد لأنكم تحومون حول قتل محمد عليه السلام لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة.
والمعنى ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول منهم بالحق استكبرتم عن الإيمان به ، فوسط ما بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجب من شأنهم.
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفُ } [البقرة : 88] جمع أغلف أي هي خلقة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد عليه السلام ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لا يختن { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } [البقرة : 88] فرد الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، وإنما طردهم بكفرهم وزيغهم.
{ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 88] فـ " قليلاً " صفة مصدر محذوف أي فإيماناً قليلاً يؤمنون.
وما مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب.
وقيل : القلة بمعنى العدم.
غلف تخفيف غلف وقرىء به جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره ، أو أوعية للعلوم فلو كان ما جئت به حقاً لقبلنا.
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
(1/75)
الزخرف : 30] أي اليهود { كِتَـابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [البقرة : 89] أي القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } [البقرة : 101] من كتابهم لا يخالفه { وَكَانُوا مِن قَبْلُ } [البقرة : 89] يعني القرآن { يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة : 89] يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم قالوا : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، ويقولون لأعدائهم المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
{ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا } [البقرة : 89] ما موصولة أي ما عرفوه وهو فاعل " جاء " .
{ كَفَرُوا بِهِ } [البقرة : 89] بغياً وحسداً وحرصاً على الرياسة.
{ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 89] أي عليهم وضعاً للظاهر موضع المضمر للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
واللام للعهد أو للجنس ودخلوا فيه دخولاً أولياً ، وجواب لما الأولى مضمر وهو نحو كذبوا به أو أنكروه ، أو كفروا جواب الأولى والثانية لأن مقتضاهما واحد.
و " ما " في { بِئْسَمَا } نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس أي بئس شيئاً { اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } [البقرة : 90] أي باعوه والمخصوص بالذم.
{ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [البقرة : 90] يعني القرآن.
{ بَغْيًا } مفعول له أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، وهو علة اشتروا { أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ } [البقرة : 90] لأن ينزل.
أو على أن ينزل أي حسدوه على أن ينزل الله.
{ مِن فَضْلِهِ } [النساء : 32] الذي هو الوحي { عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [البقرة : 90] وهو محمد عليه السلام.
{ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } فصاروا أحقاء بغضب مترادف لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه أو كفروا بمحمد بعد عيسى عليهما السلام ، أو بعد قولهم عزيز ابن الله وقولهم يد الله مغلولة وغير ذلك.
{ وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة : 90] مذل.
" بئسما " وبابه غير مهموز : أبو عمرو.
وينزل بالتخفيف : مكي وبصري.
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 91] لهؤلاء اليهود.
{ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا } [البقرة : 91] يعني القرآن ، أو مطلق يتناول كل كتاب { قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } [البقرة : 91] أي التوراة.
{ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَآءَهُ } [البقرة : 91] أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة.
{ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } [البقرة : 91] غير مخالف له وفيه رد لمقالتهم لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها ، ومصدقاً حال مؤكدة.
{ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنابِيَآءَ اللَّهِ } [البقرة : 91] أي فلم قتلتم فوضع
108
المستقبل موضع الماضي ويدل عليه قوله { مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] أي من قبل محمد عليه السلام ، اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة والتوراة لا تسوغ قتل الأنبياء.
قيل : قتلوا في يوم واحد ثلثمائة نبي في بيت المقدس.
جزء : 1 رقم الصفحة : 106
{ وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَـاتِ } بالآيات التسع وأدغم الدال في الجيم حيث كان أبو عمرو وحمزة وعلي.
{ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 51] إلهاً { مِن بَعْدِهِ } [الأحزاب : 53] من بعد خروج موسى عليه السلام إلى الطور.
{ وَأَنتُمْ ظَـالِمُونَ } [البقرة : 51] هو حال أي عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة غير موضعها ، أو اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم.
{ بِقُوَّةٍ } كرر ذكر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى.
{ وَاسْمَعُوا } ما أمرتم به في التوراة.
{ قَالُوا سَمِعْنَا } [الأنبياء : 60] قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك وطابق قوله جوابهم من حيث إنه قال لهم اسمعوا وليكن سماعكم سماع تقبل وطاعة فقالوا سمعنا ولكن لا سماع طاعة.
{ وَأُشْرِبُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } [البقرة : 93] أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب ، وقوله : في قلوبهم ، بيان لمكان الإشراب والمضاف وهو الحب محذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
(1/76)
{ بِكُفْرِهِمْ } بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه.
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـانُكُمْ } [البقرة : 93] بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم وكذا إضافة الإيمان اليهم.
{ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم له.
{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاخِرَةُ } [البقرة : 94] أي الجنة.
{ عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] ظرف ، و " لكم " خبر " كان " { خَالِصَةً } حال من الدار الآخرة أي سالمة لكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً { مِّن دُونِ النَّاسِ } [البقرة : 94]
109
هو للجنس.
{ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 94] فيما تقولون لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها تخلصاً من الدار ذات الشوائب كما نقل عن العشرة المبشرين بالجنة أن كل واحد منهم كان يحب الموت ويحن إليه.
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدَا } [البقرة : 95] هو نصب على الظرف أي لن يتمنوه ما عاشوا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] بما أسلفوا من الكفر بمحمد عليه السلام وتحريف كتاب الله وغير ذلك وهو من المعجزات لأنه إخبار بالغيب وكان كما أخبر به كقوله { وَلَن تَفْعَلُوا } [البقرة : 24] (البقرة : 42) ، ولو تمنوه لنقل ذلك كما نقل سائر الحوادث.
{ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] تهديد لهم.
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ } [البقرة : 96] مفعولاً وجد " هم " و " أحرص " { عَلَى حَيَواةٍ } [البقرة : 96] التنكير يدل على أن المراد حياة مخصوصة وعلى الحياة المتطاولة ولذا كانت القراءة بها أوقع من قراءة " أبي " على الحياة { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [آل عمران : 186] هو محمول على المعنى لأن معنى أحرص الناس أحرص من الناس ، نعم قد دخل الذين أشركوا تحت الناس ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد كما أن جبريل وميكائيل خصا بالذكر وإن دخلا تحت الملائكة ، أو أريد وأحرص من الذين أشركوا فحذف لدلالة أحرص الناس عليه ، وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقاً بأعظم التوبيخ ، وإنما زاد حرصهم على الذين أشركوا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لعلمهم بحالهم والمشركون لا يعلمون ذلك.
وقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } [البقرة : 96] بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.
وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم عش ألف نيروز.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو قول الأعاجم زي هزارسال.
وقيل : ومن الذين أشركوا كلام مبتدأ أي ومنهم ناسٌ يود أحدهم على حذف الموصوف ،
110
والذين أشركوا على هذا مشار به إلى اليهود لأنهم قالوا عزيز ابن الله.
والضمير في { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ } [البقرة : 96] لأحدهم.
وقوله { أَن يُعَمَّرَ } [البقرة : 96] فاعل بمزحزحه أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره ، ويجوز أن يكون هو مبهماً وأن يعمر موضحه.
والزحزحة التبعيد والإنحاء.
قال في جامع العلوم وغيره : لو يعمر بمعنى " أن يعمر " ، فـ " لو " هنا نائبة عن " أن " و " أن " مع الفعل في تأويل المصدر وهو مفعول يود أي يود أحدهم تعمير ألف سنة.
{ وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 96] أي بعمل هؤلاء الكفار فيجازيهم عليه.
وبالتاء : يعقوب.
(1/77)
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ } [البقرة : 97] بفتح الجيم وكسر الراء بلا همز : مكي.
وبفتح الراء والجيم والهمز مشبعاً : كوفي غير حفص.
وبكسر الراء والجيم بلا همز : غيرهم.
ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة ومعناه عبد الله لأن " جبر " هو العبد بالسريانية و " إيل " اسم الله.
روي ان ابن صوريا من أحبار اليهود حاجّ النبي صلى الله عليه وسلّم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي فقال : جبريل.
فقال : ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا بك وقد عادانا مراراً ، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه ، وإن لم يكن إياه فعلى أي ذنب تقتلونه.
{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } [البقرة : 97] فإن جبريل نزل القرآن ، ونحو هذا الإضمار ـــــ أعني إضمار ما لم يسبق ذكره ـــــ فيه فخامة حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته.
{ عَلَى قَلْبِكَ } [البقرة : 97] أي حفظه إياك.
وخص القلب لأنه محل الحفظ كقوله : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ * عَلَى قَلْبِكَ } (الشعراء : 491) ، وكان حق الكلام أن يقال على قلبي ولكن
111
جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به ، وإنما استقام أن يقع فإنه نزله جزاء للشرط لأن تقديره إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم.
وقيل : جواب الشرط محذوف تقديره من كان عدواً لجبريل فليمت غيظاً فإنه نزل الوحي على قلبك { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بأمره { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 97] رد على اليهود حين قالوا إن جبريل ينزل بالحرب والشدة فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 109
{ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلـاـاـاِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ } [البقرة : 98] بصري وحفص.
و " ميكائل " باختلاس الهمزة كـ " ميكاعل " : مدني.
وميكائيل بالمد وكسر الهمزة مشبعة : غيرهم.
وخص الملكان بالذكر لفضلهما كأنهما من جنس آخر إذ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات.
{ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـافِرِينَ } [البقرة : 98] أي لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر كعداوة الأنبياء ومن عاداهم عاداه الله
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـات بَيِّنَـاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلا الْفَـاسِقُونَ } [البقرة : 99] المتمردون من الكفرة واللام للجنس والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آية فنتبعك بها فنزلت الواو في { أَوَكُلَّمَا } الواو للعطف على محذوف تقديره أكفروا بالآيات البينات.
وكلما { عَـاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ } [البقرة : 100] نقضه ورفضه وقال { فَرِيقٌ مِّنْهُم } [الروم : 33] لأن منهم من لم ينقض { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 100] بالتوراة وليسوا من الدين في شيء فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً ولا يبالون به.
112
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [البقرة : 101] محمد صلى الله عليه وسلّم { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [البقرة : 101] أي التوراة والذين أوتوا الكتاب اليهود { كَتَبَ اللَّهُ } [الانفال : 75] يعني التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها ، أو كتاب الله القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول.
{ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [البقرة : 101] مثل لتركهم وإعراضهم عنه مثل بما يرمى به وراء الظهور استغناء عنه وقلة التفات إليه { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 101] أنه كتاب الله.
(1/78)
{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَـاطِينُ } [البقرة : 102] أي نبذ اليهود كتاب الله واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَـانَ } [البقرة : 102] أي على عهد ملكه في زمانه ، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما يسمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرأونها ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا ؛ إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الجن والإنس والريح.
{ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـانُ } [البقرة : 102] تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به { وَلَـاكِنَّ الشَّيَـاطِينَ } [البقرة : 102] هم الذين { كَفَرُوا } باستعمال السحر وتدوينه.
ولكن بالتخفيف الشياطين بالرفع : شامي وحمزة وعلي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } [البقرة : 102] في موضع الحال أي كفروا معلمين الناس السحر قاصدين به إغواءهم وإضلالهم
113
{ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ } [البقرة : 102] الجمهور على أن ما بمعنى " الذي " هو نصب عطف على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أو على ما تتلوا أي واتبعوا ما أنزل على الملكين { بِبَابِلَ هَـارُوتَ وَمَـارُوتَ } [البقرة : 102] علمان لهما وهما عطف بيان للملكين ، والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً إن كان فيه رد ما لزم في شرط الإيمان ، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه لئلا يغتر به كان مؤمناً ، قال الشيخ أبو منصور الماتريدي رحمه الله : القول بأن السحر على الإطلاق كفر خطأ بل يجب البحث عن حقيقته ، فإن كان في ذلك رد ما لزم في شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا.
ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الأناث ، وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقبل توبته إذا تاب.
ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة فرعون قبلت توبتهم.
وقيل : أنزل أي قذف في قلوبهما مع النهي عن العمل.
قيل : إنهما ملكان اختارتهما الملائكة لتركب فيهما الشهوة حين عيرت بني آدم فكانا يحكمان في الأرض ويصعدان بالليل ، فهويا زهرة فحملتهما على شرب الخمر فزنيا فرآهما إنسان فقتلاه فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة ، فهما يعذبان منكوسين في جب ببابل وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها.
{ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } [البقرة : 102] وما يعلم الملكان أحداً { حَتَّى يَقُولا } [البقرة : 102] حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } [البقرة : 102] ابتلاء واختبار من الله.
{ فَلا تَكْفُرْ } [البقرة : 102] بتعلمه والعمل به على وجه يكون كفراً { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } [البقرة : 102] الفاء عطف على قوله يعلمون الناس السحر أي يعلمونهم فيتعلمون من السحر والكفر اللذين دل عليهما قوله كفروا و يعلمون الناس السحر أو على مضمر والتقدير : فيأتون فيتعلمون.
والضمير لما دل عليه من أحد أي فيتعلم الناس من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه } أي علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين بأن يحدث الله عنده النشوز والخلاف ابتلاء امنه.
وللسحر حقيقة عند أهل السنة كثرهم الله وعنده المعتزلة هو تخييل وتمويه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ } [البقرة : 102] بالسحر { مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 102] بعلمه ومشيئته { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ } [البقرة : 102] في الآخرة وفيه دليل على أنه واجب الاجتناب كتعلم الفلسفة التي تجر إلى الغواية.
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا } [البقرة : 102] أي اليهود { لَمَنِ اشْتَرَاـاهُ } [البقرة : 102] أي استبدل ما تتلو الشياطين من كتاب الله
114
(1/79)
{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ } من نصيب { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَـافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } باعوها وإنما نفى العلم عنهم بقوله { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 102] مع إثباته لهم بقوله ولقد علموا على سبيل التوكيد القسمي لأن معناه لو كانوا يعلمون بعلمهم جعلهم حين لم يعلموا به كأنهم لا يعلمون.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا } [البقرة : 103] برسول الله والقرآن { وَاتَّقُوا } الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 103] أن ثواب الله خير مما هم فيه وقد علموا ، لكنه جهلهم لما تركوا العمل بالعلم والمعنى : لأثيب من عند الله ما هو خير ، وأوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب لو لما فيها من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها.
ولم يقل لمثوبة الله خير لأن المعنى لشيء من الثواب خير لهم.
وقيل : لو بمعنى التمني كأنه قيل : وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا } كان المسلمون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم : راعنا يا رسول الله أي راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه ، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية وهي " راعينا " ، فلما سمعوا بقول المؤمنين " راعنا " افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون به تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو " انظرنا " من نظره إذا انتطره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
{ وَاسْمَعُوا } وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا.
{ وَلِلْكَـاـفِرِينَ } ولليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 104] مؤلم.
115
{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } [البقرة : 105] وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو.
{ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 105] من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون ، والثانية مزيدة لاستغراق الخير ، والثالثة لابتداء الغاية.
والخير الوحي وكذلك الرحمة.
{ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 105] يعني أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي والله يختص بالتوبة من يشاء { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105] فيه إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم ولما طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً نزل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 112
(1/80)
{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [البقرة : 106] تفسير النسخ لغة التبديل ، وشريعة بيان انتهاء الحكم الشرعي المطلق الذي تقرر في أوهامنا استمراره بطريق التراخي فكان تبديلاً في حقنا بياناً محضاً في حق صاحب الشرع.
وفيه جواب عن البداء الذي يدعيه منكروه ـــــ أعني اليهود ـــــ ومحله حكم يحتمل الوجود والعدم في نفسه لم يلحق به ما ينافي النسخ من توقيت أو تأبيد ، ثبت نصاً أو دلالة.
وشرطه التمكن من عقد القلب عندنا دون التمكن من الفعل خلافاً للمعتزلة.
وإنما يجوز النسخ بالكتاب والسنة متفقاً ومختلفاً ويجوز نسخ التلاوة والحكم ، والحكم دون التلاوة ، والتلاوة دون الحكم ونسخ وصف بالحكم مثل الزيادة على النص فإنه نسخ عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله.
والإنساء أن يذهب بحفظها عن القلوب أو ننسأها مكي وأبو عمرو أي نؤخرها من نسأت أي أخرت { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } [البقرة : 106] أي نأت بآية خير منها للعباد أي بآية العمل بها أكثر للثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ أَوْ مِثْلِهَآ } [البقرة : 106] في ذلك إذ لا فضيلة لبعض الآيات على البعض { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 106] أي قادر فهو يقدر على الخير وعلى مثله { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 107] فهو يملك أموركم ويدبرها وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ أو منسوخ.
{ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } [البقرة : 107] يلي أمركم { وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ناصر يمنعكم من العذاب { أَمْ تُرِيدُونَ } [البقرة : 108] أم منقطعة وتقديره بل أتريدون { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـاَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُـاـاِلَ مُوسَى } [البقرة : 108] روي أن قريشاً قالوا : يا محمد اجعل لنا الصفا ذهباً ووسع لنا أرض مكة فنهوا أن يقترحوا عليه الآيات كما اقترح قوم موسى عليه حين قالوا اجعل لنا إلهاً.
{ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالايمَـانِ } [البقرة : 108] ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } [البقرة : 108] قصده ووسطه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم } [البقرة : 109] أن يردوكم { مِّن بَعْدِ إِيمَـانِكُمْ كُفَّارًا } [البقرة : 109] حال من " كم " أي يردونكم عن دينكم كافرين ، نزلت حين قالت اليهود للمسلمين بعد واقعة أحد : ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.
{ حَسَدًا } مفعول له أي لأجل الحسد وهو الأسف على الخير عند الغير { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِم } [البقرة : 109] يتعلق بـ " ودّ " أي ودوا من عند أنفسهم ومن قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق لأنهم ودوا ذلك { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } [البقرة : 109] أي من بعد علمهم بأنكم على الحق ، أو بحسداً أي حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم.
{ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا } [البقرة : 109] فاسلكوا بهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة { حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } [البقرة : 109] بالقتال { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] فهو يقدر على الانتقام منهم.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } من حسنة صلاة أو صدقة أو غيرهما { تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } [البقرة : 110] تجدوا ثوابه عنده { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 110] فلا يضيع عنده عمل عامل.
117
والضمير في { وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 111] لأهل الكتاب من اليهود والنصارى أي وقالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ، فلفّ بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله ، وأمناً من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ } [
(1/81)
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
البقرة : 113]؟ وهود جمع هائد كعائذ وعوذ وواحد اسم كان للفظ من ، وجمع الخبر لمعناه.
{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } [البقرة : 111] أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً ، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم.
والأمنية أفعولة من التمني مثل الأضحوكة.
{ قُلْ هَاتُوا بُرْهَـانَكُمْ } [البقرة : 111] هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة.
وهات بمنزلة هاء بمعنى أحضر وهو متصل بقولهم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى " وتلك أمانيهم اعتراض.
{ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في دعواكم.
{ بَلَى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة.
{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره.
{ وَهُوَ مُحْسِنٌ } [لقمان : 22] مصدق بالقرآن.
{ فَلَهُا أَجْرُهُ } [البقرة : 112] جواب من أسلم .
وهو كلام مبتدأ متضمن لمعنى الشرط وبلى رد لقولهم.
{ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 112].
جزء : 1 رقم الصفحة : 117
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَـارَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَـارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ } [البقرة : 113] أي على شيء يصح ويعتد به.
والواو في { وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَـابَ } [البقرة : 113] للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق
118
للآخر.
{ كَذَالِكَ } مثل ذلك القول الذي سمعت به { قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
البقرة : 113] أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة ، قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء ، وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [البقرة : 113] أي بين اليهود والنصارى بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب اللائق به.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } [البقرة : 114] موضع من رفع على الابتداء وهو استفهام وأظلم خبره والمعنى : أي أحد أظلم؟ وأن يذكر ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالايَـاتِ } [الإسراء : 59] (الإسراء : 95).
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا } [الإسراء : 94] (الإسراء : 49).
ويجوز أن يحذف حرف الجر مع " أن " أي من أن يذكر وأن تنصبه مفعولاً له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد الله وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم.
والسبب فيه طرح النصارى في بيت المقدس الأذى ، ومنعهم الناس أن يصلوا فيه ، أو منع المشركين رسول الله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية.
وإنما قيل مساجد الله وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاماً وإن كان السبب خاصاً كقوله تعالى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [الهمزة : 1] (الهمزة : 1) والمنزول فيه الأخنس بن شريق.
{ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ } [البقرة : 114] بانقطاع الذكر والمراد بـ من العموم كما أريد العموم بمساجد الله.
{ أُوالَـائِكَ } المانعون { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } [البقرة : 114] أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله { إِلا خَآئِفِينَ } [البقرة : 114] حال من الضمير في يدخلوها أي على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها.
والمعنى : ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم.
روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً خيفة أن يقتل.
وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا بولغ ضرباً.
ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا لا يحجن بعد
119
(1/82)
هذا العام مشرك.
وقيل : معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } [الأحزاب : 53] (الأحزاب : 35) { لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } [البقرة : 114] قتل وسبي للحربي وذلة بضرب الجزية للذمي { وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 114] أي النار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } [البقرة : 115] أي بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها { فَأَيْنَمَا } شرط { تَوَلَّوْا } مجزوم به أي ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى : { شَطْرَهُ } (البقرة : 441) ، والجواب { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } [البقرة : 115] أي جهته التي أمر بها ورضيها.
والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان.
{ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 115] أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت.
وقيل : عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة ، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا.
هو حجة على الشافعي رحمه الله فيما إذا استدبر.
وقيل : فأينما تولوا للدعاء والذكر.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } [البقرة : 116] يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله.
قالوا : شامي فإثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها ، وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة أخرى.
{ سُبْحَـانَهُ } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [البقرة : 116] أي هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزيز والولادة تنافي الملك.
{ كُلٌّ لَّهُ قَـانِتُونَ } [البقرة : 116] منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره.
والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه أي كل ما في السموات والأرض ، أو كل من جعلوه لله
120
ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم.
وجاء بـ ما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون كقوله " سبحان ما سخركن لنا " { بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنعام : 101] أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق.
وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا } [البقرة : 117] أي حكم أو قدر { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [البقرة : 117] هو من " كان " التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثمّ.
وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ، ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء.
وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثمّ.
والوجه الرفع في فيكون وهو قراءة العامة على الاستئناف أي فهو يكون ، أو على العطف على يقول .
ونصبه ابن عامر على لفظ كن لأنه أمر وجواب الأمر بالفاء نصب.
وقلنا : إن كن ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال وإذ قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون ، وإذا كان كذلك فلا معنى للنصب.
وهذا لأنه لو كان أمراً فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب بـ " كن " أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب.
(1/83)
{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 118] من المشركين أو من أهل الكتاب ، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به { لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ } [البقرة : 118] هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى استكباراً منهم وعتواً { أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ } [البقرة : 118] جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات واستهانه بها { كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَـابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى { قَدْ بَيَّنَّا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة : 118] أي لقوم ينصفون
121
فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها { إِنَّآ أَرْسَلْنَـاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا } [البقرة : 119] للمؤمنين بالثواب { وَنَذِيرًا } للكافرين بالعقاب { وَلا تُسْـاَلُ عَنْ أَصْحَـابِ الْجَحِيمِ } [البقرة : 119] ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك في دعوتهم وهو حال كـ " نذيراً " وبشيراً وبالحق أي وغير مسؤول أو مستأنف.
قراءة نافع ولا تسأل على النهي ومعناه ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول : كيف فلان سائلاً عن الواقع في بلية فيقال لك : لا تسأل عنه.
وقيل : نهى الله نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعري ما فعل أبواي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَـارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } [البقرة : 120] كأنهم قالوا لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام ، فذكر الله عز وجل كلامهم.
{ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } [البقرة : 120] الذي رضي لعباده { هُوَ الْهُدَى } [الأنعام : 71] أي الإسلام.
وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى.
ألا ترى إلى قوله { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم } [البقرة : 120] أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع { بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة : 120] أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ } من عذاب الله { مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } [البقرة : 107] ناصر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 118
{ الَّذِينَ } مبتدأ { الْكِتَـابِ مِنَ } [القصص : 52] صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والإنجيل ، أو أصحاب النبي عليه السلام والكتاب القرآن.
{ يَتْلُونَهُ } حال مقدرة من " هم " لأنهم لم يكونوا تالين له وقت إيتائه ، ونصب على المصدر.
{ حَقَّ تِلاوَتِهِ } [البقرة : 121] أي يقرأونه حق قراءته في الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر ، أو يعملون به ويؤمنون بما فيه مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي صلى الله عليه وسلّم.
{ أُوالَـائِكَ } مبتدأ خبره
122
{ يُؤْمِنُونَ } به } والجملة خبر الذين ويجوز أن يكون يتلونه خبراً ، والجملة خبر آخر.
{ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوالَـائكَ هُمُ الْخَـاسِرُونَ } [البقرة : 121] حيث اشتروا الضلالة بالهدى { يَـابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي أنعمتها عليكم { وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَـاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ } [البقرة : 123] هم رفع بالابتداء والخبر ينصرون .
والجمل الأربع وصف لـ يوماً أي واتقوا يوماً لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا تنفعها فيه ولا هم ينصرون فيه.
وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصي منهم ، وختم قصة بني إسرائيل بما بدأ به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
(1/84)
{ وَإِذْ } أي واذكر إذ { ابْتَلَى إِبْرَاهِ مَ رَبُّهُ بِكَلِمَـاتٍ } [البقرة : 124] اختبره بأوامر ونواه.
والاختبار منا لظهور ما لم نعلم ، ومن الله لإظهار ما قد علم ، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى.
وقيل : اختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك.
وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِ مَ رَبُّهُ بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ } أي قام بهن حق القيام وأدّاهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ ونحوه { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى } [النجم : 37] (النجم : 73) ومعناه في قراءة أبي حنيفة رحمه الله فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً.
والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه في قوله : { رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا ءَامِنًا } [البقرة : 126] (البقرة : 621).
{ وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [البقرة : 128] (البقرة : 821).
123
{ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْهُمْ } [البقرة : 129] (البقرة : 921).
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة : 127] (البقرة : 721).
والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس : الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق.
وخمس في الجسد : الختان وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاثون سهماً من الشرائع : عشر في براءة { التَّـائِبُونَ } (الآية : 21) ، وعشر في الأحزاب { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَـاتِ } [الأحزاب : 35] الآية ، وعشر في " المؤمنين " و " المعارج " إلى قوله { يُحَافِظُونَ } وقيل : هي مناسك الحج { قَالَ إِنِّى جَـاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } [البقرة : 124] هو اسم من يؤتم به أي يأتمون بك في دينهم.
{ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى } [البقرة : 124] أي واجعل من ذريتي إماماً يقتدى به.
ذرية الرجل أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء.
فعيلة من الذرء أي الخلق فأبدلت الهمزة ياء.
{ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 124] بسكون الياء : حمزة وحفص أي لا تصيب الإمامة أهل الظلم من ولدك أي أهل الكفر.
أخبر أن إمامة المسلمين لا تثبت لأهل الكفر وأن من أولاده المسلمين والكافرين قال الله تعالى : { وَبَـارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَـاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [الصافات : 113] (الصافات : 311).
والمحسن المؤمن والظالم الكافر.
قالت المعتزلة : هذا دليل على أن الفاسق ليس بأهل للإمامة قالوا : وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر " من استرعى الذئب ظلم " .
ولكنا نقول : المراد بالظالم الكافر هنا إذ هو الظالم المطلق.
وقيل : إنه سأل أن يكون ولده نبياً كما كان هو فأخبر أن الظالم لا يكون نبيا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 122
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ } [البقرة : 125] أي الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } [البقرة : 125] مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه { وَأَمْنًا } وموضع أمن فإن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا في الملتجىء إلى الحرم.
{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِ مَ مُصَلًّى } [البقرة : 125] وقلنا أتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه.
وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال " هذا مقام إبراهيم " فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام " لم أومر بذلك " .
فلم تغب الشمس حتى
124
(1/85)
نزلت.
وقيل : مصلى مدعى ، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه.
وقيل : الحرم كله مقام إبراهيم.
واتخذوا شامي ونافع بلفظ الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها { وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ } أمرناهما { أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ } [البقرة : 125] بفتح الياء : مدني وحفص أي بأن طهرا أو أي طهرا والمعنى طهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها { لِلطَّآئِفِينَ } للدائرين حوله { وَالْعَـاكِفِينَ } المجاورين الذين عكفوا عنده أي أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين.
وقيل : للطائفين للنزّاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة.
{ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [البقرة : 125] والمصلحين جمعاً راكع وساجد.
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِ مُ } [البقرة : 126] رب اجعل هذا } أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان { بَلَدًا ءَامِنًا } [البقرة : 126] ذا أمن كعيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك " ليل نائم " فهذا مفعول أول.
وبلداً مفعول ثانٍ وآمناً صفة له.
{ وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ } [البقرة : 126] لأنه لم يكن لهم ثمرة.
ثم أبدل { مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 126] من أهله بدل البعض من الكل أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة.
قاس الرزق على الإمامة فخص المؤمنين به.
قال الله تعالى جواباً له { وَمَن كَفَرَ } [النور : 55] أي وارزق من كفر { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا } [البقرة : 126] تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إلى حين أجله.
فأمتعه : شامي { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } [البقرة : 126] ألجئه { إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 126] المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَإِذْ يَرْفَعُ } [البقرة : 127] حكاية حال ماضية { إِبْرَاهِ مُ الْقَوَاعِدَ } [البقرة : 127] هي جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة.
ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر.
{ مِنَ الْبَيْتِ } [البقرة : 127] بيت الله وهو الكعبة { وَإِسْمَـاعِيلَ } هو عطف على إبراهيم
125
(1/86)
وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة { رَبَّنَآ } أي يقولان ربنا.
وهذا الفعل في محل النصب على الحال وقد أظهره عبد الله في قراءته ومعناه يرفعانها قائلين ربنا { تَقَبَّلْ مِنَّآ } [البقرة : 127] تقربنا إليك ببناء هذا البيت { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ } [البقرة : 127] لدعائنا { الْعَلِيمُ } بضمائرنا ونياتنا.
وفي إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام تفخيم لشأن المبين.
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [البقرة : 128] مخلصين لك أوجهنا من قوله { أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة : 112] (البقرة : 211) أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن ، والمعنى زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك.
{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ } [البقرة : 128] واجعل من ذريتنا { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة : 128] ومن للتبعيض أو للتبيين.
وقيل : أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى : { قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } [التحريم : 6] (التحريم : 6).
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [البقرة : 128] منقول من " رأى " بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أي وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها.
وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك.
وأرنا : مكي قاسه على فخذ في فخذ ، وأبو عمرو يشم الكسرة.
{ وَتُبْ عَلَيْنَآ } [البقرة : 128] ما فرط منا من التقصير أو استتاباً لذريتهما { إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ } في الأمة المسلمة { رَسُولا مِّنْهُمْ } [المؤمنون : 32] من أنفسهم فبعث الله فيهم محمداً عليه السلام ، قال عليه السلام أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي .
{ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِكَ } [البقرة : 129] يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ورسلك { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 164] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } السنة وفهم القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ } [البقرة : 129] الغالب الذي لا يغلب { الْحَكِيمُ } فيما أوليت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 130] استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن
126
(1/87)
يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم.
والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج { إِلا مَنِ } [سبأ : 37] في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب ، وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك " هل جاءك أحد إلا زيد " والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من { سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة : 130] أي جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه.
فوضع سفه موضع جهل وعدي كما عدي ، أومعناه سفه في نفسه فحذف في كما حذف " من " في قوله { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف : 155] (الأعراف : 551) أي من قومه ، وعلى في قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } .
أي على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج.
وقال الفراء : هو منصوب على التمييز وهو ضعيف لكونه معرفة.
{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَـاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاخِرَةِ لَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [البقرة : 130] بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة من طريقته منه { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] ظرف لاصطفيناه ، أو انتصب بإضمار " اذكر " كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
{ لَهُ رَبُّهُا أَسْلِمْ } [البقرة : 131] أذعن أو أطع أو أخلص دينك لله { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 131] أي أخلصت أو انقدت.
{ وَوَصَّى } وأوصى مدني وشامي.
{ بِهَآ } بالملة أو بالكلمة وهي أسلمت لرب العالمين { إِبْرَاهِ مُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [البقرة : 132] هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً { أَوْ بَنِى } على إضمار القول { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ } [البقرة : 132] أي أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ووفقكم للأخذ به { فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [البقرة : 132] فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام ، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك " لا تصلّ إلا وأنت خاشع " فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } [البقرة : 133] أم منقطعة ومعنى الهمزة
127
(1/88)
فيها الإنكار.
والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أي حين احتضر ، والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي.
أو متصله ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية كأنه قيل : أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] بدل من " إذ " الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف لـ حضر { لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ } [البقرة : 133] ما استفهام في محل النصب بـ تعبدون أي أيّ شيء تبعدون؟ و " ما " عام في كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول " ما زيد " تريد أفقيه أم طبيب.
{ مِن بَعْدِى } [الصف : 6] من بعد موتي.
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـاهَكَ وَإِلَـاهَ ءَابَآئِكَ } [البقرة : 133] أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار.
{ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ } [البقرة : 133] عطف بيان لآبائك ، وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم أب قال عليه السلام في العباس " هذا بقية آبائي " .
{ إِلَـاهًا وَاحِدًا } [ص : 5] بدل من إله آبائك كقوله : { كَلا لَـاـاِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَـاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } أو نصب على الاختصاص أي نريد بإله آبائك إلهاً واحداً.
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] حال من فاعل نعبد أو جملة معطوفة على نعبد أو جملة اعتراضية مؤكدة.
{ تِلْكَ } إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون { أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } [البقرة : 134] مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ } [البقرة : 134] أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً ، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم { وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 134] ولا تؤاخذون بسيئاتهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 135] أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى.
وجزم { تَهْتَدُوا } لأنه جواب الأمر.
{ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 135] بل نتبع ملة إبراهيم { حَنِيفًا } حال من المضاف إليه نحو " رأيت وجه هند قائمة " .
128
(1/89)
والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق.
{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 135] تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاًّ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك.
{ قُولُوا } هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل { بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ } [البقرة : 136] أي القرآن { وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ } [البقرة : 136] السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر.
ويعدى أنزل بـ " إلى " و " على " فلذا ورد هنا بـ " إلى " وفي آل عمران بـ " على " { وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [البقرة : 136] أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى.
وأحد في معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه.
{ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] لله مخلصون { فَإِنْ ءَامَنُوا بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا } [البقرة : 137] ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون لله تعالى مثل وتعالى عن ذلك.
فقيل : الباء زائدة ومثل صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم والهاء يعود إلى الله عز وجل ، وزيادة الباء غير عزيز قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَة بِمِثْلِهَا } [يونس : 27] (يونس : 72) والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله في الآية الأخرى : { وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى : 40] (الشورى : 04) وقيل : المثل زيادة أي فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه بما آمنتم به .
وما بمعنى " الذي " بدليل قراءة أبي بالذي آمنتم به .
وقيل : الباء للاستعانة كقولك " كتبت بالقلم " أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها وّإن تولّوا } عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها فإنّما هم في شقاقٍ } أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [البقرة : 137] ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل
129
بعضهم وإجلاء بعضهم ، ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين.
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لما ينطقون به { الْعَلِيمُ } بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم ، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أي يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 124
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } [البقرة : 138] دين الله وهو مصدر مؤكد منتصب عن قوله : آمنا بالله .
وهي فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ، والمعنى تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس.
والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم فإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً حقاً ، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم : آمنا بالله وصبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم.
وجيء بلفظ الصبغة للمشاكلة كقولك لمن يغرس الأشجار إغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً يصطنع الكرم.
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } [البقرة : 138] تمييز أي لا صبغة أحسن من صبغته يريد الدين أو التطهير.
{ وَنَحْنُ لَهُ عَـابِدُونَ } [البقرة : 138] عطف على آمنا بالله وهذا العطف يدل على أن قوله : صبغة الله داخل في مفعول قولوا آمنا أي قولوا هذا وهذا ونحن له عابدون ويردّ قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه.
وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
(1/90)
{ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ } [البقرة : 139] أي أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } [البقرة : 139] نشرك جميعاً في أننا عباده وهو ربنا وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده { وَلَنَآ أَعْمَـالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـالُكُمْ } [البقرة : 139] يعني أن العمل هو أساس الأمر وكما أن لكم أعمالاً فلنا كذلك { وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } [البقرة : 139] أي نحن له موحدون نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون ، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالنبوة من غيره.
130
{ أَمْ تَقُولُونَ } [البقرة : 140] بالتاء شامي وكوفي غير أبي بكر.
وأم على هذا معادلة للهمزة في أتحاجوننا يعني أي الأمرين تأتون : المحاجة في حكم الله أم إدعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ أو منقطعة أي بل أتقولون.
يقولون : غيرهم بالياء ، وعلى هذا لا تكون الهمزة إلا منقطعة.
{ إِنَّ إِبْرَاهِ مَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 140] ثم أمر نبيه عليه السلام أن يقول مستفهماً راداً عليهم بقوله : { قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة : 140] يعني أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } (آل عمران : 76).
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَـادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ } [البقرة : 140] أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادة الله لإبراهيم بالحنيفية.
والمعنى أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها ، أو أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها.
وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد عليه السلام بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته.
ومن في قوله من الله مثلها في قولك " هذه شهادة مني لفلان " إذا شهدت له في أنها صفة لها.
{ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] من تكذيب الرسل وكتمان الشهادة.
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْـاَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 134] كررت للتأكيد أو لأن المراد بالأول الأنبياء عليهم السلام وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
{ سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ } [البقرة : 142] الخفاف الأحلام فأصل السفه الخفة ، وهم اليهود لكراهتهم التوجه إلى الكعبة وأنهم لا يرون النسخ ، أو المنافقون لحرصهم على الطعن والاستهزاء ، أو المشركون لقولهم " رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها والله ليرجعن إلى دينهم " .
وفائدة الإخبار بقولهم قبل وقوعه توطين النفس إذ المفاجأة بالمكروه أشد ، وإعداد الجواب قبل الحاجة إليه أقطع للخصم فقبل الرمي يراش السهم.
{ مَا وَلَّـاهُمْ } [البقرة : 142] ما صرفهم { عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُوا عَلَيْهَا } [البقرة : 142] يعنون بيت المقدس.
131
(1/91)
والقبلة الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة لأن المصلي يقابلها { قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } [البقرة : 142] أي بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها له { يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [البقرة : 272] من أهلها { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] طريق مستوٍ.
أي يرشد من يشاء إلى قبلة الحق وهي الكعبة التي أمرنا بالتوجه إليها ، أو الأماكن كلها لله فيأمر بالتوجه إلى حيث شاء فتارة إلى الكعبة وطوراً إلى بيت المقدس لا اعتراض عليه لأنه المالك وحده.
{ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَـاكُمْ } [البقرة : 143] ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم فالكاف للتشبيه و " ذا " جر بالكاف واللام للفرق بين الإشارة إلى القريب والإشارة إلى البعيد والكاف للخطاب لا محل لها من الإعراب.
{ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة : 143] خياراً.
وقيل : للخيار وسط لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والأوساط محمية أي كما جعلت قبلتكم خير القبل جعلتكم خير الأمم ، أو عدولاً لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض.
أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم أمة وسطاً بين الغلو والتقصير فإنكم لم تغلوا غلو النصارى حيث وصفوا المسيح بالألوهية ، ولم تقصروا تقصير اليهود حيث وصفوا مريم بالزنا وعيسى بأنه ولد الزنا { لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ } [البقرة : 143] غير منصرف لمكان ألف التأنيث { عَلَى النَّاسِ } [الأعراف : 144] صلة شهداء { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
البقرة : 143] عطف على لتكونوا .
روي أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد عليه السلام فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم؟ فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق ، فيؤتى بمحمد عليه السلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم.
والشهادة قد تكون بلا مشاهدة كالشهادة بالتسامع في الأشياء المعروفة.
ولما كان الشهيد كالرقيب جيء بكلمة الاستعلاء كقوله تعالى : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 117] (المائدة : 71).
وقيل : لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار ، ويكون الرسول عليكم شهيداً يزكيكم ويعلم بعدالتكم.
واستدل
132
الشيخ أبو منصور رحمه الله بالآية على أن الإجماع حجة لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة ، والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله.
وأخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ } [البقرة : 143] أي وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة ، فالتي كنت عليها ليست بصفة للقبلة بل هي ثاني مفعولي جعل.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة.
{ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [البقرة : 143] أي وما جعلنا القبلة التي تحب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة إلا امتحاناً للناس وابتلاء لنعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه لقلقه يرجع فيرتد عن الإسلام عند تحويل القبلة.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى قوله لنعلم أي لنعلم كائناً أو موجوداً ما قد علمناه أنه يكون ويوجد ، فالله تعالى عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده أنه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيه ولا يوصف بأنه عالم في الأزل بأنه موجود كائن لأنه ليس بموجود في الأزل فكيف يعلمه موجوداً ، فإذا صار موجوداً يدخل تحت علمه الأزلي فيصير معلوماً له موجوداً كائناً ، والتغير على المعلوم لا على العلم.
أو لنميز التابع من الناكص كما قال تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
(1/92)
{ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الانفال : 37] (الأنفال : 73) فوضع العلم موضع التمييز لأن العلم به يقع التمييز ، أو ليعلم رسول الله عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته لأنهم خواصه أو هو على ملاطفة الخطاب لمن لا يعلم كقولك لمن ينكر ذوب الذهب " فلنلقه في النار لنعلم أيذوب " .
{ وَإِن كَانَتْ } [البقرة : 143] أي التحويلة أو الجعلة أو القبلة.
وإن هي المخففة ، واللام في { لَكَبِيرَةٌ } أي ثقيلة شاقة وهي خبر " كان " واللام فارقة { إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } [البقرة : 143] أي هداهم الله فحذف العائد أي إلا على الثابتين الصادقين في اتباع الرسول.
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَـانَكُمْ } [البقرة : 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس ؛ سمى الصلاة إيماناً لأن وجوبها على أهل
133
الإيمان وقبولها من أهل الإيمان وأداؤها في الجماعة دليل الإيمان.
ولما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الكعبة قالوا : كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت.
ثم علل ذلك فقال { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ } مهموز مشبع : حجازي وشامي وحفص.
رؤوف غيرهم بوزن " فعل " وهما للمبالغة.
{ رَّحِيمٌ } لا يضيع أجورهم ، والرأفة أشد من الرحمة وجمع بينهما كما في الرحمن الرحيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 130
{ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } [البقرة : 144] تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود ، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم.
{ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ } فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له ، أو فلنجعلك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.
{ قِبْلَةً تَرْضَـاهَا } [البقرة : 144] تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها وواقفت مشيئة الله وحكمته.
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 144] أي نحوه.
وشطر نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أي في جهته وسمته لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي.
وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين.
روي أنه عليه السلام قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة.
{ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } [البقرة : 144] من الأرض وأردتم الصلاة { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُا وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ } [البقرة : 144] أي التحويل إلى الكعبة هو الحق لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه يصلي إلى القبلتين.
{ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 144] بالياء مكي وأبو عمرو ونافع وعاصم ، وبالتاء غيرهم.
فالأول وعيد للكافرين بالعقاب على الجحود والإباء ، والثاني وعد للمؤمنين بالثواب على القبول.
والأداء.
134
{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [البقرة : 145] أراد ذوي العناد منهم { بِكُلِّ ءَايَةٍ } [البقرة : 145] برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق { مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } [البقرة : 145] لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق.
وجواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
(1/93)
{ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } [البقرة : 145] حسم لأطماعهم إذ كانوا اضطربوا في ذلك قولوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم ووحدت القبلة ، وإن كان لهم قبلتان فلليهود قبلة وللنصارى قبلة لاتحادهم في البطلان.
{ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } [البقرة : 145] يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم كما لا ترجى موافقتهم لك ، فاليهود تستقبل بيت المقدس ، والنصارى مطلع الشمس.
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة : 145] أي من بعد وضوح البرهان والإحاطة بأن القبلة هي الكعبة وأن دين الله هو الإسلام { إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 145] لمن المرتكبين الظلم الفاحش.
وفي ذلك لطف للسامعين وتهييج للثبات على الحق وتحذير لمن يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى.
وقيل : الخطاب في الظاهر للنبي عليه السلام والمراد أمته ، ولزم الوقف على الظالمين إذ لو وصل لصار { الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } [القصص : 52] صفة للظالمين.
وهو مبتدأ والخبر { يَعْرِفُونَهُ } أي محمداً عليه السلام أو القرآن أو تحويل القبلة.
والأول أظهر لقوله { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ } [الأنعام : 20] قال عبد الله بن سلام : أنا أعلم به مني بابني فقال له عمر : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه.
{ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ } [البقرة : 146] أي الذين لم يسلموا { لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } [البقرة : 146] حسداً وعناداً { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] لأن الله تعالى بينه في كتابهم.
135
{ الْحَقِّ } مبتدأ خبره { مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] واللام للجنس أي الحق من الله لا من غيره.
يعني أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه ، وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل ، أو للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق ومن ربك خبر بعد خبر أو حال.
{ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147] الشاكين في أنه من ربك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 134
{ وَلِكُلٍّ } من أهل الأديان المختلفة.
{ وِجْهَةٌ } قبلة.
وقرىء بها.
والضمير في { هُوَ } لكل .
وفي { مُوَلِّيهَا } للوجهة.
أي هو موليها وجهة فحذف أحد المفعولين أو هو لله تعالى.
أي الله موليها إياه.
هو مولاها : شامي أي هو مولى تلك الجهة قد وليها.
والمعنى ولكل أمة قبلة يتوجه إليها منكم ومن غيركم.
{ فَاسْتَبِقُوا } أنتم { الْخَيْرَاتِ } فاستبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره.
{ أَيْنَ مَا تَكُونُوا } [البقرة : 148] أنتم وأعداؤكم { يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } [البقرة : 148] يوم القيامة فيفصل بين المحقق والمبطل ، أو ولكل منكم يا أمة محمد وجهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، فاستقبلوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم الله جميعاً ويجمعكم ويجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ } ومن أي بلد خرجت للسفر { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 136
البقرة : 144] إذا صليت.
{ وَإِنَّهُ } وإن هذا المأمور به { لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 149] وبالياء : أبو عمرو.
136
(1/94)
{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [البقرة : 150] وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة فكرر عليهم ليثبتوا على أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } [البقرة : 150] أي قد عرّفكم الله جل ذكره أمر الاحتجاج في القبلة بما قد بين في قوله : ولكل وجهة هو موليها .
لئلا يكون للناس لليهود عليكم حجة في خلاف ما في التوراة من تحويل القبلة.
وأطلق اسم الحجة على قول المعاندين لأنهم يسوقونه سياق الحجة.
{ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [البقرة : 150] استثناء من " الناس " أي لئلا يكون حجة لأحد من اليهود إلا المعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده ، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء عليهم السلام.
أو معناه لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة حين يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
ثم استأنف منبهاً بقوله : { فَلا تَخْشَوْهُمْ } [المائدة : 3] فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضرونكم { وَاخْشَوْنِى } فلا تخالفوا أمري { وَلاتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } [البقرة : 150] أي عرفتكم لئلا يكون عليكم حجة ولأتم نعمتي عليكم بهدايتي إياكم إلى الكعبة.
{ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 150] ولكي تهتدوا إلى قبلة إبراهيم.
الكاف في { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ } [البقرة : 151] إما أن يتعلق بما قبله أي ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول ، أو بما بعده أي كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فعلى هذا يوقف على تهتدون وعلى الأول لا.
{ رَسُولا مِّنكُمْ } [البقرة : 151] من العرب { يَتْلُوا عَلَيْكُمْ } [البقرة : 151] يقرأ عليكم { ءَايَـاتِنَا } القرآن { وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَـابَ } [البقرة : 151] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } السنة
137
والفقه { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 151] ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 136
فاذكروني } بالمعذرة { أَذْكُرْكُمْ } بالمغفرة أو بالثناء والعطاء ، أو بالسؤال والنوال ، أو بالتوبة وعفو الحوبة ، أو بالإخلاص والخلاص ، أو بالمناجاة والنجاة.
{ وَاشْكُرُوا لِي } [البقرة : 152] ما أنعمت به عليكم { وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة : 152] ولا تجحدوا نعمائي.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ } فبه تنال كل فضيلة { وَالصَّلَواةِ } فإنها تنهى عن كل رذيلة { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 153] بالنصر والمعونة { وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 154] نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً.
{ أَمْوَاتُ } أي هم أمواتٍ { بَلْ أَحْيَآءٌ } [آل عمران : 169] أي هم أحياء { وَلَـاكِن لا تَشْعُرُونَ } [البقرة : 154] لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حساً.
عن الحسن رضي الله عنه أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدواً وعشياً فيصل إليهم الوجع.
وعن مجاهد : يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 138
(1/95)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا.
{ بِشَىْءٍ } بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه.
وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليهم ، ويريهم أن رحمته معهم في كل حال ، وأعلمهم بوقوع البلوى قبل وقوعها ليوطنوا نفوسهم عليها.
{ مِّنَ الْخَوْفِ } [البقرة : 155] خوف الله والعدو { وَالْجُوعِ } أي القحط أو صوم شهر رمضان { وَنَقْصٍ مِّنَ الامْوَالِ } [البقرة : 155] بموت المواشي أو الزكاة ، وهو عطف على شيء ، أو على الخوف أي وشيء من نقص الأموال.
{ وَالانفُسِ } بالقتل والموت.
أو بالمرض والشيب { وَالثَّمَرَاتِ } ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة
138
الفؤاد { وَبَشِّرِ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 155] على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم وإذعان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه .
وطفيء سراج رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل : أمصيبة هي؟ قال.
" نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة " .
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتي منه البشارة.
{ الَّذِينَ } نصب صفة للصابرين.
ولا وقف عليه بل يوقف على راجعون .
ومن ابتدأ بـ " الذين " وجعل الخبر أولئك يقف على الصابرين لا على راجعون .
والأول الوجه لأن الذين وما بعده بيان للصابرين.
{ إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } [النساء : 62] مكروه.
اسم فاعل من أصابته شدة أي لحقته.
ولا وقف على مصيبة لأن { قَالُوا } جواب إذا وإذا وجوابها صلة الذين .
{ إِنَّا لِلَّهِ } [البقرة : 156] إقرار له بالملك.
{ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة : 156] إقرار على نفوسنا بالهلك.
{ أُوالَـائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة : 157] الصلاة : الحنو والتعطف فوضعت موضع الرأفة ، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد : 27] (الحديد : 72) { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } (التوبة : 711).
والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة.
{ وَأُوالَـائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة : 157] لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر الله.
قال عمر رضي الله عنه : نعم العدلان ونعم العلاوة أي الصلاة والرحمة والاهتداء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 138
{ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } [البقرة : 158] هما علمان للجبلين.
{ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ } [البقرة : 158] من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة وهي العلامة { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ } [البقرة : 158] قصد الكعبة { أَوِ اعْتَمَرَ } [البقرة : 158] زار الكعبة ، فالحج : القصد ، والاعتمار : الزيارة ، ثم غلبا على قصد البيت
139
وزيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان.
{ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ } [البقرة : 158] فلا إثم عليه { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة : 158] ، أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء.
وأصل الطوف المشي حول الشيء والمراد هنا السعي بينهما.
قيل : كان على الصفا " إساف " وعلى المروة " نائلة " وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله.
وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله فلا جناح .
وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى.
وكذا قوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
(1/96)
{ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } [البقرة : 158] أي بالطواف بهما مشعر بأنه ليس بركن.
ومن يطوع : حمزة وعلي أي يتطوع فأدغم التاء في الطاء { فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ } [البقرة : 158] مجاز على القليل كثيراً { عَلِيمٌ } بالأشياء صغيراً أو كبيراً.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } [البقرة : 174] من أحبار اليهود { مَآ أَنزَلْنَا } [طه : 2] في التوراة { مِنَ الْبَيِّنَـاتِ } [طه : 72] من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام { وَالْهُدَى } الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ } [البقرة : 159] أوضحناه { لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ } [البقرة : 159] في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه { أؤلئك يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ } [البقرة : 159] الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين { إِلا الَّذِينَ تَابُوا } [آل عمران : 89] عن الكتمان وترك الإيمان { وَأَصْلَحُوا } ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم { وَبَيَّنُوا } وأظهروا ما كتموا { فَأُوالَـائكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 160] أقبل توبتهم { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوالَـائكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أؤلئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَـائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين
140
ولم يتوبوا { أؤلئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَـائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [البقرة : 161] ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً.
والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } (الأعراف : 83).
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
{ خَـالِدِينَ } حال من هم في عليهم { فِيهَآ } في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ } [البقرة : 162] من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة { وَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [البقرة : 163] فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غير إلها { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] تقرير للوحدانية ينفي غيره وإثباته.
وموضع هو رفع لأنه بدل من موضع لا إله ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول.
ورفع الرّحمن الرّحيم أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه على أنه خبر مبتدأ ، أو على البدل من هو لا على الوصف لأن المضمر لا يوصف.
ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [البقرة : 164] في اللون والطول والقصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء { وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } [البقرة : 164] بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس ومن في { وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ } [البقرة : 164] لابتداء الغاية وفي { مِن مَّآءٍ } [الطارق : 6] مطر لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره.
ثم عطف على أنزل { فَأَحْيَا بِهِ } [البقرة : 164] بالماء { الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الروم : 50] يبسها ثم عطف على فأحيا { وَبَثَّ } وفرق { فِيهَآ } في الأرض { مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [لقمان : 10] هي كل ما
141
(1/97)
يدب { وَتَصْرِيفِ الرِّيَـاحِ } [الجاثية : 5] الريح : حمزة وعلي.
أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح.
وقيل : تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب.
{ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } [البقرة : 164] المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء { بَيْنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [البقرة : 164] في الهواء { لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة : 164] ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها.
وفي الحديث ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 139
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
ومن النّاس أي ومع هذا البرهان النير من الناس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً } أمثالاً من الأصنام { يُحِبُّونَهُمْ } يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب { كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة : 165] كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه.
وقيل : يحبونهم كحب المؤمنين الله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ } [البقرة : 165] من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال ، والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون { وَلَوْ يَرَى } [البقرة : 165] ترى : نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب ، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً { الَّذِينَ ظَلَمُوا } [البقرة : 165] إشارة إلى متخذي الأنداد { إِذْ يَرَوْنَ } [البقرة : 165] يرون : شامي { الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [البقرة : 165] حال { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } [البقرة : 165] شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم ، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ، فحذف الجواب لأن " لو " إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب.
و " لو " يليها الماضي.
وكذا إذا وضعها لتدل على الماضي ، وإنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقة كالماضي
142
{ إِذْ تَبَرَّأَ } [البقرة : 166] مدغمة الذال في التاء حيث وقعت : عراقي غير عاصم.
وهو بدل من إذ يرون العذاب .
{ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 167] أي المتبعون وهم الرؤساء { مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 166] من الأتباع { وَرَأَوُا الْعَذَابَ } [القصص : 64] الواو فيه للحال أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب { وَتَقَطَّعَتْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
(1/98)
عطف على تبرأ { بِهِمُ الاسْبَابُ } [البقرة : 166] الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب.
{ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [البقرة : 167] أي الاتباع { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } [البقرة : 167] رجعة إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ } نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمني والمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ { مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا } [البقرة : 167] الآن { كَذَالِكَ } مثل ذلك الإراء الفظيع { يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَـالَهُمْ } [البقرة : 167] أي عبادتهم الأوثان { حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 167] ندامات.
وهي مفعول ثالث لـ يريهم ومعناه أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم.
{ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة : 167] بل هم فيها دائمون.
ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها.
{ النَّارِ * يَـا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا } أمر إباحة { مِمَّا فِى الارْضِ } [البقرة : 168] من للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول { حَلَـالا } مفعول كلوا " أو حال مما في الأرض { طَيِّبًا } طاهراً من كل شبهة { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } [البقرة : 168] طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء : أبو عمر غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر.
والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي.
يقال اتبع خطواته إذا اقتدى به واستن بسنته.
{ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظاهر العداوة لاخفاءه به.
وأبان متعدٍ ولازم.
ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ } [البقرة : 257] (البقرة : 752) أي
143
الشيطان لأنه عدو للناس حقيقة ووليهم ظاهراً فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزين لهم أعمالهم ويريد بذلك هلاكهم في الباطن.
{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم } [البقرة : 169] بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم { بِالسُّواءِ } بالقبيح { وَالْفَحْشَآءِ } وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم.
وقيل : السوء ما لاحد فيه والفحشاء ما فيه حد { وَأَن تَقُولُوا } [البقرة : 169] في موضع الجر بالعطف على بالسوء أي وبأن تقولوا { عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 80] هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم ، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
لغاية صفحة 421
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [البقرة : 170] الضمير للناس.
وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفاف.
قيل : هم المشركون.
وقيل : طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإيمان واتباع القرآن ، { قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا } [البقرة : 170] وجدنا { عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } [البقرة : 170] فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } [البقرة : 170] الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم { لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا } [البقرة : 170] من الذين { وَلا يَهْتَدُونَ } [البقرة : 170] للصواب.
ثم ضرب لهم مثلاً فقال { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [البقرة : 171] المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا { كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ } [البقرة : 171] يصيح والمراد { بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَآءً وَنِدَآءً } [البقرة : 171] البهائم.
والمعنى مثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء.
والنعقيق : التصويت ، يقال نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع.
{ صُمُّ } خبر مبتدأ مضمر أي هم صم { بِكُمُ } خبر
144
ثانٍ { عُمْىٌ } عن الحق خبر ثالث { فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة : 171] الموعظة ، ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
(1/99)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ } من مستلذاته أو من حلالاته { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } الذي رزقكموها { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [البقرة : 172] إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطي النعم.
ثم بين المحرم فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } [البقرة : 173] وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، أي ما حرم عليكم إلا الميتة { وَالدَّمَ } يعني السائل لقوله في موضع آخر : { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [الأنعام : 145] (الأنعام : 541).
وقد حلت الميتتان والدمان بالحديث أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال { وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } [البقرة : 173] يعني الخنزير بجميع أجزائه ، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل.
{ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } [البقرة : 173] أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله ، وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم ، وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى.
{ فَمَنِ اضْطُرَّ } [البقرة : 173] أي ألجىء بكسر النون : بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء.
{ غَيْرَ } حال أي أكل غير { بَاغٍ } للذة وشهوة { وَلا عَادٍ } [النحل : 115] متعد مقدار الحاجة.
وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة ، والحبس بالحضر يبيح بلا سفر ، ولأن بغية لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان.
والمضطر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع ، لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] في الأكل { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار { رَّحِيمٌ } حيث رخص.
ونزل في رؤساء اليهود وتغييرهم نعت
145
النبي عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَـابِ } [البقرة : 174] في صفة محمد عليه السلام { وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [البقرة : 174] أي عوضاً أو ذا ثمن { أؤلئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ } [البقرة : 174] ملء بطونهم تقول : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه { إِلا النَّارَ } [هود : 16] لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار.
ومنه قولهم " أكل فلان الدم " إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
يأكلن كل ليلة إكافاً
أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له.
{ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [البقرة : 174] كلاماً يسرهم ولكن بنحو قوله : { اخْسَـاُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون : 108] (المؤمنون : 801).
{ وَلا يُزَكِّيهِمْ } [البقرة : 174] ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر أولئك وأولئك مع خبره خبر إن والجمل الثلاث معطوفة على خبر إن فقد صار لـ إن أربعة أخبار من الجمل.
{ أؤلئك الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَـالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } [البقرة : 175] بكتمان نعت محمد عليه السلام { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } [البقرة : 175] فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ.
{ ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ } [البقرة : 176] أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق.
{ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا } [البقرة : 176] أي أهل الكتاب { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل { لَفِى شِقَاق } [البقرة : 176] خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون ، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى.
146
جزء : 1 رقم الصفحة : 142
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
(1/100)
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا } [البقرة : 177] أي ليس البر توليتكم { وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } [البقرة : 177] والخطاب لأهل الكتاب لأن قبلة النصارى مشرق بيت المقدس ، وقبلة اليهود مغربه ، وكل واحد من الفريقين يزعم أن البر التوجه إلى قبلته ، فرد عليهم بأن البر ليس فيما أنتم عليه فإنه منسوخ { وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ } [البقرة : 177] بر { مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ } [البقرة : 62] أو ذا البر من آمن والقولان على حذف المضاف والأول أجود.
والبر اسم للخير ولكل فعل مرضي.
وقيل : كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة ، ولكن البر الذي يجب الاهتمام به بر من آمن وقام بهذه الأعمال.
ليس البر بالنصب على أنه خبر " ليس " واسمه أن تولوا : حمزة وحفص.
ولكن البر : نافع وشامي.
وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكن البر وقرىء ولكن البار .
{ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [التوبة : 44] أي يوم البعث { وَالْمَلَـائكَةِ وَالْكِتَـابِ } [البقرة : 177] أي جنس كتب الله أو القرآن { وَالنَّبِيِّانَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } أي على حب الله أو حب المال أو حب الإيتاء يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه { ذَوِى الْقُرْبَى } [البقرة : 177] أي القرابة وقدمهم لأنهم أحق.
قال عليه الصلاة والسلام : صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك صدقة وصلة .
{ وَالْيَتَـامَى } والمراد الفقراء من ذوي القربى واليتامى ، وإنما أطلق لعدم الإلباس.
{ وَالْمَسَـاكِينَ } المسكين الدائم السكون إلى الناس لأنه لا شيء له كالسكير للدائم السكر { وَابْنَ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] المسافر المنقطع وهو جنس وإن كان مفرداً لفظاً ، وجعل ابناً للسبيل لملازمته له أو الضيف { وَالسَّآئِلِينَ } المستطعمين { وَفِي الرِّقَابِ } [البقرة : 177] وفي معاونة
147
المكاتبين حتى يفكوا رقابهم أو في الأسارى { وَأَقَامَ الصَّلَواةَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 177] المكتوبة { وَءَاتَى الزكاة } المفروضة.
قيل : هو تأكيد للأول.
وقيل : المراد بالأول نوافل الصدقات والمبار.
{ وَالْمُوفُونَ } عطف على من آمن { بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَـاهَدُوا } [البقرة : 177] الله والناس { وَالصَّـابِرِينَ } نصب على المدح والاختصاص إظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال.
{ فِى الْبَأْسَآءِ } [البقرة : 177] الفقر والشدة { وَالضَّرَّآءِ } المرض والزمانة { وَحِينَ الْبَأْسِ } [البقرة : 177] وقت القتال { أؤلئك الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة : 177] أي أهل هذه الصفة هم الذين صدقوا في الدين { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [البقرة : 177].
روي أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى والاثنين بالواحد فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين جاء الله بالإسلام فنزل.
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [البقرة : 178] وهو عبارة عن المساواة وأصله من قص أثره واقتصه إذا اتبعه ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار { فِي الْقَتْلَى } [البقرة : 178] جمع قتيل.
والمعنى فرض عليكم اعتبار المماثلة والمساواة بين القتلى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ } [البقرة : 178] مبتدأ وخبر أي الحر مأخوذ أو مقتول بالحر { وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالانثَى بِالانثَى } [البقرة : 178] وقال الشافعي رحمه الله : لا يقتل الحر بالعبد لهذا النص وعندنا يجري القصاص بين الحر والعبد بقوله تعالى : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } [المائدة : 45] (المائدة : 54).
كما بين الذكر والأنثى وبقوله عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم وبأن التفاضل غير معتبر في الأنفس بدليل أن جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به ، وبأن تخصيص الحكم بنوع لا ينفيه عن نوع آخر بل يبقى الحكم فيه موقوفاً على ورود دليل آخر وقد ورد كما بينا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
(1/101)
{ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَـانٍ } [البقرة : 178] قالوا : العفو ضد العقوبة.
يقال :
148
عفوت عن فلان إذا صفحت عنه وأعرضت عن أن تعاقبه وهو يتعدى بـ " عن " إلى الجاني وإلى الجناية { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } [البقرة : 52] (البقرة ؛ 25) { وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّـاَاتِ } (الشورى : 52) وإذا اجتمعا عدي إلى الأول باللام فتقول " عفوت له عن ذنبه " ومنه الحديث عفوت لكم عن صدقه الخيل والرقيق وقال الزجاج : من عفي له أي من ترك له القتل بالدية.
وقال الأزهري : العفو في اللغة الفضل ومنه : { يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (البقرة : 912).
ويقال : عفوت لفلان بمال إذا أفضلت له وأعطيته ، وعفوت له عما لي عليه إذا تركته.
ومعنى الآية عند الجمهور : فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو على أن الفعل مسند إلى المصدر كما في سير بزيد بعض السير والأخ ولي المقتول.
وذكر بلفظ الأخوّة بعثاً له على العطف لما بينهما من الجنسية والإسلام ، ومن هو القاتل المعفو له عما جنى وترك المفعول الآخر استغناء عنه.
وقيل : أقيم " له " مقام " عنه " والضمير في له وأخيه لـ من ، وفي إليه للأخ أو للمتبع الدال عليه فاتباع لأن المعنى فليتبع الطالب القاتل بالمعروف بأن يطالبه مطالبة جميلة ، وليؤد إليه المطلوب أي القاتل بدل الدم أداء بإحسان بأن لا يمطله ولا يبخسه.
وإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفا عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص.
ومن فسر عفى بترك جعل شيء مفعولاً به ، وكذا من فسره بـ " أعطى " يعني أن الولي إذا أعطى له شيء من مال أخيه يعني القاتل بطريق الصلح فليأخذه بمعروف من غير تعنيف ، وليؤده القاتل إليه بلا تسويف.
وارتفاع اتباع بأنه خبر مبتدأ مضمر أي فالواجب اتباع { ذَالِكَ } الحكم المذكور من العفو وأخذ الدية { تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة : 178] فإنه كان في التوراة القتل لا غير ، وفي الإنجيل العفو بغير بدل لا غير ، وأبيح لنا القصاص والعفو وأخذ المال بطريق الصلح توسعة وتيسيراً.
والآية تدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن للوصف بالإيمان بعد وجود القتل ولبقاء الأخوّة الثابتة بالإيمان ولاستحقاق التخفيف والرحمة
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
{ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَالِكَ } [البقرة : 178] التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل أو القتل بعد
149
أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 178] نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة { وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَواةٌ } [البقرة : 179] كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، إذ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفاً للحياة.
وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة بلاغة بينة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لمنعه عما كانوا عليه من قتل الجماعة بواحد متى اقتدروا فكان القصاص حياة وأي حياة.
أو نوع من الحياة وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالقصاص من القاتل ، لأنه إذا هم بالقتل فتذكر الاقتصاص ارتدع فسلم صاحبه من القتل وهو من القود فكان شرع القصاص سبب حياة نفسين.
{ وَاتَّقُونِ يَـاأُوْلِي الالْبَـابِ } يا ذوي العقول { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] القتل حذراً من القصاص.
(1/102)
{ كَتَبَ } فرض { عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } [البقرة : 180] أي إذا دنا منه فظهرت أمارته { إِن تَرَكَ خَيْرًا } [البقرة : 180] مالاً كثيراً لما روي عن علي رضي الله عنه إن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه وقال : قال الله تعالى : إن ترك خيراً .
والخير هو المال الكثير وليس لك مال وفاعل كتب { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ } [البقرة : 180] وكانت الوصية للوارث في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث كما بيناه في شرح المنار.
وقيل : هي غير منسوخة لأنها نزلت في حق من ليس بوارث بسبب الكفر لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، يسلم الرجل ولا يسلم أبواه وقرائبه ، والإسلام قطع الإرث فشرعت الوصية فيما بينهم قضاء لحق القرابة ندباً وعلى هذا لا يراد بكتب فرض { بِالْمَعْرُوفِ } بالعدل وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يتجاوز الثلث { حَقًّا } مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً { عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 180] على الذين يتقون الشرك { فَمَن بَدَّلَهُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 181] فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي الإيصاء { فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُا } [البقرة : 181] فما إثم
150
التبديل إلا على مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنهما بريئان من الحيف { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [الحج : 75] لقول الموصي { عَلِيمٌ } بجور المبدل { فَمَنْ خَافَ } [البقرة : 182] علم وهذا شائع في كلامهم يقولون أخاف أن ترسل السماء ويريدون الظن الغالب الجاري مجرى العلم { مِن مُّوصٍ } [البقرة : 182] موصّ : كوفي غير حفص.
{ جَنَفًا } ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية { أَوْ إِثْمًا } [النساء : 112] تعمداً للحيف { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } [البقرة : 182] بين الموصى لهم وهم الوالدان والأقربون بإجرائهم على طريق الشرع { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] حينئذ لأن تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدل بالباطل ، ثم من يبدل بالحق ليعلم أن كل تبديل لا يؤثم.
وقيل : هذا في حال حياة الموصي أي فمن حضر وصيته فرآه على خلاف الشرع فنهاه عن ذلك وحمله على الصلاح فلا إثم على هذا الموصي بما قال أولاً { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173].
{ رَّحِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ } أي فرض { عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة : 183] هو مصدر صام والمراد صيام شهر رمضان { كَمَا كُتِبَ } [البقرة : 183] أي كتابة مثل ما كتب فهو صفة مصدر محذوف { عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة : 183] على الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام إلى عهدكم فهو عبادة قديمة ، والتشبيه باعتبار أن كل أحد له صوم أيام أي أنتم متعبدون بالصيام في أيام كما تعبد من كان قبلكم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] المعاصي بالصيام لأن الصيام أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء ، أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين إذ الصوم شعارهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
وانتصاب { أَيَّامًا } بالصيام أي كتب عليكم أن تصوموا أياماً { مَّعْدُودَاتٍ } موقتات بعدد معلوم أي قلائل وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد لا الكثير
151
(1/103)
{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } [البقرة : 184] يخاف من الصوم زيادة المرض { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } [النساء : 43] أو راكب سفر { فَعِدَّةٌ } فعليه عدة أي فأفطر فعليه صيام عدد أيام فطره ، والعدة بمعنى المعدود أي أمر أن يصوم أياماً معدودة مكانها { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة : 184] سوى أيام مرضه وسفره.
وأخر لا ينصرف للوصف والعدل عن الألف واللام لأن الأصل في " فعلى " صفة أن تستعمل في الجمع بالألف واللام كالكبرى والكبر والصغرى والصغر { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } [البقرة : 184] وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا { فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة : 184] نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، فـ طعام بدل من فدية .
فدية طعام مساكين .
مدني وابن ذكوان.
وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية ، ثم نسخ التخيير بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه .
ولهذا كرر قوله : فمن كان منكم مريضاً أو على سفر .
لأنه لما كان مذكوراً مع المنسوخ ذكر مع الناسخ ليدل على بقاء هذا الحكم.
وقيل : معناه لا يطيقونه فأضمر " لا " لقراءة حفصة كذلك وعلى هذا لا يكون منسوخاً.
{ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } [البقرة : 184] فزاد على مقدار الفدية } فهو خيرٌ لّه } فالتطوع أو الخير خير له يطوع بمعنى يتطوع : حمزة وعلي { وَأَن تَصُومُوا } [البقرة : 184] أيها المطيقون { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] من الفدية وتطوع الخير وهذا في الابتداء.
وقيل : وأن تصوموا في السفر والمرض خير لكم لأنه أشق عليكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] شرط محذوف الجواب.
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } [البقرة : 185] مبتدأ خبره { الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } [البقرة : 185] أي ابتدىء فيه إنزاله وكان في ليلة القدر أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى : كتب عليكم الصيام وهو بدل من الصيام أو خبر مبتدأ محذوف أي هو شهر.
والرمضان
152
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
(1/104)
مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون ، وسموه بذلك لارتماضهم فيه من حر الجوع ومقاساة شدته ، ولأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر.
فإن قلت : ما وجه ما جاء في الحديث من صام رمضان إيماناً واحتساباً مع أن التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً؟ قلت : هو من باب الحذف لامن الإلباس.
القران حيث كان غير مهموز : مكي.
وانتصب { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة : 185] على الحال أي أنزل وهو هداية للناس إلى الحق وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدي إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل ، ذكر أولاً أنه هدى ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به الله وفرق بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال.
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة : 185] فمن كان شاهداً أي حاضراً مقيماً غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر.
والشهر منصوب على الظرف وكذا الهاء في ليصمه ولا يكون مفعولاً به لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر { وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة : 185] فعدة مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه عدة أي صوم عدة { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ } [البقرة : 185] حيث أباح الفطر بالسفر والمرض { وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة : 185] ومن فرض الفطر على المريض والمسافر حتى لو صاما تجب عليهما الإعادة فقد عدل عن موجب هذا { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ } [البقرة : 185] عدة ما أفطرتم بالقضاء إذا زال المرض والسفر ، والفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره لتعلموا ولتكملوا العدة { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 185] شرع ذلك يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر ، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر.
فقوله : لتكملوا علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج من عهدة الفطر ولعلكم تشكرون علة الترخيص وهذا نوع من اللف اللطيف المسلك.
وعدي التكبير بـ " على " لتضمنه معنى الحمد كأنه قيل : لتكبروا الله أي لتعظموه حامدين على ما هداكم إليه.
ولتكمّلوا بالتشديد : أبو بكر.
ولما قال إعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ نزل
153
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة : 186] علماً وإجابة لتعاليه عن القرب مكاناً { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة : 186] الداعي دعاني في الحالين : سهل ويعقوب ، ووافقهما أبو عمرو ونافع غير قالون في الوصل.
غيرهم بغير ياء في الحالين.
ثم إجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه ، غير أن إجابة الدعوة تخالف قضاء الحاجة فإجابة الدعوة أن يقول العبد يا رب فيقول الله لبيك عبدي ، وهذا أمر موعود موجود لكل مؤمن وقضاء الحاجة إعطاء المراد وذا قد يكون ناجزاً وقد يكون بعد مدة وقد يكون في الآخرة وقد تكون الخبرة له في غيره { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى } [البقرة : 186] إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم { وَلْيُؤْمِنُوا بِى } [البقرة : 186] واللام فيهما للأمر { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة : 186] ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد وهو ضد الغي.
كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى القابلة.
ثم إن عمر رضي لله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي عليه السلام وأخبره بما فعل فقال عليه السلام ما كنت جديراً بذلك فنزل { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } [البقرة : 187] إي الجماع { إِلَى نِسَآئِكُمْ } [البقرة : 187] عدى بـ " إلى " لتضمنه معنى الإفضاء وإنما كنى عنه بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يقل الإفضاء إلى نسائكم استقباحاً لما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختياناً
154
(1/105)
لأنفسهم ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه شبه باللباس المشتمل عليه بقوله تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [البقرة : 187] وقيل : لباس أي ستر عن الحرام ، وهن لباس لكم استئناف كالبيان لسبب الإحلال وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن فلذا رخص لكم في مباشرتهن { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
البقرة : 187] تظلمونها بالجماع وتنقصونها حظها من الخير.
والاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 54] حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور { وَعَفَا عَنكُمْ } [البقرة : 187] ما فعلتم قبل الرخصة { أُحِلَّ لَكُمْ } [البقرة : 187] جامعوهن في ليالي الصوم وهو أمر إباحة وسميت المجامعة مباشرة لالتصاق بشرتيهما { وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [البقرة : 187] واطلبوا ما قسم الله لكم وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل ، أو وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ } [البقرة : 187] هو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود { مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ } [البقرة : 187] وهو ما يمتد من سواد الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود لامتدادهما { مِنَ الْفَجْرِ } [البقرة : 187] بيان أن الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره ، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما بيان للآخر ، أو من للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوله.
وقوله من الفجر أخرجه من باب الاستعارة وصيره تشبيهاً بليغاً كما أن قولك " رأيت أسداً " مجاز فإذا زدت " من فلان " رجع تشبيهاً.
وعن عدي ابن حاتم قال : عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فنظرت إليهما فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فأخبرت النبي عليه السلام بذلك فقال : إنك لعريض القفا أي سليم القلب لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل.
وفي قوله { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } [البقرة : 187] أي الكف عن هذه الأشياء دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي الوصال ، وعلى وجوب الكفارة في الأكل والشرب ، وعلى أن الجنابة لا تنافي الصوم { وَلا تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } [البقرة : 187] معتكفون فيها ، بيّن أن الجماع
155
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
(1/106)
يحل في ليالي رمضان لكن لغير المعتكف.
والجملة في موضع الحال ، وفيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد { تِلْكَ } الأحكام التي ذكرت { حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 229] أحكامه المحدودة { فَلا تَقْرَبُوهَا } [البقرة : 187] بالمخالفة والتغيير { كَذاَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ ءَايَـاتِهِ } [البقرة : 187] شرائعه { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة : 187] المحارم.
{ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم } [البقرة : 188] أي لا يأكل بعضكم مال بعض { بِالْبَـاطِلِ } بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه { وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى الْحُكَّامِ } [البقرة : 188] ولا تدلوا بها فهو مجزوم داخل في حكم النهي يعني ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام { لِتَأْكُلُوا } بالتحاكم { فَرِيقًا } طائفة { مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالاثْمِ } [البقرة : 188] بشهادة الزور أو بالأيمان الكاذبة أو بالصلح مع العلم بأن المقضى له ظالم.
وقال عليه السلام للخصمين إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذن منه شيئاً فإن ما أقضي له قطعة من نار فبكيا وقال كل واحد منهما حقي لصاحبي.
وقيل : وتدلوا بها وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة.
يقال أدلى دلوه أي ألقاه في البئر للاستقاء.
{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] أنكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح وصاحبه بالتوبيخ أحق.
جزء : 1 رقم الصفحة : 147
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
قال معاذ بن جبل : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا لا يكون على حالة واحدة كالشمس؟ فنزل { يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ } [البقرة : 189] جمع هلال سمي به لرفع الناس أصواتهم عند
156
رؤيته { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } [البقرة : 189] أي معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم وأيام حيضهن ومدة حملهن وغير ذلك ، ومعالم للحج يعرف بها وقته.
كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب ، فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فنزل { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [البقرة : 189] أي ليس البر بتحرجكم من دخول الباب ، ولا خلاف في رفع البر هنا لأن الآية ثمة تحتمل الوجهين كما بينا فجاز الرفع والنصب ثمة ، وهذه لا تحتمل إلا وجهاً واحداً وهو الرفع إذ الباء لا تدخل إلا على خبر " ليس " { وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ } [البقرة : 177] بر { مَنِ اتَّقَى } [البقرة : 189] ما حرم الله.
البيوت وبابه مدني وبصري وحفص وهو الأصل مثل كعب وكعوب ، ومن كسر الباء فلمكان الياء بعدها ولكن هي توجب الخروج من كسر إلى ضم وكأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة وعن الحكمة في نقصانها وتمامها.
معلوم أن كل ما يفعله الله تعالى لا يكون إلا حكمة فدعوا السؤال عنه وانظروا في خصلة واحدة تفعلونها مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها براً ، فهذا وجه اتصاله بما قبله.
ويحتمل أن يكون ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت الحج لأنه كان من أفعالهم في الحج ، ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخل من ظهره ، والمعنى ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البربر من اتقى ذلك وتجنبه ولم يجسر على مثله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
(1/107)
{ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا } [البقرة : 189] وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا ، أو المراد وجوب الاعتقاد بأن جميع أفعاله تعالى حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمقارنة الشك { لا يُسْـاَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـاَلُونَ } [الأنبياء : 23] (الأنبياء : 32) { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيم أمركم به ونهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] لتفوزوا بالنعيم السرمدي.
{ وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 190] المقاتلة في سبيل الله الجهاد لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين { الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ } [البقرة : 190] يناجزونكم القتال دون المحاجزين وعلى هذا يكون منسوخاً بقوله تعالى : { وَقَـاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة : 36] (التوبة : 63) وقيل : هي أول آية نزلت في القتال فكان رسول
157
الله صلى الله عليه وسلّم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف ، أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم لأنهم قاصدون لمقاتلة المسلمين فهم في حكم المقاتلة { وَلا تَعْتَدُوا } [البقرة : 190] في ابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عنه من النساء والشيوخ ونحوهما أو بالمثلة { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } وجدتموهم.
والثقف الوجود على وجه الأخذ والغلبة { وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } [البقرة : 191] أي من مكة وعدهم الله تعالى فتح مكة بهذه الآية وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمن لم يسلم منهم يوم الفتح { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة : 191] أي شركهم بالله أعظم من القتل الذي يحل بهم منكم.
وقيل : الفتنة عذاب الآخرة.
وقيل : المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان فيعذب به أشد عليه من القتل.
وقيل لحكيم : ما أشد من الموت؟ قال : الذي يتمنى فيه الموت.
فقد جعل الإخراج من الوطن من الفتن التي يتمنى عندها الموت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ وَلا تُقَـاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَـاتِلُوكُمْ فِيهِ } [البقرة : 191] أي ولا تبدأوا بقتالهم في الحرم حتى يبدأوا فعندنا المسجد الحرم يقع على الحرم كله { فَإِن قَـاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [البقرة : 191] في الحرم فعندنا يقتلون في الأشهر الحرم لا في الحرم إلا أن يبدأوا بالقتال معنا فحينئذ نقتلهم وإن كان ظاهر قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم يبيح القتل في الأمكنة كلها لكن لقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه خص الحرم إلا عند البداءة منهم كذا في شرح التأويلات { كَذَالِكَ جَزَآءُ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 191] مبتدأ وخبر.
ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم : حمزة وعلي { فَإِنِ انتَهَوْا } [الانفال : 39] عن الشرك والقتال { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 192] لما سلف من طغيانهم { رَّحِيمٌ } بقبول توبتهم وإيمانهم.
{ وَقَـاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة : 193] شرك وكان تامة وحتى بمعنى " كي " أو " إلى أن " { وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ } [البقرة : 193] خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب أي لا يعبد دونه شيء
158
{ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 193] فإن امتنعوا عن الكفر فلا تقاتلوهم فإنه لا عدوان إلا على الظالمين ولم يبقوا ظالمين ، أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين ، سمى جزاء الظالمين ظلماً للمشاكلة كقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ } [البقرة : 194].
قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة { الشَّهْرُ الْحَرَامُ } [البقرة : 194] مبتدأ خبره { بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 194] أي هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم { وَالْحُرُمَـاتُ قِصَاصٌ } [البقرة : 194] أي وكل حرمة يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي حرمة كانت اقتص منه بأن تهتك له حرمه ، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا وأكد ذلك بقوله
(1/108)
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [البقرة : 194] من شرطية والباء غير زائدة والتقدير بعقوبة مماثلة لعدوانهم ، أو زائدة وتقديره عدواناً مثل عدوانهم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [البقرة : 194] بالنصر { وَأَنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 195] تصدقوا في رضا الله وهو عام في الجهاد وغيره { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة : 195] أي أنفسكم والباء زائدة ، أو ولا تقتلوا أنفسكم بأيديكم كما يقال " أهلك فلان نفسه بيده " إذا تسبب لهلاكها.
والمعنى النهي عن ترك الإنفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله ، أو عن الإخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو والتهلكة والهلاك والهلك واحد { وَأَحْسِنُوا } الظن بالله في الإخلاف { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 195] إلى المحتاجين.
159
{ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة : 196] وأدوهما تأمين بشرائطهما وفرائضهما لوجه الله تعالى بلا توان ولا نقصان.
وقيل : الإتمام يكون بعد الشروع فهو دليل على أن من شرع فيهما لزمه إتمامهما وبه نقول : إن العمرة تلزم بالشروع.
ولا تمسك للشافعي رحمه الله بالآية على لزوم العمرة لأنه أمر بإتمامها ، وقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع أو إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك أو أن تفرد لكل واحد منهما سفراً أو أن تنفق فيهما حلالاً أو أن لا تتجر معهما { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } [البقرة : 196] يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز ، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي.
وعندنا الإحصار يثبت بكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما لظاهر النص ، وقد جاء في الحديث من كسر أو عرج فقد حل أي جاز له أن يحل وعليه الحج من قابل.
وعند الشافعي رحمه الله : الإحصار بالعدو وحده.
وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضاً لأنه ذكر عقبهما { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } [البقرة : 196] فما تيسر منه.
يقال يسر الأمر واستيسر كما يقال صعب واستصعب.
والهدي جمع هدية يعني فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدى من بعير أو بقرة أو شاة " فما " رفع بالابتداء أي فعليكم ما استيسر ، أو نصب أي فأهدوا له ما استيسر
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ } الخطاب للمحصرين أي لا تحلوا بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب نحره فيه وهو الحرم ، وهو حجة لنا في أن دم الإحصار لا يذبح إلا في الحرم على الشافعي رحمه الله إذ عنده يجوز في
160
(1/109)
غير الحرم { مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } [البقرة : 184] فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق { أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ } [البقرة : 196] وهو القمل أو الجراحة { فَفِدْيَةٌ } فعليه إذا حلق فدية { مِّن صِيَامٍ } [البقرة : 196] ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } [البقرة : 196] على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { أَوْ نُسُكٍ } [البقرة : 196] شاة وهو مصدر أو جمع نسيكة { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } [البقرة : 239] الإحصار أي فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة { فَمَن تَمَتَّعَ } [البقرة : 196] استمتع { بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ } [البقرة : 196] واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج انتفاعه بالتقرب بها إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج.
وقيل : إذا حل من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرماً عليه إلى أن يحرم بالحج { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } [البقرة : 196] هو هدي المتعة ، وهو نسك يؤكل منه ويذبح يوم النحر.
{ فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [البقرة : 196] الهدي { فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } [البقرة : 196] فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين الإحرامين إحرام العمرة وإحرام الحج { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } [البقرة : 196] إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [البقرة : 196] في وقوعها بدلاً من الهدي أو في الثواب ، أو المراد رفع الإبهام فلا يتوهم في الواو أنها بمعنى الإباحة كما في " جالس الحسن وابن سيرين " ، ألا ترى أنه لو جالسهما أو واحداً منهما كان ممتثلاً { ذَالِكَ } إشارة إلى التمتع عندنا إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام ولم يوجب عليهم شيئاً { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [البقرة : 196] هم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 196] لمن لم يتقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ الْحَجُّ } أي وقت الحج كقولك " البرد شهران " { أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـاتٌ } [البقرة : 197] معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم وهي شوال وذو القعدة وعشر ذو الحجة.
وفائدة توقيت الحج بهذه الأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها وكذا الإحرام عند الشافعي رحمه الله ، وعندنا وإن انعقد لكنه مكروه ، وجمعت أي الأشهر لبعض الثالث ، أو لأن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم : 4] (التحريم : 4)
161
(1/110)
{ فَمَن فَرَضَ } [البقرة : 197] ألزم نفسه بالإحرام { فِيهِنَّ الْحَجَّ } [البقرة : 197] في هذه الأشهر { فَلا رَفَثَ } [البقرة : 197] هو الجماع أو ذكره عند النساء أو الكلام الفاحش { وَلا فُسُوقَ } [البقرة : 197] هو المعاصي أو السباب لقوله عليه السلام سباب المؤمن فسوق أو التنابز بالألقاب لقوله تعالى : { بِئْسَ اسْمُ الْفُسُوقُ } [الحجرات : 11] (الحجرات : 11) { وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة : 197] ولامراء مع الرفقاء والخدم والمكارين.
وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال لأنه مع الحج أسمج كلبس الحرير في الصلاة والتطريب في قراءة القرآن.
والمراد بالنفي وجوب انتفائها وأنها حقيقة بأن لاتكون.
وقرأ أبو عمرو ومكي الأولين بالرفع فحملاهما على معنى النهي كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث بالنصب على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج.
ثم حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن ، ومكان الفسوق البر والتقوى ، ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة بقوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [البقرة : 197] اعلم بأنه عالم به يجازيكم عليه ورد قول من نفى علمه بالجزئيات.
كان أهل اليمن لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلاً على الناس فنزل فيهم { وَتَزَوَّدُوا } أي تزودوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] أي الإتقاء عن الإبرام والتثقيل عليهم ، أو تزودوا للمعاد باتقاء المحظورات فإن خير الزاد اتقاؤها { وَاتَّقُونِ } وخافوا عقابي وهو مثل { دَعَانِ } (البقرة : 681) { يَـاأُوْلِي الالْبَـابِ } [البقرة : 197] يا ذوي العقول يعني أن قضية اللب تقوى الله ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
ونزل في قوم زعموا أن لا حج لجمال وتاجر وقالوا هؤلاء الداجّ وليسوا بالحاج { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا } [البقرة : 198] في أن تبتغوا في مواسم الحج
162
{ فَضْلا مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 198] عطاء وتفضلاً وهو النفع والربح بالتجارة والكراء { فَإِذَآ أَفَضْتُم } [البقرة : 198] دفعتم بكثرة من إفاضة الماء وهو صبه بكثرة ، وأصله أفضنم أنفسكم فترك ذكر المفعول { مِّنْ عَرَفَـاتٍ } [البقرة : 198] هي علم للموقف سمي بجمع كأذرعات.
وإنما صرفت لأن التاء فيها ليست للتأنيث بل هي مع الألف قبلها علامة جمع المؤنث ، وسميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام فلما رآها عرفها.
وقيل : التقى فيها آدم وحواء فتعارفا ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاصة لا تكون إلا بعده { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } [البقرة : 198] بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات أو بصلاة المغرب والعشاء { عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 198] هو قزح وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة.
والمشعر المعلم لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته.
وقيل : المشعر الحرام مزدلفة ، وسميت المزدلفة جمعاً لأن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع جواء وازدلف إليها أي دنا منها ، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين ، أو لأن الناس يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف فيها { وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة : 198] ما مصدرية أوكافة اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة ، أو اذكروه كما علمكم كيف تذكرونه ولا تعدلوا عنه { وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ } [البقرة : 198] من قبل الهدى { لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [البقرة : 198] الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه وإن مخففة من الثقيلة واللام فارقة { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } [البقرة : 199] ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس ولا تكن من المزدلفة.
قالوا : هذا أمر لقريش بالإفاضة من عرفات إلى جمع وكانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفات ويقولون : نحن قطان حرمه فلا نخرج منه.
وقيل : الإفاضة من عرفات مذكورة فهي الإفاضة من جمع إلى منى.
والمراد بالناس على هذا الجنس ويكون الخطاب للمؤمنين { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ } [البقرة : 199] من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جاهليتكم أو من تقصير في
163
(1/111)
أعمال الحج { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173] بكم { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـاسِكَكُمْ } [البقرة : 200] فإذا فرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج ونفرتم { فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } [البقرة : 200] أي فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم.
والمعنى فأكثروا من ذكر الله وبالغوا فيه كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.
وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعددون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم { أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } [البقرة : 200] أي أكثر.
وهو في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله كذكركم كما تقولون كذكر قريش إباءهم أو قوم أشد منهم ذكراً وذكراً تمييز.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
{ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ } [البقرة : 200] فمن الذين يشهدون الحج من يسأل الله حظوظ الدنيا فيقول { رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا } [البقرة : 201] اجعل إيتاءنا أي إعطاءنا في الدنيا خاصة يعني الجاه والغنى { وَمَا لَهُ فِى الاخِرَةِ مِنْ خَلَـاقٍ } [البقرة : 200] نصيب لأن همه مقصور على الدنيا لكفره بالآخرة.
والمعنى أكثروا ذكر الله ودعاءه لأن الناس من بين مقل لا يطلب بذكر الله إلا أغراض الدنيا ، ومكثر يطلب خير الدارين فكونوا من المكثرين أي من الذين قيل فيهم { وَمِنْهُمْ } ومن الذين يشهدون الحج { مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً } [البقرة : 201] نعمة وعافية ، أو علماً وعبادة.
{ وَفِي الاخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة : 201] عفواً ومغفرة ، أو المال والجنة ، أو ثناء الخلق ورضا الحق ، أو الإيمان والأمان ، أو الإخلاص والخلاص ، أو السنة والجنة ، أو القناعة والشفاعة ، أو المرأة الصالحة والحور العين ، أو العيش على سعادة والبعث من القبور على بشارة.
{ وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة : 201] احفظنا من عذاب جهنم ، أو عذاب النار امرأة السوء.
{ أُوالَـائِكَ } أي الداعون بالحسنتين { لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا } [البقرة : 202] من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة ، أو من أجل ما كسبوا ،
164
وسمى الدعاء كسباً لأنه من لأعمال والأعمال موصوفة بالكسب ، ويجوز أن يكون أولئك للفريقين وأن لكل فريق نصيباً من جنس ما كسبوا { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [البقرة : 202] يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر من نقمته.
وروي أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة وروي في مقدار لمحة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 156
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
(1/112)
{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } [البقرة : 203] هي أيام التشريق وذكر الله فيها التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار { فَمَن تَعَجَّلَ } [البقرة : 203] فمن عجل في النفر أو استعجل النفر.
وتعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل.
يقال تعجل في الأمر واستعجل ومتعديين يقال تعجل الذهاب واستعجله والمطاوعة أوفق لقوله ومن تأخر { فِى يَوْمَيْنِ } [البقرة : 203] من هذه الأيام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمي في اليوم الثالث واكتفى برمي الجمار في يومين من هذه الأيام الثلاثة { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة : 173] فلا يأثم بهذا التعجل { وَمَن تَأَخَّرَ } [البقرة : 203] حتى رمى في اليوم الثالث { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى } [البقرة : 203] الصيد أو الرفث والفسوق أو هو مخير في التعجل.
والتأخر وإن كان التأخر أفضل فقد يقع التخيير بين الفاضل والأفضل كما خير المسافر بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.
وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثماً ومنهم من جعل المتأخر آثماً فورد القرآن بنفي المأثم عنهما { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في جميع الأمور { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [البقرة : 203] حين يبعثكم من القبور.
كان الأخنس بن شريق حلو المنطق إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألان له القول وادعى أنه يحبه وأنه مسلم وقال يعلم الله أني صادق فنزل فيه.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } [البقرة : 204] يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس { فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [التوبة : 55] في يتعلق بالقول أي يعجبك ما يقول في معنى الدنيا لأنه يطلب بادعاء المحبة حظ الدنيا ولا يريد به الآخرة ، أو بـ " يعجبك " أي يعجبك حلو كلامه في الدنيا لا في الآخرة لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة
165
{ وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ } [البقرة : 204] أي يحلف ويقول الله شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
البقرة : 204] شديد الجدال والعداوة للمسلمين ، والخصام والمخاصمة والإضافة بمعنى في لأن " أفعل " يضاف إلى ما هو بعضه تقول : زيد أفضل القوم ولا يكون الشخص بعض الحدث فتقديره ألد في الخصومة ، أو الخصام جمع خصم كصعب وصعاب والتقدير : وهو أشد الخصوم خصومة.
{ وَإِذَا تَوَلَّى } [البقرة : 205] عنك وذهب بعد إلانة القول وإحلاء المنطق { سَعَى فِى الارْضِ لِيُفْسِدَ } [البقرة : 205] كما فعل بثقيف فإنه كان بينه وبينهم خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زروعهم { فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } [البقرة : 205] أي الزرع والحيوان ، أو إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل.
وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الخرث والنسل.
{ لَهُ } للأخنس { اتَّقِ اللَّهَ } [البقرة : 206] في الإفساد والإهلاك { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالاثْمِ } [البقرة : 206] حملته النخوة وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه ، أو الباء للسبب أي أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } [البقرة : 206] أي كافيه { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } [البقرة : 206] أي الفراش جهنم.
ونزل في صهيب حين أراده المشركون على ترك الإسلام وقتلوا نفراً كانوا معه فاشترى نفسه بماله منهم وأتى المدينة ، أو فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } [البقرة : 207] يبيعها { ابْتِغَآءَ } لابتغاء { مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ } [البقرة : 207] حيث أثابهم على ذلك
166
(1/113)
{ بِالْعِبَادِ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } وبفتح السين حجازي وعلي ، وهو الاستسلام والطاعة أي استسلموا لله وأطيعوه أو الإسلام ، والخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم ، أو للمنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم { كَآفَّةً } لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته حال من الضمير في ادخلوا أي جميعاً ، أو من السلم لأنها تؤنث كأنهم أمروا أن يدخلوا في الطاعات كلها ، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها ، وكافة من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } [البقرة : 168] وساوسه { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] ظاهر العداوة { فَإِن زَلَلْتُم } [البقرة : 209] ملتم عن الدخول في السلم { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 209] أي الحجج الواضحة والشواهد اللائحة على أن ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] غالب لا يمنعه شيء من عذابكم { حَكِيمٌ } لا يعذب إلا بحق.
وروي أن قارئاً قرأ " غفور رحيم " فسمعه أعرابي لم يقرأ القرآن فأنكره وقال ليس هذا من كلام الله إذ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل والعصيان لأنه إغراء عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
{ هَلْ يَنظُرُونَ } [الأنعام : 158] ما ينتظرون { إِلا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ } [البقرة : 210] أي أمر الله وبأسه كقوله : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل : 33] (النحل : 33).
{ فَجَآءَهَا بَأْسُنَا } [الأعراف : 4] (الأعراف : 4) أو المأتي به محذوف بمعنى أن يأتيهم الله ببأسه للدلالة عليه بقوله : فاعلموا أن الله عزيز { فِي ظُلَلٍ } [البقرة : 210] جمع ظلة وهي ما أظلك { مِّنَ الْغَمَامِ } [البقرة : 210] الحساب.
وهو للتهويل إذ الغمام مظنة الرحمة أنزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول { وَالْمَلَـائكَةِ } أي وتأتي الملائكة الذين وكلوا بتعذيبهم أو المراد حضورهم يوم القيامة { وَقُضِىَ الامْرُ } [هود : 44] أي وتم أمر إهلاكهم وفرغ منه { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [البقرة : 210] أي أنه ملّك العباد بعض الأمور فترجع إليه الأمور يوم النشور.
ترجع الأمور حيث كان : شامي وحمزة وعلي.
167
{ سَلْ } أصله اسأل فنقلت فتحة الهمزة إلى السين بعد حذفها واستغني عن همزة الوصل فصار " سل " .
وهو أمر للرسول أو لكل أحد وهو سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة.
{ بَنِى إِسْرَاءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَـاهُم مِّنْ ءَايَة بَيِّنَةٍ } [البقرة : 211] على أيدي أنبيائهم وهي معجزاتهم أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام.
وكم استفهامية أو خبرية { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ } [البقرة : 211] هي آياته وهي أجل نعمة من الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة وتبديلهم إياها ، إن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالتهم كقوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } [التوبة : 125] (التوبة : 521) أو حرفوا آيات الكتب الدالة على دين محمد عليه السلام { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ } [البقرة : 211] من بعد ما عرفها وصحت عنده لأنه إذا لم يعرفها فكأنها غائبة عنه { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [البقرة : 211] لمن استحقه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
(1/114)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } [البقرة : 212] المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها ، أو الله تعالى يخلق الشهوات فيهم ولأن جميع الكائنات منه ويدل عليه قراءة من قرأ زين للذين كفروا الحياة الدنيا { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 212] كانوا يسخرون من فقراء المؤمنين كابن مسعود وعمار وصهيب ونحوهم أي لا يريدون غير الدنيا وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها أو ممن يطلب غيرها { وَالَّذِينَ اتَّقَوْا } [البقرة : 212] عن الشرك وهم هؤلاء الفقراء { فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [البقرة : 212] لأنهم في جنة عالية وهم في نار هاوية { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة : 212] بغير تقتير يعني أنه يوسع على من أراد التوسعة عليه كما وسع على قارون وغيره ، وهذه التوسعة عليكم من الله لحكمة وهي استدارجكم بالنعمة ولو كانت كرامة لكان المؤمنون أحق بها منكم
168
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [البقرة : 213] متفقين على دين الإسلام من آدم إلى نوح عليهما السلام ، أو هم نوح ومن كان معه في السفينة فاختلفوا { فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّانَ } [البقرة : 213] ويدل على حذفه قوله تعالى : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة : 213] (البقرة : 312) وقراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [يونس : 19] (يونس : 91) أو كان الناس أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين فاختلفوا عليهم والأول الأوجه { مُبَشِّرِينَ } بالثواب للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } بالعقاب للكافرين وهما حالان { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ } [البقرة : 213] أي مع كل واحد منهم كتابه { بِالْحَقِّ } بتبيان الحق { لِيَحْكُمَ } الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه { بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
البقرة : 213] في دين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق.
{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ } [البقرة : 213] في الحق { إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ } [البقرة : 213] أي الكتاب المنزل لإزاله الاختلاف أي ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 213] على صدقه { بَغْيَا بَيْنَهُمْ } [الجاثية : 17] مفعول له أي حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } [البقرة : 213] أي هدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف فيه { مِنَ الْحَقِّ } [البقرة : 213] بيان لما اختلفوا فيه { بِإِذْنِهِ } بعلمه { وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 213] { أَمْ حَسِبْتُمْ } [التوبة : 16] أم منقطعة لا متصلة لأن شرطها أن يكون قبلها همزة الاستفهام كقولك " أعندك زيد أم عمرو " أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد ، أوعمرو إن كان عنده عمرو.
وأما " أم " المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر وتكون بمعنى بل والهمزة ، والتقدير : بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده.
لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين بعد مجيء البينات
169
(1/115)
تشجيعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب وإنكارهم لآياته وعداوتهم له ، قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ أم حسبتم { أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم } [البقرة : 214] أي ولم يأتكم وفي لما معنى التوقع يعني أن إتيان ذلك متوقع منتظر.
{ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا } [البقرة : 214] مضوا أي حالهم التي هي مثل في الشدة { مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة : 5] من النبيين والمؤمنين { مَّسَّتْهُمُ } بيان للمثل وهو استئناف كأن قائلاً قال : كيف كان ذلك المثل فقيل : مستهم { الْبَأْسَآءِ } أي البؤس { وَالضَّرَّآءِ } المرض والجوع { وَزُلْزِلُوا } وحركوا بأنواع البلايا وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [البقرة : 214] إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه من المؤمنين فيها { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [البقرة : 214] أي بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك ، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالة زمان الشدة فقيل لهم { أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214] إجابة لهم إلى طلبهم من عاجل النصر.
يقول بالرفع : نافع على حكاية حال ماضية نحو " شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه " .
وغيره بالنصب على إضمار " أن " ومعنى الاستقبال لأن " أن علم له.
ولما قال عمرو بن الجموح وهو شيخ كبير وله مال عظيم : ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ نزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 165
{ يَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [البقرة : 215] فقد تضمن قوله ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها عن الحسن هي في التطوع { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة : 215] فيجزى عليه { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [البقرة : 246] فرض عليكم جهاد الكفار { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [البقرة : 216]
170
من الكراهة فوضع المصدر موضع الوصف مبالغة كقولها :
فإنما هي إقبال وإدبار كأنه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له أوهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز أي وهو مكروه لكم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 216] فأنتم تكرهون الغزو وفيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة { وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا } [البقرة : 216] وهو القعود عن الغزو { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } [البقرة : 216] لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] ما هو خير لكم { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم ، ونزل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقاتلوا المشركين وقد أهل هلال رجب وهم لا يعلمون ذلك فقالت قريش : قد استحل محمد عليه السلام الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } [البقرة : 217] أي يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام.
{ قِتَالٍ فِيهِ } [البقرة : 217] بدل الاشتمال من الشهر .
وقرىء عن قتال فيه على تكرير العامل كقوله : للذين استضعفوا لمن آمن منهم.
{ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة : 217] أي إثم كبير.
قتال مبتدأ وكبير خبره وجاز الابتداء بالنكرة لأنها قد وصفت بـ فيه وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة : 5] (التوبة : 5).
{ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 217] أي منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه عن البيت عام الحديبية وهو مبتدأ { وَكُفْرُ بِهِ } [البقرة : 217] أي بالله عطف على صد { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [الحج : 25] عطف على سبيل الله أي وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.
وزعم الفراء أنه معطوف على الهاء في به أي كفر به وبالمسجد الحرام ، ولا
171
(1/116)
يجوز عن البصريين العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار فلا تقول : مررت به وزيد ولكن تقول وبزيد ، ولو كان معطوفاً على الهاء هنا لقيل وكفر به وبالمسجد الحرام.
{ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } [البقرة : 217] أي أهل المسجد الحرام وهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنون وهو عطف على صد أيضاً { مِنْهُ } من المسجد الحرام وخبر الأسماء الثلاثة { أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ } [البقرة : 217] أي مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطإ والبناء على الظن { وَالْفِتْنَةُ } الإخراج أو الشرك { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } [البقرة : 217] في الشهر الحرام ، أو تعذيب الكفار المسلمين أشد قبحاً من قتل هؤلاء المسلمين في الشهر الحرام { وَلا يَزَالُونَ يُقَـاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } [البقرة : 217] أي إلى الكفر وهو إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم.
وحتى } معناها التعليل نحو " فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة " أي يقاتلونكم كي يردوكم.
وقوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
{ إِنِ اسْتَطَـاعُوا } [البقرة : 217] استبعاد لاستطاعتهم كقولك لعدوك " إن ظفرت بي فلا تبق علي " وأنت واثق بأنه لا يظفر بك { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [البقرة : 217] ومن يرجع عن دينه إلى دينهم { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } [البقرة : 217] أي يمت على الردة { فَأُوالَـائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [البقرة : 217] لما يفوتهم بالردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وفي الآخرة من الثواب وحسن المآب { وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 217] وبها احتج الشافعي رحمه الله على أن الردة لا تحبط العمل حتى يموت عليها.
وقلنا : قد علق الحبط بنفس الردة بقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة : 5] (المائدة : 5) والأصل عندنا أن المطلق لا يحمل على المقيد ، وعنده يحمل عليه فهو بناء على هذا.
ولما قالت السرية أيكون لنا أجر المجاهدين في سبيل الله نزل { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا } [البقرة : 218] تركوا مكة وعشائرهم { وَجَـاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 218] المشركين ولا وقف عليه لأن { أُوالَـائِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } خبر " إن " .
قيل : من رجا طلب ومن خاف هرب { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] نزل في الخمر أربع آيات نزل بمكة :
172
{ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } [النحل : 67] (النحل : 76).
فكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال ، ثم إن عمر ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 170
(1/117)
{ يَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [البقرة : 219] فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف جماعة فشربوا وسكروا فأم بعضهم فقرأ " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون " فنزل { لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } [النساء : 43] (النساء : 34) فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك جماعة فلما سكروا منها تخاصموا وتضاربوا فقال عمر : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [المائدة : 90] إلى قوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [المائدة : 91] (المائدة : 19) فقال عمر : انتهينا يا رب.
وعن علي رضي الله عنه : لو وقعت قطرة في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو وقعت في بحر ثم جف ونبت فيه الكلأ لم أرعه.
والخمر ما غلى واشتد وقذف بالزبد منع عصير العنب ، وسميت بمصدر خمره خمراً إذا ستره لتغطيتها العقل.
والميسر القمار مصدر من يسر كالموعد من فعله يقال يسرته إذا أقمرته ، واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولة بلا كد وتعب ، أو من اليسار كأنه سلب يساره.
وصفة الميسر أنه كانت لهم عشرة أقداح سبعة منها عليها خطوط وهو الفذ وله سهم ، والتوأم وله سهمان ، والرقيب وله ثلاثة ، والحلس وله أربعة ، والنافس وله خمسة ، والمسبل وله ستة ، والمعلى وله سبعة ، وثلاثة أغفال لا نصيب لها وهي المنيح والسفيح والوغد ، فيجعلون الأقداح
173
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
في خريطة ويضعونها على يد عدل ثم يجلجلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحاً قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح ما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، وفي حكم الميسر أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما ، والمعنى يسألونك عما في تعاطيهما بدليل { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة : 219] بسبب التخاصم والتشاتم وقول الفحش والزور كثير : حمزة وعلي.
{ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ } [البقرة : 219] بالتجارة في الخمر والتلذذ بشربها ، وفي الميسر بارتقاق الفقراء أو نيل المال بلا كد { وَإِثْمُهُمَآ } وعقاب الإثم في تعاطيهما { أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } [البقرة : 219] لأن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيها الآثام من وجوه كثيرة.
{ وَيَسْـاَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } [البقرة : 219] أي الفضل أي أنفقوا ما فضل عن قدر الحاجة ، وكان التصدق بالفضل في أول الإسلام فرضاً فإذا كان الرجل صاحب زرع أمسك قوت سنة وتصدق بالفضل ، وإذا كان صانعاً أمسك قوت يومه وتصدق بالفضل فنسخت بآية الزكاة.
العفو : أبو عمرو ؛ فمن نصبه جعل ماذا اسماً واحداً في موضع النصب بـ ينفقون والتقدير : قل ينفقون العفو ، ومن رفعه جعل ما مبتدأ وخبره ذا مع صلته فذا بمعنى " الذين " وينفقون صلته أي ما الذي ينفقون فجاء الجواب العفو أي هو العفو فإعراب الجواب كإعراب السؤال ليطابق الجواب السؤال.
{ كَذَالِكَ } الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي تبييناً مثل هذا التبيين { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدُّنْيَا } أي في أمر الدنيا { وَالاخِرَةِ } وفي يتعلق بتتفكرون أي تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما أصلح لكم ، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع ، ويجوز أن يتعلق بـ يبين أي يبين لكم الآيات في أمر الدارين وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون.
ولما نزل { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا } [النساء : 10] (النساء : 01) اعتزلوا اليتامى وتركوا
174
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
(1/118)
مخالطتهم والقيام بأموالهم وذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل.
{ فِى الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْيَتَـامَى قُلْ } [البقرة : 220] أي مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } [البقرة : 220] وتعاشروهم ولم تجانبوهم { فَإِخْوَانُكُمْ } فهم إخوانكم في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } [البقرة : 220] لأموالهم { مِنَ الْمُصْلِحِ } [البقرة : 220] لها فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الإصلاح { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } [البقرة : 220] إعناتكم { لاعْنَتَكُمْ } لحملكم على العنت وهو المشقة وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم { أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 209] غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم { حَكِيمٌ } لا يكلف إلا وسعهم وطاقتهم.
ولما سأل مرثد النبي صلى الله عليه وسلّم عن أن يتزوج عناق وكانت مشركة نزل { وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَـاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [البقرة : 221] أي لا تتزوجوهن.
يقال نكح إذا تزوج وأنكح غيره زوجه { وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } [البقرة : 221] ولو كان الحال أن المشركة تعجبكم وتحبونها { وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 221] ولا تزوجوهم بمسلمة كذا قاله الزجاج.
وقال جامع العلوم : حذف أحد المفعولين والتقدير ولا تنكحوهن المشركين { حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } [البقرة : 221].
ثم بين علة ذلك فقال { أُوالَـائِكَ } وهو إشارة إلى المشركات والمشركين { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [البقرة : 221] إلى الكفر الذي هو عمل أهل النار فحقهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا { وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } [البقرة : 221] أي وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة وما يوصل إليهما فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم { بِإِذْنِهِ } بعلمه أو بأمره { وَيُبَيِّنُ ءَايَـاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [البقرة : 221] يتعظون.
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
كانت العرب لم يؤاكلوا الحائض ولم يشاربوها ولم يساكنوها كفعل اليهود
175
والمجوس ، فسأل أبو الدحداح رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك وقال : يا رسول الله كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزل { وَيَسْـاَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } [البقرة : 222] هو مصدر يقال حاضت محيضاً كقولك " جاء مجيئاً " { قُلْ هُوَ أَذًى } [البقرة : 222] أي المحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه { فَاعْتَزِلُوا النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ } [البقرة : 222] فاجتنبوهن أي فاجتنبوا مجامعتهن.
وقيل : إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض ، واليهود كانوا يعتزلونهن في كل شيء ، فأمر الله بالاقتصاد بين الأمرين.
ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يجتنب ما اشتمل عليه الإزار ، ومحمد رحمه الله لا يوجب إلا اعتزال الفرج.
وقالت عائشة رضي الله عنها : يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك.
{ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ } [البقرة : 222] مجامعين أو ولا تقربوا مجامعتهن { حَتَّى يَطْهُرْنَ } [البقرة : 222] بالتشديد كوفي غير حفض أي يغتسلن وأصله " يتطهرون " فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجيهما.
غيرهم يطهرن أي ينقطع دمهن ، والقراءتان كآيتين فعملنا بهما وقلنا له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل عملاً بقراءة التخفيف ، وفي أقل منه لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة عملاً بقراءة التشديد ، والحمل على هذا أولى من العكس لأنه حينئذ يجب ترك العمل بإحداهما لما عرف ، وعند الشافعي رحمه الله لا يقربها حتى تطهر وتتطهر دليله قوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [البقرة : 222] فجامعوهن فجمع بينهما { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [البقرة : 222] من المأتى الذي أمركم الله به وحلله لكم وهو القبل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [البقرة : 222] من ارتكاب ما نهوا عنه أو العوادين إلى الله تعالى وإن زلوا فزلوا والمحبة لمعرفته بعظم عفو الله حيث لا ييأس { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة : 222] بالماء أو المتنزهين من أدبار النساء أو من الجماع في الحيض أو من الفواحش.
(1/119)
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
كان اليهود يقولون إذا أتى الرجل أهله باركة أتى الولد أحول فنزل { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } [البقرة : 223] مواضع حرث لكم وهذا مجاز شبهن بالمحارث
176
تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور والولد بالنبات ، ووقع قوله نساؤكم حرث لكم بياناً وتوضيحاً لقوله : فأتوهن من حيث أمركم الله .
أي إن المأتى الذي أمركم الله به هو مكان الحرث لا مكان الفرث تنبيهاً على أن المطلوب الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لإقضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من المأتي الذي نيط به هذا المطلوب { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة : 223] جامعوهن متى شئتم أو كيف شئتم باركة أو مستلقية أو مضطجعة بعد أن يكون المأتي واحداً وهو موضع الحرث وهو تمثيل ، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم لا يحظر عليكم جهة دون جهة.
وقوله : هو أذى فاعتزلوا النساء ، من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنى شئتم .
من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة ، فعلى كل مسلم أن يتأدب بها ويتكلف مثلها في المحاورات والمكاتبات { وَقَدِّمُوا لانفُسِكُمْ } [البقرة : 223] ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتم عنه ، أو هو طلب الولد أو التسمية على الوطء { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فلا تجترئوا على المناهي { وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَـاقُوهُ } [البقرة : 223] صائرون إليه فاستعدوا للقائه { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 223] بالثواب يا محمد.
وإنما جاء يسألونك ثلاث مرات بلا واو ثم مع الواو ثلاثاً لأن سؤالهم عن تلك الحوارث الأول كأنه وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت بحرف العطف لأن كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد فجيء بحرف الجمع.
لذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 173
{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لايْمَـانِكُمْ } [البقرة : 224] العرضة فعلة بمعنى مفعول كالقبضة وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيتعرض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه.
تقول فلان عرضة دون الخير ، وكان الرجل يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحد أوعبادة ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البرّ إرادة البر في يمينه فقيل لهم ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أي حاجزاً لما حلفتم عليه ، وسمي المحلوف عليه يميناً بتلبسه باليمين كقوله عليه السلام من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً
177
منها فليكفر عن يمينه .
وقوله { أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } [البقرة : 224] عطف بيان لأيمانكم أي للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس.
واللام تتعلق بالفعل أي ولا تجعلوا الله لأيمانكم برزخاً ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة أي ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا واللّه سميعٌ لأيمانكم عليمٌ بنياتكم.
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ } [البقرة : 225] اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ، ولغو اليمين الساقط الذي لا يعتد به في الأيمان وهو أن يحلف على شيء يظنه على ما حلف عليه والأمر بخلافه ، والمعنى لا يعاقبكم بلغوا اليمين الذي يحلفه أحدكم ، وعند الشافعي رحمه الله هو ما يجري على لسانه من غير قصد للحلف نحو " لا والله " و " بلى والله " .
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
(1/120)
{ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم } [المائدة : 89] ولكن يعاقبكم { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [البقرة : 225] بما اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهو اليمين الغموس ، وتعلق الشافعي بهذا النص على وجوب الكفارة في الغموس لأن كسب القلب العزم والقصد ، والمؤاخذة غير مبينة هنا وبينت في المائدة فكان البيان ثمة بياناً هنا ، وقلنا : المؤاخذة هنا مطلقة.
وهي في دار الجزاء والمؤاخذة ثم مقيدة بدار الابتلاء فلا يصح حمل البعض على البعض { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 225] حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.
{ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } [البقرة : 226] يقسمون وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنه ومن في { مِن نِّسَآئِهِمْ } [البقرة : 226] يتعلق بالجار والمجرور أي للذين كما تقول لك مني نصرة ولك مني معونة أي للمؤلين من نسائهم { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } [البقرة : 226] أي استقر للمؤلين ترقب أربعة أشهر لا بـ يؤلون لأن آلى يعدّى بـ " على " يقال آلى فلان على امرأته ، وقول القائل " آلى فلان من امرأته " وهم توهمه من هذه الآية.
ولك أن تقول عدّي بـ " من " لما في هذا القسم من معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم { فَإِن فَآءُو } [البقرة : 226] في الأشهر لقراءة عبد الله فإن فاءوا فيهن أي رجعوا إلى الوطء عن الإصرار بتركه { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 192] حيث شرع الكفارة
178
{ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَـاقَ } [البقرة : 227] بترك الفيء فتربصوا إلى مضي المدة { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة : 227] لايلائه { عَلِيمٌ } بنيته وهو وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة ، وعند الشافعي رحمه الله معناه فإن فاءوا وإن عزموا بعد مضي المدة لأن الفاء للتعقيب.
وقلنا قوله : فإن فاءوا " .
وإن عزموا تفصيل لقوله للذين يؤلون من نسائهم والتفصيل يعقب المفصل كما تقول : أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول.
{ وَالْمُطَلَّقَـاتُ } أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء.
{ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] خبر في معنى الأمر وأصل الكلام ولتتربص المطلقات ، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء " رحمك الله " أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بخلاف الفعلية.
وفي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص.
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{ ثَلَـاثَةَ قُرُواءٍ } [البقرة : 228] جمع قرء أو قرء وهو الحيض لقوله عليه السلام دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ولم يقل طهران.
وقوله تعالى : { وَالَّـاـاِى يَـاـاِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآ ـاِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـاثَةُ أَشْهُرٍ } [الطلاق : 4] (الطلاق : 4).
فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار ، ولأن المطلوب من العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة ، ولأنه لو كان ظهراً ـــــ كما قال الشافعي ـــــ لانقضت العدة بقرأين وبعض الثالث فانتقص العدد عن الثلاثة ، لأنه إذا طلقها لآخر الطهر فذا محسوب من العدة عنده ، وإذا طلقها في آخر الحيض فذا غير مسحوب من العدة عندنا ، والثلاث اسم
179
خاص لعدد مخصوص لا يقع على ما دونه.
ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت وامرأة مقرىء.
وانتصاب ثلاثة على أنه مفعول به أي يتربصن مضي ثلاثة قروء أو على الظرف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء ، وجاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء لاشتراكهما في الجمعية اتساعاً ، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه تنزيلاً لقليل الاستعمال منزلة المهمل.
(1/121)
{ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ } [البقرة : 228] من الولد أو من دم الحيض أو منهما ، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها ، أو كتمت حيضها وقالت ـــــ وهي حائض ـــــ قد طهرت استعجالاً للطلاق ، ثم عظم فعلهن فقال { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 228] لأن من آمن بالله وبعقابه لا يجترىء على مثله من العظائم { وَبُعُولَتُهُنَّ } البعول جمع بعل والتاء لاحقة لتأنيث الجمع { أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [البقرة : 228] أي أزواجهن أولى برجعتهن ، وفيه دليل أن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء حيث سماه زوجاً بعد الطلاق { فِي ذَالِكَ } [البقرة : 228] في مدة ذلك التربص ، والمعنى أن الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها لا أن لها حقاً في الرجعة { إِنْ أَرَادُوا إِصْلَـاحًا } لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارتهن { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ } [البقرة : 228] ويجب لهن من الحق على الرجال من المهر والنفقة وحسن العشرة وترك المضارة مثل الذي يجب لهم عليهن من الأمر والنهي { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ، فلا يكلف أحد الزوجين صاحبه ما ليس له.
والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة لا في جنس الفعل ، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [البقرة : 228] زيادة في الحق وفضيلة بالقيام بأمرها وإن اشتركا في اللذة والاستمتاع أو بالإنفاق وملك النكاح { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] لا يعترض عليه في أموره { حَكِيمٌ } لا يأمر إلا بما هو صواب وحسن.
جزء : 1 رقم الصفحة : 177
{ الطَّلَـاقُ مَرَّتَانِ } [البقرة : 229] الطلاق بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم أي
180
التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع ، والإرسال دفعة واحدة.
ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله { ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [الملك : 4] (الملك : 4) أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين وهو دليل لنا في أن الجمع بين الطلقتين والثلاثة بدعة في طهر واحد ، لأن الله تعالى أمرنا بالتفريق لأنه وإن كان ظاهره الخبر فمعناه الأمر وإلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى ، لأن الطلاق على وجه الجمع قد يوجد.
وقيل : قالت أنصارية : إن زوجي قال : لا أزال أطلقك ثم أراجعك فنزلت الطلاق مرتان أي الطلاق الرجعي مرتان لأنه لا رجعة بعد الثالث
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
(1/122)
{ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة : 229] برجعة ، والمعنى فالواجب عليكم إمساك بمعروف { أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَـانٍ } [البقرة : 229] بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة.
وقيل : بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث.
ونزل في جميلة وزوجها ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها وقد أعطاها حديقة فاختلعت منه بها وهو أول خلع كان في الإسلام { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ } [البقرة : 229] أيها الأزواج أو الحكام لأنهم الآمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم الآخذون والمؤتون { أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [البقرة : 229] مما أعطيتموهن من المهور { إِلا أَن يَخَافَآ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 229] إلا أن يعلم الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها { فَإِنْ خِفْتُمْ } [النساء : 3] أيها الولاة ، وجاز أن يكون أول خطاب للأزواج وآخره للحكام { أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } [البقرة : 229] فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [البقرة : 229] فيما افتدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر.
إلا أن يخافا حمزة على البناء للمفعول وإبدال ألا يقيما من ألف الضمير وهو من بدل الاشتمال نحو " خيف زيد تركه إقامة حدود الله " .
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } [البقرة : 229] أي ما حد من النكاح واليمين والإيلاء والطلاق والخلع وغير ذلك { فَلا تَعْتَدُوهَا } [البقرة : 229] فلا تجاوزوها بالمخالفة { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 229] الضارون أنفسهم.
{ فَإِن طَلَّقَهَا } [البقرة : 230] مرة ثالثة بعد المرتين ، فإن قلت الخلع طلاق عندنا وكذا
181
عند الشافعي رحمه الله في قول ، فكأن هذه تطليقة رابعة.
قلت : الخلع طلاق ببدل فيكون طلقة ثالثة ، وهذه بيان لتلك أي فإن طلقها الثالثة ببدل فحكم التحليل كذا { فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
البقرة : 230] من بعد التطليقة الثالثة { حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } [البقرة : 230] حتى تتزوج غيره.
والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزوج ، وفيه دليل على أن النكاح ينعقد بعبارتها ، والإصابة شرطت بحديث العسيلة كما عرف في أصول الفقه ، والفقه فيه أنه لما أقدم على فراق لم يبق للندم مخلصاً لم تحل له إلا بدخول فحل عليها ليمتنع عن ارتكابه { فَإِن طَلَّقَهَا } [البقرة : 230] الزوج الثاني بعد الوطء { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } [البقرة : 230] على الزوج الأول وعليها { أَن يَتَرَاجَعَآ } [البقرة : 230] أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } [البقرة : 230] إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية ولم يقل إن علما أنهما يقيمان لأن اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا } [البقرة : 230] وبالنون : المفضل { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] يفهمون ما بين لهم.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [البقرة : 231] أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها ، والأجل يقع على المدة كلها وعلى آخرها.
يقال لعمر الإنسان أجل ، وللموت الذي ينتهى به أجل.
{ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة : 231] أي فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة ، وإما أن يخليها حتى تنقضي عدتها وتبين من غير ضرار { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } [البقرة : 231] مفعول له أو حال أي مضارين ، وكان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجة ولكن ليطوّل العدة عليها فهو الإمساك ضراراً { لِّتَعْتَدُوا } لتظلموهن أو لتلجئوهن إلى الافتداء { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] يعني الإمساك للضرار { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [الطلاق : 1] بتعريضها لعقاب الله { وَلا تَتَّخِذُوا ءَايَـاتِ اللَّهِ هُزُوًا } [البقرة : 231] أي جدوا بالأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها وإلا فقد اتخذتموها هزواً.
يقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازىء
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
(1/123)
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 231] بالإسلام وبنبوة محمد عليه السلام { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَـابِ وَالْحِكْمَةِ } [البقرة : 231] من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها { يَعِظُكُم بِهِ } [النساء : 58] بما أنزل
182
عليكم وهو حال { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيما امتحنكم به { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 231] من الذكر والاتقاء والاتعاظ وغير ذلك وهو أبلغ وعد ووعيد.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [البقرة : 231] أي انقضت عدتهن فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين لأن النكاح يعقبه هنا وذا يكون بعد العدة ، وفي الأولى الرجعة وذا يكون في العدة { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ } [البقرة : 232] فلا تمنعوهن.
العضل : المنع والتضييق { أَن يَنكِحْنَ } [البقرة : 232] من أن ينكحن { أَزْوَاجَهُنَّ } الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهن ، وفيه إشارة إلى انعقاد النكاح بعبارة النساء ، والخطاب للأزواج الذي يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً ولا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج ، سموا أزواجاً باسم ما يؤول إليه.
أو للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن الذين كانوا أزواجاً لهن ، سموا أزواجاً باعتبار ما كان.
نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأول.
أو للناس أي لا يوجد فيما بينكم عضل لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين { إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم } [البقرة : 232] إذا تراضى الخطاب والنساء { بِالْمَعْرُوفِ } بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط ، أو بمهر المثل والكفء لأن عند عدم أحدهما للأولياء أن يتعرضوا.
والخطاب في { ذَالِكَ } للنبي صلى الله عليه وسلّم أو لكل واحد { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 232] فالموعظة إنما تنجع فيهم { ذالِكُمْ } أي ترك العضل والضرار { أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [البقرة : 232] أي لكم من أدناس الآثام أو أزكى وأطهر وأفضل وأطيب { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] ما في ذلك من الزكاء والطهر { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 180
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـادَهُنَّ } [البقرة : 233] خبر في معنى الأمر المؤكد كـ { يَتَرَبَّصْنَ } وهذا
183
(1/124)
الأمر على وجه الندب أو على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار ، أو أراد الوالدات المطلقات وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع { حَوْلَيْنِ } ظرف { كَامِلَيْنِ } تأمين وهو تأكيد لأنه مما يتسامح فيه فإنك تقول : أقمت عند فلان حولين ولم تستكملهما { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة : 233] بيان لمن توجه إليه الحكم أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة.
والحاصل أن الأب يجب عليه إرضاع ولده دون الأم ، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه ، ولا يجوز استئجار الأم ما دامت زوجة أو معتدة { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ } [البقرة : 233] الهاء يعود إلى اللام الذي بمعنى " الذي " ، والتقدير : وعلى الذي يولد له وهو الوالد ، وله في محل الرفع على الفاعلية كـ " عليهم " في { الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة : 7] (الفاتحة : 7) وإنما قيل على المولود له دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم إذ الأولاد للآباء والنسب إليهم لا إليهن فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظار ، ألاى ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى وهو قوله : { وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شيئا } [لقمان : 33] (لقمان : 33) { رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 233] بلا إسراف ولا تقتير ، وتفسيره ما يعقبه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا { لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا } [البقرة : 233] وجدها أو قدر إمكانها.
والتكليف إلزام ما يؤثره في الكلفة.
وانتصاب وسعها على أنه مفعول ثانٍ لـ تكلف لا على الاستثناء ودخلت إلا بين المفعولين.
{ لا تُضَآرَّ } [البقرة : 233] مكي وبصري بالرفع على الإخبار ومعناه النهي وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول وأن يكون الأصل " تضارر " بكسر الراء أو " تضارر " بفتحها.
الباقون لا تضار على النهي والأصل " تضارر " أسكنت الراء الأولى وأدغمت في الثانية فالتقى الساكنان ففتحت الثانية لالتقاء الساكنين
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَالِدَةُ بِوَلَدِهَا } [البقرة : 233] أي لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة ، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعدما ألفها الصبي أطلب له ظئر أو ما أشبه ذلك { وَلا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة : 233] أي ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه.
وإذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار
184
(1/125)
من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد ، أو تضار بمعنى تضر والباء من صلته أي لا تضر والدة ولدها فلا تسيء غذاءه وتعهده ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد.
وإنما قيل بولدها وبولده لأنه لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وكذلك الوالد { وَعَلَى الْوَارِثِ } [البقرة : 233] عطف على قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وعلى وارث الصبي عند عدم الأب مثل ذلك أي مثل الذي كان على أبيه في حياته من الرزق والكسوة.
واختلف فيه ؛ فعند ابن أبي ليلى : كل من ورثه ، وعندنا : من كان ذا رحم محرم منه لقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ، وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة فيما عدا الولاد.
{ فَإِنْ أَرَادَا } [البقرة : 233] يعني الأبوين { فِصَالا } فطاماً صادراً { عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } [البقرة : 233] بينهما { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } [البقرة : 230] في ذلك زادا على الحولين أو نقصا ، وهذه توسعة بعد التحديد ، والتشاور استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته ، وذكره ليكون التراضي عن تفكر فلا يضر الرضيع ، فسبحان الذي أدب الكبير ولم يهمل الصغير واعتبر اتفاقهما ، لأن للأب النسبة والولاية وللأم الشفقة والعناية.
{ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَـادَكُمْ } [البقرة : 233] أي لأولادكم عن الزجاج.
وقيل : استرضع منقول من أرضع ، يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي معدّى إلى مفعولين أي أن تسترضعوا المراضع أولادكم فحذف أحد المفعولين يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } [البقرة : 233] إلى المراضع { مَّآ ءَاتَيْتُم } [البقرة : 233] ما أردتم إيتاءه من الأجرة.
أتيتم مكي من أتى إليه إحساناً إذا فعله ومنه قوله { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } [مريم : 61] (مريم : 16) أي مفعولاً ، والتسليم ندب لا شرط للجواز { بِالْمَعْرُوفِ } متعلق بـ سلمتم أي سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 233] لا تخفى عليه أعمالكم فهو يجازيكم عليها.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } [البقرة : 234] تقول توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وافياً تاماً
185
أي تستوفى أرواحهم { وَيَذَرُونَ } ويتركون { أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] أي وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن أي يعتددن ، أو معناه يتربصن بعدهم بأنفسهن فحذف بعدهم للعلم به.
وإنما احتيج إلى تقديره لأنه لا بد من عائد يرجع إلى المبتدأ في الجملة التي وقعت خبراً.
يتوفون : المفضل أي يستوفون آجالهم { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة : 234] أي وعشر ليال والأيام داخلة معها ولا يستعمل التذكير فيه ذهاباً إلى الأيام تقول صمت عشراً ولو ذكرت لخرجت من كلامهم { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } [الطلاق : 2] فإذا انقضت عدتهن { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 233] أيها الأئمة والحكام { فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] من التعرض للخاطب { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي لا ينكره الشرع { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] عالم بالبواطن.
{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ } [البقرة : 235] الخطبة الاستنكاح ، والتعريض أن تقول لها إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه ، ولا يصرح بالنكاح فلا يقول إني أريد أن أتزوجك.
والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه جئتك : لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
(1/126)
فكأنه إمالة الكلام إلى غرض يدل على الغرض { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } [البقرة : 235] أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرضين ولا مصرحين { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } [البقرة : 235] لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فاذكروهن { وَلَـاكِن لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } [البقرة : 235] جماعا لأنه مما يسر أي لا تقولوا في العدة إني قادر على هذا العمل { إِلا أَن تَقُولُوا قَوْلا مَّعْرُوفًا } [البقرة : 235] وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.
وإلا متعلق بـ لا تواعدوهن أي لا
186
تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } [البقرة : 235] من عزم الأمر وعزم عليه.
وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح لأن العزم على الفعل يتقدمه فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى ، ومعناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو ولا تقطعوا عقدة النكاح لأن حقيقة العزم القطع ومنه الحديث لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروي لمن لم يبيت الصيام أي ولا تعزموا على عقدة النكاح { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَـابُ أَجَلَهُ } [البقرة : 235] حتى تنقضي عدتها.
وسميت العدة كتاباً لأنها فرضت بالكتاب يعني حتى يبلغ التربص المكتوب عليها أجله أي غايته { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } [البقرة : 235] من العزم على ما لا يجوز { فَاحْذَرُوهُ } ولا تعزموا عليه { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 235] لا يعاجلكم بالعقوبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
ونزل فيمن طلق امرأته ولم يكن سمى لها مهراً ولا جامعها { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 236] لاتبعة عليكم من إيجاب مهر { إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ } [البقرة : 236] شرط ، ويدل على جوابه لا جناح عليكم والتقدير : إن طلقتم النساء فلا جناح عليكم { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة : 236] ما لم تجامعوهن ، وما شرطية أي إن لم تمسوهن تماسوهن : حمزة وعلي حيث وقع لأن الفعل واقع بين اثنين { أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } [البقرة : 236] إلا أن تفرضوا لهن فريضة أو حتى تفرضوا ، وفرض الفريضة تسمية المهر وذلك أن المطلقة غير الموطوءة لها نصف المسمى إن سمى لها مهر ، وإن لم يسم لها مهر فليس لها نصف مهر المثل بل تجب المتعة ، والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله وإن طلقتموهن إلى قوله فنصف ما فرضتم فقوله فنصف ما فرضتم إثبات للجناح المنفي ثمة { وَمَتِّعُوهُنَّ } معطوف على فعل محذوف تقديره فطلقوهن ومتعوهن.
والمتعة درع وملحفة وخمار { عَلَى الْمُوسِعِ } [البقرة : 236] الذي له سعة { قَدَرُهُ } مقداره الذي يطيقه.
قدره فيهما : كوفي غير أبي بكر وهما لغتان { وَعَلَى الْمُقْتِرِ } [البقرة : 236] الضيق الحال.
{ قَدَرُهُ } ولا تجب المتعة عندها إلا لهذه وتستحب لسائر المطلقات { مَّتَـاعًا } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً { بِالْمَعْرُوفِ } بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة { حَقًّا }
187
صفة لـ متاعاً أي متاعاً واجباً عليهم أو حق ذلك حقاً { عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة : 236] على المسلمين ، أو على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع.
وسماهم قبل الفعل محسنين كقوله عليه السلام من قتل قتيلاً فله سلبه وليس هذا الإحسان هو التبرع بما ليس عليه إذ هذه المتعة واجبة.
ثم بين حكم التي سمى لها مهراً في الطلاق قبل المس فقال { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة : 237] " أن " مع الفعل بتأويل المصدر في موضع الحر أي من قبل مسكم إياهن { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
(1/127)
البقرة : 237] في موضع الحال { لَهُنَّ فَرِيضَةً } [البقرة : 237] مهراً { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَن يَعْفُونَ } [البقرة : 237] يريد المطلقات.
و " أن " مع الفعل في موضع النصب على الاستثناء كأنه قيل : فعليكم نصف ما فرضتم في جميع الأوقات إلا وقت عفوهن عنكم من المهر.
والفرق بين الرجال " يعفون " " والنساء " يعفون " أن الواو في الأول ضميرهم والنون علم الرفع ، والواو في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن ، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل { أَوْ يَعْفُوَا } [البقرة : 237] عطف على محله { الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } [البقرة : 237] هو الزوج كذا فسره علي رضي الله عنه وهو قول سعيد بن جبير وشريح ومجاهد وأبي حنيفة والشافعي على الجديد رضي الله عنهم ، وهذا لأن الطلاق بيده فكان إبقاء العقد بيده ، والمعنى أن الواجب شرعاً هو النصف إلا أن تسقط هي الكل أو يعطي هو الكل تفضلاً ، وعند مالك والشافعي في القديم هو الولي.
قلنا : هو لا يملك التبرع بحق الصغيرة فكيف يجوز حمله عليه؟ { وَأَن تَعْفُوا } [البقرة : 237] مبتدأ خبره { أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة : 8] والخطاب للأزواج والزوجات على سبيل التغليب ذكره الزجاج أي عفو الزوج بإعطاء كل المهر خير له ، وعفو المرأة بإسقاط كله خير لها أو للأزواج { وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ } [البقرة : 237]
188
التفضل { بَيْنَكُمْ } أي ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 110] فيجازيكم على تفضلكم.
{ حَـافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ } [البقرة : 238] داوموا عليها بمواقيتها وأركانها وشرائطها { وَالصَّلَواةِ الْوُسْطَى } [البقرة : 238] بين الصلوات أي الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط.
وإنما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.
وهي صلاة العصر عند أبي حنيفة رحمه الله وعليه الجمهور لقوله عليه السلام يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً وقال عليه السلام إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان حتى توارت بالحجاب وفي مصحف حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر ولأنها بين صلاتي الليل وصلاتي النهار ، وفضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم.
وقيل : صلاة الظهر لأنها في وسط النهار ، أو صلاة الفجر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، أو صلاة الغرب لأنها بين الأربع والمثنى ، ولأنها بين صلاتي مخافتة وصلاتي جهر ، أو صلاة العشاء لأنها بين وترين ، أو هي غير معينة كليلة القدر ليحفظوا الكل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
{ وَقُومُوا لِلَّهِ } [البقرة : 238] في الصلاة { قَـانِتِينَ } حال أي مطيعين خاشعين أو ذاكرين الله في قيامكم.
والقنوت أن تذكر الله قائماً أو مطيلين القيام { فَإِنْ خِفْتُمْ } [النساء : 3] فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره { فَرِجَالا } حال أي فصلوا راجلين وهو جمع راجل كقائم وقيام { أَوْ رُكْبَانًا } [البقرة : 239] وحداناً بإيماء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } [البقرة : 239] فإذا زال خوفكم { فَاذْكُرُوا اللَّهَ } [البقرة : 198] فصلوا صلاة الأمن { كَمَا عَلَّمَكُم } [البقرة : 239] أي ذكراً مثل ما علمكم { مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 151] من صلاة الأمن.
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لازْوَاجِهِم } [البقرة : 240] بالنصب
189
(1/128)
شامي وأبو عمرو وحمزة وحفص أي فليوصوا وصية عن الزجاج.
غيرهم بالرفع أي فعليهم وصيةٌ { مَّتَـاعًا } نصب بالوصية لأنها مصدر أو تقديره متعوهن متاعاً { إِلَى الْحَوْلِ } [البقرة : 240] صفة لـ متاعاً { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة : 240] مصدر مؤكد كقولك " هذا القول غير ما تقول " ، أو بدل من متاعاً والمعنى أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن ، وكان ذلك مشروعاً في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { النَّاسُ } (البقرة : 241).
مع قوله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ } [البقرة : 144] (البقرة : 441).
{ فَإِنْ خَرَجْنَ } [البقرة : 240] بعد الحول { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ } [البقرة : 234] من التزين والتعرض للخطاب { مِن مَّعْرُوفٍ } [البقرة : 240] مما ليس بمنكر شرعاً { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [البقرة : 228] فيما حكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 183
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَلِلْمُطَلَّقَـاتِ مَتَـاعُ } [البقرة : 241] أي نفقة العدة { بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا } [البقرة : 180] نصب على المصدر { كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } هو في موضع الرفع لأنه خبر " لعل " ، وإن أريد به المتعة فالمراد غير المطلقة المذكورة وهي على سبيل الندب { أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين وتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب { إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَـارِهِمْ } [البقرة : 243] من قرية قيل :
190
واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم بدعاء حزقيل عليه السلام.
وقيل : هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله ثمانية أيام ثم أحياهم { وَهُمْ أُلُوفٌ } [البقرة : 243] في موضع النصب على الحال ، وفيه دليل على الألوف الكثيرة لأنها جمع كثرة وهي جمع ألف لا آلف { حَذَرَ الْمَوْتِ } [البقرة : 243] مفعول له { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا } [البقرة : 243] أي فأماتهم الله ، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته وتلك ميتة خارجة عن العادة ، وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد ، وأن الموت إذا لم يكن منه بد ولم ينفع منه مفر فأولى أن يكون في سبيل الله { ثُمَّ أَحْيَـاهُمْ } [البقرة : 243] ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وفضائه ، وهو معطوف على فعل محذوف تقديره فماتوا ثم أحياهم ، ولما كان معنى قوله فقال لهم الله موتوا فأماتهم كان عطفاً عليه معنى { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } [البقرة : 243] حيث يبصرهم ما يعتبرون به كما بصر أولئك وكما بصركم باقتصاص خبرهم ، أو لذو فضل على الناس حيث أحيا أولئك ليعتبروا فيفوزوا ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم النشور { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } [البقرة : 243] ذلك.
والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل الله وهو قوله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَقَـاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 190] فحرض على الجهاد بعد الإعلام لأن الفرار من الموت لا يغني ، وهذا الخطاب لأمة محمد عليه السلام أو لمن أحياهم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } [البقرة : 244] يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون { عَلِيمٌ } بما يضمرونه { مِّنْ } استفهام في موضع رفع بالابتداء { ذَا } خبره { الَّذِى } نعت لـ ذا أو بدل منه { يُقْرِضُ اللَّهَ } [البقرة : 245] صلة الذي سمى ما ينفق في سبيل الله قرضاً لأن القرض ما يقبض ببدل مثله من بعد ، سمى به لأن المقرض يقطعه من ماله فيدفعه إليه.
191
(1/129)
والقرض القطع ومنه المقراض ، وقرض الفأر والانقراض فنبههم بذلك على أنه لا يضيع عنده وأنه يجزيهم عليه لا محالة { قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة : 245] بطيبة النفس من المال الطيب ، والمراد النفقة في الجهاد لأنه لما أمر بالقتال في سبيل الله ويحتاج فيه إلى المال حث على الصدقة ليتهيأ أسباب الجهاد { فَيُضَـاعِفَهُ لَهُ } [البقرة : 245] بالنصب : عاصم على جواب الاستفهام.
وبالرفع : أبو عمر ونافع وحمزة وعلي عطفاً على يقرض ، أو هو مستأنف أي فهو يضاعفه.
فيضعفه : شامي.
فيضعفه : مكي.
{ أَضْعَافًا } في موضع المصدر { كَثِيرَةَ } لا يعلم كنهها إلا الله.
وقيل : الواحد بسبعمائة.
{ وَاللَّهُ يَقْبِضُ } يقتر الرزق على عباده ويوسعه عليهم فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيق بالسعة.
ويبصط حجازي وعاصم وعلي { مَّن ذَا الَّذِى } [البقرة : 245] فيجازيكم على ما قدمتم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلا } [البقرة : 246] الأشراف لأنهم يملأون القلوب جلالة والعيون مهابة { مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [المائدة : 78] من للتبعيض { مِن بَعْدِ مُوسَى } [البقرة : 246] من بعد موته ومن لابتداء الغاية { إِذْ قَالُوا } [الممتحنة : 4] حين قالوا { لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } [البقرة : 246] هم شمعون أو يوشع أو اشمويل
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا } [البقرة : 246] أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره { نُّقَـاتِلْ } بالنون والجزم على الجواب { فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [التوبة : 38] صلة نقاتل { قَالَ } النبي { هَلْ عَسَيْتُمْ } [البقرة : 246] عسيتم حيث كان : نافع.
{ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } [البقرة : 246] شرط فاصل بين اسم " عسى " وخبره وهو { أَلا تُقَـاتِلُوا } [البقرة : 246] والمعنى : هل قاربتم أن لا تقاتلوا يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون وتجبنون ، فأدخل " هل " مستفهماً عما هو متوقع عنده ، وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { قَالُوا وَمَا لَنَآ أَلا نُقَـاتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 246] وأي داعٍ لنا إلى ترك القتال وأي غرض لنا فيه { وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـارِنَا وَأَبْنَآ ـاِنَا } [البقرة : 246] الواو في وقد للحال وذلك أن قوم جالوت كانوا يسكنون بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم
192
أربعمائة وأربعين يعنون إذا بلغ الأمر منا هذا المبلغ فلا بد من الجهاد { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } [النساء : 77] أي أجيبوا إلى ملتمسهم { تَوَلَّوْا } أعرضوا عنه { إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] وهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالظَّـالِمِينَ } [البقرة : 95] وعيد لهم على ظلمهم بترك الجهاد.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ } [البقرة : 247] هو اسم أعجمي كجالوت وداود ، ومنع من الصرف للتعريف والعجمة { مَلِكًا } حال { قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } [البقرة : 247] أي كيف ومن أين وهو إنكار لتملكه عليهم واستبعاد له { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ } [البقرة : 247] الواو للحال { وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
البقرة : 247] أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق بالملك وأنه فقير لا بد للملك من مال يعتضد به ، وإنما قالوا ذلك لأن النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب عليه السلام ، والملك في سبط يهوذا وهو كان من سبط بنيامين ، وكان رجلاً سقاء أو دباغاً فقيراً.
وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت
193
(1/130)
{ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة : 247] الطاء في اصطفاه بدل من التاء لمكان الصاد الساكنة أي اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم ولا اعتراض على حكمه.
ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة فقال { وَزَادَهُ بَسْطَةً } [البقرة : 247] مفعول ثانٍ { فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [البقرة : 247] قالوا : كان أعلم بني إسرائيل بالحرب والديانات في وقته ، وأطول من كل إنسان برأسه ومنكبه.
والبسطة السعة والامتداد ، والملك لا بد أن يكون من أهل العلم فإن الجاهل ذليل مزدرى غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب.
{ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 247] أي الملك له غير منازع فيه وهو يؤتيه من يشاء إيتاءه وليس ذلك بالوراثة { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] أي واسع الفضل والعطاء يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر { عَلِيمٌ } بمن يصطفيه للملك فثمة طلبوا من نبيهم آية على اصطفاء الله طالوت.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ } [البقرة : 248] أي صندوق التوراة ، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون.
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [البقرة : 248] سكون وطمأنينة { وَبَقِيَّةٌ } هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة ونعلا موسى وعمامة هارون عليهما السلام { مِّمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَـارُونَ } [البقرة : 248] أي مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما { تَحْمِلُهُ الْمَلَـائِكَةُ } [البقرة : 248] يعني التابوت وكان رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه ، والجملة في موضع الحال وكذا فيه سكينة .
ومن ربكم } نعت لـ سكينة " ومما ترك نعت لـ بقية { إِنَّ فِي ذَالِكَ لايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 248] إن في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم إن كنتم مصدقين.
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ } [البقرة : 249] خرج { بِالْجُنُودِ } عن بلده إلى جهاد العدو وبالجنود في موضع الحال أي مختلطاً بالجنود وهم ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسألوا أن يجري الله لهم نهراً { قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم } [البقرة : 249] مختبركم أي يعاملكم معاملة المختبر { بِنَهَرٍ } وهو نهر فلسطين ليتميز المحقق في الجهاد من المعذر { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ } [البقرة : 249] كرعاً { فَلَيْسَ مِنِّي } [البقرة : 249] فليس من أتباعي وأشياعي { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [البقرة : 249] ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه { فَإِنَّهُ مِنِّى } [البقرة : 249] وبفتح الياء : مدني وأبو عمرو.
واستثنى { إِلا مَنِ اغْتَرَفَ } من قوله فمن شرب منه فليس مني والجملة الثانية في حكم المتأخرة عن الاستثناء إلا أنها قدمت للعناية { غُرْفَةَ بِيَدِهِ } [البقرة : 249] غرفة : حجازي وأبو عمرو بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة
194
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
(1/131)
باليد دون الكرع ، والدليل عليه { فَشَرِبُوا مِنْهُ } [البقرة : 249] أي فكرعوا { إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] وهم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً { فَلَمَّا جَاوَزَهُ } [البقرة : 249] أي النهر { هُوَ } طالوت { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ } [هود : 58] أي القليل { قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ } [البقرة : 249] أي لا قوة لنا { بِجَالُوتَ } هو جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد وكان في بيضته ثلثمائة رطل من الحديد { وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـاقُوا اللَّهِ } [البقرة : 249] يوقنون بالشهادة.
قيل : الضمير في قالوا للكثير الذين انخذلوا والذين يظنون هم القليل الذين ثبتوا معه.
وروي أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ } [البقرة : 249] كم خبرية وموضعها رفع بالابتداء { غَلَبَتْ } خبرها { فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة : 249] بنصره { وَاللَّهُ مَعَ الصَّـابِرِينَ } [البقرة : 249] بالنصر.
{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } [البقرة : 250] خرجوا لقتالهم { قَالُوا رَبَّنَآ أَفْرِغْ } [البقرة : 250] أصبب { عَلَيْنَا صَبْرًا } [الأعراف : 126] على القتال { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [البقرة : 250] بتقوية قلوبنا وإلقاء الرعب في صدور عدونا { وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 250] أعنا عليهم { فَهَزَمُوهُم } أي طالوت والمؤمنون جالوت وجنوده { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بقضائه { وَقَتَلَ دَاوُادُ جَالُوتَ } [البقرة : 251] كان بيشا أو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أن داود هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقالت له : إنك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله وزوجه طالوت بنته ، ثم حسده وأراد قتله ثم مات تائباً
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ وَءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة : 251] في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها ، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود { وَالْحِكْمَةَ } والنبوة { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } [البقرة : 251] من صنعة الدروع وكلام الطيور والدواب وغير ذلك.
{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ } [البقرة : 251] هو مفعول به { بَعْضُهُمْ } بدل من الناس دفاع : مدني مصدر دفع أو دافع { بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الارْضُ } [البقرة : 251] أي ولولا
195
أن الله تعالى يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها من الحرث والنسل ، أو ولولا أن الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بغلبة الكفار وقتل الأبرار وتخريب البلاد وتعذيب العباد { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 251] بإزالة الفساد عنهم وهو دليل على المعتزلة في مسألة الأصلح { تِلْكَ } مبتدأ خبره { اللَّهِ أَلا } [غافر : 4] يعني القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره على الجبابرة على يد صبي { نَتْلُوهَا } حال من آيات الله ، والعامل فيه معنى الإشارة ، أو آيات الله بدل من تلك ونتلوها الخبر.
{ عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } [الجاثية : 6] باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك { وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [البقرة : 252] حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب أو سماع من أهله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 190
{ تِلْكَ الرُّسُلُ } [البقرة : 253] إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في هذه السورة من آدم إلى داود أو التي ثبت علمها عند رسول الله عليه السلام { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [البقرة : 253] بالخصائص وراء الرسالة لاستوائهم فيها كالمؤمنين يستوون في صفة الإيمان ويتفاوتون في الطاعات بعد الإيمان.
ثم بين ذلك بقوله { مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
(1/132)
البقرة : 253] أي كلمه الله حذف العائد من الصلة يعني منهم من فضله الله بأن كلمه من غير سفير وهو موسى عليه السلام { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } [البقرة : 253] مفعول أول { دَرَجَـاتٍ } مفعول ثانٍ أي بدرجات أو إلى درجات يعني ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة وهو محمد صلى الله عليه وسلّم ، لأنه هو المفضل عليهم بإرساله إلى الكافة ، وبأنه أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف أو أكثر ، وأكبرها القرآن لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر.
وفي هذا الإبهام تفخيم وبيان أنه العلم الذي لا يشتبه على أحد ، والمتميز الذي لا يلتبس.
وقيل : أريد به محمد وإبراهيم وغيرهما من أولي العزم من
196
الرسل { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ وَقَفَّيْنَا } [البقرة : 87] كإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك { وَأَيَّدْنَـاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 87] قويناه بجبريل أو بالإنجيل { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ } [البقرة : 253] أي ما اختلف لأنه سببه { الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم } [البقرة : 253] من بعد الرسل { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 213] المعجزات الظاهرات { وَلَـاكِنِ اخْتَلَفُوا } [البقرة : 253] بمشيئتي.
ثم بين الاختلاف فقال { فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ } [البقرة : 253] بمشيئتي.
يقول الله أجريت أمور رسلي على هذا ، أي لم يجتمع لأحد منهم طاعة جميع أمته في حياته ولا بعد وفاته بل اختلفوا عليه فمنهم من آمن ومنهم من كفر { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } [البقرة : 253] كرره للتأكيد أي لو شئت أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا إذ لا يجري في ملكي إلا ما يوافق مشيئتي ، وهذا يبطل قول المعتزلة لأنه أخبر أنه لو شاء أن يقتتلوا لم يقتتلوا وهم يقولون شاء أن لا يقتتلوا فاقتتلوا { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة : 253] أثبت الإرادة لنفسه كما هو مذهب أهل السنة.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاكُم }
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
في الجهاد في سبيل الله ، أو هو عام في كل صدقة واجبة { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ } [البقرة : 254] أي من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه { وَلا خُلَّةٌ } [البقرة : 254] حتى يسامحكم أخلاؤكم به { وَلا شَفَـاعَةٌ } [البقرة : 254] أي للكافرين ، فأما المؤمنون فلهم شفاعة أو إلا بإذنه { وَالْكَـافِرُونَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 254] أنفسهم بتركهم التقديم ليوم حاجاتهم ، أو الكافرون بهذا اليوم هم الظالمون.
لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة : مكي وبصري { اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] " لا " مع اسمه وخبره وما أبدل من موضعه في موضع الرفع خبر المبتدأ وهو الله { الْحَىُّ } الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { الْقَيُّومُ } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } [البقرة : 255] نعاس وهو ما يتقدم النوم من
197
الفتور { وَلا نَوْمٌ } [البقرة : 255] عن المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً ، وقد أوحى إلى موسى عليه السلام : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا.
{ لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } [البقرة : 255] ملكاً وملكاً { مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُا إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ليس لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وهو بيان لملكوته وكبريائه ، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام ، وفيه رد لزعم الكفار أن الأصنام تشفع لهم { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [البقرة : 255] ما كان قبلهم وما يكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } [البقرة : 255] من معلومه يقال في الدعاء " اللهم اغفر علمك فينا " أي معلومك
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
(1/133)
{ إِلا بِمَا شَآءَ } [البقرة : 255] إلا بما علم { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [البقرة : 255] أي علمه ومنه الكراسة لتظمنها العلم والكراسي العلماء ، وسمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالم وهو كقوله تعالى : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7] (غافر : 7) أو ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك أو عرشه كذا عن الحسن ، أو هو سرير دون العرش في الحديث ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بفلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة أو قدرته بدليل قوله { وَلا نَوْمٌ } [البقرة : 255] ولا يثقله ولا يشق عليه { حِفْظُهُمَا } حفظ السموات والأرض { وَهُوَ الْعَلِىُّ } [البقرة : 255] في ملكه وسلطانه { الْعَظِيمِ } في عزه وجلاله أو العلي المتعالي عن الصفات التي لا تليق به العظيم ، المتصف بالصفات التي تليق به ، فهما جامعان لكمال التوحيد.
وإنما ترتبت الجمل في آية الكرسي بلا حرف عطف لأنها وردت على سبيل البيان ؛ فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق ، والخامسة لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره.
وإنما فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد ، منه ما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم من قرأ
198
آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله .
وقال عليه السلام سيد البشر آدم ، وسيد العرب محمد ولا فخر ، وسيد الفرس سلمان ، وسيد الروم صهيب ، وسيد الحبشة بلال ، وسيد الجبال الطور ، وسيد الأيام يوم الجمعة ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي قال ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة وقال من قرأ آية الكرسي عند منامه بعث إليه ملك يحرسه حتى يصبح قال من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح ، وإن قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي : آية الكرسي وأول " حم المؤمن " إلى
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
{ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [غافر : 3] لاشتمالهما على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى ، ولا مذكور أعظم من رب العزة فما كان ذاكراً له كان أفضل من سائر الأذكار وبه يعلم أن أشرف العلوم علم التوحيد.
{ لا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ } [البقرة : 256] أي لا إجبار على الدين الحق وهو دين الإسلام.
وقيل : هو إخبار في معنى ، النهي ، وروي أنه كان لأنصاري ابنان فتنصرا فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما ، فأبيا فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي في النار وأنا أنظر؟ فنزلت فخلاهما.
قال ابن مسعود وجماعة : كان هذا في الابتداء ثم نسخ بالأمر بالقتال { قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ } [البقرة : 256] قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّـاغُوتِ } [البقرة : 256] بالشيطان أو الأصنام { وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ } [البقرة : 256] تمسك { بِالْعُرْوَةِ } أي المعتصم
199
(1/134)
والمتعلق { الْوُثْقَى } تأنيث الأوثق أي الأشد من الحبل الوثيق المحكم المأمون { لا انفِصَامَ لَهَا } [البقرة : 256] لا انقطاع للعروة ، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده ، والمعنى فقد عقد لنفسه من الدين عقداً وثيقاً لا تحله شبهة { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } [البقرة : 224] لإقراره { عَلِيمٌ } باعتقاده.
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 257] أرادوا أن يؤمنوا أي ناصرهم ومتولي أمورهم { يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ } [البقرة : 257] من ظلمات الكفر والضلالة وجمعت لاختلافها { إِلَى النُّورِ } [إبراهيم : 1] إلى الإيمان والهداية ووحد لاتحاد الإيمان { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } [النور : 39] مبتدأ والجملة وهي { أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّـاغُوتُ } [البقرة : 257] خبره { يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَـاتِ } [البقرة : 257] وجمع لأن الطاغوت في معنى الجمع يعني والذين صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك ، أو الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبهة في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين ، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات الذي يظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة { أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39].
ثم عجب نبيه عليه السلام وسلاه بمجادلة إبراهيم عليه السلام نمرود الذي كان يدعي الربوبية بقوله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 196
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِـامَ فِى رَبِّهِ } [البقرة : 258] في معارضته ربوبية ربه.
والهاء في ربه يرجع إلى إبراهيم أو إلى الذي حاج فهو ربهما { أَنْ ءَاتَـاـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } [البقرة : 258]
لأنّ آتاه الله يعني أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر فحاج لذلك ، وهو دليل على المعتزلة في الأصلح أوحاج وقت أن أتاه الله الملك { إِذْ قَالَ } [البقرة : 258] نصب بـ حاج أو بدل من أن آتاه إذا جعل بمعنى الوقت { إِبْرَاهِ مُ رَبِّيَ } [البقرة : 258] رب : حمزة
200
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى } [البقرة : 258] كأنه قال له : من ربك؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت { قَالَ } نمرود { أَلَمْ تَرَ إِلَى } [البقرة : 258] يريد أعفو عن القتل وأقتل فانقطع اللعين بهذا عند المخاصمة فزاد إبراهيم عليه السلام ما لا يتأتى فيه التلبيس على الضعفة حيث { قَالَ إِبْرَاهِ مُ } [البقرة : 126] عليه السلام { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } [البقرة : 258] وهذا ليس بانتقال من حجة إلى حجة كما زعم البعض لأن الحجة الأولى كانت لازمة ، ولكن لما عاند اللعين حجة الإحياء بتخلية واحد وقتل آخر ، كلمه من وجه لا يعاند ، وكانوا أهل تنجيم ، وحركة الكواكب من المغرب إلى المشرق معلومة لهم ، والحركة الشرقية المحسوسة لنا قسرية كتحريك الماء النمل على الرحى إلى غير جهة حركة النمل فقال : إن ربي يحرك الشمس قسراً على غير حركتها ، فإن كنت رباً فحركها بحركتها فهو أهون { فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ } [البقرة : 258] تحير ودهش { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] أي لا يوفقهم وقالوا : إنما لم يقل نمرود فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله تعالى صرفه عنه.
وقيل : إنه كان يدعي الربوبية لنفسه وما كان يعترف بالربوبية لغيره.
ومعنى قوله أنا أحيي وأميت أن الذي ينسب إليه الإحياء والإماتة أنا لا غيري ، والآية تدل على إباحة التكلم في علم الكلام والمناظرة فيه لأنه قال : ألم ترى الذي حاج إبراهيم في ربه .
والمحاجة تكون بين اثنين فدل على أن إبراهيم حاجه أيضاً ، ولو لم يكن مباحاً لما باشرها إبراهيم عليه السلام لكون الأنبياء عليهم السلام معصومين عن ارتكاب الحرام ، ولأنا أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإيمان بالله وتوحيده وإذا دعوناهم إلى ذلك لا بد أن يطلبوا منا الدليل على ذلك ، وذا لا يكون إلا بعد المنظارة كذا في شرح التأويلات.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
(1/135)
{ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ } [البقرة : 259] معناه أو أرأيت مثل الذي فحذف لدلالة لم تر عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب ، أو هو محمول على المعنى دون اللفظ تقديره : أرأيت
201
كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر.
وقال صاحب الكشف : فيه الكاف زائدة والذي عطف على قوله إلى الذي حاج عن الحسن أن المار كان كافراً بالبعث لانتظامه مع نمرود في سلك ولكلمة الاستبعاد التي هي أنى يحيي والأكثر أنه عزيز أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام وأنى يحيي اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياة واستعظام لقدرة المحيي { عَلَى قَرْيَةٍ } [الأنبياء : 95] هي بيت المقدس حين خربه بختنصر وهي التي خرج منها الألوف { وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } [البقرة : 259] ساقطة مع سقوفها أو سقطت السقوف ثم سقطت عليها الحيطان وكل مرتفع عرش { قَالَ أَنَّى يُحْىِ } [البقرة : 259] أي كيف { هَـاذِهِ } أي أهل هذه { اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِا ئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [البقرة : 259] أي أحياه { قَالَ } له ملك { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [البقرة : 259] بناء على الظن ، وفيه دليل جواز الاجتهاد روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس فقال قبل النظر إلى الشمس يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِا ئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ } [البقرة : 259] روي أن طعامه كان تيناً وعنباً وشرابه عصيراً ولبناً فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب على حاله { لَمْ يَتَسَنَّهْ } [البقرة : 259] لم يتغير والهاء أصلية أو هاء سكت واشتقاقه من السنة على الوجهين ، لأن لامها هاء لأن الأصل سنهة والفعل سانهت.
يقال سانهت فلاناً أي عاملته سنة أو واو لأن الأصل سنوة والفعل سانيت ومعناه لم تغيره السنون.
لم يتسن بحذف الهاء في الوصل وبإثباتها في الوقف : حمزة وعلي { وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } [البقرة : 259] كيف تفرقت عظامه ونخرت وكان له حمار قد ربطه فمات وتفتتت عظامه ، أو وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } [البقرة : 259] فعلنا ذلك يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه.
وقيل : الواو عطف على محذوف أي لتعتبر ولنجعلك.
قيل : أتى قومه راكباً حماراً وقال : أنا عزيز فكذبوه فقال : هاتوا التوراة فأخذ يقرؤها عن ظهر قلبه ولم يقرأ التوراة ظاهر أحد قبل عزيز فذلك كونه آية.
وقيل : رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب { وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ } [البقرة : 259] أي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم
202
{ كَيْفَ نُنشِزُهَا } [البقرة : 259] نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب.
ننشرها بالراء : حجازي وبصري نحييها ثمّ نكسوها أي العظام لحماً جعل اللحم كاللباس مجازاً فلمّا تبيّن له فاعله مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقولهم " ضربني وضربت زيداً " ويجوز فلما تبين له ما أشكل عليه يعني أمر إحياء الموتى.
قال اعلم على لفظ الأمر : حمزة وعلي أي قال الله له اعلم أو هو خاطب نفسه.
(1/136)
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِـامُ رَبِّ أَرِنِى } [البقرة : 260] بصرني { كَيْفَ تُحْىِ الْمَوْتَى } [البقرة : 260] موضع كيف نصب بـ " يحيي { قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } وإنما قال له أو لم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين.
وبلى إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت ولكن لأزيد سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال ، وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة فعلم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف الضروري.
واللام تتعلق بمحذوف تقديره ولكن سألت ذلك أراد طمأنينة القلب { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ } [البقرة : 260] طاوساً وديكاً وغراباً وحمامة { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } [البقرة : 260] وبكسر الصاد : حمزة أي أملهن واضممهن إليك { ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا } ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال التي بحضرتك وفي أرضك وكانت أربعة أجبل أو سبعة.
جزأ بضمتين وهمز : أبو بكر
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ ثُمَّ ادْعُهُنَّ } [البقرة : 260] قل لهن تعالين بإذن الله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } [البقرة : 260] مصدر في موضع الحال أي ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن على أرجلهن.
وإنما أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئآتها وحلاّها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك ، وروي أنه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال عل كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ثم أقبلن فانضممن
203
إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } [البقرة : 260] لا يمتنع عليه ما يريده { حَكِيمٌ } فيما يدبر لا يفعل إلا ما فيه الحكمة ، ولما برهن على قدرته على الإحياء حث على الإنفاق في سبيل الله ، وأعلم أن من أنفق في سبيله فله في نفقته أجر عظيم وهو قادر عليه فقال : { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 261] لا بد من حذف مضاف أي مثل نفقتهم { كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [البقرة : 261] أو مثلهم كمثل حبة { أَنابَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنابُلَةٍ مِّا ئَةُ حَبَّةٍ } [البقرة : 261] المنبت هو الله ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء.
ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منه سبع شعب لكل واحد سنبلة ، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر والممثل به موجود في الدخن والذرة وربما فرخت ساق البرة في الأرض القوية المغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ ، على أن التمثيل يصح وإن لم يوجد على سبيل الفرض ، والتقدير ووضع سنابل موضع سنبلات كوضع قروء موضع أقراء { وَاللَّهُ يُضَـاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [البقرة : 261] أي يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين ، أو يزيد على سبعمائة لمن يشاء.
يضعّف : شامي ويضعّف : مكي { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] واسع الفضل والجود { عَلِيمٌ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
بنيات المنفقين.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُوا مَنًّا } [البقرة : 262] هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأوجب عليه حقاً له وكانوا يقولون إذا صنعتم صنيعة فانسوها { وَلا أَذًى } [البقرة : 262] هو أن يتطاول عليه بسبب ما أعطاه.
ومعنى " ثم " إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى وأن تركهما خير من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله { ثُمَّ اسْتَقَـامُوا } [فصلت : 30] (فصلت : 03)
204
{ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [آل عمران : 199] أي ثواب إنفاقهم { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [البقرة : 62] من بخس الأجر { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] من فوته ، أو لا خوف من العذاب ولا حزن بفوت الثواب.
وإنما قال هنا : لهم أجرهم وفيما بعد فلهم أجرهم لأن الموصول هنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة.
(1/137)
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } [البقرة : 263] رد جميل { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول ، أو ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } [البقرة : 263] وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة { وَاللَّهُ غَنِىٌّ } [البقرة : 263] لا حاجة له إلى منفق يمن ويؤذي { حَلِيمٌ } عن معاجلته بالعقوبة وهذا وعيد له.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
ثم أكد ذلك بقوله { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَـاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاذَى كَالَّذِى } الكاف نصب صفة مصدر محذوف والتقدير إبطالاً مثل إبطال الذي { يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [البقرة : 264] أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يريد بإنفاقه رضا الله ولا ثواب الآخرة ، ورئاء مفعول له { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ } مثّله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بحجر أملس عليه تراب { فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } [البقرة : 264] مطر عظيم القطر { فَتَرَكَهُ صَلْدًا } [البقرة : 264] أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه { لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا } [البقرة : 264] لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا ، أو الكاف في محل النصب على الحال أي لا تطلبوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق.
وإنما قال لا يقدرون بعد قوله كالذي ينفق لأنه أراد بالذي ينفق الجنس أو الفرق الذي ينفق { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 264] ما داموا مختارين الكفر.
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [البقرة : 265] أي وتصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص
205
قلبه.
ومن لابتداء الغاية وهو معطوف على المفعول له أي للإبتغاء والتثبيت ، والمعنى ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند الله { كَمَثَلِ جَنَّة } [البقرة : 265] بستان { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، وخصها لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً بربوة : عاصم وشامي { أَصَابَهَا وَابِلٌ فَاَاتَتْ أُكُلَهَا } ثمرتها أكلها " : نافع ومكي وأبو عمر و { ضِعْفَيْنِ } مثلي ما كانت تثمر قبل بسبب الوابل { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
(1/138)
البقرة : 265] فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها ، أو مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة بعد أن يطلب بها رضا الله تعالى زاكية عند الله زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] يرى أعمالكم على إكثار وإقلال ويعلم نياتكم فيهما من رياء وإخلاص.
الهمزة في { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ } [البقرة : 266] للإنكار { أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } [البقرة : 266] بستان { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ لَهُ } [البقرة : 266] لصاحب البستان { فِيهَآ } في الجنة { مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 69] يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها ، أو أن النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار تغليباً لهما على غيرهما ثم أردفهما ذكر كل الثمرات.
{ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ } [البقرة : 266] الواو للحال ومعناه أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ، والواو في { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ } [البقرة : 266] أولاد صغار للحال أيضاً ، والجملة في موضع الحال من الهاء في أصابه { فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } [البقرة : 266] ريح تستدير في الأرض ثم تستطع نحو السماء كالعمود { فِيهِ } في الإعصار وارتفع { نَارٌ } بالظرف إذ جرى الظرف وصفاً لإعصار { فَاحْتَرَقَتْ } الجنة ، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة رياء فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة جامعة للثمار فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف والجنة معاشهم فهلكت بالصاعقة { كَذَالِكَ } كهذا البيان الذي بين فيما تقدم { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الايَـاتِ } [البقرة : 219] في التوحيد والدين { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة : 219] فتنتبهوا.
206
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا كَسَبْتُمْ } من جياد مكسوباتكم ، وفيه دليل وجوب الزكاة في أموال التجارة { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الارْضِ } [البقرة : 267] من الحب والثمر والمعادن وغيرها والتقدير : ومن طيبات ما أخرجنا لكم إلا أنه حذف لذكر الطيبات { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ } [البقرة : 267] ولا تقصدوا المال الرديء { مِنْهُ تُنفِقُونَ } [البقرة : 267] تخصونه بالإنفاق وهو في محل الحال أي ولا تيمموا الخبيث منفقين أي مقدرين النفقة { وَلَسْتُم بِاَاخِذِيهِ } [البقرة : 267] وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ } [البقرة : 267] إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه من قولك " أغمض فلان عن بعض حقه " إذا غض بصره ، ويقال للبائع " أغمض " أي لا تستقص كأنك لا تبصر.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا يتصدقون بحشف التمر وشراره فنهوا عنه.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ } [البقرة : 267] عن صدقاتكم { حَمِيدٌ } مستحق للحمد أو محمود.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
(1/139)
{ الشَّيْطَـانُ يَعِدُكُمُ } [البقرة : 268] في الإنفاق { الْفَقْرَ } ويقول لكم إن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا ، والوعد يستعمل في الخير والشر { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ } [البقرة : 268] ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل { وَاللَّهُ يَعِدُكُم } [البقرة : 268] في الإنفاق { مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } [البقرة : 268] لذنوبكم وكفارة لها { وَفَضْلا } وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثواباً عليه في الآخرة { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] يوسع على من يشاء { عَلِيمٌ } بأفعالكم ونياتكم.
{ يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 269] علم القرآن والسنة ، أو العلم النافع الموصل إلى رضا الله والعمل به ، والحكيم عند الله هو العالم العامل { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ } [البقرة : 269] ومن يؤت : يعقوب أي ومن يؤته الله الحكمة { فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة : 269] تنكير تعظيم أي أوتي خيراً أيّ خير كثير.
{ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ } [البقرة : 269] وما يتعظ بمواعظ الله إلا ذوو العقول السليمة أو العلماء العمال ، والمراد به الحث على
207
العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق.
{ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ } [البقرة : 270] في سبيل الله أو في سبيل الشيطان { أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ } [البقرة : 270] في طاعة الله أو في معصيته { فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ } [البقرة : 270] لا يخفى عليه وهو مجازيكم عليه { وَمَا لِلظَّـالِمِينَ } [البقرة : 270] الذين يمنعون الصدقات أو ينفقون أموالهم في المعاصي أو ينذرون في المعاصي أو لا يفون بالنذور { مِنْ أَنصَارٍ } [البقرة : 270] ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه.
{ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَـاتِ فَنِعِمَّا هِىَ } [البقرة : 271] فنعم شيئاً إبداؤها و " ما " نكرة غير موصولة ولا موصوفة ، والمخصوص بالمدح هي .
فنعما هي بكسر النون وإسكان العين : أبوعمرو ومدني غير ورش.
وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي.
وبكسر النون والعين : غيرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
{ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ } [البقرة : 271] وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [الانفال : 19] فالإخفاء خير لكم.
قالوا : المراد صدقات التطوع والجهر في الفرائض أفضل لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل ، والمتطوع إن أراد أن يقتدي به كان إظهاره أفضل.
{ وَيُكَفِّرُ } بالنون وجزم الراء : مدني وحمزة وعلي.
بالياء ورفع الراء : شامي وحفص.
وبالنون والرفع : غيرهم.
فمن جزم فقد عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط ، ومن رفع فعلى الاستئناف والياء على معنى يكفر الله.
{ عَنكُم مِّن سَيِّاَاتِكُمْ } [البقرة : 271] والنون على معنى نحن نكفر { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 265] من الإبداء والإخفاء { خَبِيرٌ } عالم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 200
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاـاهُمْ } [البقرة : 272] لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ } [البقرة : 272] أو ليس عليك التوفيق على الهدى أو خلق الهدى وإنما ذلك إلى الله { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } [البقرة : 273] من مال
208
{ فَلانفُسِكُمْ } فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وَمَا تُنفِقُونَ إِلا ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ } [البقرة : 272] وليست نفقتكم إلا ابتغاء وجه الله أي رضا الله ولطلب ما عنده فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله ، أو هذا نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [البقرة : 272] ثوابه أضعافاً مضاعفة فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها { وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ } [البقرة : 272] ولا تنقصون كقوله : { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شيئا } [الكهف : 33] (الكهف : 33).
أي لم تنقص.
(1/140)
الجار في { لِلْفُقَرَآءِ } متعلق بمحذوف أي اعمدوا للفقراء ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذه الصدقات للفقراء { الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [البقرة : 273] هم الذين أحصرهم الجهاد فمنعهم من التصرف { لا يَسْتَطِيعُونَ } [النساء : 98] لاشتغالهم به { ضَرْبًا فِى الارْضِ } [البقرة : 273] للكسب.
وقيل : هم أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر ، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
{ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ } [البقرة : 273] بحالهم.
يحسبهم وبابه : شامي ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة.
والباقون بكسر السين.
{ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } [البقرة : 273] مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة { تَعْرِفُهُم بِسِيمَـاهُمْ } [البقرة : 273] من صفرة الوجوه ورثاثة الحال { لا يَسْـاَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } [البقرة : 273] إلحاحاً.
قيل : هو نفي السؤال
209
والإلحاح جميعاً كقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
على لاحب لا يهتدي بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء به.
والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه وفي الحديث إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذي السآل الملحف وقيل : معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا { وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة : 273] لا يضيع عنده.
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً } [البقرة : 274] هما حالان أي مسرين ومعلنين يعني يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير ، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه ولم يتعللوا بوقت ولا حال.
وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار : عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية.
أو في علي رضي الله عنه لم يملك إلا أربعة دراهم ، تصدق بدرهم ليلاً ، وبدرهم نهاراً ، وبدرهم سراً ، وبدرهم علانية.
{ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 62] { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا } [البقرة : 275] هو فضل مال خال عن العوض في معاوضة مال بمال.
وكتب الربوا بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلوة والزكوة ، وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع.
{ لا يَقُومُونَ } [البقرة : 275] إذا بعثوا من قبورهم { إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ } [البقرة : 275] أي المصروع لأنه تخبط في المعاملة فجوزى على المقابلة.
والخبط : الضرب على غير استواء كخبط العشواء { مِنَ الْمَسِّ } [البقرة : 275] من الجنون وهو يتعلق بـ لا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ، أو
210
بـ " يقوم " أي كما يقوم المصروع من جنونه ، والمعنى أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف.
وقيل : الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين ، لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض { ذَالِكَ } العقاب { بِأَنَّهُمْ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
بسبب أنهم { قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوا } [البقرة : 275] ولم يقل " إنما الربا مثل البيع " مع أن الكلام في الربا لا في البيع ، لأنه جيء به على طريقة المبالغة وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع.
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا } [البقرة : 275] إنكار لتسويتهم بينهما إذ الحل مع الحرمة ضدان فأنى يتماثلان و دلالة على أن القياس يهدمه النص لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [البقرة : 275] فمن بلغه وعظ من الله وزجر بالنهي عن الربا
211
(1/141)
{ فَانتَهَى } فتبع النهي وامتنع { فَلَهُ مَا سَلَفَ } [البقرة : 275] فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم { وَأَمْرُهُا إِلَى اللَّهِ } [البقرة : 275] يحكم في شأنه يوم القيامة وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به { وَمَنْ عَادَ } [البقرة : 275] إلى استحلال الرباعن الزجاج أو إلى الربا مستحلاً { فَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } لأنهم بالاستحلال صاروا كافرين لأن من أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر فلذا استحق الخلود ، وبهذا تبين أنه لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق.
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الِرّبَوا } [البقرة : 276] يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه { وَيُرْبِى الصَّدَقَـاتِ } [البقرة : 276] ينميها ويزيدها أي يزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه ، وفي الحديث ما نقصت زكاة من مال قط .
{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ } [البقرة : 276] عظيم الكفر باستحلال الربا { أَثِيمٍ } متمادٍ في الإثم بأكله.
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ وَءَاتَوُا الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 277] قيل : المراد به الذين آمنوا بتحريم الربا
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواا } أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها.
روي أنها نزلت في ثقيف.
وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا { مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] كاملي الإيمان فإن دليل كماله امتثال المأمور به.
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة : 279] فاعلموا بها من أذن بالشيء إذا علم ، يؤيده قراءة الحسن فأيقنوا.
فآذنوا " : حمزة وأبو بكر غير ابن غالب.
فأعلموا بها غيركم ولم يقل بحرب الله ورسوله لأن هذا أبلغ ، لأن المعنى فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله.
وروي أنها لما نزلت قالت ثقيف : لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله { وَإِن تُبْتُمْ } [البقرة : 279] من الارتباء { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ } [البقرة : 279] المديونين بطلب الزيادة عليها { وَلا تُظْلَمُونَ } [البقرة : 279] بالنقصان منها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [البقرة : 280] وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة ذو إعسار { فَنَظِرَةٌ } فالحكم أوفا لأمر نظرة أي إنظار { إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة : 280] يسار.
ميسرة " : نافع وهما لغتان { وَأَن تَصَدَّقُوا } [البقرة : 280] بالتخفيف : عاصم ، أي تتصدقوا برؤوس أموالكم أو ببعضها على من أعسر من غرمائكم.
وبالتشديد : غيره.
فالتخفيف على حذف إحدى التاءين ، والتشديد على الإدغام { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] في القيامة ، وقيل : أريد بالتصديق الإنظار لقوله عليه السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] أنه خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه.
{ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } [البقرة : 281] ترجعون : أبو عمرو فرجع لازم ومتعدٍ.
قيل : هي آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال : ضعها في رأس المائتين
212
(1/142)
والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدها أحداً وعشرين يوماً أو أحداً وثمانين أو سبعة أيام أو ثلاث ساعات { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [البقرة : 281] أي جزاء ما كسبت { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] بنقصان الحسنات وزيادة السيآت.
{ يُظْلَمُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أي إذا داين بعضكم بعضاً.
يقال داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] مدة معلومة كالحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج ، وإنما احتيج إلى ذكر الدين ولم يقل إذا تداينتم إلى أجل مسمى ليرجع الضمير إليه في قوله { فَاكْتُبُوهُ } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن ، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال.
وإنما أمر بكتابة الدين لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان وأبعد من الجحود ، والمعنى إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه والأمر للندب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به السلم وقال : لما حرم الله الربا أباح السلف.
وعنه : أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم في كتابه وأنزل فيه أطول آية ، وفيه دليل على اشتراط الأجل في السلم
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ } [البقرة : 282] بين المتداينين { كَاتِبُ بِالْعَدْلِ } [البقرة : 282] هو متعلق بـ كاتب صفة له أي كاتب مأمون على ما يكتب يكتب بالاحتياط لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص ، وفيه دليل على أن يكون
213
الكاتب فقيهاً عالماً بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع ، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً ديناً حتى يكتب ما هو متفق عليه { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ } [البقرة : 282] ولا يمتنع واحد من الكتاب { أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } [البقرة : 282] مثل ما علمه الله كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير وكما متعلق بأن يكتب { فَلْيَكْتُبْ } تلك الكتابة لا يعدل عنها { وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ } [البقرة : 282] ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به فيكون ذلك إقراراً على نفسه بلسانه.
والإملال والإملاء لغتان { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة : 283] وليتق الله الذي عليه الدين ربه فلا يمتنع عن الإملاء فيكون جحوداً لكل حقه { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شيئا } [البقرة : 282] ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئاً في الإملاء فيكون جحوداً لبعض حقه { فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا } [البقرة : 282] أي مجنوناً لأن السفه خفة في العقل أو محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف { أَوْ ضَعِيفًا } [البقرة : 282] صبياً { أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } [البقرة : 282] لعي به أو خرس أو جهل باللغة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ } [البقرة : 282] الذي يلي أمره ويقوم به { بِالْعَدْلِ } بالصدق والحق { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ } [البقرة : 282] واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين { مِّن رِّجَالِكُمْ } [البقرة : 282] من رجال المؤمنين.
والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام وشهادة الكفار بعضهم على بعض مقبولة عندنا
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
(1/143)
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا } [البقرة : 282] فإن لم يكن الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } [البقرة : 282] فليشهد رجل وامرأتان وشهادة الرجال مع النساء تقبل فيما عدا الحدود والقصاص { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ } [البقرة : 282] ممن تعرفون عدالتهم ، وفيه دليل على أن غير المرضي شاهد { أَن تَضِلَّ إِحْدَاـاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاـاهُمَا الاخْرَى } [البقرة : 282] لأجل أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكرها الأخرى إن تضل إحداهما على الشرط فتذكر بالرفع والتشديد : حمزة كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [المائدة : 95] (المائدة : 59).
فتذكر بالنصب : مكي وبصري من الذّكر لا من الذّكر { وَلا يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُوا } [البقرة : 282] لأداء الشهادة أو للتحمل لئلا تتوى حقوقهم ، وسماهم شهداء قبل التحمل تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن ، فالأوّل للفرض والثاني للندب { وَلا تَسْـاَمُوا } [البقرة : 282] ولا تملوا قال الشاعر :
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولاً لا أبالك يسأم
والضمير في { أَن تَكْتُبُوهُ } [البقرة : 282] للدين أو الحق { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } [البقرة : 282] على أي حال كان الحق من صغر أو كبر ، وفيه دلالة جواز السلم في الثياب لأن ما يكال أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير وإنما يقال في الذرعي ، ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن
214
تكتبوه مختصراً أو مشبعاً أو { إِلَى أَجَلِهِ } [البقرة : 282] إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذالِكُمْ } إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب { أَقْسَطُ } أعدل من القسط وهو العدل { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] ظرف لأقسط { وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ } [البقرة : 282] وأعون على إقامة الشهادة وبني أفعلا التفضيل أي " أقسط " و " أقوم " من أقسط وأقام مذهب سيبويه { وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا } [البقرة : 282] وأقرب من انتفاء الريب للشاهد والحاكم وصاحب الحق فإنه قد يقع الشك في المقدار والصفات وإذا رجعوا إلى المكتوب زال ذلك ، وألف أدنى منقلبة من واو لأنه من الدنو { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرَةً } [البقرة : 282] عاصم أي إلا أن تكون التجارة تجارة أو إلا أن تكون المعاملة تجارة حاضرة غيره تجارة حاضرة على " كان " التامة أي إلا أن تقع تجارة حاضرة ، أو هي ناقصة والاسم تجارة حاضرة والخبر { تُدِيرُونَهَا } وقوله { بَيْنَكُمْ } ظرف لـ تديرونها ومعنى إدارتها بينهم تعاطيها يداً بيد { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا } [البقرة : 282] يعني إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوها لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين { وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة : 282] أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ناجزاً أو كالئاً لأنه أحوط وأبعد من وقوع الاختلاف ، أو أريد به وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كافٍ فيه دون الكتابة والأمر للندب { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } [البقرة : 282] يحتمل البناء للفاعل لقراءة عمر رضي الله عنه ولا يضارر وللمفعول لقراءة ابن عباس رضي الله عنهما ولا يضارر والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما ، وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويلزّا ، أولاً يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد { وَإِن تَفْعَلُوا } [البقرة : 282] وإن تضاروا { فَإِنَّهُ } فإن الضرار { فُسُوقُ بِكُمْ } [البقرة : 282] مأثم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في مخالفة أوامره { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة : 282] شرائع دينه { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة : 282] لا يلحقه سهو ولا قصور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 208
{ وَإِن كُنتُمْ } [المائدة : 6] أيها المتداينون { عَلَى سَفَرٍ } [النساء : 43] مسافرين { وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَـانٌ } [البقرة : 283] فرهان : مكي وأبو عمرو أي فالذي يستوثق به رهن وكلاهما جمع رهن
215
(1/144)
كسقف وسقف وبغل وبغال ، ورهن في الأصل مصدر سمي به ثم كسر تكسير الأسماء.
ولما كان السفر مظنة لأعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد لا أن السفر شرط تجويز الارتهان.
وقوله { مَّقْبُوضَةٌ } يدل على اشتراط القبض لا كما زعم مالك أن الرهن يصح بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } [البقرة : 283] فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه به فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن { فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَـانَتَهُ } [البقرة : 283] دينه.
وائتمن افتعل من الأمن وهو حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه.
وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } [البقرة : 283] في إنكار حقه { وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَـادَةَ } [البقرة : 283] هذا خطاب للشهود { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُا ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283] ارتفع قلبه بـ " آثم " على الفاعلية كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه ، أو بالابتداء وآثم خبره مقدم والجملة خبر " إن " .
وإنما أسند إلى القلب وحده والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ، لأن كتمان الشهادة أن يضمرها في القلب ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً مكتسباً بالقلب أسند إليه لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ كما تقول " هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي " ، ولأن القلب رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه وملك أشرف مكان منه ، ولأن أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح ، ألا ترى أن أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر وهما من أفعال القلوب ، وإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 265] من كتمان الشهادة وإظهارها { عَلِيمٌ } لا يخفى عليه شيء.
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَـاَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } خلقاً وملكاً { وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } [البقرة : 284] يعني من السوء { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ } [البقرة : 284] يكافئكم ويجازيكم ولا
216
(1/145)
تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان ، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة ، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور.
فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل : لا لقوله عليه السلام : إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني رحمهما الله ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـاحِشَةُ } [النور : 19] (النور : 91).
الآية.
وعن عائشة رضي الله عنها : ما هم العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا.
وفي أكثر التفاسير أنه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا : أنؤاخذ بكل ما حدثت به أنفسنا فنزل قوله آمن الرسول إلى قوله لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فتعلق ذلك بالكسب دون العزم.
وفي بعضها أنها نسخت بهذه الآية ، والمحققون على أن النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 284] برفعهما : شامي وعاصم أي فهو يغفر ويعذب ، ويجزمهما : غيرهم عطفاً على جواب الشرط ، وبالإدغام : أبو عمرو ، وكذا في الإشارة والبشارة.
وقال صاحب الكشاف : مدغم الراء في اللام لاحن مخطىء ، لأن الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ، ولا يجوز إدغام المضاعف ، ورواية عن أبي عمر مخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [المجادلة : 6] من المغفرة والتعذيب وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر.
217
{ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ } [البقرة : 285] إن عطف المؤمنون على الرسول كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في { كُلٌّ } راجعاً إلى الرسول والمؤمنون } أي كلهم { ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [البقرة : 285] ووقف عليه ، وإن كان مبتدأ كان عليه كل مبتدأ ثانياً والتقدير كل منهم وآمن خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول ، وكان الضمير للمؤمنين ووحد ضمير كل في آمن على معنى كل واحد منهم آمن.
وكتابه : حمزة وعلي يعني القرآن أو الجنس { لا نُفَرِّقُ } [البقرة : 285] أي يقولون لا نفرق بل نؤمن بالكل { بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة : 285] أحد في معنى الجمع ولذا دخل عليه بين وهو لا يدخل إلا على اسم يدل على أكثر من واحد.
تقول المال بين القوم ولا تقول المال بين زيد.
{ وَقَالُوا سَمِعْنَا } [البقرة : 285] أجبنا قولك { وَأَطَعْنَا } أمرك { غُفْرَانَكَ } أي اغفر لنا غفرانك فهو منصوب بفعل مضمر { رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285] المرجع ، وفيه إقرار بالبعث والجزاء.
والآية تدل على بطلان الاستثناء في الإيمان وعلى بقاء الإيمان لمرتكب الكبائر.
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا } [البقرة : 286] محكي عنهم أو مستأنف { إِلا وُسْعَهَا } [الأعراف : 42] إلا طاقتها وقدرتها لأن التكليف لا يرد إلا بفعل يقدر عليه المكلف ، كذا في شرح التأويلات.
وقال صاحب الكشاف : الوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى غاية الطاقة والمجهود ، فقد كان في طاقة الإنسان أن يصلي أكثر من الخمس ويصوم أكثر من الشهر ويحج أكثر من حجة { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [البقرة : 286] ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، وخص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الافتعال للانكماش
218
(1/146)
والنفس تنكمش في الشر وتتكلف للخير { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ } [البقرة : 286] تركنا أمراً من أوامرك سهواً { أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة : 286] ودل هذا على جواز المؤاخذة في النسيان والخطأ خلافاً للمعتزلة لإمكان التحرز عنهما في الجملة ولولا جواز المؤاخذة بهما لم يكن للسؤال معنى { رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا } [البقرة : 286] عبأ يأصر حامله أي يحبسه مكانه لثقله استعير للتكليف الشاق من نحو قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك { كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة : 286] كاليهود { رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة : 286] من العقوبات النازلة بمن قبلنا { وَاعْفُ عَنَّا } [البقرة : 286] امح سيئاتنا { وَاغْفِرْ لَنَا } [التحريم : 8] واستر ذنوبنا وليس بتكرار فالأول للكبائر والثاني للصغائر { وَارْحَمْنَآ } بتثقيل ميزاننا مع إفلاسنا ، والأول من المسخ والثاني من من الخسف والثالث من الغرق { أَنتَ مَوْلَـانَا } [البقرة : 286] سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا أو متولي أمورنا { فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 286] فمن حق المولى أن ينصر عبيده في الحديث من قرأ آمن الرسول إلى آخره في ليلة كفتاه وفيه من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل ويجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة لما روي عن علي رضي الله عنه : خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش.
وقال بعضهم : يكره ذلك بل يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة والله أعلم.
219
سورة آل عمران
نزلت بالمدينة وهي مائتا آية
{ الم } حركت الميم لالتقاء الساكنين أعني سكونها وسكون لام الله وفتحت لخفة الفتحة ، ولم تكسر للياء وكسر الميم قبلها تحامياً عن توالي الكسرات ، وليس فتح الميم لسكونها وسكون ياء قبلها إذ لو كان كذلك لوجب فتحها في حم .
ولا يصح أن يقال : إن فتح الميم هو فتحة همزة الله نقلت إلى الميم لأن تلك الهمزة همزة وصل تسقط في الدرج وتسقط معها حركتها ، ولو جاز نقل حركتها لجاز إثباتها وإثباتها غير جائز.
وأسكن يزيد والأعشى الميم وقطعا الألف ، والباقون بوصل الألف وفتح الميم والله مبتدأ
جزء : 1 رقم الصفحة : 220
{ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] خبره وخبر " لا " مضمر والتقدير : لا إله في الوجود إلا هو ، وهو في موضع الرفع بدل من موضع " لا " ، واسمه { الْحَىُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران : 2] خبر مبتدأ محذوف أي هو الحي ، أو بدل من هو والقيوم فيعول من قام وهو القائم بالقسط والقائم على كل نفس بما كسبت { نَزَّلَ } أي هو نزل { عَلَيْكَ الْكِتَـابَ } [النحل : 64] القرآن { بِالْحَقِّ } حال أي نزله حقاً ثابتاً { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر : 31] لما قبله { وَأَنزَلَ التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلَ } [آل عمران : 3] هما اسمان أعجميان وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ، ووزنهماع بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما
220(1/147)
عربيين.
وإنما قيل نزل الكتاب وأنزل التوراة والإنجيل لأن القرآن نزل منجماً ونزل الكتابان جملة { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل القرآن { هُدًى لِّلنَّاسِ } [آل عمران : 4] لقوم موسى وعيسى أو لجميع الناس { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } [آل عمران : 4] أي جنس الكتب لأن الكل يفرق بين الحق والباطل ، أو الزبور ، أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له تفخيماً لشأنه { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاَايَـاتِ اللَّهِ } [آل عمران : 4] من كتبه المنزلة وغيرها { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [آل عمران : 4] ذو عقوبة شديدة لا يقدر على مثلها منتقم { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْءٌ فِي الارْضِ وَلا فِى السَّمَآءِ } [آل عمران : 5] أي في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن وهو مجازيهم عليه { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الارْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ } [آل عمران : 6] من الصور المختلفة { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ } [آل عمران : 6] في سلطانه { الْحَكِيمُ } في تدبيره.
روي أنه لما قدم وفد بني نجران وهم ستون راكباً.
أميرهم العاقب وعمدتهم السيد وأسقفهم وحبرهم أبو حارثة خاصموا في أن عيسى إن لم يكن ولداً الله فمن أبوه؟ فقال عليه السلام : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا : بلى.
قال : ألم تعلموا أن الله تعالى حي لا يموت وعيسى يموت ، وأن ربنا قيم على العباد يحفظهم ويرزقهم وعيسى لا يقدر على ذلك ، وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وعيسى لا يعلم إلا ما علم ، وإنه صور عيسى في الرحم كيف شاء فحملته أمه ووضعته وأرضعته ، وكان يأكل ويحدث وربنا منزه عن ذلك كله؟ فانقطعوا فنزل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
221
جزء : 1 رقم الصفحة : 220
{ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 7] القرآن { مِنْهُ } من الكتاب { ءَايَـاتٌ مُّحْكَمَـاتٌ } [آل عمران : 7] أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه { هُنَّ أُمُّ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 7] أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وترد إليها { وَأَخَّرَ } وآيات أخر { مُتَشَـابِهَـاتٌ } مشتبهات محتملات.
مثال ذلك { الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه : 5] (طه : 5) فالاستواء يكون بمعنى الجلوس وبمعنى القدرة والاستيلاء ، ولا يجوز الأول على الله تعالى بدليل المحكم وهو قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } [الشورى : 11] (الشورى : 11) أو المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله نحو قوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [الأنعام : 151] (الأنعام : 151) الآيات ، { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } [الإسراء : 23] (الأسراء : 32).
الآيات.
والمتشابه ما وراءه أو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، وما احتمل أوجهاً ، أو ما يعلم تأويله وما لا يعلم تأويله ، أو الناسخ الذي يعمل به والمنسوخ الذي لا يعمل به.
وإنما لم يكن كل القرآن محكماً لما في المتشابه من الابتلاء به والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم والقرائح في استخراج معانيه ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله تعالى.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } [آل عمران : 7] ميل عن الحق وهم أهل البدع { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـابَهَ } [آل عمران : 7] فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق { مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ } [آل عمران : 7] طلب أن يفتتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم { وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ } [آل عمران : 7] وطلب أن يؤولوه التأويل الذي يشتهونه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُا إِلا اللَّهُ } [آل عمران : 7] أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله
جزء : 1 رقم الصفحة : 220
(1/148)
{ وَالراَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } [آل عمران : 7] والذين رسخوا أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع مستأنف عند الجمهور ، والوقف عندهم في قوله إلا الله وفسروا المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وهو مبتدأ عندهم والخبر يقولون آمنّا به وهو ثناء منه تعالى عليهم بالإيمان على التسليم واعتقاد الحقية بلا تكييف ، وفائدة إنزال المتشابه الإيمان به ، واعتقاد حقية ما أراد الله به ، ومعرفة قصور أفهام البشر عن الوقوف
222
على ما لم يجعل لهم إليه سبيلاً ، ويعضده قراءة أبي ويقول الراسخون وعبد الله إن تأويله إلا عند الله .
ومنهم من لا يقف عليه ويقول بأن الراسخين في العلم يعلمون المتشابه ويقولون كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به أي بالمتشابه أو بالكتاب { كُلٌّ } من متشابهه ومحكمه { مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [آل عمران : 7] من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه { وَمَا يَذَّكَّرُ } [البقرة : 269] وما يتعظ وأصله يتذكر { إِلَّا أُوْلُوا الالْبَـابِ } [البقرة : 269] أصحاب العقول ، وهو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
وقيل : يقولون حال من الراسخين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 220
{ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا } [آل عمران : 8] لا تملها عن الحق بخلق الميل في القلوب { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران : 8] للعمل بالمحكم والتسليم للمتشابه { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } [آل عمران : 8] من عندك نعمة بالتوفيق والتثبيت { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران : 8] كثير الهبة ، والآية من مقول الراسخين ويحتمل الاستئناف أي قولوها وكذلك التي بعدها وهي { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } [آل عمران : 9] أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] لا شك في وقوعه
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
{ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران : 9] الموعد.
والمعنى أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك " إن الجواد لا يخيب سائله " أي لا يخلف ما وعد المسلمين والكافرين من الثواب والعقاب.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] برسول الله { لَن تُغْنِىَ } [آل عمران : 10] تنفع أو تدفع { عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 10] من عذابه { شيئا } من الأشياء { وَأُوالَـائكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } [آل عمران : 10] حطبها { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [آل عمران : 11] الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله.
والكاف مرفوع المحل تقديره دأب هؤلاء الكفرة في تكذيب الحق كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم ،
223
أو منصوب المحل بـ " لن تغني أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك.
كداب بلا همز حيث كان : أبو عمرو.
{ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ } [الأنبياء : 77] تفسير لدأبهم مما فعلوا ، أو فعل بهم على أنه جواب سؤال مقدر عن حالهم ، ويجوز أن يكون حالاً أي قد كذبوا { فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } [الانفال : 52] بسبب ذنوبهم يقال أخذته بكذا أي جازيته عليه { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [آل عمران : 11] شديد عقابه فالإضافة غير محضة { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [الانفال : 38] هم مشركو مكة { سَتُغْلَبُونَ } يوم بدر { وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ } [آل عمران : 12] من الجهنام وهي بئر عميقة.
وبالياء فيهما : حمزة وعلي { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 12] المستقر جهنم.
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ } [آل عمران : 13] الخطاب لمشركي قريش { فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } [آل عمران : 13] يوم بدر { فِئَةٌ تُقَـاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [آل عمران : 13] وهم المؤمنون { وَأُخْرَى } وفئة أخرى
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
(1/149)
{ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ } [آل عمران : 13] يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين ألفين ، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم.
ترونهم نافع أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم.
ولا يناقض هذا ما قال في سورة الأنفال { وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [الانفال : 44] (الأنفال : 44) لأنهم قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما اجتمعوا كثروا في أعينهم حتى غلبوا فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال { فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِهِ إِنسٌ وَلا جَآنٌّ } [الرحمن : 39] (الرحمن : 93).
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم } (الصافات : 42).
وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية.
ومثليهم نصب على الحال لأنه من رؤية العين بدليل قوله { مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ } [آل عمران : 13] يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها { وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 13] كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في أعين العدو { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] في تكثير القليل { لَعِبْرَةً } لعظة { لاوْلِى الابْصَـارِ } [آل عمران : 13] لذوي البصائر.
224
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 14] المزين هو الله عند الجمهور للابتلاء كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [الكهف : 7] (الكهف : 7).
دليله قراءة مجاهد زين للناس على تسمية الفاعل.
وعن الحسن : الشيطان { حُبُّ الشَّهَوَاتِ } [آل عمران : 14] الشهوة توقان النفس إلى الشيء ، جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة ، أو كأنه أراد تخسيسها بتسميتها شهوات إذ الشهوة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية { مِّنَ النِّسَآءِ } [النساء : 22] والإماء داخلة فيها { وَالْبَنِينَ } جمع ابن وقد يقع في غير هذا الموضع على الذكور والإناث ، وهنا أريد به الذكور فهم المشتهون في الطباع والمعدون للدفاع { وَالْقَنَـاطِيرِ } جمع قنطار وهو المال الكثير.
قيل : ملء مسك ثور أو مائة ألف دينار ، ولقد جاء الإسلام وبمكة مائة رجل قد قنطروا { الْمُقَنطَرَةِ } المنضدة أو المدفونة { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } [آل عمران : 14] سمي ذهباً لسرعة ذهابه بالإنفاق ، وفضة لأنها تتفرق بالإنفاق والفض التفريق { وَالْخَيْلِ } سميت به لاختيالها في مشيها { الْمُسَوَّمَةِ } المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها { وَالانْعَـامُ } هي الأزواج الثمانية { وَالْحَرْثِ } الزرع { ذَالِكَ } المذكور { مَّتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [يونس : 23] يتمتع به في الدنيا { وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ } المرجع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
ثم زهدهم في الدنيا فقال { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَالِكُمْ } [آل عمران : 15] من الذي تقدم { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـاتٌ } [آل عمران : 15] كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلك ، فـ جنات مبتدأ للذين اتقوا خبره { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } [الرعد : 35] صفة لـ " جنات ، ويجوز أن يتعلق اللام بـ " خير " واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به.
ويرتفع جنات على هو جنات وتنصره قراءة من قرأ جناتٍ بالجر على البدل من خير
225
(1/150)
{ خَـالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 15] أي رضا الله { وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 15] عالم بأعمالهم فيجازيهم عليها أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم فلذا أعدلهم الجنات.
{ الَّذِينَ يَقُولُونَ } [النساء : 75] نصب على المدح أو رفع أو جر صفة للمتقين أو للعباد { رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا } [آل عمران : 16] إجابة لدعوتك { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [آل عمران : 16] إنجازاً لوعدك { وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة : 201] بفضلك { الصَّـابِرِينَ } على الطاعات والمصائب وهو نصب على المدح { وَالصَّـادِقِينَ } قولاً بإخبار الحق ، وفعلاً بإحكام العمل ، ونية بإمضاء العزم { وَالْقَـانِتِينَ } الداعين أو المطيعين { وَالْمُنَـافِقِينَ } المتصدقين { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاسْحَارِ } [آل عمران : 17] المصلين أو طالبين المغفرة ، وخص الأسحار لأنه وقت إجابة الدعاء ، ولأنه وقت الخلوة.
قال لقمان لابنه : يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم.
والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها ، وللإشعار بأن كل صفة مستقلة بالمدح.
{ شَهِدَ اللَّهُ } [آل عمران : 18] أي حكم أو قال { أَنَّهُ } أي بأنه { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَـائكَةُ } [آل عمران : 18] بما عاينوا من عظيم قدرته
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
{ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ } [آل عمران : 18] أي الأنبياء والعلماء { قَآ ـاِمَا بِالْقِسْطِ } [آل عمران : 18] مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ويثيب ويعاقب ، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم.
وانتصابه على أنه حال مؤكدة من اسم الله تعالى أو من هو ، وإنما جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت " جاء زيد وعمرو راكباً " لم يجز لعدم الإلباس فإنك لو قلت " جاءني زيد وهند راكبا " جاز لتميزه بالذكورة أو على المدح.
وكرر { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] للتأكيد { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [البقرة : 129] رفع على الاستئناف أي هو العزيز وليس بوصف لـ هو لأن الضمير لا يوصف يعني أنه العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي لا يعدل عن الحق
226
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسْلَـامُ } [آل عمران : 19] جملة مستأنفة.
وقرىء أن الدين على البدل من قوله أنه لا إله إلا هو أي شهد الله أن الدين عند الله الإسلام.
قال عليه السلام من قرأ الآية عند منامه خلق الله تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ، ومن قال بعدها : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة يقول الله تعالى يوم القيامة : إن لعبدي عندي عهداً وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة " .
{ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [آل عمران : 19] أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد فثلثت النصارى وقالت اليهود عزيز بن الله { إِلا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } [آل عمران : 19] أنه الحق الذي لا محيد عنه { بَغْيَا بَيْنَهُمْ } [الجاثية : 17] أي ما كان ذلك الاختلاف إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا واستتباع كل فريق ناساً لا شبهة في الإسلام.
وقيل : هو اختلافهم في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حيث آمن به بعض وكفر به بعض.
وقيل : هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله { وَمَن يَكْفُرْ بِاَايَـاتِ اللَّهِ } [آل عمران : 19] بحججه ودلائله
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
(1/151)
{ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 19] سريع المجازاة { فَإِنْ حَآجُّوكَ } [آل عمران : 20] فإن جادلوك في أن دين الله الإسلام والمراد بهم وفد بني نجران عند الجمهور { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ لِلَّهِ } [آل عمران : 20] أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعو إلهاً معه ، يعني أن ديني دين التوحيد وهو الدين القويم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ونحوه : { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } .
فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من
227
المؤمنين هو اليقين الذي لا شك فيه فما معنى المحاجة فيه { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } [آل عمران : 20] عطف على التاء في أسلمت أي أسلمت أنا ومن أتبعني وحسن للفاصل ، ويجوز أن يكون الواو بمعنى " مع " فيكون مفعولاً معه.
ومن اتبعني في الحالين : سهل ويعقوب وافق أبو عمرو في الوصل.
وجهي : مدني وشامي وحفص والأعشى والبرجمي.
{ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [آل عمران : 20] من اليهود والنصارى { وَالامِّيِّانَ } والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب { ءَأَسْلَمْتُمْ } بهمزتين : كوفي ، يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يقتضي حصول الإسلام فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وقيل : لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الأمر أي أسلموا كقوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [المائدة : 91] (المائدة : 19) أي انتهوا { فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا } [آل عمران : 20] فقد أصابوا الرشد حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى { وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَـاغُ } [آل عمران : 20] أي لم يضروك فإنك رسول منبه ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى { وَاللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 15] فيجازيهم على إسلامهم وكفرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 223
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّانَ } [آل عمران : 21] هم أهل الكتاب رضوان بقتل آبائهم الأنبياء { بِغَيْرِ حَقٍّ } [الحج : 40] حال مؤكدة لأن قتل النبي لا يكون حقاً { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ } [آل عمران : 21] ويقاتلون : حمزة { بِالْقِسْطِ } بالعدل { مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67] أي سوى الأنبياء.
قال عليه السلام قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار من ذلك اليوم { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران : 21] دخلت الفاء في خبر " إن " لتضمن اسمها معنى الجزاء كأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بعذاب أليم بمعنى من يكفر فبشرهم ، وهذا لأن " إن " لا تغير معنى الابتداء فهي للتحقيق فكأن دخولها كلا دخول ولو كان مكانها " ليت " أو " لعل " لامتنع دخول الفاء
228
(1/152)
{ أؤلئك الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ } [آل عمران : 22] أي ضاعت { فِى الدُّنُيَا وَالاخِرَةِ } [يوسف : 101] فلهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة { وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ } [آل عمران : 22] جمع لوقف رؤوس الآي وإلا فالواحد النكرة في النفي يعم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 23] يريد أحبار اليهود وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة.
ومن للتبعيض أو للبيان { يَدَّعُونَ } حال من الذين { إِلَى كِتَـابِ اللَّهِ } [آل عمران : 23] أي التوراة أو القرآن { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } [النور : 48] جعل حاكماً حيث كان سبباً للحكم أو ليحكم النبي.
روي أنه عليه السلام دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال النبي عليه السلام : على ملة إبراهيم.
قالا : إن إبراهيم كان يهودياً.
قال لهما : إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا { ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم } [النور : 47] استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب { وَهُم مُّعْرِضُونَ } [آل عمران : 23] وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم { ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } [آل عمران : 24] أي ذلك التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل وهي أربعون يوماً أو سبعة أيام وذلك مبتدأ وبأنهم خبره { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [آل عمران : 24] أي غرهم افتراؤهم على الله وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبنا بذنوبنا إلا مدة يسيرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـاهُمْ لِيَوْمٍ } [آل عمران : 25] فكيف يكون حالهم في ذلك الوقت
229
{ لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] لا شك فيه { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [آل عمران : 25] جزاء ما كسبت { وَهُمْ } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس { لا يُظْلَمُونَ } [البقرة : 281] بزيادة في سيئاتهم ونقصان في حسناتهم.
{ قُلِ اللَّهُمَّ } [الزمر : 46] الميم عوض من " يا " ولذا لا يجتمعان ، وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم وبدخول حرف النداء عليه ، وفيه لام التعريف وبقطع همزته في " يا الله " وبالتفخيم { مَـالِكَ الْمُلْكِ } [آل عمران : 26] تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون وهو نداء ثانٍ أي يا مالك الملك { تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ } [آل عمران : 26] تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له من الملك { وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ } [آل عمران : 26] أي تنزعه فالملك الأول عام والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل.
روي أنه عليه السلام حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقالت اليهود والمنافقون : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } [آل عمران : 26] بالملك { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [آل عمران : 26] بنزعه منه { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } [آل عمران : 26] أي الخير والشر فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر ، أو لأن الكلام وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعداءك { إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران : 26] ولا يقدر على شيء أحد غيرك إلا بإقدارك.
وقيل : المراد بالملك ملك العافية أو ملك القناعة.
قال عليه السلام ملوك الجنة من أمتي القانعون بالقوت يوماً فيوماً أو ملك قيام الليل.
وعن الشبلي : الاستغناء بالمكون عن الكونين تعز بالمعرفة أو بالاستغناء بالمكون أو بالقناعة وتذل بأضدادها.
ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب بقوله
230
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
(1/153)
{ تُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } [آل عمران : 27] فالإيلاج إدخال الشيء في الشيء وهو مجاز هنا أي تنقص من ساعات الليل وتزيد في النهار ، وتنقص من ساعات النهار وتزيد في الليل { وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [آل عمران : 27] الحيوان من النطفة ، أو الفرخ من البيضة ، أو المؤمن من الكافر { وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ } [آل عمران : 27] النطفة من الإنسان ، أو البيض من الدجاج ، أو الكافر من المؤمن { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران : 27] لا يعرف الخلق عدده ومقداره وإن كان معلوماً عنده ، ليدل على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم.
وفي بعض الكتب : أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم.
وهو معنى قولهم عليه السلام كما تكونوا يولى عليكم الحي من الميت والميت من الحي بالتشديد حيث كان : مدني وكوفي غير أبي بكر.
{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ } [آل عمران : 28] نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو لصداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، وقد كرر ذلك في القرآن والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان.
{ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 144] يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ } [آل عمران : 28] أي ومن يوال الكفرة فليس من ولاية الله في شيء لأن موالاة الولي وموالاة عدوه متنافيان { إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَـاـاةً } [آل عمران : 28] إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه أي إلا أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك إظهار الموالاة وإبطان المعاداة { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 30] أي ذاته فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه وهذا وعيد شديد
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 28] أي مصيركم
231
(1/154)
إليه والعذاب معد لديه وهو وعيد آخر.
{ قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } [آل عمران : 29] من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضي الله { يَعْلَمْهُ اللَّهُ } [البقرة : 197] ولم يخف عليه وهو أبلغ وعيد { وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } استئناف وليس بمعطوف على جواب الشرط أي هو الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 284] فيكون قادراً على عقوبتكم { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُواءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُا أَمَدَا بَعِيدًا } [آل عمران : 30] يوم منصوب بـ تود والضمير في بينه لليوم أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً أي مسافة بعيدة ، أو بـ اذكر ويقع تجد على ما عملت وحده ويرتفع وما عملت على الابتداء وتود خبره أي والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه ، ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تود ، نعم الرفع جائز إذا كان الشرط ماضياً لكن الجزم هو الكثير.
وعن المبرد أن الرفع شاذ.
وكرر قوله { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 30] ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ } [البقرة : 207] ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه حتى لا يتعرضوا لسخطه ، ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لكمال قدرته مرجو لسعة رحمته كقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت : 43] (فصلت : 34).
ونزل حين قال اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه.
{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 31] محبة العبد لله إيثار طاعته على غير ذلك ، ومحبة الله العبد أن يرضى عنه ويحمد فعله.
وعن الحسن : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه.
وقيل : محبة الله
232
معرفته ودوام خشيته ودوام اشتغال القلب به وبذكره ودوام الأنس به.
وقيل : هي اتباع النبي عليه السلام في أقواله وأفعاله وأحواله إلا ما خص به.
وقيل : علامة المحبة أن يكون دائم التفكير ، كثير الخلوة ، دائم الصمت ، لا يبصر إذا نظر ، ولا يسمع إذا نودي ، ولا يحزن إذا أصيب ، ولا يفرح إذا أصاب ، ولا يخشى أحداً ولا يرجوه { وَالرَّسُولِ } قيل : هي علامة المحبة { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] أعرضوا عن قبول الطاعة ، ويحتمل أن يكون مضارعاً أي فإن تتولوا { فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَـافِرِينَ } [آل عمران : 32] أي لا يحبهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى } [آل عمران : 33] اختار { ءَادَمَ } أبا البشر { وَنُوحًا } شيخ المرسلين { إِنَّ اللَّهَ } [آل عمران : 33] إسماعيل وإسحاق وأولادهما { إِنَّ اللَّهَ } [آل عمران : 33] موسى وهارون هما ابنا عمران بن يصهر.
وقيل : عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة { عَلَى الْعَـالَمِينَ } [البقرة : 47] على عالمي زمانهم { ذُرِّيَّةِ } بدل من آل إبراهيم وآل عمران { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } [آل عمران : 34] مبتدأ وخبره في موضع النصب صفة لـ " ذرية " يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض : موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وكذلك عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان وهو يتصل بيهودا بن يعقوب بن إسحاق ، وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقيل : بعضها من بعض في الدين { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 224] يعلم من يصلح للإصطفاء ، أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها { إِذْ قَالَتِ } [آل عمران : 35] وإذا منصوب به أو بإضمار " اذكر " .
{ امْرَأَتُ عِمْرَانَ } [آل عمران : 35] هي امرأة عمران بن ماثان أم مريم جدة عيسى وهي حنة بنت فاقوذا { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ } [آل عمران : 35] أوجبت { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } [آل عمران : 35] هو حال من ما وهي بمعنى الذي أي معتقاً لخدمة
233
(1/155)
بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه ، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم أو مخلصاً للعبادة يقال " طين حر " أي خالص { فَتَقَبَّلْ مِنِّي } [آل عمران : 35] منّي } مدني وأبو عمر ، والتقبل : أخذ الشيء على الرضا به { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير لـ ما في بطني وإنما أنّث على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة { قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى } [آل عمران : 36] أنثى حال من الضمير في وضعتها أي وضعت الحبلة أو النفس أو النسمة أنثى ، وإنما قالت هذا القول لأن التحرير لم يكن إلا للغلمان فاعتذرت عما نذرت وتحزنت إلى ربها ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [آل عمران : 36] تعظيماً لموضوعها أي والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عزائم الأمور.
وضعت : شامي وأبو بكر بمعنى ولعل لله فيه سراً وحكمة ، وعلى هذا يكون داخلاً في القول.
وعلى الأول يوقف عند قوله أنثى وقوله : والله أعلم بما وضعت " .
ابتداء إخبار من الله تعالى { وَلَيْسَ الذَّكَرُ } [آل عمران : 36] الذي طلبت { كَالانثَى } التي وهبت لها واللام فيهما للعهد { وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } [آل عمران : 36] معطوف على إني وضعتها أنثى وما بينهما جملتان معترضتان.
وإنما ذكرت حنة تسميتها مريم لربها لأن مريم في لغتهم العابدة ، فأرادت بذلك التقرب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها وأن يصدق فيها ظنها بها ، ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان بقوله { وَإِنِّى } وإنّي مدني { أُعِيذُهَا بِكَ } [آل عمران : 36] أجيرها { وَذُرِّيَّتَهَا } أولادها { مِنَ الشَّيْطَـانِ الرَّجِيمِ } [آل عمران : 36] الملعون في الحديث ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها.
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } [آل عمران : 37] قبل الله مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } [آل عمران : 37] قيل : القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط لما يسعط به وهو اختصاصه لها
234
بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة.
روي أن حنة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي أختها.
فقالوا : لا حتى نقترع عليها.
فانطلقوا ـــــ وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر ـــــ فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم فتكفلها.
وقيل : هو مصدر على تقدير حذف المضاف أي فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
(1/156)
{ وَأَنابَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران : 37] مجاز عن التربية الحسنة ، قال ابن عطاء : ما كانت ثمرته مثل عيسى فذاك أحسن النبات.
ونباتا مصدر على خلاف الصدر أو التصدير فنبتت نباتاً { وَكَفَّلَهَا } وكفلها : قبلها أو ضمن القيام بأمرها.
وكفّلها : كوفي أي كفلها الله زكريا يعني جعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها { زَكَرِيَّآ } بالقصر : كوفي غير أبي بكر في كل القرآن.
وقرأ أبو بكر بالمد والنصب هنا.
غيرهم بالمد والرفع كالثانية والثالثة ومعناه في العبري : دائم الذكر والتسبيح { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } [آل عمران : 37] قيل : بنى لها زكريا محراباً في المسجد أي غرفة تصعد إليها بسلم.
وقيل : المحراب أشرف المجالس ومقدّمها كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس.
وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب وكان لا يدخل عليها إلا هو وحده { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } [آل عمران : 37] كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثدياً قط فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { قَالَ يَـامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـاذَا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آتٍ في غير حينه؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 37] فلا تستبعد.
قيل : تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 37] من جملة كلام مريم أو من كلام رب العالمين { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة : 212] بغير تقدير لكثرته أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل.
235
{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت فقد يستعار هنا و " حيث و " ثم " للزمان.
لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد أمها حنة في الكرامة على الله ، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أمها كذلك.
وقيل : لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر { دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُا قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } [آل عمران : 38] ولداً والذرية يقع على الواحد والجمع
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
{ طَيِّبَةً } مباركة والتأنيث للفظ الذرية { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ } [آل عمران : 38] مجيبه { فَنَادَتْهُ الْمَلَـائكَةُ } [آل عمران : 39] قيل : ناداه جبريل عليه السلام.
وإنما قيل الملائكة لأن المعنى أتاه النداء من هذا الجنس كقولهم " فلان يركب الخيل " .
فناديه بالياء والإمالة : حمزة وعلي { وَهُوَ قَآئِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ } [آل عمران : 39] وفيه دليل على أن المرادات تطلب بالصلوات ، وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات.
وقال ابن عطاء : ما فتح الله تعالى على عبد حالة سنية إلا باتباع الأوامر وإخلاص الطاعات ولزوم المحاريب { إِنَّ اللَّهَ } [التوبة : 111] بكسر الألف : شامي وحمزة وعلى إضمار القول ، أو لأن النداء قول.
الباقون : بالفتح أي بأن الله { يُبَشِّرُكِ } يبشرك وما بعده : حمزة وعلي من بشره والتخفيف والتشديد لغتان { بِيَحْيَى } هو غير منصرف إن كان عجمياً وهو الظاهر فللتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل كـ " يعمر { مُصَدِّقَا } حال منه { بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 39] أي مصدقاً بعيسى مؤمناً به فهو أول من آمن به.
وسمي عيسى كلمة الله لأن تكون بـ " كن " بلا أب ، أو مصدقاً بكلمة من الله مؤمناً بكتاب منه { وَسَيِّدًا } هو الذي يسود قومه أي يفوقهم في الشرف ، وكان يحيى فائقاً على قومه لأنه لم يركب سيئة قط ويا لها من سيادة.
وقال الجنيد : هو الذي جاد بالكونين عوضاً عن المكون { وَحَصُورًا } هو الذي لا يقرب النساء مع القدرة حصراً لنفسه أي منعاً لها من
236
(1/157)
الشهوات { وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّـالِحِينَ } [آل عمران : 39] ناشئاً من الصالحين لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائناً من جملة الصالحين { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَـامٌ } [آل عمران : 40] استبعاد من حيث العادة واستعظام للقدرة لا تشكك { وَقَدْ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ } [آل عمران : 40] كقولهم " أدركته السن العالية " أي أثر فيّ الكبر وأضعفني وكان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثمان وتسعون { وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } [آل عمران : 40] لم تلد { قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } [آل عمران : 40] من الأفعال العجيبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 228
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى } [آل عمران : 41] لي مدني وأبو عمرو { ءَايَةً } علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة بالشكر إذا جاءت { قَالَ ءَايَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ } [آل عمران : 41] أي لا تقدر على تكليم الناس { ثَلَـاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا } [آل عمران : 41] إلا إشارة بيد أو رأس أوعين أو حاجب وأصله التحرك ، يقال ارتمز إذا تحرك.
واستثنى الرمز وهو ليس من جنس الكلام لأنه لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً ، أو هو استثناء منقطع.
وإنما خص تكليم الناس ليعلم أنه يحبس لسانه عن القدرة عن تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ولذا قال { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالابْكَـارِ } [آل عمران : 41] أي في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة والأدلة الظاهرة ، وإنما حبس لسانه عن كلام الناس ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال.
والعشي من حين الزوال إلى الغروب ، والإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
{ وَإِذْ } عطف على إذا قالت امرأة عمران أو التقدير واذكر إذ { قَالَتِ الْمَلَـائكَةُ يَـامَرْيَمُ } [آل عمران : 42] روي أنهم كلموها شفاها { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَـاكِ } [آل عمران : 42] أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية { وَطَهَّرَكِ } مما يستقذر من الأفعال
237
{ وَاصْطَفَـاكِ } آخراً { عَلَى نِسَآءِ الْعَـالَمِينَ } [آل عمران : 42] بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء { يَـامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ } [آل عمران : 43] أديمي الطاعة أو أطيلي قيام الصلاة { وَاسْجُدِى } وقيل : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة ، ثم قيل لها { وَارْكَعِى مَعَ الراَّكِعِينَ } [آل عمران : 43] أي ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
(1/158)
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما سبق من قصة حنة وزكريا ويحيى ومريم { مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } [آل عمران : 44] يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَـامَهُمْ } [آل عمران : 44] أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين ، أو هي الأقلام التي كانوا يكتبون التوراة بها اختاروها للقرعة تبركاً بها { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } [آل عمران : 44] متعلق بمحذوف دل عليه يلقون كأنه قيل ؛ يلقونها ينظرون أيهم يكفل مريم أو ليعلموا أو يقولون { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران : 44] في شأنها تنافساً في التكفل بها { إِذْ قَالَتِ الْمَلَـائكَةُ } [آل عمران : 45] أي اذكر { يَـامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ } [آل عمران : 45] أي بعيسى { مِنْهُ } في موضع جر صفة لكلمة { اسْمُهُ } مبتدأ وذكر ضمير الكلمة لأن المسمى بها مذكر { الْمَسِيحُ } خبره والجملة في موضع جر صفة لـ " كلمة " .
والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق وأصله " مشيحاً " بالعبرانية ومعناه المبارك كقوله : { وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ } (مريم : 13).
وقيل : سمي مسيحاً لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ ، أو لأنه كان يمسح الأرض بالسياحة لا يستوطن مكاناً { عِيسَى } بدل من المسيح { ابْنَ مَرْيَمَ } [المائدة : 116] خبر مبتدأ محذوف أي هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون صفة لعيسى لأن اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم.
وإنما قال ابن مريم إعلاماً لها أنه يولد من
238
غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه وجيهاً ذا جاه وقدر في الدّنيا بالنبوة والطاعة { وَالاخِرَةِ } بعلو الدرجة والشفاعة { وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [آل عمران : 45] برفعه إلى السماء ، وقوله وجيهاً حال من كلمة لكونها موصوفة وكذا ومن المقربين أي وثابتاً من المقربين ، وكذا ويكلّم النّاس أي ومكلماً الناس في المهد حال من الضمير في يكلم أي ثابتاً في المهد وهو ما يمهد للصبي من مضجعه سمي بالمصدر
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{ وَكَهْلا } عطف عليه أي ويكلم الناس طفلاً وكهلاً أي يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحالة الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء { وَمِنَ الصَّـالِحِينَ } [آل عمران : 46] حال أيضاً والتقدير يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات.
{ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران : 47] أي إذا قدر تكون شيء كونه من غير تأخير لكنه عبر بقوله كن إخباراً عن سرعة تكون الأشياء بتكوينه { وَيُعَلِّمُهُ } مدني وعاصم وموضعه حال معطوفة على وجيهاً .
الباقون : بالنون على أنه كلام مبتدأ الكتاب } أي الكتابة وكان أحسن الناس خطاً في زمانه.
وقيل : كتب الله والحكمة } بيان الحلال والحرام أو الكتاب الخط باليد.
والحكمة : البيان باللسان { وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ * وَرَسُولا } أي ونجعله رسولاً أو يكون في موضع الحال أي وجيهاً في الدنيا والآخرة ورسولاً { إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنِّى } بأني { قَدْ جِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران : 49] بدلالة تدل على صدقي فيما أدعيه من النبوة { أَنِّى أَخْلُقُ لَكُم } [آل عمران : 49] نصب بدل من أني قد جئتكم أو جر بدل من آية أو رفع على هي أني أخلق لكم .
إنّي : نافع على
239
(1/159)
الاستئناف { مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ } [المائدة : 110] أي أقدر لكم شيئاً مثل صورة الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ } [آل عمران : 49] الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير { فَيَكُونُ طَيْرَا } [آل عمران : 49] فيصير طيراً كسائر الطيور.
طائراً : مدني { بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر : 32] بأمره.
قيل : لم يخلق شيئاً غير الخفاش { وَأُبْرِى ُ الاكْمَهَ } [آل عمران : 49] الذي ولد أعمى { والابْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ } كرر بإذن الله دفعاً لو هم من يتوهم فيه اللاهوتية.
روي أنه أحيا سام بن نوح عليه السلام وهم ينظرون إليه فقالوا : هذا سحر مبين فأرنا آية فقال : يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبىء لك كذا وهو قوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } [آل عمران : 49] وما فيهما بمعنى " الذي " ، أو مصدرية { إِنَّ فِى ذَالِكَ } [السجدة : 26] فيما سبق { لايَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاـاةِ } أي قد جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً { وَلاحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل عمران : 50] رد على قوله بآية من ربكم أي جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم.
وما حرم الله عليهم في شريعة موسى عليه السلام الشحوم ولحوم الإبل والسمك وكل ذي ظفر فأحل لهم عيسى بعض ذلك { وَجِئْتُكُم بِـاَايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران : 50] كرر للتأكيد { فَاتَّقُوا اللَّهَ } [آل عمران : 123] في تكذيبي وخلافي { وَأَطِيعُونِ } في أمري { إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ } [آل عمران : 51] إقرار بالعبودية ونفي للربوبية عن نفسه بخلاف ما يزعم النصارى { فَاعْبُدُوهُ } دوني { هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [آل عمران : 51] يؤدي صاحبه إلى النعيم المقيم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } [آل عمران : 52] علم من اليهود كفراً علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس { قَالَ مَنْ أَنصَارِى } [آل عمران : 52] أنصاري مدني وهو جمع ناصر كأصحاب أو جمع نصير كأشراف { إِلَى اللَّهِ } [غافر : 44] يتعلق بمحذوف حال من الياء أي من أنصاري
240
ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } [آل عمران : 52] حواريّ الرجل صفوته وخاصته { نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ } [آل عمران : 52] أعوان دينه { بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا } [آل عمران : 52] يا عيسى { بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 52] إنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم لأن الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم ، وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد { رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } [آل عمران : 53] أي رسولك عيسى { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ } [آل عمران : 53] مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم ، أو مع الذين يشهدون لك بالوحدانية ، أو مع أمة محمد عليه السلام لأنهم شهداء على الناس { وَمَكَرُوا } أي كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر حين أرادوا قتله وصلبه { وَمَكَرَ اللَّهُ } [آل عمران : 54] أي جازاهم على مكرهم بأن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل ، ولا يجوز إضافة المكر إلى الله تعالى إلا على معنى الجزاء ، لأنه مذموم عند الخلق وعلى هذا الخداع والاستهزاء كذا في شرح التأويلات.
{ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَـاكِرِينَ } [آل عمران : 54] أقوى المجازين وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب { إِذْ قَالَ اللَّهُ } [المائدة : 110] ظرف لمكر الله { يَـاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أي مستوفي أجلك ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم { وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } [آل عمران : 55] إلى سمائي ومقر ملائكتي { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
(1/160)
آل عمران : 55] من سوء جوارهم وخبث صحبتهم.
وقيل : متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته ، أو مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن ، إذ الواو لا توجب الترتيب.
قال النبي عليه السلام ينزل عيسى خليفة على أمتي يدق الصليب ويقتل الخنازير ويلبث أربعين سنة ، ويتزوج ويولد ثم يتوفى وكيف
241
تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي وفي وسطها " أو متوفي نفسك بالنوم ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ } [آل عمران : 55] أي المسلمين لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى { فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [آل عمران : 55] بك { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [القلم : 39] يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } [آل عمران : 55] في الآخرة { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [آل عمران : 55] وتفسير الحكم هاتان الآيتان فيوفيهم حفص.
جزء : 1 رقم الصفحة : 237
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ { نَتْلُوهُ عَلَيْكَ } [آل عمران : 58] خبره { مِّنَ الايَـاتِ } [الدخان : 33] خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف { وَالذِّكْرِ } الحكيم } القرآن يعني المحكم ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.
ونزل لما قال وفد بني نجران هل رأيت ولداً بلا أب.
{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 242
آل عمران : 59] أي إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم عليه السلام { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [آل عمران : 59] قدره جسداً من طين وهي جملة مفسرة لحالة شبه عيسى بآدم ولا موضع لها أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم ، فكذلك حال عيسى مع أن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لم تعبدون
242
(1/161)
عيسى؟ قالوا : لأنه لا أب له قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له.
قالوا : كان يحيي الموتى.
قال : فحزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر وحزقيل ثمانية آلاف.
فقالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص.
قال : فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } [آل عمران : 59] أي أنشأه بشراً { فَيَكُونُ } أي فكان وهو حكاية حال ماضية ، و " ثم " لترتيب الخبر على الخبر لا لترتيب المخبر عنه { الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [آل عمران : 60] خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق { فَلا تَكُن } [السجدة : 23] أيها السامع { مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [البقرة : 147] الشاكين.
ويحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم ويكون من باب التهييج لزيادة الثبات لأنه عليه السلام معصوم من الامتراء { فَمَنْ حَآجَّكَ } [آل عمران : 61] من النصارى { فِيهِ } في عيسى { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } [البقرة : 145] من البينات الموجبة للعلم وما بمعنى " الذي " { فَقُلْ تَعَالَوْا } [آل عمران : 61] هلموا والمراد المجيء بالعزم والرأي كما تقول : تعالى نفكر في هذه المسألة { نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ } [آل عمران : 61] أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } [آل عمران : 61] ثم نتباهل بأن نقول " بهلة الله على الكاذب منا ومنكم " .
والبهلة بالفتح والضم اللعنة ، وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته ، وأصل الابتهال هذا ثم يستعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً.
روي أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى ننظر.
فقال العاقب.
وكان ذا رأيهم والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل وما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فودعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد غدا محتضناً للحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفها وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمنوا.
فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا
243
جزء : 1 رقم الصفحة : 242
يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك فصالحهم النبي على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام " والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير " وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كانت المباهلة مختصة به وبمن يكاذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة.
وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم ، وفيه دليل واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك { فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَـاذِبِينَ } [آل عمران : 61] منا ومنكم في شأن عيسى ونبتهل ونجعل معطوفان على " ندع " .
{ إِنَّ هَـاذَآ } [ص : 23] الذي قص عليك من نبأ عيسى { لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } [آل عمران : 62] هو فصل بين اسم " إن " وخبرها ، أو مبتدأ والقصص الحق خبره ، والجملة خبر " إن " وجاز دخول اللام على الفصل لأنه إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ.
وومن " في { وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا اللَّهُ } [آل عمران : 62] بمنزلة البناء على الفتح في " لا إله إلا الله " في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد الرد على النصارى في تثليثهم { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } [آل عمران : 62] في الانتقام { الْحَكِيمُ } في تدبير الأحكام { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] أعرضوا ولم يقبلوا { فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِالْمُفْسِدِينَ } [آل عمران : 63] وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : { زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [النحل : 88] (النحل : 88).
جزء : 1 رقم الصفحة : 242
(1/162)
{ قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ } هم أهل الكتابين أو وفد نجران أو يهود المدينة
244
{ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآء } [آل عمران : 64] أي مستوية { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [آل عمران : 64] لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل.
وتفسير الكلمة قوله { أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شيئا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ } [آل عمران : 64] يعني تعالوا إليها حتى لا نقول عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ، ولا نطيع أحبارنا فميا أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله.
وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم " قال : نعم.
قال : " هو ذاك " .
{ فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] عن التوحيد { فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 64] أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع : اعترف بأني أنا الغالب وسلم إليّ الغلبة.
{ مُسْلِمُونَ * يَاأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّوْرَاـاةُ وَالانْجِيلُ إِلا مِن بَعْدِهِ } زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين فيه فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل وبين إبراهيم وموسى ألف سنة وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.
{ هَـاأَنتُمْ هؤلاء } [محمد : 38] ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره { حَـاجَجْتُمْ } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى.
وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ } [آل عمران : 66] مما نطق به التوراة والإنجيل { فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } [آل عمران : 66] ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم.
وقيل : هؤلاء بمعنى " الذين " وحاججتم " صلته.
ها أنتم بالمد وغير الهمز حيث كان : مدني وأبو عمرو.
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ } [محمد : 26] علم ما حاججتم فيه { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216] وأنتم جاهلون به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 242
ثم أعلمهم بأنه بريء من دينهم فقال
245
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلاَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران : 67] كأنه أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، أو ما كان من المشركين كما لم يكن منهم { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ } [آل عمران : 68] إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب { لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } [آل عمران : 68] في زمانه وبعده { وَهَـاذَا النَّبِىُّ } [آل عمران : 68] خصوصاً خص بالذكر لخصوصيته بالفضل والمراد محمد عليه السلام { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 165] من أمته { وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 68] ناصرهم.
{ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } [آل عمران : 69] هم اليهود دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهود { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } [آل عمران : 69] وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] بذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 242
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
(1/163)
{ يَشْعُرُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } بالتوراة والإنجيل ، وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وغيرها { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } [البقرة : 84] تعترفون بأنها آيات الله أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين ، أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق { تَشْهَدُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ } تخلطون الإيمان بموسى وعيسى بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلّم { وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ } [آل عمران : 71] نعت محمد عليه السلام { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 22] أنه حق
246
{ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 72] فيم بينهم { ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران : 72] أي القرآن { وَجْهَ النَّهَارِ } [آل عمران : 72] ظرف أي أوله يعني أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار { وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ } [آل عمران : 72] واكفروا به آخره { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] لعل المسلمين يقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم.
{ وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } [آل عمران : 73] ولا تؤمنوا متعلق بقوله أن يؤتى أحدٌ مّثل ما أوتيتم } وما بينهما اعتراض أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } [آل عمران : 73] عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير اتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة.
ومعنى الاعتراض أن الهدى هدى الله من شاء هداه حتى أسلم أو ثبت على الإسلام كان ذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهداية والتوفيق ، أو يتم الكلام عند قوله إلا لمن تبع دينكم أي ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم.
ومعنى قوله أن يؤتى لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه لا لشيء آخر يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يأتي أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، ويدل عليه قراءة ابن كثير آن بالمد والاستفهام يعني الآن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب
247
تحسدونهم.
وقوله أو يحاجوكم على هذا معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم { وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [البقرة : 247] أي واسع الرحمة { عَلِيمٌ } بالمصلحة { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ } [البقرة : 105] بالنبوة أو بالإسلام { مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [البقرة : 105].
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
(1/164)
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران : 75] هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه { وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران : 75] هو فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه.
وقال : المأمونون على الكثير النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، والخائنون في القليل اليهود لغلبة الخيانة عليهم { مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا } إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه ملازماً له.
يؤده ولا يؤده بكسر الهاء مشبعة : مكي وشامي ونافع وعلي وحفص ، واختلس أبو عمرو في رواية.
غيرهم : بسكون الهاء.
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده { بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامِّيِّـانَ سَبِيلٌ } [آل عمران : 75] أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم ليس علينا من الأميين سبيل أي لا يتطرق علينا إثم وذم في شأن الأميين يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم وكانوا يقولون لم يجعل لهم في كتابنا حرمة.
وقيل : بايع اليهود رجالاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [آل عمران : 75] بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] أنهم كاذبون { بَلَى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين أي بلى عليهم سبيل
248
فيهم.
وقوله { مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } [آل عمران : 76] جملة مسأنفة مقررة للجملة التي سدت " بلى " مسدها ، والضمير في بعده يرجع إلى الله تعالى أي كل من أوفى بعهد الله واتقاه { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [آل عمران : 76] أي يحبهم فوضع الظاهر موضع الضمير وعموم المتقين قام مقام الضمير الراجع من الجزاء إلى من ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء.
قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ونحوه من مسلمي أهل الكتاب ، ويجوز أن يرجع الضمير إلى من أوفى أي كل من أوفى بما عاهد الله عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر فإن الله يحبه.
ونزل فيمن حرّف التوراة وبدل نعته عليه السلام من اليهود وأخذ الرشوة على ذلك
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
{ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ } [آل عمران : 77] يستبدلون { بِعَهْدِ اللَّهِ } [النحل : 91] بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدق لما معهم { وَأَيْمَـانِهِمْ } وبما حلفوا به من قولهم " والله لنؤمنن به ولننصرنه " { ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك ، وقوله بعهد الله يقوي رجوع الضمير في بعهده إلى الله { أؤلئك لا خَلَـاقَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ } [آل عمران : 77] أي لا نصيب { وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 77] بما يسرهم { وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [آل عمران : 77] نظر رحمة { وَلا يُزَكِّيهِمْ } [البقرة : 174] ولا يثني عليهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مؤلم.
{ وَإِنَّ مِنْهُمْ } [آل عمران : 78] من أهل الكتاب { لَفَرِيقًا } هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحيي بن أخطب وغيرهم { يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـابِ } [آل عمران : 78] يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، واللّي الفتل وهو الصرف والمراد تحريفهم كآبة الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلّم ونحو ذلك.
والضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } يرجع إلى ما دل
249
(1/165)
عليه { يَلْوُانَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَـابِ } [آل عمران : 78] وهو المحرف ، ويجوز أن يراد يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه { مِّنَ الْكِتَـابِ } [النمل : 40] أي التوراة { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 78] وليس هو من التوراة { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 78] تأكيد لقوله وما هو من الكتاب وزيادة تشنيع عليهم { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران : 78] أنهم كاذبون { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 79] تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى عليه السلام.
وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله "
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
{ وَالْحُكْمَ } والحكمة وهي السنة أو فصل القضاء { وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ } [آل عمران : 79] عطف على يؤتيه { لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـاكِن كُونُوا رَبَّـانِيِّـانَ } [آل عمران : 79] ولكن يقول : كونوا ربانيين.
والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون وهو شديد التمسك بدين الله وطاعته.
وحين مات ابن عباس قال ابن الحنفية : مات رباني هذه الأمة.
وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء.
وقيل : علماء معلمين.
وقالوا : الرباني العالم العامل { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَـابَ } [آل عمران : 79] كوفي وشامي أي غيركم غيرهم بالتخفيف { وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران : 79] أي تقرأون ، والمعنى بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم كانت الربانية التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان كمن غرس شجرة حسناء تؤنقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها.
وقيل : معنى تدرسون تدرسونه على الناس كقوله { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } [الإسراء : 106] (الإسراء : 601) فيكون معناه معنى تدرسون من التدريس كقراءة ابن جبير.
250
{ وَلا يَأْمُرَكُمْ } [آل عمران : 80] بالنصب عطفاً على ثم يقول ووجهه أن تجعل " لا " مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله ما كان لبشر والمعنى ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم { أَن تَتَّخِذُوا الْمَلَـائكَةَ وَالنَّبِيِّـانَ أَرْبَابًا } [آل عمران : 80] كما تقول " ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي " وبالرفع حجازي وأبو عمرو وعليّ على ابتداء الكلام ، والهمزة في { أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ } [آل عمران : 80] للإنكار والضمير في لا يأمركم وأيأمركم للبشر أو لله.
وقوله { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران : 80] يدل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوه أن يسجدوا له { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ النَّبِيِّـانَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
(1/166)
آل عمران : 81] هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك ، أو المراد ميثاق الأولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف.
واللام في { لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَـابٍ وَحِكْمَةٍ } [آل عمران : 81] لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف ، وفي لتؤمنن لام جواب القسم ، وما يجوز أن تكون متضمنة لمعنى الشرط ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعاً ، وأن تكون موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به { ثُمَّ جَآءَكُمْ } [آل عمران : 81] معطوف على الصلة والعائد منه إلى ما محذوف والتقدير ثم جاءكم به { رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } [آل عمران : 81] للكتاب الذي معكم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ } [آل عمران : 81] بالرسول { وَلَتَنصُرُنَّهُ } أي الرسول وهو محمد صلى الله عليه وسلّم لما آتيتكم حمزة و " ما " بمعنى الذي ، أو مصدرية أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم.
واللام للتعليل أي أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه لأجل أني آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف.
آتيناكم : مدني { قَالَ } أي الله { ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَالِكُمْ إِصْرِى } أي قبلتم عهدي ، وسمي إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا } [آل عمران : 81] فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار { وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّـاهِدِينَ } [آل عمران : 81] وأنا على
251
ذلك من إقراركم وتشاهدكم من الشاهدين ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض.
وقيل : قال الله للملائكة اشهدوا { فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَالِكَ } [آل عمران : 82] الميثاق والتوكيد ونقض العهد بعد قبوله وأعرض عن الإيمان بالنبيّ الجائي { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [آل عمران : 82] المتمردون من الكفار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 246
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ } [آل عمران : 83] دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما.
ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين الله يبغون.
وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل { يَبْغُونَ وَلَهُا أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَـاوَاتِ } الملائكة { وَالارْضِ } الإنس والجن { طَوْعًا } بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه { وَكَرْهًا } بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت ، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده.
وانتصب { طَوْعًا وَكَرْهًا } [آل عمران : 83] على الحال أي طائعين ومكرهين { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران : 83] فيجازيكم على الأعمال يبغون ويرجعون } بالياء فيهما : حفص ، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس ، وبالتاء فيهما وفتح الجيم : غيرهما.
{ قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } [آل عمران : 84] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في قل وجمع في آمنا أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه.
وعدي أنزل هنا بحرف
252
(1/167)
الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين ، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.
وقال صاحب اللباب : الخطاب في البقرة للأمة لقوله { قُولُوا } فلم يصح إلا " إلى " لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً ، وهنا قال قل وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به على لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيه ، وفيه نظر لقوله تعالى : { ءَامِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران : 72] (آل عمران : 27) { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ } [آل عمران : 84] أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء { وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ } [آل عمران : 84] كرر في البقرة وما أوتي ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لما آتيتكم { مِّن رَّبِّهِمُ } [محمد : 3] من عند ربهم { لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [البقرة : 136] في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاسْلَـامِ } [آل عمران : 85] يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام { دِينًا } تمييز { فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ } [آل عمران : 85] من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
{ كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ } [آل عمران : 86] والواو في { وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ } [آل عمران : 86] للحال و " قد " مضمرة أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول أي محمداً حق ، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا { وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [آل عمران : 86] أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [البقرة : 258] أي ما داموا مختارين الكفر ، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفاراً
253
{ أؤلئك } مبتدأ { جَزَآؤُهُمْ } مبتدأ ثانٍ خبره { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ } [آل عمران : 87] وهما خبر أولئك أو جزاؤهم بدل الاشتمال من أولئك { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَـالِدِينَ } حال من الهاء والميم في عليهم { فِيهَآ } في اللعنة { لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَالِكَ } الكفر العظيم والارتداء { وَأَصْلَحُوا } ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 192] لكفرهم { رَّحِيمٌ } بهم.
ونزل في اليهود { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] بعيسى والإنجيل { بَعْدَ إِيمَـاـنِهِمْ } [آل عمران : 90] بموسى والتوراة { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } [النساء : 137] بمحمد صلى الله عليه وسلّم والقرآن ، أو كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة.
وازديادهم الكفر أن قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } [آل عمران : 90] أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
غافر : 85] (غافر : 58) { وَأُوالَـائكَ هُمُ الضَّآلُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الارْضِ } الفاء في فلن يقبل يؤذن بأن الكلام بني على الشرط والجزاء ، وأن بسبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر ، وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب { ذَهَبًا } تمييز { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } [آل عمران : 91] أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول : نعم.
فيقال له : لقد سئلت أيسر من ذلك " قيل :
254
(1/168)
الواو لتأكيد النفي { أُوالَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [الشورى : 42] مؤلم { وَمَا لَهُم مِّن نَّـاصِرِينَ } [آل عمران : 22] معينين دافعين للعذاب.
{ لَن تَنَالُوا الْبِرَّ } [آل عمران : 92] لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه { حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران : 92] حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها.
وعن الحسن : كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية.
قال الواسطي ؛ الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين ، وقال أبو بكر الوراق : لن تناولوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم.
والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب.
وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له : لم لا تتصدق بثمنها؟ قال : لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب.
{ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران : 92] أي هو عليكم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه.
ومن الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله حتى تنفقوا بعض ما تحبون والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه.
ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام " كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله " فقالت اليهود : إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
{ كُلُّ الطَّعَامِ } [آل عمران : 93] أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل
255
ذلك كالميتة والدم { كَانَ حِلا لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ } [آل عمران : 93] أي حلالاً وهو مصدر.
يقال حل الشيء حلاً ولذا استوى في صفة المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى : { لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ } [الممتحنة : 10] (الممتحنة : 01) { إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ } [آل عمران : 93] أي يعقوب { عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاـاةُ } [آل عمران : 93] وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها ، وكانا أحب الطعام إليه.
والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه ، فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاـاةِ فَاتْلُوهَآ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [آل عمران : 93] أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ماحرم عليهم تحريم حادث سبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه ، فلم يجرؤوا على إخراج التوراة وبهتوا.
وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه { فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [آل عمران : 94] بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام { مِن بَعْدِ ذَالِكَ } [يوسف : 48] من بعدما لزمهم من الحجة القاطعة { فَأُوالَـائِكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [البقرة : 229] المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات { قُلْ صَدَقَ اللَّهُ } [آل عمران : 95] في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [آل عمران : 95] وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
{ حَنِيفًا } حال من إبراهيم أي مائلاً من الأديان الباطلة { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 135].
ولما قالت اليهود للمسلمين : قبلتنا قبل قبلتكم نزل
256
(1/169)
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 96] والواضع هو الله عز وجل.
ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال : إن أول متعبد للناس الكعبة وفي الحديث إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة " .
قيل : أول من بناه إبراهيم.
وقيل : هو أول بيت حج بعد الطوفان.
وقيل : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض.
وقيل : هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض.
وقوله وضع للناس في موضع جر صفة لـ " بيت " والخبر { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } [آل عمران : 96] أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام.
ومكة وبكة لغتان فيه.
وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد.
وقيل : اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها ، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله.
{ مُبَارَكًا } كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات { وَهُدًى لِّلْعَـالَمِينَ } [آل عمران : 96] لأنه قبلتهم ومتعبدهم ، ومباركاً وهدى } حالان من الضمير في وضع { فِيهِ ءَايَـاتُ بَيِّنَـاتٌ } [آل عمران : 97] علامات واضحات لا تلتبس على أحد { مَّقَامِ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 125] عطف بيان لقوله آيات بينات .
وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد ، أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِنًا } [آل عمران : 97] عطف بيان لـ " آيات " ـــــ وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية ـــــ من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله ، والاثنان في معنى الجمع.
ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة ، وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك ، ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام
257
"
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا ، والثالث مطوي وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين.
وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه.
وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام : أنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه ، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ ءَامِنًا } [إبراهيم : 35] (إبراهيم : 53) وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب.
وعن عمر رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه.
ومن لزمه القتل في الحل بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج.
وقيل : آمنا من النار لقوله عليه السلام من " مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار " وعنه عليه السلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة.
وعنه عليه السلام من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " .
(1/170)
{ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } أي استقر له عليهم فرض الحج حج البيت : كوفي غير أبي بكر وهو اسم وبالفتح مصدر.
وقيل : هما لغتان في مصدر حج { مِنْ } في موضع جر على أنه بدل البعض من الكل { اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [آل عمران : 97] فسرها النبي عليه السلام بالزاد والراحلة.
والضمير في إليه للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه.
ولما نزل قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت .
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : إن الله تعالى كتب عليم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون ، وكفرت به
258
خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل ومن كفر أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء ، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين } مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم.
وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد : منها اللام و " على " أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس ، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له ، ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين ، ومنها قوله ومن كفر مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج ، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط ، ومنها قوله عن العالمين وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 252
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِاَايَـاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها؟ { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَصُدُّونَ } الصد المنع { عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ } [آل عمران : 99] عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام ، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل { تَبْغُونَهَا } تطلبون لها نصب على الحال { عِوَجَا } اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن وجهها ونحو ذلك { وَأَنتُمْ شُهَدَآءُ } [آل عمران : 99] أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل { وَمَا اللَّهُ بِغَـافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 74] من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد.
ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله
259
{ تَعْمَلُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ كَـافِرِينَ } قيل : مرّ شاس بن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون ، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس ، ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا : السلاح السلاح.
فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم " بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين فنزلت الآية { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } [آل عمران : 101] معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ } [آل عمران : 101] والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
(1/171)
آل عمران : 101] وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم { وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ } [آل عمران : 101] ومن يتمسك بدينه أو بكتابه ، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم { فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [آل عمران : 101] أرشد إلى الدين الحق ، أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً عند الشبه يحفظه عن الشبه.
{ مُّسْتَقِيمٍ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم.
وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى.
أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه.
وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه.
والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران : 102] ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت
260
{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ } [آل عمران : 103] تمكسوا بالقرآن لقوله عليه السلام " القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم " { جَمِيعًا } حال من ضمير المخاطبين.
وقيل : تمكسوا بإجماع الأمة دليله { وَلا تَفَرَّقُوا } [آل عمران : 103] أي ولا تتفرقوا يعني ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع ، أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف في قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخواناً { وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ } [آل عمران : 103] وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } [آل عمران : 103] بالإسلام وهو رد على المعتزلة ، فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا الله تعالى.
والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا ، وأنث لإضافته إلى الحفرة.
وشفا الحفرة : حرفها ، ولامها واو فلهذا يثنى شفوان { كَذَالِكَ } مثل ذلك البيان البليغ { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ } [البقرة : 242] أي القرآن الذي فيه أمر ونهي ووعد ووعيد { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [البقرة : 53] لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [آل عمران : 104] بما استحسنه الشرع والعقل { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } [آل عمران : 104] عما استقبحه الشرع والعقل ، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة.
والمنكر ما خالفهما ، أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي.
261
(1/172)
والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص.
ومن للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية ، ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } [الحجرات : 9].
ثم قال : { فَقَـاتِلُوا } (الحجرات : 9).
أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [آل عمران : 110] { وَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة : 5] أي هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه } وعن علي رضي الله عنه : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا } [آل عمران : 105] بالعداوة { وَاخْتَلَفُوا } في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [آل عمران : 105] الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق { وَأُوالَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران : 105] ونصب { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } [آل عمران : 106] أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران : 106] أي وجوه الكافرين.
والبياض من النور والسواد من الظلمة { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ } [آل عمران : 106] فيقال لهم { أَكْفَرْتُم } فحذف الفاء ، والقول جميعاً للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
{ بَعْدَ إِيمَـانِكُمْ } [التوبة : 66] يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر ، أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً ، أو أهل الكتاب ، وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد اعترافهم به قبل مجيئه
262
{ اللَّهِ } ففي نعمته وهي الثواب المخلد.
ثم استأنف فقال { هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39] لا يظعنون عنها ولا يموتون.
{ تِلْكَ ءَايَـاتُ اللَّهِ } [البقرة : 252] الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } [الجاثية : 6] ملتبسة { بِالْحَقِّ } والعدل من جزاء المحسن والمسيء { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَـالَمِينَ } [آل عمران : 108] أي لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن { وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ } [آل عمران : 109] فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ترجع .
شامي وحمزة وعلي.
كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام ، ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله.
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران : 110] كأنه قيل : وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به { أُخْرِجَتْ } أظهرت { لِلنَّاسِ } اللام يتعلق بـ " أخرجت " { تَأْمُرُونَ } كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول " زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم " بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه { بِالْمَعْرُوفِ } بالإيمان وطاعة الرسول { وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } [آل عمران : 110] عن الكفر وكل محظور { وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران : 110] وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضي الترتيب { وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 110] بمحمد عليه السلام { لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والاتباع وحظوظ الدنيا ما
263
هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 110] كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَـاسِقُونَ } [آل عمران : 110] المتمردون في الكفر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
(1/173)
{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى } [آل عمران : 111] إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك { وَإِن يُقَـاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ } [آل عمران : 111] منهزمين ولا يضروكم بقتلٍ أو أسر { ثُمَّ لا يُنصَرُونَ } [آل عمران : 111] ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم ، وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء إخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على يولوكم إذ لو كان معطوفاً عليه لقيل ثم لا ينصروا ، وإنما استؤنف ليؤذن أن الله لا ينصرهم قاتلوا أم لم يقاتلوا ، وتقدير الكلام : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
و " ثم " للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
{ ضُرِبَتْ } ألزمت { عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } [آل عمران : 112] أي على اليهود { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } [آل عمران : 112] وجدوا { إِلا بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ } [آل عمران : 112] في محل النصب على الحال ، والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله { وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ } [آل عمران : 112] والحبل العهد والذمة ، والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } [البقرة : 61] استوجبوه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } [آل عمران : 112] الفقر عقوبة لهم على قولهم { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران : 181] (آل عمران : 181) أو خوف الفقر مع قيام اليسار { ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [آل عمران : 112] ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق.
ثم قال { ذَالِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة : 61] أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده.
264
جزء : 1 رقم الصفحة : 259
{ لَيْسُوا سَوَآءً } [آل عمران : 113] ليس أهل الكتاب مستوين { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 72] كلام مستأنف لبيان قوله ليسوا سواء كما وقع قوله { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [آل عمران : 110] بياناً لقوله كنتم خير أمة (أمّةٌ قائمةٌ } جماعة مستقيمة عادلة من قولك " أقمت العود فقام " أي استقام وهم الذين أسلموا منهم { يَتْلُونَ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [آل عمران : 113] القرآن { أَمَّنْ هُوَ } [الزمر : 9] ساعاته واحدها " إنى " كمعي أو إنو كقنو أو إنى كنحى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
(1/174)
{ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران : 113] يصلون.
قيل : يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها.
وقيل : عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [آل عمران : 114] بالإيمان وسائر أبواب البر { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } [آل عمران : 104] عن الكفر ومنهيات الشرع { وَيُسَـارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ } [آل عمران : 114] يبادرون إليها خشية الفوت.
وقوله : يتلون ويؤمنون في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون.
وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها ، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به { وَأُوالَـائِكَ } الموصوفون بما وصفوا به { مِّنَ الصَّـالِحِينَ } [آل عمران : 39] من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم { وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ } [آل عمران : 115] بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو.
مخير غيرهم بالتاء.
وعدي يكفروه إلى مفعولين وإن كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها ـــــ لتضمنه معنى الحرمان كأنه
265
قيل : فلن تحرموه أي فلن تحرموا جزاءه { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ } [آل عمران : 115] بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلَـادُهُم مِّنَ اللَّهِ شيئا } [آل عمران : 10] أي من عذاب الله { وَأُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 217].
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِى هَـاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم { كَمَثَلِ رِيحٍ } [آل عمران : 117] كمثل مهلك ريح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح { فِيهَا صِرٌّ } [آل عمران : 117] برد شديد عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة لـ ريح مثل { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [آل عمران : 117] بالكفر { فَأَهْلَكَتْهُ } عقوبة على كفرهم { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 117] بإهلاك حرثهم { وَلَـاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [آل عمران : 117] بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ، أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول.
ونزل نهياً للمؤمنين عن مصافات المنافقين { يَظْلِمُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً } بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال " فلان شعاري " وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار { مِّن دُونِكُمْ } [آل عمران : 118] من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا } [آل عمران : 118] في موضع النصب صفة لبطانة يعني لا يقصرون في فساد دينكم يقال " ألا في الأمر يألو " إذا
266
قصر فيه ، والخبال الفساد.
وانتصب خبالاً على التمييز أوعلى حذف في أي في خبالكم { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } [آل عمران : 118] أي عنتكم فـ " ما " مصدرية.
والعنت شدة الضرر والمشقة أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه ، وهو مستأنف على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة كقوله { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [آل عمران : 118] لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
(1/175)
آل عمران : 118] مع البغض لكم { أَكْبَرَ } مما بدا { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايَـاتِ } [آل عمران : 118] الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } [آل عمران : 118] ما بين لكم.
{ هَـاأَنتُمْ أُوْلاءِ } ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب { تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ } [آل عمران : 119] بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء ، أو أولاء موصول صلته تحبونهم .
والواو في { وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ } [آل عمران : 119] للحال وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم.
وقيل : الكتاب للجنس.
{ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا } [آل عمران : 119] أظهروا كلمة التوحيد { وَإِذَا خَلَوْا } [آل عمران : 119] فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض { عَضُّوا عَلَيْكُمُ الانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } [آل عمران : 119] يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام { قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } [آل عمران : 119] دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به ، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران : 119] فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض ، وهو داخل في جملة المقول أي أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن الله عليم بما هو أخفى
267
مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول ، أي قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم بما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
(1/176)
آل عمران : 120] رهاء وخصب وغنيمة ونصرة { تَسُؤْهُمْ } تحزنهم إصابتها { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } [آل عمران : 120] أضداد ما ذكرنا.
والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحد ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [التوبة : 50] (التوبة : 05) { يَفْرَحُوا بِهَا } [آل عمران : 120] بإصابتها { وَأَن تَصْبِرُوا } [النساء : 25] على عداوتهم { وَتَتَّقُوا } ما نهيتم عنه من موالاتهم ، أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه { لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئا } [آل عمران : 120] مكرهم وكنتم في حفظ الله ، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى.
وقال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك.
{ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } بالتاء : سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما { مُحِيطٌ } ففاعل بكم ما أنتم أهله.
وبالياء : غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [آل عمران : 121] واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة ، والمراد غدوة من حجرة عائشة رضي الله عنها إلى أحد { تُبَوِّى ُ الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 121] تنزلهم وهو حال { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [آل عمران : 121] مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة.
وللقتال يتعلق بـ " تبوىء " { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 224] سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم.
روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ فاستشاره فقال : أقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا ، وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم.
فقال عليه السلام : إني رأيت في
268
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
منامي بقراً مذبحة حولي فأولتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فلم يزل به قوم ينشطون في الشهادة حتى لبس لأمته ثم ندموا فقالوا : الأمر إليك يا رسول الله فقال عليه السلام " لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل " فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال { إِذْ هَمَّت } [آل عمران : 122] بدل من إذ غدوت أو عمل فيه معنى عليم { طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ } [آل عمران : 122] خيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس.
وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف ، والمشركون في ثلاثة آلاف ، ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله { أَن تَفْشَلا } [آل عمران : 122] أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور { وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا } [آل عمران : 122] محبهما أو ناصرهما أو متولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ } [آل عمران : 122] { الْمُؤْمِنُونَ } أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه.
قال جابر : والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا.
ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة فقال :
جزء : 1 رقم الصفحة : 265
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
(1/177)
{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ } [آل عمران : 123] وهو اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به ، أو ذكر بدراً بعد أحد للجمع بين الصبر والشكر.
{ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } [آل عمران : 123] لقلة العدد فإنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوهم زهاء ألف مقاتل والعدد ، فإنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم
269
إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس والشكة والشوكة.
وجاء بجمع القلة وهو أذلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً فاتّقوا اللّه في الثبات مع رسوله { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] بتقواكم ما أنعم الله به عليكم من النصر { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 124] ظرف لـ نصركم على أن يقول لهم ذلك يوم بدر أي نصركم الله وقت مقالتكم هذه ، أو بدل ثانٍ من إذ غدوت على أن تقول لهم ذلك يوم أحد { أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَـاثَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الْمَلَـائكَةِ مُنزَلِينَ } [آل عمران : 124] منزّلين شامي.
منزلين أبو حيوة أي للنصرة.
ومعنى ألن يكفيكم إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة ، وجيء بـ " لن " الذي هو لتأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكته كالآيسين من النصر { بَلَى } إيجاب لما بعد لن أي يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية.
ثم قال { إِن تَصْبِرُوا } [آل عمران : 125] على القتال { وَتَتَّقُوا } خلاف الرسول عليه السلام { وَيَأْتُوكُم } يعني المشركين { مِّن فَوْرِهِمْ هَـاذَا } [آل عمران : 125] هو من فارت القدر إذا غلت فاستعير للسرعة ثم سميت بها الحالة التي لا ريث بها ولا تعريج على شيء من صاحبها فقيل " خرج من فوره " كما تقول " من ساعته لم يلبث " ومنه قول الكرخي " الأمر المطلق على الفور لا على التراخي " والمعنى إن يأتوكم من ساعتهم هذه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ ءَالَـافٍ مِّنَ الْمَلَـائكَةِ } [آل عمران : 125] في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم يعني أن الله تعالى يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{ مُسَوِّمِينَ } بكسر الواو : مكي وأبو عمر وعاصم وسهل أي معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامة يعون بها في الحرب.
والسومة العلامة.
عن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب
270
وأذنابها.
غيرهم : بفتح الواو أي معلمين.
قال الكلبي : معلين بعمائم صفر مرخاة على اكتافهم ، وكانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك.
قال قتادة : نزلت ألفاً فصاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ } [آل عمران : 126] الضمير يرجع إلى الإمداد الذي دل عليه أن يمدكم { إِلا بُشْرَى لَكُمْ } [آل عمران : 126] أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرون { وَلِتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ } [آل عمران : 126] كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 126] لا من عند المقاتلة ولا من عند الملائكة ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة { الْعَزِيزُ } الذي لا يغالب في أحكامه { الْحَكِيمُ } الذي يعطي النصر لأوليائه ويبتليهم بجهاد أعدائه.
واللام في { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [آل عمران : 127] ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش متعلقه بقوله : ولقد نصركم الله .
أو بقوله : وما النصر إلا من عند الله " .
أو بـ يمددكم ربكم { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } [آل عمران : 127] أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ، وحقيقة الكبت شدّة وهن تقع في القلب فيصرع في الوجه لأجله { فَيَنقَلِبُوا خَآئِبِينَ } [آل عمران : 127] فيرجعوا غير ظافرين بمبتغاهم { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامْرِ شَىْءٌ } [آل عمران : 128] اسم ليس شيء والخبر لك ومن الأمر حال من شيء لأنها صفة مقدمة { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [الأحزاب : 24] عطف على ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ووليس لك من الأمر شيء اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا
(1/178)
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } [آل عمران : 128] إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم.
وعن الفراء " أو " بمعنى " حتى " .
وعن ابن
271
عيسى بمعنى إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي أي ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم.
وقيل : أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه أن فيهم من يؤمن { فَإِنَّهُمْ ظَـالِمُونَ } [آل عمران : 128] مستحقون للتعذيب.
{ وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } أي الأمر له لا لك لأن ما في السموات وما في الأرض ملكه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [آل عمران : 129] للمؤمنين { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 284] الكافرين { تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَـابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الانَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ } مضعفّة مكي وشامي.
هذا نهي عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله يقول : إما أن تقضي حقي أو تربي وتزيد في الأجل { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في أكله { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ } كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه ، وقد أمد ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران : 132] وفيه رد على المرجئة في قولهم " لا يضر مع الإيمان ذنب ولا يعذب بالنار أصلاً " وعندنا غير الكافرين من العصاة قد يدخلها ولكن عاقبة أمره الجنة.
وفي ذكره تعالى " لعل " و " عسى " في نحو هذه المواضع وإن قال أهل التفسير إن " لعل " و " عسى " من الله للتحقيق ، ما لا يخفى على العارف من دقة مسلك التقوى وصعوبة إصابة رضا الله تعالى وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه.
272
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
(1/179)
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ } [آل عمران : 133] سارعوا : مدني وشامي.
فمن أثبت الواو عطفها على ما قبلها ، ومن حذفها استأنفها.
ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يوصل إليهما.
ثم قيل : هي الصلوات الخمس أو التكبيرة الأولى ، أو الطاعة ، أو الإخلاص ، أو التوبة ، أو الجمعة والجماعات.
{ عَرْضُهَا السَّمَـاوَاتُ وَالارْضُ } أي عرضها عرض السماوات والأرض كقوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الحديد : 21] (الحديد : 12).
والمراد وصفها بالسعة والبسط فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه.
وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.
وما روي أن الجنة في السماء السابعة أو في السماء الرابعة فمعناه أنها في جهتها لا أنها فيها أو في بعضها كما يقال في الدار بستان وإن كان يزيد عليها لأن المراد أن بابه إليها { أُعِدَّتْ } في موضع جر صفة لـ " جنة " أيضاً أي جنة واسعة معدة { لِّلْمُتَّقِينَ } ودلت الآيتان على أن الجنة والنار مخلوقتان.
ثم المتقي من يتقي الشرك كما قال { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالارْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } [الحديد : 21] أو من يتقي المعاصي فإن كان المراد الثاني فهي لهم بغير عقوبة ، وإن كان الأول فهي لهم أيضاً في العاقبة ، ويوقف عليه إن جعل { الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ } [آل عمران : 134] في حال اليسر والعسر مبتدأ وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة وجعل الخبر أولئك .
وإن جعل وصفاً للمتقين وعطف عليه والذين إذا فعلوا فاحشة أي أعدت للمتقين والتائبين فلا وقف.
فإن قلت : الآية تدل على أن الجنة معدة للمتقين والتائبين دون المصرين.
قلت : جاز أن تكون معدة لهما ثم يدخلها بفضل الله وعفوه غيرهما كما يقال " أعدت هذه المائدة للأمير " ثم قد يأكلها أتباعه.
ألا ترى أنه قال واتقوا النار التي أعدت للكافرين ثم قد يدخلها غير الكافرين بالاتفاق واففتح بذكر الانفاق لانه أشق شيء على النفس وأدله على الاخلاص ولانه كان في ذلك الوقت أعظم للحاجة اليه في مجاهدة العدو
273
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
(1/180)
ومواساة فقراء المسلمين وقيل المراد الانفاق في جميع الاحوال لانها لا تخلو من حال مسرة ومضرة { الْغَيْظِ } والممسكين الغيظ عن الإمضاء يقال كظم القربة إذا امتلأها وشد فاها ، ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً.
والغيظ : توقد حرارة القلب من الغضب ، وعن النبي عليه السلام من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } [آل عمران : 134] أي إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا .
وعن ابن عيينة أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران : 134] اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون ، أو للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء.
عن الثورى : الإحسان أن تحسن إلى المسيء فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة.
{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً } [آل عمران : 135] فعلة متزايدة القبح ، ويجوز أن يكون ووالذين مبتدأ خبره أولئك { أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [آل عمران : 135] قيل : الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، أو الفاحشة الزنا وظلم النفس القبلة واللمسة ونحوهما { ذَكَرُوا اللَّهَ } [آل عمران : 135] بلسانهم أو بقلوبهم ليبعثهم على التوبة { فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران : 135] فتابوا عنها لقبحهما نادمين.
قيل : بكى إبليس حين نزلت هذه الآية { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } [آل عمران : 135] من مبتدأ ويغفر خبره ، وفيه ضمير يعود إلى من وإلا الله بدل من الضمير في يغفر والتقدير : ولا أحد يغفر الذنوب إلا الله ، وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وبيان لسعة رحمته وقرب مغفرته من التائب ، وإشعار بأن الذنوب وإن جلّت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم.
{ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا } [آل عمران : 135] ولم يقيموا على قبيح فعلهم والإصرار
274
الإقامة قال عليه السلام ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة وروي لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 75] حال من الضمير في ولم يصروا أي وهم يعلمون أنهم أساءوا ، أو وهم يعلمون أنه لا يغفر ذنوبهم إلا الله { أؤلئك } الموصوفون { جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [آل عمران : 136] بتوبته { وَجَنَّـاتٍ } برحمته { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ } [آل عمران : 136] المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك يعني المغفرة والجنات ، نزلت في تمار قال لامرأة تريد التمر : في بيتي تمر أجود ، فأدخلها بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فندم.
أو في أنصاري استخلفه ثقفي وقد آخى بينهما النبي عليه السلام في غيبة غزوة فأتى أهله لكفاية حاجة فرآها فقبلها فندم فساح في الأرض صارخاً فاستعتبه الله تعالى.
{ قَدْ خَلَتْ } [غافر : 85] مضت { مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } [آل عمران : 137] يريد ما سنه الله تعالى في الأمم المكذبين من وقائعه { فَسِيرُوا فِى الارْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [آل عمران : 137] فتعتبروا بها هذا أي القرآن أو ما تقدم ذكره { بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى } [آل عمران : 138] أي إرشاد { وَمَوْعِظَةً } ترغيب وترهيب { لِّلْمُتَّقِينَ } عن الشرك { وَلا تَهِنُوا } [النساء : 104] ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم من الهزيمة { وَلا تَحْزَنُوا } [فصلت : 30] على ما فاتكم من الغنيمة أو على من قتل منكم أو جرح ، وهو تسلية من الله لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية لقلوبهم { وَأَنتُمُ الاعْلَوْنَ } [آل عمران : 139] وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد ، أو وأنتم الأعلون بالنصر والظفر في العاقبة وهي بشارة لهم بالعلو والغلبة
275
(1/181)
وإن جندنا لهم الغالبون ، أو وأنتم الأعلون شأناً لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتاً لهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر ، أو لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] متعلق بالنهي أي ولا تهنوا إن صح إيمانكم يعني أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بوعد الله وقلة المبالاة بأعدائه ، أو بـ الأعلون أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله به ويبشركم به من الغلبة.
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [آل عمران : 140] بضم القاف حيث كان : كوفي غير حفص.
ويفتح القاف : غيرهم.
وهما لغتان كالضعف والضعف.
وقيل : بالفتح الجراحة وبالضم ألمها { فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } [آل عمران : 140] أي إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يمنعهم عن معاودتكم إلى القتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا { وَتِلْكَ } مبتدأ { الايَّامِ } صفته والخبر { نُدَاوِلُهَا } نصرفها { بَيْنَ النَّاسِ } [النساء : 58] أي نصرف ما فيها من النعم والنقم نعطي لهؤلاء تارة وطوراً لهؤلاء كبيت الكتاب :
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
فيوماً علينا ويوماً لنا
ويوماً نساء ويوماً نسر
{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران : 140] أي نداولها لضروب من التدبير وليعلم الله المؤمنين مميزين بالصبر والإيمان من غيرهم كما علمهم قبل الوجود { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } [آل عمران : 140] وليكرم ناساً منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد ، أو ليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة من قوله { لِّتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } [البقرة : 143] (البقرة : 341) { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ } [آل عمران : 57] اعتراض بين بعض التعليل وبعض ، ومعناه والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيله وهم المنافقون والكافرون { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [آل عمران : 141] التمحيص : التطهير والتصفية { وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِينَ } [آل عمران : 141] ويهلكهم يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص ، وإن كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو آثارهم }
276
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ } [البقرة : 214] أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار أي لا تحسبوا { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَـاهَدُوا مِنكُمْ } [آل عمران : 142] أي ولما تجاهدون لأن العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقة لأنه منتف بانتفائه ، تقول : ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه.
ولما بمعنى " لم " إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل { وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ } [آل عمران : 142] نصب بإضمار " أن " والواو بمعنى الجمع نحو " لا تأكل السمك وتشرب اللبن " ، أو جزم للعطف على يعلم الله ، وإنما حركت الميم لالتقاء الساكنين واختيرت الفتحة لفتحة ما قبلها.
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } [آل عمران : 143] خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لينالوا كرامة الشهادة ، وهم الذين ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعني وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
(1/182)
{ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } [آل عمران : 143] أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل إخوانكم بين أيديكم وشارفتم أن تقتلوا ، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه.
وإنما تمنوا الشهادة لينالوا كرامة الشهداء من غير قصد إلى ما يتضمنه من غلبة الكفار كمن شرب الدواء من طبيب نصراني فإن قصده حصول الشفاء ولا يخطر بباله أن فيه جر منفعة إلى عدو الله وتنفيقاً لصناعته.
لما رمى ابن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكسر رباعيته أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير ـــــ وهو صاحب الراية ـــــ حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : قتلت محمداً وخرج صارخ ـــــ قيل هو الشيطان ـــــ ألا إن محمداً قد قتل.
ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤوا وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعو : إليّ عباد الله حتى انحازت
277
إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فولينا مدبرين فنزل { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } [آل عمران : 144] مضت { مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } [آل عمران : 144] فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن المقصود من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة لا وجوده بين أظهر قومه { أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ } [آل عمران : 144] الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لأنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد عليه السلام لا للانقلاب عنه ، والانقلاب على العقبين مجاز عن الارتداد أو عن الإنهزام { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شيئا } [آل عمران : 144] وإنما ضر نفسه { وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّـاكِرِينَ } [آل عمران : 144] الذين لم ينقلبوا ، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
{ وَمَا كَانَ } [التوبة : 114] وما جاز { لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } [آل عمران : 145] أي بعلمه أو بأن يأذن ملك الموت في قبض روحه ، والمعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله ، وفيه تحريض على الجهاد ، وتشجيع على لقاء العدو ، وإعلام بأن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المهالك واقتحم المعارك { كِتَـابًا } مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتاباً { مُّؤَجَّلا } مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر { وَمَن يُرِدِ } [المائدة : 41] بقتاله { ثَوَابَ الدُّنْيَا } [النساء : 134] أي الغنيمة وهو تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد { نُؤْتِهِ مِنْهَا } [آل عمران : 145] من ثوابها { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخِرَةِ } [آل عمران : 145] أي إعلاء كلمة الله والدرجة في الآخر { نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ } [آل عمران : 145] وسنجزي الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
278
(1/183)
{ وَكَأَيِّن } أصله أي دخل عليه كاف التشبيه وصارا في معنى كم التي للتكثير.
وكائن بوزن كاع حيث كان : مكي { مِّن نَّبِىٍّ قَـاتَلَ } [آل عمران : 146] قتل : مكي وبصري ونافع.
{ مَعَهُ } حال من الضمير في قتل أي قتل كائناً معه { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [آل عمران : 146] والربيون الربانيون.
وعن الحسن بضم الراء وعن البعض بفتحها ، فالفتح على القياس لأنه منسوب إلى الرب ، والضم والكسر من تغييرات النسب { فَمَا وَهَنُوا } [آل عمران : 146] فما فتروا عند قتل نبيهم { لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا } [آل عمران : 146] عن الجهاد بعده { وَمَا اسْتَكَانُوا } [آل عمران : 146] وما خضعوا لعدوهم ، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن عند الإرجاف بقتل رسول الله عليه السلام واستكانتهم لهم حيث أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ } [آل عمران : 146] على جهاد الكافرين.
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [آل عمران : 147] أي وما كان قولهم إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين هضماً لها { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } [آل عمران : 147] تجاوزنا حد العبودية { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } [البقرة : 250] في القتال { وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [البقرة : 250] بالغلبة.
وقدم الدعاء بالاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على الأعداء ، لأنه أقرب إلى الإجابة لما فيه من الخضوع والاستكانة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 269
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
{ فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا } أي النصرة والظفر والغنيمة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخِرَةِ } [آل عمران : 148] المغفرة والجنة.
وخص بالحسن دلالة على فضله وتقدمه وأنه هو المعتد به عنده { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران : 134] أي هم محسنون والله يحبهم.
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـافِرِينَ } يرجعوكم إلى الشرك { فَتَنقَلِبُوا خَـاسِرِينَ } [آل عمران : 149] قيل : هو عام في جميع الكفار وعلى المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء حتى لا يستجروهم إلى
279
موافقتهم.
وعن السدي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم.
وقال علي رضي الله عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم { بَلِ اللَّهُ مَوْلَـاـاـكُمْ } [آل عمران : 150] ناصركم فاستغنوا عن نصرة غيره { وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ } الرعب شامي وعلي وهما لغتان.
قيل : قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة { بِمَآ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ } [آل عمران : 151] بسبب إشراكهم أي كان السبب في إلقاء الله الرعب في قلوبهم إشراكهم به { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـانًا } [آل عمران : 151] آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة ، ولم يرد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم لأن الشرك لا يستقيم أن تقوم عليه حجة ، وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
أي ليس بها ضب فينجحر ، ولم يعن أن بها ضباً ولا ينجحر { وَمَأْوَاهُمُ } مرجعهم { النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ } [آل عمران : 151] النار فالمخصوص بالذم محذوف.
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه إلى المدينة قال ناس من أصحابه ، من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فنزل { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } [آل عمران : 152] أي حقق { إِذْ تَحُسُّونَهُم } [آل عمران : 152] تقتلونهم قتلاً ذريعاً.
وعن ابن عيسى : حسه أبطل حسه بالقتل { بِإِذْنِهِ } بأمره وعلمه
280
(1/184)
{ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } [آل عمران : 152] جبنتم { وَتَنَـازَعْتُمْ فِى الامْرِ } [آل عمران : 152] أي اختلفتم { وَعَصَيْتُم } أمر نبيكم بترككم المركز واشتغالكم بالغنيمة { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } من الظفر وقهر الكفار.
ومتعلق إذا محذوف تقديره حتى إذا فشلتم منعكم نصره ، وجاز أن يكون المعنى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } [آل عمران : 152] أي الغنيمة وهم الذين تركوا المركز لطلب الغنيمة.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا ـــــ كانت الدولة للمسلمين أو عليهم ـــــ فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا ، والمسلمون على آثارهم يقتلونهم.
حتى إذا فشلوا وتنازعوا فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا هاهنا ، فادخلوا عسكر المسلمين وخذوا الغنيمة مع إخوانكم ، وقال بعضهم : لا تخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
فمن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخِرَةَ } [آل عمران : 152] فكر المشركون على الرماة وقتلوا عبد الله بن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا وهو قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } [آل عمران : 152] أي كف معونته عنكم فغلبوكم { لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم عندها وحقيقته ليعاملكم معاملة المختبر لأنه يجازي على ما يعمله العبد لا على ما يعلمه منه { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } [آل عمران : 152] حيث ندمتم على ما فرط منكم من عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 152] بالعفو عنهم وقبول توبتهم ، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة.
وانتصب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
{ إِذْ تُصْعِدُونَ } [آل عمران : 153] تبالغون في الذهاب في صعيد الأرض ، والإصعاد الذهاب في صعيد الأرض أو الإبعاد فيه بصرفكم ، أو بقوله ليبتليكم أو بإضمار " اذكروا " { وَلا تَلْوُانَ عَلَى أَحَدٍ } [آل عمران : 153] ولا تلتفون وهو عبارة عن غاية انهزامهم
281
وخوف عدوهم { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ } [آل عمران : 153] يقول " إليّ عباد الله أنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من يكر فله الجنة " والجملة في موضع الحال { فِى أُخْرَاـاكُمْ } [آل عمران : 153] في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة.
يقال جئت في آخر الناس وأخرهم كما تقول في أولهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى { فَأَثَـابَكُمْ } عطف على صرفكم أي فجازاكم الله { غَمَّا } حين صرفكم عنهم وابتلاكم { بِغَمٍّ } بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعصيانكم أمره أو غماً مضاعفاً ، غماً بعد غم وغماً متصلاً بغم ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله عليه السلام والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر { لِّكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } [آل عمران : 153] لتتمرنوا على تجرع الغموم فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع { وَلا مَآ أَصَـابَكُمْ } [آل عمران : 153] ولا على مصيب من المضار { وَاللَّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [آل عمران : 153] عالم بعملكم لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهذا ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية.
{ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا } [آل عمران : 154] ثم أنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم.
عن أبي طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه.
والأمنة الأمن ، ونعاساً بدل من أمنة أو هو مفعول وأمنة حال منه مقدمة عليه نحو " رأيت راكباً رجلاً " والأصل أنزل عليكم نعاساً ذا أمنة إذ النعاس ليس هو الأمن ، ويجوز أن يكون أمنة مفعولاً له أو حالاً من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
{ يَغْشَى } يعني النعاس.
تغشى بالتاء والإمالة :
282
(1/185)
حمزة وعلي أي الأمنة { طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ } [الأعراف : 87] هم أهل الصدق واليقين { وَطَآ ـاِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ } [آل عمران : 154] ما يهمهم إلا هم أنفسهم وخلاصها لا همّ الدين ولا همّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين رضوان الله عليهم { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } [آل عمران : 154] في حكم المصدر أي يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به وهو أن لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلّم { ظَنَّ الْجَـاهِلِيَّةِ } [آل عمران : 154] بدل منه والمراد الظن المختص بالملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامْرِ مِن شَىْءٍ } [آل عمران : 154] هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط يعنون النصر والغلبة على العدو { قُلْ إِنَّ الامْرَ } [آل عمران : 154] أي النصر والغلبة { كُلُّهُ لِلَّهِ } [الانفال : 39] ولأوليائه المؤمنين { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ } [الصافات : 173] كله تأكيد للأمر ولله خبر " أن " كله بصري وهو مبتدأ ولله خبره والجملة خبر " ان " { يُخْفُونَ فِى أَنفُسِهِم مَّا لا يُبْدُونَ لَكَ } [آل عمران : 154] خوفاً من السيف { يَقُولُونَ } في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم إن الأمر كله لله { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـاهُنَا } [آل عمران : 154] أي لو كان الأمر كما قال محمد " إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون " لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة.
قد أهمتهم " صفة لـ " طائفة " ويظنون خبر لـ " طائفة " أو صفة أخرى ، أو حال أي قد أهمتهم أنفسهم ظانين.
ويقولون بدل من يظنون ويخفون حال من يقولون وقل إن الأمر كله لله اعتراض بين الحال وذي الحال ويقولون بدل من يخفون أو استئناف { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
آل عمران : 154] أي من علم الله منه أنه يقتل في هذه المعركة وكتب ذلك في اللوح لم يكن به من وجوده ، فلو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } [آل عمران : 154] مصارعهم بأحد ليكون ما علم الله أنه يكون ، والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم { وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } [آل عمران : 154] وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان فعل ذلك.
أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص { وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران : 154] بخفياتها.
283
(1/186)
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ } [آل عمران : 155] انهزموا { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [آل عمران : 155] جمع محمد عليه السلام وجمع أبي سفيان للقتال بأحد { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـانُ } [آل عمران : 155] دعاهم إلى الزلة وحملهم عليها { بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } [آل عمران : 155] بتركهم المركز الذي أمرهم رسول الله بالثبات فيه فالإضافة إلى الشيطان لطف وتقريب والتعليل بكسبهم وعظ وتأديب.
وكان أصحاب محمد عليه السلام تولوا عنه يوم أحد إلا ثلاثة عشر رجلاً منهم أبو بكر وعلي وطلحة وابن عوف وسعد بن أبي وقاص والباقون من الأنصار { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [آل عمران : 155] تجاوز عنهم { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 235] للذنوب { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة { حَلِيمٌ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا } كابن أبيّ وأصحابه { وَقَالُوا لاخْوَانِهِمْ } [آل عمران : 156] أي في حق إخوانهم في النسب أو في النفاق { إِذَا ضَرَبُوا فِى الارْضِ } [آل عمران : 156] سافروا فيها للتجارة أو غيرها { أَوْ كَانُوا غُزًّى } [آل عمران : 156] جمع غازٍ كعافٍ وعفّى وأصابهم موت أو قتل { لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } [آل عمران : 156] اللام يتعلق بـ " لا تكونوا " أي لا تكونوا كهؤلاء في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم ، أو بـ قالوا " أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون ذلك حسرة في قلوبهم والحسرة الندامة على فوت المحبوب { وَاللَّهُ يُحْىِ وَيُمِيتُ } [آل عمران : 156] رد لقولهم " إن القتال يقطع الآجال " أي الأمر بيده قد يحيي المسافر والمقاتل.
ويميت المقيم والقاعد
284
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [البقرة : 265] فيجازيكم على أعمالكم.
يعملون مكي وحمزة وعلي أي الذين كفروا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 279
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ } [آل عمران : 157] متم وبابه بالكسر : نافع وكوفي غير عاصم ، تابعهم حفص إلا في هذه السورة كأنه أراد الوفاق بينه وبين قتلتم.
غيرهم : بضم الميم في جميع القرآن ، فالضم من مات يموت ، والكسر من مات يمات كخاف يخاف فكما تقول خفت تقول مت { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ما بمعنى الذي والعائد محذوف وبالياء : حفص { وَلَـاـاِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لالَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } [آل عمران : 158] لإلى الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون.
ولوقوع اسم الله في هذا الموضع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن غني عن البرهان.
لمغفرة جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط ، وكذلك لالى الله تحشرون كذب الكافرين أولاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزا لو كان بالمدينة لما مات ، ونهي المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ثم قال لهم : ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل الله فإن ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ، فإن الدنيا زاد المعاد فإذا وصل العبد إلى المراد لم يحتج إلى الزاد.
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } [آل عمران : 159] ما مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله.
ومعنى الرحمة ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا } [آل عمران : 159] جافياً { غَلِيظَ الْقَلْبِ } [آل عمران : 159] قاسيه { انفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم { فَاعْفُ عَنْهُمْ } [آل عمران : 159] ما كان منهم يوم أحد مما يختص بك { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ } [النور : 62] فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم
285
(1/187)
{ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامْرِ } [آل عمران : 159] أي في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي تطييباً لنفوسهم وترويحاً لقلوبهم ورفعاً لأقدارهم ، ولتقتدي بك أمتك فيها.
في الحديث ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ومعنى شاورت فلاناً أظهرت ما عندي وما عنده من الرأي.
وشرت الدابة استخرجب جريها ، وشرت العسل أخذته من مآخذه ، وفيه دلالة جواز الاجتهاد وبيانا أن القياس حجة
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ فَإِذَا عَزَمْتَ } [آل عمران : 159] فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران : 159] في إمضاء أمرك على الأرشد لا على المشورة { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [آل عمران : 159] عليه والتوكل الاعتماد على الله والتفويض في الأمور إليه.
وقال ذو النون : خلع الأرباب وقطع الأسباب { إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران : 160] كما نصركم يوم بدر { فَلا غَالِبَ لَكُمْ } [آل عمران : 160] فلا أحد يغلبكم وإنما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه وقدرته { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } [آل عمران : 160] كما خذلكم يوم أحد { فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ } [آل عمران : 160] من بعد خذلانه وهو ترك المعونة ، أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان تريد إذا جاوزته ، وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [آل عمران : 122] وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يقتضي ذلك.
{ وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ } [آل عمران : 161] مكي وأبو عمرو وحفص وعاصم أي يخون ،
286
وبضم الياء وفتح الغين : غيرهم.
يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً إذا أخذه في خفية ، ويقال أغله إذا وجده غالاً ، والمعنى ما صح له ذلك يعني أن النبوة تنافي الغلول ، وكذا من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى هذا لأن معناه : وما صح له أن يوجد غالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً.
روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر مما أصيب من المشركين فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخذها فنزلت الآية { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [آل عمران : 161] أي يأت بالشيء الذي غله بعينه حاملاً له على ظهره كما جاء في الحديث أو يأت بما احتمل من وباله وإثمه { ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } [البقرة : 281] تعطي جزاءها وافياً ولم يقل " ثم يوفى ما كسب " ليتصل بقوله ومن يغلل بل جيء بعام ليدخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى وهو أبلغ ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزى فموفى جزاءه علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي جزاء كل على قدر كسبه { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ } [آل عمران : 162] أي رضا الله قيل هم المهاجرون والأنصار { كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 162] وهم المنافقون والكفار { وَمَأْوَاـاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 162] المرجع { هُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ اللَّهِ } [آل عمران : 163] هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات أو ذوو درجات ، والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين أو التفاوت بين الثواب والعاقب { وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 96] عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم على حسبها.
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 164].
على من آمن مع رسول الله عليه السلام من قومه ، وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِّنْ أَنفُسِهِمْ } [آل عمران : 164] من جنسهم عربياً مثلهم أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده ، والمنة في ذلك من حيث إنه إذا كان منهم كان اللسان واحد فيسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه
287
(1/188)
عنه ، وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه ، وكان لهم شرف بكونه منهم.
وفي قراءة رسول الله من أنفسهم أي من أشرفهم { يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ } [آل عمران : 164] أي القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي { وَيُزَكِّيهِمْ } ويطهرهم بالإيمان من دنس الكفر والطغيان أو يأخذ منهم الزكاة { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ } [آل عمران : 164] القرآن والسنة { وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ } [الروم : 49] من قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم { لَفِى ضَلَـال } [الشورى : 18] عمى وجهالة { مُّبِينٌ } ظاهر لا شبهة فيه إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والتقدير : وإن الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال مبين.
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ أَوَ لَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ } [آل عمران : 165] يريد ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا } [آل عمران : 165] يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين وهو في موضع رفع صفة لـ " مصيبة " { قُلْتُمْ أَنَّى هَـاذَا } [آل عمران : 165] من أين هذا { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } [آل عمران : 165] لاختياركم الخروج من المدينة أو لترككم المركز.
لما نصب بـ " قلتم " وأصابتكم في محل الجر بإضافة لما إليه وتقديره : أقلتم حين أصابتكم.
وأنى هذا نصب لأنه مقول والهمزة للتقرير والتقريع ، وعطفت الواو هذه الجملة على ما مضى من قصة أحد من قوله : ولقد صدقكم الله وعده .
أو على محذوف كأنه قيل : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 20] يقدر على النصر وعلى منعه.
{ وَمَآ أَصَـابَكُم } [الشورى : 30] ما بمعنى " الذي " وهو مبتدأ { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [آل عمران : 155] جمعكم وجمع المشركين بأحد والخبر { فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [الحشر : 5] فكائن بأذن الله أي بعلمه وقضائه { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا } وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون وليظهر
288
إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء { وَقِيلَ لَهُمْ } [الشعراء : 92] للمنافقين وهو كلام مبتدأ { تَعَالَوْا قَـاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [آل عمران : 167] أي جاهدوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون { أَوِ ادْفَعُوا } [آل عمران : 167] أي قاتلوا دفعاً على أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم تقاتلوا للآخرة.
وقيل : أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين إن لم تقاتلوا لأن كثرة السواد مما تروع العدو { قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا اتَّبَعْنَـاكُمْ } أي لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم ليس بشيء ، ولا يقال لمثله قتال إنما هو إلقاء النفس في التهلكة { اتَّبَعْنَـاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَـاـاِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلايمَـانِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
(1/189)
آل عمران : 167] يعني أنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان قبل ذلك وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر ، أو هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليلهم سواد المؤمنين بالانخذال تقوية للمشركين { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } [آل عمران : 167] أي يظهرون خلاف ما يضمرون من الإيمان وغيره والتقييد بالأفواه للتأكيد ونفي المجاز { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } [آل عمران : 167] من النفاق { الَّذِينَ قَالُوا } [المائدة : 41] أي ابن أبيّ وأصحابه وهو في موضع رفع على " هم " الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون أو نصب بإضمار أعني ، أو على البدل من الذين نافقوا أو جر على البدل من الضمير في أفواههم أو قلوبهم { لاخْوَانِهِمْ } لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد { وَقَعَدُوا } أي قالوا وقد قعدوا عن القتال { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران : 168] لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والقعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [آل عمران : 168] بأن الحذر ينفع من القدر فخذوا حذركم من الموت ، أو معناه قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً.
ونزل في قتلى أحد { وَلا تَحْسَبَنَّ } [آل عمران : 169] شامي وحمزة وعلي وعاصم ، وبكسر السين غيرهم :
289
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أو لكل أحد { الَّذِينَ قَتَلُوا } [الأنعام : 140] قتلوا : شامي { فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ } [آل عمران : 169] بل هم أحياء { عِندَ رَبِّهِمْ } [فاطر : 39] مقربون عنده ذوو زلفى { يُرْزَقُونَ } مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون ، وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله فرحين حال من الضمير في يرزقون
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [آل عمران : 170] وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها.
وقال النبي عليه السلام لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش وقيل : هذا الرزق في الجنة يوم القيامة وهو ضعيف لأنه لا يبقى للتخصيص فائدة { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ } [آل عمران : 170] بإخوانهم المجاهدين الذين { لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم } [آل عمران : 170] لم يقتلوا فيلحقوا بهم { مِّنْ خَلْفِهِمْ } [آل عمران : 170] يريد الذين من خلفهم قد بقوا من بعدهم وهم قد تقدموهم أو لم يلحقوا بهم لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [آل عمران : 170] بدل من الذين والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة ، بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به.
وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم ، بعثٌ للباقين بعدهم على الجد في الجهاد والرغبة في نيل منازل الشهداء { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38].
جزء : 1 رقم الصفحة : 285
{ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } [آل عمران : 171] يسرون بما أنعم الله عليهم وما تفضل عليهم من زيادة الكرامة { وَأَنَّ اللَّهَ } [المائدة : 97] عطف على النعمة والفضل.
وإن الله : عليٌّ بالكسر على الاستئناف وعلى أن الجملة اعتراض { لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 290
آل عمران : 171] بل يوفر عليهم.
{ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } [آل عمران : 172] مبتدأ خبره للذين أحسنوا ، أو صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح { مِن بَعْدِ مَآ أَصَـابَهُمُ الْقَرْحُ } [آل عمران : 172] الجرح.
روي أن أبا
290
(1/190)
سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب النبيّ أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فخرج يوم الأحد من المدينة مع سبعين رجلاً حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدنية على ثمانية أميال ، وكان بأصحابه القرح فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا } [آل عمران : 172] من للتبيين.
مثلها في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [الفتح : 29] (الفتح : 92).
لأن الذين استجابوا الله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم { أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران : 172] في الآخرة.
{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } [آل عمران : 173] بدل من الذين استجابوا { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } [آل عمران : 173] روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد : يا محمد موعدنا موسم بدر القابل.
فقال عليه السلام " إن شاء الله " ، فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وقد بدا لي أن أرجع فالحق بالمدينة ، فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : أتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم فوالله لا يفلت منكم أحد فقال عليه السلام " والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال وكانت معهم تجارة فباعوها وأصابوا خيراً ، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ولم يكن قتال ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتأكلوا السويق.
فالناس الأول نعيم وهو جمع أريد به الواحد أو كان له أتباع يثبطون مثل تثبيطه ، والثاني أبو سفيان وأصحابه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 290
{ فَاخْشَوْهُمْ } فخافوهم { فَزَادَهُمُ } أي المقول الذي هو إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم أو القول ، أو
291
(1/191)
نعيم { إِيمَـانًا } بصيرة وإيقاناً { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } [التوبة : 59] كافينا الله أي الذي يكفينا الله.
يقال أحسبه الشيء إذا كفاه وهو بمعنى المحسب بدليل أنك تقول " هذا رجل حسبك " فتصف به النكرة لأن إضافته غير حقيقية لكونه في معنى اسم الفاعل { وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران : 173] ونعم الموكول إليه هو { فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } [آل عمران : 174] وهي السلامة وحذر العدو منهم { وَفَضَّلَ } وهو الربح في التجارة فأصابوا بالدرهم درهمين { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُواءٌ } [آل عمران : 174] لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدو وهو حال من الضمير في انقلبوا ، وكذا بنعمة والتقدير : فرجعوا من بدر منعمين بريئين من سوء { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ } [آل عمران : 174] بجرأتهم وخروجهم إلى وجه العدو على أثر تثبيطه وهو معطوف على انقلبوا { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران : 174] قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا.
{ إِنَّمَا ذَالِكُمُ الشَّيْطَـانُ } [آل عمران : 175] هو خبر ذلكم أي إنما ذلك المثبط هو الشيطان وهو نعيم { يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ } [آل عمران : 175] أي المنافقين وهو جملة مستأنفة بيان لشيطنته ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ويخوف الخبر { فَلا تَخَافُوهُمْ } [آل عمران : 175] أي أولياءه { وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [آل عمران : 175] لأن الإيمان يقتضي أن يؤثر العبد خوف الله على خوف غيره.
و " خافوني " في الوصل والوقف : سهل ويعقوب ، وافقهما أبو عمرو في الوصل.
{ وَلا يَحْزُنكَ } [آل عمران : 176] " يحزنك " في كل القرآن : نافع إلا في سورة الأنبياء { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاكْبَرُ } [الأنبياء : 103] (الأنبياء : 301) { الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ } [آل عمران : 176] يعني لا يحزنوك لخوف أن يضروك ألا ترى إلى قوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا } [آل عمران : 176] أي أولياء الله يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم وما وبال ذلك عائداً على غيرهم.
ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله { يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِى الاخِرَةِ } [آل عمران : 176] أي نصيباً من الثواب { وَلَهُمْ } بدل الثواب { عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] وذلك أبلغ ما ضر به الإنسان نفسه ،
292
والآية تدل على إرادة الكفر والمعاصي لأن إرادته أن لا يكون لهم ثواب في الآخرة لا تكون بدون إرادة كفرهم ومعاصيهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 290
(1/192)
{ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالايمَـانِ } [آل عمران : 177] أي استبدلوه به { لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شيئا } [محمد : 32] هو نصب على المصدر أي شيئاً من الضرر.
الآية الأولى فيمن نافق من المتخلفين أو ارتد عن الإسلام ، والثانية في جميع الكفار أو على العكس { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلا يَحْسَبَنَّ } وثلاثة بعدها مع ضم الباء في " يحسبنهم " بالياء : مكي وأبو عمرو ، وكلها بالتاء : حمزة ، وكلها بالياء : مدني وشامي إلا { فَلا تَحْسَبَنَّهُم } [آل عمران : 188] فإنها بالتاء.
الباقون : الأوليان بالياء والأخريان بالتاء.
{ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النمل : 67] فيمن قرأ بالياء رفع أي ولا يحسبن الكافرون.
و " أن مع اسمه وخبره في قوله { أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ } [آل عمران : 178] في موضع المفعولين لـ " يحسبن " والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا إملاءنا خيراً لأنفسهم.
وما مصدرية وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف.
وفيمن قرأ بالتاء نصب أي ولا تحسبن الكافرين وأنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الكافرين ، أي ولا تحسبن أن ما نملي للكافرين خير لهم ، وأن مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين ، والإملاء لهم إمهمالهم وإطالة عمرهم.
{ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [آل عمران : 178] ما هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى ، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها كأنه قيل : ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم؟ فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً.
والآية حجة لنا على المعتزلة في مسألتي الأصلح وإرادة المعاصي { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [آل عمران : 178].
اللام في { مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [آل عمران : 179] من اختلاط
293
المؤمنين الخلص والمنافقين لتأكيد النفي { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [آل عمران : 179] حتى يعزل المنافق عن المخلص.
يميز : حمزة وعلي.
والخطاب في أنتم للمصدقين من أهل الإخلاص والنفاق كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم
جزء : 1 رقم الصفحة : 290
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [آل عمران : 179] وما كان الله ليؤتي أحد منكم علم الغيوب فلا تتوهموا عند إخبار الرسل بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب إطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها { وَلاـَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } [آل عمران : 179] أي ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأن في الغيب كذا وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة نفسه.
والآية حجة على الباطنية فإنهم يدعون ذلك العلم لإمامهم فإن لم يثبتوا النبوة له صاروا مخالفين للنص حيث أثبتوا علم الغيب لغير الرسول ، وإن أثبتوا النبوة له صاروا مخالفين لنص آخر وهو قوله { وَخَاتَمَ النَّبِيِّـانَ } [الأحزاب : 40] (الأحزاب : 04) { فَـاَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } [آل عمران : 179] بصفة الإخلاص { وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا } [آل عمران : 179] النفاق { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [آل عمران : 179] في الآخرة.
{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ } [آل عمران : 180] من قرأ بالتاء قدر مضافاً محذوفاً أي ولا تسحبن بخل الباخلين وهو فصل وخيراً لهم مفعول ثانٍ ، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله أو ضمير أحد ، ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان التقدير : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خير لهم وهو فصل وخيراً لهم مفعول ثانٍ { بَلْ هُوَ } [العنكبوت : 49] أي البخل { شَرٌّ لَّهُمْ } [آل عمران : 180] لأن أموالهم ستزول عنهم ويبقى عليهم وبال البخل { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [آل عمران : 180] تفسير لقوله { بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } [آل عمران : 180] أي سيجعل مالهم الذي منعوه عن الحق طوقاً في أعناقهم كما جاء في الحديث من منع زكاة ماله يصير حية ذكراً
294
(1/193)
أقرع له نابان فيطوق في عنقه فينهشه ويدفعه إلى النار " { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيل الله؟ والأصل في ميراث موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
{ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة : 234] وبالياء مكي وأبو عمرو ، فالتاء على طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد ، والياء على الظاهر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 290
{ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
آل عمران : 181] قال ذلك اليهود حين سمعوا قوله تعالى : { مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة : 245] (البقرة : 542).
وقالوا : إن إله محمد يستقرض منا فنحن إذاً أغنياء وهو فقير.
ومعنى سماع الله له أنه لم يخف عليه وأنه أعد له كفاء من العقاب { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } [آل عمران : 181] سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوا في الصحائف ، أو سنحفظه إذ الكتاب من الخلق ليحفظ ما فيه فسمي به مجازاً.
وما مصدرية أو بمعنى " الذي " { وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [النساء : 155] معطوف على ما .
جعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً له بأنهما في العظم أخوان ، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول { وَنَقُولُ } لهم يوم القيامة { ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [آل عمران : 181] أي عذاب النار كما أذقتم المسلمين الغصص.
قال الضحاك : يقول لهم ذلك خزنة جهنم ، وإنما أضيف إلى الله تعالى لأنه بأمره كما في قوله سنكتب سيكتب وقتلهم ويقول : حمزة.
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من عقابهم { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران : 182] أي ذلك العذاب بما قدمتم من الكفر والمعاصي ، والإضافة إلى اليد لأن أكثر الأعمال يكون بالأيدي فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب ، ولأنه يقال للآمر بالشيء فاعله فذكر الأيدي للتحقيق يعني أنه فعل نفسه لا غيره بأمره { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } [آل عمران : 182] وبأن الله لا يظلم عباده فلا يعاقبهم بغير جرم
295
{ الَّذِينَ قَالُوا } [المائدة : 41] في موضع جر على البدل من الذين قالوا أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم { إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَآ } [آل عمران : 183] أمرنا في التوراة وأوصانا { أَلا نُؤْمِنَ } [آل عمران : 183] بأن لا نؤمن { لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } [آل عمران : 183] أي يقرب قرباناً فتنزل نار من السماء فتأكله فإن جئتنا به صدقناك ، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله لأن أكل النار القربان سبب الإيمان للرسول الآتي به لكونه معجزة فهو إذاً وسائر المعجزات سواء
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
(1/194)
{ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَـاتِ } [آل عمران : 183] بالمعجزات سوى القربان { وَبِالَّذِى قُلْتُمْ } [آل عمران : 183] أي بالقربان يعني قد جاء أسلافكم الذين أنتم على ملتهم ورضوان بفعلهم { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } [آل عمران : 183] أي إن كان امتناعكم عن الإيمان لأجل هذا فلم لم تؤمنوا بالذين أتوابه ولم قتلتموهم { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في قولكم إنما نؤخر الإيمان لهذا { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [آل عمران : 184] فإن كذبك اليهود فلا يهولنك فقد فعلت الأمم بأنبيائها كذلك { جَآءُو بِالْبَيِّنَـاتِ } [آل عمران : 184] بالمعجزات الظاهرات { وَالزُّبُرِ } الكتب جمع زبور من الزبر وهو الكتابة.
وبالزبر : شامي { وَالْكِتَـابِ } جنسه { الْمُنِيرِ } المضيء.
قيل : هما واحد في الأصل وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين ، فالزبور كتاب فيه حكم زاجرة ، والكتاب المنير هو الكتاب الهادي.
{ كُلُّ نَفْسٍ } [الأنعام : 164] مبتدأ والخبر { ذَآ ـاِقَةُ الْمَوْتِ } [العنكبوت : 57] وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من العموم ، والمعنى لا يحزنك تكذيبهم إياك فمرجع الخلق إليّ فأجازيهم على التكذيب وأجازيك على الصبر وذلك قوله { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [آل عمران : 185] أي تعطون ثواب أعمالكم على الكمال يوم القيامة فإن الدنيا ليست بدار الجزاء { فَمَن زُحْزِحَ } [آل عمران : 185] بعد ، والزحزحة : الإبعاد { عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران : 185] ظفر بالخير.
وقيل : فقد حصل له الفوز المطلق.
وقيل : الفوز نيل المحبوب والبعد
296
عن المكروه { وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا مَتَـاعُ الْغُرُورِ } شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس الغرور.
وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ.
وعن الحسن : كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل لها
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
{ لَتُبْلَوُنَّ } والله لتبلون أي لتختبرن { فِى أَمْوَالِكُمْ } [آل عمران : 186] بالإنفاق في سبيل الله وبما يقع فيها من الآفات { وَأَنفُسَكُمْ } بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليه من أنواع المخاوف والمصائب ، وهذه الآية دليل على أن النفس هي الجسم المعاين دون ما فيه من المعنى الباطن كما قال بعض أهل الكلام والفلاسفة ، كذا في شرح التأويلات { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ } [آل عمران : 186] يعني اليهود والنصارى { وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } [آل عمران : 186] كالطعن في الدين وصد من أراد الإيمان وتخطئة من آمن ونحو ذلك { وَأَن تَصْبِرُوا } [النساء : 25] على أذاهم { وَتَتَّقُوا } مخالفة أمر الله { فَإِنَّ ذَالِكَ } [آل عمران : 186] فإن الصبر والتقوى { مِنْ عَزْمِ الامُورِ } [آل عمران : 186] من معزومات الأمور أي مما يجب العزم عليه من الأمور ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [آل عمران : 187] واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران : 187] عن الناس بالتاء على حكاية مخاطبتهم كقوله { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَـابِ لَتُفْسِدُنَّ } [الإسراء : 4] (الإسراء : 4) وبالياء : مكي وأبو عمرو وأبو بكر ، لأنهم غيب والضمير للكتاب ، أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران : 187] فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم أي لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه ، والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد ، وهو دليل على أنه يجب على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من
297
(1/195)
تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم ، أو لجر منفعة أو دفع أذية ، أو لبخل بالعلم ، وفي الحديث من كتم علماً عن أهله ألجمه الله بلجام من نار { وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [آل عمران : 187] عرضاً يسيراً { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران : 187].
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
والخطاب في { لا تَحْسَبَنَّ } [النور : 57] لرسول الله وأحد المفعولين { الَّذِينَ يَفْرَحُونَ } [آل عمران : 188] والثاني بمفازة ، وقوله فلا تحسبنهم تأكيد تقديره : لا تحسبنهم فائزين { بِمَآ أَتَوا } [آل عمران : 188] بما فعلوا وهي قراءة أبيّ و " جاء " و " أتى " يستعملان بمعنى فعل { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } [مريم : 61] (مريم : 16).
{ لَقَدْ جِئْتِ شيئا فَرِيًّا } [مريم : 27] (مريم : 72).
وقرأ النخعي بما آتوا أي أعظوا { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ } [آل عمران : 188] بمنجاة منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 174] مؤلم.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا من تدليسهم ، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم أي لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ، ناجين من العذاب.
وقيل : هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم ، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة.
وفيه وعيد لمن يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب ويحب أن يحمده الناس بما ليس فيه.
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } فهو يملك أمرهما ، وفيه تكذيب لمن قال " إن الله فقير " { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 284] فهو يقدر على عقابهم.
298
{ إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَـافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لايَـاتٍ } لأدلة واضحة على صانع قديم عليم حكيم قادر { لاوْلِى الالْبَـابِ } [آل عمران : 190] لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللب عن القشر ، فيرى أن العرض المحدث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر ، لأن جوهراً ما لا ينفك عن عرض حادث وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث ، ثم حدوثها يدل على محدثها وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى ، وحسن صنعه يدل على علمه ، وإتقانه يدل على حكمته ، وبقاؤه يدل على قدرته ، قال عليه السلام ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وحكي أنه كان في بني إسرائيل من إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى فلم تظله فقالت له أمه : لعل فرطة فرطت منك في مدتك.
قال : ما أذكر.
قالت : لعلك نظرت مرة إلى السماء ولم تعتبر.
قال : لعل.
قالت : فما أوتيت إلا من ذاك
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
{ الَّذِينَ } في موضع جر نعت لـ " أولي " أو نصب بإضمار أعني أو رفع بإضمارهم { يَذْكُرُونَ اللَّهَ } [النساء : 142] يصلون { قِيَـامًا } قائمين عند القدرة { وَقُعُودًا } قاعدين { وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } [آل عمران : 191] أي مضطجعين عند العجز وقياماً وقعوداً حالان من ضمير الفاعل في يذكرون .
وعلى جنوبهم حال أيضاً ، أو المراد الذكر على كل حال لأن الإنسان لا يخلو من هذه الأحوال ، وفي الحديث من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه من عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه ، وعن النبي عليه السلام بينا رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لك رباً وخالقاً ، اللهم اغفر لي ،
299
(1/196)
فنظر الله إليه فغفر له " وقال عليه السلام لا عبادة كالتفكر وقيل ؛ الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكر.
{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـاذَا بَـاطِلا } [آل عمران : 191] أي يقولون ذلك وهو في محل الحال أي يتفكرون قائلين ، والمعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لحكمة عظيمة وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، وهذا إشارة إلى الخلق على أن المراد به المخلوق ، أو إلى السماوات والأرض لأنها في معنى المخلوق كأنه قيل : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً { سُبْحَـاـنَكَ } تنزيهاً لك عن الوصف بخلق الباطل وهو اعتراض { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران : 191] الفاء دخلت لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 295
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [آل عمران : 192] أهنته أو أهلكته أو فضحته ، واحتج أهل الوعيد بالآية مع قوله : { تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ } (التحريم : 8).
في أن من يدخل النار لا يكون مؤمناً ويخلد.
قلنا : قال جابر : إخزاء المؤمن تأديبه وإن فوق ذلك لخزياً { وَمَا لِلظَّـالِمِينَ } [البقرة : 270] اللام إشارة إلى من يدخل النار والمراد الكفار { مِنْ أَنصَارٍ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 300
البقرة : 270] من أعوان وشفعاء يشفعون لهم كما للمؤمنين { رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا } [آل عمران : 193] تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصف لم يكن منه بد وأن يقال سمعت كلام فلان.
والمنادي هو الرسول عليه السلام أو القرآن { يُنَادِى لِلايمَـانِ } [آل عمران : 193] لأجل الإيمان بالله ، وفيه تفخيم لشأن المنادي إذ لا منادي أعظم من منادٍ ينادي للإيمان { أَنْ ءَامِنُوا } [التوبة : 86] بأن آمنوا أو أي آمنوا { بِرَبِّكُمْ فَاَامَنَّا } [آل عمران : 193] قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : فيه دليل بطلان الاستثناء في الإيمان { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } [آل عمران : 193] كبائرنا { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } [آل عمران : 193] صغائرنا
300
{ وَتَوَفَّنَا مَعَ الابْرَارِ } [آل عمران : 193] مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم ، والأبرار والمتمسكون بالسنة جمع " بر " أو " بار " كـ " رب " وأرباب وصاحب وأصحاب { رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } [آل عمران : 194] أي على تصديق رسلك ، أو ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو على ألسنة رسلك ، و " على " متعلق بـ وعدتنا والموعود هو الثواب أو النصرة على الأعداء.
وإنما طلبوا إنجاز ما وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأن معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد ، أو المراد اجعلنا ممن لهم الوعد إذ الوعد غير مبين لمن هو ، أو المراد ثبتنا على ما يوصلنا إلى عدتك يؤيده قوله { وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [آل عمران : 194] أو هو إظهار للخضوع والضراعة { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران : 194] هو مصدر بمعنى الوعد.
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } [آل عمران : 195] أي أجاب يقال استجاب له واستجابه { إِنِّى } بأني { لا أُضِيعُ عَمَلَ عَـامِلٍ مِّنكُم } [آل عمران : 195] منكم صفة لـ عامل { مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 300
(1/197)
آل عمران : 195] بيان لـ عامل { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } [آل عمران : 195] الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر كلكم بنو آدم ، أو بعضكم من بعض في النصرة والدين ، وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين.
عن جعفر الصادق رضي الله عنه : من حزبه أمر فقال خمس مرات : " ربنا " ، أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ الآيات.
{ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } [آل عمران : 195] مبتدأ وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة وهي المهاجرة عن أوطانهم فارين إلى الله بدينهم إلى حيث يأمنون عليه ، فالهجرة كائنة في آخر الزمان كما كانت في أول الإسلام { وَأُخْرِجُوا مِن دِيَـارِهِمْ } [آل عمران : 195] التي ولدوا فيها ونشأوا { وَأُوذُوا فِى سَبِيلِى } [آل عمران : 195] بالشتم والضرب
301
ونهب المال يريد سبيل الدين { وَقَـاتَلُوا وَقُتِلُوا } [آل عمران : 195] وغزوا المشركين واستشهدوا ، وقتّلوا : مكي وشامي ، وقتلوا وقاتلوا على التقديم والتأخير : حمزة وعلي.
وفيه دليل على أن الواو لا توجب الترتيب والخبر.
{ لاكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلادْخِلَنَّهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ } [آل عمران : 195] وهو جواب قسم محذوف { ثَوَابًا } في موضع المصدر المؤكد يعني إثابة أو تثويباً { مِنْ عِندِ اللَّهِ } [آل عمران : 37] لأن قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم { وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } [آل عمران : 195] أي يختص به ولا يقدر عليه غيره.
وروي أن طائفة من المؤمنين قالوا : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع ، فنزل { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلَـادِ } [آل عمران : 196] والخطاب لكل أحد أو للنبي عليه السلام والمراد به غيره ، أو لأن مدرة القوم ومقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً فكأنه قيل : لا يغرنكم.
أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه كقوله { فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَـافِرِينَ } [القصص : 86] (القصص : 68) { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 14] (الأنعام : 41) وهذا في النهي نظير قوله في الأمر { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6] (الفاتحة : 7) { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا } (النساء 631).
جزء : 1 رقم الصفحة : 300
{ مَتَـاعٌ قَلِيلٌ } [آل عمران : 197] خبر مبتدإ محذوف أي تقلبهم في البلاد متاع قليل ، وأراد قتله في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة أو في جنب ما أعد الله للمؤمنين من الثواب ، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 197] وساء ما مهدوا لأنفسهم { لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ } [آل عمران : 198] عن الشرك { لَهُمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا نُزُلا } [آل عمران : 198] النزل والنزل ما يقام للنازل وهو حال من جنات لتخصصها بالصفة ، والعامل اللام في لهم أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقاً أو عطاء مّن عند
302
(1/198)
اللّه صفة له { وَمَا عِندَ اللَّهِ } [النحل : 96] من الكثير الدائم { خَيْرٌ لِّلابْرَارِ } [آل عمران : 198] مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل.
لكن بالتشديد : يزيد وهو للاستدراك أي لإبقاء لتمتعهم لكن ذلك للذين اتقوا.
ونزلت في ابن سلام وغيره من مسلمي أهل الكتاب ، أو في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [آل عمران : 199] دخلت لام الابتداء على اسم " أن " لفصل الطرف بينهما { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم } [المائدة : 68] من القرآن { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [آل عمران : 199] من الكتابين { خَـاشِعِينَ لِلَّهِ } [آل عمران : 199] حال من فاعل يؤمن لأن من يؤمن في معنى الجمع { لا يَشْتَرُونَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [آل عمران : 199] كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم وهو حال بعد حال أي غير مشترين { أُوالَـائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [آل عمران : 199] أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعده في قوله أولئك يؤتون أجرهم مرتين { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 199] لنفوذ علمه في كل شيء.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اصْبِرُوا } على الدين وتكاليفه.
قال الجنيد رضي الله عنه : الصبر حبس النفس على المكروه بنفي الجزع { وَصَابِرُوا } أعداء الله في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً { وَرَابِطُوا } وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] الفلاح : البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه ، و " لعل " لتغييب المآل لئلا يتكلموا على الآمال عن تقديم الأعمال.
وقيل : اصبروا في محبتي ، وصابروا في نعمتي ، ورابطوا أنفسكم في خدمتي لعلكم تفلحون تظفرون بقربتي.
قال النبي صلى الله عليه وسلّم " اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما " والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
303
سورة النساء
نزلت بالمدينة آياتها مائة وست وسبعون آية
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالارْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } يا بني آدم { اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [النساء : 1] فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [النساء : 1] معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها ، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه { وَبَثَّ مِنْهُمَا } [النساء : 1] ونشر من آدم وحواء { رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَآءً } [النساء : 1] كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها ، أو على خلقكم والخطاب في يا أيها الناس للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر.
فإن قلت : الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يعدو إليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها؟ قلت : لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة ، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه
304
جزء : 1 رقم الصفحة : 304(1/199)
في كفرانها.
قال عليه السلام عند نزول الآية خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب " { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ } [النساء : 1] والأصل " تتساءلون " فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس.
تساءلون به بالتخفيف : كوفي على حذف التاء الثانية استثقالاً لاجتماع التاءين أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم فيقول بالله وبالرحم : افعل كذا على سبيل الاستعطاف { وَالارْحَامَ } بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، أو على موضع الجار والمجرور كقولك " مررت بزيد وعمراً " ، وبالجر : حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف ، لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1] حافظاً أو عالماً.
{ وَءَاتُوا الْيَتَـامَى أَمْوَالَهُمْ } [النساء : 2] يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم.
واليتم : الانفراد ومنه الدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات ، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم.
وقوله عليه السلام لا يتم بعد الحلم تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار.
والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ ، وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر ، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } [النساء : 2] ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها.
والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [النساء : 2] إلى متعلقة بمحذوف وهي في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم.
والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل
305
جزء : 1 رقم الصفحة : 304
(1/200)
لكم وتسوية بينه وبين الحلال { إِنَّهُ } إن أكلها { كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [النساء : 2] ذنباً عظيماً { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا } [النساء : 3] أي لا تعدلوا.
أقسط أي عدل { فِى الْيَتَـامَى } [النساء : 3] يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم ، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير { فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم } [النساء : 3] ما حل لكم { مِّنَ النِّسَآءِ } [النساء : 22] لأن منهن ماحرم الله كاللاتي في آية التحريم.
وقيل : ما ذهاباً إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل : الطيبات من النساء ، ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النساء : 36] قيل : كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، أو كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل : إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك.
وقيل : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات.
يقال طابت الثمرة أي أدركت { مَثْنَى وَثُلَـاثَ وَرُبَـاعَ } [النساء : 3] نكرات.
وإنما منعت الصرف للعدل والوصف ، وعليه دل كلام سيبويه ومحلهن النصب على الحال من النساء أو مما طاب تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً أربعاً.
فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت : الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال ـــــ وهو ألف درهم ـــــ درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى.
وجيء بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق ، ولو جيء بـ " أو " مكانها لذهب معنى التجويز { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا } [النساء : 3] بين هذه الأعداد { فَوَاحِدَةً } فالزموا أو فاختاروا واحدة
جزء : 1 رقم الصفحة : 304
{ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النساء : 3] سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر { ذَالِكَ } إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري { أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } [النساء : 3] أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا ، يقال عال الميزان عولاً إذا مال ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار.
ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر أن لا تعولوا أن لا
306
(1/201)
تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله.
وأجيب بأن يجعل من قولك " عال الرجل عياله يعولهم " كقولك " مانهم يمونهم " إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال.
وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات { وَءَاتُوا النِّسَآءَ صَدُقَـاتِهِنَّ } [النساء : 4] مهورهن { نِحْلَةً } من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً ، وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس.
وقيل : نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن.
وقيل : النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها.
والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } [النساء : 4] للأزواج { عَن شَىْءٍ مِّنْهُ } [النساء : 4] أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات { نَفْسًا } تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقهم وسوء معاشرتكم.
وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ولم يقل " فإن وهبن لكم " إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة { فَكُلُوهُ } الهاء يعود على شيء { هَنِياـاًا } لا إثم فيه { مَّرِياـاًا } لا داء فيه ، فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة ، مريئاً في العقبى بلا تبعة ، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ، وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً ، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء ، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة.
هنياً مرياً بغير همز : يزيد ، وكذا حمزة في الوقف ، وهمزهما الباقون.
وعن علي رضي الله عنه : إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها
307
عسلاً فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركاً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 304
{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَآءَ } المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها ، والخطاب للأولياء.
وأضاف إلى الأولياء أموال السفهاء بقوله { أَمْوَالَكُمُ } لأنهم يلونها ويمسكونها
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
(1/202)
{ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَـامًا } [النساء : 5] أي قواماً لأبدانكم ومعاشاً لأهلكم وأولادكم.
قيما بمعنى قياماً : نافع وشامي كما جاء " عوذا " بمعنى " عياذا " .
وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وكان السلف يقولون : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس ، وعن سفيان ـــــ وكان له بضاعة يقلبها ـــــ لولاها لتمندل بي بنو العباس { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا } [النساء : 5] واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق { وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا } [النساء : 5] قال ابن جريج : عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم ، وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهومعروف ، وما أنكرته لقبحه فهو منكر.
{ وَابْتَلُوا الْيَتَـامَى } [النساء : 6] واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ ، فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجيء منه ، وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } [النساء : 6] أي الحلم لأنه يصلح للنكاح عنده ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد { فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ } [النساء : 6] تبينتم { رُشْدًا } هداية في التصرفات وصلاحاً في المعاملات { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء : 6] من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم هذا الكلام أن ما بعد حتى إلى { فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء : 6] جعل غاية للابتلاء وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله :
حتى ماء دجلة أشكل
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
والواقعة بعدها جملة شرطية لأن " إذا " متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط بلغوا النكاح وقوله : فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم جملة من شرط
308
وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو إذا بلغوا النكاح فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
وتنكير الرشد يفيد أن المراد رشد مخصوص وهو الرشد في التصرف والتجارة ، أو يفيد التقليل أي طرفاً من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة.
{ وَلا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا } [النساء : 6] ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فـ " إسرافاً " وبداراً " } مصدران في موضع الحال وأن يكبروا في موضع المصدر منصوب الموضع بـ بداراً ، ويجوز أن يكونا مفعولاً لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولن ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء : 6] قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيراً ، فالغنى يستعف من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم ، واستعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في أكله.
عن إبراهيم.
ما سد الجوعة ووارى العورة { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } [النساء : 6] بأنهم تسلموها وقبضوها دفعاً للتجاحد وتفادياً عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [النساء : 6] محاسباً فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب ، أو هو راجع إلى قوله فليأكل بالمعروف أي ولا يسرف فإن الله يحاسبه عليه ويجازيه به.
وفاعل كفى لفظة الله والباء زائدة و " كفى " يتعدى إلى مفعولين دليله { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ } [البقرة : 137] (البقرة : 731).
{ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ } [النساء : 7] هم المتوارثون من ذوي القرابات دون غيرهم { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
(1/203)
النساء : 7] بدل مما ترك بتكرير العامل والضمير في منه يعود إلى ما ترك نصيباً نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً مّفروضاً } مقطوعاً لا بد لهم من أن يجوزوه.
روي أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون : لا يرث إلا من طاعن بالرماح
309
وحاز الغنيمة.
فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فشكت فقال : إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية ، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت يوصيكم الله فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم وإذا حضر القسمة أي قسمة التركة أولوا القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين من الأجانب فارزقوهم فأعطوهم مّنه مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ.
وقيل : كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَّعْرُوفًا } [النساء : 5] عذراً جميلاً وعدة حسنة ، وقيل : القول المعروف أن يقولوا لهم : خذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَـافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا } [النساء : 9] المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً ، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوره حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة.
" ولو " مع ما في حيزه صلة لـ " الذين أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً ـــــ وذلك عند احتضارهم ـــــ خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم.
وجواب لو : خافوا ، والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيث ويدعوهم بـ يا بني ويا ولدي.
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَـامَى ظُلْمًا } [النساء : 10] ظالمين فهو مصدر في موضع الحال { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ } [النساء : 10] ملء بطونهم { نَارًا } أي يأكلون ما يجر إلى
310
النار فكأنه نار.
روي أنه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه فيعرف الناس أنه كان يأكل من مال اليتيم في الدنيا { وَسَيَصْلَوْنَ } وسيصلون } شامي وأبو بكر { سَعِيرًا } ناراً من النيران مبهمة الوصف.
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ } [النساء : 11] يعهد إليكم ويأمركم { فِى أَوْلَـادِكُمْ } في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } [النساء : 11] أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم " السمن منوان بدرهم " وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك ، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل : كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به.
والمراد حال الاجتماع أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين ، وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله ، والبنتان تأخذان الثلثين ، والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
(1/204)
{ فَإِن كُنَّ نِسَآءً } [النساء : 11] أي فإن كانت الأولاد نساء خلصاً يعني بناتاً ليس معهن ابن { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } [النساء : 11] خبر ثانٍ لكان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [النساء : 11] أي الميت لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } [النساء : 11] أي وإن كانت المولودة منفردةٌ.
واحدة : مدني على " كان " التامة والنصب أوفق لقوله فإن كن نساء .
فإن قلت : قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد ، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما؟ قلت : حكمهما مختلف فيه ؛ فابن عباس رضي الله عنهما نزلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة ، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ } [النساء : 11] وذلك لأن من مات وخلف بنتاً وابناً فالثلث
311
للبنت والثلثان للابن ، فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين ، ولأنه قال في آخر السورة { إِنِ امْرُؤٌا هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُا أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } [النساء : 176].
والبنتان أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين ، ولم ينقصوا حظهما عن حظ من هو أبعد منهما ، ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان.
وفي الآية دلالة أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى ، لأنه جعل للذكر مثل حظ الانثيين ، وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل.
والضمير في { وَلابَوَيْهِ } للميت والمراد الأب والأم إلا أنه غلب الذكر { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } [النساء : 11] بدل من لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل " ولأبويه السدس " لكان ظاهره اشتراكهما فيه ، ولو قيل " ولأبويه السدسان " لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها ، ولو قيل " ولكل واحد من أبويه السدس " لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال.
والسدس مبتدأ خبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان ، وقرأ الحسن السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
{ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء : 11] هو يقع على الذكر والأنثى { فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُا أَبَوَاهُ فَلامِّهِ الثُّلُثُ } [النساء : 11] أي مما ترك والمعنى وورثه أبواه فحسب ، لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك ، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أن له ضعف حظها إذا خلصا.
فلو ضرب لها الثلث كاملاً لأدى إلى حط نصيبه عن نصيبها ؛ فإن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب ، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين.
فلأمه بكسر الهمزة : حمزة وعلي لمجاورة كسر اللام { فَإِن كَانَ لَهُ } [النساء : 11] أي للميت { إِخْوَةٌ فَلامِّهِ السُّدُسُ } [النساء : 11] إذا كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً ، فلأمه السدس.
والأخ الواحد لا يحجب ، والأعيان والعلات والأخياف في حجب الأم سواء { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } [النساء : 12] متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وحده كأنه قيل : قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية { يُوصِى بِهَآ } [النساء : 11] هو وما بعده بفتح الصاد : مكي وشامي وحماد ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية
312
(1/205)
لمجاورة يورث ، وكسر الأولى لمجاورة يوصيكم الله .
الباقون : بكسر الصادين أي يوصى بها الميت.
{ أَوْ دَيْنٍ } [النساء : 11] والإشكال أن الدّين مقدم على الوصية في الشرع ، وقدمت الوصية على الدين في التلاوة.
والجواب إن " أو " لا تدل على الترتيب ، ألا ترى أنك إذا قلت " جاءني زيد أو عمرو " كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين من بعد أحد هذين الشيئين : الوصية أو الدين.
ولو قيل بهذا اللفظ لم يدر فيه الترتيب ، بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا.
وإنما قدمنا الدين على الوصية بقوله عليه السلام ألا إن الدّين قبل الوصية " ولأنها تشبه الميراث من حيث إنها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشق على الورثة ، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها مع الدين { ءَابَآؤُكُم } مبتدأ { وَأَبْنَآؤُكُمْ } عطف عليه والخبر { لا تَدْرُونَ } [النساء : 11] وقوله { أَيُّهُمْ } مبتدأ خبره { أَقْرَبُ لَكُمْ } [النساء : 11] والجملة في موضع نصب بـ تدرون { نَفْعًا } تمييز والمعنى : فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة ، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلاً منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير.
وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الإعراب { فَرِيضَةً } نصبت نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضاً { مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } [النساء : 11] بالأشياء قبل خلقها { حَكِيمًا } في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 308
{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ } [النساء : 12] أي زوجاتكم
313
(1/206)
{ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ } [النساء : 12] أي ابن أو بنت { فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ } [النساء : 12] منكم أو من غيركم { دَيْنٍ } والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن ، جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله : للذكر مثل حظ الانثيين .
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ } [النساء : 12] يعني للميت وهو اسم " كان " { يُورَثُ } من ورث أي يورث منه وهو صفة لـ " رجل " { كَلَـالَةً } خبر " كان " أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر " كان " وكلالة حال من الضمير في يورث .
والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا ولداً وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء { أَوِ امْرَأَةٌ } [النساء : 12] عطف على رجل { وَلَهُا أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } [النساء : 12] أي لأم فإن قلت : قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره؟ قلت : أما إفراده فلأن " أو " لأحد الشيئين ، وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكر مبدوء به ، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَالِكَ } [النساء : 12] من واحد { فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ } [النساء : 12] لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [النساء : 12] إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين ، فالأول الوالدان والأولاد ، والثاني الزوجة ، والثالث الزوج ، والرابع الكلالة.
{ غَيْرَ مُضَآرٍّ } [النساء : 12] حال أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث { وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ } [النساء : 12] مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } [البقرة : 95] بمن جار أو عدل في وصيته { حَلِيمٌ } على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد.
فإن قلت : فأين ذو الحال فيمن قرأ يوصي بها ؟ قلت : يضمر يوصي فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل يوصي بها علم أن ثمّ موصياً كما كان { رِجَالٌ } فاعل ما يدل عليه { يُسَبِّحُ } (النور : 63) لأنه لما قيل { يُسَبِّحُ لَهُ } [النور : 36] علم أن ثم مسبحاً فأضمر " يسبح " .
واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف ، وللأكثر الثلثان ، وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس ، وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام
314
فيعصبها ، والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب ، وهن كالأفوات لأب وأم عند عدمهن ، ويصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن ، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل ، والأب وبالجد عند أبي حنيفة رحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث ، وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد.
والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل ، ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي.
والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى ، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل ، " أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا ، وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين.
والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب ، والبعدى تحجب بالقربى ، والكل بالأم والأبويات بالأب ، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل ، وعند عدمه النصف.
والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع.
والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم.
الابن ثم ابنه وإن سفل ، ثم الأب ثم أبوه وإن علا ، ثم الأخ لأب وأم ، ثم الأخ لأب ، ثم ابن الأخ لأب وأم ، ثم ابن الأخ لأب ، ثم الأعمام ، ثم أعمام الأب ، ثم أعمام الجد ، ثم المعتق ، ثم عصبته على الترتيب.
واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن.
وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات.
{ تِلْكَ } إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث { حُدُودُ اللَّهِ } [البقرة : 229] سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها { فِيهَآ }
315
(1/207)
انتصب خالدين وخالداً على الحال ، وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى من ولفظها.
ندخله فيهما : مدني وشامي { وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [النساء : 14] لهوانه عند الله.
ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها ، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك.
وقال الكلبي : ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالاً ثم خاطب الحكام فقال : { وَالَّـاتِى } هي جمع " التي " وموضعها رفع بالابتداء { يَأْتِينَ الْفَـاحِشَةَ } [النساء : 15] أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى { مِّن نِّسَآ ـاِكُمُ } [الطلاق : 4] من للتبعيض والخبر { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ } [النساء : 15] فاطلبوا الشهادة { أَرْبَعَةً مِّنكُمْ } [النساء : 15] من المؤمنين { فَإِن شَهِدُوا } [النساء : 15] بالزنا { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ } [النساء : 15] فاحبسوهن { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ } [النساء : 15] أي ملائكة الموت كقوله { الَّذِينَ تَتَوَفَّـاهُمُ الْمَلَـائكَةُ } [النحل : 32] (النحل : 82) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ } [النساء : 15] قيل " أو " بمعنى " إلا أن " { سَبِيلا } غير هذه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام خذوا عني ، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة يريد الزاني والزانية.
وبتشديد النون : مكي { وَالَّذَانِ يَأْتِيَـانِهَا مِنكُمْ } [النساء : 16] أي الفاحشة { فَـاَاذُوهُمَا } بالتوبيخ والتعيير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما
316
الله { فَإِن تَابَا } [النساء : 16] عن الفاحشة { وَأَصْلَحَا } وغير الحال { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَآ } [النساء : 16] فاقطعوا التوبيخ والمذمة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا } [النساء : 16] يقبل توبة التائب ويرحمه.
قال الحسن : أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم ، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة.
والحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير ، وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير ، وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد ، وقال ابن بحر ؛ الآية الأولى في السحّاقات ، والثانية في اللواطين ، والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لأبي حنيفة رحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد.
وقال مجاهد : آية الأذى في اللواطة { إِنَّمَا التَّوْبَةُ } [النساء : 17] هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها { عَلَى اللَّهِ } [النساء : 171] وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك { لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّواءَ } [النساء : 17] الذنب لسوء عقابه { بِجَهَـالَةٍ } في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه.
وعن مجاهد : من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته.
وقيل : جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية.
وقيل : لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته.
{ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } [النساء : 17] من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت .
فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة.
وعن الضحاك : كل توبة قبل الموت فهو قريب.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قبل أن ينظر إلى ملك الموت.
وعنه صلى الله عليه وسلّم إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " ومن للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً { فَأُوالَـائكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [النساء : 17] عدة بأنه يفي بذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } [النساء : 17] بعزمهم على التوبة { حَكِيمًا } حكم بكون الندم توبة.
317
جزء : 1 رقم الصفحة : 313
(1/208)
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّـاَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الْـاَـانَ } [النساء : 18] أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوفون توبتهم إلى أن يزول حال التكليف بحضور أسباب الموت ومعاينة ملك الموت ، فإن توبة هؤلاء غير مقبولة لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار ، وقبول التوبة ثواب ولا وعد به إلا لمختار { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ } [النساء : 18] في موضع جر بالعطف على للذين يعملون السيئات أي ليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا للذين يموتون
جزء : 1 رقم الصفحة : 318
{ وَهُمْ كُفَّارٌ } [النساء : 18] قال سعيد بن جبير : الآية الأولى في المؤمنين ، والوسطى في المنافقين ، والآخرى في الكافرين.
وفي بعض المصاحف بلامين وهو مبتدأ خبره.
{ أؤلئك أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18] أي هيأنا من العتيد وهو الحاضر أو الأصل أعددنا فقلبت الدال تاء.
كان الرجل يرث امرأة مورثه بأن يلقي عليها ثوبه فيتزوجها بلا مهر فنزلت { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَآءَ كَرْهًا } أي أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات كرهاً بالفتح من الكراهة وبالضم : حمزة وعلي من الإكراه مصدر في موضع الحال من المفعول.
والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه كما في قوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ } [الإسراء : 31] (الإسراء : 13).
وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } [النساء : 19] وهو منصوب عطفاً على أن ترثوا ولا لتأكيد النفي أي لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن ، أو مجزوم بالنهي على الاستئناف فيجوز الوقف حينئذ على كرها .
والعضل : الحبس والتضييق { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ } [النساء : 19] من المهر واللام متعلقة بـ " تعضلوا "
318
{ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } [النساء : 19] هي النشوز وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع.
وعن الحسن : الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع { مُّبَيِّنَةٍ } وبفتح الياء : مكي وأبو بكر ، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له كأنه قيل : ولا تعضلوهن في جميع الأوقات إلا وقت أن يأتين بفاحشة ، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين بفاحشة.
وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء : 19] وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 318
(1/209)
النساء : 19] لقبحهن أو سوء خلقهن { فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شيئا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ } [النساء : 19] في ذلك الشيء أو في الكره { خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء : 19] ثواباً جزيلاً أو ولداً صالحاً.
والمعنى فإن كرهتموهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين ، وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ولكن للنظر في أسباب الصلاح.
وإنما صح قوله { فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا } [النساء : 19] جزاء للشرط لأن المعنى : فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه.
وكان الرجل إذا رأى امرأة فأعجبته بهت التي تحته ورماها بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها فقيل : { وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ } [النساء : 20] أي تطليق امرأة وتزوج أخرى { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ } [النساء : 20] وأعطيتم إحدى الزوجات ، فالمراد بالزوج الجمع لأن الخطاب لجماعة الرجال { قِنْطَارًا } مالاً عظيماً كما في " آل عمران " .
وقال عمر رضي الله عنه على المنبر : لا تغالوا بصدقات النساء.
فقالت امرأة : أنتبع قولك أم قول الله : { وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاـاهُنَّ قِنْطَارًا } [النساء : 20].
فقال عمر : كل أحد أعلم من عمر ، تزوجوا على ما شئتم { فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ } [النساء : 20] من القنطار { شيئا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَـانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا } [النساء : 20] أي بيناً ، والبهتان أن تستقبل الرجل بأمر قبيح تقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير.
وانتصب بهتاناً على الحال أي باهتين وآثمين.
ثم أنكر أخذ المهر بعد الإفضاء فقال { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } [النساء : 21] أي خلا بلا حائل ومنه الفضاء ، والآية حجة لنا في الخلوة الصحيحة أنها تؤكد المهر حيث أنكر الأخذ
319
وعلل بذلك { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا } [النساء : 21] عهداً وثيقاً وهو قول الله تعالى : { فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحُ بِإِحْسَـانٍ } [البقرة : 229] (البقرة : 922).
والله تعالى أخذ هذا الميثاق عى عباده لأجلهن فهو كأخذهن ، أو قول النبي عليه السلام استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان في أيديكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولما نزل لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً قالوا : تركنا هذا لا نرثهن كرهاً ولكن نخطبهن فننكحهن برضاهن فقيل لهم :
جزء : 1 رقم الصفحة : 318
{ وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ النِّسَآءِ } [النساء : 22] وقيل : المراد بالنكاح الوطء أي لا تطئوا ما وطيء آباؤكم ، وفيه تحريم وطء موطوءة الأب بنكاح أو بملك يمين أو بزنا كما هو مذهبنا وعليه كثير من المفسرين.
ولما قالوا : كنا نفعل ذلك فكيف حال ما كان منا؟ قال : { إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء : 23] أي لكن ما قد سلف فإنكم لا تؤاخذون به ، والاستثناء منقطع عن سيبويه.
ثم بين صفة هذا العقد في الحال فقال { إِنَّهُ كَانَ فَـاحِشَةً } [الإسراء : 32] بالغة في القبح { وَمَقْتًا } وبغضاً عند الله وعند المؤمنين وناس منهم يمقتونه من ذوي مروآتهم ويسمونه نكاح المقت وكان المولود عليه يقال له المقتى { وَسَآءَ سَبِيلا } [النساء : 22] وبئس الطريق طريقاً ذلك.
ولما ذكر في أول السورة نكاح ما طاب أي حل من النساء وذكر بعض ما حرم قبل هذا وهو نساء الآباء ذكر المحرمات الباقيات وهن سبع من النسب وسبع من السبب ، وبدأ بالنسب فقال :
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـاتُكُمْ } [النساء : 23] والمراد تحريم نكاحهن عند البعض ، وقد
320
(1/210)
ذكرنا المختار في شرح المنار.
والجدة من قبل الأم أو الأب ملحقة بهن { وَبَنَـاتُكُمْ } وبنات الابن وبنات البنت ملحقات بهن ، والأصل أن الجمع إذا قوبل بالجمع ينقسم الآحاد على الآحاد فتحرم على كل واحد أمه وبنته { وَأَخَوَاتُكُمْ } لأب وأم أو لأب أو لأم { وَعَمَّـاتُكُمْ } من الأوجه الثلاثة { وَخَـالَـاتُكُمْ } كذلك { وَبَنَاتُ الاخِ } [النساء : 23] كذلك { وَبَنَاتُ الاخْتِ } [النساء : 23] كذلك.
ثم شرع في السبب فقال { وَأُمَّهَـاتُكُمُ الَّـاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ } الله تعالى نزل الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة ، أما للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير الرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته ، وكل من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأم ، وأصله قوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
جزء : 1 رقم الصفحة : 318
{ وَأُمَّهَـاتُ نِسَآ ـاِكُمْ } [النساء : 23] وهن محرمات بمجرد العقد { وَرَبَـائبُكُمُ } سمى ولد المرأة من غير زوجها ربيباً وربيبة لأنه يربّهما كما يرب ولده في غالب الأمر ، ثم اتسع فيه فسميا بذلك وإن لم يربهما { الَّتِى فِى الصُّدُورِ } قال داود : إذ لم تكن في حجره لا تحرم.
قلنا : ذكر الحجر على غلبة الحال دون الشرط ، وفائدته التعليل للتحريم وأنهن لاحتضانكم لهن أو لكونهن بصدد احتضانكم كأنكم في العقد على بناتهن عاقدون على بناتكم { مِّن نِّسَآ ـاِكُمُ الَّـاتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ } متعلق بـ ربائبكم أي الربيبة من المرأة المدخول بها حرام على الرجل حلال له إذا لم يدخل بها.
والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم " بنى عليها وضرب عليها الحجاب " أي أدخلتموهن الستر والباء للتعدية.
واللمس ونحوه يقوم مقام الدخول ، وقد جعل بعض العلماء اللاتي دخلتم بهن وصفاً للنساء المتقدمة والمتأخرة وليس كذلك ، لأن الوصف الواحد لا يقع على موصوفين مختلفي العامل ، وهذا لأن النساء الأولى مجرورة بالإضافة ، والثانية بـ " من " ، ولا يجوز أن تقول " مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات " على أن تكون الظريفات نعتاً لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء كذا قال الزجاج وغيره ، وهذا أولى مما قاله صاحب الكشاف فيه.
321
{ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [النساء : 23] فلا حرج عليكم في أن تتزوجوا بناتهن إذا فارقتموهن أو متن { وَحَلَـائلُ أَبْنَآ ـاِكُمُ } [النساء : 23] جمع حليلة وهي الزوجة لأن كل واحد منهما يحل للآخر ، أو يحل فراش الآخر من الحل ، أو من الحلول { الَّذِينَ مِنْ أَصْلَـابِكُمْ } [النساء : 23] دون من تبنيتم فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب حين فارقها زيد وقال الله تعالى : { لِكَىْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَآ ـاِهِمْ } [الأحزاب : 37] (الأحزاب : 73).
وليس هذا لنفي الحرمة عن حليلة الابن من الرضاع { وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الاخْتَيْنِ } [النساء : 23] أي في النكاح وهو في موضع الرفع عطف على المحرمات أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين { إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } [النساء : 23] ولكن ما مضى مغفور بدليل قوله { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 23] وعن محمد بن الحسن رحمه الله أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون هذه المحرمات إلا نكاح امرأة الأب ونكاح الأختين فلذا قال فيهما : إلا ما قد سلف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 318
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
(1/211)
{ وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ النِّسَآءِ } [النساء : 24] أي ذوات الأزواج لأنهن أحصنّ فروجهن بالتزوج.
قرأ الكسائي بفتح الصاد هنا وفي سائر القرآن بكسرها وغيره بفتحها في جميع القرآن { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النساء : 24] بالسبي وزوجها في دار الحرب.
والمعنى وحرم عليكم نكاح المنكوحات أي اللاتي لهن أزواج إلا ما ملكتموهن بسبيهن وإخراجهن بدون أزواجهن لوقوع الفرقة بتباين الدارين لا بالسبي ، فتحل الغنائم بملك اليمين بعد الاستبراء { كِتَـابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء : 24] مصدر مؤكد أي كتب الله ذلك عليكم كتاباً وفرضه فريضة وهو تحريم ما حرم وعطف { وَأُحِلَّ لَكُم } [النساء : 24] على الفعل المضر الذي نصب كتاب الله أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم { مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ } [النساء : 24] ما سوى الحرمات المذكورة.
وأحل : كوفي غير أبي بكر عطف على حرمت { أَن تَبْتَغُوا } [النساء : 24] مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم لأن تبتغوا ، أو بدل مما وراء ذلكم ومفعول تبتغوا مقدر وهو النساء ، والأجود أن لا يقدر } بأموالكم } يعني المهور ، وفيه دليل على أن النكاح لا يكون إلا بمهر ، وأنه يجب وإن لم يسم ، وأن غير المال لا يصلح مهراً ، وأن القليل لا يصلح مهراً إذ الحبة لا تعد مالاً عادة
322
{ مُّحْصِنِينَ } في حال كونكم محصنين { غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } [النساء : 24] لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دينكم ودنياكم ، ولا فساد أعظم من الجمع بين الخسرانين.
والإحصان العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، والمسافح الزاني من السفح وهو صب المني { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ } [النساء : 24] فما نكحتموه منهن { فَاَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [النساء : 24] مهورهن لأن المهر ثواب على البضع فـ ما في معنى النساء ومن للتبعيض أو للبيان ويرجع الضمير إليه على اللفظ في به وعلى المعنى في فآتوهن { فَرِيضَةً } حال من الأجور أي مفروضة ، أو وضعت موضع إيتاء لأن الإيتاء مفروض أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة.
{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
النساء : 24] فيما تحط عنه من المهر ، أو تهب له من كله ، أو يزيد لها على مقداره ، أو فيما تراضيا به من مقام أو فراق { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } [النساء : 11] بالأشياء قبل خلقها { حَكِيمًا } فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي به حفظت الأنساب.
وقيل : إن قوله فما استمتعتم نزلت في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتح الله مكة على رسوله ثم نسخت.
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلا } [النساء : 25] فضلاً.
يقال " لفلان عليّ طول " أي فضل وزيادة وهو مفعول يستطع { أَن يَنكِحَ } [النساء : 25] مفعول الطول فإنه مصدر فيعمل عمل فعله أو بدل من طولاً { الْمُحْصَنَـاتِ الْمُؤْمِنَـاتِ } [النساء : 25] الحرائر المسلمات { فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُم مِّن فَتَيَـاتِكُمُ الْمُؤْمِنَـاتِ } [النساء : 25] أي فلينكحن مملوكة من الإماء المسلمات.
وقوله : من فتياتكم .
أي من فتيات المسلمين والمعنى : ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة ، ونكاح الأمة الكتابية يجوز عندنا والتقييد في النص للاستحباب بدليل أن الإيمان ليس بشرط في الحرائر اتفاقاً مع التقييد به.
وقال ابن عباس : ومما وسّع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسراً ، وفيه دليل لنا في مسألة الطول { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَـانِكُمْ } [النساء : 25] فيه تنبيه على قبول ظاهر
323
(1/212)
إيمانهن ، ودليل على أن الإيمان هو التصديق دون عمل اللسان لأن العلم بالإيمان المسموع لا يختلف { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } [آل عمران : 195] أي لا تستنكفوا من نكاح الإماء فكلكم بنو آدم ، وهو تحذير عن التعيير بالأنساب والتفاخر بالأحساب { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [النساء : 25] سادتهن وهو حجة لنا في أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم ، وأنه ليس للعبد أو للأمة أن يتزوج إلا بإذن المولى { وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء : 25] وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وإضرار وملاّك مهورهن مواليهن ، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي لأنهن وما في أيديهن مال الموالي ، أو التقدير : وآتوا مواليهن فحذف المضاف
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{ مُحْصَنَـاتٍ } عفائف حال من المفعول في وآتوهن { غَيْرَ مُسَـافِحَـاتٍ } [النساء : 25] زوانٍ علانية { وَلا مُتَّخِذَاتِ } زوانٍ : سراً والأخذان : الأخلاء في السر { أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ } [النساء : 25] بالتزويج.
أحصن : كوفي غير حفص { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَـاحِشَةٍ } [النساء : 25] زنا { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَـاتِ } [النساء : 25] أي الحرائر { مِنَ الْعَذَابِ } [غافر : 49] من الحد يعني خمسين جلدة ، وقوله : نصف ما على المحصنات .
يدل على أنه الجلد لا الرجم لأن الرجم لا يتنصف ، وأن المحصنات هنا الحرائر اللاتي لم يزوجن { ذَالِكَ } أي نكاح الإمام { لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنكُمْ } [النساء : 25] لمن خاف الإثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة.
وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر ، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الزنا لأنه سبب الهلاك.
{ وَأَن تَصْبِرُوا } [النساء : 25] في محل الرفع على الابتداء أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] لأن فيه إرقاق الولد ، ولأنها خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة وذلك كله نقصان يرجع إلى الناكح ومهانة والعزة من صفات المؤمنين ، وفي الحديث الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت " { وَاللَّهُ غَفُورٌ } [البقرة : 225] يستر المحظور { رَّحِيمٌ } يكشف المحظور { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [النساء : 26] أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في " لا أبالك " لتأكيد إضافة الأب.
والمعنى : يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عليكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [النساء : 26] وأن يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين والطرق التي
324
سلكوها في دينهم لتقتدوا بهم { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [النساء : 26] ويوفقكم للتوبة عما كنتم عليه من الخلاف
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
(1/213)
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ } [البقرة : 95] بمصالح عباده { حَكِيمٌ } فيما شرع لهم { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } [النساء : 27] التكرير للتأكيد والتقرير والتقابل { وَيُرِيدُ } الفجرة { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } [النساء : 27] وهو الميل عن القصد والحق ، ولا ميل أعظم منه بمساعدتهم وموافقتهم على اتباع الشهوات.
وقيل : هم اليهود لاستحلالهم الأخوات لأب وبنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرمهن الله قالوا : فإنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخت والأخ فنزلت.
يقول : يريدون أن تكونوا زناة مثلهم { يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [النساء : 28] بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص { وَخُلِقَ الانسَـانُ ضَعِيفًا } [النساء : 28] لا يصبر على الشهوات وعلى مشاق الطاعات.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَـاطِلِ } بما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والخيانة والغصب والقمار وعقود الربا { إِلا أَن تَكُونَ تِجَـارَةً } [البقرة : 282] إلا أن تقع تجارة.
تجارة : كوفي أي إلا أن تكون التجارة تجارة { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [النساء : 29] صفة لـ تجارة أي تجارة صادرة عن تراض بالعقد أو بالتعاطي.
والاستثناء منقطع معناه ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراضٍ ، أو ولكن كون تجارة عن تراضٍ غير منهي عنه.
وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها ، والآية تدل على جواز البيع بالتعاطي وعلى جواز البيع الموقوف إذا وجدت الإجازة لوجود الرضا ، وعلى نفي خيار المجلس لأن فيها إباحة الاكل بالتجارة عن تراض من غير تقييد بالتفرق عن مكان العقد والتقييد به زيادة عن النص { وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ } [النساء : 29] من كان من جنسكم من المؤمنين لأن المؤمنين كنفس واحدة ، أو ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله الجهلة ، أو معنى القتل أكل الأموال بالباطل فظالم غيره
325
كمهلك نفسه ، أو لا تتبعوا أهواءها فتقتلوها أو تركبوا ما يوجب القتل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء : 29] ولرحمته بكم نبهكم على ما فيه صيانة أموالكم وبقاء أبدانكم.
وقيل : معناه أنه أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم ، وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] أي القتل أي ومن يقدم على قتل الأنفس { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } [النساء : 30] لا خطأ ولا قصاصاً وهما مصدران في موضع الحال أو مفعول لهما { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } [النساء : 30] ندخله ناراً مخصوصة شديدة العذاب { وَكَانَ ذَالِكَ } [النساء : 30] أي إصلاؤه النار { عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [النساء : 30] سهلاً وهذا الوعيد في حق المستحيل للتخليد ، وفي حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع وعد الله بمغفرته.
(1/214)
{ إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآ ـاِرَ مَا تُنُهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ } [النساء : 31] عن ابن مسعود رضي الله عنهما : الكبائر كل ما نهى الله عنه من أول سورة النساء إلى قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه .
وعنه أيضاً : الكبائر ثلاث : الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله.
وقيل : المراد بها أنواع الكفر بدليل قراءة عبد الله كبير ما تنهون عنه وهو الكفر { وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلا } [النساء : 31] مدخلا : مدني وكلاهما بمعنى المكان والمصدر كريما حسناً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
يريد الله ليبين لكم .
والله يريد أن يتوب عليكم .
يريد الله أن يخفف عنكم .
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم .
إن الله لا يغفر أن يشرك به .
إن الله لا يظلم مثقال ذرة .
ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه .
ما يفعل الله بعذابكم .
وتشبث المعتزلة بالآية على أن الصغائر واجبة المغفرة باجتناب الكبائر ، وعلى أن الكبائر غير مغفورة باطل ، لأن الكبائر والصغائر في مشيئته تعالى سواء إن شاء عذب عليهما وإن شاء عفا عنهما لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
فقد وعد المغفرة لما دون الشرك وقرنها بمشيئته تعالى.
وقوله :
326
{ إِنَّ الْحَسَنَـاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّـاَاتِ } [هود : 114] (هود : 411).
فهذه الآية تدل على أن الصغائر والكبائر يجوز أن يذهبا بالحسنات لأن لفظ السيئات ينطبق عليهما.
ولما كان أخذ مال الغير بالباطل وقتل النفس بغير حق بتمني مال الغير وجاهه نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال بقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{ وَلا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء : 32] لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض ، فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه ، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه ، والغبطة أن يتمنى مثل ما لغيره وهو مرخص فيه ، والأول منهي عنه.
ولما قال الرجال : نرجو أن يكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كالميراث ، قالت النساء : يكون وزرنا على نصف وزر الرجال كالميراث نزل { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ } [النساء : 32] أي ليس ذلك على حسب الميراث { وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } فإن خزائنه لا تنفد ولا تتمنوا ما للناس من الفضل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا } [النساء : 32] فالتفضيل منه عن علم بمواضع الاستحقاق.
قال ابن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي وفي الحديث من لم يسأل الله من فضله غضب عليه وفيه إن الله تعالى ليمسك الخير الكثير عن عبده ويقول : لا أعطي عبدي حتى يسألني " وسلوا : مكي وعلي { وَلِكُلٍّ } المضاف إليه محذوف تقديره ولكل أحد أو ولكل مال { جَعَلْنَا مَوَالِىَ } [النساء : 33] ورّاثاً يلونه ويحرزونه { مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ } [النساء : 7] هو صفة مال
327
محذوف أي لكل مال مما تركه الوالدان ، أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه الموالي تقديره : يرثون مما ترك { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النساء : 33] عاقدتهم أيديكم وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط فوقع خبره وهو { فَـاَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [النساء : 33] مع الفاء.
عقدت : كوفي أي عقدت عهودهم أيمانكم والمراد به عقد الموالاة وهي مشروعة.
والوراثة بها ثابتة عند عامة الصحابة رضي الله عنهم وهو قولنا.
وتفسيره إذا أسلم رجل أو امرأة لا وارث له وليس بعربي ولا معتق فيقول لآخر : واليتك على أن تعقلني إذا جنيت وترث مني إذا مت.
ويقول الآخر : قبلت.
انعقد ذلك ويرث الأعلى من الأسفل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
(1/215)
النساء : 33] أي هو عالم الغيب والشهادة وهو أبلغ وعد ووعيد.
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ } [النساء : 34] يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا وسموا قواماً لذلك { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء : 34] الضمير في بعضهم للرجال والنساء يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن لسبب تفضيل الله بعضهم ـــــ وهم الرجال ـــــ على بعض ـــــ وهم النساء ـــــ بالعقل والعزم والحزم والرأي والقوة والغزو وكمال الصوم والصلاة والنبوة والخلافة والإمامة والأذان والخطبة والجماعة والجمعة وتكبير التشريق ـــــ عند أبي حنيفة رحمه الله ـــــ والشهادة في الحدود والقصاص وتضعيف الميراث والتعصيب فيه وملك النكاح والطلاق وإليهم الانتساب وهم أصحاب اللحى والعمائم.
{ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء : 34] وبأن نفقتهن عليهم وفيه دليل وجوب نفقتهن عليهم.
ثم قسمهن على نوعين.
النوع الأول { فَالصَّـالِحَـاتُ قَـانِتَـاتٌ } [النساء : 34] مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج { حَـافِظَـاتٌ لِّلْغَيْبِ } [النساء : 34] لمواجب الغيب وهو خلاف الشهادة أي إذ كان الأزواج غير شاهدين لهن حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من الفروج والبيوت والأموال.
وقيل : للغيب لأسرارهم { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } [النساء : 34] بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج بقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [النساء : 19] (النساء : 91).
أو بما حفظهن الله وعصمهن ووفقهن
328
لحفظ الغيب ، أو بحفظ الله إياهن حيث صيرهن كذلك.
والثاني { وَالَّـاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } عصيانهن وترفعهن عن طاعة الأزواج.
والنشز : المكان المرتفع والنبوة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو أن تستخف بحقوق زوجها ولا تطيع أمره { فَعِظُوهُنَّ } خوفوهن عقوبة الله تعالى.
والضرب والعظة كلام يلين القلوب القاسية ويرغب الطبائع النافرة { وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ } [النساء : 34] في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع ، أو هو أن يوليها ظهره في المضجع لأنه لم يقل عن المضاجع
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
{ وَاضْرِبُوهُنَّ } ضرباً غير مبرح.
أمر بوعظهن أولاً ثم بهجرانهن في المضاجع ، ثم بالضرب إلى أن ينجع فيهن الوعظ والهجران { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ } [النساء : 34] بترك النشوز { فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا } [النساء : 34] فأزيلوا عنهن التعرض بالأذى وسبيلاً مفعول تبغوا وهو من بغيت الأمر أي طلبته { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء : 34] أي إن علت أيديكم عليهن فاعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن فاجتنبوا ظلمهن ، أو إن الله كان علياً كبيراً وإنكم تعصونه على علو شأنه وكبرياء سلطانه ثم تتوبون فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو عمن يجني عليكم إذا رجع.
ثم خاطب الولاة بقوله { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [النساء : 35] أصله " شقاقاً بينهما " فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع كقوله : { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ : 33] (سبأ : 33).
وأصله بل مكر في الليل والنهار.
والشقاق : العداوة والخلاف ، لأن كلاًّ منهما يفعل ما يشق على صاحبه ، أو يميل إلى شق أي ناحية غير شق صاحبه والضمير للزوجين ولم يجر ذكرهما لجري ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ } [النساء : 35] رجلاً يصلح للحكومة والإصلاح بينها { وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ } [النساء : 35] وإنما كان بعث الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح ونفوس الزوجين أسكن إليهم فيبرزان ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة.
والضمير في { إِن يُرِيدَآ إِصْلَـاحًا } [النساء : 35] للحكمين ، وفي { يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ } [النساء : 35] للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة بورك في وساطتهما ، وأوقع الله بحسن سعيهما بين
329
(1/216)
الزوجين الألفة والوفاق ، وألقى في نفوسهما المودة والاتفاق.
أو الضميران للحكمين أي إن قصدا إصلاح ذات البين والنصيحة للزوجين ، يوفق الله بينها فيتفقان على الكلمة الواحدة ويتساندان في طلب الوفاق حتى يتم المراد.
أو الضميران للزوجين أي إن يريدا إصلاح ما بينهما وطلب الخير وأن يزول عنهما الشقاق ، يلق الله بينهما الألفة وأبدلهما بالشقاق الوفاق وبالبغضاء المودة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا } [النساء : 11] بإرادة الحكمين { خَبِيرًا } بالظالم من الزوجين وليس لهما ولاية التفريق عندنا خلافاً لمالك رحمه الله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 322
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ } [النساء : 36] قيل : العبودية أربعة : الوفاء بالعهود ، والرضا بالموجود ، والحفظ للحدود ، والصبر على المفقود { وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء : 36] صنماً وغيره ويحتمل المصدر أي إشراكاً { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَـانًا } [الإسراء : 23] وأحسنوا بهما إحساناً بالقول والفعل والإنفاق عليهما عند الاحتياج { وَبِذِى الْقُرْبَى } [النساء : 36] وبكل من بينكم وبينه قربى من أخ أو عم أو غيرهما { وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى } [النساء : 36] الذي قرب جواره { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } [النساء : 36] أي الذي جواره بعيد أو الجار القريب النسيب ، والجار الجنب الأجنبي { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنابِ } [النساء : 36] أي الزوجة : عن عليّ رضي الله عنه.
أو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقاً في سفر أو شريكاً في تعلم علم أو غيره أو قاعداً إلى جنبك في مجلس أو مسجد { وَابْنِ السَّبِيلِ } [الانفال : 41] الغريب أو الضعيف { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ } [النساء : 36] العبيد والإماء { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا } [النساء : 36] متكبراً يأنف عن قرابته وجيرانه فلا يلتفت إليهم { فَخُورًا } يعدد مناقبه كبراً فإن عدها اعترافاً كان شكوراً { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } [آل عمران : 180] نصب على البدل من من كان مختالاً فخوراً وجمع على معنى من أو على الذم ، أو رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره " هم الذين يبخلون " { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } [الحديد : 24] بالبخل : حمزة وعلي وهما لغتان كالرشد والرشد أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم فيأمرونهم بأن يبخلوا به مقتاً للسخاء.
قيل : البخل أن يأكل بنفسه ولا يؤكل غيره ، والشح أن لا يأكل ولا يؤكل ، والسخاء أن يأكل ويؤكل ، والجود أن يؤكل ولا يأكل.
330
{ اكْتَسَبْنَ وَسْـاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ } ويخفون ما أنعم الله عليهم به من المال وسعة الحال ، وفي الحديث إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى نعمته على عبده وبنى عامل للرشيد قصراً حذاء قصره فنم به فقال الرجل : يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته ، فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه.
وقيل : نزلت في شأن اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
(1/217)
{ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [النساء : 37] أي يهانون به في الآخرة.
{ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } [النساء : 38] معطوف على الذين يبخلون أو على " الكافرين " { رِاـاَآءَ النَّاسِ } [البقرة : 264] مفعول له أي للفخار وليقال ما أجودهم لا لابتغاء وجه الله وهم المنافقون أو مشركو مكة { وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَـانُ لَهُ قَرِينًا فَسَآءَ قَرِينًا } [النساء : 38] حيث حملهم على البخل والرياء وكل شر ، ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } [النساء : 39] وأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله والمراد الذم والتوبيخ وإلا فكل منفعة ومصلحة في ذلك ، وهذا كما يقال للعاق " ما ضرك لو كنت باراً " وقد علم أنه لا مضرة في البر ولكنه ذم وتوبيخ { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } [النساء : 39] وعيد.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء : 40] هي النملة الصغيرة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخل يده في التراب فرفعه ثم نفخ فيه فقال : كل واحدة من هؤلاء ذرة.
وقيل : كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة.
{ وَإِن تَكُ حَسَنَةً } [النساء : 40] وإن يك مثقال الذرة حسنة.
وإنما أنث ضمير المثقال لكونه مضافاً إلى مؤنث.
حسنةٌ : حجازي على " كان " التامة ، وحذفت النون من " تكن " تخفيفاً لكثرة الاستعمال { يُضَـاعِفْهَا } يضاعف ثوابها.
يضعفّها " : مكي وشامي { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ويعط صاحبها من عنده
331
ثواباً عظيماً ، وما وصفه الله بالعظم فمن يعرف مقداره مع أنه سمى متاع الدنيا قليلاً.
وفيه إبطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة مع أن له حسنات كثيرة.
{ فَكَيْفَ } يصنع هؤلاء الكفرة من الهيود وغيرهم { إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيدٍ } يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم { وَجِئْنَا بِكَ } [النحل : 89] يا محمد { عَلَى هؤلاء } [النساء : 41] أي أمتك { شَهِيدًا } حال أي شاهداً على من آمن بالإيمان وعلى من كفر بالكفر وعلى من نافق بالنفاق.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ سورة النساء على رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ قوله : وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } .
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال : حسبنا.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
{ يَوْمَـاـاِذٍ } ظرف لقوله { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الحجر : 2] بالله { وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الارْضُ } [النساء : 42] لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى ، أو يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء ، أو تصير البهائم تراباً فيودون حالها.
تسوى بفتح التاء وتخفيف السين والإمالة وحذف إحدى التاءين من تتسوى " : حمزة وعلي.
تسوى بإدغام التاء في السين : مدني وشامي { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } [النساء : 42] مستأنف أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم.
ولما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً وشراباً ودعا نفراً من الصحابة رضي الله عنهم حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا فقدموا أحدهم ليصلي بهم المغرب فقرأ " قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد " ، ونزل : { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَـارَى } أي لا تقربوها في
332
(1/218)
هذه الحالة { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء : 43] أي تقرأون ، وفيه دليل على أن ردة السكران ليست بردة ، لأن قراءة سورة الكافرين بطرح اللامات كفر ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان ، وما أمر النبي عليه السلام بالتفريق بينه وبين امرأته ولا بتجديد الإيمان ، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً لا يحكم بكفره { وَلا جُنُبًا } [النساء : 43] عطف على وأنتم سكارى لأن محل الجملة مع الواو النصب على الحال كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنباً أي ولا تصلوا جنباً.
والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب { إِلا عَابِرِى سَبِيلٍ } [النساء : 43] صفة لقوله جنباً } أي لا تقربوا الصلاة جنباً غير عابري سبيل أي جنباً مقيمين غير مسافرين ، والمراد بالجنب الذين لم يغتسلوا كأنه قيل : لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [النساء : 43] إلا أن تكونوا مسافرين عادمين الماء متيممين ، عبّر عن المتيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، وهو مروي عن علي رضي الله عنه.
وقال الشافعي رحمه الله : لا تقربوا الصلاة أي مواضع الصلاة وهي المساجد ، ولا جنباً أي ولا تقربوا المسجد جنباً إلا عابري سبيل إلا مجتازين فيه ، فيجوز للجنب العبور في المسجد عند الحاجة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
{ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَآ ـاِطِ } [النساء : 43] أي المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لقضاء الحاجة فكنى بن عن الحدث { مِّنَ النِّسَآءِ } جامعتموهن كذا عن علي رضي الله عنه وابن عباس { فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً } [النساء : 43] فلم تقدروا على استعماله لعدمه أو بعده أو فقد آلة الوصول إليه أو لمانع من حية أو سبع أو عدو فتيمّموا } أدخل في حكم الشرط أربعة وهم : المرضى والمسافرون والمحدثون وأهل الجنابة.
والجزاء الذي هو الأمر بالتيمم متعلق بهم جميعاً ؛ فالمرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه ، والمسافرون إذا عدموه لبعده ، والمحدثون وأهل الجنابة إذا لم يجدوه لبعض الأسباب فلهم أن يتيمموا.
لمستم : حمزة وعلي { صَعِيدًا } قال الزجاج : هو وجه الأرض تراباً كان أو غيره ، وإن كان صخراً لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده ومسح لكان ذلك طهوره.
و " من " في سورة المائدة لابتداء الغاية لا للتبعيض { طَيِّبًا } طاهراً { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } [النساء : 43] قيل : الباء زائدة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا } [النساء : 43] بالترخيص والتيسير { غَفُورًا } عن الخطأ والتقصير.
333
{ أَلَمْ تَرَ } [الحج : 63] من رؤية القلب وعدي بإلى على معنى ألم ينته علمك إليهم " أو بمعنى ألم تنظر إليهم { إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 23] حظاً من علم التوراة وهم أحبار اليهود { يَشْتَرُونَ الضَّلَـالَةَ } [النساء : 44] يستبدلونها بالهدى وهوالبقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا } [النساء : 44] أنتم أيها المؤمنون { السَّبِيلَ } أي سبيل الحق كما ضلوه { وَاللَّهُ أَعْلَمُ } [النساء : 45] منكم { بِأَعْدَآ ـاِكُمْ } وقد أخبركم بعداوة هؤلاء فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
(1/219)
{ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } [النساء : 45] في النفع { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } [النساء : 45] في الدفع فثقوا بولايته ونصرته دونهم ، أو لا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
و " ولياً " و " نصيراً " منصوبان على التمييز أو على الحال.
{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا } [النساء : 160] بيان للذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، أو بيان لأعدائكم ، وما بينهما اعتراض ، أن يتعلق بقوله نصيراً أي ينصركم من الذين هادوا كقوله { وَنَصَرْنَـاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ } [الأنبياء : 77] (الأنبياء : 77) أو يتعلق بمحذوف تقديره : من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم ، فقوم مبتدأ ويحرفون صفة له ، والخبر من الذين هادوا مقدم عليه ، وحذف الموصوف وهو قوم وأقيم صفته ، وهو { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [المائدة : 13] يميلونه عنها ويزيلونه لأنهم إذا بدلوه ووضعوا مكانه كلماً غيره فقد أمالوه عن مواضعه في التوراة التي وضعه الله تعالى فيها وأزالوه عنها ـــــ مقامه وذلك نحو تحريفهم " أسمر ربعة " عن موضعه في التوراة بوضعهم " آدم طوال " مكانه.
ثم ذكر هنا عن مواضعه وفي المائدة { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [المائدة : 41] (المائدة : 14) فمعنى عن مواضعه على ما بينا من إزالته عن مواضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، ومعنى
334
{ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [المائدة : 41] أنه كانت له مواضع هو جدير بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقاره والمعنيان متقاربان { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } [النساء : 46] قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك قيل أسرّوا به { وَاسْمَعْ } قولنا { غَيْرَ مُسْمَعٍ } [النساء : 46] حال من المخاطب أي اسمع وأنت غير مسمع وهو قول ذو وجهين يحتمل الذم أي اسمع منا مدعواً عليك بلا سمعت ، لأنه لو أجيبت دعوتهم عليه لم يسمع شيئاً فكان أصم غير مسمع ، قالوا ذلك اتكالاً على أن قولهم " لا سمعت " دعوة مستجابة ، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعوه إليه ومعناه غير مسمع جواباً يوافقك فكأنك لم تسمع شيئاً ، أو إسمع غير مسمع كلاماً ترضاه فسمعك عنه ناب.
ويحتمل المدح أي اسمع غير مسمع مكروهاً من قولك " أسمع فلان فلاناً " إذا سبه.
وكذلك قوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
{ وَرَاعِنَا } يحتمل راعنا نكلمك أي ارقبنا وانتظرنا ، ويحتمل شبه كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي " راعينا " فكانوا سخرية بالدين وهزؤا برسول الله صلى الله عليه وسلّم يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام { لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ } [النساء : 46] فتلا بها وتحريفاً أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا وغير مسمع موضع " لا أسمعت مكروهاً " ، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً { وَطَعْنًا فِى الدِّينِ } [النساء : 46] هو قولهم : " لو كان نبياً حقاً لأخبر بما نعتقد فيه " { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [النساء : 46] ولم يقولوا وعصينا { وَاسْمَعْ } ولم يلحقوا به غير مسمع { وَانظُرْنَا } مكان " راعنا " { لَكَانَ } قولهم ذاك { خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] عند الله { وَأَقْوَمَ } وأعدل وأسد { وَلَـاكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } [النساء : 46] طردهم وأبعدهم عن رحمته بسبب اختيارهم الكفر { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] منهم قد آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه ، أو إلا إيماناً قليلاً ضعيفاً لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره.
جزء : 1 رقم الصفحة : 330
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
(1/220)
ولما لم يؤمنوا نزل { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا } يعني القرآن { مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم } [النساء : 47] يعني التوراة { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا } [النساء : 47] أي نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ } [النساء : 47] فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها.
والفاء للتسبيب ، وإن جعلتها للتعقيب على أنهم توعدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر ، ردها على أدبارها بعد طمسها فالمعنى : أن نطمس وجوهاً فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدام.
وقيل : المراد بالطمس القلب والتغيير كما
335
طمس أموال القبط فقلبها حجارة ، وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـابَ السَّبْتِ } [النساء : 47] أي نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت.
والضمير يرجع إلى الوجوه إن أريد الوجهاء ، أو إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات.
والوعيد كان معلقاً بأن لا يؤمن كلهم وقد آمن بعضهم فإن ابن سلام قد سمع الآية قافلاً من الشام فأتى النبي صلى الله عليه وسلّم مسلماً قبل أن يأتي أهله وقال : ما كنت أرى أن أصل إلى أهلي قبل أن يطمس الله وجهي.
أو أن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين : بطمس الوجوه أو بلعنهم ، فإن كان الطمس تبدل أحوال رؤسائهم فقد كان أحد الأمرين ، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان.
وقيل : هو منتظر في اليهود { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ } [الأحزاب : 38] أي المأمور به وهو العذاب الذي أوعدوا به { مَفْعُولا } كائناً لا محالة فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء : 48] إن مات عليه { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ } [النساء : 48] أي ما دون الشرك وإن كان كبيرة مع عدم التوبة ، والحاصل أن الشرك مغفور عنه بالتوبة ، وأن وعد غفران ما دونه لمن لم يتب أي لا يغفر لمن يشرك وهو مشرك ويغفر لمن يذنب وهو مذنب.
قال النبي عليه السلام من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ولم تضره خطيئته وتقييده بقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
{ لِمَن يَشَآءُ } [الشورى : 49] لا يخرجه عن عمومه كقوله : { اللَّهُ لَطِيفُ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } [الشورى : 19] (الشورى : 91).
قال علي رضي الله عنه : ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية.
وحمل المعتزلة على التائب باطل لأن الكفر مغفور عنه بالتوبة لقوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ } [الانفال : 38] (الأنفال : 83).
فما دونه أولى من أن يغفر بالتوبة.
والآية سيقت لبيان التفرقة بينهما وذا فيما ذكرنا { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } كذب كذباً عظيماً استحق به عذاباً أليماً.
ونزل فيمن زكى نفسه من اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ } [المائدة : 18] (المائدة : 81).
{ وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـارَى } [البقرة : 111] (البقرة : 111).
336
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم } [النساء : 49] ويدخل فيها كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل وزيادة الطاعة والتقوى { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ } [النساء : 49] إعلام بأن تزكية الله هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه هو العالم بمن هو أهل للتزكية ونحوه : { فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم : 32] (النجم : 23).
{ وَلا يُظْلَمُونَ } [مريم : 60] أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكية أنفسهم حق جزائهم ، أو من يشاء يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم { فَتِيلا } قدر فتيل وهو ما يحدث بفتل الأصابع من الوسخ.
{ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [النساء : 50] في زعمهم أنهم عند الله أزكياءٌ { وَكَفَى بِهِ } [النساء : 50] بزعمهم هذا { إِثْمًا مُّبِينًا } [النساء : 50] من بين سائر آثامهم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 23] يعني اليهود
(1/221)
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ } [النساء : 51] أي الأصنام وكل ما عبدوه من دون الله { وَالطَّـاغُوتِ } الشيطان { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا } [النساء : 51] وذلك أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا : أنتم أهل الكتاب وأنتم إلى محمد أقرب منا وهو أقرب منكم إلينا فلا نأمن مكركم ، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ، فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس عليه اللعنة فيما فعلوا.
فقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقال كعب : أنتم أهدى سبيلاً.
{ أؤلئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } [محمد : 23] أبعدهم من رحمته { وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } [النساء : 52] يعتد بنصره.
ثم وصف اليهود بالبخل والحسد وهما من شر الخصال ، يمنعون ما لهم ويتمنون ما لغيرهم فقال { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ } [النساء : 53] فـ " أم " منقطعة ومعنى الهمزة الإنكار أن يكون
337
لهم نصيب من الملك { فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [النساء : 53] أي لو كان لهم نصيب من الملك أي ملك أهل الدينا أو ملك الله فإذا لا يؤتون أحداً مقدار نقير لفرط بخلهم ، والنقير : النقرة في ظهر النواة وهو مثل في القلة كالفتيل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
{ مَآ ءَاتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ } [النساء : 54] بل أيحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين على إنكار الحسد واستقباحه ، وكانوا يحسدونهم على ما آتاهم الله من النصرة والغلبة وازدياد العز والتقدم كل يوم { فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـابَ } [النساء : 54] أي التوراة { وَالْحِكْمَةَ } الموعظة والفقه { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } [النساء : 54] يعني ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام ، وهذا إلزام لهم بما عرفوه من إيتاء الله الكتاب والحكمة آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد عليه السلام ، وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه { فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ } [النساء : 55] فمن اليهود من آمن بما ذكر من حديث آل إبراهيم { وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ } [النساء : 55] وأنكره مع علمه بصحته ، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلّم ومنهم من أنكر نبوته وأعرض عنه { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } [النساء : 55] للصادين.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِـاَايَـاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ } [النساء : 56] ندخلهم { نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم } [النساء : 56] أحرقت { بَدَّلْنَـاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } [النساء : 56] أعدنا تلك الجلود غير محترقة ، فالتبديل والتغيير لتغاير الهيئتين لا لتغاير الأصلين عند أهل الحق خلافاً للكرامية.
وعن فضيل : يجعل النضيج غير نضيج { لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء : 56] ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز : " أعزك الله " أي أدامك على عزك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا } [النساء : 56] غالباً بالانتقام لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين { حَكِيمًا } فيما يفعل بالكافرين
338
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [النساء : 57] من الأنجاس والحيض والنفاس { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } [النساء : 57] هو صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه كما يقال : " ليل أليل " وهو ماكان طويلاً فيناناً لا وجوب فيه ودائماً لا تنسخه الشمس وسجسجاً لا حر فيه ولا برد ، وليس ذلك إلا ظل الجنة.
ثم خاطب الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
(1/222)
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الامَـانَـاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء : 58] وقيل : قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان ، وحفظ الحواس التي هي ودائع الله تعالى { وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ } [النساء : 58] قضيتم { أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء : 58] بالسوية والإنصاف.
وقيل : إن عثمان بن طلحة بن عبد الدار كان سادن الكعبة وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم منه مفتاح الكعبة ، فلما نزلت الآية أمر علياً رضي الله عنه بأن يرده إليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم " لقد أنزل الله في شأنك قرآناً " وقرأ عليه الآية فأسلم عثمان فهبط جبريل عليه السلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن السدانة في أولاد عثمان أبداً { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ } [النساء : 58] ما نكرة منصوبة موصوفة بـ يعظكم به كأنه قيل : نعم شيئاً يعظكم به ، أو موصولة مرفوعة المحل صلتها ما بعدها أي نعم الشيء الذي يعظكم به.
والمخصوص بالمدح محذوف أي نعّما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم.
وبكسر النون وسكون العين : مدني وأبو عمرو ، وبفتح النون وكسر العين : شامي وحمزة وعلي.
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعَا } [النساء : 58] لأقوالكم { بَصِيرًا } بأعمالكم.
ولما أمر الولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل أمر الناس بأن يطيعوهم بقوله { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الامْرِ مِنكُمْ } أي الولاة أو العلماء لأن أمرهم ينفذ على الأمر { فَإِن تَنَـازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ } [النساء : 59] فإن اختلفتم أنتم وأولو الأمر في شيء من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [النساء : 59] أي ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [النساء : 59] أي إن الإيمان يوجب الطاعة دون
339
العصيان ، ودلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق فإذا خالفوه فلا طاعة لهم لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .
وحكي أن مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لأبي حازم : ألستم أمرتم بطاعتنا بقوله : وأولي الأمر منكم ؟ فقال أبو حازم : أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق.
بقوله فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله أي القرآن والرسول في حياته وإلى أحاديثه بعد وفاته
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
(1/223)
{ ذَالِكَ } إشارة إلى الرد أي الرد إلى الكتاب والسنة { خَيْرٍ } عاجلاً { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [النساء : 59] عاقبة كان بين بشر المنافق ويهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم لعلمه أنه لا يرتشي ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ليرشوه ، فاحتكما إلى النبي عليه السلام فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال : تعال نتحاكم إلى عمر.
فقال اليهودي لعمر رضي الله عنه : قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه.
فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم.
فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق فقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزل.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [النساء : 60] وقال جبريل عليه السلام : إن عمر فرق بين الحق والباطل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم " أنت الفاروق " { يُرِيدُونَ } حال من الضمير في يزعمون { أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّـاغُوتِ } [النساء : 60] أي كعب بن الأشرف سماه الله طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله عليه السلام ، أو على التشبيه بالشيطان ، أو جعل اختيار التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلّم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان بدليل قوله { وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُضِلَّهُمْ } [النساء : 60] عن الحق { ضَلَـا بَعِيدًا } [النساء : 60] مستمراً إلى الموت { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [البقرة : 91] للمنافقين { تَعَالَوا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } [النساء : 61] للتحاكم { رَأَيْتَ الْمُنَـافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } [النساء : 61] يعرضون عنك إلى غيرك ليغروه بالرشوة فيقضي لهم
340
{ فَكَيْفَ } تكون حالهم وكيف يصنعون { إِذَآ أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةُ } [النساء : 62] من قتل عمر بشرا { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الروم : 36] من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم { ثُمَّ جَآءُوكَ } [النساء : 62] أي أصحاب القتيل من المنافقين { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } [النساء : 62] حال { إِنْ أَرَدْنَآ } [النساء : 62] ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك { إِلا إِحْسَـانًا } [النساء : 62] لا إساءة { وَتَوْفِيقًا } بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطاً لحكمك ، وهذا وعيد لهم على فعلهم وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغني عنهم الاعتذار.
وقيل : جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله فقالوا : ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بحكومة العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به.
جزء : 1 رقم الصفحة : 335
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
{ أؤلئك الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } [النساء : 63] من النفاق.
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْ بَلِيغًا } فأعرض عن قبول الأعذار وعظ بالزجر والإنكار وبالغ في وعظهم بالتخويف والإنذار ، أو أعرض عن عقابهم وعظهم في عتابهم وبلغ كنه ما في ضميرك من الوعظ بارتكابهم.
والبلاغة أن يبلغ بلسانه كنه ما في جنانه.
وفي أنفسهم يتعلق بـ قل لهم أي قل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولاً بليغاً منهم ويؤثر فيهم.
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } [النساء : 64] أي رسولاً قط { إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [النساء : 64] بتوفيقه في طاعته وتيسيره ، أو بسبب إذن الله في طاعته وبأنه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه لأنه مؤد عن الله فطاعته طاعة الله و { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80] (النساء : 08) { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ } [النساء : 64] بالتحاكم إلى الطاغوت { جَآءُوكَ } تائبين من النفاق معتذرين عما ارتكبوا من الشقاق { فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ } [النساء : 64] من النفاق والشقاق { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } [النساء : 64] بالشفاعة لهم.
والعامل في إذ ظلموا خبر " أنّ " وهو جاؤوك والمعنى :
341
(1/224)
ولو وقع مجيئهم في وقت ظلمهم مع استغفارهم واستغفار الرسول { لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا } [النساء : 64] لعلموه تواباً أي لتاب عليهم.
ولم يقل " واستغفرت لهم " وعدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيماً لشأنه صلى الله عليه وسلّم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان { رَّحِيمًا } بهم.
قيل : جاء أعرابي بعد دفنه عليه السلام فرمى بنفسه على قبره وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله ، قلت فسمعنا وكان فيما أنزل عليك : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية.
وقد ظلمت نفسي وجئتك أستغفر الله من ذنبي فاستغفر لي من ربي ، فنودي من قبره قد غفر لك.
{ فَلا وَرَبِّكَ } [النساء : 65] أي فوربك كقوله
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ } [الحجر : 92] (الحجر : 29) " ولا " مزيدة لتأكيد معنى القسم وجواب القسم { لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] أو التقدير : فلا أي ليس الأمر كما يقولون ثم قال وربك لا يؤمنون { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [النساء : 65] فيما اختلف بينهم واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا } [النساء : 65] ضيقاً { مِّمَّا قَضَيْتَ } [النساء : 65] أي لا تضيق صدورهم من حكمك أو شكًّا ، لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء : 65] وينقادوا لقضائك انقياداً وحقيقته.
سلم نفسه له وأسلمها أي جعلها سالمة له أي خاصة.
وتسليماً مصدر مؤكد للفعل بمنزلة تكريره كأنه قيل : وينقادوا لحكمك انقياداً لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم ، والمعنى لا يكونون مؤمنين حتى يرضوا بحكمك وقضائك { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ } [النساء : 66] على المنافقين أي ولو وقع كتبنا عليهم { أَنِ اقْتُلُوا } [النساء : 66] أن هي المفسرة { أَنفُسَكُمْ } أي تعرضوا للقتل بالجهاد.
أو ولو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم { أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَـارِكُم } [النساء : 66] بالهجرة { مَّا فَعَلُوهُ } [النساء : 66] لنفاقهم.
والهاء ضمير أحد مصدري الفعلين وهو القتل أو الخروج أو ضمير المكتوب لدلالة كتبنا عليه { إِلا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [النساء : 66] قليلاً : شامي على الاستثناء والرفع على البدل من واو فعلوه { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } [النساء : 66] من اتباع رسول
342
الله عليه السلام والانقياد لحكمه { لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [محمد : 21] في الدارين { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء : 66] لإيمانهم وأبعد عن الاضطراب فيه { وَإِذَا } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل : وإذا لو ثبتوا { لاتَيْنَـاهُم مِّن لَّدُنَّآ أَجْرًا عَظِيمًا } أي ثواباً كثيراً لا ينقطع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
(1/225)
{ وَلَهَدَيْنَـاهُمْ صِرَاطًا } [النساء : 68] مفعول ثانٍ { مُّسْتَقِيمًا } أي لثبتناهم على الدين الحق { وَالصِّدِّيقِينَ } كأفاضل صحابة الأنبياء.
والصديق : المبالغ في صدق ظاهره بالمعاملة وباطنه بالمراقبة ، أو الذي يصدق قوله بفعله { وَالشُّهَدَآءِ } والذين استشهدوا في سبيل الله { وَالصَّـالِحِينَ } ومن صلحت أحوالهم وحسنت أعمالهم { وَحَسُنَ أُوالَـائِكَ رَفِيقًا } [النساء : 69] أي وما أحسن أولئك رفيقاً وهو كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه { ذَالِكَ } مبتدأ خبره { الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } [النساء : 70] أو الفضل صفته ومن الله خبره والمعنى : أن ما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم ، أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله.
{ ذَالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } الحذر والحذر بمعنى وهو التحرز وهما كالإثر والأثر.
يقال : أخذ حذره إذا تيقظ ، واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه ، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو { فَانفِرُوا ثُبَاتٍ } [النساء : 71] فاخرجوا إلى العدو جماعات متفرقة سرية بعد سرية ، فالثباب الجماعات واحدها ثبة.
{ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } [النساء : 71] أي مجتمعين أو مع النبي عليه السلام ، لأن الجمع بدون السمع لا يتم ، والعقد بدون الواسطة لا ينتظم.
أو انفروا ثباتٍ إذا لم
343
يعم النفير ، أو انفروا جميعاً إذا عم النفير.
وثبات حال وكذا جميعاً .
واللام في { وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن } [النساء : 72] للابتداء بمنزلتها في { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ } [النحل : 18] (النحل : 81) و " من " موصولة.
وفي { لَّيُبَطِّئَنَّ } جواب قسم محذوف تقديره : وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن والقسم وجوابه صلة من ، والضمير الراجع منها إليه ما استكنّ في { لَّيُبَطِّئَنَّ }
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد ، وبطؤ بمعنى أبطأ أي تأخر ويقال : " ما بطؤ بك " فيتعدى بالباء.
والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وقوله منكم أي في الظاهر دون الباطن يعني المنافقين يقولون لم تقتلون أنفسكم تأنوا حتى يظهر الأمر { فَإِنْ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ } [النساء : 72] قتل أو هزيمة { قَالَ } المبطىء { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا } [النساء : 72] حاضر فيصيبني مثل ما أصابهم { وَلَـاـاِنْ أَصَـابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ } [النساء : 73] فتح أو غنيمة { لَيَقُولَنَّ } هذا المبطىء متلهفاً على ما فاته من الغنمية لا طلباً للمثوبة { كَانَ } مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي كأنه { لَّمْ تَكُن } [الأنعام : 158] وبالتاء مكي وحفص { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [النساء : 73] وهي اعتراض بين الفعل وهو ليقولن وبين مفعوله وهو { يَـالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ } [النساء : 73] والمعنى : كأن لم يتقدم له معكم موادة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن { فَأَفُوزَ } بالنصب لأنه جواب التمني { فَوْزًا عَظِيمًا } [النساء : 73] فآخذ من الغنيمة حظاً وافراً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
{ فَلْيُقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ } [النساء : 74] يبيعون { الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاخِرَةِ } [البقرة : 86] والمراد المؤمنون الذين يستحبون الحياة الآجلة على العاجلة ويستبدلونها بها ، أي إن صد الذين مرضت قلوبهم وضعفت نياتهم عن القتال فليقاتل الثابتون
344
(1/226)
المخلصون أو يشترون ، والمراد المنافقون الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة ، وعضوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان بالله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده { وَمَن يُقَـاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 74] وعد الله المقاتل في سبيل الله ظافراً أو مظفوراً به إيتاء الأجر العظيم على اجتهاده في إعزاز دين الله.
{ وَمَا لَكُمْ } [الأنعام : 119] مبتدأ وخبر ، وهذا الاستفهام في النفي للتنبيه على الاستبطاء ، وفي الإثبات للإنكار { لا تُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء : 75] حال والعامل فيها الاستقرار كما تقول " مالك قائماً " والمعنى وأي شيء لكم تاركين القتال وقد ظهرت دواعيه { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } مجرور بالعطف على سبيل الله أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ، أو منصوب على الاختصاص منه أي واختص من سبيل الله خلاص المستضعفين من المستضعفين ، لأن سبيل الله عام في كل خير ، وخلاص المستضعفين المسلمين من أيدي الكفار من أعظم الخير وأخصه.
والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين مستضعفين يلقون منهم الأذى الشديد { مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ } [النساء : 75] ذكر الولدان تسجيلاً بإفراط ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاماً لآبائهم وأمهاتهم ، ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس عليه السلام.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } [النساء : 75] يعني مكة { الظَّالِمِ أَهْلُهَا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
النساء : 75] الظالم وصف للقرية إلا أنه مسند إلى أهلها فأعطي إعراب القرية لأنه صفتها وذكر لإسناده إلى الأهل كما تقول " من هذه القرية التي ظلم أهلها " { وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا } [النساء : 75] يتولى أمرنا ويستنقذنا من أعدائنا { وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [النساء : 75] ينصرنا عليهم.
كانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وناصر وهو محمد عليه السلام ، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر.
ولما خرج محمد صلى الله عليه وسلّم استعمل عتاب بن أسيد فرأوا منه
345
الولاية والنصرة كما أرادوا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة ثم رغب الله المؤمنين بأنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليهم وناصرهم ، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا ولي لهم إلا الشيطان بقوله { الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَـاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّـاغُوتِ } [النساء : 76] أي الشيطان { فَقَـاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَـانِ } [النساء : 76] أي الكفار { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـانِ } [النساء : 76] أي وساوسه.
وقيل : الكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال { كَانَ ضَعِيفًا } [النساء : 76] لأنه غرور لا يؤول إلى محصول ، أوكيده في مقابلة نصر الله ضعيف.
كان المسلمون مكفوفين عن القتال مع الكفار ما داموا بمكة وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه فنزل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 341
(1/227)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ } [النساء : 77] أي عن القتال { وَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ وَءَاتُوا الزكاة فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } أي فرض بالمدينة { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ } [النساء : 77] يخافون أن يقاتلهم الكفار كما يخافون أن ينزل الله عليهم بأسه ، لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : هذه خشية طبع لا أن ذلك منهم كراهة لحكم الله وأمره اعتقاداً ، فالمرء مجبول على كراهة مافيه خوف هلاكه غالباً ، وخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ومحله النصب على الحال من الضمير في يخشون أي يخشون الناس مثل خشية أهل الله أي مشبهين لأهل خشية الله { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77] هو معطوف على الحال أي أو أشد خشية من أهل خشية الله وأو للتخيير أي إن قلت ؛ خشيتهم الناس كخشية الله فأنت مصيب ، وإن قلت : إنها أشد فأنت مصيب لأنه حصل لهم مثلها وزيادة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
{ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } [النساء : 77] هلا أمهلتنا إلى الموت فنموت على الفرش ، وهو سؤال عن وجه الحكمة في فرض القتال عليهم لا
346
اعتراض لحكمه بدليل أنهم لم يوبخوا على هذا السؤال بل أجيبوا بقوله { قُلْ مَتَـاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى } [النساء : 77] متاع الدنيا قليل زائل ومتاع الآخرة كثير دائم ، والكثير إذا كان على شرف الزوال فهو قليل فكيف القليل الزائل { وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء : 77] ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتل فلا ترغبوا عنه.
وبالياء : مكي وحمزة وعلي.
ثم أخبر أن الحذر لا ينجي من القدر بقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ } [النساء : 78] ما زائدة لتوكيد معنى الشرط في " أين " { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ } [النساء : 78] حصون أو قصور { مُّشَيَّدَةٍ } مرفعة { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } [النساء : 78] نعمة من خصب ورخاء { يَقُولُوا هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ } [النساء : 78] نسبوها إلى الله { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } [الروم : 36] بلية من قحط وشدة { يَقُولُوا هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ } [النساء : 78] أضافوها إليك وقالوا.
هذه من عندك وما كانت إلا بشؤمك ، وذلك أن المنافقين واليهود كانوا إذا أصابهم خير حمدوا الله تعالى ، وإذا أصابهم مكروه نسبوه إلى محمد صلى الله عليه وسلّم فكذبهم الله تعالى بقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [النساء : 78] والمضاف إليه محذوف أي كل ذلك فهو يبسط الأرزاق ويقبضها { لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ } يفهمون { حَدِيثًا } فيعلمون أن الله هو الباسط القابض وكل ذلك صادر عن حكمة.
ثم قال { مَّآ أَصَابَكَ } [لقمان : 17] يا إنسان خطاباً عاماً.
وقال الزجاج : المخاطب به النبي عليه السلام والمراد غيره { مِنْ حَسَنَةٍ } [النساء : 79] من نعمة وإحسان
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
{ فَمَنَّ اللَّهُ } [النحل : 53] تفضلاً منه وامتناناً { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ } [النساء : 79] من بلية ومصيبة { فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء : 79] فمن عندك أي فبما كسبت يداك.
{ وَمَآ أَصَـابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } (الشورى : 03).
{ وَأَرْسَلْنَـاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } [النساء : 79] لا مقدراً حتى نسبوا إليك الشدة ، أو أرسلناك للناس رسولاً فإليك تبليغ
347
(1/228)
الرسالة وليس إليك الحسنة والسيئة { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء : 79] بأنك رسوله ، وقيل : هذا متصل بالأول أي يكادون يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك.
وحمل المعتزلة الحسنة والسيئة في الآية الثانية على الطاعة والمعصية تعسف بيّن وقد نادى عليه ما أصابك إذ يقال في الأفعال " ما أصبت " ولأنهم لا يقولون الحسنات من الله خلقاً وإيجاداً فأنى يكون لهم حجة في ذلك؟ وشهيداً تمييز.
{ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء : 80] لأنه لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله به ونهى عنه ، فكانت طاعته في أوامره ونواهيه طاعة لله { وَمَن تَوَلَّى } [النساء : 80] عن الطاعة فأعرض عنه { فَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [النساء : 80] تحفط عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
{ وَيَقُولُونَ } ويقول المنافقون إذا أمرتهم بشيء { طَاعَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا وشأننا طاعة { فَإِذَا بَرَزُوا } [النساء : 81] خرجوا { مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } [النساء : 81] زور وسوّى فهو من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل ، أو من أبيات الشعر لأن الشاعر يدبرها ويسويها.
وبالإدغام : حمزة وأبو عمرو.
{ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ } [النساء : 81] خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة ، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون.
{ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } [النساء : 81] يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [الأنعام : 68] ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [الانفال : 61] في شأنهم فإن الله يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [النساء : 81] كافياً لمن توكل عليه { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ } [محمد : 24] أفلا يتأملون معانيه ومبانيه.
والتدبير : التأمل والنظر في أدبار الأمر وما يؤول إليه في عاقبته ثم استعمل في كل تأمل.
والتفكر : تصرف القلب بالنظر في الدلائل وهذا يرد قول من زعم من الروافض أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول صلى الله عليه وسلّم والإمام المعصوم ، ويدل على صحة القياس وعلى
348
بطلان التقليد.
{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ } [النساء : 82] كما زعم الكفار { لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا } [النساء : 82] أي تناقضاً من حيث التوحيد والتشريك والتحليل والتحريم ، أو تفاوتاً من حيث البلاغة فكان بعضه بالغاً حد الإعجاز وبعضه قاصراً عنه يمكن معارضته ، أو من حيث المعاني فكان بعضه إخباراً بغيب قد وافق المخبر عنه ، وبعضه إخباراً مخالفاً للمخبر عنه ، وبعضه دالاً على معنى صحيح عند علماء المعاني ، وبعضه دالاً على معنى فاسد غير ملتئم.
وأما تعلق الملحدة بآيات يدعون فيها اختلافاً كثيراً من نحو قوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
(1/229)
{ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [الأعراف : 107] (الأعراف : 701) { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } [النمل : 10] (النمل : 01) { فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [الحجر : 92] (الحجر : 29).
{ فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِهِ إِنسٌ وَلا جَآنٌّ } [الرحمن : 39] (الرحمن : 93).
فقد تفصى عنها أهل الحق وستجدها مشروحة في كتابنا هذا في مظانها إن شاء الله تعالى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الامْنِ أَوِ الْخَوْفِ } [النساء : 83] هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال ، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أمن وسلامة أو خوف وخلل { أَذَاعُوا بِهِ } [النساء : 83] أفشوه وكانت إذاعتهم مفسدة.
يقال : أذاع السرع وأذاع به ، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف لأن " أو " تقتضي أحدهما { وَلَوْ رَدُّوهُ } [النساء : 83] أي ذلك الخبر { إِلَى الرَّسُولِ } [المائدة : 83] أي رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَإِلَى أُوْلِى الامْرِ مِنْهُمْ } [النساء : 83] يعني كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمّرون منهم { لَعَلِمَهُ } لعلم تدبير ما أخبروا به { الَّذِينَ يَسْتَنابِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء : 83] يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائدها ، وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا ، لعلم الذين يستنبطون
349
تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه.
والنبط : الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر ، واستنباطه استخراجه فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء : 83] بإرسال الرسول { وَرَحْمَتُهُ } بإنزال الكتاب { اتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـانَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
النساء : 83] لبقيتم على الكفر { إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] لم يتبعوه ولكن آمنوا بالعقل كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهما.
لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها قال { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء : 84] إن أفردوك وتركوك وحدك { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } [النساء : 84] غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله تعالى ناصرك لا الجنود ، وقيل : دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت ، فخرج وما معه إلا سبعون ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 84] وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب لا التعنيف بهم { عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 84] أي بطشهم وشدتهم وهم قريش وقد كف بأسهم بالرعب فلم يخرجوا.
و " عسى " كلمة مطمعة غير أن أطماع الكريم أعود من إنجاز اللئيم { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا } [النساء : 84] من قريش { وَأَشَدُّ تَنكِيلا } [النساء : 84] تعذيباً وهو تمييز كبأساً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 346
و { مَّن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً حَسَنَةً } [النساء : 85] هي الشفاعة في دفع شر أو جلب نفع من جوازها شرعاً { يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } [النساء : 85] من ثواب الشفاعة { وَمَن يَشْفَعْ شَفَـاعَةً سَيِّئَةً } [النساء : 85] هي خلاف الشفاعة الحسنة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما لها مفسر غيري معناه
350
من أمر بالتوحيد وقاتل أهل الكفر وضده السيئة.
وقال الحسن : هو المشي بالصلح وضده النميمة { يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } [النساء : 85] نصيب { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتًا } [النساء : 85] مقتدراً من أقات على الشيء اقتدر عليه ، أو حفيظاً من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها.
{ وَإِذَا حُيِّيتُم } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 350
(1/230)
النساء : 86] أي سلم عليكم فإن التحية في ديننا بالسلام في الدارين { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [النور : 61] (النور : 16).
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـامٌ } [الأحزاب : 44] (الأحزاب : 44).
وكانت العرب تقول عند اللقاء : حياك الله أي أطال الله حياتك فأبدل ذلك بعد الإسلام بالسلام { بِتَحِيَّةٍ } هي تفعله من حيّا يحيّي تحية { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [النساء : 86] أي قولوا : وعليكم السلام ورحمة الله إذا قال السلام عليكم.
وزيدوا " وبركاته " إذا قال " ورحمة الله " .
ويقال لكل شيء منتهى ومنتهى السلام " وبركاته " .
{ أَوْ رُدُّوهَآ } [النساء : 86] أي أجيبوها بمثلها ، ورد اسلام جوابه بمثله لأن المجيب يرد قول المسلّم ، وفيه حذف مضاف أي ردوا مثلها.
والتسليم سنة والرد فريضة والأحسن فضل.
وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة.
ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن جهراً ورواية الحديث وعند مذاكرة العلم والأذان والإقامة.
وعند أبي يوسف رحمه الله : لا يسلم على لاعب الشطرنج والنرد والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري من غير عذر في حمام أو غيره.
ويسلم الرجل إذا دخل على امرأته ، والماشي على القاعد ، والراكب على الماشي ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر ، وإذا التقيا ابتدار.
وقيل : بأحسن منها لأهل الملة أو ردوها لأهل الذمة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون " السام عليكم " .
وقوله عليه السلام لإغرار في تسليم أي لا يقال " عليك " بل " عليكم " لأن كاتبيه معه { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيبًا } [النساء : 86] أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.
{ اللَّهُ } مبتدأ { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] خبره أو اعتراض والخبر { لَيَجْمَعَنَّكُمْ }
351
ومعناه : الله والله ليجمعنكم { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [القلم : 39] أي ليحشرنكم إليه.
والقيامة القيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور ، أو قيامهم للحساب { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } [المطففين : 6] (المطففين : 6) { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] هو حال من يوم القيامة والهاء يعود إلى اليوم ، أو صفة لمصدر محذوف أي جمعاً لا ريب فيه ، والهاء يعود إلى الجمع { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } [النساء : 87] تمييز وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه في إخباره ووعده ووعيده لاستحالة الكذب عليه لقبحه لكونه إخباراً عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 350
ف { مَالَكُمْ } مبتدأ وخبر { فِى الْمُنَـافِقِينَ فِئَتَيْنِ } [النساء : 88] أي مالكم اختلفتم في شأن قوم قد نافقوا نفاقاً ظاهراً وتفرقتم فيهم فرقتين ، وما لكم لم تقطعوا القول بكفرهم؟ وذلك أن قوماً من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينة ، فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين.
فاختلف المسلمون فيهم فقال بعضهم : هم كفار ، وقال بعضهم : هم مسلمون.
وفئتين حال كقولك " مالك قائماً " ، قال سيبويه : إذا قلت " مالك قائماً " فمعناه لم قمت؟ ونصبه على تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال؟ { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم } [النساء : 88] ردهم إلى حكم الكفار { بِمَا كَسَبُوا } [النساء : 88] من ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين فردوهم أيضاً ولا تختلفوا في كفرهم { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا } [النساء : 88] أن تجعلوا من جملة المهتدين { مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } [الروم : 29] من جعله الله ضالاً ، أو أتريدون أن تسموهم مهتدين وقد أظهر الله ضلالهم فيكون تعييراً لمن سماهم مهتدين.
والآية تدل على مذهبنا في إثبات الكسب للعبد والخلق للرب جلت قدرته { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [النساء : 88] طريقاً إلى الهداية.
{ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا } [النساء : 89] الكاف نعت لمصدر محذوف و " ما " مصدرية أي ودوا لو تكفرون كفراً مثل كفرهم { فَتَكُونُونَ } عطف على تكفرون { سَوَآءً } أي مستوين أنتم وهم في الكفر
(1/231)
352
{ فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء : 89] فلا توالوهم حتى يؤمنوا لأن الهجرة في سبيل الله بالإسلام { فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] عن الأيمان { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [النساء : 89] كما كان حكم سائر المشركين { وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } [النساء : 89] وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 350
{ إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْم } [النساء : 90] أي ينتهون إليهم ويتصلون بهم.
والاستثناء من قوله { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ } [النساء : 91] دون الموالاة { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ } [النساء : 90] القوم هم الأسلميون كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم عهد ، وذلك أنه وادع قبل خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن من وصل إلى هلال والتجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال ، أي فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق { أَوْ جَآءُوكُمْ } [النساء : 90] عطف على صفة قوم أي إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم أو على صفة الذين أي إلا الذين يتصلون بالمعاهدين ، أو الذين لا يقاتلونكم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [النساء : 90] حال بإضمار " قد " .
والحصر : الضيق والانقباض { وَإِن يُقَـاتِلُوكُمْ } عن أن يقاتلوكم أي عن قتالكم { أَوْ يُقَـاتِلُوا قَوْمَهُمْ } [النساء : 90] معكم { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } [النساء : 90] بتقوية قلوبهم وإزالة الحصر عنها { فَلَقَـاتَلُوكُمْ } عطف على { لَسَلَّطَهُمْ } ودخول اللام للتأكيد { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ } [النساء : 90] فإن لم يتعرضوا لكم { فَلَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } [النساء : 90] أي الانقياد والاستسلام { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } [النساء : 90] طريقاً إلى القتال.
جزء : 1 رقم الصفحة : 350
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
{ سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } [النساء : 91] بالنفاق { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ } [النساء : 91] بالوفاق هم قوم من أسد وغطفان ، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم { كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ } [النساء : 91] كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين { أُرْكِسُوا فِيهَا } [النساء : 91] قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا شراً فيها
353
(1/232)
من كل عدو { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } [النساء : 91] فإن لم يعتزلوا قتالكم { وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } [النساء : 91] عطف على " لم يعتزلوكم " أي ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ } [النساء : 91] عطف عليه أيضاً أي ولم يمسكوا عن قتالكم { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } [النساء : 91] حيث تمكنتم منهم وظفرتم بهم { وَأُوالَـائكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانًا مُّبِينًا } [النساء : 91] حجة واضحة لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بالمسلمين ، أو تسلطاً ظاهراً حيث أذنا لكم في قتلهم.
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } [النساء : 92] وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله { أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا } [النساء : 92] ابتداء من غير قصاص أي ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم إباحة دمه { إِلا خَطَـاًا } [النساء : 92] إلا على وجه الخطأ وهو استثناء منقطع بمعنى " لكن " أي لكن إن وقع خطأ ، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر أي إلا قتلاً خطأ والمعنى : من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي كافراً فيصيب مسلماً أو يرمي شخصاً على أنه كافر فإذا هو مسلم { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَاًا } [النساء : 92] صفة مصدر محذوف أي قتلاً خطأ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [النساء : 92] مبتدأ والخبر محذوف أي فعليه تحرير رقبة.
والتحرير : الإعتاق ، والحر والعتيق الكريم لأن الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ، ومنه عتاق الطير وعتاق الخيل لكرامها.
والرقبة : النسمة ويعبر عنها بالرأس في قولهم : " فلان يملك كذا رأساً من الرقيق
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
{ مُّؤْمِنَةٍ } قيل : لما أخرج نفساً مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار ، لأن إطلاقها من قيد الرق كإحيائها من قبل أن الرقيق ملحق بالأموات ، إذ الرق أثر من آثار الكفر والكفر موت حكماً.
354
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ } [الأنعام : 122] (الأنعام : 221).
ولهذا منع من تصرف الأحرار وهذا مشكل إذ لو كان كذلك لوجب في العمد أيضاً ، لكن يحتمل أن يقال : إنما وجب عليه ذلك لأن الله تعالى أبقى للقتال نفساً مؤمنة حيث لم يوجب القصاص فأوجب عليه مثلها رقبة مؤمنة.
{ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } [النساء : 92] مؤادة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء فيقضي منها الدين وتنفذ الوصية ، وإذا لم يبق وارث فهي لبيت المال.
وقد ورّث رسول الله صلى الله عليه وسلّم امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم ، لكن الدية على العاقلة والكفارة على القاتل.
{ إِلا أَن يَصَّدَّقُوا } [النساء : 92] إلا أن يتصدقوا عليه بالدية أي يعفوا عنه ، والتقدير : فعليه دية في كل حال إلا في حال التصديق عليه بها.
{ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } [النساء : 92] فإن كان المقتول خطأ من قوم أعداء لكم أي كفرة فالعدو يطلق على الجمع { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [الإسراء : 19] أي المقتول مؤمن { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [النساء : 92] يعني إذا أسلم الحربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم خطأ تجب الكفارة بقتله للعصمة المؤثمة وهي الإسلام ، ولا تجب الدية لأن العصمة المقومة بالدار ولم توجد { وَإِن كَانَ } [الحجر : 78] أي المقتول { مِن قَوْم بَيْنَكُمْ } [النساء : 92] بين المسلمين { وَبَيْنَهُم مِّيثَـاقٌ } [النساء : 90] عهد { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [النساء : 92] أي وإن كان المقتول ذمياً فحكمه حكم المسلم ، وفيه دليل على أن دية الذمي كدية المسلم وهو قولنا { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [البقرة : 196] رقبة أي لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
(1/233)
{ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } [النساء : 92] فعليه صيام شهرين { مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ } [النساء : 92] قبولاً من الله ورحمة منه ، من تاب الله عليه إذا قبل توبته يعني شرع ذلك توبة منه ، أو فليتب توبة فهي نصب على المصدر { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } [النساء : 17] بما أمر { حَكِيمًا } فيما قدّر.
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا } [النساء : 93] حال من ضمير القاتل أي قاصداً قتله لإيمانه وهو كفر أو قتله مستحلاً لقتله وهو كفر أيضاً { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَـالِدًا فِيهَا } أي إن جازاه.
قال عليه السلام " هي جزاؤه إن جازاه " والخلود قد يراد به طول المقام.
وقول المعتزلة بالخروج من الإيمان يخالف قوله تعالى :
355
{ الْمُتَّقُونَ * يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (البقرة : 871) : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء : 93] أي انتقم منه وطرده من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } [النساء : 93] لارتكابه أمراً عظيماً وخطباً جسيماً.
في الحديث " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرىء مسلم " .
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } سرتم في طريق الغزو { فَتَبَيَّنُوا } " فتثبتوا " : حمزة وعلي وهما من التفعل بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوكوا فيه { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَـامَ } [النساء : 94] " السلم " : مدني وشامي وحمزة وهما الاستسلام.
وقيل : الإسلام.
وقيل : التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام.
{ لَسْتَ مُؤْمِنًا } [النساء : 94] في موضع النصب بالقول.
وروي أن مرداس بن نهيك أسلم ولم يسلم من قومه غيره ، فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فهربوا وبقي مرداس لثقته بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى منعرج من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم ، فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجد وجداً شديداً وقال " قتلتموه إرادة ما معه " ثم قرأ الآية على أسامة.
{ تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } [النساء : 94] تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد فهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبت وقلة البحث عن حال من تقتلونه.
والعرض : المال ، سمي به لسرعة فنائه.
و " تبتغون " حال من ضمير الفاعل في " تقولوا " { فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } [النساء : 94] يغنّمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام ويتعوذ به من التعرض له لتأخذوا ماله { كَذَالِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ } [النساء : 94] أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، والكاف في " كذلك "
356
خبر " كان " وقد تقدم عليها وعلى اسمها { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } [النساء : 94] بالاستقامة والاشتهار بالإيمان فافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم { فَتَبَيَّنُوا } كرر الأمر بالتبين ليؤكد عليهم { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء : 94] فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
{ لا يَسْتَوِى الْقَـاعِدُونَ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
(1/234)
النساء : 95] عن الجهاد { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ } [النساء : 95] بالنصب : مدني وشامي وعلي لأنه استثناء من القاعدين ، أو حال منهم.
وبالجر عن حمزة صفة للمؤمنين ، وبالرفع غيرهم صفة للقاعدين.
والضرر المرض أو العاهة من أعمى أعرج أو زمانة أو نحوها { وَالْمُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ } [النساء : 95] عطف على " القاعدون " .
" ونفى التساوي بين المجاهد والقاعد بغير عذر وإن كان معلوماً ، توبيخاً للقاعد عن الجهاد وتحريكاً له عليه ونحوه { هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } (الزمر : 9) فهو تحريك لطلب العلم وتوبيخ على الرضا بالجهل { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَـاعِدِينَ } [النساء : 95] ذكر هذه الجملة بياناً للجملة الأولى وموضحة لما نفى من استواء القاعدين والمجاهدين كأنه قيل : ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك { دَرَجَةً } نصب على المصدر لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنه قيل ؛ فضلهم تفضلة كقولك " ضربه سوطاً " .
ونصب { وَكُلا } أي وكل فريق من القاعدين والمجاهدين لأنه مفعول أول لقوله { وَعَدَ اللَّهُ } [النور : 55] والثاني { الْحُسْنَى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة وإن كان المجاهدون مفضلين على القاعدين درجة { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَـاهِدِينَ عَلَى الْقَـاعِدِينَ } [النساء : 95] بغير عذر { أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَـاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } قيل : انتصب " أجراً " بفضل لأنه في معنى أجرهم أجراً و " درجات ومغفرة ورحمة " بدل من " أجراً " ، أو انتصب " درجات " نصب " درجة " كأنه قيل : فضلهم تفضيلات كقولك " ضربه أسواطاً " أي ضربات ، و " أجراً عظيماً " .
على أنه
357
حال من النكرة التي هي " درجات " مقدمة عليها.
" ومغفرة ورحمة " .
بإضمار فعلهما أي وغفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة.
وحاصله أن الله تعالى فضل المجاهدين على القاعدين بعذر درجة وعلى القاعدين بغير عذر بأمر النبي عليه السلام اكتفاء بغيرهم درجات لأن الجهاد فرض كفاية { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
النساء : 96] بتكفير العذر { رَّحِيمًا } بتوفير الأجر.
ونزل فيمن أسلم ولم يهاجر حين كانت الهجرة فريضة وخرج مع المشركين إلى بدر مرتداً فقتل كافراً { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّـاـاهُمُ الْمَلَـائِكَةُ } [النساء : 97] يجوز أن يكون ماضياً لقراءة من قرء " توفتهم " ومضارعاً بمعنى تتوفاهم ، وحذفت التاء الثانية لاجتماع التاءين.
والتوفي : قبض الروح ، والملائكة : ملك الموت وأعوانه { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [النحل : 28] حال من ضمير المفعول في " توفاهم " أي في حال ظلمهم أنفسهم بالكفر وترك الهجرة { قَالُوا } أي الملائكة للمتوفّين { فِيمَ كُنتُمْ } [النساء : 97] أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟ ومعناه التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين.
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ } [النساء : 97] عاجزين عن الهجرة { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] أرض مكة فأخرجونا كارهين { قَالُوا } أي الملائكة موبخين لهم { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [النساء : 97] أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، ومن الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ونصب " فتهاجروا " على جواب الاستفهام { فَأُوالَـائكَ مَأْوَاـاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 97] خبر " إن " " فأولئك " ودخول الفاء لما في " الذين " من الإبهام المشابه بالشرط ، أو " قالوا فيم كنتم " والعائد محذوف أي قالوا لهم ، والآية تدل على أن لم يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يجب وعلم أنه يتمكن من إقامته في غيره حقت عليه المهاجرة.
وفي الحديث " من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة " وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلّم { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ } [النساء : 98] استثنى من أهل الوعيد
358
(1/235)
المستضعفين الذين { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } [النساء : 98] في الخروج منها لفقرهم وعجزهم { وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } [النساء : 98] ولا معرفة لهم بالمسالك.
" ولا يستطيعون " صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان.
وإنما جاز ذلك ـ والجمل نكرات ـ لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني.
جزء : 1 رقم الصفحة : 353
{ فَأُوالَـائكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } [النساء : 99] و " عسى " وإن كان للإطماع فهو من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع أنجز.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء : 99] لعباده قبل أن يخلقهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
{ وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارْضِ مُرَاغَمًا } [النساء : 100] مهاجراً وطريقاً يراغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم ، والرغم : الذل والهوان ، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب.
يقال راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك { كَثِيرًا وَسَعَةً } [النساء : 100] في الرزق أو في إظهار الدين أو في الصدر لتبدل الخوف بالأمن { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا } [النساء : 100] حال من الضمير في " يخرج " { إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [النساء : 100] إلى حيث أمر الله ورسوله { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } [النساء : 100] قبل بلوغه مهاجره وهو عطف على " يخرج " { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [النساء : 100] أي حصل له الأجر بوعد الله وهو تأكيد للوعد فلا شيء يجب على الله لأحد من خلقه.
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 96] قالوا : كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهداً أو ابتغاء رزق طيب فهي هجرة إلى الله ، ورسوله ، وإن أدركه الموت في طريقه فقد وقع أجره على الله.
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارْضِ } [النساء : 101] سافرتم فيها ، فالضرب في الأرض هو السفر { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } [البقرة : 282] حرج { أَن تَقْصُرُوا } [النساء : 101] في أن تقصروا { مِنَ الصَّلواةِ } [النساء : 101] من أعداد ركعات الصلاة فتصلوا الرباعية ركعتين ، وظاهر الآية يقتضي أن القصر رخصة في السفر والإكمال عزيمة كما قال الشافعي رحمه الله ، لأن " لا جناح " يستعمل في موضع التخفيف والرخصة لا في موضع العزيمة وقلنا : القصر عزيمة غير رخصة ولا يجوز
359
الإكمال لقول عمر رضي الله عنه : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلّم.
وأما الآية فكأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 101] إن خشيتم أن يقصدكم الكفار بقتل أو جرح أو أخذ ، والخوف شرط جواز القصر عند الخوارج بظاهر النص ، وعند الجمهور ليس بشرط لما روي عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر : ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال : عجبت مما تعجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
وفيه دليل على أنه لا يجوز الإكمال في السفر لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد ، وإن كان المتصدق ممن لا تلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فمن تلزم طاعته أولى ، ، ولأن حالهم حين نزول الآية كذلك فنزلت على وفق الحال وهو كقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور : 33] (النور : 33).
دليله قراءة عبد الله " من الصلاة أن يفتنكم " أي لئلا يفتنكم على أن المراد بالآية قصر الأحوال وهو أن يومىء على الدابة عند الخوف ، أو يخفف القراءة والركوع والسجود والتسبيح كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
{ إِنَّ الْكَـافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا } [النساء : 101] فتحرزوا عنهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
(1/236)
{ وَإِذَا كُنتَ } [النساء : 102] يا محمد { فِيهِمْ } في أصحابك { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ } [النساء : 102] فأردت أن تقيم الصلاة بهم وبظاهره تعلق أبو يوسف رحمه الله فلا يرى صلاة الخوف بعده عليه السلام وقال : الأئمة نواب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في كل عصر فكان
360
الخطاب له متناولاً لكل إمام كقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [التوبة : 103] (التوبة : 301).
دليله فعل الصحابة رضي الله عنهم بعده عليه السلام { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ } [النساء : 102] فاجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصل بهم وتقوم طائفة تجاه العدو { وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ } [النساء : 102] أي الذين تجاه العدو.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : وإن كان المراد به المصلين فقالوا : يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ونحوهما { فَإِذَا سَجَدُوا } [النساء : 102] أي قيدوا ركعتهم بسجدتين فالسجود على ظاهره عندنا وعند مالك بمعنى الصلاة { فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآ ـاِكُمْ } [النساء : 102] أي إذا صلت هذه الطائفة التي معك ركعة فليرجعوا ليقفوا بإزاء العدو { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا } [النساء : 102] في موضع رفع صفة لـ " طائفة " { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } [النساء : 102] أي ولتحضر الطائفة الواقفة بإزاء العدو فليصلوا معك الركعة الثانية { وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ } [النساء : 102] ما يتحرزون به من العدو كالدرع ونحوه { وَأَسْلِحَتَهُمْ } جمع سلاح وهو ما يقاتل به.
وأخذ السلاح شرط عند الشافعي رحمه الله ، وعندنا مستحب ، وكيفية صلاة الخوف معروفة { وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ } [النساء : 102] أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء : 102] فيشدون عليكم شدة واحدة { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا } [النساء : 102] في أن تضعوا { أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } [النساء : 102] رخص لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من مطر أو يضعفهم من مرض ، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيهجم عليهم العدو { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [النساء : 102] أخبر أنه يهين عدوهم لتقوى قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لتوقع غلبتهم عليهم وإنما هو تعبد من الله تعالى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ } [النساء : 103] فرغتم منها { فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَـامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } [النساء : 103] أي دوموا على ذكر الله في جميع الأحوال ، أو فإذا أردتم أداء الصلاة فصلوا قياماً إن قدرتم عليه ، وقعوداً إن عجزتم عن القيام ، ومضطجعين إن عجزتم عن القعود { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } [النساء : 103] سكنتم بزوال الخوف { فَأَقِيمُوا الصَّلَواةَ } [النساء : 103] فأتموها بطائفة واحدة أو إذا أقمتم فأتموا ولا تقصروا ، أو إذا اطمأننتم بالصحة
361
(1/237)
فأتموا القيام والركوع والسجود { إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـابًا مَّوْقُوتًًا } مكتوباً محدوداً بأوقات معلومة.
{ وَلا تَهِنُوا } [النساء : 104] ولا تضعفوا ولا تتوانوا { فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ } [النساء : 104] في طلب الكفار بالقتال والتعرض به لهم.
ثم ألزمهم الحجة بقوله { إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } [النساء : 104] أي ليس ما تجدون من الألم بالجرح والقتل مختصاً بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ، يصيبهم كما يصيبكم ، ثم إنهم يصبرون عليه فما لكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنكم أجدر منهم بالصبر لأنكم ترجون من الله ما لا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان ، ومن الثواب العظيم في الآخرة { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } [النساء : 17] بما يجد المؤمنون من الألم { حَكِيمًا } في تدبير أمورهم.
روي أن طعمة بن أبريق ـ أحد بني ظفر ـ سرق درعاً من جار له اسمه قتادة بن النعمان في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه وخبأها عند زيد بن السمين ـ رجل من اليهود ـ فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إليّ طعمة وشهد له ناس من اليهود.
فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يفعل فنزل :
جزء : 1 رقم الصفحة : 359
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ } [النساء : 105] أي محقاً { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاـاكَ اللَّهُ } [النساء : 105] بما عرفك وأوحى به إليك.
وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : بما ألهمك بالنظر في أصوله المنزلة ، وفيه دلالة جواز الاجتهاد في حقه { وَلا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ } [النساء : 105] لأجل الخائنين { خَصِيمًا } مخاصماً أي ولا تخاصم اليهود لأجل بني ظفر { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } [النساء : 106] مما هممت به { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا }
362
ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم } يخونونها بالمعصية جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم لأن الضرر راجع إليهم ، والمراد به طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق ، أو ذكر بلفظ الجمع ليتناول طعمه وكل من خان خيانته { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا } [النساء : 107] وإنما قيل بلفظ المبالغة لأنه تعالى عالم من طعمة أنه مفرط في الخيانة وركوب المآثم.
وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله.
وقيل : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات.
وعن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه ، فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة.
{ يَسْتَخْفُونَ } يستترون { مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67] حياء منهم وخوفاً من ضررهم { وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ } [النساء : 108] ولا يستحيون منه { وَهُوَ مَعَهُمْ } [النساء : 108] وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه خافٍ من سرهم ، وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياة والخشية من ربهم مع علمهم أنهم في حضرته لا سترة ولا غيبة { إِذْ يُبَيِّتُونَ } [النساء : 108] يدبرون وأصله أن يكون ليلاً { مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } [النساء : 108] وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرّق دونه ويحلف أنه لم يسرقها ، وهو دليل على أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس حيث سمى التدبير قولاً { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } [النساء : 108] عالماً علم إحاطة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
(1/238)
{ هَـاأَنْتُمْ هؤلاء } [محمد : 38] " ها " للتنبيه في " أنتم " و " أولاء " " وهما مبتدأ وخبر { جَـادَلْتُمْ } خاصمتم وهي جملة مبينة لوقوع " أولاء " خبراً كقولك لبعض الاسخياء " أنت حاتم تجود بمالك " .
أو " أولاء " اسم موصول بمعنى " الذين " و " جادلتم " صلته والمعنى : هبوا أنكم خاصمتم { عَنْهُمْ } عن طعمة وقومه { فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَـادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه؟
363
وقرىء " عنه " أي عن طعمة { أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا } [النساء : 109] حافظاً ومحامياً من بأس الله وعذابه.
{ وَمَن يَعْمَلْ سُواءًا } [النساء : 110] ذنباً دون الشرك { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء : 110] بالشرك أو سوءاً قبيحاً يتعدى ضرره إلى الغير كما فعل طعمة بقتادة واليهودي ، أو يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ } [النساء : 110] يسأل مغفرته { يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 110] له وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة { وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } [النساء : 111] لأن وباله عليها { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [النساء : 17] فلا يعاقب بالذنب غير فاعله { وَمَن يَكْسِبْ خَطِياـاَةً } [النساء : 112] صغيرة { أَوْ إِثْمًا } [النساء : 112] أو كبيرة ، أو الأول ذنب بينه وبين ربه ، والثاني ذنب في مظالم العباد { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِياـاًا } [النساء : 112] كما رمى طعمة زيداً { فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَـانًا } [النساء : 112] كذباً عظيماً { وَإِثْمًا مُّبِينًا } [النساء : 20] ذنباً ظاهراً ، وهذا لأنه بكسب الإثم آثم ويرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين ، والبهتان كذب يبهت من قيل عليه ما لا علم له به { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } [النساء : 113] أي عصمته ولطفه من الإطلاع على سرهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
{ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ } [النساء : 113] من بني ظفر ، أو المراد بالطائفة بنو ظفر الضمير في " منهم " يعود إلى الناس { أَن يُضِلُّوكَ } [النساء : 113] عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل مع علمهم بأن الجاني صاحبهم { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } [آل عمران : 69] لأن وباله عليهم { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ } [النساء : 113] لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَـابَ } [النساء : 113] القرآن { وَالْحِكْمَةَ } والسنة { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ } [النساء : 113] من أمور الدين والشرائع أو من خفيات الأمور وضمائر القلوب { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } [النساء : 113] فيما علمك وأنعم عليك.
364
{ لا خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاـاهُمْ } [النساء : 114] من تناجي الناس { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ } [النساء : 114] إلا نجوى من أمر ، وهو مجرور بدل من " كثير " أو من " نجواهم " أو منصوب على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير { أَوْ مَعْرُوفٍ } [النساء : 114] أي قرض أو إغاثة ملهوف أو كل جميل ، أو المراد بالصدقة الزكاة وبالمعروف التطوع { أَوْ إِصْلَـاح بَيْنَ النَّاسِ } [النساء : 114] أي إصلاح ذات البين { وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ } [النساء : 114] المذكور { ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } [النساء : 114] طلب رضا الله وخرج عنه من فعل ذلك رياء أو ترؤساً وهو مفعول له.
والإشكال أنه قال " إلا من أمر " ثم قال و " من يفعل ذلك " والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأنه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين كان الفاعل فيهم أدخل ، ثم قال و " ومن يفعل ذلك " فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم.
أو المراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 74] " يؤتيه " : أبو عمرو وحمزة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
(1/239)
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } [النساء : 115] ومن يخالف الرسول من بعد وضوح الدليل وظهور الرشد { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 115] أي السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي ، وهو دليل على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا تجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين أتباع غير سبيل المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } نجعله والياً لما تولى من الضلال وندعه وما اختاره في الدنيا { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [النساء : 115] في العقبي { وَسَآءَتْ مَصِيرًا } [النساء : 97] قيل : هي في طعمة وارتداده.
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء : 48] مر تفسيره في هذه السورة { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَا بَعِيدًا } [النساء : 116] عن الصواب { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } [النساء : 117] ما يعبدون من دون الله { إِلا إِنَاثًا } [النساء : 117] جمع أنثى وهي اللات والعزى ومناة ، ولم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه
365
يسمونه أنثى بني فلان.
وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات الله { وَإِن يَدْعُونَ } [النساء : 117] يعبدون { إِلا شَيْطَانًا } [النساء : 117] لأنه هو الذي أغراهم على عبادة الأصنام فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة { مَّرِيدًا } خارجاً عن الطاعة عارياً عن الخير ومنه الأمرد { لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاتَّخِذَنَّ } [النساء : 118] صفتان يعني شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع { مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا } [النساء : 118] مقطوعاً واجباً لي في كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد لله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 362
{ وَلاضِلَّنَّهُمْ } بالدعاء إلى الضلالة والتزيين والوسوسة ولو كان إنفاذ الضلالة إليه لأضل الكل { وَلامَنِّيَنَّهُمْ } ولألقين في قلوبهم الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال { وَلامُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَامِ } [النساء : 119] البتك : القطع.
والتبتيك للتكثير والتكرير أي لأحملنهم على أن يقطعوا آذان الأنعام ، وكانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها { وَلامُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } [النساء : 119] بفقء عين الحامي وإعفائه عن الركوب ، أو بالخصاء وهو مباح في البهائم محظور في بني آدم ، أو بالوشم أو بنفي الأنساب واستلحاقها ، أو بتغيير الشيب بالسواد ، أو بالتحريم والتحليل ، أو بالتخنث ، أو بتبديل فطرة الله التي هي دين الإسلام لقوله : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] (الروم : 03).
{ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ } [النساء : 119] وأجاب إلى ما دعاه إليه { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا } [النساء : 119] في الدارين { يَعِدُهُمْ } يوسوس إليهم أن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب { وَيُمَنِّيهِمْ } ما لا ينالون { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء : 120] هو أن يرى شيئاً يظهر خلافه
366
{ أؤلئك مَأْوَااهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } [النساء : 121] معدلاً ومفراً.
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [البقرة : 82] ولم يتبعوا الشيطان في الأمر بالكفر { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا } وقرأ النخعي " سيدخلهم " { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } [يونس : 4] مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } [النساء : 122] قولاً وهو استفهام بمعنى النفي أي لا أحد أصدق منه وهو تأكيد ثالث ، وفائدة هذه التوكيدات مقابلة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 362(1/240)
{ لَّيْسَ بِأَمَـانِيِّكُمْ } [النساء : 123] ليس الأمر على شهواتكم وأمانيكم أيها المشركون أن تنفعكم الأصنام { وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَـابِ } ولا على شهوات اليهود والنصارى حيث قالوا : { نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ } [المائدة : 18] (المائدة : 81).
{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [البقرة : 80] (البقرة : 8).
{ مَن يَعْمَلْ سُواءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء : 123] أي من المشركين وأهل الكتاب بدليل قوله { وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
النساء : 123] وهذا وعيد للكفار لأنه قال بعده { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّـالِحَـاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [النساء : 124] فقوله " وهو مؤمن " حال و " من " الأولى للتبعيض ، والثانية لبيان الإبهام في " من يعمل " ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال ليست من الإيمان { فَأُوالَـائكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } [النساء : 124] " يدخلون " : مكي وأبو عمرو وأبو بكر { وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [النساء : 124] قدر النقير وهو النقرة في ظهر النواة والراجع في { وَلا يُظْلَمُونَ } [مريم : 60] لعمال السوء وعمال الصالحات جميعاً.
وجاز أن يكون ذكره عند أحد الفريقين دليلاً على ذكره عند الآخر.
وقوله : { الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها رباً ولا معبوداً سواء { وَهُوَ مُحْسِنٌ } [لقمان : 22] عامل للحسنات { وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } [النساء : 125] مائلاً عن الأديان الباطلة وهو حال من المتبع أو من إبراهيم { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } [النساء : 125] هو في الأصل المخال وهو الذي يخالك أي يوافقك في خلالك ، أو يداخلك خلال منزلك ، أو يسد خللك كما يسد خلله ، فالخلة صفاء مودة توجب الاختصاص بتخلل الأسرار ، والمحبة أصفى لأنها من حبة القلب وهي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كقوله " والحوادث جمة " .
وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته وطريقته لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته ، ولو جعلتها معطوفة على الجمل قبلها ولم يكن لها معنى وفي الحديث " اتخذ الله إبراهيم خليلاً لإطعامه الطعام وإفشائه السلام وصلاته بالليل والناس نيام " وقيل : أوحي إليه إنما اتخذتك خليلاً لأنك تحب أن تعطي ولا تعطى.
وفي رواية " لأنك تعطي الناس ولا تسألهم " .
وفي قوله { وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } دليل على أن اتخاذه خليلاً لاحتياج الخليل إليه لا لاحتياجه تعالى إليه لأنه منزه عن ذلك { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطًا } [النساء : 126] عالماً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ } [النساء : 127] ويسألونك الإفتاء في النساء والإفتاء تبيين المبهم { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ فِى يَتَـامَى النِّسَآءِ } [النساء : 127] أي
368
(1/241)
الله يفتيكم والمتلو في الكتاب أي القرآن في معنى اليتامى يعني قوله : { الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } (النساء : 3).
وهو من قولك " أعجبني زيد وكرمه " و " ما يتلى " في محل الرفع بالعطف على الضمير في " يفتيكم " أو على لفظ " الله " و " في يتامى النساء " صلة " يتلى " أي يتلى عليكم في معناهن.
ويجوز أن يكون " في يتامى النساء " بدلاً من " فيهن " والإضافة بمعنى " من " { الَّـاتِى لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه ومالها ، فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال ، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيرثها { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [النساء : 127] أي في أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } [النساء : 127] أي اليتامى وهو مجرور معطوف على " يتامى النساء " ، وكانوا في الجاهلية إنما يورثون الرجال القوام بالأمور دون الأطفال والنساء { وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَـامَى } [النساء : 127] مجرور كالمستضعفين بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا ، أو منصوب بمعنى ويأمركم أن تقوموا وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا لهم حقوقهم { بِالْقِسْطِ } بالعدل في ميراثهم ومالهم { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ } [البقرة : 215] شرط وجوابه { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } [النساء : 127] أي فيجازيكم عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا } [النساء : 128] توقعت منه ذلك لما لاح لها من مخايله وأمارته.
والنشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته وأن يؤذيها بسب أو ضرب { أَوْ إِعْرَاضًا } [النساء : 128] عنها بأن يقل محادثتها ومؤانستها بسبب كبر سن أو دمامة أو سوء في خلق أو خلق أو ملال أو طموح عين إلى أخرى أو غير ذلك { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا } [النساء : 128] كوفي.
" يصّالحا " : غيرهم أي يتصالحا وهو أصله فأبدلت التاء صاداً وأدغمت.
{ صُلْحًا } في معنى مصدر كل واحد من الفعلين.
ومعنى الصلح أن يتصالحا على أن تطيب له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو تهب له بعض المهر أو كله أو النفقة { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء : 128] من الفرقة أو من النشوز أو من الخصومة في كل شيء ، أو والصلح خير من الخيور كما أن الخصومة شر من الشرور ، وهذه
369
الجملة اعتراض كقوله { وَأُحْضِرَتِ الانفُسُ الشُّحَّ } [النساء : 128] أي جعل الشح حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه.
والمراد أن المرأة لا تكاد تسمح بقسمها والرجل لا يكاد يسمح بأن يقسم لها إذا رغب عنها ، فكل واحد منهما يطلب ما فيه راحته.
" وأحضرت " يتعدى إلى مفعولين والأول " الأنفس " .
ثم حث على مخالفة الطبع ومتابعة الشرط بقوله { وَإِن تُحْسِنُوا } [النساء : 128] بالإقامة على نسائكم ، وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة { وَتَتَّقُوا } النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } [النساء : 128] من الإحسان والتقوى { خَبِيرًا } فيثيبكم عليه.
وكان عمران الخارجي من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه وقالت : الحمد لله على أني وإياك من أهل الجنة.
قال : كيف؟ فقالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت والجنة موعودة للشاكرين والصابرين { وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَآءِ } [النساء : 129] ولن تستطيعوا العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ، فتمام العدل أن يسوى بينهن بالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والمحالمة والمفاكهة وغيرها.
وقيل : معناه أن تعدلوا في المحبة وكان عليه السلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : " هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
(1/242)
{ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [النساء : 129] بالغتم في تجري ذلك { فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ } [النساء : 129] فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمها من غير رضا منها يعني أن اجتناب كل الميل في حد اليسر فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله ، وفيه ضرب من التوبيخ.
و " كل " نصب على المصدر لأن له حكم ما يضاف إليه { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } [النساء : 129] وهي التي ليست بذات بعلٍ ولا مطلقة { وَإِن تُصْلِحُوا } [النساء : 129] بينهن { وَتَتَّقُوا } الجور { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [النساء : 129] يغفر لكم ميل قلوبكم
370
ويرحمكم فلا يعاقبكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 368
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا } [النساء : 130] أي إن لم يصطلح الزوجان على شيء وتفرقا بالخلع أو بتطليقه إياها وإيفائه مهرها ونفقة عدتها { يُغْنِ اللَّهُ كُلا } [النساء : 130] كل واحد منهما { مِّن سَعَتِهِ } [النساء : 130] من غناه أي يرزقه زوجاً خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشه { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا } [النساء : 130] بتحليل النكاح { حَكِيمًا } بالإذن في السراح ، فالسعة الغنى والقدرة والواسع الغني المقتدر.
ثم بين غناه وقدرته بقوله { وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ } خلقاً والمتملكون عبيده رقا.
{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [النساء : 131] هو اسم للجنس فيتناول الكتب السماوية { وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } عطف على " الذين أوتوا " { أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } [النساء : 131] بأن اتقوا أو تكون " أن " المفسرة لأن التوصية في معنى القول ، والمعنى أن هذه وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده ـ ولستم بها مخصوصين ـ لأنهم بالتقوى يسعدون عنده { وَإِن تَكْفُرُوا } [النساء : 131] عطف على " اتقوا " لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا } عن خلقه وعن عبادتهم { حَمِيدًا } مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد.
وتكرير قوله : " لله ما في السماوات وما في الأرض " .
تقرير لما هو موجب تقواه لأن الخلق لما كان كله له وهو خالقهم ومالكهم فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصي.
وفيه دليل على أن التقوى أصل الخير كله ، وقوله : " وإن تكفروا " .
عقيب التقوى دليل على أن المراد الاتقاء عن الشرك { وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } فاتخذوه وكيلاً ولا تتكلوا على غيره.
ثم خوفهم وبين قدرته بقوله { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [النساء : 133] يعدمكم { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا } [النساء : 133] ويوجد إنساً آخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَالِكَ قَدِيرًا } [النساء : 133] بليغ القدرة
371
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } [النساء : 134] كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة { فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ } [النساء : 134] فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلبه أخسهما { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا } [النساء : 134] للأقوال { بَصِيرًا } بالأفعال وهو وعد ووعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
(1/243)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ بِالْقِسْطِ } مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا { شُهَدَآءَ } خبر بعد خبر { لِلَّهِ } أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [النساء : 135] ولو كانت الشهادة على أنفسكم والشهادة على نفسه هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق ، وهذا لأن الدعوى والشهادة والإقرار يشترك جميعها في الإخبار عن حق لأحد على أحد غير أن الدعوى إخبار عن حق لنفسه على الغير ، والإقرار للغير على نفسه ، والشهادة للغير على الغير { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ } [النساء : 135] أي ولو كانت الشهادة على آبائكم وأمهاتكم وأقاربكم { إِن يَكُنْ } [الحجرات : 11] المشهود عليه { غَنِيًّا } فلا يمنع الشهادة عليه لغناه طلباً لرضاه { أَوْ فَقِيرًا } [النساء : 135] فلا يمنعها ترحماً عليه { فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } [النساء : 135] بالغني والفقير أي بالنظر لهما والرحمة.
وإنما ثنى الضمير في " بهما } وكان حقه أن يوحد ، لأن المعنى إن يكن أحد هذين لأنه يرجع إلى ما دل عليه قوله : " غنياً أو فقيراً " .
وهو جنس الغني والفقير كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي بالأغنياء والفقراء { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى } [النساء : 135] إرادة " أن تعدلوا } عن الحق من العدول أو كراهة أن تعدلوا بين الناس من العدل { وَإِن تَلْوُاا } [النساء : 135] بواو واحدة وضم اللام : شامي وحمزة من الولاية { أَوْ تُعْرِضُوا } [النساء : 135] أي وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها.
غيرهما : " تلووا " بواوين وسكون اللام من اللي أي وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [النساء : 128] فيجازيكم عليه.
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا } [البقرة : 278] خطاب للمسلمين { ءَامَنُوا } اثبتوا على الإيمان
372
ودوموا عليه ، ولأهل الكتاب لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض ، أو للمنافقين أي يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات : 15] أي محمد صلى الله عليه وسلّم { وَالْكِتَـابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ } [النساء : 136] أي الفرقان { وَالْكِتَـابِ الَّذِى أَنَزَلَ مِن قَبْلُ } [النساء : 136] أي جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب ويدل عليه قوله و " كتبه " .
نزل وأنزل بالبناء للمفعول : مكي وشامي وأبو عمرو ، وعلى البناء للفاعل فيهما : غيرهم.
وإنما قيل " نزل على رسوله " و " أنزل من قبل " لأن الفرقان نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَـائكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [النساء : 136] أي ومن يكفر بشيء من ذلك } { فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـا بَعِيدًا } [النساء : 116] لأن الكفر ببعضه كفر بكله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النساء : 137] بموسى عليه السلام { ثُمَّ كَفَرُوا } [النساء : 137] حين عبدوا العجل { ثُمَّ ءَامَنُوا } [النساء : 137] بموسى بعد عوده { ثُمَّ كَفَرُوا } [النساء : 137] بعيسى عليه السلام { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } [النساء : 137] بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلّم { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِي } [النساء : 137] إلى النجاة أو إلى الجنة ، أو هم المنافقون آمنوا في الظاهر وكفروا في السر مرة بعد أخرى ، وازدياد الكفر منهم ثباتهم عليه إلى الموت يؤيده قوله { بَشِّرِ الْمُنَـافِقِينَ } [النساء : 138] أي أخبرهم ووضع بشر مكانه تهكماً بهم { بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 138] مؤلماً { الَّذِينَ } نصب على الذم أو رفع بمعنى أريد الذين أو هم الذين { يَتَّخِذُونَ الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ } [النساء : 139] كان المنافقون يوالون الكفرة يطلبون منهم المنعة والنصرة ويقولون : لا يتم أمر محمد عليه السلام { فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء : 139] ولمن أعزه كالنبي عليه السلام والمؤمنين كما قال
373
(1/244)
{ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون : 8] (المنافقون : 8).
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ } [النساء : 140] بفتح النون : عاصم.
وبضمها : غيره { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] القرآن { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَـابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَـاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } [النساء : 140] حتى يشرعوا في كلام غير الكفر والاستهزاء بالقرآن ، والخوض : الشروع و " أن " مخففة من الثقيلة أي أنه إذا سمعتم أي نزل عليكم أن الشأن كذا.
والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها و " أن " مع ما في حيزها في موضع الرفع بـ " نزل " أو في موضع النصب بـ " نزل " والمنزل عليهم في الكتاب هو ما نزل عليهم بمكة من قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [الأنعام : 68] (الأنعام : 86).
وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزئون به ، فنهى المسلمين عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه ، وكان المنافقون بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين بمكة فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة { إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ } [النساء : 140] أي في الوزر إذا مكثتم معهم ، ولم يرد به التمثيل من كل وجه فإن خوض المنافقين فيه كفر ومكث هؤلاء معهم معصية { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَـافِقِينَ وَالْكَـافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء : 140] لاجتماعهم في الكفر والاستهزاء { الَّذِينَ } بدل من " الذين يتخذون " أو صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم { يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } [النساء : 141] ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ } [النساء : 141] نصرة وغنيمة { قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } [النساء : 141] مظاهرين فأشركونا في الغنيمة { وَإِن كَانَ لِلْكَـافِرِينَ نَصِيبٌ } [النساء : 141] سمى ظفر المسلمين فتحاً تعظيماً لشأنهم لأنه أمر عظيم تفتح له أبواب السماء ، وظفر الكافرين نصيباً تخسيساً لحظهم لأنه لمظة من الدنيا يصيبونها.
{ قَالُوا } للكافرين { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [النساء : 141] ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ، والاستحواذ الاستيلاء والغلبة { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 141] بأن ثبطناهم
374
عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت قلوبهم به ومرضوا عن قتالكم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [النساء : 141] أيها المؤمنون والمنافقون { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [القيامة : 6] فيدخل المنافقين النار والمؤمنين الجنة { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } [النساء : 141] أي في القيامة بدليل أول الآية كذا عن علي رضي الله عنه ، أو حجة كذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
جزء : 1 رقم الصفحة : 371
{ إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ يُخَـادِعُونَ اللَّهَ } [النساء : 142] أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر ، أو أولياء الله وهم المؤمنون فأضاف خداعهم إلى نفسه تشريفاً لهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 375
(1/245)
{ وَهُوَ خَـادِعُهُمْ } [النساء : 142] وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع حيث تركهم معصومي الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في العقبى.
والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه.
وقيل : يجزيهم جزاء خداعهم.
{ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواةِ قَامُوا كُسَالَى } [النساء : 142] متثاقلين كراهة ، أما الغفلة فقد يبتلى بها المؤمن وهو جمع كسلان كسكارى في سكران { يُرَآءُونَ النَّاسَ } [النساء : 142] حال أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة.
والمرأة مفاعلة من الرؤية لأن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحساناً { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 142] ولا يصلون إلا قليلاً لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس ، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً نادراً.
قال الحسن : لو كان ذلك القليل لله تعالى لكان كثيراً { مُّذَبْذَبِينَ } نصب على الذم أي مردّدين يعني ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر فهم مترددون بينهما متحيرون ، وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب { بَيْنَ ذَالِكَ } [النساء : 150] بين الكفر والإيمان { لا إِلَى هؤلاء } [النساء : 143] لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا مؤمنين { وَلا إِلَـاى هؤلاء } [النساء : 143] ولا منسوبين إلى هؤلاء فيسموا مشركين { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [النساء : 88] طريقاً إلى الهدى.
375
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَـافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا } [النساء : 144] حجة بينه في تعذيبكم { إِنَّ الْمُنَـافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء : 145] أي في الطبق الذي في قعر جنهم ، والنار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.
وإنما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه أمن السيف في الدنيا فاستحق الدرك الأسفل في العقبي تعديلاً ، ولأنه مثله في الكفر وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
والدرك بسكون الراء : كوفي غير الأعشى ، وبفتح الراء : غيرهم.
وهما لغتان ، وذكر الزجاج أن الاختيار فتح الراء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 375
{ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [النساء : 145] يمنعهم من العذاب { إِلا الَّذِينَ تَابُوا } [آل عمران : 89] من النفاق وهو استثناء من الضمير المجرور في " ولن تجد لهم نصير " { وَأَصْلَحُوا } ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } [الحج : 78] ووثقوا به كما يثق المؤمنون الخلص { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ } [النساء : 146] لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه { فَأُوالَـائكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [النساء : 146] فهم أصحاب المؤمنين ورفاقهم في الدارين { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 146] فيشاركونهم فيه.
وحذفت الياء في الخط هنا إتباعاً للفظ.
ثم استفهم مقرراً أنه لا يعذب المؤمن الشاكر فقال { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [النساء : 147] لله { وَءَامَنتُمْ } به فـ " ما " منصوبة بـ " يفعل " أي أي شيء يفعل بعذابكم؟ فالإيمان معرفة المنعم ، والشكر الاعتراف بالنعمة ، والكفر بالمنعم والنعمة عناد ، فلذا استحق الكافر العذاب.
وقدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع فيشكر شكراً مبهماً ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان الشكر متقدماً على الإيمان { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا } [النساء : 147] يجزيكم على شكركم أو يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل من الثواب { عَلِيمًا } عالماً بما تصنعون.
376
(1/246)
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّواءِ مِنَ الْقَوْلِ } [النساء : 148] ولا غير الجهر ولكن الجهر أفحش { إِلا مَن ظُلِمَ } [النمل : 11] إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم وهو أن يدعو على الظالم ويذكره بما فيه من السوء.
وقيل : الجهر بالسوء من القول هو الشتم إلا من ظلم فإنه إن رد عليه مثله فلا حرج عليه { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } [الشورى : 41] (الشورى : 14) { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَا } [النساء : 134] لشكوى المظلوم { عَلِيمًا } بظلم الظالم.
ثم حث على العفو وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وإن كان على وجه الانتصار بعد ما أطلق الجهر به حثاً على الأفضل ، وذكر إبداء الخير وإخفاءه تشبيباً للعفو فقال { إِن تُبْدُوا خَيْرًا } [النساء : 149] مكان جهر السوء { أَوْ تُخْفُوهُ } [النساء : 149] فتعملوه سراً ثم عطف العفو عليهما فقال { أَوْ تَعْفُوا عَن سُواءٍ } [النساء : 149] أي تمحوه عن قلوبكم والدليل على أن العفو هو المقصود بذكر إبداء الخير وإخفائه قوله { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } [النساء : 149] أي إنه لم يزل عفواً عن الآثام مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنته.
جزء : 1 رقم الصفحة : 375
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } [النساء : 150] كاليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام والإنجيل والقرآن ، وكالنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلّم والقرآن { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا } [النساء : 150] أي ديناً وسطاً بين الإيمان والكفر ولا واسطة بينهما { أؤلئك هُمُ الْكَـافِرُونَ } [النساء : 151] هم الكاملون في الكفر لأن الكفر بواحد كفر بالكل { حَقًّا } تأكيد لمضمون الجملة كقولك " هذا عبد الله حقاً " أي حق ذلك حقاً وهو كونهم كاملين في الكفر ، أو هو صفة لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا حقاً ثابتاً يقيناً لا شك فيه { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا } [النساء : 37] في الآخرة { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } [النساء : 152] وإنما جاز دخول " بين " على " أحد " لأنه عام في الواحد المذكر والمؤنث وتثنيتهما وجمعها
377
{ أؤلئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ } [النساء : 152] وبالياء : حفص { أُجُورَهُمْ } أي الثواب الموعود لهم { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } [النساء : 96] يستر السيئات { رَّحِيمًا } يقبل الحسنات ، والآية تدل على بطلان قول المعتزلة في تخليد المرتكب الكبيرة لأنه أخبر أن من آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد منهم يؤتيه أجره ، ومرتكب الكبيرة ممن آمن بالله ورسله ولم يفرق بين أحد فيدخل تحت الوعد ، وعلى بطلان قول من لا يقول بقدم صفات الفعل من المغفرة والرحمة لأنه قال : " وكان الله غفوراً رحيماً " وهم يقولون : ما كان الله غفوراً رحيماً في الأزل ثم صار غفوراً رحيماً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 375
(1/247)
ولما قال فنحاص وأصحابه للنبي صلى الله عليه وسلّم : إن كنت نبياً صادقاً فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام نزل { يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ } وبالتخفيف : مكي وأبو عمرو { كِتَـابًا مِّنَ السَّمَآءِ } [النساء : 153] أي جملة كما نزلت التوراة جملة ، وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت.
وقال الحسن : ولو سألوه مسترشدين لأعطاهم لأن إنزال القرآن جملة ممكن { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ } [النساء : 153] هذا جواب شرط مقدر معناه : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك.
وإنما أسند السؤال إليهم وقد وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم { فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء : 153] عياناً أي أرنا نره جهرة { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ } [النساء : 153] العذاب الهائل أو النار المحرقة { بِظُلْمِهِمْ } على أنفسهم بسؤال شيء في غير موضعه ، أو بالتحكم على نبيهم في الآيات وتعنتهم في سؤال الرؤية لا بسؤال الرؤية لأنها ممكنة كإنزال القرآن جملة ، ولو كان ذلك بسبب سؤال الرؤية لكان موسى بذلك أحق فإنه قال { رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف : 143] (الأعراف : 341) وما أخذته الصاعقة بل أطمعه وقيده بالممكن ولا يعلق بالممكن إلا ما هو ممكن الثبوت ثم أحياهم { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } [النساء : 153] إلهاً { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ } [البقرة : 213] التوراة والمعجزات التسع
378
{ فَعَفَوْنَا عَن ذَالِكَ } [النساء : 153] تفضلاً ولم نستأصلهم { يَسْـاَلُكَ أَهْلُ الْكِتَـابِ أَن } [النساء : 153] حجة ظاهرة على من خالفه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 375
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَـاقِهِمْ } [النساء : 154] بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه { وَقُلْنَا لَهُمُ } [النساء : 154] والطور مطل عليهم { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } [النساء : 154] أي ادخلوا باب إيلياء مطأطئين عند الدخول رؤوسكم { وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا } [النساء : 154] لا تجاوزوا الحد " تعدّوا " : ورش " تعدوا " بإسكان العين وتشديد الدال : مدني غير ورش وهما مدغماً " تعتدوا " وهي قراءة أبي إلا أنه أدغم التاء في الدال وأبقى العين ساكنة في رواية ، وفي رواية نقل فتح التاء إلى العين { فِى السَّبْتِ } [الأعراف : 163] بأخذ السمك { وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَـاقًا غَلِيظًا } [النساء : 154] عهداً مؤكداً.
{ فَبِمَا نَقْضِهِم } [المائدة : 13] أي فبنقضهم و " ما " مزيدة للتوكيد والباء يتعلق بقوله " حرمنا عليهم طيبات " تقديره حرمنا عليهم طيبات بنقضهم ميثاقهم ، وقوله " فبظلم من الذين هادوا " بدل من قوله " فبما نقضهم " { مِّيثَـاقَهُمْ } ومعنى التوكيد تحقيق أن تحريم الطيبات لم يكن إلا بنقض العهد وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء وغير ذلك { وَكُفْرِهِم بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
النساء : 155] أي معجزات موسى عليه السلام { وَقَتْلِهِمُ الانابِيَآءَ } [النساء : 155] كزكريا ويحيى وغيرهما { بِغَيْرِ حَقٍّ } [الحج : 40] بغير سبب يستحقون به القتل { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفُ } [النساء : 155] جمع أغلف أي محجوبة لا يتوصل إليها شيء من الذكر والوعظ { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [النساء : 155] هو رد وإنكار لقولهم " قلوبنا غلف " { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 46] كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَبِكُفْرِهِمْ } معطوف على " فبما نقضهم " أو على ما يليه من قوله : " بكفرهم " .
ولما تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلّم عطف بعض كفرهم على بعض : { وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَـانًا عَظِيمًا } [النساء : 156] هو النسبة إلى الزنا
379
(1/248)
{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ } [النساء : 157] سمي مسيحاً لأن جبريل عليه السلام مسحه بالبركة فهو ممسوح ، أو لأنه كان يمسح المريض والأكمة والأبرص فيبرأ فسمي مسيحاً بمعنى الماسح { عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } [النساء : 157] هم لم يعتقدوه رسول الله لكنهم قالوا استهزاء كقول الكفار لرسولنا { وَقَالُوا يَـا أَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } (الحجر : 6) ويحتمل أن الله وصفه بالرسول وإن لم يقولوا ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
{ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـاكِن شُبِّهَ لَهُمْ } [النساء : 157] روي أن رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم : اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي ، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير.
فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من صحبة اليهود ، فقال لأصحابه : أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم : أنا ، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب.
وقيل : كان رجل ينافق عيسى فلما أرادوا قتله قال : أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى ورفع عيسى وألقى الله شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى.
وجاز هذا على قوم متعنتين حكم الله بأنهم لا يؤمنون ، " وشبه " مسند إلى الجار والمجرور وهو " لهم " كقولك " خيل إليه " كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه.
أو مسند إلى ضمير المقتول لدلالة " إنا قتلنا " عليه كأنه قيل : ولكن شبه لهم من قتلوه { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ } [النساء : 157] في عيسى يعني اليهود قالوا : إن الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا ، أو اختلف النصارى قالوا : إله وابن إله وثالث ثلاثة { لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } [النساء : 157] استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم يعني ولكنهم يتبعون الظن.
وإنما وصفوا بالشك وهو أن لا يترجح أحد الجانبين ، ثم وصفوا بالظن وهو أن يترجح أحدهما ، لأن المراد أنهم شاكون مالهم به من علم ولكن إن لاحت لهم أمارة فظنوا فذاك.
وقيل : وإن الذين اختلفوا فيه أي في قتله لفي شك منه أي من قتله لأنهم كانوا يقولون إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا } [النساء : 157] أي قتلاً يقيناً ، أو ما قتلوه متيقنين ، أو ما قتلوه حقاً فيجعل " يقيناً " تأكيداً لقوله " وما قتلوه " أي حق انتفاء قتله حقاً
380
{ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء : 158] إلى حيث لا حكم فيه لغير الله أو إلى السماء { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا } [النساء : 158] في انتقامه من اليهود { حَكِيمًا } فيما دبر من رفعه إليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 379
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
(1/249)
{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَـابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [النساء : 159] " ليؤمنن به " جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ونحوه { وَمَا مِنَّآ إِلا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات : 164] (الصافات : 461) والمعنى : وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى عليه السلام وبأنه عبد الله ورسوله يعني إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف.
أو الضمير إن لعيسى يعني وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله.
روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ، أو الضمير " في به " يرجع إلى الله أو إلى محمد صلى الله عليه وسلّم والثاني إلى الكتابي { وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [النساء : 159] يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَـاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء : 160] وهي ما ذكر في سورة الأنعام { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [الأنعام : 146] (الأنعام : 641) الآية.
والمعنى ما حرمنا عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه وهو ما عدد قبل هذا { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [النساء : 160] وبمنعهم عن الإيمان { كَثِيرًا } أي خلقاً كثيراً أو صداً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } كان الربا محرماً عليهم كما حرم علينا وكانوا يتعاطونه { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَـاطِلِ } [النساء : 161] بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَـافِرِينَ مِنْهُمْ } [النساء : 161] دون من آمن { عَذَابًا أَلِيمًا } [النساء : 18] في الآخرة
381
{ لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ } [النساء : 162] أي الثابتون فيه المتقون كابن سلام وأضرابه { مِّنْهُمْ } من أهل الكتاب { وَالْمُؤْمِنُونَ } أي المؤمنون منهم والمؤمنون من المهاجرين والأنصار.
وارتفع " الراسخون " على الابتداء { يُؤْمِنُونَ } خبره { بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } [النساء : 166] أي القرآن { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } [النساء : 162] أي سائر الكتب { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ } [النساء : 162] منصوب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وفي مصحف عبد الله " والمقيمون " وهي قراءة مالك بن دينار وغيره { وَالْمُؤْتُونَ الزكاة } [النساء : 162] مبتدأ { وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ } [النساء : 162] عطف عليه والخبر { أُوالَـائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 162] وبالياء : حمزة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [النساء : 163] جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا { كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّـانَ مِن بَعْدِهِ } [النساء : 163] كهود وصالح وشعيب وغيرهم.
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ } أي أولاد يعقوب { زَبُورًا } " زبوراً " : حمزة مصدر بمعنى مفعول سمي به الكتاب المنزل على داود عليه السلام { وَرُسُلا } نصب بمضمر في معنى أوحينا إليك وهو أرسلنا ونبأنا { قَدْ قَصَصْنَـاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } [النساء : 164] من قبل هذه السورة { وَرُسُلا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } [النساء : 164] سأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الأنبياء قال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " قال : كم الرسل منهم؟ قال : " ثلثمائة وثلاثة عشر أول الرسل آدم وآخرهم نبيكم محمد ـ عليه السلام ـ وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ومحمد ـ عليه السلام ـ " والآية تدل على أن معرفة الرسل بأعيانهم
382
ليست بشرط لصحة الإيمان بل من شرطه أن يؤمن بهم جميعاً إذ لو كان معرفة كل واحد منهم شرطاً لقص علينا كل ذلك { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء : 164] أي بلا واسطة.
(1/250)
{ رُّسُلا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } [النساء : 165] الأوجه أن ينتصب على المدح أي أعني رسلاً ، ويجوز أن يكون بدلاً من الأول ، وأن يكون مفعولاً أي وأرسلنا رسلاً.
واللام في { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةُ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء : 165] يتعلق بـ " مبشرين " ومنذرين والمعنى أن إرسالهم إزاحة للعلة وتتميم لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فيوقظنا من سنة الغفلة ، وينبهنا بما وجب الانتباه له ، ويعلمنا ما سبيل معرفته السمع كالعبادات والشرائع أعني في حق مقاديرها وأوقاتها وكيفياتها دون أصولها فإنها مما يعرف بالعقل { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا } [النساء : 158] في العقاب على الإنكار { حَكِيمًا } في بعث الرسل للإنذار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
ولما نزل " إنا أوحينا إليك " قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل { لَّـاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } [النساء : 166] ومعنى شهادة الله بما أنزل إليه إثباته لصحته بإظهار المعجزات كما تثبت الدعاوى بالبينات إذ الحكيم لا يؤيد الكاذب بالمعجزة { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء : 166] أي أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه ، أو أنزله بما علم من مصالح العباد ، وفيه نفي قول المعتزلة في إنكار الصفات فإنه أثبت لنفسه العلم { وَالْمَلَـائكَةُ يَشْهَدُونَ } [النساء : 166] لك بالنبوة { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء : 79] شاهداً وإن لم يشهد غيره { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلّم وهم اليهود { وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] ومنعوا الناس عن سبيل الحق بقولهم للعرب " إنا لا نجده في كتابنا " { قَدْ ضَلُّوا ضَلَـا بَعِيدًا } [النساء : 167] عن الرشد { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [النساء : 56] بالله { وَظَلَمُوا } محمداً عليهم السلام بتغيير نعته وإنكار نبوته { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } [النساء : 137] ما داموا على الكفر { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } وكان
383
تخليدهم في جهنم سهلاً عليه ، والتقدير يعاقبهم خالدين فهوحال مقدرة والآيتان في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ويموتون على الكفر.
{ يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } [النساء : 170] أي بالإسلام أو هو حال أي محقاً { فَـاَامِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ } [النساء : 170] وكذلك { انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ } [النساء : 171] انتصابه بمضمر ، وذلك أنه لما بعثهم على الإيمان وعلى الانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر فقال " خيراً لكم " أي اقصدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان به والتوحيد { وَالارْضِ } فلا يضره كفركم { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا } [النساء : 17] بمن يؤمن وبمن يكفر { حَكِيمًا } لا يسوي بينهما في الجزاء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
(1/251)
{ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ } [النساء : 171]لا تجاوزوا الحد فغلت اليهود في حط المسيح عن منزلته حتى قالوا إنه ابن الزنا ، وغلت النصارى في رفعه عن مقداره حيث جعلوه ابن الله { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } [النساء : 171] وهو تنزيهه عن الشريك والولد { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [النساء : 171] لا ابن الله { رَسُولُ اللَّهِ } [الأحزاب : 21] خبر المبتدأ وهو " المسيح " و " عيسى " عطف بيان أو بدل { وَكَلِمَتُهُ } عطف على " رسول الله " .
وقيل له " كلمة " لأنه يهتدي به كما يهتدي بالكلام { أَلْقَـاهَآ إِلَى مَرْيَمَ } [النساء : 171] حال " وقد " معه مرادة أي أوصلها إليها وحصلها فيها { وَرُوحٌ } معطوف على الخبر أيضاً.
وقيل له " روح " لأنه كان يحيي الموتى كما سمي القرآن روحاً بقوله { وَكَذَالِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى : 52] (الشورى : 25) لما أنه يحيي القلوب { مِنْهُ } أي بتخليقه وتكوينه كقوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } (الجاثية : 31) وبه أجاب عليّ بن الحسين بن واقد غلاماً نصرانياً كان للرشيد في مجلسه حيث زعم أن في كتابكم
384
حجة على أن عيسى من الله { فَـاَامِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلَـاثَةٌ } [النساء : 171] خبر مبتدأ محذوف أي ولا تقولوا الآلهة ثلاثة { انتَهُوا } عن التثليث { خَيْرًا لَّكُمْ } [النساء : 171].
والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله من مريم ألا ترى إلى قوله : { قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ } [المائدة : 116] (المائدة : 611).
{ وَقَالَتِ النَّصَـارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] (التوبة : 03).
{ إِنَّمَا اللَّهُ } [النساء : 171] مبتدأ { إِلَـاهَ } خبرة { وَاحِدٌ } توكيد { سُبْحَـانَهُا أَن يَكُونَ لَهُا وَلَدٌ } [النساء : 171] أسبحه تسبيحاً من أن يكون له ولد { لَّهُ مَا فِي السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ } بيان لتنزهه مما نسب إليه بمعنى أن كل ما فيهما خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزءًا منه.
إذ البنوة والملك لا يجتمعان ، على أن الجزء إنما يصح في الأجسام وهو يتعالى عن أن يكون جسماً { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } [النساء : 81] حافظاً ومدبراً لهما ولما فيهما ، ومن عجز عن كفاية أمر يحتاج إلى ولد يعينه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
ولما قال وفد نجران لرسول الله صلى الله عليه وسلّم : لم تعيب صاحبنا عيسى؟ قال : وأي شيء أقول؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله.
قال : إنه ليس بعار أن يكون عبد الله.
قالوا : بلى ، نزل قوله تعالى :
جزء : 1 رقم الصفحة : 381
{ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ } [النساء : 172] أي لن يأنف { أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ } [النساء : 172] هو رد على النصارى { وَلا الْمَلَـائكَةُ } [النساء : 172] رد على من يعبدهم من العرب وهو عطف على " المسيح " { الْمُقَرَّبُونَ } أي الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم.
والمعنى : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عباداً لله فحذف ذلك لدلالة عبد الله عليه إيجازاً.
وتشبثت المعتزلة والقائلون بتفضيل الملك على البشر بهذه الآية وقالوا : الارتقاء إنما يكون إلى الأعلى.
يقال : فلان لا يستنكف عن خدمتي ولا أبوه ، ولو قال " ولا عبده " لم يحسن وكان معنى قوله " ولا الملائكة المقربون " ولا من هو أعلى منه قدراً وأعظم منه خطراً ، ويدل عليه تخصيص المقربين.
والجواب أنا نسلم تفضيل الثاني على الأول ولكن هذا لا يمس ما تنازعنا فيه ، لأن الآية تدل على أن الملائكة المقربين بأجمعهم أفضل من عيسى ، ونحن نسلم بأن جميع الملائكة المقربين
385
جزء : 1 رقم الصفحة : 385
(1/252)
أفضل من رسول واحد من البشر.
إلى هذا ذهب بعض أهل السنة ، ولأن المراد أن الملائكة مع ما لهم من القدرة الفائقة قدر البشر والعلوم اللوحية وتجردهم عن التولد الازدواجي رأساً لا يستنكفون عن عبادته ، فكيف بمن يتولد من آخر ولا يقدر على ما يقدرون ولا يعلم ما يعلمون وهذا لأن شدة البطش وسعة العلوم وغرابة التكون هي التي تورث الحمقى أمثال النصارى وهم الترفع عن العبودية حيث رأوا المسيح ولد من غير أب وهو يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبىء بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم ، فبرءوه من العبودية فقيل لهم هذه الأوصاف في الملائكة أتم منها في المسيح ، ومع هذا لم يستنكفوا عن العبودية فكيف المسيح والحاصل أن خواص البشر وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم ، كجبريل وميكائيل وعزرائيل ونحوهم ، وخواص الملائكة أفضل من عوام المؤمنين من البشر ، وعوام المؤمنين من البشر أفضل من عوام الملائكة ، ودليلنا على تفضيل البشر على الملك ابتداء أنهم قهروا نوازع الهوى في ذات الله تعالى مع أنهم جبلوا عليها فضاهت الأنبياء عليهم السلام الملائكة عليهم السلام في العصمة وتفضلوا عليهم في قهر البواعث النفسانية والدواعي الجسدانية ، فكانت طاعتهم أشق لكونها مع الصوارف بخلاف طاعة الملائكة لأنهم جبلوا عليها فكانت أزيد ثواباً بالحديث { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } [النساء : 172] يترفع ويطلب الكبرياء { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا } [النساء : 172] فيجازيهم على استنكافهم واستكبارهم.
ثم فصل فقال :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } [النساء : 173] فإن قلت : التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد ، قلت : هو مثل قولك " جمع الإمام الخوارج " فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، ومن خرج عليه نكل به.
وصحة ذلك لوجهين : أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله تعالى بعد هذا :
386
" فأما الذين آمنوا باللّه واعتصموا به " .
والثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله : { يَـا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَـانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [النساء : 174] أي رسول يبهر المنكر بالإعجاز { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [النساء : 174] قرآناً يستضاء به في ظلمات الحيرة { فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ } [النساء : 175] بالله أو بالقرآن { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مِّنْهُ } [النساء : 175] أي جنة { وَفَضَّلَ } زيادة النعمة { وَيَهْدِيهِمْ } ويرشدهم { إِلَيهِ } إلى الله أو إلى الفضل أو إلى صراطه { صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [النساء : 68] فـ " صراطاً " حال من المضاف المحذوف.
جزء : 1 رقم الصفحة : 385
(1/253)
{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَـالَةِ } [النساء : 176] كان جابر بن عبد الله مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال : إني كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } ارتفع " امرؤ " بمضمر يفسره الظاهر ومحل { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } [النساء : 176] الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد ، والمراد بالولد الابن ـ وهو مشترك ـ يقع على الذكر والأنثى لأن الابن يسقط الأخت ولا تسقطها البنت { وَلَهُا أُخْتٌ } [النساء : 176] أي لأب وأم أو لأب { فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } [النساء : 176] أي الميت { وَهُوَ يَرِثُهَآ } [النساء : 176] أي الأخ يرث الأخت جميع مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها { إِن لَّمْ يَكُن لَّهَآ وَلَدٌ } [النساء : 176] أي ابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت.
فإن قلت : الابن لا يسقط الأخ وحده فالأب نظيره في الإسقاط ، فلم اقتصر على نفي الولد؟ قلت : بين حكم انتفاء الولد ووكل حكم انتفاء الوالد إلى بيان السنة وهو قوله عليه السلام " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر " والأب أولى من الأخ { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } [النساء : 176] أي فإن كانت الأختان اثنتين دل على ذلك
387
وله أخت { فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً } [النساء : 176] أي وإن كان من يرث بالإخوة.
والمراد بالإخوة الإخوة والأخوات تغليباً لحكم الذكورة { رِّجَالا وَنِسَآءً } [النساء : 176] ذكوراً وإناثاً { فَلِلذَّكَرِ } منهم { مِثْلُ حَظِّ الانثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ } [النساء : 176] الحق فهو مفعول " يبين " { أَن تَضِلُّوا } [النساء : 44] كراهة أن تضلوا { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ } [البقرة : 282] يعلم الأشياء بكنهها قبل كونها وبعده.
388
سورة المائدة
مدنية وهي مائة وعشرون آية
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } [المائدة : 1] يقال وفى بالعهد وأوفى به ، والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل ونحوه وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف ، أو ما عقد الله عليكم ، أو ما تعاقدتم بينكم.
والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه ، وأنه كلام قدم مجملاً ثم عقب بالتفصيل وهو قوله { أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الانْعَـامِ } [المائدة : 1] والبهيمة كل ذات أربع قوائم في البر والبحر ، وإضافتها إلى الأنعام للبيان وهي بمعنى " من " كخاتم فضة ومعناه ، البهيمة من الأنعام وهي الأزواج الثمانية.
وقيل : بهيمة الأنعام : الظباء وبقر الوحش ونحوهما { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
المائدة : 1] آية تحريمه وهو قوله " حرمت عليكم الميتة " الآية { غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ } [المائدة : 1] حال من الضمير في " لكم " أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [المائدة : 1] حال من " محلى الصيد " كأنه قيل : أحللنا لكم بعض الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يضيق عليكم ، والحرم جمع حرام وهو المحرم { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [المائدة : 1] من الأحكام أو من التحليل والتحريم ونزل نهياً عن تحليل ما حرم
389(1/254)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَآئِرَ اللَّهِ } [المائدة : 2] جمع شعيرة وهي اسم ما أشعر أي جعل شعاراً وعلماً للنسك به من مواقف الحج ومرامي الجمار والمطاف والمسعى والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [المائدة : 2] أي أشهر الحج { وَلا الْهَدْىَ } [المائدة : 2] وهو ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله تعالى من النسائك وهو جمع هدية { وَلا الْقَلَـائدَ } [المائدة : 2] جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر أو غيره { وَلا ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [المائدة : 2] ولا تحلوا قوماً قاصدين المسجد الحرام وهم الحجاج والعمار ، وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها ، وأن يحدثوا في أشهر الحج ما يصدون به الناس عن الحج وأن يتعرضوا للهدى بالغصب أو بالمنع من بلوغ محله.
وأما القلائد فجاز أن يراد بها ذوات القلائد وهي البدن وتعطف على الهدى للاختصاص لأنها أشرف الهدى كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـالَ } [البقرة : 98] (البقرة : 89).
كأنه قيل : والقلائد منها خصوصاً ، وجاز أن ينهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي أي ولا تحلوا قلائدها فضلاً أن تحلوها كما قال : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } [النور : 31] (النور : 13) فنهى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها { يَبْتَغُونَ } حال من الضمير في " آمين " { فَضْلا مِّن رَّبِّهِمْ } [المائدة : 2] أي ثواباً { وَرِضْوَانًا } وأن يرضى عنهم أي لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيماً لهم { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } [المائدة : 2] خرجتم من الإحرام { فَاصْطَادُوا } إباحة للاصطياد بعد حظره عليهم بقوله " غير محلى الصيد وأنتم حرم " .
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
{ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْىَ وَلا الْقَلَـائدَ وَلا ءَآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } جرم مثل كسب في تعديته إلى مفعول واحد واثنين ، تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه ، وأول المفعولين ضمير المخاطبين والثاني " أن تعتدوا " " وأن صدوكم " متعلق بالشنآن بمنعى العلة وهو شدة البغض ، وبسكون النون شامي وأبو بكر ،
390
والمعنى : ولا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.
" إن صدوكم " على الشرط : مكي وأبو عمرو ويدل على الجزاء ما قبله وهو " لا يجرمنكم " ومعنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة ، ومعنى الاعتداء الانتقام منهم بإلحاق مكروه بهم { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة : 2] على العفو والإغضاء { وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ } على الانتقام والتشفي ، أو البر فعل المأمور ، والتقوى ترك المحظور ، والإثم ترك المأمور والعدوان فعل المحظور ، ويحوز أن يراد العموم لكل بر وتقوى ، ولكل إثم وعدوان فيتناول بعمومه العفو والانتصار { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة : 2] لمن عصاه وما اتقاه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
(1/255)
ثم بين ما كان أهل الجاهلية يأكلونه فقال { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [المائدة : 3] أي البهيمة التي تموت حتف أنفها { وَالْدَّمُ } أي المسفوح وهو السائل { وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } [البقرة : 173] وكله نجس.
وإنما خص اللحم لأنه معظم المقصود { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [المائدة : 3] أي رفع الصوت به لغير الله وهو قولهم " باسم اللات والعزى " عند ذبحه { وَالْمُنْخَنِقَةُ } التي خنقوها حتى ماتت أو انخنقت بالشبكة أو غيرها { وَالْمَوْقُوذَةُ } التي أثخنوها ضرباً بعصا أو حجر حتى ماتت { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } التي تردت من جبل أو في بئر فماتت { وَالنَّطِيحَةُ } المنطوحة وهي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح { وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ } [المائدة : 3] بعضه ومات بجرحه { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } [المائدة : 3] إلا ما أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح ، والاستثناء يرجع إلى المنخنقة وما بعدها ، فإنه إذا أدركها وبها حياة فذبحها وسمى عليها حلت { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } [المائدة : 3] كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها يعظمونها بذلك ويتقربون إليها تسمى الأنصاب واحدها نصب ، أو هو جمع والواحد نصاب
391
{ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالازْلاَمِ } [المائدة : 3] في موضع الرفع بالعطف على الميتة أي حرمت عليكم الميتة وكذا وكذا والاستقسام بالأزلام وهي القداح المعلمة واحدها زلم وزلم ، كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو غير ذلك يعمد إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب " أمرني ربي " وعلى الآخر " نهاني " والثالث " غفلٌ " .
فإن خرج الآمر مضى لحاجته ، وإن خرج الناهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاده ، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة ما قسم له مما لم يقسم له بالأزلام.
قال الزجاج : لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين " لا تخرج من أجل نجم كذا واخرج لطلوع نجم كذا.
وفي شرح التأويلات رد هذا وقال : لا يقول المنجم " إن نجم كذا يأمر بكذا ونجم كذا ينهى عن كذا " كما كان فعل أولئك ، ولكن المنجم جعل النجوم دلالات وعلامات على أحكام الله تعالى.
ويجوز أن يجعل الله في النجوم معاني وأعلاماً يدرك بها الأحكام ويستخرج بها الأشياء ولا لائمة في ذلك إنما اللائمة عليه فيما يحكم على الله ويشهد عليه.
وقيل : هو الميسر وقسمتهم الجزور على الأنصباء المعلومة { ذَالِكُمْ فِسْقٌ } [المائدة : 3] الاستقسام بالأزلام خروج عن الطاعة ، ويحتمل أن يعود إلى كل محرم في الآية.
{ الْيَوْمَ } ظرف لـ " يئس " ولم يرد به يوم بعينه وإنما معناه الآن ، وهذا كما تقول " أنا اليوم قد كبرت " تريد الآن.
وقيل : أريد يوم نزولها وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع { يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ } [المائدة : 3] يئسوا منه أن يبطلوه أو يئسوا من دينكم أن يغلبوه لأن الله تعالى وفى بوعده من إظهاره على الدين كله { فَلا تَخْشَوْهُمْ } [المائدة : 3] بعد إظهار الدين وزوال الخوف من الكفار وانقلابهم مغلوبين بعدما كانوا غالبين { وَاخْشَوْنِ } بغير ياء في الوصل والوقف أي أخلصوا لي الخشية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
{ الْيَوْمَ } ظرف لقوله { أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة : 3] بأن كفيتم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم كما يقول الملوك " اليوم كمل لنا الملك " أي كفينا من كنا نخافه ، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على شرائع الإسلام وقوانين القياس { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } [المائدة : 3] بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم { وَرَضِيتُ لَكُمُ الاسْلَـامَ دِينًا } [المائدة : 3] حال.
اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده { مِّنْهُ } (آل عمران : 58) { فَمَنِ اضْطُرَّ } [البقرة : 173] متصل بذكر المحرمات ، وقوله " ذلكم فسق " اعتراض أكد به معنى التحريم ، وكذا ما بعده لأن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة
392
(1/256)
التامة والإسلام المنعوت بالرضا دون غيره من الملل ومعناه ، فمن اضطر إلى الميتة أو إلى غيرها { فِى مَخْمَصَةٍ } [المائدة : 3] مجاعة { غَيْرَ } حال { مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ } [المائدة : 3] مائل إلى إثم أي غير متجاوز سد الرمق { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [البقرة : 192] لا يؤاخذه بذلك { رَّحِيمٌ } بإباحة المحظور للمعذور.
جزء : 1 رقم الصفحة : 389
{ يَسْـاَلُونَكَ } في السؤال معنى القول فلذا وقع بعده { مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [المائدة : 4] كأنه قيل : يقولون لك ماذا أحل لهم.
وإنما لم يقل " ماذا أحل لنا " حكاية لما قالوا ، لأن " يسألونك " بلفظ الغيبة كقولك " أقسم زيد ليفعلن " ولو قيل " لأفعلن " وأحل لنا لكان صواباً.
و " ماذا " مبتدأ و " أحل لهم " خبره كقولك " أي شيء أحل لهم " ومعناه ماذا أحل لهم من المطاعم كأنهم حين تلي عليهم ما حرم عليه من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم منها فقال : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ } [المائدة : 4] أي ما ليس بخبيث منها أو هو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس { وَمَا عَلَّمْتُم } [المائدة : 4] عطف على " الطيبات " أي أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم فحذف المضاف ، أو تجعل " ما " شرطية وجوابها " فكلوا " { مِّنَ الْجَوَارِحِ } [المائدة : 4] أي الكواسب للصيد من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين ، وقيل : هي من الجراحة فيشترط للحل الجرح { مُكَلِّبِينَ } حال من " علمتم " .
وفائدة هذه الحال مع أنه استغنى عنها بـ " علمتم " أن يكون من يعلم الجوارح موصوفاً بالتكليب ، والمكلب مؤدب الجوارح ومعلمها مشتق من الكلب ، لأن التأديب في الكلاب أكثر فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه ، أو لأن السبع يسمى كلباً ومنه الحديث " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " فأكله الأسد.
{ تُعَلِّمُونَهُنَّ } حال أو استئناف ولا موضع له.
وفيه دليل على أن على كل آخذ علماً أن لا يأخذه إلا من أقتل أهله علماً وأنحرهم دراية ، فكم من آخذ عن غير متقن قد ضيع أيامه وعض عند لقاء النحارير أنامله.
{ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } [المائدة : 4] من التكليب { فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [المائدة : 4] الإمساك على صاحبه أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل إذا كان صيد كلب ونحوه ، فأما صيد البازي ونحوه فأكله لا يحرمه وقد عرف في موضعه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
والضمير في { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [المائدة : 4] يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا
393
عليه إذا أدركتم ذكاته ، أو إلى ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] واحذروا مخالفة أمره في هذا كله { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 199] إنه محاسبكم على أفعالكم ولا يلحقه فيه لبث.
{ الْيَوْمَ } الآن { أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـاتُ } [المائدة : 5] كرره تأكيداً للمنة { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ حِلٌّ لَّكُمْ } [المائدة : 5] أي ذبائحهم لأن سائر الأطعمة لا يختص حلها بالملة { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [المائدة : 5] فلا جناح عليكم أن تطعموهم لأنه لوكان حراماً عليهم طعام المؤمنين لما ساغ لهم إطعامهم { وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَـاتِ } [المائدة : 5] هن الحرائر أو العفائف ، وليس هذا بشرط لصحة النكاح بل هو للاستحباب لأنه يصح نكاح الإماء من المسلمات ونكاح غير العفائف.
وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم وهو معطوف على " الطيبات " أو مبتدأ والخبر محذوف أي والمحصنات من المؤمنات حل لكم { وَالْمُحْصَنَـاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُمْ } [المائدة : 5] هن الحرائر الكتابيات أو العفائف الكتابيات { إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة : 5] أعطيتموهن مهورهن { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـافِحِينَ } [النساء : 24] متزوجين غير زانين { وَلا مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } [المائدة : 5] صدائق والخدن يقع على الذكر والأنثى { وَمَن يَكْفُرْ بِالايمَـانِ } [المائدة : 5] بشرائع الإسلام وما أحل الله وحرم { فَقَدْ حَبِطَ } [المائدة : 5] بطل { عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخِرَةِ مِنَ الْخَـاسِرِينَ } [المائدة : 5].
جزء : 1 رقم الصفحة : 393
(1/257)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ } [النحل : 98] (النحل : 89) أي إذا أردت أن تقرأ القرآن ،
394
فعبر عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة فأقيم المسبب مقام السبب لملابسة بينهما طلباً للإيجاز ، ونحوه " كما تدين تدان " عبر عن الفعل الابتدائي الذي هو سبب الجزاء بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه ، وتقديره : وأنتم محدثون.
عن ابن عباس رضي الله عنهما : أو من النوم لأنه دليل الحدث : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم والصحابة يتوضأون لكل صلاة.
وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فرض ثم نسخ
جزء : 1 رقم الصفحة : 394
{ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة : 6] " إلى " تفيد معنى الغاية مطلقاً ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فما فيه دليل على الخروج { فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } [البقرة : 280] (القرة : 082) لأن الإعسار علة الإنظار وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في الحالتين معسراً وموسراً.
وكذلك { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ } [البقرة : 187] (البقرة : 781) لو دخل الليل لوجب الوصال.
ومما فيه دليل على الدخول قولك " حفظت القرآن من أوله إلى آخره " لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله ، ومنه قوله تعالى : { مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاقْصَا } [الإسراء : 1] (الإسراء : 1) لوقوع العلم بأنه عليه السلام لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله ، وقوله " إلى المرافق " لا دليل فيه على أحد الأمرين فأخذ الجمهور بالاحتياط ، فحكموا بدخولها في الغسل ، وأخذ زفر وداود بالمتيقن فلم يدخلاها.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه كان يدير الماء على مرفقيه { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } [المائدة : 6] المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه ؛ فأخذ مالك بالاحتياط فأوجب الاستيعاب ، والشافعي باليقين فأوجب أقل ما يقع عليه اسم المسح ، وأخذنا ببيان النبي عليه السلام وهو ما روي أنه مسح على ناصيته وقدرت الناصية بربع الرأس { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } [المائدة : 6] بالنصب : شامي ونافع وعلي وحفص.
والمعنى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برؤوسكم على التقديم والتأخير.
غيرهم بالجر بالعطف على الرؤوس لأن الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة ، تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المنهي عنه فعطفت على الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها.
وقيل : " إلى الكعبين " فجيء بالغاية إماطة لظن ظانٍ يحسبها ممسوحة
395
لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة ، وقال في جامع العلوم إنها مجرورة للجوار وقد صح أن النبي عليه السلام رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال : " ويل للأعقاب من النار " وعن عطاء : والله ما علمت أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسح على القدمين وإنما أمر بغسل هذه الأعضاء ليطهرها من الأوساخ التي تتصل بها لأنها تبدو كثيرا ، والصلاة خدمة الله تعالى ، والقيام بين يديه متطهراً من الأوساخ أقرب إلى التعظيم فكان أكمل في الخدمة كما في الشاهد إذا أراد أن يقوم بين يدي الملك ، ولهذا قيل : إن الأولى أن يصلي الرجل في أحسن ثيابه ، وإن الصلاة متعمماً أفضل من الصلاة مكشوف الرأس لما أن ذلك أبلغ في التعظيم { وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } [المائدة : 6] فاغسلوا أبدانكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 394
(1/258)
{ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم } [النساء : 43] قال الرازي معناه وجاء حتى لا يلزم المريض والمسافر التيمم بلا حدث { مِّنَ الْغَآئِطِ } [النساء : 43] المكان المطمئن وهو كناية عن قضاء الحاجة { أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ } [النساء : 43] جامعتم { فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [المائدة : 6] في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم { وَلَـاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [المائدة : 6] بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } [المائدة : 6] وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] نعمته فيثيبكم { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [آل عمران : 103] بالإسلام { وَمِيثَـاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [المائدة : 7] أي عاقدكم به عقداً وثيقاً وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره فقبلوا وقالوا سمعنا وأطعناه.
وقيل : هو الميثاق ليلة العقبة وفي بيعة الرضوان { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في نقض الميثاق { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران : 119] بسرائر الصدور من الخير والشر وهو وعد ووعيد.
396
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ } بالعدل { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَواَّمِينَ } عدي " يجرمنكم " بحرف الاستعلاء مضمناً معنى فعل يتعدى به كأنه قيل : ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة : 8] أي العدل أقرب إلى التقوى.
نهاهم أوّلاً أن تحملهم البغضاء على ترك العدل ، ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله تعالى : " هو أقرب للتقوى " تعالى وإذا كان وجوب العدل مع الكفار بهذه الصفة من القوة فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] فيما أمر ونهى { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المائدة : 8] وعد ووعيد ولذا ذكر بعدها آية الوعد وهو قوله تعالى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [المائدة : 9] " وعد " يتعدى إلى مفعولين : فالأول " الذين آمنوا " ، والثاني محذوف استغني عنه بالجملة التي هي قوله { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [المائدة : 9] والوعيد وهو قوله { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أؤلئك هُمُ الصِّدِّيقُونَ } [الحديد : 19] أي لا يفارقونها.
جزء : 1 رقم الصفحة : 394
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بني قريظة ومعه الشيخان ـ أبو بكر وعمر ؛ والختنان يستقرضهم دية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين فقالوا : نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك ونقرضك ، فأجلسوه في صفة وهموا بالفتك به ، وعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه فأمسك الله يده ونزل جبريل فأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم ونزلت الآية.
" إذ " ظرف للنعمة { أَن يَبْسُطُوا } [المائدة : 11] بأن يبسطوا
397
{ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } [المائدة : 11] بالقتل يقال بسط لسانه إليه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّواءِ } [الممتحنة : 2] (الممتحنة : 2) ومعنى بسط اليد مدها إلى المبطوش به { فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [المائدة : 11] فمنعها أن تمد إليكم { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [المائدة : 11] فإنه الكافي والدافع والمانع.
جزء : 1 رقم الصفحة : 394
جزء : 1 رقم الصفحة : 398
(1/259)
{ نَقِيبًا } هو الذي ينقب عن أحوال القوم ويفتش عنها.
ولما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم : إني كتبتها لكم داراً وقراراً فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم ، وأمر الله موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقة عليهم ، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وتكفل لهم به النقباء وسار بهم ، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون فرأوا أجراماً عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا فحدثوا قومهم وقد نهاهم أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوقنا ويوشع بن نون وكانا من النقباء { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ } [المائدة : 12] أي ناصركم ومعينكم.
وتقف هنا لابتدائك بالشرط الداخل عليه اللام الموطئة للقسم وهو { لَـاـاِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَواةَ وَءَاتَيْتُمُ الزكاة } وكانتا فريضتين عليهم { وَلَقَدْ أَخَذَ } [المائدة : 12] من غير تفريق بين أحد منهم { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } وعظمتموهم أو نصرتموهم بأن تردّوا عنهم أعداءهم ، والعزر في اللغة الردّ ويقال عزرت فلاناً أي أدّبته يعني فعلت به ما يردعه عن القبيح كذا قاله الزجاج { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [المائدة : 12] بلا منّ وقيل : هو كل خير.
واللام في { لاكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّـاَاتِكُمْ } [المائدة : 12] جواب للقسم وهذا الجواب
398
سادّ مسد جواب القسم والشرط جميعاً { مِّنكُمْ } أي بعد ذلك الشرط المؤكد المتعلق بالوعد العظيم { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } [البقرة : 108] أخطأ طريق الحق ، نعم من كفر قبل ذلك فقد ضل سواء السبيل أيضاً ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 398
{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَـاقَهُمْ } [المائدة : 13] " ما " مزيد لإفادة تفخيم الأمر { لَعَنَّـاهُمْ } طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } [المائدة : 13] يابسة لا رحمة فيها ولا لين.
" قسيّة " : حمزة وعلي أي رديئة من قولهم : " درهم قسي " أي رديء { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } [المائدة : 13] يفسرونه على غير ما أنزل وهو بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير وحيه { وَنَسُوا حَظًّا } [المائدة : 13] وتركوا نصيباً جزيلاً وقسطاً وافياً { مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [المائدة : 14] من التوراة يعني أن تركهم وإعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم ، أو قست قلوبهم وفسدت فحرفوا التوراة وزلت أشياء منها عن حفظهم.
عن ابن مسعود رضي الله عنه : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية.
وقيل : تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبيان نعته { وَلا تَزَالُ } [المائدة : 13] يا محمد { تَطَّلِعُ عَلَى خَآ ـاِنَةٍ مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] أي هذه عادتهم وكان عليها أسلافهم ، كانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونونك ويهمون بالفتك بك ، وقوله " على خائنة " أي على خيانة أو على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة ، ويقال : " رجل خائنة " كقولهم " رجل راوية للشعر " للمبالغة.
{ إِلا قَلِيلا مِّنْهُمْ } [المائدة : 13] وهم الذين آمنوا منهم { فَاعْفُ عَنْهُمْ } [آل عمران : 159] بعث على مخالفتهم ، أو فاعف عن مؤمنيهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم { وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة : 13]
{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى أَخَذْنَا مِيثَـاقَهُمْ } [المائدة : 14]
399
(1/260)
وهو الإيمان بالله والرسل وأفعال الخير يتعلق بأخذنا أي وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم ، فقدم على الفعل الجار والمجرور وفصل بين الفعل والواو بالجار والمجرور.
وإنما لم يقل " من النصارى " لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصر الله وهم الذين قالوا لعيسى : نحن أنصار الله.
ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية أنصاراً للشيطان { فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا } [المائدة : 14] فألصقنا وألزمنا من غرى بالشيء إذا لزمه ولصق به ومنه الغراء الذي يلصق به { بَيْنَهُمُ } بين فرق النصارى المختلفين { الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [المائدة : 14] بالأهواء المختلفة { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة : 14] أي في القيامة بالجزاء والعقاب.
جزء : 1 رقم الصفحة : 398
{ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ } [آل عمران : 64] خطاب لليهود والنصارى ، والكتاب للجنس { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } [المائدة : 15] محمد عليه السلام { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَـابِ } [المائدة : 15] من نحو صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومن نحو الرجم { وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ } [الشورى : 30] مما تخفونه لا يبينه أو يعفو عن كثير منكم لان يؤاخذه { قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ } [المائدة : 15] يريد القرآن لكشفه ظلمات الشرك والشك ولإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز ، أو النور محمد عليه السلام لأنه يهتدى به كما سمي سراجاً { يَهْدِى بِهِ اللَّهُ } [المائدة : 16] أي بالقرآن { مَنِ اتَّبَعَ } من آمن منهم { رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَـامِ } [المائدة : 16] طرق السلامة والنجاة من عذاب الله أو سبل الله فالسلام السلامة أو الله { وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَـاتِ إِلَى النُّورِ } [المائدة : 16] من ظلمات الكفر إلى نور
400
الإسلام { بِإِذْنِهِ } بإرادته وتوفيقه { مَرْيَمَ } معناه بت القول على أن الله هو المسيح لا غير.
قيل : كان في النصارى قوم يقولون ذلك ، أو لأن مذهبهم يؤدي إليه حيث إنهم اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شيئا } [المائدة : 17] فمن يمنع من قدرته ومشيئته شيئاً { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارْضِ جَمِيعًا } [المائدة : 17] أي إن أراد أن يهلك من دعوه إلهاً من المسيح وأمه يعني أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد.
وعطف " من في الأرض جميعاً " على " المسيح وأمه " إبانة أنهما من جنسهم لا تفاوت بينهما وبينهم ، والمعنى أن من اشتمل عليه رحم الأمومية متى يفارقه نقص البشرية ، ومن لاحت عليه شواهد الحدثية أنى يليق به نعت الربوبية ، ولو قطع البقاء عن جميع ما أوجد لم يعد نقص إلى الصمدية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 398
{ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي يخلق من ذكر وأنثى ويخلق من أنثى بلا ذكر كما خلق عيسى ، ويخلق من ذكر من غير أنثى كما خلق حواء من آدم ، ويخلق من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم ، أو يخلق ما يشاء كخلق الطير على يد عيسى معجزة له فلا اعتراض عليه لأنه الفعال لما يريد { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَـارَى نَحْنُ أَبْنَـاؤُا اللَّهِ وَأَحِبَّـاؤُهُ } أي أعزة عليه كالابن على الأب ، أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون ، وكما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناء الملوك أو نحن أبناء رسل الله
401
(1/261)
{ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [المائدة : 18] أي فإن صح أنكم أبناء الله وأحباؤه فلم تعذبون بذنوبكم بالمسخ والنار أياماً معدودة على زعمكم ، وهل يمسخ الأب ولده وهل يعذب الولد ولده بالنار؟ ثم قال رداً عليهم { بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ } [المائدة : 18] أي أنتم خلق من خلقه لا بنوه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [آل عمران : 129] لمن تاب عن الكفر فضلاً { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } [البقرة : 284] من مات عليه عدلاً { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فيه تنبيه على عبودية المسيح لأن الملك والبنوة متنافيان.
{ يَصْنَعُونَ * يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا } محمد عليه السلام { يُبَيِّنُ لَكُمْ } [المائدة : 19] أي الشرائع وحذف لظهوره ، أو ما كنتم تخفون وحذف لتقدم ذكره أو لا يقدر المبين ويكون المعنى يبذل لكم البيان وهو حال أي مبيناً لكم { عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } [المائدة : 19] متعلق بـ " جاءكم " أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي ، وكان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو خمسمائة سنة وستون سنة { أَن تَقُولُوا } [الأنعام : 156] كراهة أن تقولوا { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [المائدة : 19] والفاء في { فَقَدْ جَآءَكُم } [المائدة : 19] متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا فقد جاءكم { بَشِيرٍ } للمؤمنين { وَنَذِيرٌ } للكافرين ، والمعنى الامتنان عليهم بأن الرسول بعث إليهم حتى انطمست آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليهشوا إليه ويعدوه أعظم نعمة من الله وتلزمهم الحجة فلا يعتلوا غداً بأنه لم يرسل إليهم من ينبههم من غفلتهم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 284] فكان قادراً على إرسال محمد عليه السلام ضرورة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 398
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَـاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنابِيَآءَ } [المائدة : 20] لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } [المائدة : 20] لأنه ملكهم بعد فرعون ملكه وبعد الجبابرة ملكهم ، ولأن الملوك تكاثروا فيهم تكاثر الأنبياء.
وقيل : الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار وكانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية.
وقيل : من له بيت وخدم ، أو لأنهم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله
402
فسمي إنقاذهم ملكاً { وَءَاتَـاـاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ } من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى وتظليل الغمام ونحو ذلك من الأمور العظام أو أراد عالمي زمانهم { يَـاقَوْمِ ادْخُلُوا الارْضَ الْمُقَدَّسَةَ } [المائدة : 21] أي المطهرة أو المباركة وهي أرض بيت المقدس أو الشام { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة : 21] قسمها لكم أو سماها أو كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [المائدة : 21] ولا ترجعوا على أعقابكم مدبرين منهزمين من خوف الجبابرة جبناً أو لا ترتدوا على أدباركم في دينكم { فَتَنقَلِبُوا خَـاسِرِينَ } [آل عمران : 149] فترجعوا خاسرين ثواب الدنيا والآخرة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
(1/262)
{ قَالُوا يَـامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ } [المائدة : 22] الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا } [المائدة : 22] بالقتال { حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا } [المائدة : 22] بغير قتال { فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا } [المائدة : 22] بلا قتال { فَإِنَّا دَاخِلُونَ } [المائدة : 22] بلادهم حينئذ { قَالَ رَجُلانِ } [المائدة : 23] كالب ويوشع من الّذين يخافون } الله ويخشونه كأنه قيل رجلان من المتقين وهو في محل الرفع صفة لـ " رجلان " وكذا { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } [المائدة : 23] بالخوف منه { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ } [المائدة : 23] أي باب المدينة { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَـالِبُونَ } [المائدة : 23] أي انهزموا وكانت الغلبة لكم ، وإنما علما ذلك بإخبار موسى عليه السلام { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة : 23] إذ الإيمان به يقتضي التوكل عليه وهو قطع العلائق وترك التملق للخلائق { قَالُوا يَـامُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ } [المائدة : 24] هذا نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد { أَبَدًا } تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول { مَّا دَامُوا فِيهَا } [المائدة : 24] بيان للأبد { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [المائدة : 24] من العلماء من حمله على الظاهر.
وقال : إنه كفر منهم وليس
403
كذلك إذ لو قالوا ذلك اعتقاداً وكفروا به لحاربهم موسى ولم تكن مقاتلة الجبارين أولى من مقاتلة هؤلاء ، ولكن الوجه فيه أن يقال : فاذهب أنت وربك يعينك على قتالك ، أو وربك أي وسيدك وهو أخوك الأكبر هارون ، أو لم يرد به حقيقة الذهاب ولكن كما تقول " كلمته فذهب يجيبني " تريد معنى الإرادة كأنهم قالوا أريدا قتالهم : { فَقَـاتِلا إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ } [المائدة : 24] ماكثون لا نقاتلهم لنصرة دينكم فلما عصوه وخالفوه { قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ } [المائدة : 25] لنصرة دينك { إِلا نَفْسِى وَأَخِى } [المائدة : 25] وهو منصوب بالعطف على " نفسي " أو على اسم " إن " أي إني لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه ، أو مرفوع بالعطف على محل " إن " واسمها ، أو على الضمير في " لا أملك " وجاز للفصل أي ولا يملك أخي إلا نفسه ، أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي وأخي كذلك ، وهذا من البث والشكوى إلى الله ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة وكأنه لم يثق بالرجلين المذكورين كل الوثوق فلم يذكر إلا النبي المعصوم ، أو أراد ومن يؤاخيني على ديني { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 25] فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما وعدتنا وتحكم عليهم بما هم أهله وهو في معنى الدعاء عليهم ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : { وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [التحريم : 11] (التحريم : 11).
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
{ قَالَ فَإِنَّهَا } [المائدة : 26] أي الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 26] لا يدخلونها وهو تحريم منع لا تحريم تعبد كقوله { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص : 12] (القصص : 21).
والمراد بقوله " كتب الله لكم " أي بشرط أن تجاهدوا أهلها فلما أبوا الجهاد قيل : فإنها محرمة عليهم ، أو المراد فإنها محرمة عليهم : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } [الأحقاف : 15] فإذا مضى الأربعون كان ما كتب فقد سار موسى عليه السلام بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتحها وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض.
و " أربعين " ظرف التحريم والوقف على سنة أو ظرف { يَتِيهُونَ فِى الارْضِ } [المائدة : 26] أي يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً أربعين سنة والوقف على " عليهم " .
وإنما عوقبوا بالحبس لاختيارهم المكث فكانوا مع شدة سيرهم يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا في ستة فراسخ.
ولما ندم على
404
(1/263)
الدعاء عليهم قيل له : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 26] فلا تحزن عليهم لأنهم فاسقون.
قيل : لم يكن موسى وهارون معهم في التيه لأنه كان عقاباً وقد سأل موسى ربه أنه يفرق بينهما وبينهم.
وقيل : كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلاماً لا عقوبة.
ومات هارون في التيه ، وموسى فيه بعده بسنة ، ومات النقباء في التيه إلا كالب ويوشع.
ثم أمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلّم أن يقص على حاسديه ما جرى بسبب الحسد ليتركوه ويؤمنوا بقوله :
جزء : 1 رقم الصفحة : 402
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } [الشعراء : 69] على أهل الكتاب { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ } [المائدة : 27] من صلبه هابيل وقابيل ، أو هما رجلان من بني إسرائيل { بِالْحَقِّ } نبأ ملتبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأولين ، أو تلاوة ملتبسة بالصدق والصحة ، أو واتل عليهم وأنت محق صادق { إِذْ قَرَّبَا } [المائدة : 27] نصب بالنبأ أي قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت ، أو بدل من النبأ أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف { قُرْبَانًا } ما يتقرب به إلى الله من نسيكة أو صدقة.
يقال : قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب ، والمعنى إذ قرب كل واحد منهما قربانه دليله { فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا } [المائدة : 27] قربانه وهو هابيل { وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخَرِ } [المائدة : 27] قربانه وهو قابيل.
روي أنه أوحى الله تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر ، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها إقليما فحسده عليها أخوه وسخط فقال لهما آدم : قربا قرباناً فمن أيكما قبل يتزوجها فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعده بالقتل وهو قوله { قَالَ لاقْتُلَنَّكَ } [المائدة : 27] أي قال لهابيل { قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة : 27] وتقديره : قال لم تقتلني : ؟ قال : لأن الله قبل قربانك ولم يقبل قرباني.
فقال : إنما يتقبل الله من المتقين وأنت غير متق فإنما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى لا من قبلي.
وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك وقد كنت وكنت؟
405
قال : إني أسمع الله يقول : " إنما يتقبل الله من المتقين " .
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{ لَـاـاِن بَسَطتَ } [المائدة : 28] مددت { إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَا بِبَاسِطٍ } [المائدة : 28] بماد { يَدِىَ } مدني وأبو عمرو وحفص { إِلَيْكَ لاقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَـالَمِينَ } [المائدة : 28] قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكن تحرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت ، وقيل : بل كان ذلك واجباً فإن فيه إهلاك نفسه ومشاركة للقاتل في إثمه ، وإنما معناه ما أنا بباسط يدي إليك مبتدئاً كقصدك ذلك مني ، وكان هابيل عازماً على مدافعته إذا قصد قتله وإنما قتله فتكاً على غفلة منه.
" إنّي أخاف " : حجازي وأبو عمرو { إِنِّى أُرِيدُ } [القصص : 27] " إنّي " مدني { أَن تَبُواأَ } [المائدة : 29] أن تحتمل أو ترجع { بِإِثْمِى } بإثم قتلي إذا قتلتني { وَإِثْمِكَ } الذي لأجله لم يتقبل قربانك وهو عقوق الأب والحسد والحقد ، وإنما أراد ذلك لكفره برده قضية الله تعالى أو كان ظالماً وجزاء الظالم جائز أن يراد { أَخِيهِ } فوسعته ويسرته من طاع له المرتع إذا اتسع { فَقَتَلَهُ } عند عقبة حراء أو بالبصرة والمقتول ابن عشرين سنة { وَءَاتَـاـاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ } أي الله أو التراب { كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ } عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده.
روي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم ، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه
406
(1/264)
السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فحينئذ { قَالَ } عطف على " أكون " { فَأُوَارِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّـادِمِينَ } [المائدة : 31] على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ولم يندم ندم التائبين ، أو كان الندم توبة لنا خاصة أو على حمله لا على قتله.
وروي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً.
فقال : بل قتلته ولذا اسود جسدك.
فالسودان من ولده.
وما روي أن آدم رثاه بشعر فلا يصح لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{ مِنْ أَجْلِ ذَالِكَ } [المائدة : 32] بسبب ذلك وبعلته " وذلك " إشارة إلى القتل المذكور.
قيل : هو متصل بالآية الأولى فيوقف على " ذلك " أي فأصبح من النادمين لأجل حمله ولأجل قتله.
وقيل : هو مستأنف والوقف على " النادمين " و " من " يتعلق بـ " كتبنا " لا بـ " النادمين " { كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ } خصهم بالذكر وإن اشترك الكل في ذلك لأن التوراة أول كتاب فيه الأحكام { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسَا } [المائدة : 32] الضمير للشأن و " من " شرطية { بِغَيْرِ نَفْسٍ } [المائدة : 32] بغير قتل نفس { أَوْ فَسَادٍ فِى الارْضِ } [المائدة : 32] عطف على " نفس " أي بغير فساد في الأرض وهو الشرك ، أو قطع الطريق وكل فساد يوجب القتل { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة : 32] أي في الذنب.
عن الحسن : لأن قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله عليه والعذاب العظيم ، ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك { وَمَنْ أَحْيَاهَا } [المائدة : 32] ومن استنقذها من أسباب الهلكة من قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك { فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } [المائدة : 32] جعل قتل الواحد كقتل الجميع ، وكذلك الإحياء ترغيباً وترهيباً لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور أن قتلها كقتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه ، وكذا الذي أراد إحياءها إذا تصور أن حكمه حكم جميع الناس رغب في إحيائها { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ } [المائدة : 32] أي بني إسرائيل { رُسُلُنَا } " رسلنا " : أبو عمرو { بِالْبَيِّنَـاتِ } بالآيات الواضحات { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَالِكَ } [المائدة : 32] بعدما كتبنا عليهم أو بعد مجيء الرسل بالآيات { فِى الارْضِ لَمُسْرِفُونَ } [المائدة : 32] في القتل لا يبالون بعظمته.
407
{ إِنَّمَا جَزَاؤُا الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي أولياء الله في الحديث " يقول الله تعالى : من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة " { وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا } [المائدة : 33] مفسدين ، ويجوز أن يكون مفعولاً له أي للفساد وخبر " جزاء " { أَن يُقَتَّلُوا } [المائدة : 33] وما عطف عليه وأفاد التشديد الواحد بعد الواحد ومعناه أن يقتلوا من غير صلب إن أفردوا القتل { أَوْ يُصَلَّبُوا } [المائدة : 33] مع القتل إن جمعوا بين القتل وأخذ المال { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم } [المائدة : 33] إن أخذوا المال { مِّنْ خِلَـافٍ } [المائدة : 33] حال من الأيدي والأرجل أي مختلفة { أَوْ يُنفَوْا مِنَ الارْضِ } [المائدة : 33] بالحبس إذا لم يزيدوا على الإخافة { ذَالِكَ } المذكور { لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا } [المائدة : 33] ذل وفضيحة { عَلَيْهِمْ } فتسقط عنهم هذه الحدود لا ما هو حق العباد { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المائدة : 34] يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } [البقرة : 278] فلا تؤذوا عباد الله { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } [المائدة : 35] هي كل ما يتوسل به أي يتقرب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك السيئات { جَمِيعًا } من صنوف الأموال { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [الرعد : 18] وأنفقوه { لِيَفْتَدُوا بِهِ } [المائدة : 36] ليجعلوه فدية لأنفسهم.
و " لو "
408
(1/265)
مع ما في حيزه خبر " إن " ، ووحد الراجع في " ليفتدوا به " وقد ذكر شيئان لأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة كأنه قيل : { لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فلا سبيل لهم إلى النجاة بوجه { يُرِيدُونَ } يطلبون أو يتمنون { أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَـارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [المائدة : 37] دائم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 405
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } [المائدة : 38] ارتفعا بالابتداء والخبر محذوف تقديره : وفيما يتلى عليكم السارق والسارقة أو الخبر { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة : 38] أي يديهما والمراد اليمينان بدليل قراءة عبد الله بن مسعود ، ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما.
والاسم الموصول يضمن معنى الشرط ، وبدأ بالرجل لأن السرقة من الجراءة وهي في الرجال أكثر ، وأخر الزاني لأن الزنا ينبعث من الشهوة وهي في النساء أوفر.
وقطعت اليد لأنها آلة السرقة ولم تقطع آلة الزنا تفادياً عن قطع النسل.
{ جَزَآءَ بِمَا كَسَبَا } [المائدة : 38] مفعول له { نَكَـالا مِّنَ اللَّهِ } [المائدة : 38] أي عقوبة منه وهو بدل من " جزاء " { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] غالب لا يعارض في حكمه { حَكِيمٌ } فيما حكم من قطع يد السارق والسارقة { فَمَن تَابَ } [المائدة : 39] من السرقة { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } [المائدة : 39] سرقته { وَأَصْلَحَ } برد المسروق { فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } [المائدة : 39] يقبل توبته { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 173] يغفر ذنبه ويرحمه { أَلَمْ تَعْلَمْ } [البقرة : 106] يا محمد أو يا مخاطب { أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } من مات على الكفر { وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [المائدة : 40] لمن تاب عن
409
الكفر { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } [المجادلة : 6] من التعذيب والمغفرة وغيرهما { قَدِيرٌ } قادر.
وقدم التعذيب على المغفرة هنا لتقدم السرقة على التوبة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 409
(1/266)
{ قَدِيرٌ * يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ } أي لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين ، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.
يقال أسرع فيه الشيب أي وقع سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا } [المائدة : 41] تبيين لقوله : " الذين يسارعون في الكفر " { مَنْ } مفعول " قالوا " { بِأَفْوَاهِهِمْ } متعلق بـ " قالوا " أي قالوا بأفواههم آمنا { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [المائدة : 41] في محل النصب على الحال { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } [المائدة : 41] معطوف على " من الذين قالوا " أي من المنافقين واليهود.
ويرتفع { سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ } [المائدة : 42] على أنه خبر مبتدأ مضمر أي هم سماعون والضمير للفريقين ، أو سماعون مبتدأ وخبره " من الذين هادوا " ، وعلى هذا يوقف " على قلوبهم " ، وعلى الأول " على هادوا " .
ومعنى سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك بأن يمسخوا ما سمعوا منك بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير { سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } [المائدة : 41] أي سماعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [المائدة : 41] أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا موضع.
" يحرفون " صفة لقوم كقوله " لم يأتوك " ، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم يحرفون ، والضمير مردود على لفظ الكلم { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا } [المائدة : 41] المحرف المزال عن مواضعه ويقولون مثل يحرفون.
وجاز أن يكون حالاً من الضمير في " يحرفون " { فَخُذُوهُ } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } [المائدة : 41] وأفتاكم محمد بخلافه { فَاحْذَرُوا } فإياكم وإياه فهو الباطل.
روي أن شريفاً زنى بشريفة بخيبر وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ذلك وقالوا : إن أمركم بالجلد والتحميم فاقبلوا ،
410
وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به { وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ } [المائدة : 41] ضلالته وهو حجة على من يقول : يريد الله الإيمان ولا يريد الكفر { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شيئا } [المائدة : 41] قطع رجاء محمد صلى الله عليه وسلّم عن إيمان هؤلاء { أؤلئك الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } [المائدة : 41] عن الكفر لعلمه منهم اختيار الكفر وهو حجة لنا عليهم أيضاً { لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } [البقرة : 114] للمنافقين فضيحة ولليهود جزية { وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 114] أي التخليد في النار.
جزء : 1 رقم الصفحة : 409
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
{ سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ } [المائدة : 42] كرر للتأكيد أي هم سماعون ومثله { أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ } [المائدة : 42] وهو كل ما لا يحل كسبه وهو من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة ، وفي الحديث " هو الرشوة في الحكم " وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام.
وبالتثقيل مكي وبصري وعلي { فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [المائدة : 42] قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم بينهم.
وقيل : نسخ التخيير بقوله : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [المائدة : 49] { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شيئا } [المائدة : 42] فلن يقدروا على الإضرار بك لأن الله تعالى يعصمك من الناس { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ } [المائدة : 42] بالعدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [المائدة : 42] العادلين.
(1/267)
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاـاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدعون الإيمان به.
" فيها حكم الله " حال من التوراة وهي مبتدأ وخبره " عندهم " { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَالِكَ } [المائدة : 43] عطف على " يحكمونك " أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به { وَمَآ أؤلئك بِالْمُؤْمِنِينَ } [المائدة : 43] بك أو بكتابهم كما يدعون.
411
{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاـاةَ فِيهَا هُدًى } يهدي للحق { وَنُورٌ } يبين ما استبهم من الأحكام { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } [المائدة : 44] انقادوا لحكم الله في التوراة وهو صفة أجريت للنبيين على سبيل المدح ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود لأنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم { لِلَّذِينَ هَادُوا } [المائدة : 44] تابوا من الكفر ، واللام يتعلق بـ " يحكم "
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
{ وَالرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ } معطوفان على " النبيون " أي الزهاد والعلماء { بِمَا اسْتُحْفِظُوا } [المائدة : 44] استودعوا ، قيل : ويجوز أن يكون بدلاً من " بها " في " يحكم بها " { مِن كِتَـابِ اللَّهِ } [المائدة : 44] " من " للتبيين والضمير في " استحفظوا " للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه ، أو " الربانيون والأحبار " ويكون الاستحفاظ من الأنبياء { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } [المائدة : 44] رقباء لئلا يبدل { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ } [المائدة : 44] نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل خشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد { وَاخْشَوْنِ } في مخالفة أمري وبالياء فيهما : سهل وافقه أبو عمرو في الوصل { وَلا تَشْتَرُوا } ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه { اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } [النحل : 95] وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [المائدة : 44] مستهيناً به { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ } [المائدة : 44] قال ابن عباس رضي الله عنهما : من لم يحكم جاحداً فهو كافر ، وإن لم يكن جاحداً فهو فاسق ظالم.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو عام في اليهود وغيرهم.
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ } [المائدة : 45] وفرضنا على اليهود في التوراة { أَنَّ النَّفْسَ } [المائدة : 45] مأخوذة { بِالنَّفْسِ } مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق { وَالْعَيْنَ } مفقوءة { بِالْعَيْنِ وَالانْفَ } [المائدة : 45]
412
مجدوع { بِالانْفِ وَالاذُنَ } [المائدة : 45] مقطوعة { بِالاذُنِ وَالسِّنَّ } [المائدة : 45] مقلوعة { بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة : 45] أي ذات قصاص وهو المقاصة ومعناه ما يمكن فيه القصاص وإلا فحكومة عدل.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت.
وقوله " أن النفس بالنفس " يدل عى أن المسلم يقتل بالذمي والرجل بالمرأة والحر بالعبد.
نصب نافع وعاصم وحمزة المعطوفات كلها للعطف على ما عملت فيه " أن " .
ورفعها عليٌّ للعطف على محل " أن النفس " لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس إجراء لـ " كتبنا " مجرى " قلنا " ، ونصب الباقون الكل ورفعوا الجروح.
والأذن بسكون الذال حيث كان : نافع.
والباقون : بضمها وهما لغتان كالسحت والسحت { فَمَن تَصَدَّقَ } [المائدة : 45] من أصحاب الحق { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فالتصدق به كفارة للمتصدق بإحسانه قال عليه السلام " من تصدق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولدته أمه " { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَـائكَ هُمُ الظَّـالِمُونَ } [المائدة : 45] بالامتناع عن ذلك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
(1/268)
{ وَقَفَّيْنَا } معنى قفيت الشيء بالشيء جعلته في أثره كأنه جعل في قفاه يقال قفاه بقفوه إذا تبعه { عَلَى ءَاثَـارِهِم } [الكهف : 6] عى آثار النبيين الذين أسلموا { بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا } [المائدة : 46] هوحال من " عيسى " { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ } أي وآتيناه الإنجيل ثابتاً فيه هدى ونور ومصدقاً ، فنصب " مصدقاً " بالعطف على ثابتاً الذي تعلق به فيه وقام مقامه فيه.
وارتفع " هدى ونور " بثابتاً الذي قام مقامه فيه { لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } [آل عمران : 138] انتصبا على الحال أي هادياً وواعظاً { لِّلْمُتَّقِينَ } لأنهم ينتفعون به { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الانجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } [المائدة : 47] وقلنا لهم احكموا بموجبه ، فاللام لام الأمر وأصله الكسر ، وإنما سكن استثقالاً لفتحة وكسرة وفتحة.
" وليحكم " بكسر اللام وفتح الميم : حمزة على أنها لام كي أي وقفينا ليؤمنوا وليحكم.
{ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوالَـائِكَ هُمُ الْفَـاسِقُونَ } [المائدة : 47] الخارجون عن الطاعة.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : يجوز أن يحمل على الجحود في الثلاث فيكون
413
كافراً ظالماً فاسقاً ، لأن الفاسق المطلق والظالم المطلق هو الكافر.
وقيل : ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر بنعمة الله ظالم في حكمه فاسق في فعله.
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَـابَ } [المائدة : 48] أي القرآن فحرف التعريف فيه للعهد { بِالْحَقِّ } بسبب الحق وإثباته وتبيين الصواب من الخطأ { مُصَدِّقًا } حال من " الكتاب " { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [فاطر : 31] لما تقدمه نزولاً.
وإنما قيل لما قبل الشيء هو بين يديه لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه { مِنَ الْكِتَـابِ } [النمل : 40] المراد به جنس الكتب المنزلة لأن القرآن مصدق لجميع كتب الله فكان حرف التعريف فيه للجنس ، ومعنى تصديقه الكتب موافقتها في التوحيد والعبادة { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـاهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] (الأنبياء : 52) { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة : 48] وشاهداً لأنه يشهد له بالصحة والثبات { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [المائدة : 48] أي بما في القرآن { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة : 48] نهى أن يحكم بما حرفوه وبدلوه اعتماداً على قولهم.
ضمّن ولا تتبع معنى ولا تنحرف فلذا عدي بـ " من " فكأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم ، أو التقدير عادلاً عما جاءك { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } [المائدة : 48] أيها الناس { شِرْعَةً } شريعة { وَمِنْهَاجًا } وطريقاً واضحاً.
واستدل به من قال إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا.
ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام ، ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام ، ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم ، وبين أنه ليس للسماع فحسب بل للحكم به فقال في الأول " يحكم به التبيون " وفي الثاني " وليحكم أهل الإنجيل " وفي الثالث " فاحكم بينهم بما أنزل الله " { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [المائدة : 48] جماعة متفقة على شريعة واحدة { الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ } ليعاملكم معاملة المختبر { فِى } من الشرائع المختلفة فتعبّد كل أمة بما اقتضته الحكمة { مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } [البقرة : 148] فابتدروها وسابقوا نحوها قبل الفوات بالوفاة.
والمراد بالخيرات كل ما أمر الله تعالى به { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } [المائدة : 48] استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات { جَمِيعًا } حال من
414
الضمير المجرور والعامل المصدر المضاف لأنه في تقدير : إليه ترجعون { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [المائدة : 48] فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
(1/269)
{ وَأَنِ احْكُم } [المائدة : 49] معطوف على " بالحق " أي وأنزلنا إليك الكتاب بالحق وبأن احكم { بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } [المائدة : 49] أي يصرفوك وهو مفعول له أي مخافة أن يفتنوك.
وإنما حذره وهو رسول مأمون لقطع أطماع القوم { عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا } [المائدة : 49] عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } [المائدة : 49] أي بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع " ببعض ذنوبهم " موضع ذلك وهذا الإبهام لتعظيم التولي ، وفيه تعظيم الذنوب فإن الذنوب بعضها مهلك فكيف بكلها { وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَـاسِقُونَ } [المائدة : 49] لخارجون عن أمر الله { أَفَحُكْمَ الْجَـاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } [المائدة : 50] يطلبون.
وبالتاء شامي يخاطب بني النضير في تفاضلهم على بني قريظة وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم : القتلى سواء.
فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت.
وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية.
وناصب " أفحكم الجاهلية يبغون " { وَمَنْ أَحْسَنُ } [النساء : 125] مبتدأ وخبره وهو استفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن { مِنَ اللَّهِ حُكْمًا } [المائدة : 50] هو تمييز.
واللام في { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [البقرة : 118] للبيان كاللام في { هَيْتَ لَكَ } [يوسف : 23] (يوسف : 32) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام " لقوم يوقنون " فإنهم هم الذين يتبينون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه.
وقال أبو علي : معنى لقوم عند قوم لأن اللام و " عند " يتقاربان في المعنى ونزل نهياً عن موالاة أعداء الدين.
415
جزء : 1 رقم الصفحة : 411
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَـارَى أَوْلِيَآءَ } أي لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين.
ثم علل النهي بقوله { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الانفال : 73] وكلهم أعداء المؤمنين ، وفيه دليل على أن الكفر كله ملة واحدة { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة : 51] من جملتهم وحكمه حكمهم ، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [المائدة : 51] لا يرشد الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة { فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [المائدة : 52] نفاق { يُسَـارِعُونَ } حال أو مفعول ثانٍ لاحتمال أن يكون من رؤية العين أو القلب { فِيهِمْ } في معاونتهم على المسلمين وموالاتهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 416
{ يَقُولُونَ } أي في أنفسهم لقوله على " ما أسروا " { نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [المائدة : 52] أي حادثة تدور بالحال التي يكونون عليها { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ } [المائدة : 52] لرسول الله صلى الله عليه وسلّم على أعدائه وإظهار المسلمين { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } [المائدة : 52] أي يؤمر النبي عليه السلام بإظهار إسرار المنافقين وقتلهم { فَيُصْبِحُوا } أي المنافقون { عَلَى مَآ أَسَرُّوا فِى أَنفُسِهِمْ } [المائدة : 52] من النفاق { نَـادِمِينَ } خبر " فيصبحوا " { وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [المائدة : 53] أي يقول بعضهم لبعض عند ذلك.
" ويقول " بصري عطفاً على " أن يأتي " " يقول " بغير واو : شامي وحجازي على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل : يقول الذين آمنوا { أَهَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } [المائدة : 53] أي أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وجهد أيمانهم مصدر في تقدير الحال أي مجتهدين في توكيد أيمانهم { حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ } [المائدة : 53] ضاعت أعمالهم التي عملوها رياء وسمعة لا إيماناً وعقيدة ، وهذا من قول الله عز وجل شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجيباً من سوء حالهم { فَأَصْبَحُوا خَـاسِرِينَ } [المائدة : 53] في الدنيا والعقبى لفوات المعونة ودوام العقوبة.
416
(1/270)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [المائدة : 54] من يرجع منكم عن دين الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر.
" يرتدد " مدني وشامي { فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة : 54] يرضى أعمالهم ويثني عليهم بها ويطيعونه ويؤثرون رضاه ، وفيه دليل نبوته عليه السلام حيث أخبرهم بما لم يكن فكان ، وإثبات خلافة الصديق لأنه جاهد المرتدين ، وفي صحة خلافته وخلافة عمر رضي الله عنهما.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلّم عنهم فضرب على عاتق سلمان وقال " هذا وذووه لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس " والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 416
{ أَذِلَّةٍ } جمع ذليل ، وأما ذلول فجمعه ذلل.
ومن زعم أنه من الذّل الذي هو ضد الصعوبة فقد سها لأن ذلولاً لا يجمع على أذلة.
قال الجوهري : الذل ضد العز ، ورجل ذليل بيّن الذل ، وقوم أذلاء وأذلة ، والذل بالكسر اللين وهو ضد الصعوبة يقال : دابة ذلول ودواب ذلل { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [آل عمران : 152] ولم يقل للمؤمنين لتضمن الذل معنى الحنو والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [المائدة : 54] أشداء عليهم والعزاز الأرض الصلبة فهم مع المؤمنين كالولد لوالده والعبد لسيده ومع الكافرين كالسبع على فريسته { يُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ } [المائدة : 54] يقاتلون الكفار وهو صفة لـ " قوم " كـ " يحبهم " و " أعزة " و " أذلة " { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لا ـاِمٍ } [المائدة : 54] الواو يحتمل أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود ، فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم ، وأما المؤمنون فمجاهدتهم لله لا يخافون لومة لائم.
وأن تكون للعطف أي من صفتهم المجاهدة في سبيل الله وهم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين لا تزعهم لومة لائم : واللومة المرة من اللوم وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم واحد من اللوام { ذَالِكَ } إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة
417
{ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ } [المائدة : 54] كثير الفواضل { عَلِيمٌ } بمن هو من أهلها.
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [المائدة : 55] وإنما يفيد اختصاصهم بالموالاة ولم يجمع الولي وإن كان المذكور جماعة تنبيهاً على أن الولاية لله أصل ولغيره تبع ، ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع.
ومحل { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ } [الانفال : 3] الرفع على البدل من " الذين آمنوا " ، أو على هم الذين ، أو النصب على المدح { وَيُؤْتُونَ الزكاة } [الأعراف : 156].
والواو في { وَهُمْ } للحال أي يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة.
قيل : إنها نزلت في علي رضي الله عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل يفسد صلاته.
وورد بلفظ الجمع وإن كان السبب فيه واحداً ترغيباً للناس في مثل فعله لينالوا مثل ثوابه.
والآية تدل على جواز الصدقة في الصلاة ، وعلى أن الفعل القليل لا يفسد الصلاة.
جزء : 1 رقم الصفحة : 416
{ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا } [المائدة : 56] يتخذه ولياً أو يكن ولياً { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَـالِبُونَ } [المائدة : 56] من إقامة الظاهر مقام الضمير أي فإنهم هم الغالبون ، أو المراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب.
وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمرٍ حزبهم أي أصابهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 418
(1/271)
وروي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزل { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا } يعني اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصح أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء والمنابذة { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ } [التوبة : 29] " من " للبيان { مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } [المائدة : 57] أي المشركين وهو عطف على " الذين " المنصوبة.
و " الكفار " بصري وعلي عطف على الذين المجرورة أي من
418
الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار { أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 57] في موالاة الكفار { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] حقاً لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ اتَّخَذُوهَا } أي الصلاة أو المناداة { هُزُوًا وَلَعِبًا ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } [المائدة : 58] لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنهم لا عقل لهم ، وفيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ } [المائدة : 59] يعني هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالله وبالكتب المنزلة كلها { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـاسِقُونَ } [المائدة : 59] وهو عطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وما أنزل وبأن أكثركم فاسقون ، والمعنى أعاديتمونا لأنا اعتقدنا توحيد الله وصدق أنبيائه وفسقكم لمخالفتكم لنا في ذلك؟ ويجوز أن يكون الواو بمعنى " مع " أي ما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أنكم فاسقون.
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ } [المائدة : 60] أي ثواباً وهو نصب على التمييز والمثوبة وإن كانت مختصة بالإحسان ولكنها وضعت موضع العقوبة كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران : 21] (آل عمران : 12) وكان اليهود يزعمون أن المسلمين مستوجبون للعقوبة فقيل لهم
جزء : 1 رقم الصفحة : 418
{ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ } [المائدة : 60] شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم وذلك إشارة إلى المتقدم أي الإيمان أي بشر مما نقمتم من إيماننا ثواباً أي جزاء ، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل " من " تقديره : بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله { وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ } [المائدة : 60] يعني أصحاب السبت { وَالْخَنَازِيرَ } أي كفار أهل مائدة عيسى عليه السلام ، أو كلا المسخين من أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير { وَعَبَدَ الطَّـاغُوتَ } [المائدة : 60] أي العجل أو الشيطان لأن عبادتهم العجل بتزيين الشيطان وهو عطف على صلة " من " كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت.
419
" وعبد الطاغوت " حمزة جعله اسماً موضوعاً للمبالغة كقولهم " رجل حذر وفطن " للبليغ في الحذر والفطنة ، وهو معطوف على " القردة والخنازير " أي جعل الله منهم عبد الطاغوات { أؤلئك } الممسوخون الملعونون { شَرٌّ مَّكَانًا } [مريم : 75] جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة { وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [المائدة : 60] عن قصد الطريق الموصل إلى الجنة.
ونزل في ناس من اليهود كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلّم ويظهرون له الإيمان نفاقاً.
(1/272)
{ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } [المائدة : 61] الباء للحال أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين وتقديره ملتبسين بالكفر ، وكذلك قد دخلوا وهم قد خرجوا ولذا دخلت " قد " تقريباً للماضي من الحال وهو متعلق بـ " قالوا آمنا " أي قالوا ذلك وهذه حالهم { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } [المائدة : 61] من النفاق { وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ } [المائدة : 62] من اليهود { يُسَـارِعُونَ فِى الاثْمِ } [المائدة : 62] الكذب { وَالْعُدْوَانِ } الظلم.
أو الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم ، والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [المائدة : 62] الحرام { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المائدة : 62] لبئس شيئاً عملوه { لَوْلا } هلا وهو تحضيض { يَنْهَـاـاهُمُ الرَّبَّـانِيُّونَ وَالاحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة : 63] هذا ذم للعلماء والأول للعامة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي أشد آية في القرآن حيث أنزل تارك النهي عن المنكر منزلة مرتكب المنكر في الوعيد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 418
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة : 64] روي أن اليهود لعنهم الله لما كذبوا محمداً عليه السلام كف الله ما بسط عليهم من السعة
420
وكانوا من أكثر الناس مالاً ، فعند ذلك قال فنحاص : يد الله مغلولة ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه.
وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [الإسراء : 29] (الإسراء : 92).
ولا يقصد المتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى إنه يستعمل في ملك يعطي ويمنع بالإشارة من غير استعمال اليد ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزلاً لقالوا ما أبسط يده بالنوال.
وقد استعمل حيث لا تصح اليد يقال : بسط البأس كفيه في صدري فجعل للبأس الذي هو من المعاني كفان ، ومن لم ينظر في علم البيان يتحير في تأويل أمثال هذه الآية.
وقوله " غلت أيديهم " دعاء عليهم بالبخل ومن ثم كانوا أبخل خلق الله ، أو تغل في جهنم فهي كأنها غلت وإنما ثنيت اليد في " بل يداه مبسوطتان " وهي مفردة في " يد الله مغلولة " ليكون رد قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه ، فغاية ما يبذله السخي أن يعطيه بيديه { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [المائدة : 64] تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم } [المائدة : 64] من اليهود { مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا } [المائدة : 64] أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفراً بآيات الله ، وهذا من إضافة الفعل إلى السبب كما قال " فزادتهم رجساً إلى رجسهم " .
{ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } فكلمهم أبداً مختلف وقلوبهم شتى لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد { كُلَّمَآ أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [المائدة : 64] كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا لم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس.
وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم نصر عليهم.
عن قتادة : لا تلقي يهودياً في بلد إلا وقد وجدته من أذل الناس { وَيَسْعَوْنَ فِى الارْضِ فَسَادًا } [المائدة : 33] ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي عليه السلام من كتبهم { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَـابِ ءَامَنُوا } برسول الله عليه السلام وبما جاء به مع ما عددنا من سيئآتهم { وَاتَّقُوا } أي وقرنوا إيمانهم بالتقوى { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ } [المائدة : 65] ولم نؤاخذهم بها { وَلادْخَلْنَـاهُمْ جَنَّـاتِ النَّعِيمِ } [المائدة : 65] مع المسلمين.
421
جزء : 1 رقم الصفحة : 418
(1/273)
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ } أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ } [المائدة : 66] من سائر كتب الله لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم.
وقيل : هو القرآن.
{ لاكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ } [المائدة : 66] يعني الثمار من فوق رؤوسهم { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة : 66] يعني الزروع وهذه عبارة عن التوسعة كقولهم " فلان في النعمة من فرقه إلى قدمه " .
ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق وهو كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الأعراف : 96] (الأعراف : 69).
{ يَحْتَسِبُ } (الطلاق : 3).
{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } [نوح : 10] (نوح : 01) الآيات.
{ وَأَلَّوِ اسْتَقَـامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لاسْقَيْنَـاهُم مَّآءً غَدَقًا } [الجن : 16] { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } [المائدة : 66] طائفة حالها أممٌ في عداوة رسول الله عليه السلام.
وقيل : هي الطائفة المؤمنة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } [المائدة : 66] فيه معنى التعجب كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم.
وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه وغيرهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
{ يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [المائدة : 67] جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ولا خائف أن ينالك مكروه { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } [المائدة : 67] وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة : 67] " رسالاته " : مدني وشامي وأبو بكر.
أي فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالة ولم تؤد منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لكونها في حكم شيء واحد لدخولها تحت خطاب واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ مؤمناً به غير مؤمن.
قالت الملحدة لعنهم الله تعالى : هذا كلام لا يفيد وهو كقولك لغلامك :
422
" كل هذا الطعام فإن لم تأكله فإنك ما أكلته " ، قلنا : هذا أمر بتبليغ الرسالة في المستقبل أي بلغ ما أنزل إليك من ربك في المستقبل فإن لم تفعل أي إن لم تبلغ الرسالة في المستقبل فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً ، أو بلغ ما أنزل إليك من ربك الآن ولا تنتظر به كثرة الشوكة والعدة ، فإن لم تبلغ كنت كمن لم يبلغ أصلاً ، أو بلغ ذلك غير خائف أحداً فإن لم تبلغ على هذا الوصف فكأنك لم تبلغ الرسالة أصلاً.
ثم قال مشجعاً له في التبليغ { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67] يحفظك منهم قتلاً فلم يقدر عليه وإن شج في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته أو نزلت بعدما أصابه ما أصابه.
والناس الكفار بدليل قوله { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ } [المائدة : 67] لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك.
{ قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ } على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لبطلانه { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } يعني القرآن { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَـانًا وَكُفْرًا } [المائدة : 64] إضافة زيادة الكفر والطغيان إلى القرآن بطريق التسبيب { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ } [المائدة : 68] فلا تتأسف عليهم فإن ضرر ذلك يعود إليهم لا إليك.
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
(1/274)
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا } [النساء : 137] بألسنتهم وهم المنافقون ودل عليه قوله : و { لا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } [المائدة : 41] (آل عمران : 67) { وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـابِئُونَ وَالنَّصَـارَى } قال سيبويه وجميع البصريين : ارتفع " الصابئون " بالابتداء وخبره محذوف والنية به التأخير عما في حيز " إن " من اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى { مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ وَعَمِلَ صَـالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة : 69] والصابئون كذلك أي من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم فقدم وحذف الخبر كقوله :
423
فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيار بها لغريب
أي فإني لغريب وقيار كذلك ، ودل اللام على أنه خبر " إن " ولا يرتفع بالعطف على محل " إن " واسمها لأن ذا لا يصح قبل الفراغ من الخبر.
لا تقول " إن زيداً وعمرو منطلقان " وإنما يجوز " إن زيداً منطلق وعمرو " ، والصابئون مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله " إن الذين آمنوا " إلى آخره ، ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها.
وفائدة التقديم التنبيه على أن الصابئين وهم أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان فما الظن بغيرهم ومحل " من آمن " الرفع على الابتداء وخبره " فلا خوف عليهم " والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
ثم الجملة كما هي خبر " إن " والراجح إلى اسم " إن " محذوف تقديره : من آمن منهم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى } بالتوحيد { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلا } [المائدة : 70] ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولُ } [المائدة : 70] جملة شرطية وقعت صفة لـ " رسلاً " والراجع محذوف أي رسول منهم { بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ } [المائدة : 70] بما يخالف هواهم ويضاد شهواتهم من مشاق التكليف والعسل بالشرائع ، وجواب الشرط محذوف دل عليه { فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ } [المائدة : 70] كأنه يقول : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.
وقوله " فريقاً كذبوا " جواب مستأنف لقائل كأنه قيل : كيف فعلوا برسلهم وقال " يقتلون " بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل ، وتنبيهاً على أن القتل من شأنهم ، وانتصب " فريقاً " و " فريقاً " على أنه مفعول " كذبوا " و " يقتلون " .
وقيل : التكذيب مشترك بين اليهود والنصارى ، والقتل مختص باليهود فهم قتلوا زكريا ويحيى.
{ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ } [المائدة : 71] " أن لا تكون " : حمزة وعلي وأبو عمرو على " أن " مخففة من الثقيلة أصله أنه لا تكون فخففت " إن " وحذف ضمير الشأن ، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم فلذا دخل فعل الحسبان على " إن " التي هي
424
للتحقيق { فِتْنَةٌ } بلاء وعذاب أي وحسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل.
وسد ما يشتمل عليه صلة " أن " وأن من المسند والمسند إليه مسد مفعولي " حسب " { فَعَمُوا وَصَمُّوا } [المائدة : 71] فلم يعملوا بما رأوا ولا بما سمعوا ، أو فعموا عن الرشد وصموا عن الوعظ { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 71] رزقهم التوبة { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [المائدة : 71] هو بدل من الضمير أي الواو وهو بدل البعض من الكل ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم { وَاللَّهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ } [البقرة : 96] فيجازيهم بحسب أعمالهم.
(1/275)
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ } لم يفرق عيسى عليه السلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب ليكون حجة على النصارى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ } [المائدة : 72] في عبادته غير الله { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [المائدة : 72] التي هي دار الموحدين أي حرمه دخولها ومنه منعه { مِنَ النَّارِ } أي مرجعه { وَمَا لِلظَّـالِمِينَ } [البقرة : 270] أي الكافرين { مِنْ أَنصَارٍ } [البقرة : 270] وهو من كلام الله تعالى أو من كلام عيسى عليه السلام.
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـاثَةٍ } [المائدة : 73] أي ثالث ثلاثة آلهة ، والإشكال أنه تعالى قال في الآية الأولى " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " وقال في الثانية " لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة " والجواب أن بعض النصارى كانوا يقولون : كان المسيح بعينه هو الله لأن الله ربما يتجلى في بعض الأزمان في شخص فتجلى في ذلك الوقت في شخص عيسى ، ولهذا كان يظهر من شخص عيسى أفعال لا يقدر عليها إلا الله ، وبعضهم ذهبوا إلى آلهة ثلاثة : الله ومريم والمسيح وأنه ولد الله من مريم.
و " من " في قوله { وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلا إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [المائدة : 73] للاستغراق أي وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له
425
وهو الله وحده لا شريك له.
وفي قوله { وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ } [المائدة : 73] للبيان كالتي في { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاوْثَـانِ } [الحج : 30] (الحج : 03) ولم يقل " ليمسنهم " لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر ، أو للتبعيض أي ليمسن الذين بقوا على الكفر منهم لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية { عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 104] نوع شديد الألم من العذاب.
{ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } [المائدة : 74] ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه وفيه تعجيب من إصرارهم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [البقرة : 218] يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم.
{ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ } [المائدة : 75]فيه نفي الألوهية عنه { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } [آل عمران : 144] صفة لرسول أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله ، وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الموتى لم يكن منه لأنه ليس إلهاً بل الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده كما أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى ، وخلقه من غير ذكر كخلق آدم من غير ذكر وأنثى { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
المائدة : 75] أي وما أمه أيضاً إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم.
ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [التحريم : 12] (التحريم : 21).
ثم أبعدهما عما نسب إليهما بقوله { كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [المائدة : 75] لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنقض لم يكن إلا جسماً مركباً من لحم وعظم وعروق وأعصاب وغير ذلك ما يدل على أنه مصنوع مؤلف كغيره من الأجسام { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الايَـاتِ } [المائدة : 75] أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم { ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [المائدة : 75] كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان ، وهذا تعجيب من الله تعالى في ذهابهم عن الفرق بين الرب والمربوب.
426
(1/276)
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [المائدة : 76] هو عيسى عليه السلام أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلاء والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ، لأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبتخليقه تعالى فكأنه لا يملك منه شيئاً ، وهذا دليل قاطع على أن أمره منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً ، وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [المائدة : 76] متعلق بـ " أتعبدون " أي أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولونه ويعلم ما تعتقدونه { قُلْ يَـا أَهْلَ الْكِتَـابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ } [المائدة : 77] الغلو مجاوزة الحد ، فغلو النصارى رفعه فوق قدره باستحقاق الألوهية ، وغلو اليهود وضعه عن استحقاق النبوة { غَيْرَ الْحَقِّ } [آل عمران : 154] صفة لمصدر محذوف أي غلوا غير الحق يعني غلواً باطلاً { وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ } [المائدة : 77] أي أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم { وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } [المائدة : 77] ممن تابعهم { وَضَلُّوا } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم { عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } [المائدة : 60] حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 422
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُادَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } قيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة.
ولما كفر أصحاب عيسى بعد المائدة قال عيسى : اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل { ذَالِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ } [البقرة : 61] ذلك اللعن بعصيانهم واعتدائهم ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله
427
{ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ } [المائدة : 79] لا ينهي بعضهم بعضاً
جزء : 1 رقم الصفحة : 427
{ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [المائدة : 79] عن قبيح فعلوه.
ومعنى وصف المنكر بـ " فعلوه " ولا يكون النهي بعد الفعل أنهم لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه أو عن مثل منكر فعلوه أو عن منكر أرادوا فعله ، أو المراد لا ينتهون عن منكر فعلوه بل يصرون عليه.
يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه.
ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً لذلك بالقسم بقوله { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [المائدة : 79] وفيه دليل على أن ترك النهي عن المنكر من العظائم فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عنه { تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [المائدة : 80] هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 80] لبئس شيئاً قدموه لأنفسهم سخط الله عليهم أي موجب سخط الله { وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَـالِدُونَ } [المائدة : 80] أي في جهنم { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلَّهِ } [المائدة : 81] إيماناً خالصاً بلا نفاق { وَالنَّبِىِّ } أي محمد صلى الله عليه وسلّم { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ } [المائدة : 81] يعني القرآن { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ } [المائدة : 81] ما اتخذوا المشركين أولياء يعني أن موالاة المشركين تدل على نفاقهم { وَلَـاكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ } [المائدة : 81] مستمرون في كفرهم ونفاقهم ، أو معناه ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله وبموسى وما أنزل إليه ـ يعني التوراة ـ ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون ولكن كثيراً منهم فاسقون خارجون عن دينهم فلا دين لهم أصلاً.
(1/277)
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الْيَهُودَ } هو مفعول ثان لـ " تجدن " .
و " عداوة " تمييز { وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } [الحج : 17] عطف عليهم { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَـارَى } [المائدة : 82] اللام تتعلق بـ " عداوة " و " مودة " .
وصف اليهود بشدة الشكيمة والنصارى بلين العريكة ، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين ،
428
ونبه على تقدم قدمهم فيها بتقديمهم على المشركين { ذَالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } [المائدة : 82] أي علماء وعباداً { وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة : 82] علل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بأن منهم قسيسين ورهباناً وأن فيهم تواضعاً واستكانة ، واليهود على خلاف ذلك ، وفيه دليل على أن العلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وإن كان علم القسيسين ، وكذا علم الآخرة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني { وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } [المائدة : 83] وصفهم برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن كما روي عن النجاشي أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون وهم يقرءونه عليهم : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إلى مريم.
فقرأها إلى قوله : { ذَالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } [مريم : 34] (الآية : 43) وقرأ سورة طه إلى قوله : { وَهَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ مُوسَى } [طه : 9] (الآية : 9) فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم سورة " يس " فبكوا.
" تفيض من الدمع " تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من أجل البكاء.
و " من " في " مما عرفوا " لابتداءالغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق وكان من أجله ، " ومن " في " من الحق " لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، أو للتبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة { يَقُولُونَ } حال من ضمير الفاعل في " عرفوا " { رَبَّنَآ ءَامَنَّا } [آل عمران : 53] بمحمد صلى الله عليه وسلّم والمراد إنشاء الإيمان والدخول فيه { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّـاهِدِينَ } [آل عمران : 53] مع أمة محمد عليه السلام الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة لتكونوا شهداء على الناس ، وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.
429
(1/278)
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [المائدة : 84] إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين.
وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك.
" ومالنا " مبتدأ وخبر و " لا نؤمن " حال أي غير مؤمنين كقولك " مالك قائماً " { وَمَا جَآءَنَا } [المائدة : 84] وبما جاءنا { مِنَ الْحَقِّ } [البقرة : 213] يعني محمداً عليه السلام والقرآن { وَنَطْمَعُ } حال من ضمير الفاعل في " نؤمن " والتقدير : ونحن نطمع { أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا } [المائدة : 84] الجنة { مَعَ الْقَوْمِ الصَّـالِحِينَ } [المائدة : 84] الأنبياء والمؤمنين { فَأَثَـابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا } [المائدة : 85] أي بقولهم ربنا آمنا وتصديقهم لذلك { جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ } [المائدة : 85] وفيه دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هومذهب الفقهاء.
وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله " بما قالوا " لكن الثناء بفيض الدمع في السباق وبالإحسان في السياق يدفع ذلك ، وأنى يكون مجرد القول إيماناً وقد قال الله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [البقرة : 8] (البقرة : 8).
نفى الإيمان عنهم مع قولهم " آمنا بالله " لعدم التصديق بالقلب.
وقال أهل المعرفة : الموجود منهم ثلاثة أشياء : البكاء على الجفاء ، والدعاء على العطاء ، والرضا بالقضاء ، فمن ادعى المعرفة ولم يكن فيه هذه الثلاثة فليس بصادق في دعواه { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ أؤلئك أَصْحَـابُ الْجَحِيمِ } [المائدة : 10] هذا أثر الرد في حق الأعداء ، والأول أثر القبول للأولياء ، ونزل في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حلفوا أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويقوموا الليل ويصوموا النهار ويسيحوا في الأرض ويجبّوا مذاكيرهم ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب.
430
جزء : 1 رقم الصفحة : 427
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَـاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة : 87] ما طاب ولذ من الحلال.
ومعنى " لا تحرموا " لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم ، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يأكل الدجاج والفالوذ وكان يعجبه الحلواء والعمل وقال " إن المؤمن حلو يحب الحلاوة " .
وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجي وأصحابه فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟ وعنه أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول لا أؤدي شكره.
فقال : أفيشرب الماء البارد؟ قالوا : نعم.
قال : إنه جاهل أن نعمة الله عليه في الماء البارد أكبر من نعمته عليه في الفالوذ.
{ وَلا تَعْتَدُوا } [البقرة : 190] ولا تجاوزوا الحد الذي حد عليكم في تحليل أو تحريم ، أو ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة : 190] حدوده.
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالا طَيِّبًا } [المائدة : 88] " حلالاً " حال " مما رزقكم الله " { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] توكيد للتوصية بما أمر به وزاده توكيداً بقوله { الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [المائدة : 88] لأن الإيمان به يوجب التقوى فيما أمر به ونهى.
431
(1/279)
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ } [البقرة : 225] اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم ، وهو أن يحلف على شيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن ، وكانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظن أنه قربة فلما نزلت تلك الآية قالوا : فكيف أيماننا؟ فنزلت.
وعند الشافعي رحمه الله ما يجري على اللسان بلا قصد { وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايْمَـانَ } [المائدة : 89] أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها.
وبالتخفيف : كوفي غير حفص.
والعقد : العزم على الوطء ، وذا لا يتصور في الماضي فلا كفارة في الغموس.
وعند الشافعي رحمه الله القصد بالقلب ويمين الغموس مقصودة فكانت معقودة فكانت الكفارة فيها مشروعة.
والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فخذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم ، أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف { فَكَفَّـارَتُهُ } أي فكفارة نكثه أو فكفارة معقود الأيمان.
والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـاكِينَ } [المائدة : 89] هو أن يغديهم ويعشيهم ، ويجوز أن يعطيهم بطريق التمليك وهو لكل أحد نصف صاع من بر أوصاع من شعير أو صاع من تمر.
وعند الشافعي رحمه الله مد لكل مسكين { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي غداء وعشاء من بر إذ الأوسع ثلاث مرات مع الإدام والأدنى مرة من تمر أو شعير { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [المائدة : 89] عطف على " إطعام " أو على محل " من أوسط " ، ووجهه أن " من أوسط " بدل من " إطعام " والبدل هو المقصود في الكلام وهو ثوب يغطي العورة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه : إزار وقميص ورداء { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [المائدة : 89] مؤمنة أو كافرة لإطلاق النص ، وشرط الشافعي رحمه الله الإيمان حملاً للمطلق على المقيد في كفارة القتل.
ومعنى " أو " التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } [البقرة : 196] إحداها { فَصِيَامُ ثَلَـاثَةِ أَيَّامٍ } [المائدة : 89] " متتابعة " لقراءة أبيّ وابن
432
مسعود كذلك { ذَالِكَ } المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَـانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } [المائدة : 89] وحنثتم فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأن الكفارة لا تجب بنفس الحلف ولذا لم يجز التكفير قبل الحنث { وَاحْفَظُوا أَيْمَـانَكُمْ } [المائدة : 89] فبروا فيها ولا تحنثوا إذا لم يكن الحنث خيراً أو ولا تحلفوا أصلاً { كَذَالِكَ } مثل ذلك البيان { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَـاتِهِ } [البقرة : 242] أعلام شريعته وأحكامه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 52] نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه.
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } أي القمار { وَالانصَابُ } الأصنام لأنها تنصب فتعبد { وَالازْلَـامُ } وهي القداح التي مرت { رِجْسٌ } نجس أو خبيث مستقذر { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَـانِ } [القصص : 15] لأنه يحمل عليه فكأنه عمله.
والضمير في { فَاجْتَنِبُوهُ } يرجع إلى الرجس ، أو إلى عمل الشيطان ، أو إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل : إنما تعاطى الخمر والميسر ولذا قال " رجس " .
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنهما بعبادة الأصنام ومنه الحديث " شارب الخمر كعابد الوثن " وجعلهما رجساً من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت ، وأمر بالاجتناب ، وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خساراً { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَـانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ } ذكر ما يتولد منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة ، وخص الصلاة من بين الذكر لزيادة درجتها كأنه قال : وعن الصلاة خصوصاً.
وإنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً ، لأن الخطاب مع المؤمنين وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والألزام لتأكيد تحريم الخمر والميسر وإظهار أن ذلك جميعاً
433
(1/280)
من أعمال أهل الشرك فكأنه لا مباينة بين عابد الصنم وشارب الخمر والمقامر ، ثم أفردهما بالذكر ليعلم أنهما المقصود بالذكر { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } [المائدة : 91] من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والزواجر فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا } [المائدة : 92] وكونوا حذرين خاشعين لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } [المائدة : 92] عن ذلك { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـاغُ الْمُبِينُ } [المائدة : 92] أي فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات ، وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه.
ونزل فيمن تعاطى شيئاً من الخمر والميسر قبل التحريم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } [المائدة : 93] أي شربوا من الخمر وأكلوا من مال القمار قبل تحريمهما { إِذَا مَا اتَّقَوا } [المائدة : 93] الشرك { وَّءامَنُوا } بالله { وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ } [البقرة : 25] بعد الإيمان { ثُمَّ اتَّقَوا } [المائدة : 93] الخمر والميسر بعد التحريم { وَّءامَنُوا } بتحريمهما { ثُمَّ اتَّقَوا } [المائدة : 93] سائر المحرمات ، أو الأول عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات { وَّأَحْسَنُوا } إلى الناس { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران : 134].
ولما ابتلاهم الله بالصيد عام الحديبية وهم محرمون وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في زحالهم فيستمكنون من صيده أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم نزل :
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُا أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } ومعنى يبلو يختبر وهو من الله لإظهار ما علم من العبد على ما علم لا لعلم ما لم يعلم ، و " من " للتبعيض إذ لا يحرم كل صيد أو لبيان الجنس { لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } [المائدة : 94] ليعلم الله خوف الخائف منه بالامتناع عن الاصطياد موجوداً كما كان يعلم قبل وجوده أنه يوجد ليثيبه على عمله لا على علمه فيه { فَمَنِ اعْتَدَى } [المائدة : 94] فصاد
434
{ بَعْدَ ذالِكَ } [الطلاق : 1] الابتلاء { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [البقرة : 178] قلل في قوله " بشيء " من الصيد ليعلم أنه ليس من الفتن العظام " وتناله " صفة لـ " شيء " { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } أي المصيد إذ القتل إنما يكون فيه { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } [المائدة : 1] أي محرمون جمع حرام كردح في جمع رداح في محل النصب على الحال من ضمير الفاعل في " تقتلوا " { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا } [المائدة : 95] حال من ضمير الفاعل أي ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم قتله عليه ، فإن قتله ناسياً لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فهو مخطىء.
وإنما شرط التعمد في الآية مع أن محظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، لأن مورد الآية فيمن تعمد ، فقد روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت.
ولأن الأصل فعل المتعمد والخطأ ملحق به للتغليظ.
وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ.
{ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ } [المائدة : 95] كوفي أي فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد وهو قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي خيّر بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً.
وعند محمدو الشافعي رحمهما الله تعالى مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم فكما مر.
"
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
(1/281)
فجزاء مثل " على الإضافة : غيرهم.
وأصله فجزاء مثل ما قتل أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، ثم أضيف كما تقول " عجبت من ضرب زيداً ثم من ضرب زيد " .
{ مِنَ النَّعَمِ } [المائدة : 95] حال من الضمير في " قتل " إذ المقتول يكون من النعم أو صفة لـ " جزاء " { يَحْكُمُ بِهِ } [المائدة : 95] بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } [المائدة : 106] حكمان عادلان من المسلمين ، وفيه دليل على أن المثل القيمة لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة ، ولأن المثل المطلق في الكتاب والسنة والإجماع مقيد بالصورة والمعنى ، أو بالمعنى لا بالصورة ، أو بالصورة بلا معنى ، ولأن القيمة أريدت فيما لا مثل له
435
صورة إجماعاً فلم يبق غيرها مراداً إذ لا عموم للمشترك.
فإن قلت : قوله " من النعم " ينافي تفسير المثل بالقيمة.
قلت : من أوجب القيمة خير بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم كما خير الله تعالى في الآية ، فكان من النعم بياناً للهدي المشتري بالقيمة في أحد وجوه التخيير ، لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه فقد جزى بمثل ما قتل من النعم ، على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدي أو يكفر بالطعام أو الصوم ، إنما يستقيم إذا قوم ونظر بعد التقويم أي الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير ، فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذ ثم يخير بين الطعام والصيام ، ففيه نبّو عما في الآية ألا ترى إلى قوله و { كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَـاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَالِكَ صِيَامًا } [المائدة : 95] كيف خير بين الأشياء الثلاثة ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم { هَدْيَا } حال من الهاء في " به " أي يحكم به في حال الهدي { بَـالِغَ الْكَعْبَةِ } [المائدة : 95] صفة لـ " هدياً " لأن إضافته غير حقيقية.
ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم ، فأما التصدق به فحيث شئت.
وعند الشافعي رحمه الله : في الحرم { أَوْ كَفَّارَةٌ } [المائدة : 95] معطوف على " جزاء " { طَعَامُ } بدل من " كفارة " أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام.
" أو كفارة طعام " على الإضافة : مدني وشامي.
وهذه الإضافة لتبيين المضاف كأنه قيل : أو كفارة من طعام { مَسَـاكِينَ } كما تقول " خاتم فضة " أي خاتم من فضة { أَوْ عَدْلُ } [المائدة : 95] وقرىء بكسر العين.
قال الفراء : العدل ما عادل الشيء من غير جنسه كالصوم والإطعام ، والعدل مثله من جنسه ومنه " عدلا الحمل " .
يقال " عندي غلام عدل غلامك " بالكسر إذا كان من جنسه ، فإن أريد أن قيمته كقيمته ولم يكن من جنسه قيل " هو عدل غلامك " بالفتح { ذَالِكَ } إشارة إلى الطعام { صِيَامًا } تمييز نحو " لي مثله رجلاً " والخيار في ذلك إلى القاتل ، وعند محمد رحمه الله إلى الحكمين { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } [المائدة : 95] متعلق بقوله " فجزاء " أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق سوء عقاب عاقبة هتكه لحرمة الإحرام.
والوبال المكروه والضرر الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه من قوله تعالى : { فَأَخَذْنَـاهُ أَخْذًا وَبِيلا } [المزمل : 16] (المزمل : 61) أي ثقيلاً شديداً.
والطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ.
{ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } [المائدة : 95] لكم من الصيد قبل التحريم { وَمَنْ عَادَ } [البقرة : 275] إلى قتل الصيد بعد التحريم أو في ذلك الإحرام { فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } [المائدة : 95] بالجزاء وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } [البقرة : 228] بإلزام الأحكام { ذُو انتِقَامٍ } [آل عمران : 4] لمن جاوز حدود الإسلام.
436
جزء : 1 رقم الصفحة : 431
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
(1/282)
{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } [المائدة : 96] مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل { وَطَعَامُهُ } وما يطعم من صيده.
والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده { مَتَـاعًا لَّكُمْ } [النازعات : 33] مفعول له أي أحل لكم تمتيعاً لكم { وَلِلسَّيَّارَةِ } وللمسافرين.
والمعنى : أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنّائكم يأكلونه طرياً ولسيارتكم يتزودونه قديداً كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر.
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ } [المائدة : 96] ما صيد فيه وهو ما يفرخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كالبط فإنه بري لأنه يتولد في البر والبحر له مرعى كما للناس متجر { مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } [المائدة : 96] محرمين { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام { الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [المائدة : 96].
تبعثون فيجزيكم على أعمالكم.
{ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ } [المائدة : 97] أي صير { الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [المائدة : 97] بدل أو عطف بيان { قِيَـامًا } مفعول ثانٍ أو " جعل " بمعنى " خلق " و " قياماً " حال { لِلنَّاسِ } أي انتعاشاً لهم في أمر دينهم ونهوضاً إلى أغراضهم في معاشهم ومعادهم لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وأنواع منافعهم.
قيل : لو تركوه عاماً لم ينظروا ولم يؤخروا { وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } [المائدة : 97] والشهر الذي يؤدي فيه الحج وهو ذو الحجة لأن في اختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد علمه الله ، أو أريد به جنس الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
{ وَالْهَدْىَ } ما يهدى إلى مكة { وَالْقَلَـائدَ } والمقلد منه خصوصاً وهو البدن فالثواب فيه أكثر وبهاء الحج معه أظهر { ذَالِكَ } إشارة إلى جعل الكعبة قياماً أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } أي لتعلموا أن الله يعلم مصالح ما في السموات وما في الأرض وكيف لا يعلم وهو بكل شيء عليم
437
{ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } [المائدة : 98] لمن استخف بالحرم والإحرام { وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } [المائدة : 98] لآثام من عظم المشاعر العظام { رَّحِيمٌ } بالجاني الملتجىء إلى البلد الحرام { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلَـاغُ } [المائدة : 99] تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم في التفريط { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } [المائدة : 99] فلا يخفى عليه نفاقكم ووفاقكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
{ قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } [المائدة : 100] لما أخبر أنه يعلم ما يبدون وما يكتمون ذكر أنه لا يستوي خبيثهم وطيبهم بل يميز بينهما ، فيعاقب الخبيث ـ أي الكافر ـ ويثيب الطيب ـ أي المسلم ـ { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 100] وآثروا الطيب وإن قل على الخبيث وإن كثر.
وقيل : هو عام في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وجيد الناس ورديئهم.
{ يَـاأُوْلِي الالْبَـابِ } [البقرة : 197] أي العقول الخالصة { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189] كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم عن أشياء امتحاناً فنزل :
(1/283)
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْـاـاَلُوا عَنْ أَشْيَآءَ } قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين : أصله " شيئاء " بهمزتين بينهما ألف وهي فعلاء من لفظ شيء وهمزتها الثانية للتأنيث ولذا لم تنصرف كـ " حمراء " وهي مفردة لفظاً جمع معنى ، ولما استثقلت الهمزتان المجتمعتان قدمت الأولى التي هي لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها " لفعاء " ، والجملة الشرطية والمعطوفة عليها أي قوله { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـاَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ } صفة لـ " أشياء " أي وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم " تبد لكم " تلك التكاليف التي تسوؤكم أي تغمكم وتشق عليكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } [المائدة : 101] عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [البقرة : 225] لا يعاقبكم إلا بعد الإنذار.
438
والضمير في { قَدْ سَأَلَهَا } [المائدة : 102] لا يرجع إلى " أشياء " حتى يعدى بـ " عن " بل يرجع إلى المسألة التي دلت عليها " لا تسألوا " أي قد سأل هذه المسألة { قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } [المائدة : 102] من الأولين { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا } [المائدة : 102] صاروا بسببها { كَـافِرِينَ } كما عرف في بني إسرائيل.
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلا سَآ ـاِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } [المائدة : 103] كان أهل الجاهلية إذا انتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا إذنها أي شقوها وامتنعوا من ركوبها وذبحها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى واسمها البحيرة.
وكان يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برأت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها.
وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث.
وكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً أكله الرجال ، وإن كان أنثى أرسلت في الغنم ، وكذا إن كان ذكراً وأنثى وقالوا : أوصلت أخاها فالوصيلة بمعنى الواصلة.
وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
ومعنى " ما جعل " ما شرع ذلك ولا أمر به { وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [المائدة : 103] بتحريمهم ما حرموا { يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } [يونس : 69] في نسبتهم هذا التحريم إليه { وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [المائدة : 103] أن الله لم يحرم ذلك وهم عوامهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } [النساء : 61] أي هلموا إلى حكم الله ورسوله بأن هذه الأشياء غير محرمة { قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ } [المائدة : 104] أي كافينا ذلك ، " حسبنا " مبتدأ والخبر " ما وجدنا " " وما " بمعنى " الذي " والواو في { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } للحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لا يَعْلَمُونَ شيئا وَلا يَهْتَدُونَ } [المائدة : 104] أي الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ } [المائدة : 105] انتصب " أنفسكم " بـ " عليكم " وهو من
439
أسماء الأفعال أي الزموا إصلاح أنفسكم.
والكاف والميم في " عليكم " في موضع جر لأن اسم الفعل هو الجار والمجرور لا على وحدها { لا يَضُرُّكُم } [آل عمران : 120] رفع على الاستئناف ، أو جزم على جواب الأمر ، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد { مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة : 105] كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة يتمنون دخولهم في الإسلام فقيل لهم : عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها لا يضركم الضّلاّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تركهما مع القدرة عليهما لا يجوز.
{ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } [المائدة : 48] رجوعكم { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] ثم يجزيكم على أعمالكم.
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
(1/284)
روي أنه خرج بديل ـ مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين ـ مع عدي وتميم ـ وكانا نصرانيين ـ إلى الشام ، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله.
ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنزل :
{ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَـادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } [المائدة : 106] ارتفع " اثنان " لأنه خبر المبتدأ وهو " شهادة " بتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين ، أو لأنه فاعل " شهادة بينكم " أي فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان.
واتسع في " بين " فأضيف إليه المصدر.
" وإذا حضر " ظرف للشهادة و " حين الوصية " بدل منه ، وفي إبداله منه دليل على وجوب الوصية لأن حضور الموت من الأمور الكائنة ، " وحين الوصية " بدل منه فيدل على وجوب الوصية ولو وجدت بدون الاختيار لسقط الابتلاء فنقل إلى الوجوب ، وحضور الموت مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل { ذَوَا عَدْلٍ } [المائدة : 106] صفة لـ " اثنين " { مِّنكُمْ } من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت { أَوْ ءَاخَرَانِ } [المائدة : 106] عطف على " اثنان " { مِنْ غَيْرِكُمْ } [المائدة : 106] من الأجانب { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارْضِ } [المائدة : 106] سافرتم فيها.
" وأنتم " فاعل فعل يفسره الظاهر { فَأَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } [المائدة : 106] أو منكم من المسلمين ومن غيركم من
440
أهل الذمة.
وقيل : منسوخ إذ لا يجوز شهادة الذمي على المسلم ، وإنما جازت في أول الإسلام لقلة المسلمين { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما للحلف هو استئناف كلام أو صفة لقوله " أو آخران من غيركم " أي أو آخران من غيركم محبوسان ، " وإن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت " اعتراض بين الصفة والموصوف { مِن بَعْدِ الصَّلَواةِ } [المائدة : 106] من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس.
وعن الحسن رحمه الله : بعد العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما.
وفي حديث بديل أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة العصر ودعا بعديّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر فحلفا ثم وجد الإناء بمكة فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي.
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } [المائدة : 106] فيحلفان به { إِنِ ارْتَبْتُمْ } [الطلاق : 4] شككتم في أمانتهما وهو اعتراض بين " يقسمان " وجوابه وهو { لا نَشْتَرِى } [المائدة : 106] وجواب الشرط محذوف أغنى عنه معنى الكلام والتقدير : إن ارتبتم في شأنهما فحلفوهما { بِهِ } بالله أو بالقسم { ثَمَنًا } عوضاً من الدنيا { وَلَوْ كَانَ } [الإسراء : 88] أي المقسم له { ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18] أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال ولو كان من نقسم له قريباً منا { وَلا نَكْتُمُ شَهَـادَةَ اللَّهِ } [المائدة : 106] أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها إنّآ إذاً } إن كتمنا { لَّمِنَ الاثِمِينَ } [المائدة : 106].
وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين ، وإن أريد الوصيان فلم ينسخ تحليفهما.
جزء : 1 رقم الصفحة : 437
{ فَإِنْ عُثِرَ } [المائدة : 107] فإن اطلع { عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْمًا } [المائدة : 107] فعل ما أوجب إثماً واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين { فَـاَاخَرَانِ } فشاهدان آخران { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْمًا فَـاَاخَرَانِ } [
جزء : 1 رقم الصفحة : 441
المائدة : 107] أي من الذين استحق عليهم الإثم ، ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته ، وفي قصة بديل أنه لما ظهرت خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته إنه إناء صاحبهما وإن شهادتهما أحق من شهادتهما { الاوَّلِينَ } الأحقان بالشهادة لقرابتهما أو معرفتهما.
وارتفاعهما على " هما الأوليان " كأنه قيل : ومن هما؟ فقيل : الأوليان.
أو هما بدل من الضمير في " يقومان " أو من " " آخران " .
" استحق عليهم الأوليان " .
حفص أي من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين.
" الأوّلين " :
441
(1/285)
حمزة وأبو بكر على أنه وصف للذين استحق عليهم مجرور أو منصوب على المدح.
وسموا أولين لأنهم كانوا أولين في الذكر في قوله " شهادة بينكم " { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَـادَتُنَآ أَحَقُّ مِن شَهَـادَتِهِمَا } [المائدة : 107] أي ليميننا أحق بالقبول من يمين هذين الوصيين الخائنين { وَمَا اعْتَدَيْنَآ } [المائدة : 107] وما تجاوزنا الحق في يميننا { إِنَّآ إِذًا لَّمِنَ الظَّـالِمِينَ } [المائدة : 107] أي إن حلفنا كاذبين { ذَالِكَ } الذي مر ذكره من بيان الحكم { أَدْنَى } أقرب { أَن يَأْتُوا } [المائدة : 108] أي الشهداء على نحو تلك الحادثة { بِالشَّهَـادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ } [المائدة : 108] كما حملوها بلا خيانة فيها { أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَـانُ بَعْدَ أَيْمَـانِهِمْ } [المائدة : 108] أي تكرر أيمان شهود آخرين بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 88] في الخيانة واليمين الكاذبة { وَاسْمَعُوا } سمع قبول وإجابة { وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } [المائدة : 108] الخارجين عن الطاعة.
فإن قلت : ما معنى " أو " هنا؟ قلت : معناه ذلك أقرب من أن يؤدّوا الشهادة بالحق والصدق ، إما لله أو لخوف العار والافتضاح برد الأيمان ، وقد احتج به من يرى ردّ اليمين على المدعي ، والجواب أن الورثة قد ادّعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما فأنكرت الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهما الشراء.
جزء : 1 رقم الصفحة : 441
{ يَوْمِ } منصوب بـ " اذكروا " أو احذروا { يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [المائدة : 109] ما الذي أجابتكم به أممكم حين دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهذا السؤال توبيخ لمن أنكرهم.
" وماذا " منصوب بـ " أجبتم " نصب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم { قَالُوا لا عِلْمَ لَنَآ } [المائدة : 109] بإخلاص قومنا دليله { إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 109] أو بما أحدثوا بعدنا دليله " كنت أنت الرقيب عليهم " أو قالوا ذلك تأدباً أي علمنا ساقط مع علمك ومغمور به فكأنه لا علم لنا
442
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ } [المائدة : 110] بدل من " يوم يجمع " { يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العالمين.
والعامل في { إِذْ أَيَّدتُّكَ } [المائدة : 110] أي قويتك " نعمتي " { بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 87] بجيريل عليه السلام أيد به لتثبت الحجة عليهم ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس لأنه سبب الطهر من أو ضارم الآثام دليله { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ } [المائدة : 110] حال أي تكلمهم طفلاً إعجازاً { وَكَهْلا } تبليغاً { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ } [المائدة : 110] معطوف على " إذ أيدتك " ونحوه " وإذ تخلق " .
" وإذ تخرج " .
" وإذ كففت " .
" وإذ أوحيت " { الْكِتَـابِ } الخط { وَالْحِكْمَةَ } الكلام المحكم الصواب { وَالتَّوْرَاـاةَ وَالانجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ } تقدر { مِنَ الطِّينِ كَهَيْـاَةِ الطَّيْرِ } [المائدة : 110] هيئة مثل هيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي { فَتَنفُخُ فِيهَا } [المائدة : 110] الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ، وكذا الضمير في { فَتَكُونُ طَيْرَا بِإِذْنِى } [المائدة : 110] وعطف { وَتُبْرِئُ الاكْمَهَ وَالابْرَصَ بِإِذْنِى } [المائدة : 110] على " تخلق " { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى } [المائدة : 110] من القبور أحياء { بِإِذْنِى } قيل : أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية.
جزء : 1 رقم الصفحة : 441
(1/286)
{ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ } أي اليهود حين هموا بقتله { إِذْ جِئْتَهُم } [المائدة : 110] ظرف لـ " كففت " { بِالْبَيِّنَـاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [المائدة : 110] ساحر حمزة وعلي { وَإِذْ أَوْحَيْتُ } [المائدة : 111] ألهمت { إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ } [المائدة : 111] الخواص أو الأصفياء { أَنْ ءَامِنُوا } [التوبة : 86] أي آمنوا { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّـانَ أَنْ ءَامِنُوا بِى } [المائدة : 111] أي اشهد بأننا مخلصون من أسلم وجهه
443
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } [المائدة : 112] أي اذكروا إذ { يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } [المائدة : 116] " عيسى " نصب على اتباع حركته حركة الابن نحو " يا زيد بن عمرو " { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } [المائدة : 112] هل يفعل أو هل يطيعك ربك إن سألته ، فاستطاع وأطاع بمعنى كاستجاب وأجاب.
هل تستطيع ربك على أي هل تستطيع سؤال ربك فحذف المضاف ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا } [المائدة : 112] " ينزل " : مكي وبصري { مَآ ـاِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [المائدة : 114] هي الخوان إذا كان عليه الطعام من مادة إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليها { قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ } [المائدة : 112] في اقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] إذ الإيمان يوجب التقوى.
جزء : 1 رقم الصفحة : 441
{ قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } [المائدة : 113] تبركاً { وَتَطْمَـاـاِنَّ قُلُوبُنَا } [المائدة : 113] ونزداد يقيناً كقول إبراهيم عليه السلام { وَلَـاكِن لِّيَطْمَـاـاِنَّ قَلْبِى } [البقرة : 260] (البقرة : 062) { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [المائدة : 113] أي نعلم صدقك عياناً كما علمناه استدلالاً { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّـاهِدِينَ } [المائدة : 113] بما عاينا لمن بعدنا.
ولما كان السؤال لزيادة العلم لا للتعنت { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ } [المائدة : 114] أصله " يا الله " فحذف " يا " وعوض منه " الميم " { رَبَّنَآ } نداء ثانٍ { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآ ـاِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا } [المائدة : 114] أي يكون يوم نزولها عيداً.
قيل : هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيداً ، والعيد : السرور العائد ولذا يقال " يوم عيد " فكان معناه : تكون لنا سروراً وفرحاً { لاوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا } [المائدة : 114] بدل من " لنا " بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم ، أو للمتقدمين منا والأتباع { وَءَايَةً مِّنكَ } [المائدة : 114] على صحة نبوّتي ثم أكذّ ذلك بقوله { وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الراَّزِقِينَ } وأعطنا ما سألناك وأنت خير المعطين { قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } [المائدة : 115] بالتشديد : مدني وشامي وعاصم.
وعد
444
الإنزال وشرط عليهم شرطاً بقوله { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } [المائدة : 115] بعد إنزالها منكم { فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَابًا } [المائدة : 115] أي تعذيباً كالسلام بمعنى التسليم.
والضمير في { لا أُعَذِّبُهُ } [المائدة : 115] للمصدر ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء { أَحَدًا مِّنَ الْعَـالَمِينَ } [المائدة : 20] عن الحسن أن المائدة لم تنزل ولو نزلت لكانت عيداً إلى يوم القيامة لقوله : " وآخرنا " .
والصحيح أنها نزلت.
فعن وهب نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة عليها كل طعام إلا اللحم.
وقيل : كانوا يجدون عليها ما شاءوا.
وقيل : كانت تنزل حيث كانوا بكرة وعشياً.
جزء : 1 رقم الصفحة : 441
(1/287)
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَـاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّىَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } الجمهور على أن هذا السؤال يكون في يوم القيامة دليله سياق الآية وسباقها.
وقيل : خاطبه به حين رفعه إلى السماء دليله لفظ " إذ " { قَالَ سُبْحَـانَكَ } [الأعراف : 143] من أن يكون لك شريك { مَا يَكُونُ لِى } [يونس : 15] ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ } [المائدة : 116] أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } [المائدة : 116] إن صح أني قلته فيما مضى فقد علمته ، والمعنى : أني لا أحتاج إلى الاعتذار لأنك تعلم أني لم أقله ولو قلته لعلمته لأنك { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى } [المائدة : 116] ذاتي { وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [المائدة : 116] ذاتك.
فنفس الشيء ذاته وهويته والمعنى : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك { إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـامُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 109] تقرير للجملتين معاً لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلم علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد.
جزء : 1 رقم الصفحة : 445
{ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ } [المائدة : 117] أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به.
ثم فسر ما أمر به فقال : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ } [المائدة : 117] فـ " أن " مفسرة بمعنى " أي "
445
{ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } [المائدة : 117] رقيباً { مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة : 117] مدة كوني فيهم { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } [المائدة : 117] الحفيظ { وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة : 117] من قولي وفعلي وقولهم وفعلهم { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة : 118] قال الزجاج : علم عيسى عليه السلام أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر فقال في جملتهم " إن تعذبهم " أي إن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك الذين علمتهم جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك وأنت العادل في ذلك فإنهم قد كفروا بعد وجوب الحجة عليهم ، وإن تغفر لهم أي لمن أقلع منهم وآمن فذلك تفضل منك ، وأنت عزيز لا يمتنع عليك ما تريد ، حكيم في ذلك ، أو عزيز قوي قادر على الثواب ، حكيم لا يعاقب إلا عن حكمة وصواب { قَالَ اللَّهُ هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّـادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة : 119] برفع اليوم والإضافة على أنه خبر هذا أي يقول الله تعالى " هذا يوم ينفع الصادقين " فيه صدقهم المستمر في دنياهم وآخرتهم.
والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب على المفعولية كما تقول " قال زيد عمرو منطلق " ، وبالنصب : نافع.
على الظرف أي قال الله هذا لعيسى عليه السلام يوم ينفع الصادقين صدقهم وهو يوم القيامة { لَهُمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [المائدة : 119] بالسعي المشكور { وَرَضُوا عَنْهُ } [المجادلة : 22] بالجزاء الموفور { ذَالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [المائدة : 119] لأنه باقٍ بخلاف الفوز في الدنيا فهو غير باقٍ { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا فِيهِنَّ } عظم نفسه عما قالت النصارى إن معه إلهاً آخر { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرُ } [المائدة : 120] من المنع والإعطاء والإيجاد والإفناء ، نسأله أن يوفقنا لمرضاته ويجعلنا من الفائزين بجناته ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
446
جزء : 1 رقم الصفحة : 445(1/288)
سورة الأنعام
مكية
وهي مائة وخمس وستون آية كوفي أربع وستون بصرى
جزء : 2 رقم الصفحة : 4(2/4)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } [فاطر : 34] تعليم اللفظ والمعنى مع تعريض الاستغناء أي الحمد له وإن لم تحمدوه { الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [الأنعام : 73] جمع السموات لأنها طباق بعضها فوق بعض.
والأرض وإن كانت سبعة عند الجمهور فليس بعضها فوق بعض بل بعضها موال لبعض.
" جعل " يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله
جزء : 2 رقم الصفحة : 5
{ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ وَالنُّورَ } [الأنعام : 1] وإلى مفعولين إن كان بمعنى " صير " كقوله { وَجَعَلُوا الْمَلَـائكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَـادُ الرَّحْمَـانِ إِنَـاثًا } [الزخرف : 19].
(الزخرف : 91) وفيه رد قول الثنوية بقدم النور والظلمة ، وأفرد النور لإرادة الجنس ولأن ظلمة كل شيء تختلف باختلاف ذلك الشيء ، نظيره ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموضع المظلم يخالف كل واحد منها صاحبها ، والنور ضرب واحد لا يختلف كما تختلف الظلمات ، وقدم الظلمات لقوله عليه السلام : " خلق اللّه خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور
5
اهتدى ومن أخطأه ضل " { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنعام : 1] بعد هذا البيان { بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام : 1] يساوون به الاوثان ، تقول عدلت بذا أي ساويته به ، والباء في { بِرَبِّهِمْ } لا للكفر ، أو ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه أي يعرضرن عنه فتكون الباء صلة للكفر وصلة { يَعْدِلُونَ } أي عنه محذوفة ، وعطف { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنعام : 1] على { الْحَمْدُ لِلَّهِ } [فاطر : 34] على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق إلا نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، أو على خلق السماوات على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه.
ومعنى " ثم " استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته.
{ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن طِينٍ } [الأنعام : 2] " من " لابتداء الغاية أي ابتداء خلق أصلكم يعنى آدم منه { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } [الأنعام : 2] أي حكم الموت { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [الأنعام : 2] أجل القيامة ، أو الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ.
أو الأول ، والثاني الموت ، أو الثاني هو الأول وتقديره : وهو أجل مسمى أي معلوم ، و { أَجَلٍ مُّسَمًّى } [نوح : 4] مبتدأ والخبر { عِندَهُ } وقدم المبتدأ وإن كان نكرة والخبر ظرفاً وحقه التأخير لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 5
الأنعام : 2] تشكون من المرية أو تجادلون من المراء.
ومعنى " ثم " استبعاد أن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم { وَهُوَ اللَّهُ } [الأنعام : 3] مبتدأ وخبر { السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِ } [الأنعام : 3] متعلق بمعنى اسم الله كأنه قيل : وهو المعبود فيهما كقوله { وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَـاهٌ وَفِى الارْضِ إِلَـاهٌ } [الزخرف : 84] (الزخرف : 48) أو المعروف بالإلهية فيهما ، أو هو الذي يقال له الله فيهما ، والأول تفريع على أنه مشتق وغيره على أنه غير مشتق { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } [الأنعام : 3] خبر بعد خبر أو كلام مبتدأ أي هو يعلم سركم وجهكم { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [الأنعام : 3] من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب ، و " من " في { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ } [الأنعام : 4] للاستغراق وفي { مِّنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِمْ } [الأنعام : 4]
6
للتبعيض أي وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار { إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } [الأنعام : 4] تاركين للنظر لا يلتفتون إليه لقلة خوفهم وتدبرهم في العواقب { فَقَدْ كَذَّبُوا } [الأنعام : 5] مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين على الآيات فقد كذبوا { بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } [الأنعام : 5] أي بما هو أعظم آية وإكبرها وهو القرآن الذي تحدوا به فعجزوا عنه { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنابَـاؤُا مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } إي أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزءون وهو القرآن أي أخباره وأحواله يعني سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا ، أو يوم القيامة ، أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.
(2/5)
جزء : 2 رقم الصفحة : 5
{ أَلَمْ يَرَوْا } [النمل : 86] يعني المكذبين { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } [الأنعام : 6] هو مدة انقضاء أهل كل عصر وهو ثمانون سنة أو سبعون { مَّكَّنَّـاهُمْ } في موضع جر صفة لـ " قرن " وجمع على المعنى { فِى الارْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } التمكين في البلاد إعطاء المكنة والمعنى : لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا { وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ } [الأنعام : 6] المطر { عَلَيْهِم مِّدْرَارًا } [الأنعام : 6] كثيراً وهو حال من السماء { وَجَعَلْنَا الانْهَـارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ } [الأنعام : 6] من تحت أشجارهم والمعنى عاشوا في الخصب بين الأنهار والثمار وسقيا الغيث المدرار { فَأَهْلَكْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ } [الانفال : 54] ولم يغن ذلك عنهم شيئاً { وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا ءَاخَرِينَ } [الأنعام : 6] بدلاً منهم { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـابًا } [الأنعام : 7] مكتوباً { فِى قِرْطَاسٍ } [الأنعام : 7] في ورق { فَلَمَسُوهُ } هو للتأكيد لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ومن المحتج عليهم العمى { بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [الأنعام : 7] تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره { وَقَالُوا لَوْلا } [العنكبوت : 50] هلا { أُنزِلَ عَلَيْهِ } [العنكبوت : 50] على النبي صلى الله عليه وسلّم { مُلْكُ } يكلمنا أنه نبي فقال الله { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِىَ الامْرُ } [الأنعام : 8] لقضي أمر هلاكهم { ثُمَّ لا يُنظَرُونَ } [الأنعام : 8] لا يمهلون
7
بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
ومعنى " ثم " بعدما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الإنظار ، جعل عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأه الشدة أشد من نفس الشدة { وَلَوْ جَعَلْنَـاهُ مَلَكًا } [الأنعام : 9] ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون تارة لولا أنزل على محمد ملك ، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لَّجَعَلْنَـاهُ رَجُلا } [الأنعام : 9] لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أعم الأحوال في صورة دحية ، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [الأنعام : 9] ولخلطنا وأشكلنا عليهم من أمره إذا كان سبيله كسبيلك يا محمد ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الإنسان هذا إنسان وليس بملك.
يقال لبست الأمر على القوم وألبسته إذا أشبهته وأشكلته عليهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 5
ثم سلى نبيه على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله { وَلَقَدِ اسْتُهْزِى َ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام : 10] فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق حيث أهلكوا من أجل استهزائهم به و " منهم " متعلق بـ " سخروا " كقوله { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } [التوبة : 79] (التوبة : 97) والضمير للرسل والدال مكسورة عند أبي عمرو وعاصم لا لتقاء الساكنين ، وضمها غيرهما إتباعاً لضم التاء { قُلْ سِيرُوا فِى الارْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } [الأنعام : 11] والفرق بين فانظروا وبين { ثُمَّ انظُرُوا } [الأنعام : 11] إن النظر جعل مسبباً عن السير في " فانظروا " فكأنه قيل :
8
(2/6)
سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين.
ومعنى { سِيرُوا فِى الارْضِ ثُمَّ انظُرُوا } [الأنعام : 11] إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين على ذلك بـ " ثم " لتباعد ما بين الواجب والمباح { قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنعام : 12] " من " استفهام و " ما " معنى الذي في موضع الرفع على الابتداء و " لمن " خبره { قُل لِّلَّهِ } [الزمر : 44] تقرير لهم أي هو لله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا منه شيئاً إلى غيره { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 12] أصل كتب أوجب ولكن لا يجوز الإجراء على ظاهره إذ لا يجب على الله شيء للعبد ، فالمراد به أنه وعد ذلك وعداً مؤكداً وهو منجزه لا محالة.
وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر و إشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ } [النساء : 87] فيجازيكم على إشراككم { لا رَيْبَ فِيهِ } [الأنعام : 12] في اليوم أو في الجمع { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم } [الأعراف : 9] نصب على الذم أي أريد الذين خسروا أنفسهم باختيارهم الكفر { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 12] وقال الأخفش : " الذين " بدل من " كم " في { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } أي ليجمعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم و الوجه هو الأول لأن سيبويه قال : لا يجوز " مررت بي المسكين ولا بك المسكين " فتجعل " المسكين " بدلاً من الياء أو الكاف لأنهما في غاية الوضوح فلا يحتاجان إلى البدل والتفسير.
جزء : 2 رقم الصفحة : 5
{ وَلَهُ } عطف على { لِّلَّهِ } { مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } من السكنى حتى يتناول الساكن والمتحرك أو من السكون ومعناه ما سكن وتحرك فيهما فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كقوله { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [النحل : 81] (النحل : 28) أي الحر والبرد ، و ذكر السكون لأنه أكثر من الحركة وهو احتجاج على المشركين لأنهم لم ينكروا أنه خالق الكون و مدبره { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة : 137] يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا } [الأنعام : 14] ناصراً ومعبوداً وهو مفعول ثان لـ { اتَّخَذَ } والأول
9
{ غَيْرِ } وإنما أدخل همزة الاستفهام على مفعول { اتَّخَذَ } لا عليه لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً لا في اتخاذ الولي فكان أحق بالتقديم { فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [يوسف : 101] بالجر صفة لله أي مخترعهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } [الأنعام : 14] وهو يرزق ولا يرزق أي المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع { قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [الأنعام : 14] لأن النبي سابق أمته في الإسلام كقوله : { وَبِذَالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (الأنعام : 361) { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 14] وقيل لي لا تكونن من المشركين ولو عطف على ما قبله لفظاً لقيل : وأن لا أكون ، والمعنى : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك { قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأنعام : 15] أي إني أخاف عذاب يوم عظيم وهو القيامة إن عصيت ربي فالشرط معترض بين الفاعل والمفعول به محذوف الجواب { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } [الأنعام : 16] العذاب { يَوْمَـاـاِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } [الأنعام : 16] الله الرحمة العظمى وهي النجاة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
(2/7)
{ مَّن يُصْرَفْ } [الأنعام : 16] حمزة وعلي و أبو بكر.
أي من يصرف الله عنه العذاب { وَذَالِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [الأنعام : 16] النجاة الظاهرة { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } [الأنعام : 17] من مرض أو فقر أوغير ذلك من بلاياه { فَلا كَاشِفَ لَهُ } فلا قادر على كشفه إلا هو { هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } [الأنعام : 17] من غنى أو صحة { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [الأنعام : 17] فهو قادر على إدامته وإزالته { وَهُوَ الْقَاهِرُ } [الأنعام : 18] مبتدأ وخبر أي الغالب المقتدر { فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام : 18] خبر بعد خبر أي عال عليهم بالقدرة.
والقهر بلوغة المراد بمنع غيره من بلوغ { وَهُوَ الْحَكِيمُ } [الأنعام : 18] في تنفيذ مراده { الْخَبِيرُ } بأهل القهر من عباده.
10
{ قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةً } { أَىُّ شَىْءٍ } مبتدأ و { أَكْبَرَ } خبره و { شَهَـادَةً } تمييز و " أي " كلمة يراد بها بعض ما تضاف إليه ، فإذا كانت استفهاماً كان جوابها مسمى باسم ما أضيفت إليه.
وقوله { قُلِ اللَّهُ } [يونس : 21] جواب أي الله أكبر شهادة فـ { اللَّهِ } مبتدأ والخبر محذوف فيكون دليلاً على أنه يجوز إطلاق اسم الشيء على الله تعالى ، وهذا لأن الشيء اسم للموجود ولا يطلق على المعدوم والله تعالى موجود فيكون شيئاً ولذا نقول الله تعالى شيء لا كالأشياء.
ثم ابتدأ { شَهِيدُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي هو شهيد بيني وبينكم ، ويجوز أن يكون الجواب { اللَّهُ شَهِيدُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام : 19] لإنه إذا كان الله شهيداً بينه وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له { وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـاذَا الْقُرْءَانُ لانذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام : 19] أي ومن بلغه القرآن إلى قيام الساعة في الحديث " من بلغة القرآن فكأنما رأى محمد " صلى الله عليه وسلّم و " من " في محل النصب بالعطف على " كم " والمراد به أهل مكة والعائد إليه محذوف أي ومن بلغه ، وفاعل { بَلَغَ } ضمير القرآن { أَاـاِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى } [الأنعام : 19] استفهام إنكار وتبكيت { قُلْ } بما تشهدون وكرر { اثْنَيْنِ قُلْ } [الأنعام : 143] توكيداً { إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } [النحل : 51] ما كافة لأن عن العمل وهو مبتدأ وإله خبره وواحد صفة أو بمعنى الذي في محل النصب بإن وهو مبتدأ وإله خبره والجملة صلة الذي وواحد خبر إن وهذا الوجه أوقع { وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام : 19] به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } [القصص : 52] يعنى اليهود والنصارى.
والكتاب : التوراة والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } أي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحليته ونعته الثابت في الكتابين { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } [الأنعام : 20] بحلاهم ونعوتهم وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 12] به { وَمَنْ أَظْلَمُ } [الأنعام : 21] استفهام يتضمن معنى النفي أي لا أحد أظلم لنفسه ،
11
(2/8)
والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وأشنعه اتخاذ المخلوق معبوداً { مِمَّنِ افْتَرَى } [الصف : 7] اختلق { عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الكهف : 15] فيصفه بما لا يليق به { أَوْ كَذَّبَ بِـاَايَـاتِهِ } [الأنعام : 21] بالقرآن والمعجزات { أَنَّهُ } إن الأمر والشأن { لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ } [الأنعام : 21] جمعوا بين أمرين باطلين ، فكذبوا على الله مالا حجة عليه وكذبوا بما ثبت بالحجة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وسموا القرآن والمعجزات سحراً.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } [الأنعام : 22] هو مفعول به والتقدير : واذكر يوم نحشرهم { جَمِيعًا } حال من ضمير المفعول { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } [الأنعام : 22] مع الله غيره توبيخاً ، وبالياء فيهما : يعقوب { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } [الأنعام : 22] آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله { الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام : 22] أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان { ثُمَّ لَمْ تَكُن } [الأنعام : 23] وبالياء : حمزة وعلي { فِتْنَتُهُمْ } كفرهم { إِلا أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } يعني ثم لم تكن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه إلا جحوده والتبرؤ منه والحلف على الانتفاء من التدين به ، أو ثم لم يكم جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب.
وبرفع الفتنة مكي وشامي وحفص ؛ فمن قرأ
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
{ تَكُنْ } بالتاء ورفع الفتنة فقد جعل الفتنة اسم { تَكُنْ } و { أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] الخبر أي لم تكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالياء ونصب الفتنة جعل { أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] اسم { يَكُنِ } أي لم يكن فتنتهم إلا قولهم ، ومن قرأ بالتاء ونصب الفتنة حمل على المقالة : { رَبَّنَآ } حمزة وعلي ، على النداء أي ياربنا وغيرهما بالجر على النعت من اسم الله { أَنظُرْ } يامحمد { كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ } [الأنعام : 24] بقولهم { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] قال مجاهد : إذا جمع الله الخلائق ورأى المشركون سعة رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم للمؤمنين قال بعضهم لبعض : تعالوا نكتم الشرك لعلنا ننجو مع أهل التوحيد فإذا قال لهم الله : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين ، فيختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم { وَضَلَّ عَنْهُم } [فصلت : 48] وغاب عنهم { مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [آل عمران : 24] إلهيته وشفاعته
12
{ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } [محمد : 16] حين تتلو القرآن.
روي أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ فقال : والله ما أدري ما يقول محمد ألا إنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية.
فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً فقال أبو جهل : كلا فنزلت { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الأنعام : 25] أغطية جمع كنان وهو الغطاء مثل عنان وأعنة أن يفقهوه } كراهة أن يفقهوه { وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا } ثقلا يمنع من السمع ، ووحد الوقر لأنه مصدر وهو عطف على { أَكِنَّةً } وهو حجة لنا في الأصلح على المعتزلة { وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَـادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الأنعام : 25] " حتى " هي التي تقع بعدها الجمل ، والجملة قوله إذا جاؤك يقول الذين كفروا ويجادلونك في موضع الحال ، ويجوز أن تكون جارة ويكون إذا جاؤك في موضع الجر بمعنى حتى وقت مجيئهم ويجادلونك حال ويقول الذين كفروا تفسير له ، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك ، وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون { إِنَّ هَـاذَآ } [ص : 23] ما القرآن { إِلا أَسَـاطِيرُ الاوَّلِينَ } [الأنعام : 25] فيجعلون كلام الله أكاذيب ، وواحد الأساطير أسطورة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
(2/9)
{ وَهُمْ } أي المشركون { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام : 26] ينهون الناس عن القرآن أو عن الرسول واتباعه والإيمان به { قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ } ويبعدون عنه بأنفسهم فيضلون ويضلون { عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ } بذلك { إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] أي لا يتعداهم الضرر إلى غيرهم وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله وقيل : عنى به أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وينأى عنه فلا يؤمن به والأول أشبه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 9
{ وَلَوْ تَرَى } [الأنعام : 93] حذف جوابه أي ولو ترى لشاهدت أمراً عظيماً { إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ } [الأنعام : 27] أروها حتى يعاينوها أو حبسوا على الصراط فوق النار { فَقَالُوا يَـالَيْتَنَا نُرَدُّ } إلى الدنيا تمنوا الرد الدنيا ليؤمنوا وتم تمنيهم ثم ابتدأوا بقوله { وَلا نُكَذِّبَ بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 27] واعدين الإيمان كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن.
13
{ وَلا نُكَذِّبَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 13
الأنعام : 27] { وَنَكُونَ } حمزة وعلي وحفص على جواب التمني بالواو وبإضمار " أن " ومعناه أن رددنا لم نكذب من المؤمنين ، وافقهما في { وَنَكُونَ } شامي { بَلِ } للإضراب عن الوفاء بما تمنوا { بَدَا لَهُم } [الأنعام : 28] ظهر لهم { مَّا كَانُوا يُخْفُونَ } [الأنعام : 28] من الناس { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] في الدنيا من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم.
وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه ، أو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم { وَلَوْ رُدُّوا } [الأنعام : 28] إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [الأنعام : 28] من الكفر { وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [الأنعام : 28] فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به { وَقَالُوا } عطف على { لَعَادُوا } أي ولو ردوا لكفروا ولقالوا { إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } [الأنعام : 29] كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، أو على قوله { وَإِنَّهُمْ لَكَـاذِبُونَ } [الأنعام : 28] أي وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء وهم الذين قالوا إن إلا حياتنا الدنيا وهي كناية عن الحياة ، أو هو ضمير القصة { نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } .
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } [الأنعام : 30] مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه ، أو وقفوا على جزاء ربهم { قَالَ } جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : قال { أَلَيْسَ هَـاذَا } [الأنعام : 30] أي البعث { بِالْحَقِّ } بالكائن الموجود وهذا تعيير لهم على التكذيب للبعث.
وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث ما هو بحق { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا } [الأنعام : 30] أقروا و أكدوا الإقرار باليمين { قَالَ } الله تعالى { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران : 106] بكفركم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 13
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَآءِ اللَّهِ } [الأنعام : 31] ببلوغ الآخرة وما يتصل بها ، أو هو
14
(2/10)
مجرى على ظاهره لأن منكر البعث منكر للرؤية { حَتَّى } غاية لـ { كَذَّبُوا } لا لـ { خُسْرٍ } لأن خسرانهم لا غاية له { إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ } [الأنعام : 31] أي القيامة لأن مدة تأخرها مع تابد ما بعدها كساعة واحدة { بَغْتَةً } فجأة وانتصابها على الحال يعني باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة وهي ورود الشيء على صاحبه من غير علمه بوقته { قَالُوا يَـا أَبَانَا } نداء تفجع معناه ياحسرة احضري فهذا أوانك { يَـاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا } [الأنعام : 31] قصرنا { فِيهَآ } في الحياة الدنيا أو في الساعة أي قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ } [الأنعام : 31] آثامهم { عَلَى ظُهُورِهِمْ } [الأنعام : 31] خص الظهر لأن المعهود حمل الأثقال على الظهور كما عهد الكسب بالأيدي ، وهو مجاز عن اللزوم على وجه لا يفارقهم.
وقيل : إن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحاً فيقول : أنا عملك السيء فطالما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم { أَلا سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [الأنعام : 31] بئس شيئاً يحملونه ، وأفاد " إلا " تعظيم ما يذكر بعده { وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [الأنعام : 32] جواب لقولهم { إِنْ هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } [الأنعام : 29] واللعب ترك ما ينفع بما لا ينفع ، واللهو الميل عن الجد إلى الهزل.
قيل : ما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو.
وقيل : ما أعمال الحياة الدنيا إلا لعب ولهو لا تعقب منفعة كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة { وَلَلدَّارُ } مبتدأ { الاخِرَةَ } صفتها : { وَلَدَارُ الاخِرَةِ } [يوسف : 109] بالإضافة : شامي.
أي ولدار الساعة الآخرة لأن الشيء لا يضاف إلى صفته.
وخبر المبتدأ على القراءتين { خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأنعام : 32] وفيه دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] بالتاء : مدني وحفص.
جزء : 2 رقم الصفحة : 13
ولما قال أبو جهل : ما نكذبك يا محمد وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به نزل { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ } [الأنعام : 33] الهاء ضمير الشأن { لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ } [الأنعام : 33] لا ينسبونك إلى الكذب.
وبالتخفيف : نافع وعلى من أكذبه إذا وجده كاذباً { وَلَـاكِنَّ الظَّـالِمِينَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } من أقامة الظاهر مقام المضمر ، وفيه دلالة على أنهم ظلموا في جحودهم والتاء يتعلق بـ { يَجْحَدُونَ } أو بـ { الظَّـالِمِينَ } كقوله
15
{ فَظَلَمُوا بِهَا } [الأعراف : 103] (الاعراف : 301) والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله ، لأن تكذيب الرسول تكذيب المرسل.
{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } [الأنعام : 34] تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو دليل على أن قوله { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ } [الأنعام : 33] ليس بنفي لتكذيبه وإنما هو من قولك لغلامك إذا أهانه بعض الناس " إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني { فَصَبَرُوا } والصبر حبس النفس على المكروه { عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا } [الأنعام : 34] على تكذيبهم وإيذائهم { حَتَّى أَتَـاـاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِ اللَّهِ } [الأنعام : 34] لمواعيده من قوله { الْمَنصُورُونَ } .
(الصافات : 171 ، 271) { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [غافر : 51] (غافر : 15) { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ } بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين ، وأجاز الأخفش أن تكون " من " زائدة والفاعل { نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام : 34] وسيبويه لا يجيز زيادتها في الواجب كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلّم كفر قومه وإعراضهم ويحب مجيء الآيات ليسلموا فنزل { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ } [الأنعام : 35] عظم وشق { إِعْرَاضُهُمْ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 13
(2/11)
عن الإسلام { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقًا } [الأنعام : 35] منفذاً تنفيذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] صفة لـ { نَفَقًا } { أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُم } [الأنعام : 35] منها { بِـاَايَةٍ } فافعل ، وهو جواب { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ } [الأنعام : 35] و { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } [الرحمن : 33] وجوابها جواب { وَإِن كَانَ كَبُرَ } [الأنعام : 35] والمعنى إنك لا تستطيع ذلك ، والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } [الأنعام : 35] لجعلهم بحيث يختارون الهدى ، ولكن لما علم أنهم يختارون الكفر لم
16
يشأ أن يجمعهم على ذلك كذا قاله الشيخ أبو منصور رحمه الله { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ } [الأنعام : 35] من الذين يجهلون ذلك.
ثم أخبر أن حرصه على هدايتهم لا ينفع لعدم سمعهم كالموتى بقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 13
{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } [الأنعام : 36] أي إنما يجيب دعاءك الذين يسمعون دعاءك بقلوبهم { وَالْمَوْتَى } مبتدأ إي الكفار { يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [الأنعام : 36] فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا { وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ } [الأنعام : 37] هلا أنزل عليه { ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ } [يونس : 20] كما نقترح من جعل الصفا ذهباً وتوسيع أرض مكة وتفجير الإنهار خلالها { قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ ءَايَةً } [الأنعام : 37] كما اقترحوا { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] إن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، أو لا يعلمون ما عليهم في الآية من البلاء لو أنزلت { وَمَا مِن دَآبَّةٍ } [الأنعام : 38] هي اسم لما يدب وتقع على المذكر والمؤنث { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في موضع جر صفة لـ { دَآبَّةٍ } { وَلا طَـائرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [الأنعام : 38] قيد الطيران بالجناحين لنفي المجاز لأن غير الطائر قد يقال فيه طار إذا أسرع { إِلا أُمَمٌ أَمْثَـالُكُمْ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 17
الأنعام : 38] في الخلق والموت والبعث والاحتياج إلى مدبر يدبر أمرها { مَّا فَرَّطْنَا } [الأنعام : 38] ما تركنا { فِى الْكِتَـابِ } [مريم : 41] في اللوح المحفوظ { مِن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت ، أو الكتاب القرآن.
وقوله { مِن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] أي من شيء يحتاجون إليه فهو مشتمل على ما تعبدنا به عبارة وإشارة ودلالة واقتضاء { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام : 38] يعني الأمم كلها من الدواب والطيور فينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني تراباً.
وإنما قال { إِلا أُمَمٌ } [الأنعام : 38] مع إفراد الدابة والطائر لمعنى الاستغراق فيهما.
17
ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم } [الأنعام : 39] لا يسمعون كلام المنبه { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق خابطون { فِى } أي ظلمة الجهل والحيرة والكفر ، غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه.
{ بِـاَايَـاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ } [الأنعام : 39] خبر { الَّذِينَ } ودخول الواو لا يمنع من ذلك ، و { فِى الظُّلُمَـاتِ } [الأنبياء : 87] خبر آخر.
ثم قال إيذاناً بأنه فعال لما يريد { مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ } أي يشأ الله ضلاله يضلله { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأنعام : 39] وفيه دلالة خلق الأفعال وإرادة المعاصي ونفي الأصلح.
(2/12)
{ قُلْ } وبتليين الهمزة : مدني ، وبتركه : علي ، ومعناه هل علمتم أن الأمر كما يقال لكم فأخبروني بما عندكم ، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب والباء ضمير الفاعل ومتعلق الاستخبار محذوف تقديره أرأيتكم { أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـاـاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } [الأنعام : 40] من تدعون.
ثم بكتهم بقوله { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } [الأنعام : 40] أي أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله دونها { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في أن الأصنام آلهة فادعوها لتخلصكم { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } [الأنعام : 41] بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } [الأنعام : 41] أي ما تدعونه إلى كشفه { إِن شَآءَ } [يوسف : 99] إن أراد أن يتفضل عليكم { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } [الأنعام : 41] وتتركون آلهتكم ، أو لا تذكرون آلهتكم في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } [الأنعام : 40] كأنه قيل : أرأيتكم أغير اللّه تدعون إن أتاكم عذاب اللّه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 17
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ } [الأنعام : 42] رسلاً فالمفعول محذوف فكذبوهم { فَأَخَذْنَـاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ } [الأنعام : 42] بالبؤس والضر ، والأول القحط والجوع والثاني المرض ونقصان الأنفس والأموال { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام : 42] يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون
18
عن ذنوبهم فالنفوس تتخشع عند نزول الشدائد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 18
{ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [الأنعام : 43] أي هلا تضرعوا بالتوبة ومعناه نفي التضرع كأنه قيل : يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء بـ " لولا " ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم { وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الأنعام : 43] فلم يزجروا بما ابتلوا به { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 43] وصاروا معجبين بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } [الأنعام : 44] من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ به ولم يزجرهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ } من الصحة والسعة وصنوف النعمة { فَتَحْنَا } شامي { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ أُوتُوا } [الأنعام : 44] من الخير والنعمة { أَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } [الأنعام : 44] آيسون متحسرون وأصله الإطراق حزناً لما أصابه أو ندماً على مافاته و " إذا " للمفاجأة { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } [الأنعام : 45] أي أهلكوا عن آخرهم ولم يترك منهم أحد { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك الظلمة وأنه من أجل النعم وأجزل القسم ، أو احمدوا الله على إهلاك من لم يحمد الله.
ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله { قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـارَكُمْ } بأن أصمكم وأعماكم { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم } [الأنعام : 46] فسلب العقول والتمييز { مَّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ } [الأنعام : 46] بما أخذ وختم عليه.
{ مِنْ } رفع بالابتداء و { إِلَـاهٍ } خبره و { غَيْرِ } صفة لـ { إِلَـاهٍ } وكذا { يَأْتِيَكُمُ } والجملة في موضع مفعولي { أَرَءَيْتُمْ } وجواب الشرط محذوف { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ } [الأنعام : 46] لهم { الايَـاتِ } نكررها { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } [الأنعام : 46] يعرضون عن الآيات بعد ظهورها ، والصدوف الإعراض عن الشيء
19
(2/13)
{ قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـاـاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً } بأن لم تظهر أماراته { أَوْ جَهْرَةً } [الأنعام : 47] بأن ظهرت أماراته.
وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً { هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّـالِمُونَ } [الأنعام : 47]ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بربهم { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بالجنان والنيران للمؤمنين والكفار ، ولن نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة { فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ } [الأنعام : 48] أي داوم على إيمانه { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] فلا خوف يعقوب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 18
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ } جعل العذاب ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [البقرة : 59] بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله تعالى بالكفر { قُل لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآ ـاِنُ اللَّهِ } [الأنعام : 50] أي قسمه بين الخلق وأرزاقه ، ومحل { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } [الأنعام : 50] النصب عطفاً على محل { عِندِى خَزَآ ـاِنُ اللَّهِ } [الأنعام : 50] لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ } [الأنعام : 50] أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله وعلم الغيب ودعوى الملكية ، وإنما أدعي ما كان لكثير من البشر وهو النبوة { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَىَّ } [الأنعام : 50] أي ما أخبركم إلا بما أنزل الله علي { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ } [الأنعام : 50] مثل للضال والمهتدي ، أو لمن اتبع ما يوحى إليه ومن لم يتبع ، أو لمن يدعي المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية { أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } [الأنعام : 50] فلا تكونوا ضالين أشباه العميان أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر ، أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إلى مما لا بد لي منه ،
20
{ وَأَنذِرْ بِهِ } [الأنعام : 51] بما يوحى { الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [الأنعام : 51] هم المسلمون المقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه ، أو أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث { لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلا شَفِيعٌ } [الأنعام : 51] في موضع الحال من { يُحْشَرُوا } أي يخافون أن نحشروا غير منصورين و لا مشفوعاً لهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة : 187] يدخلون في زمرة أهل التقوى.
جزء : 2 رقم الصفحة : 18
ولما أمر النبي عليه السلام بإنذار غير المتقين ليتقوا ، أمر بعد ذلك بتقريب المتقين ونهى عن طردهم بقوله : { وَالْعَشِىِّ } وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها.
والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام ، أو معناه يصلون صلاة الصبح والعصر أو الصلوات الخمس.
شامي.
ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله { وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [الأنعام : 52] فالوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته ، نزلت في الفقراء بلال وصهيب وعمار وأضرابهم حين قال رؤساء المشركين : لو طردت هؤلاء السقاط لجالسناك.
فقال عليه السلام : ما أنا بطارد المؤمنين.
فقالوا : اجعل لنا يوماً ولهم يوماً وطلبوا بذلك كتاباً فدعا علياً رضي الله عنه ليكتب فقام الفقراء وجلسوا ناحية فنزلت ، فرمى عليه الصلاة والسلام بالصحيفة وأتى الفقراء فعانقهم { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ } [الأنعام : 52] كقوله { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّى } [الشعراء : 113] (الشعراء : 311) { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ } [الأنعام : 52] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم فقال : حسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي وهو { يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } { فَتَكُونَ مِنَ الظَّـالِمِينَ } [الأنعام : 52] جواب النهي وهو { وَلا تَطْرُدِ } [الأنعام : 52] ويجوز أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبيب لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم
21
(2/14)
{ وَكَذَالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } [الأنعام : 53] ومثل ذلك الفتن العظيم ابتليتا الأغنياء بالفقراء { لِّيَقُولُوا } أي الأغنياء { أَهَـاؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } [الأنعام : 53] أي أنعم الله عليهم بالأيمان ونحن المقدمون والرؤساء وهم الفقراء إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ونحوه { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [الأحقاف : 11] (الأحقاف : 11) { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّـاكِرِينَ } [الأنعام : 53] بمن يشكر نعمته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 18
{ وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـاَايَـاتِنَا فَقُلْ سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ } إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأ هم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم.
وكذا قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 54] من جملة ما يقول لهم ليبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم ومعناه وعدكم بالرحمة وعداً مؤكداً { أَنَّهُ } الضمير للشأن { مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُواءَا } [الأنعام : 54] ذنباً { بِجَهَـالَةٍ } في موضع الحال أي عمله وهو جاهل بما يتعلق به من المضرة ، أو جعل جاهلاً لإيثاره المعصية على الطاعة { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ } [الأنعام : 54] من بعد السوء أو العمل { وَأَصْلَحَ } أخلص توبته { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام : 54] { أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } شامي وعاصم.
الأول بدل الرحمة ، والثاني خبر مبتدأ محذوف أي فشأنه أنه غفور رحيم.
{ أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } مدني الأول بدل الرحمة ، والثاني مبتدأ.
{ أَنَّهُ } { فَإِنَّهُ } غيرهم على الاستئناف كأن الرحمة استفرت فقيل : إنه من عمل منكم { كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وبالياء : حمزة وعلي وأبو بكر { غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَكَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 55] بالنصب : مدني.
غيره : بالرفع.
فرفع السبيل مع التاء والياء لأنها تذكر وتؤنث ، ونصب السبيل مع التاء على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلّم يقال استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته ، والمعنى ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه ومن يرجى إسلامه ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به فصلنا ذلك التفصيل.
22
جزء : 2 رقم الصفحة : 18
{ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأنعام : 56] أي صرفت وزجرت بأدلة العقل والسمع عن عبادة ما تعبدون من دون الله { قُل لا أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 23
(2/15)
الأنعام : 56] أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان سبب الذي منه وقعوا في الضلال { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا } [الأنعام : 56] أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال { وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [الأنعام : 56] وما أنا من المهتدين في شيء يعني أنكم كذلك ولما نفي أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله { قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى } [الأنعام : 57] أي إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجة واضحة { وَكَذَّبْتُم بِهِ } [الأنعام : 57] حيث أشركتم به غيره.
وقيل : على بينة من ربي على حجة من جهة ربي وهو القرآن وكذبتم به بالبينة ، وذكر الضمير على تأويل البرهان أو البيان أو القرآن.
ثم عقبه بما دل على أنهم أحقاء بأن يعاقبوا بالعذاب فقال { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } [الأنعام : 57] يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ } [الانفال : 32] (الأنفال : 23) { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } [يوسف : 40] في تأخير عذابكم { يَقُصُّ الْحَقَّ } [الأنعام : 57] حجازي وعاصم أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدره من قص أثره.
الباقون { يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } أي قضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل ، والحق صفة لمصدر يقضي وقوله { وَهُوَ خَيْرُ الْفَـاصِلِينَ } [الأنعام : 57] أي القاضين بالقضاء الحق إذ الفصل هو القضاء ، وسقوط الياء من الخط لاتباع اللفظ لا لتقاء الساكنين { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى } [الأنعام : 58] أي في قدرتي وإمكاني { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } [الأنعام : 57] من
23
العذاب { لَقُضِىَ الامْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام : 58] لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّـالِمِينَ } [الأنعام : 58] فهو ينزل عليكم العذاب في وقت يعلم أنه أردع.
جزء : 2 رقم الصفحة : 23
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَآ إِلا هُوَ } [الأنعام : 59] المفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو هي خزائن العذاب والرزق ، أو ما غاب عن العباد من الثواب والعقاب والآجال والأحوال.
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة لأن المفاتح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال ، ومن علم مفاتحها وكيفية فتحها توصل إليها فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصل إلى ما في المخازن.
قيل : عنده مفاتح الغيب وعندك مفاتح العيب ، فمن آمن بغيبه أسبل الله الستر على عيبه { وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ } [الأنعام : 59] من النبات والدواب { وَالْبَحْرِ } من الحيوان والجواهر وغيرهما { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } [الأنعام : 59] " ما " للنفي " و " من " للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده { يَابِسٍ } عطف على { وَرَقَةٍ } وداخل في حكمها وقوله { إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام : 59] كالتكرير لقوله { إِلا يَعْلَمُهَا } [الأنعام : 59] لأن معنى { إِلا يَعْلَمُهَا } [الأنعام : 59] ومعنى { إِلا فِى كِتَـابٍ مُّبِينٍ } [الأنعام : 59] واحد وهو علم الله أو اللوح.
ثم خاطب الكفرة بقوله { وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـاـاكُم بِالَّيْلِ } أي يقبض أنفسكم عن التصرف بالتمام في المنام { بِالَّيْلِ وَسَارِبُ بِالنَّهَارِ } كسبتم فيه من الآثام { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } [الأنعام : 60] ثم يوقظكم في النهار ، أو التقدير ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم فيه فقدم الكسب لأنه أهم ، وليس فيه أنه لا يعلم ما جرحنا بالليل ولا أنه لا يتوفانا بالنهار فدل أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى } [الأنعام : 60] لتوفى الآجال على الاستكمال { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } [الأنعام : 60] رجوعكم بالبعث بعد الموت
24
(2/16)
{ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأنعام : 60] في ليلكم ونهاركم.
قال بعض أهل الكلام : أن لكل حاسة من هذه الحواس روحاً تقبض عند النوم ثم ترد إليها إذا ذهب النوم ، فأما الروح التي تحيا بها النفس فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل.
والمراد بالأرواح المعاني والقوى التي تقوم بالحواس ويكون بها السمع والبصر والأخذ والمشي والشم.
ومعنى { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } [الأنعام : 60] أي يوقظم ويرد إليكم أرواح الحواس فيستدل به على منكري البعث لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس ثم يردها إليها فكذا يحيي الأنفس بعد موتها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 23
{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون ليكون ذلك أزجر للعباد عن ارتكاب الفساد إذا تفكروا أن صحائفهم تقرأ على رؤوس الأشهاد { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } [الأنعام : 61] " حتى " لغاية حفظ الأعمال أي وذلك دأب الملائكة مع المكلف مدة الحياة إلى أن يأتيه الممات { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [الأنعام : 61] أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه و بالإمالة : حمزة { جَآءَتْ رُسُلُنَآ } [العنكبوت : 31] أبو عمرو { وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } [الأنعام : 61] لا يتوانون ولا يؤخرون { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ } [الأنعام : 62] إلى حكمه وجزائه أي رد المتوفون برد الملائكة { مَوْلَـاـاهُمُ } مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم { الْحَقِّ } العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وهما صفتان لله { أَلا لَهُ الْحُكْمُ } [الأنعام : 62] يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـاسِبِينَ } [الأنعام : 62] لا يشغله حساب عن حساب يحاسب جميع الخلق في مقدار حلب شاة وقيل : الرد إلى من رباك خير من البقاء مع من آذاك.
{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم } [الأنعام : 63] { يُنَجِّيكُم } ابن عباس { مِّن ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام : 63] مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما ، أو ظلمات البر الصواعق والبحر الأمواج وكلاهما في الغيم
25
والليل { تَدْعُونَهُ } حال من ضمير المفعول في { يُنَجِّيكُم } { تَضَرُّعًا } معلنين الضراعة وهو مصدر في موضع الحال ، وكذا { وَخُفْيَةً } أي مسرين في أنفسكم حيث كان : أبو بكر وهما لغتان { وَخُفْيَةً لَّـاـاِنْ أَنجَاـنَا } [الأنعام : 63] عاصم وبالامالة حمزة وعلي.
الباقون { أَنجَيْتَنَا } والمعنى يقولون لئن خلصنا { مِنْ هَـاذِهِ } [النساء : 75] الظلمات { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّـاكِرِينَ } [الأنعام : 63] لله تعالى { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم } [الأنعام : 64] بالتشديد كوفي { مِنْهَآ } من الظلمات { وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } [الأنعام : 64] وغم وحزن { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } [الأنعام : 64] ولا تشكرون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 23
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ } [الأنعام : 65] هو الذي عرفتموه قادراً أو هو الكامل القدرة فاللام يحتمل العهد والجنس { عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } [الأنعام : 65] كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } [الأنعام : 65] كما غرّق فرعون وخسف بقارون ، أو من قبل سلاطينكم وسفلتكم ، أو هو حبس المطر والنبات { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } [الأنعام : 65] أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام.
ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال { وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } [الأنعام : 65] يقتل بعضكم بعضاً.
والبأس السيف وعنه عليه الصلاة والسلام " سألت الله تعالى أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ } [الأنعام : 46] بالوعد والوعيد { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } بالقرآن أو بالعذاب { قَوْمِكَ } قريش { وَهُوَ الْحَقُّ } [الأنعام : 66] أي الصدق أو لا بد أن ينزل بهم { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ } [الأنعام : 66] بحفيظ وكل إلىّ أمركم إنما أنا منذر
26
(2/17)
{ لِكُلِّ } لكل شيء ينبأ به يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به { أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } [القمر : 3] وقت استقرار وحصول لا بد منه { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأنعام : 67] تهديد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 23
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا } أي القرآن يعني يخوضون فى الاستهزاء بها والطعن فيها ، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [الأنعام : 68] ولا تجالسهم وقم عنهم { حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [النساء : 140] غير القرآن مما يحل فحينئذ يجوز أن تجالسهم { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ } [الأنعام : 68] ما نهين عنه { يُنسِيَنَّكَ } شامي نسّي وأنسى واحد { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } [الأنعام : 68] بعد أن تذكر { مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم } من حساب هؤلاء الذين يخوضون في القرآن تكذيباً واستهزاء { مِن شَىْءٍ } [الذاريات : 42] أي وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم { وَلَـاكِنِ } عليهم أن يذكروهم { ذِكْرِى } إذا سمعوهم يخوضون بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم.
ومحل { ذِكْرِى } نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أي تذكيرا ، أورفع والتقدير ولكن عليهم ذكرى ؛ { ذِكْرِى } مبتدأ والخبر محذوف.
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [البقرة : 187] لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ } [الأنعام : 70] الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لَعِبًا وَلَهْوًا } [الأنعام : 70] سخروا به واستهزءوا.
ومعنى { ذَرْهُمْ } أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، واللهو ما يشغل الإنسان من هوى أو طرب
27
{ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ } [الأنعام : 70] وعظ بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسُ بِمَا كَسَبَتْ } [الأنعام : 70] مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها ، وأصل الإبسال المنع { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [الأنعام : 70] ينصرها بالقوة { وَلا شَفِيعٍ } [السجدة : 4] يدفع عنها بالمسألة.
ولا وقف على { كَسَبَتْ } في الصحيح لأن قوله { لَيْسَ لَهَا } [الأنعام : 70] صفة لنفس والمعنى وذكر بالقرآن كراهة أن تبسل نفس عادمة ولياً وشفيعاً بكسبها { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ } [الأنعام : 70] نصب على المصدر وإن تفد كل فداء ، والعدل الفدية لأن الفادي يعدل المفدي بمثله ، وفاعل { لا يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [الأنعام : 70] لا ضمير العدل لأن العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ ، وأما في قوله { وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة : 48] (البقرة : 84) فبمعنى المفدي به فصح إسناده إليه { أؤلئك } إشارة إلى المتخذين من دينهم لعباً ولهواً وهو مبتدأ والخبر { الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا } [الأنعام : 70] وقوله { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [الأنعام : 70] أي ماء سخين حار خبر ثان لـ { أؤلئك } والتقدير : أولئك المبسلون ثابت لهم شراب من حميم أو مستأنف.
{ وَعَذَابٌ أَلِيمُ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [الأنعام : 70] بكفرهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
(2/18)
{ قُلْ } لأبي بكر يقل لابنه عبد الرحمن وكان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { أَنَدْعُوا } أنعبد { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] الضار النافع { مَا لا يَنفَعُنَا } [الأنعام : 71] ما لا يقدر على نفعنا إن دعوناه { وَلا يَضُرُّنَا } [الأنعام : 71] إن تركنا { وَنُرَدُّ } وأنرد { عَلَى أَعْقَابِنَا } [الأنعام : 71] راجعين إلى الشرك { بَعْدَ إِذْ هَدَاـانَا اللَّهُ } للإسلام وأنقذنا من عبادة الأصنام { كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَـاطِينُ } [الأنعام : 71] كالذي ذهبت به الغيلان ومردة الجن.
والكاف في محل النصب على الحال من الضمير في { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } أي أننكص مشبهين من استهوته الشياطين وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في المهمه { حَيْرَانَ } حال من مفعول { اسْتَهْوَتْهُ } أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع { لَهُ } لهذا المستهوي { أَصْحَـابُ } رفقة { يَدْعُونَهُا إِلَى الْهُدَى } [الأنعام : 71] إلى أن يهدوه الطريق.
سمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائْتِنَا } وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم ، وهذا مبني على ما يقال إن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان
28
تستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ } [البقرة : 120] وهو الإسلام { هُوَ الْهُدَى } [الأنعام : 71] وحده وما وراءه ضلال { وَأُمِرْنَا } محله النصب بالعطف على محل { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } [البقرة : 120] على أنهما مقولان كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا { لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَواةَ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
والتقدير : وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإسلام ولإقامة الصلاة { وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الأنعام : 72] يوم القيامة { وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ بِالْحَقِّ } [الأنعام : 73] بالحكمة أو محقاً { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } [الأنعام : 73] على الخبر دون الجواب { قَوْلُهُ الْحَقُّ } [الأنعام : 73] مبتدأ و { يَوْمَ يَقُولُ } [الحديد : 13] خبره مقدماً عليه كما تقول " يوم الجمعة قولك الصدق " أي قولك الصدق كائن يوم الجمعة واليوم بمعنى الحين.
والمعنى أنه خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة وحين يقول لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء ، قوله الحق والحكمة أي لا يكوّن شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب { وَلَهُ الْمُلْكُ } [الأنعام : 73] مبتدأ وخبر { يَوْمَ يُنفَخُ } [الأنعام : 73] ظرف لقوله { وَلَهُ الْمُلْكُ } [الأنعام : 73] { فِى الصُّورِ } [ق : 20] هو القرن بلغة اليمن أو جمع صورة { عَـالِمُ الْغَيْبِ } [الجن : 26] هو عالم الغيب { وَالشَّهَـادَةِ } أي السر والعلانية { وَهُوَ الْحَكِيمُ } [الأنعام : 18] في الإفناء والإحياء { الْخَبِيرُ } بالحساب والجزاء.
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ ءَازَرَ } [الأنعام : 74] هو اسم أبيه أو لقبه لأنه لا خلاف بين النسابين أن اسم أبيه تارخ ، وهو عطف بيان لأبيه وزنه فاعل { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا ءَالِهَةً } [الأنعام : 74] استفهام توبيخ أي أتتخذها آلهة وهي لا تستحق الإلهية { إِنِّى أَرَاـاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ * وَكَذَالِكَ } أي وكما أريناه قبح الشرك { نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } أي نري بصيرته لطائف خلق السماوات والأرض ، ونرى حكاية حال
29
(2/19)
ماضية.
والملكوت أبلغ من الملك لأن الواو والتاء تزادان للمبالغة.
قال مجاهد : فرجت له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى نظره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع حتى نظر إلى ما فيهن { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام : 75] فعلنا ذلك أو ليستدل ، وليكون من الموقنين عياناً كما أيقن بياناً { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ } [الأنعام : 76] أي أظلم وهو عطف على { قَالَ إِبْرَاهِيمُ لابِيهِ } [الأنعام : 74] وقوله : { وَكَذَالِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ } [الأنعام : 75] جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه { رَءَا كَوْكَبًا } أي الزهرة أو المشتري ، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئاً منها ليس بإله لقيام دليل الحدوث فيها ، ولأن لها محدثاً أحدثها ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.
فلما رأى الكوكب الذي كانوا يعبدونه { قَالَ هَـاذَا رَبِّى } [الأنعام : 76] أي قال لهم هذا ربي في زعمكم ، أو المراد أهذا استهزاء بهم وإنكاراً عليهم ، والعرب تكتفي عن حرب الاستفهام بنغمة الصوت.
والصحيح أن هذا قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه لأنه أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكر عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة { فَلَمَّآ أَفَلَ } [الأنعام : 77] غاب { قَالَ لا أُحِبُّ الافِلِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
الأنعام : 76] أي لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حال إلى حال لأن ذلك من صفات الأجسام { فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرًّا } مبتدئاً في الطلوع { قَالَ هَـاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَـاـاِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ } [الأنعام : 77] نبه قومه على أن من اتخذ القمر إلهاً فهو ضال ، وإنما احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتجاج به أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب { فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـاذَا رَبِّى } وإنما ذكره لأنه أراد الطالع ، أو
30
لأنه جعل المبتدأ مثل الخبر لأنهما شيء واحد معنى ، وفيه صيانة الرب عن شبهة التأنيث ولهذا قالوا في صفات الله تعالى علام ولم يقولوا علامة وإن كان الثاني أبلغ تفادياً من علامة التأنيث { هَـاذَآ أَكْبَرُ } [الأنعام : 78] من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه { فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَـاقَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها.
وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه فحكاه الله تعالى ، والأول أظهر لقوله { قَالَ يَـاقَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } { إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ } [الأنعام : 79] أي للذي دلت هذه المحدثات على أنه منشئها { حَنِيفًا } حال أي مائلاً عن الأديان كلها إلى الإسلام { وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 79] بالله شيئاً من خلقه.
{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ } [الأنعام : 80] في توحيد الله تعالى ونفى الشركاء عنه { قَالَ أَتُحَـاجُّوانِّى فِى اللَّهِ } [الأنعام : 80] في توحيده.
مدني وابن ذكوان { وَقَدْ } إلى التوحيد ، وبالياء في الوصل : أبو عمرو.
ولما خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء قال { هَدَاـانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَن يَشَآءَ رَبِّى شيئا } [الأنعام : 80] أي لا أخاف معبوداتكم في وقت قط لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة إلا إذا شاء ربي أن يصيبني منها بضر ، فهو قادر على أن يجعل فيما شاء نفعاً وفيما شاء ضراً لا الأصنام { وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا } [الأنعام : 80] فلا يصيب عبداً شيء من ضر أو نفع إلا بعلمه { أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 80] فتميزوا بين القادر والعاجز { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } [الأنعام : 81] معبوداتكم وهي مأمونة الخوف { وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ } [الأنعام : 81] بإشراكه { عَلَيْكُمْ سُلْطَـانًا } [الأنعام : 81] حجة إذ
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
(2/20)
الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة ، والمعنى وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع
31
الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف { فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ } [الأنعام : 81] أي فريقي الموحدين والمشركين { أَحَقُّ بِالامْنِ } [الأنعام : 81] من العذاب { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة : 184] ولم يقل " فأينا " احترازاً من تزكية نفسه ، ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله { الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَـانَهُم بِظُلْمٍ } [الأنعام : 82] بشرك عن الصديق رضي الله عنه { أؤلئك لَهُمُ الامْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] تم كلام إبراهيم عليه السلام.
32
جزء : 2 رقم الصفحة : 27
{ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ } [الأنعام : 83] إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ } [الأنعام : 76] إلى قوله { وَهُم مُّهْتَدُونَ } [الأنعام : 82] { ءَاتَيْنَـاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [الأنعام : 83] وهو خبر بعد خبر { نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [الأنعام : 83] في العلم والحكمة وبالتنوين كوفي وفيه نقض قول المعتزلة في الأصلح { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } [الأنعام : 83] بالرفع { عَلِيمٌ } بالأهل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 33
{ وَوَهَبْنَا لَهُ } [الأنعام : 84] لإبراهيم { إِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا } [الأنعام : 84] أي كلهم وانتصب { كَلا } بـ { هَدَيْنَا } { وَنُوحًا هَدَيْنَا } [الأنعام : 84] أي وهدينا نوحاً { مِن قَبْلُ } [يوسف : 6] من قبل إبراهيم { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } [الأنعام : 84] الضمير لنوح أو لإبراهيم ، والأوّل أظهر لأن يونس ولوطاً لم يكونا من ذرية إبراهيم { دَاوُادَ وَسُلَيْمَـانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَـارُونَ } والتقدير : وهدينا من ذريته هؤلاء { وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ } [الأنعام : 84] ونجزي المحسنين جزاء مثل ذلك ، فالكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ } [الأنعام : 85] أي كلهم { مِّنَ الصَّـالِحِينَ } [آل عمران : 39] وذكر عيسى معهم دليل على أن النسب يثبت من قبل الأم أيضاً لأنه جعله من ذرية نوح عليه السلام وهو لا يتصل به إلا بالأم ، وبذا أجيب الحجاج حين أنكر أن يكون بنو فاطمة أولاد النبي عليه السلام { وَإِسْمَـاعِيلَ وَالْيَسَعَ } [الأنعام : 86] حيث كان بلامين : حمزة وعلي { وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَـالَمِينَ } [الأنعام : 86] بالنبوة والرسالة { وَمِنْ ءَابَآ ـاِهِمْ } [الأنعام : 87] في موضع النصب عطفاً علىء { كَلا } أي وفضلنا بعض آبائهم { وَذُرِّيَّـاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } أي ما دان به هؤلاء المذكورون { هُدَى اللَّهِ } [آل عمران : 73] دين الله { يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [الأنعام : 88] فيه نقض قول المعتزلة لأنهم يقولون إن الله شاء هداية الخلق كلهم لكنهم لم يهتدوا { وَلَوْ أَشْرَكُوا } [الأنعام : 88] مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات العلى { لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 88] لبطلت أعمالهم كما قال لئن أشركت ليحبطن عملك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 33
(2/21)
{ أؤلئك الَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } يريد الجنس { وَالْحُكْمَ } والحكمة أو فهم الكتاب { وَالنُّبُوَّةَ } وهي أعلى مراتب البشر { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } [الأنعام : 89] بالكتاب والحكم والنبوة أو بآيات القرآن { هؤلاء } أي أهل مكة { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا } [الأنعام : 89] هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله : { أؤلئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } [الأنعام : 90] أو أصحاب النبي عليه السلام ، أوكل من آمن به أو العجم.
ومعنى توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه.
والباء في { لَّيْسُوا بِهَا } [الأنعام : 89] صلة { كَـافِرِينَ } وفي { بِكَـافِرِينَ } لتأكيد النفي { أؤلئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } [الأنعام : 90] أي الأنبياء الذين مر ذكرهم { فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ } فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم ، وهذا معنى تقديم المفعول.
والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فهي مختلفة ، والهاء في { اقْتَدِهْ } للوقف تسقط في الوصل ، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في
33
المصحف ويحذفها حمزة.
وعلى في الوصل ويختلسها : شامي.
{ قُل لا أَسْـاَلُكُمْ عَلَيْهِ } [الشورى : 23] على الوحي أو على تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد { أَجْرًا } جعلاً.
وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن ورواية الحديث لا يجوز { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَـالَمِينَ } [الأنعام : 90] ما القرآن إلا عظة للجن والإنس { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ } [الأنعام : 91] أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم رحمته { وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ } [الأنبياء : 107] (الأنبياء : 701) روي أن جماعة من اليهود ـ منهم مالك بن الصيف ـ كانوا يجادلون النبي عليه السلام فقال النبي عليه السلام له " أليس في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " ؟ قال : نعم.
قال : " فأنت الحبر السمين " فغضب وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء.
و { حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام : 91] منصوب نصب المصدر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 33
{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُورًا } حال من الضمير في { بِهِ } أو { مِّنَ الْكِتَـابِ } [النمل : 40] { وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } [الأنعام : 91] مما فيه نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي بعضوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء.
وبالياء في الثلاثة : مكي وأبو عمرو { وَعُلِّمْتُم } يا أهل الكتاب بالكتاب { مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ } [الأنعام : 91] من أمور دينكم ودنياكم { قُلِ اللَّهُ } [يونس : 21] جواب أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } [الأنعام : 91] في باطلهم الذي يخوضون فيه { يَلْعَبُونَ } حال من { ذَرْهُمْ } أو { فِى خَوْضِهِمْ } { وَهَـاذَا كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ } [الأنعام : 155] على نبينا عليه السلام { مُّبَارَكٌ } كثير المنافع
34
والفوائد { مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } [الأنعام : 92] من الكتب { وَلِتُنذِرَ } وبالياء : أبو بكر ، أي الكتاب وهو معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار { أُمَّ الْقُرَى } [الأنعام : 92] مكة ، وسميت أم القرى لأنها سرة الأرض وقبلة أهل القرى وأعظمها شأناً ولأن الناس يؤمونها { وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام : 92] أهل الشرق والغرب { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ } [الأنعام : 92] يصدقون بالعاقبة ويخافونها { يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الشعراء : 201] بهذا الكتاب فأصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن { وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [الأنعام : 92] خصت الصلاة بالذكر لأنها علم الإيمان وعماد الدين فمن حافظ عليها يحافظ على أخواتها ظاهراً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 33
(2/22)
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام : 21] هو مالك بن الصيف { أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ } [الأنعام : 93] هو مسيلمة الكذاب { وَمَن قَالَ } [الأنعام : 93] في موضع جر عطف على { مَنِ افْتَرَى } [طه : 61] أي وممن قال { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } [الأنعام : 93] أي سأقول وأملي هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح كاتب الوحي ، وقد أملى النبي عليه السلام عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسَـانَ } [المؤمنون : 12] إلى { خَلْقًا ءَاخَرَ } [المؤمنون : 14] (المؤمنون : 41) فجرى على لسانه { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَـالِقِينَ } [المؤمنون : 14] (المؤمنون : 41).
فقال عليه السلام : " اكتبها فكذلك نزلت " فشك وقال : إن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً فقد قلت كما قال ، فارتد ولحق بمكة.
أو النضر بن الحرث كان يقول : والطاحنات طحناً فالعاجنات عجناً فالخابزات خبزاً كأنه يعارض { وَلَوْ تَرَى } [الأنعام : 93] جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً { إِذِ الظَّـالِمُونَ } [الأنعام : 93] يريد الذين ذكرهم من اليهود
35
والمتنبئة فتكون اللام للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله { فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى } شدائده وسكراته { وَالْمَلَـائكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ } [الأنعام : 93] أي يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم ، وهذه عبارة عن التشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } [الأنعام : 93] أرادوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع.
والهون : الهوان الشديد وإضافة العذاب إليه كقولك " رجل سوء " يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } [الأنعام : 93] من أن له شريكاً وصاحبة وولداً.
و { غَيْرَ الْحَقِّ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
آل عمران : 154] مفعول { تَقُولُونَ } أو وصف لمصدر محذوف أي قولاً غير الحق { وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَـاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأنعام : 93] فلا تؤمنون بها { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } [الأنعام : 94] للحساب والجزاء منفردين بلا مال ولا معين وهو جمع فريد كأسير وأسارى { جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَـاكُمْ } [الكهف : 48] في محل النصب صفة لمصدر { جِئْتُمُونَا } أي مجيئاً مثل ما خلقناكم { أَوَّلَ مَرَّةٍ } [التوبة : 13] على الهيئات التي ولدتم عليها في الانفراد { وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَـاكُمْ } [الأنعام : 94] ملكناكم { وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام : 94] ولم تحتملوا منه نقيراً { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ } في استعبادكم { شُرَكَـاؤُا لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام : 94] بينكم وصلكم عن الزجاج والبين : الوصل والهجر قال :
فوالله لولا البين لم يكن الهوى
ولولا الهوى ما حن للبين الف
{ بَيْنِكُمْ } مدني وعلي وحفص أي وقع التقطع بينكم { وَضَلَّ عَنكُم } [الأنعام : 94] وضاع وبطل { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام : 94] أنها شفعاؤكم عند الله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } [الأنعام : 95] بالنبات والشجر أي فلق الحب عن السنبلة والنواة عن النخلة ، والفلق : الشق ، وعن مجاهد : أراد الشقين اللذين في النواة والحنطة
36
(2/23)
{ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [الأنعام : 95] النبات الغض النامي من الحب اليابس { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ } [الأنعام : 95] الحب اليابس من النبات النامي ، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، فاحتج الله عليهم بما يشاهدونه من خلقه لأنهم أنكروا البعث فأعلمهم أنه الذي خلق هذه الأشياء فهو يقدر على بعثهم.
وإنما قال { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ } [الأنعام : 95] بلفظ اسم الفاعل لأنه معطوف على فالق الحب لا على الفعل و { يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [الأنعام : 95] موقعه موقع الجملة المبينة لقوله { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } [الأنعام : 95] لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان دليله قوله : { يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ } [الروم : 19] (الروم : 91).
{ ذَالِكُمُ اللَّهُ } [غافر : 62] ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية لا الأصنام { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [الأنعام : 95] فكيف تصرفون عنه وعن تواليه إلى غيره بعد وضوح الأمر بما ذكرنا { فَالِقُ الاصْبَاحِ } [الأنعام : 96] } هو مصدر سمي به الصبح أي شاق عمود الصبح عن سواد الليل أو خالق نور النهار { وَجَعَلَ الَّيْلَ } [الأنعام : 96] { وَجَعَلَ الَّيْلَ } [الأنعام : 96] كوفي لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي ، فلما كان فالق بمعنى فلق عطف عليه { جَعَلَ } لتوافقهما معنى { سَكَنًا } مسكوناً فيه من قوله { لِتَسْكُنُوا فِيهِ } [يونس : 67] (يونس : 76) أي ليسكن فيه الخلق عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة ، أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } [الأنعام : 96] انتصبا بإضمار فعل يدل عليه جاعل الليل أي وجعل الشمس والقمر { حُسْبَانًا } أي جعلهما على حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما.
والحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب { ذَالِكَ } إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } [الأنعام : 96] الذي قهرهما وسخرهما { الْعَلِيمُ } بتدبيرهما وتدويرهما { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } [الأنعام : 97] خلقها { لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام : 97]
37
أي في ظلمات الليل بالبر وبالبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات { قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 97] قد بينا الآيات الدالة على التوحيد لقوم يعلمون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
(2/24)
{ وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [الأنعام : 98] هي آدم عليه السلام { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [الأنعام : 98] { فَمُسْتَقَرٌّ } بالكسر : مكي وبصري.
فمن فتح القاف كان المستودع اسم مكان مثله ، ومن كسرها كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول يعني فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها ، أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع { قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } [الأنعام : 98] وإنما قيل { يَعْلَمُونَ } ثم { يَفْقَهُونَ } هنا لأن الدلالة ثمّ أظهر وهنا أدق ، لأن إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة أدق فكان ذكر الفقه الدال على تدقيق النظر أوفق { وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } [الأنعام : 99] من السحاب مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } [طه : 53] بالماء { نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ } [الأنعام : 99] نبت كل صنف من أصناف النامي أي السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف مختلفة { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } [الأنعام : 99] من النبات { خُضْرًا } أي شيئاً غضاً أخضر.
يقال أخضر وخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُّخْرِجُ مِنْهُ } [الأنعام : 99] من الخضر { حَبًّا مُّتَرَاكِبًا } [الأنعام : 99] وهو السنبل الذي تراكب حبه { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } [الأنعام : 99] هو رفع بالابتداء { وَمِنَ النَّخْلِ } [الأنعام : 99] خبره و { مِن طَلْعِهَا } [الأنعام : 99] بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو وهو العذق نظيره " صنو " و " صنوان " .
{ دَانِيَةٌ } من المجتني لانحنائها بثقل حملها أو لقصر ساقها ، وفيه اكتفاء أي وغير دانية لطولها كقوله { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [النحل : 81] (النحل : 28) { وَجَنَّـاتٍ } بالنصب عطفاً على { نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ } [الأنعام : 99] أي وأخرجنا به جنات { مِّنْ أَعْنَابٍ } [الأنعام : 99] أي مع النخل وكذا { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } [الأنعام : 141] { وَجَنَّـاتٍ }
38
بالرفع : الأعشى أي وثم جنات من أعناب أي مع النخل { مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ } [الأنعام : 99] يقال اشتبه الشيئان وتشابها نحو استويا وتساويا ، والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه ، والرمان كذلك يعني بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم { انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } [الأنعام : 99] إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضعيفاً لا ينتفع به { وَيَنْعِهِ } ونضجه أي انظروا إلى حال نضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع ، نظر اعتبار واستدلال على قدرة مقدره ومدبره وناقله من حال إلى حال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
{ إِنَّ فِى ذَالِكُمْ لايَـاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99] { ثَمَرِهِ } وكذا ما بعده : حمزة وعلي جمع ثمار فهو جمع الجمع يقال : ثمرة وثمر وثمار وثمر.
(2/25)
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ } [الأنعام : 100] إن جعلت { لِلَّهِ شُرَكَآءَ } [الأنعام : 100] مفعولي { جَعَلُوا } كان { الْجِنَّ } بدلاً من { شُرَكَآءَ } وإلا كان { شُرَكَآءَ الْجِنَّ } [الأنعام : 100] مفعولين قدم ثانيهما على الأوّل ، وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو غير ذلك ، والمعنى أنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم فجعلوهم شركاء لله { وَخَلَقَهُمْ } أي وقد خلق الجن فكيف يكون المخلوق شريكاً لخالقه؟ والجملة حال ، أو وخلق الجاعلين لله شركاء فكيف يعبدون غيره؟ { وَخَرَقُوا لَهُ } [الأنعام : 100] أي اختلقوا يقال : خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه بمعنى ، أو هو من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له { بُنْيَـانٌ } كقول أهل الكتابين في المسيح وعزير { وَبَنَاتُ } كقول بعض العرب في الملائكة.
{ وَخَرَقُوا } بالتشديد للتكثير : مدني لقوله { بَنِينَ وَبَنَـات } [الأنعام : 100] { بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوا من خطأ أو صواب ولكن رمياً بقول عن جهالة ، وهو حال من فاعل أي جاهلين بما قالوا { عِلْمٍ سُبْحَـانَهُ وَتَعَـالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام : 100] من الشريك والولد { بَدِيعُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الأنعام : 101] يقال بدع الشيء فهو بديع وهو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سمواته وأرضه ، أو هو بمعنى المبدع أي مبدعها وهو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [الأنعام : 101] أو هو فاعل
39
{ تَعَـالَى } { وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَـاحِبَةٌ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
الأنعام : 101] أي من أين يكون له ولد والولد لا يكون إلا من صاحبة ولا صاحبة له ، ولأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون له ولد { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام : 101] أي ما من شيء إلا وهو خالقه وعالمه ومن كان كذلك كان غنياً عن كل شيء والولد إنما يطلبه المحتاج { ذالِكُمْ } إشارة إلى الوصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي { اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ خَـالِقُ كُلِّ شَىْءٍ } [الأنعام : 102] وقوله { فَاعْبُدُوهُ } مسبب عن مضمون الجملة أي من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ } [الأنعام : 102] أي هو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الارزاق والآجال رقيب على الأعمال { لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ } [الأنعام : 103] لا تحيط به أو أبصار من سبق ذكرهم.
وتشبث المعتزلة بهذه الآية لا يستتب لأن المنفي هو الإدراك لا الرؤية ، والإدراك هو الوقوف على جوانب المرئي وحدوده ، وما يستحيل عليه الحدود والجهات يستحيل إدراكه لا رؤيته ، فنزل الإدراك من الرؤية منزلة الإحاطة من العلم ، ونفى الإحاطة التي تقتضي الوقوف على الجوانب والحدود لا يقتضي نفي العلم به فهكذا هذا ، على أن مورد الآية وهو التمدح يوجب ثبوت الرؤية إذ نفي إدراك مع تحقق الرؤية إذا انتفاؤه مع تحقق الرؤية دليل ارتفاع نقيصة التناهي والحدود عن الذات ، فكانت الآية حجة لنا عليهم.
ولو أمعنوا النظر فيها لاغتنموا التفصي عن عهدتها ، ومن ينفي الرؤية يلزمه نفي أنه معلوم موجود وإلا فكما يعلم موجوداً بلا كيفية وجهة بخلاف كل موجود لم يجز أن يرى بلا كيفية وجهة بخلاف كل مرئي ، وهذا لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو ، فإن كان المرئي في الجهة يرى فيها وإن كان لا في الجهة يرى لا فيها { وَهُوَ } للطف إدراكه للمدركات { يُدْرِكُ الابْصَـارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ } [الأنعام : 103] أي
40
العالم بدقائق الأمور ومشكلاتها { الْخَبِيرُ } العليم بظواهر الأشياء وخفياتها وهو من قبيل اللف والنشر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 35
{ قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } [الأنعام : 104] البصيرة نور القلب الذي به يستبصر القلب كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه ما هو للقلوب كالبصائر { فَمَنْ أَبْصَرَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
(2/26)
الأنعام : 104] الحق وآمن { فَلِنَفْسِهِ } أبصر وإياها نفع { وَمَنْ عَمِىَ } [الأنعام : 104] عنه وضل { فَعَلَيْهَا } فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى { وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ } [الأنعام : 104] أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.
الكاف في { وَكَذَالِكَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ } [الأنعام : 105] في موضع نصب صفة المصدر المحذوف أي نصرف الآيات تصريفاً مثل ما تلونا عليك { وَلِيَقُولُوا } جوابه محذوف أي وليقولوا { دَرَسْتَ } نصرفها ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت كتب أهل الكتاب.
مكي وأبو عمرو أي دراست أهل الكتاب.
{ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ } [الأنعام : 105] شامي أي قدمت هذه الآية ومضت كما قالوا : أساطير الأولين { وَلِنُبَيِّنَهُ } أي القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوماً أو الآيات لأنها في معنى القرآن.
قيل : اللام الثانية حقيقة ، والأولى لام العاقبة والصيرورة أي لتصير عاقبة أمرهم إلى أن يقولوا درست وهو كقوله { فَالْتَقَطَهُا ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [القصص : 8] (القصص : 8) وهم لم يلتقطوه للعداوة وإنما التقطوه ليصير لهم قرة عين ولكن صارت عاقبة أمرهم إلى العداوة ، فكذلك الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا درست ولكن حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين فشبه به.
وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه وعندنا ليس كذلك لما عرف { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] الحق من الباطل { اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [الأنعام : 106] ولا تتبع أهواءهم { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محل له من الإعراب أو حال { مِن رَّبِّكَ } [الأحزاب : 2] مؤكدة { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 106] في الحال إلى أن يرد الأمر بالقتال
41
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } [البقرة : 220] أي إيمانهم فالمفعول محذوف { مَآ أَشْرَكُوا } [الأنعام : 107] بيّن أنهم لا يشركون على خلاف مشيئة الله ولو علم منهم اختيار الإيمان لهداهم إليه ولكن علم منهم اختيار الشرك فشاء شركهم فأشركوا بمشيئته { وَمَا جَعَلْنَـاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } [الأنعام : 107] مراعياً لأعمالهم مأخوذاً بإجرامهم { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [الأنعام : 107] بمسلط.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
وكان المسلمون يسبون آلهتهم فنهوا عنه لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله بقوله :
{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ } [الأنعام : 108] منصوب على جواب النهي { عَدُوًّا } ظلماً وعدواناً { بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل : 25] على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { كَذَالِكَ } مثل ذلك التزيين { زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } [الأنعام : 108] من أمم الكفار { عَمَلَهُمْ } وهو كقوله { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [فاطر : 8] (فاطر : 8) وهو حجة لنا في الأصلح { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ } [الأنعام : 108] مصيرهم { فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 108] فيخبرهم بما عملوا ويجزيهم عليه { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـانِهِمْ } [الأنعام : 109] جهد مصدر وقع موقع الحال أي جاهدين في الإتيان بأوكد الأيمان { لَـاـاِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ } [الأنعام : 109] من مقترحاتهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الايَـاتُ عِندَ اللَّهِ } [الأنعام : 109] وهو قادر عليها لا عندي فكيف آتيكم بها { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام : 109] وما يدريكم { أَنَّهَآ } أن الآية المقترحة { إِذَا جَآءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 109] بها يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تعلمون ذلك ، وكان المؤمنون يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى إنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون { أَنَّهَآ } بالكسر : مكي وبصري وأبو بكر على أن الكلام تم قبله أي وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة.
ومنهم من جعل " لا " مزيدة في قراءة الفتح
42
(2/27)
كقوله { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَآ أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 95] (الأنبياء : 59).
{ لا تُؤْمِنُونَ } [الحديد : 8] شامي وحمزة.
{ وَنُقَلِّبُ أَفْـاِدَتَهُمْ } [الأنعام : 110] عن قبول الحق { وَأَبْصَـارِهِمْ } عن رؤية الحق عند نزول الآية التي اقترحوها فلا يؤمنون بها.
قيل : هو عطف على { لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] داخل في حكم { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [الأنعام : 109] أي وما يشعركم أنهم لا يؤمنون وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام : 110] كما كانوا عند نزول آياتنا أولا لا يؤمنون بها { وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110] قيل : وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم يعمهون ويتحيرون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَـائكَةَ } [الأنعام : 111] كما قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة { وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } [الأنعام : 111] كما قالوا فأتوا بآبائنا { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ } [الأنعام : 111] جمعنا { كُلَّ شَىْءٍ قُبُلا } [الأنعام : 111] كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا جمع قبيل وهو الكفيل { قُبُلا } مدني وشامي أي عياناً وكلاهما نصب على الحال { مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ } [الأنعام : 111] إيمانهم فيؤمنوا وهذا جواب لقول المؤمنين لعلهم يؤمنون بنزول الآية { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 111] أي هؤلاء لا يؤمنون إذا جاءتهم الآية المقترحة.
{ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا } [الأنعام : 112] وكما جعلنا لك أعداء من المشركين جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء أعداء لما فيه من الابتلاء الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر وانتصب { شَيَـاطِينَ الانسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام : 112] على البدل من { عَدُوًّا } أو على أنه من المفعول الأول و { عَدُوًّا } مفعول ثانٍ { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } [الأنعام : 112] يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، وكذلك بعض الجن إلى بعض ، وبعض
43
الإنس إلى بعض ، وعن مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عياناً.
وقال عليه السلام " قرناء السوء شر من شياطين الجن " { زُخْرُفَ الْقَوْلِ } [الأنعام : 112] ما زينوه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي { غُرُورًا } خدعاً وأخذاً على غرة وهو مفعول له { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [الأنعام : 112] أي الإيحاء يعني ولو شاء الله لمنع الشياطين من الوسوسة ولكنه امتحن بما يعلم أنه أجزل في الثواب { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
الأنعام : 112] عليك وعلى الله فإن الله يخزيهم وينصرك ويجزيهم { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْـاِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ } [الأنعام : 113] ولتميل إلى زخرف القول قلوب الكفار وهي معطوفة على { غُرُورًا } أي ليغروا ولتصغي إليه { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم { وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } من الآثام { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَمًا } [الأنعام : 114] أي قل يا محمد أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل { وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَـابَ } [الأنعام : 114] المعجز { مُفَصَّلا } حال من الكتاب أي مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء.
ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له بقوله { وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ } [الأنعام : 114] أي عبد الله بن سلام وأصحابه { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ } [الأنعام : 114] شامي وحفص { مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [الأنعام : 114] الشاكين فيه أيها السامع ، أو فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ولا يربك جحود أكثرهم وكفرهم به.
جزء : 2 رقم الصفحة : 41
(2/28)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [الأعراف : 137] أي ما تكلم به.
{ كَلِمَتُ رَبِّكَ } حجازي وشامي وأبو
44
عمرو أي تم كل ما أخبر به وأمر ونهى ووعد وأوعد { صِدْقًا } في وعده ووعيده { وَعَدْلا } في أمره ونهيه.
وانتصبا على التمييز أو على الحال { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـاتِهِ } [الكهف : 27] لا أحد يبدل شيئاً من ذلك { وَهُوَ السَّمِيعُ } [الشورى : 11] لإقرار من أقر { الْعَلِيمُ } بإصرار من أصر أو السميع لما يقولون العليم بما يضمرون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارْضِ } [الأنعام : 116] أي الكفار لأنهم الأكثرون { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام : 116] دينه { إِن يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } [الأنعام : 116] وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم { وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } [الأنعام : 116] يكذبون في أن الله حرم عليهم كذا وأحل لهم كذا { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [الأنعام : 117] أي هو يعلم الكفار والمؤمنين.
من رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والخبر { يُضِلَّ } وموضع الجملة نصب بـ " يعلم " المقدر لا بـ { أَعْلَمُ } لأن أفعل لا يعمل في الاسم الظاهر النصب ويعمل الجر.
وقيل : تقديره أعلم بمن يضل بدليل ظهور الباء بعده في بالمهتدين { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِـاَايَـاتِهِ مُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 118] هو مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال ، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم.
فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة أي على ذبحه دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه { وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا } [الأنعام : 119] " ما " استفهام في موضع رفع بالابتداء و { لَكُمْ } الخبر أي وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا { مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } [الأنعام : 119] بين لكم { مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [الأنعام : 119] مما لم يحرم بقوله { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [المائدة : 3] (المائدة : 3) ـ فصل
45
{ فَصْلٌ } و { حَرَّمَ } كوفي غير حفص وبفتحهما مدني وحفص وبضمهما غيرهم { إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [الأنعام : 119] مما حرم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة أي شدة المجاعة إلى أكله { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ } [الأنعام : 119] { لَّيُضِلُّونَ } كوفي { بِأَهْوَآئِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام : 119] أي يضلون فيحرمون ويحللون بأهوائهم وشهواتهم من غير تعلق بشريعة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } [الأنعام : 119] بالمتجاوزين من الحق إلى الباطل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
(2/29)
{ وَذَرُوا ظَـاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَهُا } [الأنعام : 120] علانيته وسره أو الزنا في الحوانيت والصديقة في السر أو الشرك الجلي والخفي { إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ سَيُجْزَوْنَ } [الأنعام : 120] يوم القيامة { بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } [الأنعام : 120] يكتسبون في الدنيا { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام : 121] عند الذبح { وَأَنَّهُ } وإن أكله { لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَـاطِينَ لَيُوحُونَ } [الأنعام : 121] ليوسوسون { إِلَى أَوْلِيَآ ـاِهِمْ } [الأنعام : 121] من المشركين { لِيُجَـادِلُوكُمْ } بقولهم لا تأكلون مما قتله الله وتأكلون مما تذبحون بأيديكم ، والآية تحرم متروك التسمية وخصت حالة النسيان بالحديث أو بجعل الناسي ذاكراً تقديراً { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } [الأنعام : 121] في استحلال ما حرمه الله { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام : 121] لأن من اتبع غير الله في دينه فقد أشرك به ، ومن حق المتدين أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه لما في الآية من التشديد العظيم.
ومن أوّل الآية بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه لقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام : 145] وقال : إن الواو في { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [الأنعام : 121] للحال لأن عطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يحسن فيكون التقدير : ولا تأكلوا منه حال كونه فسقاً والفسق مجمل فبين بقوله { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام : 145] فصار التقدير ولا تأكلوا منه حال كونه مهلاً لغير الله به فيكون ما سواه حلالاً بالعمومات المحلة منها قوله { قُل لا أَجِدُ } [الأنعام : 145] الآية.
فقد عدل عن ظاهر اللفظ.
46
{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ } [الأنعام : 122] أي كافراً فهديناه لأن الإيمان حياة القلوب { مَيْتًا } مدني { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ } [الأنعام : 122] مستضيئاً به والمراد به اليقين { كَمَن مَّثَلُهُ } [الأنعام : 122] أي صفته { فِى الظُّلُمَـاتِ } [الأنبياء : 87] أي خابط فيها { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [الأنعام : 122] لا يفارقها ولا يتخلص منها وهو حال.
قيل : المراد بهما حمزة وأبو جهل.
والأصح أن الآية عامة لكل من هداه الله ولكل من أضله الله ، فبين أن مثل المهتدى مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيّئاً يمشي في الناس بنور الحكمة والإيمان ، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يتخلص منها { كَذَالِكَ } أي كما زين للمؤمن إيمانه { زُيِّنَ لِلْكَـافِرِينَ } [الأنعام : 122] بتزيين الله تعالى كقوله { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَـالَهُمْ } [النمل : 4] (النمل : 4) { مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المائدة : 62] أي أعمالهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
{ وَكَذالِكَ } أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا الناس فيها { جَعَلْنَآ } صيرنا { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَـابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [الأنعام : 123] ليتجبروا على الناس فيها ويعملوا بالمعاصي.
واللام على ظاهرها عند أهل السنة وليست بلام العاقبة ، وخص الأكابر وهم الرؤساء لأن ما فيهم من الرياسة والسعة أدعى لهم إلى المكر والكفر من غيرهم ، دليله { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الارْضِ } [الشورى : 27] (الشورى : 72) ثم سلى رسوله عليه السلام ووعد له النصرة بقوله { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِمْ } [الأنعام : 123] لأن مكرهم يحيق بهم { وَمَا يَشْعُرُونَ } [البقرة : 9] أنه يحيق بهم { أَكْبَرَ } مفعول أول والثاني { فِي كُلِّ قَرْيَةٍ } [الأنعام : 123] و { مُجْرِمِيهَا } بدل من { أَكْبَرَ } أو الأول { مُجْرِمِيهَا } والثاني { أَكْبَرَ } والتقدير : مجرميها أكابر.
ولما قال أبو جهل : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه والله لا نرضي به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، نزل
47
(2/30)
{ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ } [الأنعام : 124] أي الأكابر { ءَايَةً } معجزة أو آية من القرآن بالإيمان { قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ } أي نعطي من الآيات مثل ما أعطى الأنبياء فأعلم الله تعالى أنه أعلم بمن يصلح للنبوة فقال تعالى { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } مكي وحفص : غيرهما { السَّاحِرُ حَيْثُ } [طه : 69] مفعول به والعامل محذوف والتقدير يعلم موضع رسالته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
{ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا } [الأنعام : 124] من أكابرها { صَغَارٌ } ذل وهو إن { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] في القيامة { وَعَذَابٌ شَدِيدُ } [الأنعام : 124] في الدارين من القتل والأسر وعذاب النار { بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام : 124] في الدنيا { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاسْلَـامِ } [الأنعام : 125] يوسعه وينور قلبه.
قال عليه السلام " إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح " قيل وما علامة ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت { وَمَن يُرِدِ } [المائدة : 41] أي الله { أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا } [الأنعام : 125] { ضَيِّقًا } مكي { حَرَجًا } { حَرَجًا } صفة لـ { ضَيِّقًا } مدني وأبو بكر بالغافي الضيق { حَرَجًا } غيرهما وصفاً بالمصدر { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ } [الأنعام : 125] كأنه كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه إذا ضاقت عليه الأرض ، فطلب مصعداً في السماء أو كعازب الرأي طائر القلب في الهواء { يَصْعَدُ } مكي أبو بكر وأصله يتصاعد الباقون { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ } [الأنعام : 125] وأصله يتصعد { كَذَالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ } [الأنعام : 125] العذاب في الآخرة واللعنة في الدنيا { عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 125] والآية حجة لنا على المعتزلة في إرادة المعاصي
48
{ وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ } [الأنعام : 126] أي طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنته في شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقاً لمن أراد ضلاله { مُّسْتَقِيمًا } عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة { قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } [الأنعام : 126] يتعظون.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
{ لَهُمْ } أي لقوم يذكرون { دَارُ السَّلَـامِ } [الأنعام : 127] دار الله يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها ، أو دار السلامة من كل آفة وكدر ، أو السلام التحية سميت دار السلام لقوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـامٌ } [إبراهيم : 23] (يونس : 01).
{ إِلا قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا } [الواقعة : 26] (الواقعة : 62) { عِندَ رَبِّهِمْ } [فاطر : 39] في ضمانة { وَهُوَ وَلِيُّهُم } [الأنعام : 127] محبهم أو ناصرهم على أعدائهم { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 108] بأعمالهم أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون أو هو ولينا في الدنيا بتوفيق الأعمال وفي العقبى بتحقيق الآمال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 44
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
(2/31)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } [سبأ : 40] وبالياء حفص أي واذكر يوم نحشرهم أو ويوم نحشرهم قلنا { جَمِيعًا يَـامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الانسِ } أضللتم منهم كثيراً وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجنود { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الانسِ } [الأنعام : 128] الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } [الأنعام : 128] أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم في أغوائهم { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } [الأنعام : 128] يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، والتكذيب بالبعث وتحسر على حالهم { قَالَ النَّارُ مَثْوَاـاكُمْ } [الأنعام : 128] منزلكم { خَـالِدِينَ فِيهَآ } [الجن : 23] حال والعامل معنى الاضافة كقوله تعالى { أَنَّ دَابِرَ هؤلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [الحجر : 66] (الحجر : 66) فـ { مُّصْبِحِينَ } حال من هؤلاء والعامل في الحال معنى الاضافة إذ معناه الممازجة
49
والمضافة والمثوى ليس بعامل لأن المكان لا يعمل في شيء { إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } [الأنعام : 128] أي يخلّدون في عذاب النار الأبد كله إلا ما شاء اللّه إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب السعير إلى عذاب الزمهرير { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } [الأنعام : 83] فيما يفعل بأوليائه وأعدائه { عَلِيمٌ } بأعمالهم فيجزي كلاً على وفق عمله { وَكَذَالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـالِمِينَ بَعْضَا } [الأنعام : 129] نتبع بعضهم بعضاً في النار ، أو نسلط بعضهم على بعض أو نجعل بعضهم أولياء بعض { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام : 129] بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي ، ثم يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ { يَكْسِبُونَ * يَـامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } عن الضحاك : بعث إلى الجن رسلا منهم كما بعث إلى الإنس رسلاً منهم لأنهم بهم آنس وعليه ظاهر النص ، وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة وإنما قيل { رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الزمر : 71] لأنه لما جمع الثقلين في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن : 22] (الرحمن : 22) أو رسلهم رسل نبينا كقوله { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [الأحقاف : 29] (الأحقاف : 92) { يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِى } [الأعراف : 35] يقرءون كتبي { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } [الأنعام : 130] يعني يوم القيامة { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا } [الأنعام : 130] بوجوب الحجة علينا وتبليغ الرسل إلينا { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـافِرِينَ } بالرسل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{ ذَالِكَ } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك { أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَـافِلُونَ } [الأنعام : 131] تعليل أي الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم على أن " أن " مصدرية ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، والمعنى لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم بسبب ظلم أقدموا عليه أو ظالماً ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب لكان ظالماً وهو متعال عنه { وَلِكُلِّ } من المكلفين { دَرَجَـاتٌ } منازل { مِّمَّا عَمِلُوا } [الأحقاف : 19] من جزاء أعمالهم ، وبه استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على أن للجن الثواب بالطاعة لأنه ذكر عقيب ذكر الثقلين { وَمَا رَبُّكَ بِغَـافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 132] بساه عنه وبالتاء شامي.
(2/32)
{ وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ } [الأنعام : 133] عن عباده وعن عبادتهم { ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام : 133] عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [النساء : 133] أيها الظلمة { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ } [الأنعام : 133] من الخلق المطيع { كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } [الأنعام : 133] من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام { إِنَّ مَا } [الأنعام : 134] ما بمعنى الذي { تُوعَدُونَ } من البعث والحساب والثواب والعقاب { لاتٍ } خبر " إن " أي لكائن { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } [الأنعام : 134] بفائتين رد لقولهم من مات فقد فات.
المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن ، وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة وقوله { قُلْ يَـاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [الزمر : 39] يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ، واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، ويقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله : على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{ إِنِّى عَـامِلٌ } [هود : 93] على مكانتي التي أنا عليها أي اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم وهو أمر تهديد ووعيد ، دليله قوله
51
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـاقِبَةُ الدَّارِ } [الأنعام : 135] أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة ، وهذا طريق لطيف في الإنذار { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّـالِمُونَ } [الأنعام : 21] أي الكافرون حيث كان : أبو بكر { ثُمَّ يَكُونُ } [الحديد : 20] حمزة وعلي.
وموضع { مِنْ } رفع إذا كان بمعنى " أي " وعلق عنه فعل العلم ، أو نصب إذا كان بمعنى الذي { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالانْعَـامِ نَصِيبًا } [الأنعام : 136] أي وللأصنام نصيباً فاكتفى بدلالة قوله تعالى { فَقَالُوا هَـاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآ ـاِنَا } [الأنعام : 136] علي.
وكذا ما بعده أي زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة { لِشُرَكَآ ـاِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآ ـاِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } [الأنعام : 136] أي لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآ ـاِهِمْ } [الأنعام : 136] من إنفاقهم عليها والإجراء على سدنتها.
روي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله وأشياء منهما لآلهتهم ، فإذا رأوا ما جعلوا لله زاكياً نامياً رجعوا فجعلوه للأصنام ، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها وقالوا : إن الله غني ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها.
وفي قوله { مِمَّا ذَرَأَ } [الأنعام : 136] إشارة إلى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه.
ثم ذم صنيعهم بقوله { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الأنعام : 136] في إيثار آلهتهم على الله وعملهم على ما لم يشرع لهم.
وموضع " ما " رفع أي ساء الحكم.
حكمهم بأو نصب أي ساء حكماً حكمهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{ وَكَذَالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 137] أي كما زين لهم تجزئة المال زين وأد البنات { قَتْلَ } هو مفعول زين { قَتْلَ أَوْلَـادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } هو فاعل زين ، { زُيِّنَ } بالضم { قَتْلَ } بالرفع { أَوْلَـادُهُمْ } بالنصب { شُرَكَآ ـاِهِمْ } بالجر : شامي على إضافة القتل إلى الشركاء أي الشياطين والفصل بينهما بغير الظرف وهو المفعول
52
(2/33)
وتقديره : زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم { لِيُرْدُوهُمْ } ليهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } [الأنعام : 137] وليخلطوا عليهم ويشوبوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } [الأنعام : 137] وفيه دليل على أن الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } [الأنعام : 112] وما يفترونه من الإفك ، أو وافتراءهم لأن ضرر ذلك الافتراء عليهم لا عليك ولا علينا { وَقَالُوا هَـاذِهِ أَنْعَـامٌ وَحَرْثٌ } [الأنعام : 138] للأوثان { حِجْرٍ } حرام فعل بمعنى المفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات ، وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا { لا يَطْعَمُهَآ إِلا مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ } [الأنعام : 138] يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء ، والزعم قول بالظن يشوبه الكذب { وَأَنْعَـامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } [الأنعام : 138] هي البحائر والسوائب والحوامي { وَأَنْعَـامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } [الأنعام : 138] حالة الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام { افْتِرَآءً عَلَيْهِ } [الأنعام : 138] هو مفعول له أو حال أي قسموا أنعامهم قسم حجر ، وقسم لا يركب ، وقسم لا يذكر اسم الله عليها ونسبوا ذلك إلى الله افتراء عليه { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
الأنعام : 138] وعيد { أَزْوَاجِنَا } كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا يأكل منه الإناث ، وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث.
وأنث { خَالِصَةٌ } وهو خبر " ما " للحمل على المعنى لأن " ما " في معنى الأجنة ، وذكر { وَمُحَرَّمٌ } حملاً على اللفظ أو التاء
53
للمبالغة كنسابة { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [الأنعام : 139] أي وإن يكن ما في بطونها ميتة.
{ أَن يَكُونَ مَيْتَةً } أبو بكر أي وإن تكن الأجنة ميتة ، { أَن يَكُونَ مَيْتَةً } شامي على " كان " التامة ، { يَكُن مَّيْتَةً } [الأنعام : 139] مكي لتقدم الفعل.
وتذكير الضمير في { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } [الأنعام : 139] لأن الميتة اسم لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [الأنعام : 139] جزاء وصفهم الكذب على الله في التحريم { إِنَّهُ حَكِيمٌ } [الأنعام : 139] في جزائهم { عَلِيمٌ } باعتقادهم { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَـادَهُمْ } [الأنعام : 140] كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر { قَـاتِلُوا } مكي وشامي { سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام : 140] لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم لاهم { وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ } [الأنعام : 140] من البحائر والسوائب وغيرها { افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ } [الأنعام : 140] مفعول له { قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } [الأنعام : 140] إلى الصواب.
جزء : 2 رقم الصفحة : 49
{ وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ } [الأنعام : 141] خلق { جَنَّـاتُ } من الكروم { مَّعْرُوشَـاتٍ } مسموكات مرفوعات { وَغَيْرَ مَعْرُوشَـاتٍ } [الأنعام : 141] متروكات على وجه الأرض لم تعرش ، يقال عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان
جزء : 2 رقم الصفحة : 54
{ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا } [الأنعام : 141] في اللون والطعم والحجم والرائحة ، وهو حال مقدرة لأن النخل وقت خروجه لا أكل فيه حتى يكون مختلفاً وهو كقوله { فَادْخُلُوهَا خَـالِدِينَ } [الزمر : 73] (الزمر : 37) { أَكَلَهُ } { أَكَلَهُ } حجازي وهو ثمره الذي يؤكل ، والضمير للنخل ، والزرع داخل في حكمه لأنه معطوف عليه ، أو لكل واحد { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَـابِهًا } [الأنعام : 141] في اللون { وَغَيْرَ مُتَشَـابِهٍ } [الأنعام : 99] في الطعم
54
(2/34)
{ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ } [الأنعام : 141] من ثمر كل واحد ، وفائدة { إِذَآ أَثْمَرَ } [الأنعام : 141] أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك { وَءَاتُوا حَقَّهُ } [الأنعام : 141] عشره وهو حجة أبي حنيفة رحمه الله في تعميم العشر { يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141] بصري وشامي وعاصم ، وبكسر الحاء غيرهم.
وهما لغتان { وَلا تُسْرِفُوا } [الأنعام : 141] بإعطاء الكل وتضييع العيال.
وقوله { كُلُوا } إلى { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأنعام : 141] اعتراض { وَمِنَ الانْعَـامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } [الأنعام : 142] عطف على { جَنَّـاتُ } أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [الأنعام : 142] أي ما أحل الله لكم منها ولا تحرموها كما في الجاهلية } { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ } طرقه في التحليل والتحريم كفعل أهل الجاهلية { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة : 168] فاتهموه على دينكم { ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الأنعام : 143] بدل من { حَمُولَةً وَفَرْشًا } [الأنعام : 142] { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [الأنعام : 143] زوجين اثنين يريد الذكر والأنثى ، والواحد إذا كان وحده فهو فرد ، وإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجاً وهما زوجان بدليل قوله { خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالانثَى } [النجم : 45] (النجم : 54) ويدل عليه قوله { ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الأنعام : 143] ثم فسرها بقوله { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } [الأنعام : 143] { وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } [الأنعام : 144] والضأن والمعز جمع ضائن وماعز كتاجر وتجر.
وفتح عين المعز : مكي وشامي وأبو عمرو وهما لغتان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 54
والهمزة في { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ } [الأنعام : 143] للإنكار.
والمراد بالذكرين الذكر من الضأن والذكر من المعز ، وبالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز والمعنى إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما تحمل الإناث ، وذلك أنهم كانوا يحرمون ذكورة الأنعام تارة
55
وإناثها طوراً وأولادها كيفما كانت ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة تارة ، وكانوا يقولون : قد حرمها الله فأنكر ذلك عليهم.
وانتصب بـ { مَا حَرَّمَ } [آل عمران : 93] وكذا { أَمِ الانثَيَيْنِ } [الأنعام : 143] أي أم حرم الأنثيين وكذا " ما " في { أَمَّا اشْتَمَلَتْ } [الأنعام : 143] { نَبِّـاُونِى بِعِلْمٍ } [الأنعام : 143] أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } [البقرة : 23] في أن الله حرمه.
(2/35)
{ وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ } [الأنعام : 144] منهما { حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ } [الأنعام : 143] منهما { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ } [الأنعام : 143] أم ما تحمل إناثها { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ } [البقرة : 133] " أم " منقطعة أي بل أكنتم شهداء { إِذْ وَصَّـاكُمُ اللَّهُ بِهَـاذَا } [الأنعام : 144] يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم.
ولما كانوا لا يؤمنون برسول الله وهم يقولون الله حرم هذا الذي نحرمه تهكم بهم في قوله { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ } [البقرة : 133] على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } [الأنعام : 144] فنسب إليه تحريم ما لم يحرم { لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ } [الأنعام : 144] أي الذين في علمه أنهم يختمون على الكفر.
ووقع الفاصل بين بعض المعدود وبعضه اعتراضاً غير أجنبي من المعدود ، وذلك أن الله منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم ، فالاعتراض بالاحتجاج على من حرمها يكون تأكيداً للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 54
{ قُل لا أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ } [الأنعام : 145] أي في ذلك الوقت أو في وحي القرآن لأن وحي السنة قد حرم غيره ، أو من الأنعام لأن الآية في رد البحيرة وأخواتها.
وأما الموقوذة والمتردية والنطيحة فمن الميتة ، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يثبت بوحي
56
الله وشرعه لا يهوى الأنفس { مُحَرَّمًا } حيواناً حرم أكله { عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } [الأنعام : 145] على آكل يأكله { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } [الأنعام : 145] إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة { أَن تَكُونَ } [النحل : 92] مكي وشامي وحمزة { مَيْتَةً } شامي { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } [الأنعام : 145] مصبوباً سائلاً فلا يحرم الدم الذي في اللحم والكبد والطحال { أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [الأنعام : 145] نجس { أَوْ فِسْقًا } [الأنعام : 145] عطف على المنصوب قبله.
وقوله { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [الأنعام : 145] اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه { أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام : 145] منصوب المحل صفة لـ { فِسْقًا } أي رفع الصوت على ذبحه باسم غير الله ، وسمي بالفسق لتوغله في باب الفسق { فَمَنِ اضْطُرَّ } [البقرة : 173] فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات { غَيْرَ بَاغٍ } [الأنعام : 145] على مضطر مثله تارك لمواساته { وَلا عَادٍ } [النحل : 115] متجاوز قدر حاجته من تناوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأنعام : 145] لا يؤاخذه { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [الأنعام : 146] أي ماله أصبع من دابة أو طائر ويدخل فيه الإبل والنعام { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ } [الأنعام : 146] أي حرمنا عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه ، ولم يحرم من البقر والغنم إلا الشحوم وهي الثروب وشحوم الكلى
جزء : 2 رقم الصفحة : 54
{ إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ } [الأنعام : 146] إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السّحفة { أَوِ الْحَوَايَآ } [الأنعام : 146] أو ما اشتمل على الأمعاء واحدها حاوياء أو حوية { مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } وهو الألية أو المخ { ذَالِكَ } مفعول ثان لقوله { جَزَيْنَـاهُم } والتقدير جزيناهم ذلك { بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم { وَإِنَّا لَصَـادِقُونَ } [الأنعام : 146] فيما أخبرنا به وكيف نشكر من سبب معصيتهم لتحريم الحلال ومعصية سالفنا لتحليل الحرام حيث قال.
وعفا عنكم فالآن باشروهن.
57
{ فَإِن كَذَّبُوكَ } [آل عمران : 184] فيما أوحيت إليك من هذا { فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } [الأنعام : 147] بها يمهل المكذبين ولا يعاجلهم بالعقوبة { وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ } [الأنعام : 147] عذابه مع سعة رحمته { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 147] إذا جاء فلا تغتر بسعة رحمته عن خوف نقمته.
جزء : 2 رقم الصفحة : 54
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
(2/36)
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا } [الأنعام : 148] إخبار بما سوف يقولونه { لَوْ شَآءَ اللَّهُ } [الأنعام : 148] أن لا نشرك { مَآ أَشْرَكْنَا وَلا ءَابَآؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ } ولكن شاء فهذا عذرنا ، يعنون أن شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما أحل الله لهم بمشيئته ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك { كَذَالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [الأنعام : 148] أي كتكذيبهم إياك.
كان تكذيب المتقدمين رسلهم وتشبثوا بمثل هذا فلم ينفعهم ذلك إذ لم يقولوه عن اعتقاد بل قالوا ذلك استهزاء ، ولأنهم جعلوا مشيئته حجة لهم على أنهم معذورون به وهذا مردود لا الإقرار بالمشيئة ، أو معنى المشيئة هنا الرضا كما قال الحسن : أي رضي الله منا ومن آبائنا الشرك والشرك مراد لكنه غير مرضي ، ألا ترى أنه قال { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاـاكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأنعام : 149] أخبر أنه لو شاء منهم الهدى لآمن كلهم ولكن لم يشأ من الكل الإيمان بل شاء من البعض الإيمان ومن البعض الكفر ، فيجب حمل المشيئة هنا على ما ذكرناه دفعاً للتناقض { حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا } [الأنعام : 148] حتى أنزلنا عليهم العذاب { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } [الأنعام : 148] من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } [الأنعام : 148] فتظهروه { إِن تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ } [الأنعام : 148] تكذبون { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَـالِغَةُ } [الأنعام : 149] عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم على الله بمشيئته { وَالْمَلَـائكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أي فلو شاء هدايتكم وبه تبطل صولة المعتزلة
58
{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } [الأنعام : 150] هاتوا شهداءكم وقربوهم ، ويستوي في هذه الكلمة الواحد والجمع والمذكر والمؤنث عند الحجازيين ، وبنو تميم تؤنث وتجمع { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَـاذَا } [الأنعام : 150] أي ما زعموه محرماً { فَإِن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [الأنعام : 150] فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم فكان واحداً منهم { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } [الأنعام : 150] من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن من كذب بآيات الله فهو متبع للهوى إذ لو تبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله { وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ } [الأنعام : 150] هم المشركون { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام : 150] يسوون الأصنام.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
{ قُلْ } للذين حرموا الحرث والأنعام { تَعَالَوْا } هو من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقول : من كان في مكان عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر حتى عم { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } [الأنعام : 151] الذي حرمه ربكم { عَلَيْكُمْ } من صلة حرم { أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئا } [الأنعام : 151] " أن " مفسرة لفعل التلاوة و " لا " للنهي { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [البقرة : 83] وأحسنوا بالوالدين إحساناً.
ولما كان إيجاب الإحسان تحريماً لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَـادَكُم مِّنْ إِمْلَـاقٍ } [الأنعام : 151] من أجل فقر ومن خشيته كقوله { خَشْيَةَ إِمْلَـاقٍ } [الإسراء : 31] (الإسراء : 13) { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [الأنعام : 151] لأن رزق العبيد على مولاهم { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } [الأنعام : 151] ما بينك وبين الخلق { وَمَا بَطَنَ } [الأعراف : 33] ما بينك وبين الله ، ما ظهر بدل من الفواحش { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] كالقصاص والقتل على الردة والرجم { ذَالِكُمْ وَصَّـاـاكُم بِهِ } [الأنعام : 153] أي المذكور مفصلاً أمركم ربكم بحفظه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 73] لتعقلوا عظمها عند الله
59
(2/37)
{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [الأنعام : 152] إلا بالخصلة التي هي أحسن وهي حفظه وتثميره { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الإسراء : 34] أشده مبلغ حلمه فادفعوه إليه وواحده شد كفلس وأفلس { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } [الأنعام : 152] بالسوية والعدل { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [الأنعام : 152] إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك لأن مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما فيه حرج فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } [الأنعام : 152] فاصدقوا { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18] ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل كقوله { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ } [النساء : 135] (النساء : 531) { وَبِعَهْدِ اللَّهِ } [الأنعام : 152] يوم الميثاق أو في الأمر والنهي والوعد والوعيد والنذر واليمين { أَوْفُوا ذَالِكُمْ } [الأنعام : 152] أي ما مر { وَصَّـاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152] بالتخفيف حيث كان : حمزة وعلي وحفص على حذف إحدى التاءين.
غيرهم بالتشديد أصله " تتذكرون " فأدغم التاء الثانية في الذال أي أمركم به لتتعظوا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
{ وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي } [الأنعام : 153] ولأن هذا صراطي فهو علة الاتباع بتقدير اللام ، { وَأَنْ } بالتخفيف شامي ، وأصله وأنه على أن الهاء ضمير الشأن والحديث.
{ وَأَنْ } على الابتداء : حمزة وعلي { مُّسْتَقِيمًا } حال { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ } [الأنعام : 153] الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام : 153] فتفرقكم أيادي سبأ عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خط خطاً مستوياً ثم قال " هذا سبيل الرشد وصراط الله فاتبعوه " ثم خط على كل جانب ستة خطوط ممالة ثم قال " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه فاجتنبوها " وتلا هذه الآية.
ثم يصير كل واحد من الاثني عشر طريقاً ستة طرق فتكون اثنين
60
وسبعين ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب.
وعن كعب : إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة { ذَالِكُمْ وَصَّـاـاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] لتكونوا على رجاء إصابة التقوى.
ذكر أولاً { تَعْقِلُونَ } ثم { تَذَكَّرُونَ } ثم { تَتَّقُونَ } لأنهم إذا عقلوا تفكروا ثم تذكروا أي اتعظوا فاتقوا المحارم { ثُمَّ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ تَمَامًا } [الأنعام : 154] أي ثم أخبركم إنا آتينا أو هو عطف على { قُلْ } أي ثم قل آتينا ، و " ثم " مع الجملة تأتي بمعنى الواو كقوله { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } [يونس : 46] (يونس : 64) { عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ } [الأنعام : 154] على من كان محسناً صالحاً يريد جنس المحسنين دليله قراءة عبد الله { عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا } أو أراد به موسى عليه السلام أي تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ في كل ما أمر به { وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ } [الأعراف : 145] وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاجون إليه في دينهم { وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم } [الأنعام : 154] أي بني إسرائيل { بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 154] يصدقون أي بالبعث والحساب وبالرؤية.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
(2/38)
{ وَهَـاذَآ } أي القرآن { كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ مُبَارَكٌ } [الأنعام : 155] كثير الخير { فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا } [الأنعام : 155] مخالفته { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [آل عمران : 132] لترحموا { أَن تَقُولُوا } [الأنعام : 156] كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا { إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَـابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } [الأنعام : 156] أي أهل التوراة وأهل الإنجيل ، وهذا دليل على أن المجوس ليسوا بأهل كتاب { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ } [الأنعام : 156] عن تلاوة كتبهم { لَغَـافِلِينَ } لا علم لنا بشيء من ذلك " إن " مخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية والأصل : وإنه كنا عن دراستهم غافلين على أن الهاء ضمير الشأن ، والخطاب لأهل مكة والمراد إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم كيلا يقولوا يوم القيامة : إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما
61
{ أَوْ تَقُولُوا } [الأعراف : 173] كراهة أن تقولوا { لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَـابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ } [الأنعام : 157] لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا وغزارة حفظنا لأيام العرب { فَقَدْ جَآءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [الأنعام : 157] أي إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم فقد جاءكم ما فيه البيان الساطع والبرهان القاطع ، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِـاَايَـاتِ اللَّهِ } [الأنعام : 157] بعدما عرف صحتها وصدقها { وَصَدَفَ عَنْهَا } [الأنعام : 157] أعرض { سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَـاتِنَا سُواءَ الْعَذَابِ } وهو النهاية في النكاية { بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ } [الأنعام : 157] بإعراضهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 58
{ هَلْ يَنظُرُونَ } [الأنعام : 158] أي أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما يعتقدون من الضلالة فما ينتظرون في ترك الضلالة بعدها { إِلا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَـائكَةُ } [الأنعام : 158] أي ملائكة الموت لقبض أرواحهم { يَأْتِيهِمُ } حمزة وعلي { أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [الأنعام : 158] أي أمر ربك وهو العذاب أو القيامة ، وهذا لأن الإتيان متشابه وإتيان أمره منصوص عليه محكم فيرد إليه { أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَـاتِ رَبِّكَ } أي أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَـاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا }
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
لأنه ليس بإيمان اختياري بل هو إيمان دفع العذاب والبأس عن أنفسهم { لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ } [الأنعام : 158] صفة { نَفْسًا } { أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـانِهَا خَيْرًا } [الأنعام : 158] أي إخلاصاً كما لا يقبل إيمان الكافر بعد طلوع الشمس من مغربها لا يقبل إخلاص المنافق أيضاً أو توبته وتقديره : لا ينفع إيمان من لم يؤمن ولا توبة من لم يتب قبل { قُلِ انتَظِرُوا } [الأنعام : 158] إحدى الآيات الثلاث { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [الأنعام : 158] بكم إحداها.
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ } [الأنعام : 159] اختلفوا فيه وساروا فرقاً كما اختلفت اليهود
62
(2/39)
والنصارى وفي الحديث " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية ، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية وإلا واحدة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وهي السواد الأعظم " وفي رواية " وهي ما أنا عليه وأصحابي " وقيل : فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
{ لَهُمْ دِينَهُمُ } حمزة وعلي أي تركوا { وَكَانُوا شِيَعًا } [الروم : 32] فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ } [الأنعام : 159] أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } فيجازيهم على ذلك { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160] تقديره عشر حسنات أمثالها إلا أنه أقيم صفة الجنس المميزة مقام الموصوف { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [الأنعام : 160] بنقص الثواب وزيادة العقاب { قُلْ إِنَّنِى هَدَاـانِى رَبِّى } { رَبِّى } أبو عمرو ومدني { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا } [الأنعام : 161] نصب على البدل من محل { إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة : 142] لأن معناه هداني صراطاً بدليل قوله { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } [الفتح : 20] (الفتح : 02) (قيّماً) " قيما " فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم { قَيِّمًا } كوفي وشامي وهو مصدر بمعنى القيام وصف به { مِّلَّةِ إِبْرَاهِ مَ } [البقرة : 130] عطف بيان { حَنِيفًا } حال من { إِبْرَاهِيمَ } { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [البقرة : 135] بالله يا معشر قريش.
جزء : 2 رقم الصفحة : 62
{ قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى } [الأنعام : 162] أي عبادتي ، والناسك العابد أو ذبحي أو حجي { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } [الأنعام : 162] وما أتيته في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل { لِلَّهِ رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الفاتحة : 2] خالصة لوجهه.
{ وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } بسكون الياء الأول وفتح الثاني : مدني.
وبعكسه غيره { لا شَرِيكَ لَهُ } [الأنعام : 163] في شيء من ذلك { وَبِذَالِكَ } الإخلاص
63
{ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام : 163] لأن إسلام كل نبيٍ متقدم على إسلام أمته.
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا } [الأنعام : 164] جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم.
والهمزة للإنكار أي منكر أن أطلب رباً غيره ، وتقديم المفعول للإشعار بأنه أهم { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَىْءٍ } [الأنعام : 164] وكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا } [الأنعام : 164] جواب عن قولهم { اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـايَـاكُمْ } [العنكبوت : 12] (العنكبوت : 21) { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام : 164] أي لا تأخذ نفس آثمة بذنب نفس أخرى { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } [الأنعام : 164] من الأديان التي فرقتموها { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خلائف الارْضِ } [الأنعام : 165] لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم خاتم النبيين فأمته قد خلفت سائر الأمم ، أو لأن بعضهم يخلف بعضاً أو هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } [الأنعام : 165] في الشرف والرزق وغير ذلك { دَرَجَـاتٌ } مفعول ثانٍ ، أو التقدير إلى درجات ، أو هي واقعة موضع المصدر كأنه قيل رفعة بعد رفعة { لِّيَبْلُوَكُمْ فِى } فيما أعطاكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النعمة وكيف يصنع الشريف بالوضيع والغني بالفقير والمالك بالمملوك { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ } [الأنعام : 165] لمن كفر { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ } [الأنعام : 165] لمن قام بشكرها ، ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو اتٍ قريب { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77] (النحل : 77) عن النبي صلى الله عليه وسلّم " من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام حين يصبح وكل الله تعالى به سبعين ألف ملك يحفظونه وكتب له مثل أعمالهم إلى يوم القيامة " .
64
(2/40)
سورة الأعراف
مكية هي مائتان وخمس آيات بصري وست كوفي ومدني
{ المص } قال الزجاج : المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا الله أعلم وأفصل { كِتَابٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب { أَنزَلَ إِلَيْكَ } [النساء : 166] صفته والمراد بالكتاب السورة { فَلا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } [الأعراف : 2] شك فيه ، وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه أي لا شك في أنه منزل من الله أو حرج منه بتبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم ، فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم ، والنهي متوجه إلى الحرج وفيه من المبالغة ما فيه ، والفاء للعطف أي هذا الكتاب أنزلناه إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك.
واللام في { لِتُنذِرَ بِهِ } [الأعراف : 2] متعلق بـ { أَنزَلَ } أي أنزل إليك لإنذارك به ، أو بالنهي ولأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 2] في محل النصب بإضمار فعلها أي لتنذر به وتذكر
65
تذكيراً ، فالذكرى اسم بمعنى التذكير ، أو الرفع بالعطف على { كِتَابٌ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 65
أي هو كتاب وذكرى للمؤمنين ، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو الجر بالعطف على محل { لِّتُنذِرَ } أي للإنذار وللذكرى { اتَّبِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } أي القرآن والسنة { وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ } [الأعراف : 3] من دون الله { أَوْلِيَآءَ } أي ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع { قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 3] حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره { قَلِيلا } نصب بـ { تَذَكَّرُونَ } أي تذكرون تذكراً قليلاً.
و " ما " مزيدة لتوكيد القلة { تَتَذَكَّرُونَ } شامي.
{ وَكَمْ } مبتدأ { مِن قَرْيَةٍ } [الشعراء : 208] تبيين والخبر { أَهْلَكْنَـاهَآ } أي أردنا إهلاكها كقوله { يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا } [المائدة : 6] (المائدة : 6) { فَجَآءَهَا } جاء أهلها { بَأْسَنَآ } عذابنا { بَيَـاتًا } مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين ، يقال بات بياتاً حسناً { أَوْ هُمْ قَآ ـاِلُونَ } [الأعراف : 4] حال معطوفة على { بَيَـاتًا } كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين.
وإنما قيل { هُمْ قَآ ـاِلُونَ } [الأعراف : 4] بلا " واو " ولا يقال " جاءني زيد هو فارس " بغير واو ، لأنه لما عطف على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً لاجتماع حرفي عطف ، لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل.
وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع.
وقوم لوط عليه السلام أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب عليه السلام وقت القيلولة.
وقيل { بَيَـاتًا } ليلاً أي ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون { فَمَا كَانَ دَعْوَاـاهُمْ } [الأعراف : 5] دعاؤهم وتضرعهم { إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ } [الأعراف : 5] لما جاءهم أوائل العذاب { إِلا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَـالِمِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 65
الأعراف : 5] اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك.
و { دَعْوَاـاهُمْ } اسم " كان " و { أَن قَالُوا } [العنكبوت : 29] الخبر ويجوز العكس { فَلَنَسْـاَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } [الأعراف : 6] أرسل مسند إلى إليهم أي فلنسألن
66(2/41)
المرسل إليهم وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم { وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف : 6] عما أجيبوا به { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم } [الأعراف : 7] على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { بِعِلْمِ } عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } عنهم وعما وجد منهم ومعنى السؤال التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم { وَالْوَزْنُ } أي وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها وهو مبتدأ وخبره { يَوْمَـاـاِذٍ } أي يوم يسأل الله الأمم ورسلهم فحذفت الجملة وعوض عنها التنوين { الْحَقِّ } أي العدل صفته ثم قيل توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان إظهاراً للنصفة وقطعاً للمعذرة.
وقيل : هو عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل والله أعلم بكيفيته { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف : 8] جمع ميزان أو موزون أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات أو ما توزن به حسناتهم { فَأُوالَـائكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف : 8] الفائزون { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [الأعراف : 9] هم الكفار فإنه لا إيمان لهم ليعتبر معه عمل فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم { فَأُوالَـائكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَظْلِمُونَ } [الأعراف : 9] يجحدون فالآيات الحجج والظلم بها وضعها في غير موضعها أي جحودها وترك الانقياد لها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 65
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّـاكُمْ فِى الارْضِ } [الأعراف : 10] جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ، أو مكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَـايِشَ } [الأعراف : 10] جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما.
والوجه تصريح الياء لأنها أصلية بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة ، وعن نافع أنه همز تشبيهاً بصحائف { قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ } [الأعراف : 10] مثل { قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 3] (الحاقة : 24).
67
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَـاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـاكُمْ } [الأعراف : 11] أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه بعد ذلك دليله
جزء : 2 رقم الصفحة : 67
{ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـائكَةِ اسْجُدُوا لادَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّـاجِدِينَ } [الأعراف : 11] ممن سجد لآدم عليه السلام { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } [الأعراف : 12] " ما " رفع أي أيّ شيء منعك من السجود؟ " ولا " زائدة بدليل { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ص : 75] (ص : 57) ومثلها { لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَـابِ } [الحديد : 29] (الحديد : 92) أي ليعلم { إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف : 12] فيه دليل على أن الأمر للوجوب ، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام { قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [الأعراف : 12] وهي جوهر نوراني { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف : 12] وهو ظلماني وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار ، وفي النار الطيش والحدة والترفع وذلك دعاه إلى الاستكبار.
والتراب عمدة الممالك ، والنار عدة المهالك.
والنار مظنة الخيانة والإفناء ، والتراب مئنة الأمانة والإنماء ، والطين يطفيء النار ويتلفها ، والنار لا تتلفه.
وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زل بفاسد من المقاييس.
وقولنا في القياس أول من قاس إبليس قياس.
على أن القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص.
وكان الجواب لـ { مَا مَنَعَكَ } [طه : 92] أن يقول " منعني كذا " وإنما قال { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ } [ص : 76] لأنه لما استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب ـ كأنه قال : منعني من السجود فضلي عليه ، وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله ، إذا سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا } [الأعراف : 13] من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان
68(2/42)
المطيعين والمتواضعين.
والفاء في { فَاهْبِطْ } جواب لقوله { أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 67
ص : 76] أي إن كنت تتكبر فاهبط { فَمَا يَكُونُ لَكَ } [الأعراف : 13] فما يصح لك { أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } [الأعراف : 13] وتعصى { فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّـاغِرِينَ } [الأعراف : 13] من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه ، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك ، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار { قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الأعراف : 14] أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة { قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ } [الأعراف : 15] إلى النفخة الأولى.
وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء ، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسبني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال.
{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى } [الأعراف : 16] أضللتني أي فبسبب إغوائك إياي.
والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف تقديره فسبب إغوائك أقسم ، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك { لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [الأعراف : 16] لأعترضن لهم على طريق الإسلام مترصداً للرد متعرضاً للصد كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة.
وانتصابه على الظرف كقولك " ضرب زيد الظهر " أي على الظهر.
وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري فقال له طاوس : تقوم أو تقام.
فقام الرجل فقيل له : إنه فقيه؟ فقال : إبليس أفقه منه { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى } [الحجر : 39] وهو يقول أنا أغوي نفسي.
جزء : 2 رقم الصفحة : 67
{ ثُمَّ لاتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } [الأعراف : 17] أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [فصلت : 14] أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ } [الأعراف : 17] من قبل الحسنات { وَعَن شَمَآ ـاِلِهِمْ } [الأعراف : 17] من قبل السيئات وهو جمع شمال يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب.
69
وعن شقيق : ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد : من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فأقرأ { وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـالِحًا } [طه : 82] (طه : 28).
ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فاقرأ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الارْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود : 6] (هود : 6) وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فأقرأ { وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] (القصص : 38) وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [سبأ : 54] (سبأ : 45) ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة ، وقال في الأولين " من " لابتداء الغاية وفي الأخيرين " عن " لأن " عن " تدل على الانحراف { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ } [الأعراف : 17] مؤمنين قاله ظناً فأصاب لقوله { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ : 20] (سبأ : 02) أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم.
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا } [الأعراف : 18] من الجنة أو من السماء { مَذْءُومًا } معيباً من ذأمه إذا ذمه والذأم والذم العيب { مَّدْحُورًا } مطروداً مبعداً من رحمة الله.
واللام في { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } [الأعراف : 18] موطئة للقسم وجوابه { لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } [هود : 119] وهو ساد مسد جواب الشرط { مِّنكُمْ } منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب { أَجْمَعِينَ } وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 67
الأعراف : 19] اتخذها مسكناً { فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا } [الأعراف : 19] فتصيرا { مِنَ الظَّـالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَـانُ } وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وهو غير متعد ، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له
70
(2/43)
وموسوس إليه وهو الذي يلقى إليه الوسوسة.
ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه { لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُارِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا } ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما.
وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور ، وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول.
فإن قلت : ما للواو المضمومة في لم تقلب همزة كما في " أو يصل " تصغير واصل وأصله " وويصل " فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين؟ قلت : لأن الثانية مدة كألف " وارى " فكما لم يجب همزها في " واعد " لم يجب في وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة ، وهذا مدرك بالضرورة فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره.
وقرأ عبد الله بالقلب { سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَـاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [الأعراف : 20] إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء.
وقرىء { مَلَكَيْنِ } لقوله { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [طه : 120] (طه : 021) { أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَـالِدِينَ } [الأعراف : 20] من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين { وَقَاسَمَهُمَآ } وأقسم لهما { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّـاصِحِينَ } [الأعراف : 21] وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنهما من اثنين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 67
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{ فَدَلَّـاهُمَا } فنزلهما إلى الأكل من الشجرة { بِغُرُورٍ } بما غرهما به من القسم بالله وإنما يخدع المؤمن بالله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : من خدعنا بالله انخدعنا له { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ } [الأعراف : 22] وجدا طعمها آخذين في الأكل منها وهي السنبلة أو الكرم { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } [الأعراف : 22] ظهرت لهما عوراتهما لتهافت اللباس عنهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.
وقيل : كان لباسهما من جنس الأظفار أي كالظفر بياضاً في غاية اللطف واللين فبقي عند الأظفار تذكيراً للنعم وتجديداً للندم { وَطَفِقَا } وجعلا يقال طفق يفعل كذا أي جعل { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } [الأعراف : 22] يجعلان على عورتهما من ورق التين أو الموز ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف
71
النعل.
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } [الأعراف : 22] هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ.
وروى أنه قال لآدم عليه السلام : ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال : بلى ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا بكد يمين وعرق جبين ، فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وطحن وعجن وخبز { الْخَـاسِرِينَ } فيه دليل لنا على المعتزلة لأن الصغائر عندهم مغفورة { قَالَ اهْبِطُوا } [الأعراف : 24] الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل ، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعاً إلى الأرض { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [طه : 123] في موضع الحال أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه { وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ } [البقرة : 36] استقرار أو موضع استقرار { وَمَتَـاعٌ } وانتفاع بعيش { إِلَى حِينٍ } [البقرة : 36] إلى انقضاء آجالكم.
وعن ثابت البناني : لما أهبط آدم عليه السلام وحضرته الوفاة وأحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها : خلي ملائكة ربي فإنما أصابني ما أصابني فيك.
فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له قبراً ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه : هذه سنتكم بعده
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ } [الأعراف : 25] في الأرض { وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [الأعراف : 25] للثواب والعقاب { تُخْرَجُونَ } حمزة وعلي { يَـابَنِى ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } جعل ما في الأرض منزلاً من السماء
72
(2/44)
لأن أصله من الماء وهو منها { يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ } [الأعراف : 26] يستر عوراتكم { وَرِيشًا } لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين : لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزينكم { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } [الأعراف : 26] ولباس الورع الذي يقي العقاب وهو مبتدأ وخبره الجملة وهي { ذَالِكَ خَيْرٌ } [الأعراف : 26] كأنه قيل : ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر ، أو { ذَالِكَ } صفة للمبتدأ و { خَيْرٌ } خبر المبتدأ كأنه قيل : ولباس التقوى المشار إليه خير ، أو { لِبَاسَ الْجُوعِ } خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى أي ستر العورة لباس المتقين ، ثم قال { ذَالِكَ خَيْرٌ } [الأعراف : 26] وقيل : ولباس أهل التقوى من الصوف والخشن.
{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى } [الأعراف : 26] مدني وشامي وعلي عطفا على { لِبَاسًا } أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى { ذَالِكَ مِنْ ءَايَـاتِ اللَّهِ } [الكهف : 17] الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف : 26] فيعرفوا عظيم النعمة فيه ، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس ، ولما في العري من الفضيحة وإشعاراً بأن التستر من التقوى.
{ يَذَّكَّرُونَ * يَـابَنِى ءَادَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَـانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ } لا يخدعنكم ولا يضلنكم بأن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } [الأعراف : 27] حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما.
والنهي في الظاهر للشيطان وفي المعنى لبني آدم أي لا تتبعوا الشيطان فيفتنكم { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ } [الأعراف : 27] عوراتهما { أَنَّهُ } الضمير للشأن والحديث { يَرَاـاكُمْ هُوَ } [الأعراف : 27] تعديل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي يكيدكم من حيث لا تشعرون { وَقَبِيلُهُ } وذريته أو وجنوده من الشياطين وهو عطف على الضمير في { يَرَاـاكُم } المؤكد بـ { هُوَ } ، ولم يعطف عليه لأن معمول الفعل هو المستكن دون هذا البارز وإنما يعطف على ما هو معمول الفعل { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ } [الأعراف : 27] قال ذو النون : إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستار الرحيم الغفار.
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف : 27] فيه دلالة خلق الأفعال
73
(2/45)
{ وَإِذَا فَعَلُوا فَـاحِشَةً } [الأعراف : 28] ما يبالغ في قبحه من الذنوب وهو طوافهم بالبيت عراة وشركهم { قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءئهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم ، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرنا عليها إذا لو كرهها لنقلنا عنها وهما باطلان ، لأن أحدهما تقليد للجهال والثاني افتراء على ذي الجلال { قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } [الأعراف : 28] إذ المأمور به لا بد أن يكون حسناً وإن كان فيه على مراتب على ما عرف في أصول الفقه { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 28] استفهام إنكار وتوبيخ { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [الأعراف : 29] بالعدل وبما هو حسن عند كل عاقل فكيف يأمر بالفحشاء { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف : 29] وقل أقيموا وجوهكم أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود { وَادْعُوهُ } واعبدوه { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر : 65] أي الطاعة مبتغين بها وجهه خالصاً { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [الأعراف : 29] كما أنشأكم ابتداء يعيدكم ، احتج عليه في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق ، والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة { فَرِيقًا هَدَى } [الأعراف : 30] وهم المسلمون { وَفَرِيقًا } أي أضل فريقاً { حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَـالَةُ } [الأعراف : 30] وهم الكافرون { أَنَّهُمْ } إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة { اتَّخَذُوا الشَّيَـاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ } [الأعراف : 30] أي أنصاراً { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف : 30] والآية حجة لنا على أهل الاعتزال في الهداية والإضلال.
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{ مُّهْتَدُونَ * يَـابَنِى ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ } لباس زينتكم { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف : 29] كلما صليتم.
وقيل : الزينة المشط والطيب ، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر
74
{ وَكُلُوا } من اللحم والدسم { وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [الأعراف : 31] بالشروع في الحرام أو في مجاوزة الشبع { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأنعام : 141] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كل ما شئت ، واشرب ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أحطأتك خصلتان : سرف ومخيلة.
وكان للرشيد طبيب حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان وعلم الأديان.
فقال له عليّ : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [الأعراف : 31] فقال النصراني : ولم يرو عن رسولكم شيء في الطب فقال : قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه السلام " المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته " فقال النصراني : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.
ثم استفهم إنكاراً على محرم الحلال بقوله.
جزء : 2 رقم الصفحة : 71(2/46)
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } [الأعراف : 32] من الثياب وكل ما يتجمل به { الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } [الأعراف : 32] أي أصلها يعني القطن من الأرض والقز من الدود { وَالْطَّيِّبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ } [الأعراف : 32] والمستلذات من المآكل والمشارب.
وقيل : كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها { قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } [الأعراف : 32] لا يشركهم فيها أحد.
ولم يقل للذين آمنوا ولغيرهم لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة والكفار تبع لهم.
{ خَالِصَةٌ } بالرفع : نافع فـ { هِىَ } مبتدأ خبره { لِلَّذِينَ ءَامَنُوا } [العنكبوت : 12] و { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم } [العنكبوت : 25] ظرف للخبر ، أو { خَالِصَةٌ } خبر ثانٍ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي خالصة ، وغيره نصبها على الحال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة { كَذَالِكَ نُفَصِّلُ الايَـاتِ } [يونس : 24] نميز الحلال من الحرام { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 230] أنه لا شريك له.
75
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } [الأعراف : 33] { رَبِّى } حمزة { الْفَوَاحِشَ } ما تفاحش قبحه أي تزايد { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام : 151] سرها وعلانيتها { وَالاثْمَ } أي شرب الخمر أو كل ذنب { وَالْبَغْىَ } والظلم والكبر { بِغَيْرِ الْحَقِّ } [الشورى : 42] متعلق بالبغي.
ومحل { وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـانًا } [الأعراف : 33] حجة النصب كأنه قال حرم الفواحش وحرم الشرك { يُنَزِّلَ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
بالتخفيف : مكي وبصري ، وفيه تهكم إذ لا يجوز أن ينزل برهاناً على أن يشرك به غيره { وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 169] وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } [الأعراف : 34] وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهو وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف : 34] قيد بساعة لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال { يَسْتَقْدِمُونَ * يَـابَنِى ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ } هي " إن " الشرطية ضمت إليها " ما " مؤكدة لمعنى الشرط ، لأن " ما " للشرط ولذا لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة { رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـاتِى } [الأعراف : 35] يقرءون عليكم كتبي وهو في موضع رفع صفة لـ { رُسُلُ } وجواب الشرط { فَمَنِ اتَّقَى } [الأعراف : 35] الشرك { وَأَصْلَحَ } العمل منكم { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة : 38] { بِـاَايَـاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَآ } [الأعراف : 36] تعظموا عن الايمان بها { أُوالَـائِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ } [البقرة : 39].
جزء : 2 رقم الصفحة : 71
{ فَمَنْ أَظْلَمُ } [الأنعام : 144] فمن أشنع ظلماً { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِـاَايَـاتِهِ } [الأنعام : 21] ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله { أؤلئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَـابِ } [الأعراف : 37] ما
76
كتب لهم من الأرزاق والأعمار { حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 76
(2/47)
الأعراف : 37] ملك الموت وأعوانه.
و " حتى " غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له وهي " حتى " التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هنا الجملة الشرطية وهي { إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا } [الأعراف : 37] { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } يقبضون أرواحهم وهو حال من الرسل أي متوفيهم و " ما " في { قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ } [الأعراف : 37] في خط المصحف موصولة بـ { أَيْنَ } وحقها أن تكتب مفصولة لأنها موصولة ، والمعنى أين الآلهة الذين تعبدون { مِن دُونِ اللَّهِ } [يس : 74] ليذبوا عنكم { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } [غافر : 74] غابوا عنا فلا نراهم { وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـافِرِينَ } [الأنعام : 130] اعترفوا بكفرهم بلفظ الشهادة التي هي لتحقيق الخبر.
{ قَالَ ادْخُلُوا } [الأعراف : 38] أي يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الكفار : ادخلوا { فِى أُمَمٍ } [الأعراف : 38] في موضع الحال أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم { قَدْ خَلَتْ } [غافر : 85] مضت { مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالانسِ } [الأعراف : 38] من كفار الجن والإنس { فِى النَّارِ } [ص : 61] متعلق بـ { أَدْخِلُوا } { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ } [الأعراف : 38] النار { لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [الأعراف : 38] شكلها في الدين أي التي ضلت بالاقتداء بها { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا } [الأعراف : 38] أصله تداركوا أي تلاحقوا واجتمعوا في النار ، فأبدلت التاء دالاً وسكنت للإدغام ثم أدخلت همزة الوصل { جَمِيعًا } حال { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [الأعراف : 38] منزلة وهي الأتباع والسفلة { لاولَـاهُمْ } منزلة وهي القادة والرءوس.
ومعنى { لاولَـاهُمْ } لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله لا معهم { رَبَّنَآ } يا ربنا { هؤلاء أَضَلُّونَا فَـاَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا } [الأعراف : 38] مضاعفاً { مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ } [الأعراف : 38] للقادة بالغواية والإغواء وللأتباع بالكفر والاقتداء { وَلَـاكِن لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38] ما لكل فريق منكم من العذاب.
{ لا يَعْلَمُونَ } [البقرة : 13] أبو بكر أي لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 76
{ وَقَالَتْ أُولَـاهُمْ لاخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } [الأعراف : 39] عطفوا هذا
77
الكلام على قول الله تعالى للسفلة { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } [الأعراف : 38] أي فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنا متساوون في استحقاق الضعف { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } [الأعراف : 39] بكسبكم وكفركم وهو من قول القادة للسفلة.
ولا وقف على { فَضَّلَ } أو من قول الله لهم جميعاً والوقف على { فَضَّلَ } { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ } أي لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنة إذ هي في السماء ، أو لا يصعد لهم عمل صالح ولا تنزل عليهم البركة ، أو لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين إلى السماء ، وبالتاء مع التخفيف : أبو عمرو وبالياء معه : حمزة وعلي.
{ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ } [الأعراف : 40] حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة أي لا يدخلون الجنة أبداً لأنه علقه بما لا يكون.
والخياط والمخيط ما يخاط به وهو الإبرة { وَكَذالِكَ } ومثل ذلك الجزاء الفظيع الذي وصفنا { نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ } [الأعراف : 40] أي الكافرين بدلالة التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها { لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } [الأعراف : 41] فراش { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف : 41] أغطية جمع غاشية { وَكَذَالِكَ نَجْزِى الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 41] أنفسهم بالكفر.
{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَآ } [الأعراف : 42] طاقتها والتكليف إلزام ما فيه كلفة أي مشقة { أؤلئك } مبتدأ والخبر { أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ } [القلم : 17] والجملة خبر { الَّذِينَ } ، و { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [الأنعام : 152] اعتراض بين المبتدأ والخبر
78
جزء : 2 رقم الصفحة : 76
(2/48)
{ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } حقد كان بينهم في الدنيا فلم يبق بينهم إلا التواد والتعاطف ، وعن علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَـارُ } [يونس : 9] حال من " هم " في { صُدُورُهُمْ } والعامل فيها معنى الإضافة { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَاـانَا لِهَـاذَا } [الأعراف : 43] لما هو وسيلة إلى هذا الفوز العظيم وهو الإيمان { وَمَا كُنَّا } [يوسف : 73] { مَا كُنَّا } [الملك : 10] بغير " واو " : شامي على أنها جملة موضحة للأولى { لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَاـانَا اللَّهُ } [الأعراف : 43] اللام لتوكيد النفي أي وما كان يصح أن نكون مهتدين لولا هداية الله ، وجواب " لولا " محذوف دل عليه ما قبله { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 43] فكان لطفاً لنا وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا ، يقولون ذلك سروراً بما نالوا وإظهاراً لما اعتقدوا { وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } [الأعراف : 43] " أن " مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، والجملة بعدها خبرها تقديره ونودوا بأنه تلكم الجنة.
والهاء ضمير الشأن ، أو بمعنى أي كأنه قيل ، لهم تلكم الجنة { أُورِثْتُمُوهَا } أعطيتموها وهو حال من { الْجَنَّةِ } والعامل فيها ما في { تِلْكَ } من معنى الإشارة { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [المائدة : 105] سماها ميراثاً لأنها لا تستحق بالعمل بل هي محض فضل الله وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شيء بل هو صلة خالصة.
وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله : إن المعتزلة خالفوا الله فما أخبر ونوحاً عليه السلام وأهل الجنة والنار وإبليس ، لأنه قال الله تعالى { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } [النحل : 93] (النحل : 39) وقال نوح عليه السلام : { وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [هود : 34] (هود : 43) وقال أهل الجنة : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَاـانَا اللَّهُ } [الأعراف : 43].
وقال أهل النار : { لَوْ هَدَاـانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَـاكُمْ } [إبراهيم : 21] (ابراهيم : 12) وقال إبليس { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى } [الأعراف : 16].
جزء : 2 رقم الصفحة : 76
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
{ وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا } [الأعراف : 44] " أن " مخففة من الثقيلة أو مفسرة
79
وكذلك { أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 44] { مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا } [الأعراف : 44] من الثواب { حَقًّا } حال { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ } [الأعراف : 44] من العذاب { حَقًّا } وتقديره وعدكم ربكم فحذف " كم " لدلالة { وَعَدَنَا رَبُّنَا } [الأعراف : 44] عليه.
وإنما قالوا لهم ذلك شماتة بأصحاب النار واعترافاً بنعم الله تعالى { قَالُوا نَعَمْ } [الأعراف : 44] وبكسر العين حيث كان : عليٌّ { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ بَيْنَهُمْ } [الأعراف : 44] نادى مناد وهي ملك يسمع أهل الجنة والنار { أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 44] { أَن لَّعْنَةُ } [الأعراف : 44] مكي وشامي وحمزة وعلي { الَّذِينَ يَصُدُّونَ } [الأعراف : 45] يمنعون { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [محمد : 1] دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } [إبراهيم : 3] مفعول ثان لـ " يبغون " أي ويطلبون لها الاعوجاج والتناقض { وَهُم بِالاخِرَةِ } [الأعراف : 45] بالدار الآخرة { كَـافِرُونَ * وَبَيْنَهُمَا } وبين الجنة والنار أو بين الفريقين { حِجَابٍ } وهو السور المذكور في قوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [الحديد : 13] (الحديد : 31) { وَعَلَى الاعْرَافِ } [الأعراف : 46] على أعراف الحجاب وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه جمع عرف ، استعير من عرف الفرس وعرف الديك { رِجَالٌ } من أفاضل المسلمين أو من آخرهم دخولاً في الجنة لاستواء حسناتهم وسيآتهم ، أو من لم يرض عنه أحد أبويه أو أطفال المشركين { يَعْرِفُونَ كُلَّا } [الأعراف : 46] من زمرة السعداء والأشقياء
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
(2/49)
{ بِسِيمَـاهُمْ } بعلامتهم.
قيل : سيما المؤمنين بياض الوجوه ونضارتها ، وسيما الكافرين سواد الوجوه وزرقة العيون { وَنَادَوْا } أي أصحاب الأعراف { أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَـامٌ عَلَيْكُمْ } [الأعراف : 46] أنه سلام أو أي سلام وهو تهنئة منهم لأهل الجنة { لَمْ يَدْخُلُوهَا } [الأعراف : 46] أي أصحاب الأعراف ولا محل له لأنه استئناف كأن سائلاً سأل أصحاب الأعراف فقيل { لَمْ يَدْخُلُوهَا } [الأعراف : 46] { وَهُمْ يَطْمَعُونَ } [الأعراف : 46] في دخولها أوله محل وهو صفة لـ { رِجَالٌ } .
{ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـارُهُمْ } [الأعراف : 47] أبصار أصحاب الأعراف ، وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا { تِلْقَآءَ } ظرف أي ناحية { أَصْحَـابِ النَّارِ } [الزمر : 8] ورأوا ما هم فيه
80
من العذاب { قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 47] فاستعاذوا بالله وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم { وَنَادَى أَصْحَـابُ الاعْرَافِ رِجَالا } [الأعراف : 48] من رءوس الكفرة { يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَـاـاهُمْ قَالُوا مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } [الأعراف : 48] المال أو كثرتكم واجتماعكم و " ما " نافية { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأعراف : 48] واستكباركم على الحق وعلى الناس ثم يقولون لهم :
{ أَهَـاؤُلاءِ } مبتدأ { الَّذِينَ } خبر مبتدأ مضمر تقديره أهؤلاء هم الذين { أَقْسَمْتُمْ } حلفتم في الدنيا ، والمشار إليهم فقراء المؤمنين كصهيب وسلمان ونحوهما { لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [الأعراف : 49] جواب { أَقْسَمْتُمْ } وهو داخل في صلة { الَّذِينَ } تقديره أقسمتم عليهم بأن لا ينالهم الله برحمة أي لا يدخلهم الجنة يحتقرونهم لفقرهم.
فيقال لأصحاب الأعراف : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ } [الزخرف : 70] وذلك بعد أن نظروا إلى الفريقين وعرفوهم بسيماهم وقالوا ما قالوا { لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * وَنَادَى أَصْحَـابُ النَّارِ أَصْحَـابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ } أن مفسرة.
وفيه دليل على أن الجنة فوق النار { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } [الأعراف : 50] من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة ، أو أريد أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
علفتها تبناً وماءاً بادرا
أي وسقيتها وإنما سألوا ذلك مع يأسهم عن الإجابة لأن المتحير ينطق بما يفيد وما لا يفيد { قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَـافِرِينَ } [الأعراف : 50] هو تحريم منع كما في { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص : 12] (القصص : 21) وتقف هنا إن رفعت أو نصبت ما بعده ذماً ، وإن جررته وصفاً للكافرين فلا.
81
{ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } [الأعراف : 51] فحرموا وأحلوا ما شاءوا أو دينهم عيدهم { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } [الأعراف : 51] اغتروا بطول البقاء { فَالْيَوْمَ نَنسَـاـاهُمْ } [الأعراف : 51] نتركهم في العذاب { كَمَا نَسُوا لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا وَمَا كَانُوا بِـاَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ } أي كنسيانهم وجحودهم { وَلَقَدْ جِئْنَـاهُم بِكِتَـابٍ فَصَّلْنَـاهُ } [الأعراف : 52] ميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه { عَلَى عِلْم } [الزمر : 49] عالمين بكيفية تفصيل أحكامه { هُدًى وَرَحْمَةً } [الأعراف : 52] حال من منصوب { فَصَّلْنَـاهُ } كما أن { عَلَى عِلْم } [الزمر : 49] حال من مرفوعة { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام : 99].
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
(2/50)
هل ينظرون } ينتظرون { إِلا تَأْوِيلَهُ } [الأعراف : 53] إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد { يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ } [الأعراف : 53] تركوه وأعرضوا عنه { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 53] أي تبين وصح أنهم جاءوا بالحق فأقروا حين لا ينفعهم { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُوا لَنَآ } [الأعراف : 53] جواب الاستفهام { أَوْ نُرَدُّ } [الأعراف : 53] جملة معطوفة على الجملة قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام كأنه قيل : فهل لنا من شفعاء ، أو هل نرد؟ ورافعه وقوعه موقعاً يصلح للاسم كقولك ابتداء " هل يضرب زيد " ، أو عطف على تقدير : هل يشفع لنا شافع أو هل نرد { فَنَعْمَلَ } جواب الاستفهام أيضاً { غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأعراف : 53] ما كانوا يعبدونه من الأصنام.
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أراد السموات والأرض وما بينهما وقد فصلها في " حم السجدة " أي من الأحد إلى الجمعة لاعتبار الملائكة شيئاً فشيئاً ، وللإعلام بالتأني في الأمور ، ولأن لكل عمل يوماً ، ولأن إنشاء شيء بعد شيء أدل على عالم مدبر مريد يصرّفه على اختياره ويجريه
82
على مشيئته { ثُمَّ اسْتَوَى } [الفرقان : 59] استولى { عَلَى الْعَرْشِ } [طه : 5] أضاف الاستيلاء إلى العرش وإن كان سبحانه وتعالى مستولياً على جميع المخلوقات ، لأن العرش أعظمها وأعلاها.
وتفسير العرش بالسرير والاستواء بالاستقرار كما تقوله المشبهة باطل ، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان وهو الآن كما كان ، لأن التغير من صفات الأكوان.
والمنقول عن الصادق والحسن وأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهم ، أن الاستواء معلوم ، والتكييف فيه مجهول ، والإيمان به واجب ، والجحود له كفر ، والسؤال عنه بدعة.
{ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ } [الرعد : 3] { يَغْشَى } حمزة وعلي وأبو بكر.
أي يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [الأعراف : 54] حال من الليل أي سريعاً.
والطالب هو الليل كأنه لسرعة مضيه يطلب النهار { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } [الأعراف : 54] أي وخلق الشمس والقمر والنجوم { مُسَخَّرَات } حال أي مذللات { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات } [الأعراف : 54] شامي { وَالشَّمْسُ } مبتدأ والبقية معطوفة عليها والخبر { مُسَخَّرَات } { بِأَمْرِهِ } هو أمر تكوين.
ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالامْرُ } [الأعراف : 54] أي هو الذي خلق الأشياء وله الأمر { تَبَارَكَ اللَّهُ } [الأعراف : 54] كثر خيره أو دام بره من البركة النماء أو من البروك الثبات ومنه البركة { رَبِّ الْعَـالَمِينَ } [الفاتحة : 2].
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف : 55] نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية ، والتضرع تفعل من الضراعة وهي الذل أي تذللاً وتملقاً.
قال عليه السلام " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً إنه معكم أينما كنتم " عن الحسن : بين دعوة السر والعلانية سبعون ضعفاً.
{ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف : 55] المجاوزين ما أمروا به في كل شيء من الدعاء وغيره.
وعن ابن جريج : الرافعين أصواتهم بالدعاء.
وعنه : الصياح في الدعاء مكروه وبدعة.
وقيل : هو الإسهاب في الدعاء.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل " ثم قرأ { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [الأعراف : 55]
83(2/51)
{ وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا } [الأعراف : 56] أي بالمعصية بعد الطاعة ، أو بالشرك بعد التوحيد ، أو بالظلم بعد العدل { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } [الأعراف : 56] حالان أي خائفين من الرد طامعين في الإجابة ، أو من النيران وفي الجنان ، أو من الفراق وفي التلاق ، أو من غيب العاقبة وفي ظاهر الهداية ، أو من العدل وفي الفضل { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف : 56] ذكر قريب على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ، أو لأنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب ، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، أو للإضافة إلى المذكر { وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَـاحَ } [الأعراف : 57] { الرِّيحَ } مكي وحمزة وعلي { بَشَرًا } { نَشْرًا } حمزة وعلي.
مصدر نشر ، وانتصابه إما لأن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل نشرها نشراً ، وإما على الحال أي منشورات { بَشَرًا } عاصم تخفيف " بشرا " جمع " بشير " ، لأن الرياح تبشر بالمطر شامي تخفيف " نشر " كرسل ورسل وهو قراءة الباقين جمع " نشور " أي ناشرة للمطر { بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ } [النمل : 63] أمام نعمته وهو الغيث الذي هو من أجلّ النعم
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
{ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ } [الأعراف : 57] حملت ورفعت ، واشتقاق الإقلال من القلة لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً { سَحَابًا ثِقَالا } [الأعراف : 57] بالماء جمع سحابة { سُقْنَـاهُ } الضمير للسحاب على اللفظ ولو حمل على المعنى كالثقال لأنث كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً { لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف : 57] لأجل بلد ليس فيه مطر ولسقيه { مَّيِّتٍ } مدني وحمزة وعلي وحفص { فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ } [الأعراف : 57] بالسحاب أو بالسوق وكذلك { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَالِكَ } [الأعراف : 57] مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات { نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف : 57] فيؤديكم التذكر إلى الإيمان بالبعث إذ لا فرق بين الإخراجين ، لأن كل واحد منهما إعادة الشيء بعد إنشائه
84
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } [الأعراف : 58] الأرض الطيبة التربة { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [الأعراف : 58] بتيسيره وهو موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباتة حسناً وافياً لأنه واقع في مقابلة { نَكِدًا } { وَالَّذِى خَبُثَ } [الأعراف : 58] صفة للبلد أي والبلد الخبيث { لا يَخْرُجُ } [الأعراف : 58] أي نباته فحذف للاكتفاء { إِلا نَكِدًا } [الأعراف : 58] هو الذي لا خير فيه وهذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ وهو المؤمن ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك وهو الكافر ، وهذا التمثيل واقع على أثر ذكر مثل المطر وإنزاله بالبلد الميت وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد { كَذَالِكَ } مثل ذلك التصريف { نُصَرِّفُ الايَـاتِ } [الأنعام : 46] نرددها ونكررها { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } [الأعراف : 58] نعمة الله وهم المؤمنون ليتفكروا فيها ويعتبروا بها.
جزء : 2 رقم الصفحة : 79
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ } [الحديد : 25] جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا { نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ } [نوح : 1] أرسل وهو ابن خمسين سنة وكان نجاراً ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو اسم إدريس عليه السلام { فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا } [الأعراف : 59] { غَيْرُهُا } علي.
فالرفع على المحل كأنه قيل : ما لكم إله غيره فلا تعبدوا معه غيره ، والجر على اللفظ { إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الأعراف : 59] يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85(2/52)
{ قَالَ الْمَلا } [الأعراف : 75] أي الأشراف والسادة { مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ } [الأعراف : 60] أي بين في ذهاب عن طريق الصواب ، والرؤية رؤية القلب { قَالَ يَـاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَـالَةٌ } ولم يقل ضلال كما قالوا لأن الضلالة أخص من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال.
ثم استدرك لتأكيد نفي الضلالة فقال { وَلَـاكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 61] لأن كونه رسولاً من الله مبلغاً لرسالاته في معنى كونه على الصراط المستقيم فكان في الغاية القصوى من الهدى
85
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى } ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والبشائر والنظائر.
{ أُبَلِّغُكُمْ } أبو عمرو.
وهو كلام مستأنف بيان لكونه رسول رب العالمين { وَأَنصَحُ لَكُمْ } [الأعراف : 62] وأقصد صلاحكم بإخلاص.
يقال نصحته ونصحت له ، وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة.
وحقيقة النصح إرادة الخير لغيرك مما تريده لنفسك أو النهاية في صدق العناية { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 62] أي من صفاته يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين { أَوَ عَجِبْتُمْ } [الأعراف : 63] الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل : أكذبتم وعجبتم { أَن جَآءَكُمْ } [الأعراف : 63] من أن جاءكم { ذُكِرَ } موعظة { مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ } [الأعراف : 63] على لسان رجل منكم أي من جنسكم ، وذلك أنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لِيُنذِرَكُمْ } ليحذركم عاقبة الكفر { وَلِتَتَّقُوا } ولتوجد منكم التقوى وهي الخشية بسبب الإنذار { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [الأعراف : 63] ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
{ فَكَذَّبُوهُ } فنسبوه إلى الكذب { فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الأعراف : 72] وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة وقيل تسعة : بنوه سام وحام ويافث ، وستة ممن آمن به { فِى الْفُلْكِ } [العنكبوت : 65] يتعلق بمعه كأنه قيل : والذين صحبوه في الفلك { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ } [الأعراف : 64] عن الحق.
يقال أعمى في البصر وعمٍ في البصيرة.
{ وَإِلَى عَادٍ } [الأعراف : 65] وأرسلنا إلى عاد وهو عطف على { نُوحًا } { أَخَاهُمْ } واحداً منهم من قولك " يا أخا العرب " للواحد منهم.
وإنما جعل واحداً منهم لأنهم عن رجل
86
منهم أفهم فكانت الحجة عليهم ألزم { هُودًا } عطف بيان لـ { أَخَاهُمْ } وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح { قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا أَفَلا تَتَّقُونَ } [الأعراف : 65] وإنما لم يقل { فَقَالَ } كما في قصة نوح عليه السلام لأنه على تقدير سؤال سائل قال : فما قال لهم هود؟ فقيل : { فَقَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ } وكذلك { قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ } [الأعراف : 66] وإنما وصف الملأ بالذين كفروا دون الملأ من قوم نوح لأن في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد فأريدت التفرقة بالوصف ، ولم يكن في أشراف قوم نوح عليه السلام مؤمن { إِنَّا لَنَرَاـاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [الأعراف : 66] في خفة حلم وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر.
وجعلت السفاهة ظرفاً مجازاً يعني أنه متمكن فيها غير منفك عنها { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ } [الأعراف : 66] في ادعائك الرسالة.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
(2/53)
{ قَالَ يَـا ءادَمُ أَنابِئْهُم } فيما أدعوكم إليه { أَمِينٌ } على ما أقول لكم.
وإنما قال هنا { وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } [الأعراف : 68] لقولهم { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ } [الأعراف : 66] أي ليقابل الاسم الاسم ، وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من ينسبهم إلى الضلالة والسفاهة بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة بما قالوا لهم مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم ، أدب حسن وخلق عظيم ، وإخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [الأعراف : 69] أي خلفتموهم في الأرض أو في مساكنهم.
و " إذ " مفعول به وليس بظرف أي اذكروا وقت استخلافكم { وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ } طولاً وامتداداً فكان أقصرهم ستين ذراعاً وأطولهم مائة ذراع { بَاصْطَةً } : حجازي وعاصم
87
وعلي { فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ } في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه.
وواحد الآلاء " إلى " نحو " إنى " و " آناء " { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [البقرة : 189].
ومعنى المجيء في { قَالُوا أَجِئْتَنَا } [الأنبياء : 55] أن يكون لهود عليه السلام مكان معتزل عن قومه يتحنث فيه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم { لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا } [الأعراف : 70] أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه حباً لما نشئوا عليه { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [الأعراف : 70] من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 70] أن العذاب نازل بنا { قَالَ قَدْ وَقَعَ } [الأعراف : 71] أي قد نزل { عَلَيْكُمْ } جعل المتوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب إليك بعض المطالب " قد كان " { مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ } [الأعراف : 71] عذاب { وَغَضَبٌ } سخط { فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ } في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسميات لأنكم تسمون الأصنام آلهة وهي خالية عن معنى الأولوهية { أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـانٍ } [الأعراف : 71] حجة { فَانتَظِرُوا } نزول العذاب { إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } [الأعراف : 71] ذلك.
جزء : 2 رقم الصفحة : 85
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
{ فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ } [الأعراف : 72] أي من آمن به { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } [الأعراف : 72] الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء ، وقطع دابرهم استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم { وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 72] فائدة نفي الإيمان عنهم مع إثبات التكذيب بآيات الله الإشعار بأن الهلاك خص المكذبين.
وقصتهم أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت ، وكانت لهم أصنام يعبدونها صداء وصمود والهباء ، فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه فأمسك القطر عنهم ثلاث سنين.
وكانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج منه عند بيته الحرام فأوفدوا إليه ـ قيل بن عتر ونقيم بن هزال ومرثد بن سعد ـ وكان يكتم إيمانه بهود عليه السلام وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوز بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فنزلوا عليه بظاهر مكة
88
(2/54)
فقال لهم مرثد : لن تسقوا حتى تؤمنوا بهود فخلفوا مرثداً وخرجوا فقال قيل : اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه منادٍ من السماء : يا قيل اختر لنفسك ولقومك ، فاختار السوداء على ظن أنها أكثر ماء فخرجت على عاد من وادٍ لهم فاستبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.
{ وَإِلَى ثَمُودَ } [الأعراف : 73] وأرسلنا إلى ثمود.
وقريء وإلى ثمودٍ } بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر ، ومنع الصرف بتأويل القبيلة ، وقيل : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام { أَخَاهُمْ صَـالِحًا قَالَ يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } آية ظاهرة شاهدة على صحة نبوتي فكأنه قيل : ما هذه البينة؟ فقال : { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [الأعراف : 73] وهذه إضافة تخصيص وتعطيم لأنها بتكوينه تعالى بلا صلب ولا رحم { لَكُمْ ءَايَةً } [الأعراف : 73] حال من الناقة والعامل معنى الإشارة في { هَـاذِهِ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
كأنه قيل : أشير إليها آية ولكم بيان لمن هي له آية وهي ثمود لأنهم عاينوها { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ } [الأعراف : 73] أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها من نبات ربها فليس عليكم مؤنتها { وَلا تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ } [الأعراف : 73] ولا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها إكراماً لآية الله { فَيَأْخُذَكُمْ } جواب النهي { عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ } ونزلكم ، والمباءة المنزل { فِى الارْضِ } [السجدة : 10] في أرض الحجر بين الحجاز والشام { تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا } [الأعراف : 74] غرفاً للصيف { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا } [الأعراف : 74] للشتاء ، و { بُيُوتًا } حال مقدرة نحو " خط هذا الثوب قميصاً " إذ الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً
89
في حال الخياطة { فَاذْكُرُوا ءَالاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِى الارْضِ مُفْسِدِينَ } [الأعراف : 74] روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوها في الأرض وعمروا أعماراً طوالاً ، فنحتوا البيوت من الجبال خشية الانهدام قبل الممات ، وكانوا في سعة من العيش فعتوا على الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان ، فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالح من أوسطهم نسباً ، فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فأنذرهم ، فسألوه أن يخرج من صخرة بعينها ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض النتوج بولدها فخرجت منها ناقة كما شاؤوا فآمن به جندع ورهط من قومه.
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
(2/55)
{ قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ } [الأعراف : 75] { وَقَالَ } شامي { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } [سبأ : 32] للذين استضعفهم رؤساء الكفار { لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف : 75] بدل من { الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } [القصص : 5] بإعادة الجار ، وفيه دليل على أن البدل حيث جاء كان في تقدير إعادة العامل ، والضمير في { مِنْهُمْ } راجع إلى قومه وهو يدل على أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين ، أو إلى { الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } [القصص : 5] وهو يدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين { أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ } [الأعراف : 75] قالوه على سبيل السخرية { قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } [الأعراف : 75] وإنما صار هذا جواباً لهم لأنهم سألوهم عن العلم بإرساله أمراً معلوماً مسلماً كأنهم قالوا : العلم بإرساله وبما أرسل به لا شبهة فيه ، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنابه مؤمنون { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُم بِهِ كَـافِرُونَ } [الأعراف : 76] فوضعوا { الانسَـانُ أَلَّن } [يونس : 51] موضع أرسل به رداً لما جعله المؤمنون معلوماً مسلماً { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } [الأعراف : 77] أسند العقر إلى جميعهم وإن كان العاقر قدار بن سالف
90
لأنه كان برضاهم.
وكان قدار أحمر أزرق قصيراً كما كان فرعون كذلك.
وقال عليه السلام : " يا علي ، أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك " { وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } [الأعراف : 77] وتولوا عنه واستكبروا وأمر ربهم ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ } [الأعراف : 73] أو شأن ربهم وهو دينه { وَقَالُوا يَـاصَـالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } من العذاب { إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
{ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ } [الأعراف : 78] في بلادهم أو مساكنهم { جَـاثِمِينَ } ميتين قعوداً.
يقال : الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يتكلمون { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } [الأعراف : 79] لما عقروا الناقة { وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ } عند فراقه إياهم { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ } الآمرين بالهدى لاستحلاء الهوى والنصيحة منيحة تدرأ الفضيحة ، ولكنها وخيمة تورث السخيمة.
روي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء فقال صالح : تعيشون بعده ثلاثة أيام ، تصفر وجوهكم أول يوم ، وتحمر في الثاني ، وتسود في الثالث ، ويصيبكم العذاب في الرابع وكان كذلك.
روي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي ، فلما علم أنهم هلكوا رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.
{ النَّـاصِحِينَ * وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } [الأعراف : 80] أي واذكر لوطاً " وإذ " بدل منه { أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ } [الأعراف : 80] أتفعلون السيئة المتمادية في القبح { مَا سَبَقَكُم بِهَا } [الأعراف : 80] ما عملها قبلكم والباء للتعدية ومنه قوله عليه السلام " سبقك بها عكاشة " { مِّنْ أَحَدٍ } [النور : 21] " من " زائدة لتأكيد المنفي وإفادة معنى الاستغراق { مِّنَ الْعَـالَمِينَ } [المائدة : 20] " من " للتبعيض وهذه جملة مستأنفة أنكر عليهم أولاً بقوله { أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ } [الأعراف : 80] ثم وبخهم عليها فقال أنتم أول من عملها.
وقوله تعالى
91
{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } [الأعراف : 81] بيان لقوله { أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ } [الأعراف : 80] والهمز مثلها في { أَتَأْتُونَ } للإنكار.
{ إِنَّكُمْ } على الإخبار : مدني وحفص.
يقال : أتى المرأة إذا غشيها { شَهْوَةً } مفعول له أي للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة ، ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمية { مِّن دُونِ النِّسَآءِ } [الأعراف : 81] أي لا من النساء { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } [الأعراف : 81] أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء فمن ثمّ أسرفوا في باب قضاء الشهوة حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد.
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
(2/56)
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي لوطاً ومن آمن معه يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط من إنكار الفاحشة ، ووصفهم بصفة الإسراف الذي هو أصل الشر ، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [الأعراف : 82] يدّعون الطهارة ويدعون فعلنا الخبيث عن ابن عباس رضي الله عنهما : عابوهم بما يتمدح به { فَأَنجَيْنَـاهُ وَأَهْلَهُ } [النمل : 57] ومن يختص به من ذويه أو من المؤمنين { إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَـابِرِينَ } [الأعراف : 83] من الباقين في العذاب ، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وكانت كافرة موالية لأهل سدوم ، وروي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا } [الأعراف : 84] وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً قالوا : أمطر الله عليهم الكبريت والنار.
وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت حجارة على مسافريهم.
وقال أبو عبيدة : أمطر في العذاب ومطر في الرحمة { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [الأعراف : 84] الكافرين.
92
{ وَإِلَى مَدْيَنَ } [العنكبوت : 36] وأرسلنا إلى مدين وهو اسم قبيلة { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } [العنكبوت : 36] يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين { يَـاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُا قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي معجزة وإن لم تذكر في القرآن { فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ } [الأعراف : 85] أتموهما والمراد فأوفوا الكيل ووزن الميزان ، أو يكون الميزان كالميعاد بمعنى المصدر { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } [الأعراف : 85] ولا تنقصوا حقوقهم بتطفيف الكيل ونقصان الوزن ، وكانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعتهم.
" وبخس " يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم تقول : بخست زيداً حقه أي نقصته إياه { وَلا تُفْسِدُوا فِى الارْضِ بَعْدَ إِصْلَـاحِهَا } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
الأعراف : 56] بعد الإصلاح فيها أي لا تفسدوا فيها بعدما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء والأولياء.
وإضافته كإضافة { بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ : 33] (سبأ : 33) أي بل مكركم في الليل والنهار { ذالِكُمْ } إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض { خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة : 184] في الإنسانية وحسن الأحدوثة { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [البقرة : 91] مصدقين لي في قولي { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ } [الأعراف : 86] بكل طريق { تُوعَدُونَ } من آمن بشعيب بالعذاب { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } [الأعراف : 86] عن العبادة { مَنْ ءَامَنَ بِهِ } [الأعراف : 86] بالله وقيل : كانوا يقطعون الطرق.
وقيل : كانوا عشارين { وَتَبْغُونَهَا } وتطلبون لسبيل الله { عِوَجَا } أي تصفونها للناس بأنها سبيل معوجه غير مستقيمة لتمنعوهم عن سلوكها.
ومحل { تُوعَدُونَ } وما عطف عليه النصب على الحال أي لا تقعدوا موعدين وصادين عن سبيل الله وباغين عوجاً { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلا } [الأعراف : 86] " إذ " مفعول به غير ظرف أي واذكروا على
93
جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم { فَكَثَّرَكُمْ } الله ووفر عددكم.
وقيل : إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء فكثروا { وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف : 86] آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وهود ولوط عليهم السلام { فَاصْبِرُوا } فانتظروا { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } [الأعراف : 87] أي بين الفريقين بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم ، وهذا وعيد للكافرين بانتقام الله تعالى منهم ، أو هو حث للمؤمنين على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم ، أو هو خطاب للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار ، والكافرون على ما يسوءهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم الله فيميز الخبيث من الطيب.
{ وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ } [الأعراف : 87] لأن حكمه حق وعدل لا يخاف فيه الجور.
(2/57)
جزء : 2 رقم الصفحة : 88
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
{ قَالَ الْمَلا الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَـاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم وإما عودكم في الكفر { قَالَ } شعيب { أَوَلَوْ كُنَّا كَـارِهِينَ } [الأعراف : 88] الهمزة للاستفهام والواو للحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين قالوا : نعم.
ثم قال شعيب { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم } [الأعراف : 89] وهو قسم على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم { بَعْدَ إِذْ نَجَّـانَا اللَّهُ مِنْهَا } [الأعراف : 89] خلصنا الله.
فإن قلت : كيف قال شعيب { إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُم } [الأعراف : 89] والكفر على الأنبياء عليهم السلام محال؟ قلت : أراد عود قومه إلا أنه يضم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك
94
إجراء لكلامه على حكم التغليب { وَمَا يَكُونُ لَنَآ } [الأعراف : 89] وما ينبغي لنا وما يصح { أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلا أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } [الأعراف : 89] إلا أن يكون سبق في مشيئته أن نعود فيها إذ الكائنات كلها بمشيئة الله تعالى خيرها وشرها { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الأعراف : 89] تمييز أي هو عالم بكل شيء فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } [الأعراف : 89] في أن يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف : 89] أي الحكم والفتاحة الحكومة والقضاء بالحق بفتح الأمر المغلق فلذا سمي فتحاً ، ويسمي أهل عمان القاضي فتاحاً { وَأَنتَ خَيْرُ الْفَـاتِحِينَ } [الأعراف : 89] كقوله { وَهُوَ خَيْرُ الْحَـاكِمِينَ } [الأعراف : 87] { وَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَـاـاِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
الأعراف : 90] مغبونون لفوات فوائد البخس والتطفيف باتباعه لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية.
وجواب القسم الذي وطأته اللام في { لَـاـاِنِ اتَّبَعْتُمْ } [الأعراف : 90] وجواب الشرط { إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَـاسِرُونَ } [الأعراف : 90] فهو ساد مسد الجوابين { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } [الأعراف : 91] الزلزلة { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَـاثِمِينَ } [الأعراف : 78] ميتين { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا } [الأعراف : 92] مبتدأ خبره { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَآ } [هود : 68] لم يقيموا فيها.
غني بالمكان أقام { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا } [الأعراف : 92] مبتدأ خبره { كَانُوا هُمُ الْخَـاسِرِينَ } [الأعراف : 92] لا من قالوا لهم إنكم إذاً لخاسرون وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل : الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهلكوا كأن لم يقيموا في دارهم ، لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله ، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه فهم الرابحون ، وفي التكرار مبالغة واستعظام لتكذيبهم ولما جرى عليهم.
95
(2/58)
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } [الأعراف : 79] بعد أن نزل بهم العذاب { وَقَالَ يَـا أَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُءْيَـاىَ } أحزن { عَلَى قَوْمٍ كَـافِرِينَ } [الأعراف : 93] اشتد حزنه على قومه ، ثم أنكر على نفسه فقال : كيف يشتد حزني على قوم ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم ، أو أراد لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والتحذير مما حل بكم فلم تصدقوني فكيف آسى عليكم { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ } [الأعراف : 94] يقال لكل مدينة قرية ، وفيه حذف أي فكذبوه { إِلا أَخَذْنَآ أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ } [الأعراف : 94] بالبؤس والفقر { وَالضَّرَّآءِ } الضر والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم ، أو هما نقصان النفس والمال { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } [الأعراف : 94] ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } [الأعراف : 95] أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء ، والمحنة : الرخاء والسعة والصحة { حَتَّى عَفَوا } [الأعراف : 95] كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم " عفا النبات " إذا كثر ، ومنه قوله عليه السلام " واعفوا اللحى " .
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
{ وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ } [الأعراف : 95] أي قالوا هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك وما هو بعقوبة الذنب فكونوا على ما أنتم عليه { فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً } [الأعراف : 95] فجأة { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [الأعراف : 95] بنزول العذاب.
واللام في { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } [الأعراف : 96] إشارة إلى أهل القرى التي دل عليها { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّبِىٍّ } [الأعراف : 94] كأنه قال : ولو أن أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا { ءَامَنُوا } بدل كفرهم { وَاتَّقَوْا } الشرك مكان ارتكابه { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم } [الأعراف : 96] { لَفَتَحْنَا } شامي { بَرَكَـاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ } [الأعراف : 96] أراد المطر والنبات أو لآتيناهم بالخير من كل وجه
96
{ وَلَـاكِن كَذَّبُوا } [الأعراف : 96] الأنبياء { فَأَخَذْنَـاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف : 96] بكفرهم وسوء كسبهم ، ويجوز أن تكون اللام للجنس { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } [الأعراف : 97] يريد الكفار منهم { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا } [الأعراف : 97] عذابنا { بَيَـاتًا } ليلاً أي وقت بيات ، يقال بات بياتاً
97
{ وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى } نهاراً.
والضحى في الأصل ضوء الشمس إذا أشرقت.
والفاء والواو في { أَفَأَمِنَ } و { أَوَ أَمِنَ } [الأعراف : 98] حرفا عطف دخل عليهما همزة الإنكار ، والمعطوف عليه { فَأَخَذْنَـاهُم بَغْتَةً } [الأعراف : 95] وقوله { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى } [الأعراف : 96] إلى { يَكْسِبُونَ } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة ، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى { أَوَ أَمِنَ } [الأعراف : 98] شامي وحجازي على العطف بـ " أو " والمعنى إنكار الأمن من أحد هذين الوجهين من إتيان العذاب ليلاً أو ضحى ، فإن قلت : كيف دخل همزة الاستفهام على حرف العطف وهو ينافي الاستفهام؟ قلت : التنافي في المفرد لا في عطف جملة على جملة لأنه على استئناف جملة بعد جملة { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف : 98] يشتغلون بما لا يجدي عليهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 94(2/59)
{ أَفَأَمِنُوا } تكرير لقوله { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } [الأعراف : 97] { مَكْرَ اللَّهِ } [الأعراف : 99] أخذه العبد من حيث لا يشعر.
وعن الشبلي قدس الله روحه العزيز : مكره بهم تركه إياهم على ما هم عليه.
وقالت ابنة الربيع بن خيثم لأبيها : مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال : يا بنتاه أن أباك يخاف البيات أراد قوله { أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَـاتًا } [الأعراف : 97] { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَـاسِرُونَ } [الأعراف : 99] إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم حتى صاروا إلى النار.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ } [الأعراف : 100] يبين { لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَـاهُم بِذُنُوبِهِمْ } [الأعراف : 100] { أَن لَّوْ نَشَآءُ } [الأعراف : 100] مرفوع بأنه فاعل { يَهْدِ } " وأن " مخففة من الثقيلة أي أولم يهد للذين يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن ، وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم فأهكلنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ، وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين { وَنَطْبَعُ } مسأنف أي ونحن نختم { عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } [الأعراف : 100] الوعظ { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآئِهَا } [الأعراف : 101] كقوله { وَهَـاذَا بَعْلِى شَيْخًا } (هود : 27) في أنه مبتدأ وخبر وحال ، أو تكون { الْقُرَى } صفة { تِلْكَ } و { نَقُصُّ } خبراً والمعنى : تلك القرى المذكورة من قوم نوح إلى قوم شعيب نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـاتِ } [الأعراف : 101] بالمعجزات { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا } [الأعراف : 101] عند مجيء الرسل بالبينات { بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ } [الأعراف : 101] بما كذبوا من آيات الله من قبل مجيء الرسل ، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرين مع تتابع الآيات ، واللام لتأكيد النفي.
{ كَذَالِكَ } مثل ذلك الطبع الشديد { يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَـافِرِينَ } [الأعراف : 101] لما علم منهم أنهم يختارون الثبات على الكفر { وَمَا وَجَدْنَا لاكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } [الأعراف : 102] الضمير للناس على الإطلاق يعني أن أكثر الناس نقضوا عهد الله وميثاقه في الإيمان ، والآية اعتراض ، أو للأمم المذكورين فإنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن ثم أنجاهم نكثوا { وَأَنْ } وإن الشأن والحديث { وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَـاسِقِينَ } [الأعراف : 102] لخارجين عن الطاعة ، والوجود
98
بمعنى العلم بدليل دخول " إن " المخففة واللام الفارقة ، ولا يجوز ذلك إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما.
جزء : 2 رقم الصفحة : 94
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
(2/60)
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } [الأعراف : 103] الضمير للرسل في قوله { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم } [الأعراف : 101] أو للأمم { مُّوسَى بِـاَايَـاتِنَآ } [إبراهيم : 5] بالمعجزات الواضحات { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلايْهِ فَظَلَمُوا بِهَا } [الأعراف : 103] فكفروا بآياتنا ، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] (لقمان : 31) أو فظلموا الناس بسببها حين آذوا من آمن ، أو لأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً حيث وضعوا الكفر غير موضعه وهو موضع الإيمان { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف : 103] حيث صاروا مغرقين { وَقَالَ مُوسَى يَـافِرْعَوْنُ } يقال لملوك مصر " الفراعنة " كما يقال لملوك فارس " الأكاسرة " ، وكأنه قال : يا ملك مصر ـ واسمه قابوس أو الوليد بن مصعب بن الريان ـ { إِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 104] إليك.
قال فرعون : كذبت.
فقال موسى : { حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } [الأعراف : 105] أي أنا حقيق على قول الحق أي واجب على قول الحق أن أكون قائله والقائم به.
{ حَقِيقٌ عَلَى } نافع أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا الحق أي الصدق ، وعلى هذه القراءة تقف على { الْعَـالَمِينَ } وعلى الأول يجوز الوصل على جعل { حَقِيقٌ } وصف الرسول ، و " على " بمعنى الباء كقراءة أبي أي إني رسول خليق بأن لا أقول ، أو يعلق " على " بمعنى الفعل في الرسول أي إني رسول حقيق جدير بالرسالة أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } بما يبين رسالتي { فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الأعراف : 105] فخلهم يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم.
وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي غلب فرعون على نسل الأسباط واستعبدهم فأنقذهم الله بموسى عليه السلام ، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
{ مَعِىَ } حفص { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـاَايَةٍ } [الأعراف : 106] من عند من أرسلك { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ } [الأعراف : 106] فأتني بها لتصح دعواك ويثبت صدقك فيها { فَأُلْقِىَ } موسى عليه السلام { عَصَاهُ } من يده { فَإِذَا هِىَ } [الأعراف : 108] { إِذَآ } هذه للمفاجأة وهي من ظروف المكان بمنزلة " ثمة " و " هناك " { ثُعْبَانٌ } حية عظيمة { مُّبِينٌ } ظاهر أمره.
روي أنه كان ذكراً فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً ، وضع لحيه الأسفل في الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك ، وحمل على الناس فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً ، فصاح فرعون : يا موسى خذه وأنا أومن بك فأخذه موسى فعاد عصاً { وَنَزَعَ يَدَهُ } [الأعراف : 108] من جيبه { فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ } [الأعراف : 108] أي فإذا هي بيضاء للنظارة ، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجمع الناس للنظر إليه.
روي أنه أرى فرعون يده وقال : ما هذه؟ فقال : يدك ثم أدخلها في جيبه ونزعها فإذا هي بيضاء غلب شعاعها شعاع الشمس ، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.
{ قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ } [الأعراف : 109] عالم بالسحر ماهر فيه قد خيل إلى الناس العصاحية والآدم أبيض.
وهذا الكلام قد عزي إلى فرعون في سورة " الشعراء " وأنه قال للملأ ، وهنا عزي إليهم فيحتمل أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكي قوله ثمّة وقولهم هنا ، أو قاله ابتداء فتلقنه منه الملأ فقالوه لأعقابهم { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ } [الأعراف : 110] يعني مصر { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } [الأعراف : 110] تشيرون من آمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ، وهو من كلام فرعون قاله للملأ لما قالوا له { قَالَ لِلْمَلا حَوْلَهُا إِنَّ هَـاذَا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ } [الشعراء : 34]
100
(2/61)
{ قَالُوا أَرْجِهْ } [الشعراء : 36] بسكون الهاء : عاصم وحمزة أي أخر واحبس أي أخر أمره ولا تعجل ، أو كأنه هم بقتله فقالوا : أخر قتله واحبسه ولا تقتله ليتبين سحره عند الخلق { وَأَخَاهُ } هرون { وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآ ـاِنِ حَـاشِرِينَ } [الأعراف : 111] جامعين.
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
{ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَـاحِرٍ عَلِيمٍ } [الأعراف : 112] { سَحَّارٍ } : حمزة وعلي.
أي يأتوك بكل ساحر عليم مثله في المهارة أو بخير منه { وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ } [الأعراف : 113] يريد فأرسل إليهم فحضروا { قَالُوا إِنَّ لَنَا لاجْرًا } [الأعراف : 113] على الخبر وإثبات الأجر العظيم حجازي وحفص.
ولم يقل " فقالوا " لأنه على تقدير سؤال سائل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله { قَالُوا إِنَّ لَنَا لاجْرًا } [الأعراف : 113] لجعلاً على الغلبة.
والتنكير للتعظيم كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر عظيم { إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَـالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ } إن لكم لأجراً { وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [الأعراف : 114] عندي فتكونون أول من يدخل وآخر من يخرج ، وكانوا ثمانين ألفاً أو سبعين ألفاً أو بضعة وثلاثين ألفاً { كِتَـابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً } عصاك { وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } [الأعراف : 115] لما معنا ، وفيه دلالة على أن رغبتهم في أن يلقوا قبله حيث أكد ضميرهم المتصل بالمنفصل وعرف الخبر { قَالَ } لهم موسى عليه السلام { أَلْقُوْا } تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل المتناظرون قبل أن يتحاوروا الجدال ، وقد سوغ لهم موسى ما رغبوا فيه ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم واعتماداً على أن المعجزة لن يغلبها سحر أبداً { فَلَمَّآ أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ } [الأعراف : 116] " أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه.
روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً { وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم استدعوا
101
رهوبتهم بالحيلة { وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف : 116] في باب السحر أو في عين من رآه.
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ } [الأعراف : 117] ـ تبتلع { تَلْقَفْ }
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
حفص { مَا يَأْفِكُونَ } [الأعراف : 117] " ما " موصولة أو مصدرية يعني ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه ، أو إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك.
روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت ، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة ، أو فرقها أجزاء لطيفة قالت السحرة : لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا { فَوَقَعَ الْحَقُّ } [الأعراف : 118] فحصل وثبت { وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } من السحر { فَغُلِبُوا هُنَالِكَ } [الأعراف : 119] أي فرعون وجنوده والسحرة { وَانقَلَبُوا صَـاغِرِينَ } [الأعراف : 119] وصاروا أذلاء مبهوتين { وَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَـاجِدِينَ } [الأعراف : 120] وخروا سجداً لله كأنما ألقاهم ملقٍ لشدة خرورهم ، أو لم يتمالكوا مما رأوا فكأنهم ألقوا فكانوا أول النهار كفاراً سحرة وفي آخره شهداء بررة { قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَـالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَـارُونَ } هو بدل مما قبله { قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُم بِهِ } [الأعراف : 123] على الخبر : حفص.
وهذا توبيخ منه لهم.
وبهمزتين : كوفي غير حفص.
فالأولى همزة الاستفهام ومعناه الإنكار والاستبعاد { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [الأعراف : 123] قبل إذني لكم { إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا } [الأعراف : 123] إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الصحراء
102
لغرض لكم وهو { إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وعيد أجمله ثم فصله بقوله :
(2/62)
{ لاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَـافٍ } [الأعراف : 124] من كل شق طرفاً { ثُمَّ لاصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف : 124] هو أول من قطع من خلاف وصلب { قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } [الأعراف : 125] فلا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته ، أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون نقلب إلى الله فيحكم بيننا { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِـاَايَـاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } [الأعراف : 126] وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله ، أرادوا وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر وهو الإيمان ومنه قوله :
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
{ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } [الأعراف : 126] أي اصبب صباً ذريعاً.
والمعنى هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا حتى يفيض علينا ويغمرنا كما يفرغ الماء إفراغاً { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [الأعراف : 126] ثابتين على الإسلام { وَقَالَ الْمَلا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الارْضِ } [الأعراف : 127] أرض مصر بالاستعلاء فيها وتغيير دين أهلها لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفر ويذرك وءالهتك } عطف على { لِيُفْسِدُوا } قيل : صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه كما يعبد عبدة الأصنام الأصنام ويقولون ليقربونا إلى الله زلفى ، ولذلك { قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ } (النازعات : 42) { قَالَ } فرعون مجيباً للملإ { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ } [الأعراف : 127] { سَنُقَتِّلُ } حجازي أي سنعيد
103
عليهم قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا ، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي تحدث المنجمون بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } [الأعراف : 128] قال لهم ذلك حين جزعوا من قول فرعون سنقتل أبناءهم تسلية لهم ووعداً بالنصر عليهم { إِنَّ الارْضَ } [الأعراف : 128] اللام للعهد أي أرض مصر أو للجنس فيتناول أرض مصر تناولاً أولياً { لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [الأعراف : 128] فيه تنميته إياهم أرض مصر { وَالْعَـاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128] بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط.
وأخليت هذه الجملة عن الواو لأنها جملة مستأنفة بخلاف قوله { وَقَالَ الْمَلا } [الأعراف : 90] لأنها معطوفة على ما سبقها من قوله { قَالَ الْمَلا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ } [الأعراف : 109] { قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [الأعراف : 129] يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى إلى أن استنبىء وإعادته عليهم بعد لك ، وذلك اشتكاء من فرعون واستبطاء لوعد النصر { قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارْضِ } [الأعراف : 129] تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل وكشف عنه وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129] فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه وشكر النعمة وكفرانها ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
وعن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيف أو رغيفان ، وطلب المنصور زيادة لعمرو فلم توجد فقرأ عمرو هذه الآية ، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال : قد بقي { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129].
جزء : 2 رقم الصفحة : 100
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ } [الأعراف : 130] سني القحط وهن سبع سنين ،
104
(2/63)
والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم { وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ } [الأعراف : 130] قيل : السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات للأمصار { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } [الأعراف : 26] ليتعظوا فينتبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر ، ولأن الناس في حال الشدة أضرع حدوداً وأرق أفئدة.
وقيل : عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروهاً في ثلثمائة وعشرين سنة ، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية
جزء : 2 رقم الصفحة : 104
{ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ } [الأعراف : 131] الصحة والخصب { قَالُوا لَنَا هَـاذِهِ } [الأعراف : 131] أي هذه التي نستحقها { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةُ } [الروم : 36] جدب ومرض { يَطَّيَّرُوا } أصله " يّتطيروا " فأدغمت التاء في الطاء لأنها من طرف اللسان وأصول الثنايا { بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُا } [الأعراف : 131] تشاءموا بهم وقالوا هذه بشؤمهم ولولا مكانهم لما أصابتنا.
وإنما دخل " إذا " في الحسنة وعرفت الحسنة و " إن " في السيئة ونكرت السيئة ، لأن جنس الحسنة وقوعه كالكائن لكثرته ، وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها { أَلا إِنَّمَا طَـائرُهُمْ } [الأعراف : 131] سبب خيرهم وشرهم { عِندَ اللَّهِ } [الحجرات : 13] في حكمه ومشيئته والله هو الذي قدر ما يصيبهم من الحسنة والسيئة { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } [النساء : 78] (النساء : 87) { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [الأنعام : 37] ذلك { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 132] أصل " مهما " ما ما ، فما الأولى للجزاء ضمت إليها " ما " المزيدة المؤكدة للجزاء في قوك " متى " ما تخرج أخرج { أَيْنَمَا تَكُونُوا } [النساء : 78] (النساء : 87) { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } [الزخرف : 41] (الزخرف : 14) إلا أن الألف قلبت هاء استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصري ، وهو في موضع النصب بـ { تَأْتِنَا } أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به ، و { مِّنْ ءَايَةٍ } [الزخرف : 48] تبيين لـ { مَهْمَا } والضمير في { بِهِ } و { بِهَآ } راجع إلى { مَهْمَا } إلا أن الأول ذكر على اللفظ والثاني أنث على المعنى لأنها في معنى الآية ، وإنما سموها آية اعتباراً لتسمية موسى أو قصدوا بذلك الاستهزاء { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ } [الأعراف : 133] ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل.
قيل : طفا
105
جزء : 2 رقم الصفحة : 104
(2/64)
الماء فوق حروثهم وذلك أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمساً ولا قمراً ولا يقدر أحد أن يخرج من داره.
وقيل : دخل الماء في بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ، فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة ، أو هو الجدري أو الطاعون { وَالْجَرَادَ } فأكلت زروعهم وثمارهم وسقوف بيوتهم وثيابهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء { وَالْقُمَّلَ } وهي الدباء وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها ، أو البراغيث ، أو كبار القردان { وَالضَّفَادِعَ } وكانت تقع في طعامهم وشرابهم حتى إذا تكلم الرجل تقع في فيه { وَالدَّمَ } أي الرعاف.
وقيل : مياههم انقلبت دماً حتى إن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً.
وقيل : سأل عليهم النيل دماً { ءَايَـاتُ } حال من الأشياء المذكورة { مُفَصَّلَـاتٍ } مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله أو مفرقات بين كل آيتين شهر { فَاسْتَكْبَرُوا } عن الإيمان بموسى { وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ } [الأعراف : 133].
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ } [الأعراف : 134] العذاب الأخير وهو الدم ، أو العذاب المذكور واحداً بعد واحد { قَالُوا يَـامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } " ما " مصدرية أي بعهده عندك وهو النبوة ، والباء تتعلق بـ { ادْعُ } أي ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك { لَـاـاِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَـالِغُوهُ } إلى حد من الزمان { هُم بَـالِغُوهُ } [الأعراف : 135] لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله " إذا هم ينكثون } جواب { لَّمًّا } أي فلما كشفنا عنهم فاجأوا النكث ولم يؤخروه
106
{ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الأعراف : 136] هو ضد الإنعام كما أن العقاب هو ضد الثواب
جزء : 2 رقم الصفحة : 104
{ فَأَغْرَقْنَـاهُمْ فِي الْيَمِّ } [الأعراف : 136] هو البحر الذي لا يدرك قعره ، أو هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المنتفعين به يقصدونه { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـافِلِينَ } [الأعراف : 136] أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ } [الأعراف : 137] هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه بالقتل والاستخدام { مَشَـارِقَ الارْضِ وَمَغَـارِبَهَا } [الأعراف : 137] يعني أرض مصر والشام { الَّتِى بَـارَكْنَا فِيهَا } [سبأ : 18] بالخصب وسعة الأرزاق وكثرة الأنهار والأشجار { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ } [الأعراف : 137] هو قوله : { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارْضِ } [الأعراف : 129] (الأعراف : 921) أو { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الارْضِ } [القصص : 5] إلى { مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 6] (القصص : 5).
والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة و " على " صلة { تَمُتْ } أي مضت عليهم واستمرت من قولك تم علي الأمر إذا مضى عليه { بِمَا صَبَرُوا } [المؤمنون : 111] بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ، ومن قابله بالصبر ضمن الله له الفرج { وَدَمَّرْنَا } أهلكنا { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } [الأعراف : 137] من العمارات وبناء القصور { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } [الأعراف : 137] من الجنات ، أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره.
وبضم الراء : شامي وأبو بكر.
وهذا آخر قصة فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله.
ثم أتبعه قصة بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر وغير ذلك ، ليتسلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما رآه من بني إسرائيل بالمدينة
107
جزء : 2 رقم الصفحة : 104
(2/65)
{ وَجَـاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ } [يونس : 90] روي أنهم عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعدما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكراً لله { فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ } [الأعراف : 138] فمروا عليهم { يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } [الأعراف : 138] يواظبون على عبادتها وكانت تماثيل بقر.
وبكسر الكاف : حمزة وعلي.
{ قَالُوا يَـامُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا } صنماً نعكف عليه { كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } [الأعراف : 138] أصنام يعكفون عليها.
و " ما " كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها.
قال يهودي لعلي رضي الله عنه : اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه.
فقال : قلتم { اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا } [الأعراف : 138] ولم تجف أقدامكم { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف : 138] تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى فوصفهم بالجهل المطلق وأكده { إِنَّ هؤلاء } [الحجر : 68] يعني عبدة تلك التماثيل { مُتَبَّرٌ } مهلك من التبار { مَّا هُمْ فِيهِ } [الأعراف : 139] أي يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي.
وفي إيقاع { هؤلاء } اسماً لـ " إن " وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة.
{ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 139] أي ما عملوا من عبادة الأصنام باطل مضمحل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 104
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
{ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـاهًا } [الأعراف : 140] أي أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَـالَمِينَ } [الأعراف : 140] حال أي على عالمي زمانكم { وَإِذْ أَنجَيْنَـاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ } [الأعراف : 141] { أَنجَـاكُم } شامي { يَسُومُونَكُمْ سُواءَ الْعَذَابِ } [إبراهيم : 6] يبغونكم شدة العذاب من سام السلعة إذا طلبها ، وهو استئناف لا محل له ، أو حال من المخاطبين ، أو من { فِرْعَوْنَ أَشَدَّ } [غافر : 46] { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [الأعراف : 141] { يَقْتُلُونَ } نافع { وَفِى ذَالِكُم } [البقرة : 49] أي في الإنجاء أو في العذاب { بَلاءً } نعمة أو محنة
108
{ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَـاثِينَ لَيْلَةً } لإعطاء التوراة { وَأَتْمَمْنَـاهَا بِعَشْرٍ } [الأعراف : 142] روي أن موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله ، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهي شهر ذي القعدة ، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك ، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لذلك { فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّهِ } [الأعراف : 142] ما وقت له من الوقت وضربه له { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [البقرة : 51] نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد ، ولقد أجمل ذكر الأربعين في " البقرة " وفصلها هنا { وَقَالَ مُوسَى لاخِيهِ هَـارُونَ } [الأعراف : 142] هو عطف بيان { لاخِيهِ } { اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى } [الأعراف : 142] كن خليفتي فيهم { وَأَصْلَحَ } ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل { وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
(2/66)
الأعراف : 142] ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.
{ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـاتِنَا } [الأعراف : 143] لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا.
ومعنى اللام الاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف : 143] بلا واسطة ولا كيفية.
وروي أنه كان يسمع الكلام من كل جهة.
وذكر الشيخ في التأويلات أن موسى عليه السلام سمع صوتاً دالاً على كلام الله تعالى ، وكان اختصاصه باعتبار أنه أسمعه صوتاً تولى تخليقه من غير أن يكون ذلك الصوت مكتسباً لأحد من الخلق ، وغيره يسمع صوتاً مكتسباً للعباد فيفهم منه كلام الله تعالى ، فلما سمع كلامه طمع في رؤيته لغلبة شوقه فسأل الرؤية بقوله { قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف : 143] ثاني مفعولي { أَرِنِى } محذوف أي أرني ذاتك أنظر إليك يعني مكني من رؤيتك بأن تتجلى لي حتى أراك { أَرِنِى } مكي.
وبكسر الراء مختلسة : أبو عمرو ، وبكسر الراء مشبعة : غيرهما وهو دليل لأهل السنة
109
على جواز الرؤية ، فإن موسى عليه السلام اعتقد أن الله تعالى يرى حتى سأله واعتقاد جواز ما لا يجوز على الله كفر { قَالَ لَن تَرَانِى } [الأعراف : 143] بالسؤال بعين فانية بل بالعطاء والنوال بعين باقية ، وهو دليل لنا أيضر لأنه لم يقل لن أرى ليكون نفياً للجواز ، ولو لم يكن مرئياً لأخبر به بأنه ليس بمرئي إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان { وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } [الأعراف : 143] بقي على حاله { فَسَوْفَ } وهو دليل لنا أيضاً لأنه علق الرؤية باستقرار الجبل وهو ممكن ، وتعليق الشيء بما هو ممكن يدل على إمكانه كالتعليق بالممتنع يدل على امتناعه ، والدليل على أنه ممكن قوله { لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [الأعراف : 143] ولم يقل " اندك " وما أوجده تعالى كان جائزاً أن لا يوجد لو لم يوجده لأنه مختار في فعله ، ولأنه تعالى ما أيأسه عن ذلك ولا عاتبه عليه ولو كان ذلك محالاً لعاتبه كما عاتب نوحاً عليهالسلام بقوله : { إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ } [هود : 46] (هود : 64) حيث سأل إنجاء ابنه من الغرق.
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
{ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } [الأعراف : 143] أي ظهر وبان ظهوراً بلا كيف.
قال الشيخ أبو منصور رحمه الله : معنى التجلي للجبل ما قاله الأشعري إنه تعالى خلق في الجبل حياة وعلماً ورؤية حتى رأى ربه ، وهذا نص في إثبات كونه مرئياً ، وبهذه الوجوة يتبين جهل منكري الرؤية وقولهم بأن موسى عليه السلام كان عالماً بأنه لا يرى ولكن طلب قومه أن يريهم ربه كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } (البقرة : 55) فلطلب الرؤية ليبين الله تعالى أنه ليس بمرئي باطل إذ لو كان كما زعموا لقال أرهم ينظروا إليك ثم يقول له : لن يروني.
ولأنها لو لم تكن جائزة لما أخر موسى عليه السلام الرد عليهم بل كان يرد عليهم وقت قرع كلامهم سماعه لما فيه من التقرير على الكفر ، وهو عليه السلام بعث لتغييره لا لتقريره ، ألا ترى أنهم لما قالوا له { اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } [الأعراف : 138] لم يمهلهم بل رد عليهم من ساعته بقوله { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف : 138] { جَعَلَهُ دَكًّا } [الأعراف : 143] مدكوكاً مصدر بمصدر بمعنى المفعول كضرب الأمير والدق والدك أخوان.
{ دَكَّآءَ } : حمزة وعلي.
أي مستوية بالأرض لا أكمة فيها وناقة دكاء لا سنام لها { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } [الأعراف : 143] حال أي سقط مغشياً عليه { فَلَمَّآ أَفَاقَ } [الأعراف : 143] من صعقته { قَالَ سُبْحَـانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ } [الأعراف : 143] من السؤال في الدنيا { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 143] بعظمتك وجلالك ، وبأنك لا تعطي الرؤية في الدنيا مع جوازها.
110
(2/67)
وقال الكعبي والأصم : معنى قوله { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف : 143] أرني آية أعلمك بها بطريق الضرورة كأني أنظر إليك { لَن تَرَانِى } [الأعراف : 143] لن تطيق معرفتي بهذه الصفة { وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } [الأعراف : 143] فإني أظهر له آية ، فإن ثبت الجبل لتجليها و { اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } [الأعراف : 143] فسوف تثبت لها وتطيقها.
وهذا فاسد لأنه قال { أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف : 143] ولم يقل " إليها " وقال { لَن تَرَانِى } [الأعراف : 143] ولم يقل لن ترى آيتي وكيف يكون معناه لن ترى آيتي وقد أراه أعظم الآيات حيث جعل الجبل دكاً.
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
{ قَالَ يَـامُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } اخترتك على أهل زمانك { بِرِسَـالَـاتِي } هي أسفار التوراة,برسالتي حجازي { وَبِكَلَـامِي } وبتكليمي إياك { فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ } أعطيتك من شرف النبوة والحكمة { وَكُن مِّنَ الشَّـاكِرِينَ } على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم,قيل خرَّ موسى صعقاً يوم عرفة,وأعطي التوراة يوم النحر,ولمال كان هارون وزيراً وتابعاً لموسى تخصَّص الاصطفاء بموسى عليه السلام.
{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالْوَاحِ } ألواح التوراة جمع لوح,وكانت عشرة ألواح,وقيل سبعة,وكانت من زمرد,وقيل من خشب نزلت من السماء فيها التوراة { مِن كُلِّ شَىْءٍ } في محل النصب على أنه مفعول كتبنا { مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَىْءٍ } بدل منه,والمعنى كتبنا له كل شيء كان بنو إسرائيل محتاجين اليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الاحكام وقيل أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير لم يقرأها كلها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزيز وعيسى { فَخُذْهَا } فقلنا له خذها عطفا على كتبنا,والضمير للألواح أو لكل شيء,لأنه في معنى الأشياء { بِقُوَّةٍ } بجدٍ وعزيمةٍ,فعل أولي العزم من الرسل { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } أي فيها ما هعو حسن وأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في
111
الحسن,وأكثر للثواب كقوله { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم } { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَـاسِقِينَ } دار فرعون وقومه وهي مصر ومنازل عادٍ وثمود والقرون المهلكة كيف أقفرت منهم لتعتبروا,فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم أو جهنم.
{ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَـاتِىَ } عن فهمها,قال ذو النون قدس الله روحه أبي الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن { الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ } يتطاولون على الخلق ويأنفون عن قبول الحق,وحقيقته التكلف للكبرياء التي اختصت بالباري عزَّت قدرته { فِي الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } هو حال,أي يتكبرون غير محقين لأن التكبر بالحق لله وحده { وَإِن يَرَوْا كُلَّ ءَايَةٍ } من الآيات المنزلة عليهم { لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ } صلاح الامر وطريق الهدى.
الرشد حمزة وعلي وهما كالسقم والسقم { لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَىِّ } الضلال { يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَالِكَ سَبِيلا } ومحل { ذَالِكَ } الرفع,أي الصرف { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } بسبب تكذيبهم { وَكَانُوا عَنْهَا غَـافِلِينَ } غفلة عناد وإعراض لا غفلة سهوٍ وجهل.
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا وَلِقَآءِ الاخِرَةِ } هو من إضافة المصدر إلى المفعول به,أي ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها { حَبِطَتْ أَعْمَـالُهُمْ } خبر والذين { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهو تكذيب الأحوال بتكذيب الإرسال.
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ } [الأعراف : 148] من بعد ذهابه إلى الطور { مِنْ حُلِيِّهِمْ } [الأعراف : 148]
112
(2/68)
وإنما نسبت إليهم مع أنها كانت عواري في أيديهم لأن الإضافة تكون بأذى ملابسة ، وفيه دليل على أن من حلف أن لا يدخل دار فلان فدخل داراً استعارها يحنث ، على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين كما ملكوا غيرها من أملاكهم.
وفيه دليل على أن الاستيلاء على أموال الكفار يوجب زوال ملكهم عنها ، نعم المتخذ هو السامري ولكنهم رضوا به فأسند الفعل إليهم.
والحلي جمع " حلى " وهو اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة { حُلِيِّهِمْ } : حمزة وعلي للإتباع { عِجْلا } مفعول { اتَّخَذَ } { جَسَدًا } بدل منه أي بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد { لَّهُ خُوَارٌ } [الأعراف : 148] هو صورت البقر والمفعول الثاني محذوف أي إلهاً.
ثم عجب من عقولهم السخيفة فقال ألم يروا } حين اتخذوه إلهاً { أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } [الأعراف : 148] لا يقدر على كلام ولا على هداية سبيل حتى لا يختاروه على من { لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَـاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـاتُ } (الكهف : 901).
وهو الذي عدى الخلق إلى سبيل الحق بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل في الكتب.
ثم ابتدأ فقال { اتَّخَذُوهُ } إلهاً فأقدموا على هذا الأمر المنكر { وَكَانُوا ظَـالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِى أَيْدِيهِمْ } ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل.
وأصله أن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها لأن فاه وقع فيها وسقط مسند إلى في أيديهم وهو من باب الكناية.
وقال الزجاج : معناه سقط الندم في إيديهم أي في قلوبهم وأنفسهم كما يقال " حصل في يده مكروه " وإن استحال أن يكون في اليد تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين { وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا } [الأعراف : 149] وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم { قَالُوا لَـاـاِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } [الأعراف : 149] { سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ } حمزة وعلي.
وانتصاب { رَبَّنَآ } على النداء { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَـاسِرِينَ } [الأعراف : 23] المغبونين في الدنيا والآخرة.
113
(2/69)
{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى } [الأعراف : 150] من الطور { إِلَى قَوْمِهِ } [نوح : 1] بني إسرائيل { غَضْبَـانَ } حال من { مُوسَى } { أَسَفًا } حال أيضاً أي حزيناً { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى } [الأعراف : 150] قمتم مقامي وكنتم خلفائي { مِن بَعْدِى } [الصف : 6] والخطاب لعبدة العجل من السامري وأشياعه ، أو لهارون ومن معه من المؤمنين ، ويدل عليه قوله { اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى } [الأعراف : 142] والمعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله ، أو حيث لم تكفوا من عبد غير الله ، وفاعل { بِئْسَ } مضمر يفسره { بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى } والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.
ومعنى { مِن بَعْدِى } [الصف : 6] بعد قوله { خَلَفْتُمُونِى } من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الشركاء عنه ، أو من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن عبادة البقرة حين قالوا { اجْعَل لَّنَآ إِلَـاهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } [الأعراف : 138] ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف { أَعَجِلْتُمْ } أسبقتم بعبادة العجل { أَمْرَ رَبِّكُمْ } [الأعراف : 150] وهو إتياني لكم بالتوراة بعد أربعين ليلة.
وأصل العجلة طلب الشيء قبل حينه.
وقيل : عجلتم بمعنى تركتم { وَأَلْقَى الالْوَاحَ } [الأعراف : 150] ضجراً عند استماعه حديث العجل غضباً لله ، وكان في نفسه شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانباً ، ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل من موسى ، فتكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع واحد ، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي هدى ورحمة { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } [الأعراف : 150] بشعر رأسه غضباً عليه حيث لم يمنعهم من عبادة العجل { يَجُرُّهُا إِلَيْهِ } [الأعراف : 150] عتاباً عليه لا هواناً به وهو حال من موسى { قَالَ ابْنَ أُمَّ } [الأعراف : 150] بني الابن مع الأم على الفتح كـ " خمسة عشر " وبكسر الميم : حمزة وعلي وشامي ، لأنه أصله أمي فحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ، وكان ابن أمه وأبيه.
وإنما ذكر الأم لأنها كانت مؤمنة ولأن ذكرها أدعى إلى العطف { إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِى } [الأعراف : 150] أي إني لم آل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار ولكنهم استضعفوني وهموا بقتلي { فَلا تُشْمِتْ بِىَ الاعْدَآءَ } [الأعراف : 150] الذين عبدوا العجل أي لا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إلي { وَلا تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ } [الأعراف : 150] أي قريناً لهم بغضبك علي.
فلما اتضح له عذر أخيه.
114
جزء : 2 رقم الصفحة : 108
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
(2/70)
{ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى } [الأعراف : 151] ليرضي أخاه وينفي الشماتة عنه بإشراكه معه في الدعاء ، والمعنى اغفر لي ما فرط مني في حق أخي ولأخي إن كان فرط في حسن الخلافة { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } [الأعراف : 151] عصمتك في الدنيا وجنتك في الآخرة { وَأَنتَ أَرْحَمُ الراَّحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ } إلهاً { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [الأعراف : 152] هو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة { وَذِلَّةٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } خروجهم من ديارهم فالغربة تذل الأعناق أو ضرب الجزية عليهم { وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ } [الأعراف : 152] الكاذبين على الله ولا فرية أعظم من قول السامري " هذا إلهكم وإله موسى " { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّـاَاتِ } [الأعراف : 153] من الكفر والمعاصي { ثُمَّ تَابُوا } [النحل : 119] رجعوا إلى الله { مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا } [الأعراف : 153] وأخلصوا الإيمان { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [الأعراف : 153] أي السيئات أو التوبة { لَغَفُورٌ } لستور عليهم محاء لما كان منهم { رَّحِيمٌ } منعم عليهم بالجنة.
و " إن " مع اسمها وخبرها خبر { الَّذِينَ } وهذا حكم عام يدخل تحته متخذو العجل وغيرهم عظم جنايتهم أولاً ، ثم أردفها بعظم رحمته ليعلم أن الذنوب وإن عظمت فعفوه أعظم.
ولما كان الغضب لشدته كأنه هو الآمر لموسى بما فعل قيل : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ } [الأعراف : 154] وقال الزجاج : معناه سكن وقريء به { أَخَذَ الالْوَاحَ } [الأعراف : 154] التي ألقاها { وَفِى نُسْخَتِهَا } [الأعراف : 154]وفيما نسخ منها أي كتب فعلة بمعنى مفعول كالخطبة { هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } [الأعراف : 154] دخلت اللام لتقدم المفعول وضعف عمل الفعل فيه باعتباره
115
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
الأعراف : 155] أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل { سَبْعِينَ رَجُلا } [الأعراف : 155] قيل : اختار من اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فبلغوا اثنين وسبعين رجلاً فقال : ليتخلف منكم رجلان فقعد كالب ويوشع { لِّمِيقَـاتِنَا } لاعتضارهم عن عبادة العجل { فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } [الأعراف : 155] الزلزلة الشديدة { قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ } [الأعراف : 155] بما كان منهم من عبادة العجل لقتلي القبطي { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ } [الأعراف : 155] أتهلكنا عقوبة بما فعل الجهال منا وهم أصحاب العجل { إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ } [الأعراف : 155] ابتلاؤك وهو راجع إلى قوله { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } [طه : 85] (طه : 58) فقال موسى : هي تلك الفتنة التي أخبرتني بها أو هي ابتلاء الله تعالى عباده بما شاء ، { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] (الأنبياء : 53) { تُضِلُّ بِهَا } [الأعراف : 155] بالفتنة { مَن تَشَآءُ } [الأعراف : 155] من علمت منهم اختيار الضلالة { وَتَهْدِى } بها { مَن تَشَآءُ } [الأعراف : 155] من علمت منهم اختيار الهدى { أَنتَ وَلِيُّنَا } [الأعراف : 155] مولانا القائم بأمورنا { فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَـافِرِينَ } [الأعراف : 155].
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
(2/71)
{ وَاكْتُبْ لَنَا } [الأعراف : 156] وأثبت لنا واقسم { فِى هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } [الزمر : 10] عاقبة وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة { وَفِي الاخِرَةِ } [الأعراف : 156] الجنة { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [الأعراف : 156] تبنا إليك وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب والهود جمع هائد وهو التائب.
{ قَالَ عَذَابِى } [الأعراف : 156] من صفته أني { أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } [الأعراف : 156] أي لا أعفو عنه { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } [الأعراف : 156] أي من صفة رحمتي أنها واسعة تبلغ كل شيء ، ما من مسلم ولا كافر إلا لك أثر رحمتي في الدنيا { فَسَأَكْتُبُهَا } أي هذه الرحمة { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأنعام : 32] الشرك من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم { وَيُؤْتُونَ الزكاة } [الأعراف : 156] المفروضة { وَالَّذِينَ هُم بِـاَايَـاتِنَا } [الأعراف : 156] بجميع كتبنا { يُؤْمِنُونَ } لا يكفرون بشيء منها
116
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ } [الأعراف : 157] الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به وهو القرآن { النَّبِىُّ } صاحب المعجزات { الامِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ } [الأعراف : 157] أي يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل { مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاـاةِ وَالانجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ } [الأعراف : 157] بخلع الأنداد وإنصاف العباد { وَيَنْهَـاـاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [الأعراف : 157] عبادة الأصنام وقطيعة الأرحام { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَـاتِ } [الأعراف : 157] ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشخوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح وما خلا كسبه من السحت { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَـائِثَ } [الأعراف : 157] ما يستخبث كالدم والميتة ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، أو ما خبث في الحكم كالربا والرشوة ونحوهما من المكاسب الخبيثة
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } [الأعراف : 157] هو الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه عن الحراك لثقله ، والمراد التكاليف الصعبة كقتل النفس في توبتهم وقطع الأعضاء الخاطئة.
شامي على الجمع { إِصْرَهُمْ وَالاغْلَـالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف : 157] هي الأحكام الشاقة نحو : بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأ من غير شرع الدية ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم وظهور الذنوب على أبواب البيوت ، وشبهت بالغل للزومها لزوم الغل { فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ } [الأعراف : 157] بمحمد صلى الله عليه وسلّم { وَعَزَّرُوهُ } وعظموه أو منعوه من العدو حتى لا يقوي عليه عدو ـ وأصل العزر المنع ومنه التعزير لأنه منع عن معاودة القبيح كالحد فهو المنع { وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُا } [الأعراف : 157] أي القرآن " ومع " متعلق بـ { اتَّبَعُوا } أي واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته { أؤلئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف : 157] الفائزون بكل خير والناجون من كل شر.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلّم إلى كافة الإنس وكافة الجن { جَمِيعًا } حال من اليكم
117(2/72)
{ إِلَيْكُمْ } { الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } في محل النصب بإضمار أعني وهو نصب على المدح { لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ } [البقرة : 255] بدل من الصلة وهي { لَّهُ مُلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ } [الزمر : 44] وكذلك { لا إِلَـاهَ } [الدخان : 8] وفي { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لا إِلَـاهَ إِلا هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآ ـاِكُمُ الاوَّلِينَ } بيان لاختصاصه بالإلهية إذ لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره { فَـاَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِىِّ الامِّىِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَـاتِهِ } أي الكتب المنزلة { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف : 158] ولم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله { إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } [الأعراف : 158] لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه ، ولما في الالتفات من مزية البلاغة ، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائناً من كان ـ أنا أو غيري ـ إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } [الأعراف : 159] أي يهدون الناس محقين أو بسبب الحق الذي هم عليه { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون.
قيل : هم قوم وراء الصين آمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج ، أو هم عبد الله بن سلام وأضرابه.
{ وَقَطَّعْنَـاهُمُ } وصيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض { اثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا } [الأعراف : 160] كقولك اثنتي عشرة قبيلة ، والأسباط أولاد الولد جمع سبط وكانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام.
نعم مميز ما عدا العشرة مفرد فكان ينبغي أن يقال اثني عشر سبطاً ، لكن المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط لا سبط فوضع " أسباط " موضع " قبيلة "
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{ أُمَمًا } بدل من { اثْنَتَىْ عَشْرَةَ } [الأعراف : 160] أي وقطعناهم أمماً لأن كل أسباط كانت أمة عظيمة وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى
118
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَـاـاهُ قَوْمُهُا أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } [الأعراف : 160] فضرب { فَانابَجَسَتْ } فانفجرت { مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [البقرة : 60] هو اسم جمع غير تكسير { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَـامَ } [الأعراف : 160] وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [الأعراف : 160] وقلنا لهم { كُلُوا مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا } [البقرة : 57] أي وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم { وَلَـاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [البقرة : 57] ولكن كانوا يضرون أنفسهم ويرجع وبال ظلمهم إليهم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 115
{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } [الأعراف : 161] واذكر إذ قيل لهم { اسْكُنُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ } [الأعراف : 161] بيت المقدس { وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيائَـاتِكُمْ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 119
(2/73)
الأعراف : 161] { تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا } مدني وشامي { خَطِيائَـاتِكُمْ } مدني { خَطَـايَـاكُمْ } أبو عمرو { سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف : 161] { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف : 162] ولا تناقض بين قوله { اسْكُنُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا } [الأعراف : 161] في هذه السورة وبين قوله في سورة " البقرة " { ادْخُلُوا هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا } [البقرة : 58] (البقرة : 58) لوجود الدخول والسكنى.
وسواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون بينهما.
وترك اذكر الرغد لا يناقض إثباته ، وقوله { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيائَـاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } موعد بشيئين بالغفران وبالزيادة ، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على قول القائل : وماذا بعد الغفران؟ فقيل له : { سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف : 161] وكذلك زيادة { مِنْهُمْ } زيادة بيان و { أَرْسَلْنَا } و { أَنزَلْنَآ } و { يَظْلِمُونَ } و { يَفْسُقُونَ } من وادٍ واحد.
{ وَسْـاَلْهُمْ } واسأل اليهود { عَنِ الْقَرْيَةِ } [الأعراف : 163] أيلة أو مدين وهذا السؤال
119
للتقريع بقديم كفرهم { الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } [الأعراف : 163] قريبة منه { إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ } [الأعراف : 163] إذ يتجاورون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه { إِذْ يَعْدُونَ } [الأعراف : 163] في محل الجر بدل من { الْقَرْيَةِ } والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل : واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال { إِذْ تَأْتِيهِمْ } [الأعراف : 163] منصوب بـ
جزء : 2 رقم الصفحة : 119
{ يَعْدُونَ } أو بدل بعد بدل { حِيتَانُهُمْ } جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها { يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } [الأعراف : 163] ظاهرة على وجه الماء جمع شارع حال من الحيتان ، والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد ، والمعنى إذ يعدون في تعظيم اليوم وكذا قوله { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } [الأعراف : 163] معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } [الأعراف : 163] و { يَوْمٍ } ظرف { لا تَأْتِيهِمْ } [الأعراف : 163] { كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأعراف : 163] مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بفسقهم { وَإِذْ قَالَتِ } [الأعراف : 164] معطوف على { إِذْ يَعْدُونَ } [الأعراف : 163] وحكمه كحكمه في الإعراب { أُمَّةٌ مِّنْهُمْ } [الأعراف : 164] جماعة من صلحاء القرية الذين أيسوا من وعظهم بعدما ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم لآخرين لا يقلعون عن وعظهم { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } [الأعراف : 164] وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم { قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } [الأعراف : 164] أي موعظتنا ابلاء عذر إلى الله لئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى التفريط { مَعْذِرَةً } حفص على أنه مفعول له أي وعظناهم للمعذرة { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164] ولطمعنا في أن يتقوا.
جزء : 2 رقم الصفحة : 119
{ فَلَمَّا نَسُوا } [الأنعام : 44] أي أهل القرية لما تركوا { مَا ذُكِّرُوا بِهِ } [الأعراف : 165] ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه { أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّواءِ } [الأعراف : 165] عن العذاب الشديد { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } [الأعراف : 165] الراكبين للمنكر والذين قالوا لم تعظون من الناجين ، فعن الحسن : نجت فرقتان وهلكت فرقة وهم الذين أخذوا الحيتان { بِعَذَاب بَئِيس } [الأعراف : 165] شديد.
يقال : بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد فهو بئيس.
{ بِئْسَ } : شامي ب { يس } مدني
120
(2/74)
ب { يَئِسَ } على وزن فيعل : أبو بكر غير حماد { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَـاسِئِينَ } أي جعلناهم قردة أذلاء مبعدين.
وقيل : فلما عتوا تكرير لقوله { فَلَمَّا نَسُوا } [الأنعام : 44] والعذاب البئيس : هو المسخ.
قيل : صار الشبان قردة والشيوخ خنازير وكانوا يعرفون أقاربهم ويبكون ولا يتكلمون ، والجمهور على أنها ماتت بعد ثلاث.
وقيل : بقيت وتناسلت.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } [الأعراف : 167] ي أعلم وأجرى مجرى فعل القسم ، ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } [الأعراف : 167] أي كتب على نفسه ليسلطن على اليهود { إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ } [الأعراف : 167] من يوليهم { سُواءُ الْعَذَابِ } [غافر : 45] فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث محمد صلى الله عليه وسلّم فضربها عليهم فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } [الأعراف : 167] للكفار { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمُ } [الأنعام : 165] للمؤمنين { وَقَطَّعْنَـاهُمْ فِي الارْضِ } [الأعراف : 168] وفرقناهم فيها فلا تخلو بلد عن فرقة { أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّـالِحُونَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 119
الأعراف : 168] الذين آمنوا منهم بالمدينة أو الذين وراء الصين { وَمِنْهُمْ دُونَ ذَالِكَ } [الأعراف : 168] ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه وهم الفسقة ومحل { دُونِ ذَالِكَ } [الفتح : 27] الرفع وهو صفة لموصوف محذوف أي ومنهم ناس منحطون عن الصلاح { وَبَلَوْنَـاهُم بِالْحَسَنَـاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [الأعراف : 168] بالنعم والنقم والخصب والجدب { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [آل عمران : 72] ينتهون فيثابون { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } [مريم : 59] من بعد المذكورين { خَلْفٌ } وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، والخلف بدل السوء بخلاف الخلف فهو الصالح { وَرِثُوا الْكِتَـابَ } [الأعراف : 169] التوراة ووقفوا على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولم يعملوا بها
121
{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـاذَا الادْنَى } [الأعراف : 169] هو حال من الضمير في { وَرِثُوا } والعرض : المتاع أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وهو من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب ، والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم.
وفي قوله { هَـاذَا الادْنَى } [الأعراف : 169] تخسيس وتحقير { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } [الأعراف : 169] لا يؤاخذنا الله بما أخذنا ، والفعل مسند إلى الأخذ أو إلى الجار والمجرور أي لنا { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } [الأعراف : 169] الواو للحال أي يرجعون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم غير تائبين { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَـاقُ الْكِتَـابِ } [الأعراف : 169] أي الميثاق المذكور في الكتاب { أَن لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } [الأعراف : 169] أي أخذ عليهم الميثاق في كتابهم أن لا يقولوا على الله إلا الصدق ، وهو عطف لـ { مِّيثَـاقُ الْكِتَـابِ } [الأعراف : 169] { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } [الأعراف : 169] وقرءوا ما في الكتاب وهو عطف على { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم } [الأعراف : 169] لأنه تقرير فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه { وَالدَّارُ الاخِرَةُ خَيْرٌ } [الأعراف : 169] من ذلك العرض الخسيس { لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأنعام : 32] الرشا والمحارم { أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة : 44] أنه كذلك وبالتاء : مدني وحفص.
جزء : 2 رقم الصفحة : 119
{ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ } [الأعراف : 170] { يُمَسِّكُونَ } أبو بكر والإمساك والتمسيك والتمسك الاعتصام والتعلق بشيء { وَأَقَامُوا الصَّلَواةَ } [الأعراف : 170] خص الصلاة مع أن التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة لأنها عماد الدين و { الَّذِينَ } مبتدأ والخبر { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } [
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
(2/75)
الأعراف : 170] أي إنا لا نضيع أجرهم.
وجاز أن يكون مجروراً عطفاً على { الَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأنعام : 69] و { إِنَّا لا نُضِيعُ } [الأعراف : 170] اعتراض { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } [الأعراف : 171] واذكروا إذا قلعناه ورفعناه كقوله { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ } [البقرة : 63] (البقرة : 36) { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } [الأعراف : 171] هي كل ما أظلك من سقيفة أو سحاب { وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعُ بِهِمْ } [الأعراف : 171] وعلموا أنه ساقط عليهم ، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ.
وقيل لهم : إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم.
فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجداً
122
على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه ، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد على حاجبه الأيسر ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة ، وقلنا لهم { خُذُوا مَآ ءَاتَيْنَـاكُم } [البقرة : 63] من الكتاب { بِقُوَّةٍ } وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه { وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ } [البقرة : 63] من الأوامر والنواهي ولا تنسوه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة : 21] ما أنتم عليه.
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ } أي واذكروا إذ أخذ { مِن ظُهُورِهِمْ } [الأعراف : 172] بدل من { وَإِذْ أَخَذَ } [الأعراف : 172] والتقدير : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم { ذُرِّيَّتُهُم } ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم إخراجهم من أصلاب آبائهم { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَآ } [الأعراف : 172] هذا من باب التمثيل ، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الهدى والضلالة ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
{ أَن تَقُولُوا } [الأنعام : 156] مفعول له أي فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن يقولوا { يَوْمَ الْقِيَـامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَـافِلِينَ } [الأعراف : 172] لم ننبه عليه { أَوْ تَقُولُوا } [الأعراف : 173] أو كراهة أن يقولوا { إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } [الأعراف : 173] فاقتدينا بهم لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [الأعراف : 173] أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتركه سنة لنا { وَكَذالِكَ } ومثل ذلك التفصيل البليغ { نُفَصِّلُ الايَـاتِ } [يونس : 24] لهم { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف : 174] عن شركهم نفصلها.
إلى هذا ذهب المحققون من أهل التفسير ، منهم الشيخ أبو منصور والزجاج والزمخشري ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن الله تعالى أخرج
123
(2/76)
ذرية آدم من ظهر آدم مثل الذر وأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم بقوله { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [الأعراف : 172] فأجابوه بـ { بَلَى } .
قالوا : وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أخرج الله من ظهر آدم ذريته وأراه أياهم كهيئة الذر وأعطاهم العقل وقال : هؤلاء ولدك آخذ عليهم الميثاق أن يعبدوني.
قيل : كان ذلك قبل دخول الجنة بين مكة والطائف.
وقيل : بعد النزول من الجنة.
وقيل : في الجنة.
والحجة للأولين أنه قال { مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } [الأعراف : 172] ولم يقل من ظهر آدم ، ولأنا لا نتذكر ذلك فأنى يصير حجة.
مدني وبصري وشامي { تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوا } [الأنعام : 156] { أَوْ تَقُولُوا } [الأعراف : 173] : أبو عمرو.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } [الشعراء : 69] على اليهود { نَبَأَ الَّذِى ءَاتَيْنَـاهُ ءَايَـاتِنَا } هو عالم من علماء بني إسرائيل وقيل : هو بلعم بن باعوراء أوتي علم بعض كتب الله { فَانْسَلَخَ مِنْهَا } [الأعراف : 175] فخرج من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَـانُ } [الأعراف : 175] فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الأعراف : 175] فصار من الضالين الكافرين.
روي أن قومه طلبوا منه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى فلم يزالوا به حتى فعل وكان عنده اسم الله الأعظم.
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
{ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـاهُ } [الأعراف : 176] إلى منازل الأبرار من العلماء { بِهَآ } بتلك الآيات { وَلَـاكِنَّهُا أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ } [الأعراف : 176] مال إلى الدنيا ورغب فيها { وَاتَّبِعْ } في إيثار الدنيا ولذاتها على الآخرة ونعيمها { هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ } [الأعراف : 176] أي تزجره وتطرده { يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ } [الأعراف : 176] غير مطرود { يَلْهَثْ } والمعنى فصفته التي أي مثل في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها وهي حال دوام اللهث به ، سواء حمل عليه أي شد عليه وهيج فطرد ، أو ترك غير متعرض له بالحمل عليه ، وذلك أن سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا حرك ، أما الكلب فيلهث في الحالين فكان مقتضى الكلام أن يقال : ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعناه منزلته ، فوضع هذا التمثيل موضع فحططناه
124
أبلغ حط.
ومحل الجملة الشرطية النصب على الحال كأنه قيل : كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالين.
وقيل : لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب.
وقيل : معناه هو ضال وعظ أو ترك.
وعن عطاء : من علم ولم يعمل فهو كالكلب ينبح إن طرد أو ترك { ذَّالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } [الأعراف : 176] من اليهود بعد أن قرءوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ } [الأعراف : 176] أي قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الأعراف : 176] فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته { سَآءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَا } [الأعراف : 177] هي مثل القوم فحذف المضاف ، وفاعل { سَآءَ } مضمر أي ساء المثل مثلاً.
وانتصاب { مَثَلا } على التمييز { وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف : 177] معطوف على { كَذَّبُوا }
جزء : 2 رقم الصفحة : 122
(2/77)